تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة البقرة سورة البقرة مدنية وهى مائتان وست أو سبع وثمانون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {الم} ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التى منها ركبت الكلم فالقاف تدل على أول حروف قال والألف تدل على أوسط حروف قال واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها والدليل على أنها أسماء أن كلا منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالامالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير وهى معربة و إنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وقيل إنها مبنية كالأصوات نحو غاق فى حكاية صوت الغراب ثم الجمهور على أنها أسماء السور وقال ابن عباس رضى اللّه عنهما أقسم اللّه بهذه الحروف وقال ابن مسعود رضى اللّه عنه إنها اسم اللّه الأعظم وقيل إنها من المتشابه الذى لا يعلم تأويله إلا اللّه وما سميت معجمة إلا لاعجامها وإبهامها وقيل ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقرآن وكالتحريك للنظر فى أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه من آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر و أنه كلام خالق القوى والقدر وهذا القول من الخلاقة بالقبول بمنزل وقيل إنما وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإغراب وتقدمه من دلائل الإعجاز وذلك أن النطق بالحروف انفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميون منهم و أهل الكتاب بخلاف النطق بأسامى الحروف فإنه مختص بمن خط و قرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم وكان مستعبدا من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التى لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى وشاهد لصحة نبوته واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامى حروف المعجم وهى الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم وهى مشتملة على انصاف أجناس الحروف فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ومن المفخمة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياءء والنون ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكروة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشئ ينزل منزلة كله فكأن اللّه تعالى عدد على العرب الألفاظ التى منها تراكيب كلامهم إشارة الى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم و إنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفا منها لا غير أوصل إلى الغرض وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر فى النفوس وتقريره ولم يجئ على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل ص و ق و ن و طه وطس و يس وحم والم والر وطسم والمص والمر وكهيعص وحم عسق فوردت على حرف وحرفين وثلاثة واربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك فى الفواتح هذا المسلك والم آية حيث وقعت وكذا المص آية والمر لم تعد آية وكذا الر لم تعد آية فى سورها الخمس وطسم آية فى سورتها وطه ويسس آيتان وطس ليست بآية فى وحم آية فى سورها كلها وحم عسق آيتان وكهعيص آية وص و ن و ق ثلاثها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئا منها آية وهذا علم توقيفىلا مجال للقياس فيه كمعرفة السور ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله الم اللّه اى هذه الم ثم ابتدأ فقال اللّه لا إله إلا هو الحى القيوم [البقرة:٢٥٥] ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الإبتداء أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة اللّه واللّه على اللغتين ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأه وللمفردات المعدودة ٢{ذلك الكتاب} اى ذلك الكتاب الذى وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما السلام أو ذلك إشارة إلى الم و إنما ذكر اسم الاشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك فى معناه ومسماه مسماه فجاز اجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث وإن كان صفته فالاشارة به إلى الكتاب صريحا لأن اسم الاشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له تقول هند ذلك الانسان أو ذلك الشخص فعل كذا ووجه تأليف ذلك الكتاب مع الم إن جعلت الم اسما للسورة أن يكون الم مبتدأ وذلك مبتدأ ثانيا والكتاب خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب فى مقابلته ناقص كما تقول هو الرجل اى الكامل فى الرجولية الجامع لما يكون فى الرجال من مرضيات الخصال و أن يكون الم خبر مبتدأ محذوف اى هذه الم جملة وذلك الكتاب جملة اخرى وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب اى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل {لا ريب} لا شك وهو مصدر رابنى إذا حصل فيك الريبة وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام: دع ما يريبك إلى مالا يريبك فان الشك ريبة وان الصدق طمأنينة اى فان كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه و إنما نفى الريب على سبيل الاستفراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفى كونه متعلقا للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة له وسطوع البرهان بحيث لا ينبغى لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحدا لا يرتاب و إنما لم يقل لا فيه ريب كما قال لا فيها غول لأن المراد فى ايلاء الريب حرف النفى نفى الريب عنه واثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يعد عن المراد وهو أن كتابا آخر فيه ريب لافيه كما قصد فى قوله تعالى لا فيها غول [الصّافّات:٤٧] ففيه تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هى والوقف على فيه هو المشهور وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على ريب ولا بد للواقف من أن ينوى خبرا والتقدير لا ريب فيه {فيه هدى} فيه باشباع كل هاء مكى ووافقه حفص فى فيه مهانا وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفى داره وكما لا يقال فى داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن الياء قبل الهاء والهاء إذا الهاء المتحركة فى كلامهم بمنزلة الساكنة لأن الهاء خفية والخفى قريب من الساكن والياء بعدها والهدى مصدر على فعل كالبكا وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة فى مقابلة فى قوله {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة:١٦] و إنما قيل هدى {للمتقين} والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم أعزك اللّه وأكرمك تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة:٦] ولأنه سماهم عند مشارفتهم لا كتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام: من قتل قتيلا فله سلبه وقول ابن عباس رضى اللّه عنهما إذا أراد احدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلا ومريضا ولم يقل هدى للضالين لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب فلو جئ بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام باجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل {هدى للمتقين} مع أن فيه تصديرا للسورة التى هى اولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء اللّه والمتقى فى اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ففاؤها واو ولامها ياء و إذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها فى التاء الأخرى فقلت اتقى والوقاية فرط الصيانة وفى الشريعة من يقى نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك ومحل هدى الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع لا ريب فيه لذلك أو النصب على الحال من الهاء فى فيه والذى هو أرسخ عرقا فى البلاغة أن يقا أن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها و{ذلك الكتاب} جملة ثاينة و{لا ريب فيه} ثالثة و{هدى للمتقين} رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جر إلى الثالثة والرابعة بيان ذلك أنه نبه اولا على أنه الكلام المتحدى به ثم أشير إليه بانه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة وقيل لعالم فيم لذتك قال في حجة تتبختر اتضاحا وفى شبهة تتضاءل افتضاحا ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة ففى الأولى الحذف والرمز إلى المطلوب بألطف وجه وفى الثانية ما فى التعريف من الفخامة وفى الثالثة ما فى تقديم الريب على الظرف وفى الرابعة الحذف ووضع المصدر الذى هو هدى موضع الوصف الذى هو هاد كأن نفسه هداية وإيراده منكرا ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه والايجاز فى ذكر المتقين كما مر ٣{الذين} فى موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعنى الذين يؤمنون أو هو مبتدأ وخبره أولئك على هدى أو جر على أنه صفة للمتقين وهى صفة واردة بيانا وكشفا للمتقين كقولك زيد الفقيه المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذى هو أساس الحسنات والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع مافى ذلك من الافصاح عن فضل هاتين العبادتين أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك زيد الفقيه المتكلم الطبيب ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئآت {يؤمنون} يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم آمنة أي صدقة وحقيقته آمنة التكذيب والمخالفة وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف {بالغيب} بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك غاب الشئ غيبا هذا إن جعلته صلة للايمان وإن جعلته حالا كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب والايمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الايمان {ويقيمون الصلاة} أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالاقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها أو أريد باقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه والدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذى تتوجه إليه الرغبات و إذا أضيعت كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى وكتابتها بالواو على لفظ المفخم وحقيقة صلى حرك الصلوين اى الأليتين لأن المصلى يفعل ذلك فى ركوعه وسجوده وقيل للداعي مصل تشبيها له فى تخشعه بالراكع والساجد {ومما رزقناهم} أعطيناهم وما بمعنى الذى {ينفقون} يتصدقون أدخل من التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهى عنه وقدم المفعول دلالة على كونه اهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هى اختها أو هى وغيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئة مطلقا وأنفق الشئ وأنفذه إخوان كنفق الشئ ونفد وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الايمان والعطف يقتضى المغايره ٤{والذين يؤمنون} هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحى أنزل من عند اللّه وأيقنوا بالآخرة إيقانا زال معه ما كانوا عليه ن أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى و أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا فى جملة المتقين و إن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكانه قيل هدى للمتقين وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك أو المارد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات فى قولك هو الشجاع والجواد وقوله إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة فى المزدحم والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه {بما أنزل إليك} يعنى القرآن والمراد جميع القرآن لا القدر الذى سبق إنزاله وقت إيمانهم لأن الإيمان بالجميع واجب و إنما عبر عنه بلفظ الماضي وان كان بعضه مترقبا تغليبا على ما لم يوجد و لأنه إذا كان بعضه نازلا وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل {وما أنزل من قبلك} يعنى سائر الكتب المنزلة على النبيين {وبالآخرة} وهى تأنيث الآخر الذى هو ضد الأول وهى صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله تلك الدار الآخرة وهى من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام {هم يوقنون} الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ٥{أولئك على هدى} الجملة فى موضع الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ والا فلا محل لها ويجوز أن يجرى الموصول الأول على المتقين و أن يرتفع الثاني على الابتداء و أولئك خبره ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند اللّه ومعنى الاستعلاء في على هدى مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه ونحوه هو على الحق وعلى الباطل وقد صرحوا بذلك فى قولهم جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى ومعنى هدى {من ربهم} أي أوتوه من عنده ونكر هدى ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه لقد وقعت على لحم أي على لحم عظيم {وأولئك هم المفلحون} أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذى انفتحت له وجوه الظفر والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلى وجاء بالعطف هنا بخلاف قوله {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثم فكانت الثانية مقررة للأولى فهى من العطف بمعزل وهم فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لاصفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره أو هو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك فانظر كيف كرر اللّه عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل مالا يناله احد على طرق شتى وهى ذكر اسم الإشارة وتكريره ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهى ثابتة لهم بالفلاح وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون فى الآخرة كما إذا بلغك أن إنسانا قد تاب من أهل بلدك فاسخبرت من هو فقيل زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك فى طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا اللّهم زينا بلباس التقوى واحشرنا فى زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه وبين أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهو العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله ٦{إن الذين كفروا} الكفر ستر الحق بالجحود والتركيب دال على الستر ولذا سمى الزراع كافرا وكذا الليل ولم يأت بالعاطف هنا كما فى قوله أن الأبرار لفى نعيم وإن الفجار لفى جحيم [الانفطار: ١٣-١٤] لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بيانا لذكر الكتاب لا خبرا عن المؤمنين وسيقت الثانية للاخبار عن الكفار بكذا فبين الجملتين تفاوت فى المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه وإن كان مبتدأ على تقدير فهو كالجارى عليه والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم اللّه أنهم لا يؤمنون كأبي جهل و ابى لهب وأضرابهما {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} بهمزتين كوفى وسواء بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى إلى كلمة سواء [آل عمران:٦٤] اى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن وأنذرتهم أم لم تنذرهم مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل أن الذين كفورا مستو عليهم انذارك وعدمه والجملة خبر لإن و إنما جاز الاخبار عن الفعل مع أنه خبر أبدا لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى والهمزة و أم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء فى قولك اللّهم اغفر لنا أيتها العصابة يعنى أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء والانذار التخويف من عقاب اللّه بالزجر عن المعاصى {لا يؤمنون} جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر لإن والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر والحكمة فى الانذار مع العلم بالاصرار إقامة الحجة وليكون الارسال عاما وليثاب الرسول ٧{ختم اللّه على قلوبهم} قال الزجاج الختم التغطية لأن فى الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه وقال ابن عباس طبع اللّه على قلوبهم فلا يعقلون الخير يعنى أن اللّه طبع عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق فى صدر العبد عندنا فلا يؤمن مادامت تلك الظلمة فى قلبه وعند المعتزلة إعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير وقال بعضهم إن إسناد الختم إلى اللّه تعالى مجاز والخاتم فى الحقيقة الكافر إلا أنه تعالى لما كان هو الذى أفدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال بنى الأمير المدينة لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له فاسناده إلى الفاعل حقيقة وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازا لمضاهاتا الفاعل فى ملابسة الفعل كما يضاهى الرجل الأسد فى جرأته فيستعار له اسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال {وعلى سمعهم} وحد السمع كما وحد البطن فى قوله كلوا [البقرة:٥٧] في بعض بطنكم تعفوا لأمن اللبس ولان السمع مصدر فى أصله يقال سمعت الشئ سمعا وسماعا والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل وقيل المضاف محذوف اى وعلى مواضع سمعهم وقرئ على أسماعهم {وعلى أبصارهم غشاوة} بالرفع خبر ومبتدأ والبصر نور العين وهو ما يبصر به الرائي كما أن البصيرة نور القلب وهى ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما اللّه تعالى فيهما آلتين للابصار والاستبصار والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه وهذا البناء لما يشتمل على الشئ كالعصابة والعمامة والقلادة والأسماع داخله فى حكم الختم لا فى حكم التغشية لقوله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم ونصب المفضل وحده غشاوة باضمار جعل وتكرير الجار فى قوله وعلى سمعهم دليل على شدة الختم فى الموضعين قال الشيخ الإمام أبو منصور بن على رحمه اللّه الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر فى نفسه وغيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد له من صانع جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة وان لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخله فى حكم التغشية والآية حجة لنا على المعتزلة فى الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم {ولهم عذاب عظيم} العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشئ إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير ويستعملان فى الجثة والأحداث جميعا تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامى عن آيات اللّه ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا اللّه ٨{ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر} افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم للّه وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ثم ثنى بالكافرين قلوبا وألسنة ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاء وخداعا ولذا أنزل فيهم إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار وقال مجاهد أربع آيات من أول السورة فى نعت المؤمنين وآيتان فى ذكر الكافرين وثلاث عشرة آية فى المنافقين نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم عمههم ودعاهم صمابكما عميا وضرب لهم الأمثال الشنيعة وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفا وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناس وإنس وسموا به لظهورهم وانهم يؤنسون أى يبصرون كما سمى الجن لاجتنانهم ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صغة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا و إنما خصوا الايمان باللّه وباليوم الآخر وهو الوقت الذى لا حد له وهو الأبد الدائم الذى لا ينقطع و إنما سمى بالآخر لتاخره عن الاوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار لأنهم اوهموا فى هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبى الإيمان أوله وآخره وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهى العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ومسائل المعاد وهى العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة وفى تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانيين على صفة الصحة والاستحكام إنما طابق قوله {وما هم بمؤمنين} وهو فى ذكر شأن الفاعل لا الفعل قولهم آمنا باللّه وباليوم الآخر وهو فى ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد انكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو اخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين ونحوه قوله تعالى {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} [المائدة:٣٧] فهوأبلغ من قولك وما يخرجون منها واطلق الإيمان فى الثانى بعد تقييده فى الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ويحتمل أن يراد نفى أصل الإيمان وفى ضمنه نفى المذكور اولا والاية تنفى قول الكرامية أن الإيمان هو الاقرار باللسان لا غير لأنه نفى عنهم اسم الإيمان مع وجود الاقرار منهم وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان ودخلت الباء فى خبر ما مؤكدة للنفى لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع وماهم بمؤمنين نظرا إلى معناه ٩{يخادعون اللّه} أى رسول اللّه فحذف المضاف كقوله {واسأل القرية} كذا قاله أبو علي رحمه اللّه وغيره أى يظهرون غير مافى أنفسهم فالخداع اظهار غير ما في النفس وقد رفع اللّه منزلة النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم} وقيل معناه يخادعون اللّه فى زعمهم لأنهم يظنون أن اللّه ممن يصح خداعه وهذا المثال يقع كثيرا لغير اثنين نحو قولك عاقبت اللص وقد قرئ يخدعون اللّه وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل ولم يدعون الإيمان كاذبين ومامنفعتهم فى ذلك فقيل يخادعون اللّه ومنفعتهم فى ذلك متاركتهم عن المحاربة التى كانت مع من سواهم من الكفار واجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك قال صاحب الوقوف الوقف لازم على بمؤمنين لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمينن مخادعين فينتفى الوصف كقولك ما هو برجل كاذب والمراد نفى الإيمان عنهم واثبات الخداع لهم ومن جعل يخادعون حالا من الضمير فى يقول والعامل فيها يقول والتقدير يقول آمنا باللّه مخادعين أو حالا من الضمير فى بمؤمنين والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين فى حال خداعهم لا يقف والوجه الأول {والذين آمنوا} أى يخادعون رسول اللّه والمؤمنين باظهار الإيمان واضمار الكفر {وما يخدعون إلا أنفسهم} أى وما يعاملون تلك المعالمة المشبهة بمعالمة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم وحاصل خداعهم وهو العذاب فى الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون أبو عمرو ونافع ومكى للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد والنفس ذات الشئ وحقيقته ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما وللدم نفس لأن قوامها بالدم وللماء نفس لفرط حاجتها إليه والمراد بالأنفس ههنا ذواتهم والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعودهم إلى غيرهم {وما يشعرون} أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشئ علم حس من الشعار وهو ثوب يلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم لتمادى غفلتهم كالذى لا حس له ١٠{في قلوبهم مرض} أى شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد فى الحديث: مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين والمريض متردد بين الحياة والموت و لأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسما لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب {فزادهم اللّه مرضا} أى ضعفا عن الانتصار وعجزا عن الاقتدار وقيل المراد به خلق النفاق فى حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف فى زيادة الإيمان {ولهم عذاب أليم} فعيل بمعنى مفعل أى مؤلم {بما كانوا يكذبون} كوفى أى بكذبهم فى قولهم آمنا باللّه وباليوم الآخر [البقرة:٨] فما مع الفعل بمعنى المصدر والكذب الاخبار عن الشىء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أى بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به وقيل هو مبالغة فى كذب كما بولغ فى صدق فقيل صدق ونظيرهما بان الشىء وبين ١١{وإذا قيل لهم} معطوف على يكذبون ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم {لا تفسدوا في الأرض} لكان صحيحا والفساد خروج الشىء عن حال استقامته وكونه منتفعا به وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة والفساد فى الأرض هيج الحروب والفتن لأن فى ذلك فساد ما فى الأرض وانتفاء الاستقامة عن احوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية وكان فساد المنافقين فى الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار وممالئونهم على المسلمين بافشاء أسرارهم إليهم واغرائهم وذلك مما يؤدى إلى هيج الفتن بينهم {قالوا إنما نحن مصلحون} بين المؤمنين والكافرين بالمدارة يعنى أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد لأن إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشئ على حكم كقولك إنما ينطلق زيد وانما زيد كاتب وما كافة لأنها تكفها عن العمل ١٢{ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} أنهم مفسدون فحذف المفعول للعلم به ألا مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفى لاعطاء معنى التنبيه على تحقيق ما بعدها والاستفهام إذا دخل على النفى أفاد تحققا كقوله تعالى اليس ذلك بقادر [القيامة:٤٠] ولكونها فى هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها الامصدرة بنحو ما يتلقى به القسم وقد رد اللّه ما ادعوه من الانتظام فى جملة المصلحين أبلغ رد وأدلة على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف وما فى ألا و إن من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله لا يشعرون ١٣{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء} نصحوهم من وجهين أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسد من اتباع ذوى الأحلام فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادى جهلهم وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة و إنما صح اسنادقيل إلى لاتفسدوا وآمنوا مع أن اسناد الفعل إلى الفعل لا يصح لأنه اسناد إلى لفظ الفعل والممتنع اسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل و إذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب وما في كما كافة كما فى ربما أو مصدرية كما فى بما رحبت واللام فى الناس للعهد أى كما آمن الرسول ومن معه وهم ناس معهودون أو عبد اللّه بن سلام وأشياعه أى كما آمن أصحابكم واخوانكم أو للجنس أى كما آمن الكاملون فى الإنسانية أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم والكاف فى كما آمن فى موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أى إيمانا مثل ايمان الناس ومثله كما آمن السفهاء والاستفهام فى أنؤمن للانكار واللام فى السفهاء مشاربها إلى الناس وانما سفهوهم وهم العقلاء المراجيم لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق و أن ما عداه باطل ومن ركب متن الباطل كان سفيها والسفه سخافة العقل وخفة الحلم {ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} أنهم هم السفهاء وانما ذكرهنا لا يعلمون وفيما تقدم لا يشعرون لأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقا له و لأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة اما الفساد فى الأرض فأمرمبين على العادات فهو كالمحسوس والسفهاء خبران وهم فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبران ١٤{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} وقرأ أبو حنيفة رحمه اللّه و إذا لاقوا يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريبا منه الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نف وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وايهامهم أنهم معهم {وإذا خلوا إلى شياطينهم} خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه وبالى أبلغ لأن فيه دلالة الإبتداء والإنتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ويجوز أن يكون من خلا بمعنى وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم تشيطن وعنه أنها زائدة واشتقاقه من شطن إذا بعد لبعده من الصلاح والخبر أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل {قالوا إنا معكم} إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم و إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالإسمية محققة بأن لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أو حديون فى الإيمان إما لأن انفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك واما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة وكيف يطعمون فى رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار و اما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلا منهم رائجا عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد وقوله {إنما نحن مستهزؤون} تأكيد لقوله إنا معكم لأن معناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للاسلام ودفع له منهم لأن المستهزئ بالشئ المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استئناف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا لهم إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على المكان ١٥{اللّه يستهزئ بهم} أى يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى:٤٠] فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه [البقرة:١٩٤] فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتدوا وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على اللّه تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه قال الزجاج هو الوجه المختار واستئناف قوله اللّه يستهزىء بهم من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة وفيه أن اللّه تعالى هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذى ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان ولما كانت نكايات اللّه وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل اللّه يستهزىء بهم ولم يقل اللّه مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله إنما نحن مستهزئون {ويمدهم} أى يمهلهم عن الزجاج {في طغيانهم} فى غلوهم فى كفرهم {يعمهون} حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة فى مسألة الأصلح ١٦{أولئك} مبتدأ خبره {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أى استبدلوها به واختاروها عليه و إنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها فى قوم آمنوا ثم كفروا أو فى اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فلما جاءهم كفروا به أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة وفيه دليل على جواز البيع تعاطيا لأنهم لم يتلفظوا بلفظ الشرا ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم وسمى ذلك شراء فصار دليلا لنا على أن من أخذ شيا من غيره وترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب فى الدين {فما ربحت تجارتهم} الربح الفضل على رأس المال والتجارة صناعة التاجر وهو الذى يبيع ويشترى للربح وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي ومعناه فما ربحوا فى تجارتهم إذ التجارة لا تربح ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازا اتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحا له كقوله ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش فى وكريه جاش له صدرى لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر {وما كانوا مهتدين} لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة و إذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وان ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر و لأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح وقيل الذين صفة أولئك وفما ربحت تجارتهم إلى آخر الآية فى محل الرفع خبر أولئك ١٧{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب المثل زيادة فىالكشف وتتميما للبيان ولضرب الأمثال فى إبراز خفيات المعانى ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ولقد كثر ذلك فى الكتب السماوية ومن سور الانجيل سورة الأمثال والمثل فى أصل كلامهم هو المثل وهو النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قيل للقول السائر المثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلا إلا قولا فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل حالهم العجيبة الشأن كحال الذى استوقد نارا وكذلك قوله مثل الجنة التى وعد المتقون [الرّعد:٣٥] أى فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ثم أخذ فى بيان عجائبها وللّه المثل الأعلى أى الوصف الذى له شأن من العظمة والجلالة ووضع الذى موضع الذين كقوله وخضتم كالذى خاضوا [التّوبة:٦٩] فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحد أو قصد جنس المستوقدين أو أريد الفوج الذى استوقد نارا على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد ومعنى استوقد أوقد ووقود النار سطوعها والنار جوهر لطيف مضى حار محرق واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا {فلما أضاءت ما حوله} الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا [يونس:٥] وهى فى الآية متعدية ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء وجواب فلما {ذهب اللّه بنورهم} وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل إذا وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير فلما أضاءت شيئا ثابتا حوله وجمع الضمير وتوحيد للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى والنور ضوء النار وضوء كل نير ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به والمعنى أخذ اللّه بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب ولم يقل ذهب اللّه بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأسا ولو قيل ذهب اللّه بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورا ألا ترى كيف ذكر عقيبة {وتركهم في ظلمات} والظلمة عرض ينافى النور وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا تراءى فيها شبحان وهو قوله {لا يبصرون} وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد فاذا علق بشيئين كان مضمنا معنى صير فيجرى مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم فى ظلمات أصله هم فى ظلمات ثم دخل ترك فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوى كأن الفعل غير متعد اصلا و إنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا فى ظلمة وحيرة نعم المنافق خابط فى ظلمات الكفر أبدا ولكن المراد ما استضاءوا به قليلا من الانتفاع بالكلمةالمجراة علىالسنتهم ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدى وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي اشتروها بذهاب اللّه بنورهم وتركه إياهم فى الظلمات وتنكير النار للتعظيم ١٨{صم بكم عمي} أى هم صم كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وان ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كائما إيفت مشاعرهم وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم هم ليوث للشجعان وبحور الاسخياء إلا أن هذا فى الصفات وذلك فى الأسماء وما فى الآية تشبيه بليغ فى الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوا عنه صالحا لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام {فهم لا يرجعون} لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشئ وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين فى مكانهم لا يبرحون ولا يدرون ايتقدمون أم يتأخرون ١٩{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق} ثنى اللّه سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإضاح شبه المنافق فى التمثيل الأول المستوقد نارا وإظهار الإيمان بالاضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وما يصيبهم من الإفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق والمعنى أو كمثل ذوى صيب فحذف مثل لدلالة العطف عليه وذوى لدلالة يجعلون عليه والمراد كمثل قوم اخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا فهذا تشبيه أشياء بأسشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح فى قوله {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} وقول امرئ القيس كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالى بل جاء به مطويا ذكره على سنن الاستعارة والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء بقدر شبهه به بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرئ القيس وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامنت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها كقوله تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها}[الجمعة:٥] الآية فالمراد تشبيه حال اليهود فى جهلها بما معها من التوراة بحال الحمار فى جهله بما يحمل من أسفار الحكمة وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب وكقوله واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلنا من السماء [الكهف:٤٥] فالمراد قلة بقاء زهرة الحياة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفية فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيره شيئا واحدا فلا فكذلك لما وصف وقوع المنافقين فى ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدة الأمر بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها فى ظلمة الليل وكذلك من أخذته السماء فى الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخروهم يتدرجون فى مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ وعطف احد التمثيلين على الآخر بأولأنها فى أصلها لتساوى شيئين فصاعدا فى الشك عند البعض ثم استعيرت لمجرد التساوى كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين تريد أنهما سيان فى استصواب أن يجالسا وقوله تعالى {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [الإنسان (الدّهر): ٢٤] أى الآثم والكفور سيان فى وجوب العصاين فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين و أن الكيفيتين سواء فى استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب وإن مثلها بهما جميعا فكذلك والصيب المطر الذى يصوب أى ينزل ويقع ويقال للسحاب صيب أيضا وتنكير صيب لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار فى التمثيل الأول والسماء هذه المظلة وعن الحسن أنها موج مكفوف والفائدة فى ذكر السماء والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام اخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أى من أفق واحد من بين سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء ففى التعريف مبالغة كما فى تنكير صيب وتركيبه وبنائه وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر منها يأخذ ماءه وقيل أنه يأخذ من البحر ويرتفع ظلمات مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوى لكونه صفة لصيب بخلاف مالو قلت ابتداء فيه ظلمات ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه والرعد الصوت الذى يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه أو ملك يسوق السحاب والبرق الذى يلمع من السحاب من برق الشئ بريقا إذا لمع والضمير فى فيه يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكانا للظلمات فإن اريد به السحاب فظلماته إذا كان أسحم مطبقا سحمته وتطبيقه مضموما اليهما ظلمة الليل و اما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة اظلال غمامه مع ظلمة الليل وجعل الصيب مكانا للرعد والبرق على ارادة السحاب به ظاهر وكذا أن اريد به المطر لأنهما متلبسان به فى الجملة ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل يقال رعدت السماء رعدا وبرقت برقا فروعى حكم الاصل بأن ترك جمعهما ونكرت هذه الأشياء لأن المراد انواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف {يجعلون أصابعهم في آذانهم} الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفا كما فى قوله أو هم قائلون لأن المحذوف باق معناه وإن سقط لفظه ولا محل ليجعلون لكونه مستأنفا لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلا قال فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون اصابعهم فى آذانهم ثم قال فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق فقال يكاد البرق يخطف ابصارهم و إنما ذكر الأصابع ولم يذكر الانامل ورءوس الاصابع هى التي تجعل فى الآذان اتساعا كقوله فاقطعوا ايديهما [المائدة:٣٨] والمراد إلى الرسغ ولان فى ذكر الاصابع من المبالغة ما ليس فى ذكر الأنامل و إنما لم يذكر الأصبع الخاص الذى تسد به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة {من الصواعق} متعلق بيجعلون أى من اجل الصواعق يجعلون أصابعهم فى آذانهم والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة نار قالوا تنقدح من السحاب إذا اصطكت أحرامه وهى نار لطيفة جديدة لا تمر بشئ إلا اتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت ويقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أى مات اما بشدة الصوت أو بالإحراق {حذر الموت} مفعول له والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة {واللّه محيط بالكافرين} يعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز هذه الجملة اعتراض لا محل لها ٢٠{يكاد البرق يخطف أبصارهم} الخطف الأخذ بسرعة وكاد يستعمل لتقريب الفعل جدا وموضع يخطف نصب لأنه خبر كاد {كلما أضاء لهم} كل ظرف وما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف أى كل وقت أضاء لهم فيه والعامل فيه جوابها وهو {مشوا فيه} أى في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول كيف يصنعون فى تارتي خفوق البرق وخفيته وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وماا هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة فإذا خفى وفتر لمعانه بقوا واقفين وأضاء متعد أى كلما نور لهم ممشى ومسلكا اخذوه والمفعول محذوف أو غير متعد أى كلما لمع لهم مشوا فى مطرح نوره والمشى جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعى فإذا ازداد فهو عدو {وإذا أظلم عليهم} أظلم غير متعد وذكر مع اضاء كلما ومع اظلم إذا لانهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشى فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف {قاموا} وقفوا وثبتوا فى مكانهم ومنه قام الماء إذا جمد {ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم} يقصف الرعد {وأبصارهم} بوميض البرق ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه أى ولو شاء اللّه أن يذهب بسمعهم وابصارهم لذهب بهما ولقد تكاثر هذا الحذف فى شاء وأراد لا يكادون يبرزون المفعول إلا فى الشئ المستغرب كنحو قوله فلو شئت أن أبكى دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع وقوله تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا [الانبياء:١٧] ولو أراد اللّه أن يتخذ ولدا {إن اللّه على كل شيء قدير} أى أن اللّه قادر على كل شيء لما عدد اللّه فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند اللّه ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال ٢١{يا أيها الناس} قال علقمة ما فى القرآن يا أيها الناس فهو خطاب لأهل مكة وما فيه يا أيها الذين آمنوا فهو خطاب لأهل المدينة وهذا خطاب لمشركى مكة و يا حرف وضع لنداء البعيد و أى والهمزة للقريب ثم استعمل فى مناداة من غفل وسها وإن قرب ودنا تنزيلا له منزلة من بعد ونأى فإذا نودى به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذى يتلوه معتنى به جدا وقول الداعى يا رب و وهأفرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هظما لنفسه وإقرارا عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته و أى وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن ذو والذى وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهمامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء فالذى يعمل فيه يا أى والتابع له صفته نحويا زيد الظريف إلا أن أيا لا يستقل بنفسه استقلال زيد فمم ينفك عن الصفة وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء وللعوض عما يستحقه أى من الاضافة وكثر النداء فى القرآن على هذه الطريقة لأن ما نادى اللّه به عباده من اوامره ونواهيه ووعده ووعيده أمور عظام وخطوب جسام يجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم اليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ {اعبدوا ربكم} وحدوه قال ابن عباس رضى اللّه عنهما كل عبادة فى القرآن فهى توحيد {الذي خلقكم} صفة موضحة مميزة لانهم كانوا يسمون الآلهة أربابا والخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء وعند المعتزلة إيجاد الشىء على تقدير واستواء وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم لأن الشىء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم وعندنا هو اسم للموجود خلقكم بالادغام أبو عمرو {والذين من قبلكم} احتج عليهم بانه خالقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك فقيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام {لعلكم تتقون} أى اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب ولعل للترجى والاطماع ولكنه إطماع من كريم فيجرى مجرى وعده المحتوم وفاؤه وبه قال سيبويه وقال قطرب هو بمعنى كى أى لكى تتقوا ٢٢{الذي جعل لكم الأرض} أى صير ومحل الذى نصب على المدح أو رفع باضمار هو {فراشا} بساطا تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثان لجعل وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن علىالتقديرين {والسماء بناء} سقفا كقوله تعالى وجعلنا السماء سقفا محفوظا [الانبياء:٣٢] وهو مصدر سمى به المبنى {وأنزل من السماء ماء} مطرا {فأخرج به} بالماء نعم خروج الثمرات بقدرته ومشيئته وإيجاده ولكن جعل الماء سببا فى خروجها كماء الفحل فى خلق الولد وهو قادر على إنشاء الكل بلا سبب كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ولكن له فى إنشاء الأشياء مدرجا لها من حال إلى حال وناقلا من مرتبة إلى مرتبة حكما وعبرا للنظار بعيون الاستبصار ومن فى {من الثمرات} للتبعيض أو للبيان {رزقا} مفعول له إن كانت للتبعيض ومفعول به لأخرج إن كانت للبيان و إنما قيل الثمرات دون الثمر والثمار وإن كان الثمر المخرج بماء السماء كثيرا لأن المراد جماعة الثمرة و لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها فى الجمعية {لكم} صفة جارية على الرزق إن أريد به العين وإن جعل اسما للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقا إياكم {فلا تجعلوا للّه أندادا} هو متعلق بالأمر أى اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أندادا لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد و أن لا يجعل له ند ولا شريك ويجوز أن يكون الذى رفعا على الابتداء وخبره فلا تجعلوا ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أى الذى حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء والند المثل ولا يقال إلا للمثل المخالف والمناوئ ومعنى قولهم ليس للّه ند ولا ضد نفى ما يسد مسده ونفى ما ينافيه {وأنتم تعلمون} انها لا تخلق شيئا ولا ترزق واللّه الخالق الرازق أو مفعول تعلمون متروك أى وأنتم من أهل العلم وجعل الأصنام للّه أندادا غاية الجهل والجملة حال من الضمير فى فلا تجعلوا ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الاشراك لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم وخلق السماء التى هى كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار وما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بانزال الماء منها عليها والاخراج به من بطنها أشباه النسل من الثمار رزقا لبنى آدم فهذا كله دليل موصل إلى التوحيد مبطل للاشراك لأن شيئا من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وما يقرر إعجاز القرآن فقال ٢٣{وإن كنتم في ريب مما نزلنا} ما نكرة موصوفة أو بمعنى الذى {على عبدنا} محمد عليه السلام والعبد اسم لمملوك من جنس العقلاء والمملوك موجود قهر بالاستيلاء وقيل نزلنا دون أنزلنا لأن المراد به النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من محازه لمكان التحدى وذلك أنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند اللّه لم ينزل هكذا نجوما سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقا حينا فحينا شيئا فشيئا لا يلقى الناظم ديوان شعره دفعة ولا يرمى الناثر بخطبه ضربة فلو انزله اللّه لأنزله جملة قال اللّه تعالى {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} فقيل إن ارتبتم فى هذا الذى وقع انزاله هكذا على تدريج {فأتوا بسورة} أى فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه وهلموا نجما فردا من نجومه سورة من أصغر السور والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات وواوها إن كانت أصلا فاما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لانها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسور أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سور المدينة على ما فيها وإما أن تسمى بالسورة التى هى الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارئ وهى أيضا فى نفسها مرتبة طوال وأوساط وقصار أو لرفعة شأنها وجلالة محلها فى الدين وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسؤرة التى هى البقية من الشئ وأما الفائدة فى تفصيل القرآن وتقطيعه سورا فهى كثيرة ولذا أنزل اللّه تعالى التوراة والانجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السور وبوب المصنفون فى كل فن كتبهم ابوابا موشحة الصدور بالتراجم منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بيانا واحدا ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ فى آخر كان أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل منه ولو استمر الكتاب بطوله ومن ثم جزأ القراء القرآن أسباعا وأجزاء وعشورا وأخماسا ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب اللّه طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة فيعظم عند ما حفظه ويجل فى نفسه ومنه حديث أنس رضى اللّه عنه كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فينا ومن ثم كانت القراءة فى الصلاة بسورة تامة أفضل {من مثله} متعلق بسورة صفة لها والضمير لما نزلنا أى بسورة كائنة من مثله يعنى فأتوا بسورة مما هو على صفته فى البيان الغريب وعلو الطبقة فى حسن النظم أو لعبدنا أى فأتوا ممن هو على حاله من كونه اميا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك ورد الضمير إلى المنزل أولى لقوله تعالى {فأتوا بسورة مثله} {فأتوا بعشر سور مثله} {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} و لأن الكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيبا وذلك أن الحديث فى المنزل لا فى المنزل عليه وهو مسوق إليه فإن المعنى وإن ارتبتم فى أن القرآن منزل من عند اللّه فهاتوا أنتم نبذا مما يماثله وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقال وإن ارتبتم فى أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله و لأن هذا التفسير يلائم قوله {وادعوا شهداءكم} جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة {من دون اللّه} أى غير اللّه وهو متعلق بشهداءكم أى ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون اللّه وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة انكم على الحق أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن {إن كنتم صادقين} أن ذلك مختلق و أنه من كلام محمد عليه السلام وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أى أن كنتم صادقين فى دعواكم فأتوا انتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك ٢٤{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} لما أرشدهم إلى الجهة التى منها يتعرفون صدق النبي عله السلام قال لهم فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعد لمن كذب وعاند وفيه دليلا على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزا والاخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا اللّه ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجئ بان الذى للشك دون إذا الذي للوجوب وعبر عن الاتيان بالفعل لأنه فعل من الأفعال والفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية ٢التى تعطيك اختصارا إذ لو لم يعدل من لفظ الاتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله ولا محل لقوله ولن تفعلوا لأنها جملة اعتراضية وحسن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله ولت تفعلوا ولا ولن أختان فى نفى المستقبل إلا أن فى لن تأكيدا وعن الخليل أصلها لا أن وعند الفراء لا أبدلت الفها نونا وعند سيبويه حرف موضع لتأكيد نفى المستقبل و إنما علم أنه اخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لانهم لو عارضوه بشئ لاشتهر فكيف والطاعنون فيه اكثر عددا من الذابين عنه وشرط فى اتقاء النار انتفاء اتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول و إذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد و أبوا الانقياد استوجبوا النار فقيل لهم أن استبنتم العجز فاتركوا العناد فوضع فاتقوا النار موضعه لأن اتقاء النار سبب ترك العناد وهو من باب الكناية وهى من شعب البلاغة وفائدته الايجاز الذى هو من حيلة القرآن والوقود ما ترفع به النار يعنى الحطب و اما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح وصلة الذى والتى يجب أن تكون معلوما للمخاطب فيحتمل أن يكونوا سمعوا من أهل الكتاب أو من رسول اللّه أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة [التحريم:٦] إنما جاءت النار منكرة ثم ومعرفة هنا لأن تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه الآية بالمدينة مشارابها إلى ما عرفوه اولا ومعنى قوله تعالى وقودها الناس والحجارة أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها تتقد بالناس والحجارة وهى حجارة الكبريت فهى أشد توقدا وابطأ خمودا وأنتن رائحة والصق بالبدن أو الأصنام المعبودة فهى أشد تحسيرا و إنما قرن الناس بالحجارة لأنهم قرنوا بها انفسهم فى الدنيا حيث عبدوها وجعلوها للّه أندادا ونحوه قوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون اللّه} حصب جهنم أى حطبها فقرنهم بها محماة فى نار جهنم ابلاغا فى إيلامهم {أعدت للكافرين} هيئت لهم فيه دليل على أن النار مخلوقة خلافا لما يقوله جهم سنة اللّه فى كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطا لا كتساب ما يزلف وتثبيطا عن اقثراف ما يتلف فلما ذكر الكفار وأعمالهم واوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله ٢٥{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} والمأمور بقوله وبشر الرسول عليه السلام أو كل أحد وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به وهو معطوف على فاتقوا كما تقول يا بنى تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بنى أسد بإحسانى إليهم أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق والبشارة الاخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء إذا قال لعبده أيكم بشرنى بقدوم فلان فهو حر فبشروه فرادى عتق اولهم لأنه هو الذى أظهر سروره بخبره دون الباقين ولو قال اخبرنى مكان بشرنى عتقوا جميعا لأنهم اخبروه ومنه البشرى لظاهر الجلد وتباشير الصبح ما ظهر من اوائل ضوئه و اما فبشرهم بعذاب اليم فمن العكس فى الكلام الذى يقصد به الاستهزاء الزائد فى غيظ المستهزأبه كما يقول الرجل لعدوه ابشر بقتل ذريتك ونهب مالك والصالحة نحوالحسنة فى جريها مجرى الاسم والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس و الآية حجة على من جعل الاعمال إيمانا لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة و اللّه تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحا لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة اللّه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة {أن لهم جنات} أى بان لهم جنات وموضع أن وما عملت فيه النصب يبشر عند سيبويه خلافا للخليل وهو كثير فى التنزيل والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون و الجنين والجنة والجان والجنان وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان والجنة مخلوقة لقوله تعالى {اسكن أنت وزوجك الجنة} خلافا لبعض المعتزلة ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي متشلمة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب اعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان {تجري من تحتها الأنهار} الجملة فى موضع النصب صفة لجنات والمراد من تحت أشجارها كما ترىالأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية وأنهار الجنة تجرى في غير أخدود وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار فى خلالها مطردة والجرى الإطراد والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل نهر مصر واللغة العالية نهر ومدار التركيب على السعة واسناد الجرى إلى الأنهار مجازى و إنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى واشتعل الرأس شيبا [مريم:٤] أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة فى قوله تعالى {فيها أنهار من ماء غير آسن} الآية والماء الجاري من النعمةالعظمى واللذة الكبرى ولذا قرن اللّه تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها {كلما رزقوا} صفة ثانية لجنات أو جملة مستانفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم اجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أى اجناسها و إن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا اللّه {منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي} أى كلما رزقوا من الجنات من أى ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك رزقا قالوا ذلك فمن الاولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة ونظيره أن تقول رزقنى فلان فيقال لك من اين فتقول من بستانه فيقال من أى ثمرة رزقك من بستانه فتقول من الرمان وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة و إنما المراد نوع من انواع الثمار {رزقنا} أى رزقناه فحذف العائد {من قبل} أى من قبل هذا فلما قطع عن الإضافة بنى والمعنى هذا مثل الذى رزقناه من قبل وشبهه بدليل قوله {وأتوا به متشابها} وهذا كقولك أبو يوسف أبو حنيفة تريد أنه لاستحكام الشبة كأن ذاته ذاته الضمير فى به يرجع إلى المرزوق فى الدنيا والآخرة جميعا لأن قوله هذا الذى رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه فى الدارين و إنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن اجناسا آخر لأن الإنسان بالمألوف آنس و إلى المعهود أميل و إذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتا بينا كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهى الأمر وتمادى الحال فى ظهور المزية وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذى يستملى تعجبهم فى كل اوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانسا فى نفسه كما يحكى عن الحسن يؤتى احدهم بالصفحة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول هذا الذى أتينا به من قبل فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف وعنه عليه السلام والذى نفس محمد بيده أن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة لأكلها فما هى بواصلة إلى فيه حتى يبدلها اللّه مكانها مثلها فاذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك وقوله وأتوا به متشابها جملة معترضة للتقرير كقولك فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل ورأى من الرأى كذا وكان صوابا ومنه وجعلوا اعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون {ولهم فيها أزواج} ازواج مبتدأ ولهم الخبر وفيها ظرف للاستقرار {مطهرة} من مساوى الأخلاق لا طمحات ولا مرحات أو مما يختص بالنساء من الحيض والاستحاضة من وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ولم يقل طاهرة لأن مطهرة ابلغ لأنها تكون للتكثير وفيها اشعار أنهما بأن مطهرا طهرهن وما ذلك إلا اللّه عز وجل {وهم فيها خالدون} الخلد والخلود البقاء الدائم الذى لا ينقطع وفيه بطلان قول الجهمية فانهم يقولون بفناء الجنة واهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول والآخر وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق احمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ولأنه تعالى باق وأوصفافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال قلنا الأول فى حقه هو الذى لا ابتداء لوجوده والآخر هو الذى لا انتهاء له وفى حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفى النقيصة والزوال وذا فى تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه وانى يقع التشابه فى البقاء وهو تعالى باق لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود لما ذكر اللّه تعالى الذباب والعنكبوت فى كتابه وضرب به مثلا ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذاكلام اللّه فنزل ٢٦{إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة} أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها و اصل الحياء تغير وانكسار يعترى الانسان من تخوف ما يعاب به ويذم ولا يجوز على القديم التغير وخوف الذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة فقالوا اما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة واطباق الجواب على السؤال وهو فن من كلامهم بديع وفيه لغتان التعدي بنفسه وبالجار يقال اسحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا وضرب المثل صنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم وما هذه إبهامية وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهامها وزادته عموما كقولك أعطنى كتابا ما تريد أي كتاب كان أوصلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى فبما نَقْضِهم ميثاقهم [النساء:١٥٥] كأنه قال لا يستحيى أن يضرب مثلا البتة وبعوضة عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال من النكرة مقدمة عليه أو انتصبا مفعولين على أن ضرب بمعنى جعل واشتاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشئ لأنه قطعه منه والبعوض فى اصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت {فما فوقها} فما تجاوزها وزاد عليها فى المعنى الذى ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة أو فما زاد عليه فى الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهى النهاية فى الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلا للدنيا {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق} الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذى لا يسوغ انكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب {من ربهم} فى موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا} يوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك وفى قولهم ماذا أراد اللّه بهذا مثلا استحقار كما قالت عائشة رضى اللّه عنها فى عبد اللّه بن عمرو يا عجبا لابن عمر وهذا محقرة له ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كقوله هذه ناقة اللّه لكم [الاعراف:٧٣] آية واما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء وفائدته فى الكلام أن يعطيه فضل توكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيده و أنه لا محالة ذاهب قلت اما زيد فذاهب و لذا قال سيبويه فى تفسيره مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وهذا التفسير يفيد كونه تأكيدا وانه فى معنى الشرط وفى إيراد الجملتين مصدرتين به و أن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون احماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء وماذا فيه وجهان أن يكون ذا إسما موصولا بمعنى الذى وما استفهاما فيكون كلمتين وان تكون ذا مركبة مع ما مجعولتين اسما واحدا للاستفهام فيكون كلمة واحدة فما على الأول رفع بالابتداء وخبره ذا مع صلته أى أراد والعائد محذوف وعلى الثاني منصوب المحل بأراد والتقدير أى شيء أراد اللّه والارادة مصدر أردت الشئ إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك وهى عند المتكلمين معنى يقتضى تخصيص المفعولات بوجه دون وجه واللّه تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة وقال معتزلة بغداد إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة فإذا قيل أراد اللّه كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساه ولا مكره عليه و إن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة و أن العلم بكونه حقا من باب الهدى و أن الجهل بحسن موروده من باب الضلالة و أهل الهدى كثير فى انفسهم و إنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ولأن القليل من المهتدين كثير فى الحقيقة وإن قالوا فى الصورة إن الكرام كثير فى البلاد و إن قلوا كما غيرهم قل و إن كثروا والاضلال خلق فعل الضلال فى العبد والهداية خلق فعل الاهتداء هذا هو الحقيقة عند أهل السنة وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك و إن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ولما كانت حال الآلهة التى جعلها الكفار أندادا للّه لا حال أحقر منها وأقل ولذلك تجعل بيت العنكبوت مثلها فى الضعف والوهن وجعلت اقل من الذباب وضربت لها البعوضة فالذى دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب فى تمثيله محق فى قوله سائق للمثل على قضية مضربه ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الانصاف والنظر فى الأمور بناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق و أن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالانكار و أن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين والعجب منهم كيف انكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا أجمع من ذرة وأجرأ من الذباب وأسمع من قراد وأضعف من فراشة وآكل من السوس واضعف من البعوضة وأعز من مخ البعوض ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح {وما يضل به إلا الفاسقين} هو مفعول يضل وليس بمنصوب على الاستثناء لأن يضل لم يستوف مفعوله والفسق الخروج عن القصد والفاسق فى الشريعة الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أى بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء اللّه ٢٧{الذين ينقضون عهد اللّه} النقض الفسخ وفك التركيب والعهد الموثق والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد اللّه احبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعا وعهد اللّه ما ركز فى عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم أو اخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه اللّه بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره أو أخذ اللّه العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغى بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم وقيل عهد اللّه إلى خلقه ثلاثة عهود العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم} [الاعراف: ١٧٢] الآية وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} [الاحزاب:٦] وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى {وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران:١٨٧] {من بعد ميثاقه} أصله من الوثاقة وهى إحكام الشئ والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد اللّه من قبوله وإلزامه أنفسهم ويجوز أن يكون بمعنى ثوثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو اللّه تعالى أى من بعد توثقته عليهم ومن لا بتداء الغاية {ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل} هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين أو قطعهم ما بين الانيباء من الوصلة والاجتماع على الحق فى إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء وما نكرة موصوفة أو بمعنى الذى و أن يوصل فى موضع جر بدل من الهاء أى نوصله أو فى موضع رفع أى هو أن يوصل {ويفسدون في الأرض} بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان {أولئك} مبتدأ {هم} فصل والخبر {الخاسرون} أى المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب ٢٨{كيف تكفرون باللّه} معنى الهمزة التى في كيف مثله فى قولك اتكفرون باللّه ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الانكار والتعجب ونظيره أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح {وكنتم أمواتا} نطفا فى أصلاب آبائكم والواو للحال وقد مضمرة والاموات جمع ميت كالأقوال جمع قول ويقال لعادم الحياة أصلا ميت أيضا كقوله تعالى {بلدة ميتا}[ الزّخرف:١١] {فأحياكم} فى الأرحام {ثم يميتكم} عند انقضاء آجالكم {ثم يحييكم} للبعث {ثم إليه ترجعون} تصبرون إلى الجزاء أو ثم يحييكم فى قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور و إنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ و اما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن ريد النشور و إن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور و إنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التى ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ولأنها تشتمل على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر ٢٩{هو الذي خلق لكم ما في الأرض} أى لأجلكم ولا نتفاعكم به فى دنياكم ودينكم اما الأول فظاهر واما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها وقد استدل الكرخى و أبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله خلق لكم على أن الأشياء التى يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة فى الأصل {جميعا} نصب على الحال من ما {ثم استوى إلى السماء} الاستواء الاعتدال والاستقامة يقال استوى العود أى قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل أى قصده قصدا مستويا من غير أن يلوى على شيء ومنه قوله تعالى ثم استوى إلى السماء أى اقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما فى الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل ثم استوى إلى فوق والضمير فى {فسواهن} مبهم يفسره {سبع سماوات} كقولهم ربه رجلا وقيل الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها فى معنى الجنس ومعنى تسويتهن تعديل خلقن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور أو إتمام خلقهمن وثم هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض ولا يناقض هذا قوله والأرض بعد ذلك دحاها [النّازعات:٣٠] لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر وعن الحسن خلق اللّه الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر فى موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى {كانتا رتقا} وهو الالتزاق {وهو بكل شيء عليم} فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت مع خلق ما فى الأرض على حسب حاجات اهلها ومنافعهم وهو وأخواته مدنى غير ورش وهو هو و أبو عمرو وعلى جعلوا الواو كأنها من نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون فى عضد عضد بالسكون لما خلق اللّه تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن فى السماء الملائكة فأفسدت الجن فى الأرض فبعث اليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورءوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال ٣٠{وإذ قال ربك للملائكة} إذ نصب باضمار اذكر والملائكة جمع ملاك كالشمائل جمع شمأل والحاق التاء بتأنيث الجمع {إني جاعل} أى مصير من جعل الذى له مفعولان وهما {في الأرض خليفة} وهو من يخلف غيره فعيله بمعنى فاعلة وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلقهم فيها آدم وذريته ولم يقل خلاف أو خلفاء لأنه اريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغنى بذكر ابى القبيلة فى قولك مضر وهاشم أو اريد من يخلفكم أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك أو خليفة منى لأن آدم كان خليفة اللّه فى أرضه وكذلك كل نبى قال اللّه تعالى {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} و إنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته فى استخلافهم قبل كونهم أو ليعلم عباده المشاورة فى امورهم قبل أن يقدموا عليها و إن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذى لا يجهل و إنما عرفوا ذلك باخبار من اللّه تعالى أو من جهة اللوح أو قاسوا احد الثقلين على الآخر {ويسفك الدماء} أى يصب والواو فى {ونحن نسبح} للحال كما تقول أتحسن إلى فلان و أنا أحق منه بالإحسان {بحمدك} فى موضع الحال أى نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى {وقد دخلوا بالكفر} أى دخلوا كافرين {ونقدس لك} ونطهر أنفسنا لك وقيل التسبيح والتقديس تبعيد اللّه من السوء من سبح فى الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها و أبعد {قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي اعلم من الحكم فى ذلك ما هو خفى عليكم يعنى يكون فيهم الأنبساء و الأولياء والعلماء وما بمعنى الذى وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أى مالا تعلمونه إنى حجازى و أبو عمرو ٣١{وعلم آدم} هو اسم أعجمى وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الأبلاس {الأسماء كلها} أى أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء إذ الاسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى {واشتعل الرأس شيبا} ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى أنبئونى بأسماء هؤلاء وانبئهم بأسمائهم ولم يقل أنبئونى بهؤلاء وأنبهئهم بهم ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى اراه الأجناس التى خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمعرفة {ثم عرضهم على الملائكة} أى عرض المسميات و إنما ذكر لأن فى المسميات العقلاء فغلبهم و إنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت {فقال أنبئوني} اخبرونى {بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} فى زعمكم أنى أستخلف فى الأرض مفسدين سفاكين للدماء وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التى هى اصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا ٣٢{قالوا سبحانك} تنزيها لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك فى تدبيرك وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق النخلى للعبادة فكيف بعلم الشريعة انتصابه على المصدر تقديره سبحت اللّه تسبيحا {لا علم لنا إلا ما علمتنا} وليس فيه علم الاسماء وما بمعنى الذى والعلم بمعنى المعلوم أى لا معلوم لنا إلى الذى علمتنا {إنك أنت العليم} غير المعلم {الحكيم} فيما قضيت وقدرت والكاف اسم إن وأنت مبتدا وما بعده خبره والجملة خبران أو أنت فصل والخبر العلم والحكيم خبر ثان ٣٣{قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم} سمى كل شيء باسمه {قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} أى اعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون {وأعلم ما تبدون} تظهرون {وما كنتم تكتمون} تسرون ٣٤{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} أى اخضعوا له وأقروا بالفضل له عن ابى بن كعب وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما كان ذلك انحناء ولم يكن خرورا على الذقن والجمهور على أن المامور به وضع الوجه على الأرض وكان السجود تحية لآدم عليه السلام فى الصحيح إذ لو كان للّه تعالى لما امتنع عنه إبليس وكان سجود التحية جائزا فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له لا ينبغى لمخلوق أن يسجد لأحد إلا للّه تعالى {فسجدوا إلا إبليس} الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله على وابن عباس وابن مسعود رضى اللّه عنهم و لأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ولهذا قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك وقوله كان من الجن [الكهف:٥٠] معناه صار من الجن كقوله فكان من المغرقين [هود:٤٣] وقيل الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ولانه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور و لأنه ابى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون اللّه ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته و لأنه قال أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى ولا نسل للملائكة وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان ومن كان بين بين فهو جن {أبى} امتنع مما أمر به {واستكبر} تكبر عنه {وكان من الكافرين} وصار من الكافرين بابائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفرا عند أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج أو كان من الكافرين فى علم اللّه أى وكان فى علم اللّه أنه يكفر بعد إيمانه لا أنه كان كافرا أبدا فى علم اللّه وهى مسألة الموافاة ٣٥{وقلنا يا آدم اسكن} امر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكونا {أنت} تأكيد للمستكن فى اسكن ليصح عطف {وزوجك} عليه {الجنة} هى جنة الخلد التى وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف وقالت المعتزلة كانت بستانا باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها قلنا إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها و أهل الجنة يكلفون المعروفة والتوحيد {وكلا منها} من ثمارها فحذف المضاف {رغدا} وصف للمصدر أى اكلا رغدا واسعا {حيث شئتما} وبابه بغير همز أبو عمرو وحيث للمكان المبهم أى أى مكان من الجنة شئتما {ولا تقربا هذه الشجرة} أى الحنطة ولذا قيل كيف لا يعصى الإنسان وقوته من شجرة العصيان أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة أو التينة {فتكونا} جزم عطف على تقربا أو نصب جواب للنهى {من الظالمين} من الذين ظلموا انفسهم أو من الضارين انفسهم ٣٦{فأزلهما الشيطان عنها} أى عن الشجرة أى فحملها الشيطان على الزلة بسببها وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما فأزالهما حمزة وزلة آدم بالخطأ فىالتأويل إما بحمل النهى على التنزيه دون التحريم أو بحمل اللام على تعريف العهد وكان اللّه تعالى أراد الجنس و الأول الوجه وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشى في الطين وقال مشايخ سمرقند لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية و إنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه {فأخرجهما مما كانا فيه} من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة فى عنها وقد توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له أخرج منها فإنك رجيم لأنه منع عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل فى فم الحية حتى دخلت به وقيل قام عند الباب فنادى {وقلنا اهبطوا} الهبوط النزول إلى الأرض والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما لانهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم حعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى قال اهبطا منها جميعا [طه:١٢٣] {بعضكم لبعض عدو} المراد به ما عليه الناس من التباغى والتعادى وتضليل بعضهم لبعض والجملة فى موضع الحال من الواو فى اهبطوا أى اهبطوا متعادين {ولكم في الأرض مستقر} موضع إستقرار أو استقرار {ومتاع} وتمتع بالعيش {إلى حين} إلى يوم القيامة أو إلى الموت قل إبراهيهم بن أدهم اورثتنا تلك الأكله حزنا طويلا ٣٧{فتلقى آدم من ربه كلمات} أى استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها وبنصب آدم ورفع كلمات مكى على أنها استقبلته بان بلغته واتصلت به وهن قوله تعالى {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه إن أحب الكلام إلى اللّه تعالى ما قاله أبونا آدم حيث اقترف الخطيئة سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسى فاغفر لى أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال يا رب الم تخلقنى بيدك قال بلى قال يا رب الم تنفخ فى من روحك ألم تسبق رحمتك غضبك ألم تسكنى جنتك وهو تعالى يقول بلى بلى قال فلم أخرجتنى من الجنة قال بشؤم معصيتك قال تبت أراجعى أنت إليها قال نعم {فتاب عليه} فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعا له ولقد طوى ذكر النساء فى أكثر القرآن والسنة لذلك {إنه هو التواب} الكثير القبول للتوبة {الرحيم} على عباده ٣٨{قلنا اهبطوا منها جميعا} حال أى مجتمعين وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض أو لما نيط به من زيادة قوله {فإما يأتينكم مني هدى} أي رسول أبعثه إليكم أو كتاب انزله عليكم بدليل قوله تعالى {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} فى مقابلة قوله {فمن تبع هداي} أى بالقبول والإيمان به {فلا خوف عليهم} فى المستقبل فلا خوف بالفتح فى كل القرآن {ولا هم يحزنون} على ما خلفوا والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك أن جئتنى فإن قدرت أحسنت إليك ٣٩{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك} مبتدأ والخبر {أصحاب النار} أى اهلها ومستحقوها والجملة فى موضع الرفع خبر المتبدأ أعنى والذين {هم فيها خالدون} ٤٠{يا بني إسرائيل} هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه فى لسانهم صفوة اللّه أو عبد اللّه فإسرا هو العبد أو الصفوة وإيل هو اللّه بالعبرية وهو غير منصرف لوجود العليمة والعجمة {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها و أراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الانجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم وما انعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم المبشر به فى التوراة والإنجيل {وأوفوا} أدواوافيا تاما يقال وفيت له بالعهد فأنا واف به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به والاختيار أوفيت وعليه نزل التنزيل {بعهدي} بما عهاد تمونى عليه من الإيمان بى والطاعة لى أو من الإيمان بنبى الرحمة والكتاب المعجز {أوف بعهدكم} بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم والعهد يضاف إلى المعاهد والعاهد جميعا وعن قتادة هما لئن أقمتم ولأكفرن وقال أهل الإشارة اوفوا فى دار محنتى على بساط خدمتى بحفظ حرمتى أوف فى دار نعمتى على بساط كرامتى بسرور رؤيتى {وإياي فارهبون} فلا تنقضوا عهدى وهو من قولك زيدا رهبته وهو اوكد فى إفادة الاختصاص من إياك نعبد وإياى منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه وإنما لم ينتصب بقوله فارهبون لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد فى زيدا فاضربه باضرب الذى هو ظاهر ٤١{وآمنوا بما أنزلت} يعنى القرآن {مصدقا} حال مؤكد من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقا {لما معكم} من التوراة يعنى فى العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام {ولا تكونوا أول كافر به} أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته والضمير فى به يعود إلى القرآن {ولا تشتروا} ولا تستبدلوا {بآياتي} بتغييرها وتحريفها {ثمنا قليلا} قال الحسن هو الدنيا بحذافيرها وقيل هو الرياسة التى كانت لهم فى قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول اللّه {وإياي فاتقون} فخافوني فارهبوني فاتقونى بالياء فى الحالين وكذلك كل ياء محذوفة فى الخط يعقوب ٤٢{ولا تلبسوا الحق بالباطل} لبس الحق بالباطل خلطه والباء إن كانت صلة مثلها فى قولك لبست الشئ بالشئ خلطته به كان المعنى ولا تكتيوا فى التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذى كتبتم حتى لايميز بين حقها وباطلكم و إن كانت باء الاستعانة كالتى في قولك كتبت بالقلم كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبسا مشتبها بباطلكم الذى تكتبونه {وتكتموا الحق} هو مجزوم داخل تحت حكم النهى بمعنى ولا تكتموا أو منصوب باضمار أن والواو بمعنى الجمع أى ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن وهما أمران متميزان لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم فى التوراة ما ليس منهما وكتمانهم الحق أن يقولوا لانجد فى التوراة صفة محمد أو حكم كذا {وأنتم تعلمون} فى حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه ٤٣{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أى صلاة المسلمين وزكاتهم {واركعوا مع الراكعين} منهم لأن اليهود لا ركوع فى صلاتهم أي أسملوا وعملوا عمل أهل الإسلام وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنا بالسجود و أن يكون أمر بالصلاة مع المصلين يعنى فى الجماعة أى صلوها مع المصلين لا منفردين والهمزة فى ٤٤{أتأمرون الناس} للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم {بالبر} أى سعة الخير والمعورف ومنه البر لسعته ويتناول كل خير ومنه قولهم صدقت وبررت وكان الأحبار يأمرون من نصحوه فى السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون و إذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها {وتنسون أنفسكم} وتتركونها من البر كالمنسيات {وأنتم تتلون الكتاب} تبكيت أى تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل {أفلا تعقلون} أفلا تفطنون لقبيح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم ٤٥{واستعينوا} على حوائجكم إلى اللّه {بالصبر والصلاة} أى بالجمع بينهما و أن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدى جبار السموات والأرض أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه نعى إليه أخوه وقثم وهو فى سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال واستعينوا بالصبر والصلاة وقيل الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر وقيل الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والإلتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى اللّه فى دفعه {وإنها} الضمير للصلاة أو للاستعانة {لكبيرة} لشاقة ثقيلة من قولك كبر على هذا الأمر {إلا على الخاشعين} لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ألا ترى إلى قوله ٤٦{الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} أى يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه وفسر يظنون بيتيقنون لقراءة عبد اللّه يعلمون أى يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك و اما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة والخشوع الاخبات والتظامن و اما الخضوع فاللين والانقياد وفسر اللقاء بالرؤية وملاقوا ربهم بمعاينوه بلا كيف {وأنهم إليه راجعون} لا يملك امرهم فى الآخرة أحد سواه ٤٧{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} التكرير للتأكيد {وأني فضلتكم} نصب عطف على نعمتى أى اذكروا نعمتى وتفضيلى {على العالمين} على الجم الغفير من الناس يقال رأيت عالما من الناس والمراد الكثرة ٤٨{واتقوا يوما} أى يوم القيامةوهو مفعول به لا ظرف {لا تجزي نفس} مؤمنة {عن نفس} كافرة {شيئا} أى لا تقضى عنها شيئا من الحقوق التى لزمتها وشيئا مفعول به أو مصدر أى قليلا من الجزاء والجملة منصوبة المحل صفة يوما والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه {ولا يقبل منها شفاعة} ولا تقبل بالتاء مكى وبصرى والضمير فى منها يرجع إن النفس المؤمنة أى لا تقبل منها شفاعة للكافرة وقيل كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله فما تنفعهم شفاعة الشافعين [المدّثّر:٤٨] وتشبث المعتزلة بالآية فى نفى الشفاعة للعصاة مردود لأن المنفى شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى من كذب بها لم ينلها {ولا يؤخذ منها عدل} أى فدية لأنها معادلة للمفدى {ولا هم ينصرون} يعانون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة وذكر لمعنى العباد أو الاناسى ٤٩{وإذ نجيناكم من آل فرعون} أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفا وخص استعمال بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الاسكاف والحجام وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس {يسومونكم} حال من آل فرعون أى يولونكم من سامه خسفا إذا اولاه ظلما وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم {سوء العذاب} ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزايدة أو مطالبة وسوء مفعول ثان ليسومونكم وهو مصدر سئ يقال اعود باللّه من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ومعنى سوء العذاب والعذاب كله سئ أشده وأفظعه {يذبحون أبناءكم} بيان لقوله يسومونكم ولذا ترك العاطف {ويستحيون نساءكم} يتركون بناتكم أحياء للخدمة و إنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما فى التحفظ وكان ما شاء اللّه {وفي ذلكم بلاء} محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون ونعمة إن أشير به إلى الانجاء {من ربكم} صفة لبلاء {عظيم} صفة ثانية ٥٠{وإذ فرقنا} فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرئ فرقنا أى فصلنا يقال فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنى عشر على عدد الأسباط {بكم البحر} كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم أو فرقناه بسببكم أو فرقناه ملتبسا بكم فيكون فى موضع الحال روى أن بنى اسرائيل قالوا لموسى عليه السلام أين أصحبانا فنحن لا نرضى حتى نراهم فأوحى اللّه إليه أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه و انما قال ٥١{وإذ واعدنا موسى} لأن اللّه تعالى وعده بالوحي ووعده هو المجئ للميقات إلى الطور وعدنا حيث كان بصرى لما دخل بنو اسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه وعد اللّه تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذى الحجة وقال {أربعين ليلة} لأن الشهور غررها بالليالى و أربعين مفعول ثان لو اعدنا لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه فى أربعين ليلة {ثم اتخذتم العجل} أى إلها فحذف المفعول الثاني لاتخذتم وبابه بالإظهار مكى وحفص {من بعده} من بعد ذهابه إلى الطور {وأنتم ظالمون} أى بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أى عبدتموه ظالمين ٥٢{ثم عفونا عنكم} محونا ذنوبكم عنكم {من بعد ذلك} من بعد اتخاذكم العجل {لعلكم تشكرون} لكي تشكروا النعمة فى العفو عنكم ٥٣{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان} يعنى الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والايمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام وقيل الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذى فرق بينه وبين عدوه {لعلكم تهتدون} لكي تهتدوا ٥٤{وإذ قال موسى لقومه} للذين عبدوا العجل {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} معبودا {فتوبوا إلى بارئكم} هو الذى خلق الخلق بريئا من التفاوت وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذى برأهم ابرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذى هو مثل فى الغباوة والبلادة {فاقتلوا أنفسكم} قيل هو على الظاهر وهو البخع وقيل معناه قتل بعضهم بعضا وقيل امر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفا {ذلكم} التوبة والقتل {خير لكم عند بارئكم} من الاصرار على المعصية {فتاب عليكم إنه هو التواب} المفضال بقبول التوبة و إن كثرت {الرحيم} يعفوا الحوبة و إن كبرت والفاء الأولى للتسبيب لأن الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم إذ اللّه تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم والثالثة متعلقة بشرط محذوف كأنه قال فان فعلتم فقد تاب عليكم ٥٥{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة} عيانا وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال من نرى أى ذوى جهرة {فأخذتكم الصاعقة} أى الموت قيل هى نار جاءت من السماء فأحرقتهم روى أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا اللّه جهرة فقال موسى سألته ذلك فأباه على فقالوا إنك رأيت اللّه تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فبعث اللّه عليهم صاعقة فأحرقتهم وتعلقت المعتزلة بهذه الآية فى نفى الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت قلنا إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم إنك رأيت اللّه فلن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة كفر منهم ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة و الإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم و لانهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد {وأنتم تنظرون} اليها حين نزلت ٥٦{ثم بعثناكم} أحييناكم وأصله الاثارة {من بعد موتكم لعلكم تشكرون} نعمة البعث بعد الموت ٥٧{وظللنا عليكم الغمام} جعلنا الغمام يظلكم وذلك فى التية سخر اللّه لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون فى ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى {وأنزلنا عليكم المن} الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل انسان صاع {والسلوى} كان يبعث اللّه عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهى السمانى فيذبح الرجل منها ما يكفيه وقلنا لهم {كلوا من طيبات} لذيذات أو حلالات {ما رزقناكم وما ظلمونا} يعنى فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} انفسهم مفعول يظلمون وهو خبر كان ٥٨{وإذ قلنا} لهم بعد ما خرجوا من التيه {ادخلوا هذه القرية} أي بيت المقدس أو اريحاء والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق أمروا بدخولها بعد التيه {فكلوا منها} من طعام القرية وثمارها {حيث شئتم رغدا} واسعا {وادخلوا الباب} باب القرية أو باب القبة التى كانوا يصلون أليها وهم لم يدخلوا بيت المقدس فى حياة موسى عليه السلام و إنما دخلوا الباب فى حياته ودخلوا بيت المقدس بعده {سجدا} حال وهو جمع ساجد أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا للّه تعالى وتواضعا له {وقولوا حطة} فعلة من الحط كالجلسة وهى خبر مبتدأ محذوف أى مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب وقد قرئ به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة و إنما رفعت لتعطى معنى الثبات وقيل امرنا حطة أي أن نحط فى هذه القرية ونستقر فيها وعن على رضى اللّه عنه هو بسم اللّه الرحمن الرحيم وعن عكرمة هو لا اله إلا اللّه {نغفر لكم خطاياكم} جمع خطيئة وهى الذنب يغفر مدنى تغفر شامى {وسنزيد المحسنين} أى من كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا فى زيادة ثوابه ومن كان مسيئا كانت له توب ومغفرة ٥٩{فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم} فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذى قيل لهم قولا غير الذى قيل لهم فبدل يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه و إلى آخر بالباء فالذى مع الباء متروك والذى بغير باء موجود يعنى وضعوا مكان حطة قولا غيرها أى أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر اللّه وقيل قالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا أى حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولا عن طلب ما عند اللّه إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا} عذابا وفى تكرير الذين ظلموا زيادة فى تقبيح امرهم وإيزان بإنزال الرجز عليهم لظملهم {من السماء} صفة لرجز {بما كانوا يفسقون} بسبب فسقهم روى أنه مات منهم فى ساعة بالطاعون أربعة وعشرون الفا وقيل سبعون ألفا ٦٠{وإذ استسقى موسى لقومه} موضع إذ نصب كأنه قيل واذكروا إذا استسقى أى استدعى أن يسقى قومه {فقلنا اضرب بعصاك الحجر} عطشوا فى التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم فقد روى أنه حجر طورى حمله معه وكان مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة الف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا أو للجنس أى اضرب الشئ الذى يقال له الحجر وهذا اظهر فى الحجة وأبين فى القدرة {فانفجرت} الفاء متعلقة بمحذوف أى فضرب فانفجرت أى سالت بكثرة أو فإن ضربت فقد انفرجت وهى على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا فى كلام بليغ {منه اثنتا عشرة عينا} على عدد الأسباط وقرئ بكسر الشين وفتحها وهما لغتان وعينا تمييز {قد علم كل أناس} كل سبط {مشربهم} عينهم التى يشربون منها وقلنا لهم {كلوا} من المن والسلوى {واشربوا} من ماء العيون {من رزق اللّه} أى الكل مما رزقكم اللّه {ولا تعثوا في الأرض} لا تفسدوا فيها والعيث أشد الفساد {مفسدين} حال مؤكدة أى لا تتمادوا فى الفساد فى حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه ٦١{وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى و إنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا ويراد بالوحدة نفى التبدل والاختلاف أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذد والتترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك {فادع لنا ربك} سله وقل له أخرج لنا {يخرج لنا} يظهر لنا ويوجد {مما تنبت الأرض من بقلها} هو ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس {وقثائها} يعنى الخيار {وفومها} هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود وثومها {وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى} أقرب منزلة وأدون مقدارا والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار {بالذي هو خير} ارفع وأجل {اهبطوا مصرا} من الأمصار أى انحدروا إليه من التيه وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين وهى اثنا عشر فرسخا فى ثمانية فراسخ أو مصر فرعون و إنما صرفه مع وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لارادة البلد أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف {فإن لكم} فيها {ما سألتم} أى فإن الذى سألتم يكون فى الأمصار لا فى التيه {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أى الهوان والفقر يعنى جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون فى القبة من ضربت عليه أو الصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة وفقر إما على الحقيقة و إما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية عليهم الذلة حمزة وعلى وكذا كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة وبكسر الهاء والميم أبو عمرو وبكسر الهاء وضم الميم غيرهم {وباؤوا بغضب من اللّه} من قولك باء فلان بفلان إذا كان حقيقيا بأن يقتل به لمساواته له أى صاروا أحقاء بغضبه وعن الكسائي حفوا {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلاقة بالغضب {بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين} بالهمزة نافع وكذا بابه أى ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الانبياء وقد قتلت اليهود شعياء وزكريا ويحيا صلوات اللّه عليهم والنبي من النبأ لأنه يخبر عن اللّه تعالى فعيل بمعنى مفعل أو بمعنى مفعل أو من نبأ أى ارتفع والنبوة المكان المرتفع {بغير الحق} عندهم أيضا فإنهم لو أنصفوا لم يذكورا شيئا يستحقون به القتل عندهم فى التوراة وهو فى محل النصب على الحال من الضمير فى يقتلون أى يقتلونهم مبطلين {ذلك} تكرار للاشارة {بما عصوا وكانوا يعتدون} بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود اللّه فى كل شيء مع كفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء وقيل هو اعتداؤهم في السبت ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتلهم الأنبياء أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا ٦٢{إن الذين آمنوا} بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون {والذين هادوا} تهودا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل فى اليهودية وهو هائد والجمع هود {والنصارى} جمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامراة نصرانة والياء فى نصرانى للمبالغة كالتى فى احمرى سموا نصارى لأنهم نصورا المسيح {والصابئين} الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة وقيل هم يقرءون الزبور {من آمن باللّه واليوم الآخر} من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا {وعمل صالحا فلهم أجرهم} ثوابهم {عند ربهم} فى الاخرة {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ومحل من آمن الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم والنصب إن جعلته بدلا من اسم إن والمعطوف عليه فخبر إن فى الوجه الأول الجملة كما هى وفى الثاني فلهم والفاء لتضمن من معنى الشرط ٦٣{وإذ أخذنا ميثاقكم} بقبول ما التوراة {ورفعنا فوقكم الطور} أى الجبل حتى قبلتم و أعطيتم الميثاق وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم و أبوا قبولها فأمر اللّه تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظللّه فوقهم وقال لهم موسى إن قبلتم و إلا القى عليكم حتى قبلوا و قلنا لكم {خذوا ما آتيناكم} من الكتاب أى التوراة {بقوة} بجد وعزيمة {واذكروا ما فيه} واحفظوا ما فى الكتاب وادرسوه ولا تنسون ولا تغفلوا عنه {لعلكم تتقون} رجاء منكم أن تكونوا متقين ٦٤{ثم توليتم} ثم اعرضتم عن الميثاق والوفاء به {من بعد ذلك} من بعد القبول {فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته} بتأخير العذاب عنك أو بتوفيقكم للتوبة {لكنتم من الخاسرين} الهالكين فى العذاب ٦٥{ولقد علمتم} عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد {الذين اعتدوا منكم في السبت} هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وقد اعتدوا فيه أى جاوزوا ماحدلهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد وذلك أن اللّه تعالى نهاهم أن يصيدوا فى السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت فى البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت فإذا مضى تفرقت فحفورا حياضا عند البحر وشرعوا اليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لامنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس فى الحياض هو اعتداؤهم {فقلنا لهم كونوا} بتكويننا إياكم {قردة خاسئين} خبر كان أى كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد ٦٦{فجعلناها} يعنى المسخة {نكالا} عبرة تنكل من اعتبربها أى تمنعه {لما بين يديها} لما قبلها {وما خلفها} وما بعدها من الأمم والقرود لأن مسختهم ذكرت فى كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين {وموعظة للمتقين} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحى قومهم أو لكل متق سمعها ٦٧{وإذ قال موسى لقومه} أى واذكروا إذ قال موسى وهو معطوف على نعمتى فى قوله اذكروا نعمتى التى أنعمت عليكم [البقرة:٤٠] كأنه قال اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى وكذلك هذا فى الظروف التى مضت أى اذكروا نعمتى واذكروا وقت انجائنا إياكم واذكروا وقت فرقنا واذكروا نعمتى واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه والظروف التى تأتى إلى قوله و إذ ابتلى إبرااهيم ربه {إن اللّه يأمركم أن} أى بأن {تذبحوا بقرة} قال المفسرون أول القصة مؤخر فى التلاوة وهو قوله تعالى {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} وذلك أن رجلا موسرا اسمه عاميل قتله بنوعمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم اللّه أن يذبحوابقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله قالوا أتتخذنا هزؤا أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء هزأ بسكون الزاي والهمزة حمزة وبضمتين والواو حفص غيرهما بالتثقيل والهمزة {قال أعوذ باللّه} اليعاذ واللياذ من واد واحد {أن أكون من الجاهلين} لأن الهزء فى مثل هذا من باب الجهل والسفه وفيه تعريض بهم أى انتم جاهلون حيث نسبتمونى إلى الاستهزاء ٦٨{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عاملين بماهيتا لأن ما وان كانت سؤالا عن الجنس وكيف عن الوصف ولكن قد تقع ما موقع كيف وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن وما هى خبر ومبتدأ {قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض} مسنة وسميت فارضا لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخر ها وارتفع فارض لأنه صفة لبقرة وقوله {ولا بكر} فتية عطف عليه {عوان} نصف {بين ذلك} بين الفارض والبكر ولم يقل بين ذينك مع أن بين يقتضى شيئين فصاعدا لأنه أراد بين هذا المذكور وقد يجرى الضمير مجرى اسم الاشارة فى هذا قال أبو عبيدة قلت لرؤية فى قوله فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق إن أردت الخطوط فقل كأنها و إن أردت السواد والبلق فقل كأنهما فقال أردت كأن ذاك {فافعلوا ما تؤمرون} أى تؤمرونه بمعنى تؤمرون به أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير ٦٩{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها} موضع ما رفع لأن معناه الاستفهام تقديره ادع لنا ربك يبين لنا أى شيء لونها {قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال فى التوكيد أصفر فاقع وهوتو كيد لصفراء وليس خبرا عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها وفى ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للّهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جدجدة {تسر الناظرين} لحسنها والسرور لذة فى القلب عند حصول نفع أو توقعه عن على رضى اللّه عنه من لبس نعلا صفراء قل همه لقوله تعالى تسر الناظرين ٧٠{قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها وعن النبي عليه السلام لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد اللّه عليهم والاستقصاء شؤم {إن البقر تشابه علينا} إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علنا {وإنا إن شاء اللّه لمهتدون} إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفى علينا من أمر القاتل و إن شاء اللّه اعتراض بين اسم إن وخبرها وفى الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد أى لو لم يقولوا إن شاء اللّه ٧١{قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض} لاذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول يعنى لم تذلل للكراب واثارة الأرض {ولا تسقي الحرث} ولا هي من النواضح التى يسنى عليها لسقى الحروث ولا الاولى نافية والثانة مزيدة لتوكيد الاولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أى تقلبها للزراعة وتسقى الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية {مسلمة} عن العيوب وآثار العمل {لا شية فيها} لالمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهى صفراء كلها حتى قرنها وظلفها وهى فى الأصل مصدر وشاه وشياوشية إذا خلط بلونه لونا آخر {قالوا الآن جئت بالحق} أى بحقيقة وصف البقرة وما بقى أشكال فى أمرها جئت وبابه بغير همز أبو عمرو {فذبحوها} فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها {وما كادوا يفعلون} لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة فى ظهور القاتل روى أنه كان فى بنى اسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللّهم إنى استودعتكها لابنى حتى يكبر وكان برا بوالديه فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه فساوموها اليتيم و امه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا وكانت البقرة ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة اربعين سنة وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخا والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافا للمعتزلة ٧٢{وإذ قتلتم نفسا} بتقدير واذكروا خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم {فادارأتم فيها} فاختلفتم واختصمتم فى شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أى يدفع أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح أو لأن الطرح فى نفسه دفع و أصله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالا لتصير من جنس الدال التى هى فاء الكلمة ليمكن الادغام ثم سكنوا الدال إذ شرط الادغام أن يكون الأول ساكنا وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن فادارأتم بغير همز أبو عمرو {واللّه مخرج ما كنتم تكتمون} مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوما وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلا فى وقت التدارؤ وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم و ٧٣{فقلنا} والضمير فى {اضربوه} يرجع إلى النفس والتذكير بتاويل الشخص والإنسان أو إلى القتيل لما دل عليه ما كنتم تكتمون {ببعضها} ببعض البقرة وهو لسانها أو فخذها اليمنى أو عجبها والمعنى فضربوه فحي فحذف ذلك لدلالة {كذلك يحيي اللّه الموتى} عليه روى أنهم لما ضربوه قام باذن اللّه تعالى وقال قتلنى فلان وفلان لا بنى عمه ثم سقط ميتا فأخذاوقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك وقوله كذلك يحيى اللّه الموتى اما أن يكون خطابا للمنكرين فى زمن النبي عليه السلام واما أن يكون خطابا للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم كذلك يحيى اللّه الموتى يوم القيامة {ويريكم آياته} دلالة على أنه قادر على كل شيء {لعلكم تعقلون} فتعملون على قضية عقولكم وهى أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص والحكمة فى ذبح البقرة وضربه ببعضها و أن قدر على إحيائه بلا واسطة التقرب به الاشعار بحسن تقديم القربة على الطلب والتعليم لعباده ترك التشديد فى الامور والمسارعة إلى امتثال اوامر اللّه من غير تفتيش وتكثير سؤال وغير ذلك وقيل إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من البهائم لأنها أفضل قرابينهم ولعبادتهم العجل فأراد اللّه تعالى أن يهون معبودهم عندهم وكان ينبغى أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها و أن يقال و إذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ولكنه تعالى إنما قص قصص بنى اسرئيل تعديدا لما وجد منهم من الجنايات وتقريعا لهم عليها وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة و إنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد فى تثنية التقريع ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها أن وصلت بالاولى بضمير البقرة لا باسمها الصريح فى قوله اضربوه ببعضها ليعلم أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وقصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة وقيل هذه القصة تشير إلى أن من أراد احياء قلبه بالمشاهدات فليمت نفسه بأنواع المجاهدات ومعنى ٧٤{ثم قست قلوبكم} استبعاد القسوة {من بعد} ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها وصفة القلوب بالقسوة مثل لنبوها عن الاعبتار والاتعاظ من بعد {ذلك} اشارة إلى احياء القتيل أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة {فهي كالحجارة} فهى فى قسوتها مثل الحجارة {أو أشد قسوة} منها وأشد معطوف على الكاف تقديره أو مثل اشد قسوة فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه أو هى فى انفسها اشد قسوة يعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر اقسى منها وهو الحديد مثلا أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هى اقسى من الحجارة و إنما لم يقل اقسى لكونه أبين وأدل على فرط القسوة وترك ضمير المفضل عليه لعدم الالباس كقولك زيد كريم وعمرو أكرم {وإن من الحجارة} بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة {لما يتفجر منه الأنهار} ما بمعنى الذى فى موضع النصب وهو اسم أن واللام للتوكيد والتفجر التفتح بالسعة والكثرة {وإن منها لما يشقق} أصله يتشقق وبه قرأ الأعمش فقلبت التاء شيئا وأدغمت {فيخرج منه الماء} يعنى أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير ومنها ما ينشقى انشقاقا بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضا وقلوبهم لا تندى {وإن منها لما يهبط} يتردى من اعلى الجبل {من خشية اللّه} قيل هو مجاز عن انقيادها لأمر اللّه و أنها لا تمتنع على ما يريد فيها وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به وقيل المراد به حقيقة الخشية على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز وليس شرط خلق الحياة والتمييز فى الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة وعلى هذا قوله لو انزلنا هذا القرآن على جبل [الممتحنة:٢١] الآية يعنى وقلوبهم لا تخشى {وما اللّه بغافل عما تعملون} وبالياء مكى وهو وعيد ٧٥{أفتطمعون} الخطاب لرسول اللّه والمؤمنين {أن يؤمنوا لكم} أن يؤمنوا لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم كقوله تعالى فآمن له لوط يعنى اليهود {وقد كان فريق منهم} طائفة فيمن سلف منهم {يسمعون كلام اللّه} أى التوراة {ثم يحرفونه} كما حرفوا صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم و آية الرجم {من بعد ما عقلوه} من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم {وهم يعلمون} انهم كاذبون مفترون والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة فى ذلك ٧٦{وإذا لقوا} أى المنافقين أو اليهود {الذين آمنوا} أى المخلصين من أصحاب محمد عليه السلام {قالوا} أى المنافقون {آمنا} بأنكم على الحق و أن محمدا هو الرسول المبشر به {وإذا خلا بعضهم} الذين لم ينافقوا {إلى بعض} إلى الذين نافقوا {قالوا} عاتبين عليهم {أتحدثونهم} أتخبرون أصحاب محمد عليه السلام {بما فتح اللّه عليكم} بما بين اللّه لكم فى التوراة من صفة محمد عليه السلام {ليحاجوكم به عند ربكم} ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم فى كتابه جعلوا محاجتهم به وقولهم هو فى كتابكم هكذا محاجة عند اللّه ألا تراك تقول هو في كتاب اللّه تعالى هكذا وهو عند اللّه هكذا بمعنى واحد وقيل هذا على إضمار المضاف أى عند كتاب ربكم وقيل ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم فى الآخرة يقولون كفرتم بعد أن وقفتم على صدقه {أفلا تعقلون} إن هذه حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعونه ٧٧{أو لا يعلمون أن اللّه يعلم} جميع {ما يسرون وما يعلنون} ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ٧٨{ومنهم} ومن اليهود {أميون} لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها {لا يعلمون الكتاب} التوراة {إلا أماني} الاماهم عليه من أمانيهم و أن اللّه يعفوا عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلا اياما معدودة أو إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد ومنه قول عثمان رضى اللّه عنه ما تمنيت منذ أسلمت أو إلا ما يقرءون من قوله تمنى كتاب اللّه أول ليلة وآخرها لا فى حمام المقادر أى لا يعلمون هؤلاء حقيقة المنزل و إنما يقرءون أشياء أخذوها من أخبارهم والاستثناء منقطع {وإن هم} وما هم {إلا يظنون} لا يدرون ما فيه فيجحدون نبوتك بالظن ذكر العلماء الذين عئائدوا بالتحريف مع العلم ثم العوام الذين قلدوهم ٧٩{فويل} فى الحديث ويل واد فى جهنم {للذين يكتبون الكتاب} المحرف {بأيديهم} من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون منزلا وذكر الأيدى للتأكيد وهو من مجاز التأكيد {ثم يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا} عوضا يسيرا {فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} من الرشا ٨٠{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} اربعين يوما عدد أيام عبادة العجل وعن مجاهد رضى اللّه عنه كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة و إنما نعذب مكان كل ألف سنة يوما {قل أتخذتم عند اللّه عهدا} أى عهد اليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار {فلن يخلف اللّه عهده} متعلق بمحذوف تقديره إن اتخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده {أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون} أم إما أن تكون معادلة أى أتقولون على اللّه ما تعلمون أم تقولون عليه مالا تعلمون أو منقطعة أى بل أتقولون على اللّه مالا تعلمون ٨١{بلى} اثبات لما بعد النفى وهو لن تمسنا النار أى بل تمسكم أبدا بدليل قوله هم فيها خالدون {من كسب سيئة} شركا عن ابن عباس و مجاهد وغيرهما رضى اللّه عنهم {وأحاطت به خطيئته} وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه فأما إذا مات مؤمنا فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطا به فلا يتناوله النص وبهذا التأويل يبطل تثبث المعتزلة والخوارج وقيل استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتفص عنها بالتوبة خطياته مدنى {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ٨٢{والذين آمنوا وعملوا الصالحات...} ٨٣وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} الميثاق العهد المؤكد غاية التأكيد {لا تعبدون إلا اللّه} اخبار فى معنى النهى كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الامر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهى لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء وهو يخبر عنه وتنصره قراءة ابى لا تعبدوا وقوله وقولوا والقول مضمر لا يعبدون مكى وحمزة وعلى لأن بنى اسرائيل اسم ظاهر والأسماء الظاهرة كلها غيب ومعناه ألا يعبدوا فلما حذفت أن رفع {وبالوالدين إحسانا} أى وأحسنو ليلتئم عطف الأمر وهو قوله وقولوا عليه {وذي القربى} القرابة {واليتامى} جمع يتيم وهو الذى فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم لقوله عليه السلام لا يتم بعد البلوغ {والمساكين} جمع مسكين وهو الذى أسكنته الحاجة {وقولوا للناس حسنا} قولا هو حسن فى نفسه لا فراط حسنه حسنا حمزة وعلى {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم} عن الميثاق ورفضتموه {إلا قليلا منكم} قيل هم الذين أسلموا منهم {وأنتم معرضون} وأنتم قوم عادتكم الاعراض والتولية عن المواثيق ٨٤{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أى لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا وقيل إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه {ثم أقررتم} بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه {وأنتم تشهدون} عليها كما تقول فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها أو وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على اقرار أسلافكم بهذا الميثاق ٨٥{ثم أنتم هؤلاء} استبعاد لما أسند اليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم واقرارهم وشهادتهم أنتم مبتدأ هؤلاء بمعنى الذين {تقتلون أنفسكم} صلة هؤلاء وهؤلاء مع صلته خبر أنتم {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} غير مراقبين ميثاق اللّه {تظاهرون عليهم} بالتخفيف كوفى أى تتعاونون وبالتشديد غيرهم فمن خفف فقد حذف احدى التاءين ثم قيل هى الثانية لأن الثقل بها وقيل الأولى ومن شدد قلب التاء الثانية ظاء وأدغم {بالإثم والعدوان} بالمعصية والظلم {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} تفدوهم أبو عمرو أسرى تفدوهم مكى وشامى اسرى تفدوهم حمزة أسارى تفادوهم على فدى وفادى بمعنى وأسارى حال وهو جمع أسير وكذلك أسرى والضمير فى {وهو محرم عليكم} للشأن أو هو ضمير مبهم تفسيره {إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب} بفداء الأسرى {وتكفرون ببعض} بالقتال والاجلاء قال السدى أخذ اللّه عليهم أربعة عهود ترك القتل وترك الاخراج وترك المظاهرة وفداء الأسير فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء {فما جزاء من يفعل ذلك} هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض {منكم إلا خزي} فضيحة وهوان {في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} وهو الذى لا روح فيه ولا فرح أو إلى أشد من عذاب الدنيا {وما اللّه بغافل عما تعملون} بالياء مكى ونافع و أبو بكر ٨٦{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} اختاروها على الآخرة اختيار المشترى {فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} ولا ينصرهم احد بالدفع عنهم ٨٧{ولقد آتينا موسى الكتاب} التوراة أتاه جملة {وقفينا من بعده بالرسل} يقال قفاه إذا اتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب وقفاه به إذا اتبعه إياه يعنى وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل وهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} هى بمعنى الخادم ووزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيلا لم يثبت فى الأبنية البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والاخبار بالمغيبات {وأيدناه بروح القدس} أى الطهارة وبالسكون حيث كان مكى أى بالروح المقدسة كما يقال حاتم الجود ووصفها بالقدس للاختصاص والتقريب أو بجبريل عليه السلام لأنه يأتى بما فيه حياة القلوب وذلك لأنه رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله أو بالإنجيل كما قال فى القرآن روحا من أمرنا أو باسم اللّه الأعظم الذى كان يحيى الموتى بذكره {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى} تحب {أنفسكم استكبرتم} تعظمتم عن قبوله {ففريقا كذبتم} كعيسى ومحمد عليهما السلام {وفريقا تقتلون} كزكريا ويحيى عليهما السلام ولم يقل قتلتم لوفاق الفواصل أو لأن المراد وفريقا تقتلونه بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد عليه السلام لولا انى أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة والمعنى ولقد آتينا يابنى إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول منهم بالحق استكبرتم عن الإيمان به فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجب من شانهم ٨٨{وقالوا قلوبنا غلف} جمع أغلف أى هى خلقة مغشاة بأغطية لا يتوصل اليها ما جاء به محمد عليه السلام ولا تفقهه مستعار من الأغلف الذى لم يختن {بل لعنهم اللّه بكفرهم} فرد اللّه أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق و إنما طردهم بكفرهم وزيغهم {فقليلا ما يؤمنون} فقليلا صفة مصدر محذوف أى فإيمانا قليلا يؤمنون وما مزيده وهو إيمانهم ببعض الكتاب وقيل القلة بمعنى العدم وقيل غلف تخفيف غلف وقرىء به جمع غلاف أى قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا من غيره أو أوعيه للعلوم فلو كان ما جئت به حقا لقبلنا ٨٩{ولما جاءهم} أى اليهود {كتاب من عند اللّه} أى القرآن {مصدق لما معهم} من كتابهم لا يخالفه {وكانوا من قبل} يعنى القرآن {يستفتحون على الذين كفروا} يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا اللّهم انصرنا يا لنبى المبعوث فى آخر الزمان الذى نجد نعته فى التوراة ويقولون لأعدائهم المشكرين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عادو إرم {فلما جاءهم ما عرفوا} ما موصولة أى ما عرفوه وهو فاعل جاء {كفروا به} بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة {فلعنة اللّه على الكافرين} أى عليهم وضعا للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فهي دخلولا فيه دخولا أوليا وجواب لما الأولى مضمر وهو نحو كذبوا به وأنكروه أو كفروا جواب الاولى والثانية لأن مقتضاهما واحد وما فى ٩٠{بئسما} نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس أى بئس شيئا بئسما وبابه غير مهموز أبو عمرو {اشتروا به أنفسهم} أى باعوه والمخصوص بالذم {أن يكفروا بما أنزل اللّه} يعنى القرآن {بغيا} مفعول له أى حسدا وطلبا لما ليس لهم وهو علة اشتروا {أن ينزل اللّه} لأن ينزل أو على أن ينزل أى حسده على أن ينزل اللّه ينزل بالتخفيف مكى وبصرى {من فضله} الذى هو الوحى {على من يشاء من عباده} وهومحمد عليه السلام {فباؤوا بغضب على غضب} فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفورا بنبى الحق وبغوا عليه أو كفروا بمحمد بعد عيسى عليهما السلام أو بعد قولهم عزير ابن اللّه وقولهم يد اللّه مغلولة وغير ذلك {وللكافرين عذاب مهين} مذل ٩١{وإذا قيل لهم} لهؤلاء اليهود {آمنوا بما أنزل اللّه} يعنى القرآن أو هو مطلق بتناول كل كتاب {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أى التوراة {ويكفرون بما وراءه} أى قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة {وهو الحق مصدقا لما معهم} غير مخالف له وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ومصدقا حال مؤكدة {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه} أى فلم قتلتم فوضع المستقبل موضع الماضى ويدل عليه قوله {من قبل إن كنتم مؤمنين} أى من قبل محمد عليه السلام اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء قيل قتلوا فى يوم واحد ثلثمائة نبى فى بيت المقدس ٩٢{ولقد جاءكم موسى بالبينات} بالآيات التسع وأدغم الدال فى الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلى {ثم اتخذتم العجل} إلها {من بعده} من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور {وأنتم ظالمون} هو حال أى عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها أو اعتراض أى و انتم قوم عادتكم الظلم ٩٣{وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الاولى {واسمعوا} ما أمرتم به فى التوراة {قالوا سمعنا} قولك {وعصينا} أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث أنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة {وأشربوا في قلوبهم العجل} أى تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب وقوله فى قلوبهم بيان لمكان الإشراب والمضاف وهو الحب محذوف {بكفرهم} سبب كفرهم واعتقادهم التشبيه {قل بئسما يأمركم به إيمانكم} بالتوراة لأنه ليس فى التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الايمان اليهم {إن كنتم مؤمنين} تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له ٩٤{قل إن كانت لكم الدار الآخرة} أى الجنة {عند اللّه} ظرف ولكم خبر كان {خالصة} حال من الدار الآخرة أى سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا {من دون الناس} هو للجنس {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصا من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه ٩٥{ولن يتمنوه أبدا} هو نصب على الظرف أى لن يتمنوه ما عاشوا {بما قدمت أيديهم} بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب اللّه وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله ولن تفعلوا [البقرة:٢٤] ولن تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث {واللّه عليم بالظالمين} تهديد لهم ٩٦{ولتجدنهم أحرص الناس} مفعولا وجدهم وأحرص {على حياة} التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة ابى على الحياة {ومن الذين أشركوا} هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وان دخلا تحت الملائكة أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد فى الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ و إنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك وقوله {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف بالذين اشركوا المجوس لانهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما هو قول الأعاجم زى هزارسال وقيل ومن الذين أشركوا كلام مبتدأ أى ومنهم ناس يود احدهم على حذف الموصوف والذين اشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزير ابن اللّه والضمير فى {وما هو بمزحزحه من العذاب} لأحدهم وقوله {أن يعمر} فاعل بمزحزحه أى وما احدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ويجوز أن يكون هو مبهما و أن يعمر موضحة والزحزحة التبعيد والإنحناء قال فى جامع العلوم وغيره لو يعمر بمعنى أن يعمر فلو هنا نائبة عن أن و أن مع الفعل فى تأويل المصدر وهو مفعول يود أى يود أحدهم تعمير ألف سنة {واللّه بصير بما يعملون} أى بعمل هؤلاء الكفار فيجازيهم عليه وبالتاء يعقوب ٩٧{قل من كان عدوا لجبريل} بفتح الجيم وكسر الراء بلا همزة مكى وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعا كوفي غير حفص وبكسر الراء والجيم بلا همز غيرهم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد اللّه لأن جبر هو العبد بالسريانية وايل اسم اللّه روى أن ابن صوريا من أحبار اليهود حاج النبى صلى اللّه عليه وسلم وسأله عمن يهبط عليه بالوحى فقال جبريل فقال ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل وقال إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه و إن لم يكن إياه فعلى أى ذنب تقتلونه {فإنه نزله} فإن جبريل نزل القرآن ونحو هذا الإضمار أعنى إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته {على قلبك} أى حفظه إياك وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله نزل به الروح الأمين * على قلبك [الشّعراء:١٩٣-١٩٤] وكان حق الكلام أن يقال على قلبى ولكن جاء على حكاية كلام اللّه كما تكلم به و إنما استقام أن يقع فإنه نزله جزاء للشرط لأن تقديره أن عادى جبريل احد من أهل الكتاب فلاوجه لمعاداته حيث نزل كتابا مصدقا للكتب بين يديه فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه فى انزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليه وقيل جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدوا لجبريل فليمت غيظا فإنه نزل الوحى على قلبك {بإذن اللّه} بأمره {مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا ٩٨{من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال} بصرى وحفص وميكائل باختلاس الهمزة كميكاعل مدنى وميكائيل بالمد وكسر الهمزة مشبعة غيرهم وخص الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر إذ التغاير فى الوصف ينزل منزلة التغاير فى الذات {فإن اللّه عدو للكافرين} أى لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن اللّه إنما عاداهم لكفرهم و أن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ومن عاداهم عاداه اللّه ٩٩{ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} المتمردون من الكفرة واللام للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال ابن صوريا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جئتنا بشئ نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك بها فنزلت الواو فى ١٠٠{أو كلما} للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات البينات وكلما {عاهدوا عهدا نبذه} نقضه ورفضه قال {فريق منهم} لأن منهم من لم ينقض {بل أكثرهم لا يؤمنون} بالتوراة وليسوا من الدين فى شيء فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون به ١٠١{ولما جاءهم رسول من عند اللّه} محمد صلى اللّه عليه وسلم {مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب}أى التوراة والذين أوتوا الكتاب اليهود {كتاب اللّه} يعنى التوراة لانهم بكفرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها أو كتاب اللّه القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول {وراء ظهورهم} مثل لتركهم وإعراضهم عنه مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه {كأنهم لا يعلمون} إنه كتاب اللّه ١٠٢{واتبعوا ما تتلوا الشياطين} أى نبذ اليهود كتاب اللّه واتبعوا كتب السحر والشعوذة التى كانت تقرؤها {على ملك سليمان} أى على عهد ملكه وفى زمانه وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها فى كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك فى زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والانس والريح {وما كفر سليمان} تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به {ولكن الشياطين} هم الذين {كفروا} باستعمال السحر وتدوينه ولكن بالتخفيف الشياطين بالرفع شامى وحمزة وعلى {يعلمون الناس السحر} فى موضع الحال أى كفروا معلمين الناس السحر قاصدين به إغواءهم وإضلالهم {وما أنزل على الملكين} الجمهور على أن ما بمعنى الذى وهو نصب عطف على السحر أى ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أو على ما تتلوا أى واتبعوا ما أنزل على الملكين {ببابل هاروت وماروت} علمان لهما وهما عطف بيان للملكين والذى أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من اللّه للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا إن كان فيه رد ما لزم فى شرط الإيمان ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا قال الشيخ أبو منصور الماتريدى رحمه اللّه القول بأن السحر على الاطلاق كفر خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان فى ذلك رد ما لزم فى شرط الإيمان فهو كفر و إلا فلا ثم السحر الذى هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوى فيه المذكر والمؤنث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم وقيل أنزل أى قذف فى قلوبهما مع النهى عن العمل قيل إنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بنى آدم فكانا يحكمان فى الأرض ويصعدان بالليل فهو يا زهرة فحملتهما على شرب الخمر فزنيا فرآهما إنسان فقتلاه فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الاخرة فهما يعذبان منكوسين فى جب ببابل وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها {وما يعلمان من أحد} وما يعلم الملكان احدا {حتى يقولا} حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له {إنما نحن فتنة} ابتلاء واختبار من اللّه {فلا تكفر} بتعلمه والعلم به على وجه يكون كفرا {فيتعلمون منهما} الفاء عطف على قوله يعلمون الناس السحر أى يعلمونهم فيتعلمون من السحر والكفر اللذين دل عليهما قوله كفروا ويعلمون الناس السحر أو على مضمر والتقدير فيأتون فيتعلمون والضمير لما دل عليه من أحد أى فيتعلم الناس من الملكين {ما يفرقون به بين المرء وزوجه} أى علم السحر الذى يكن سببا فى التفريق بين الزوجين بأن يحدث اللّه عنده النشوز والخلاف ابتلاء منه وللسحر حقيقة عند أهل السنة كثرهم اللّه وعند المعتزلة هو تخييل وتمويه {وما هم بضارين به} بالسحر {من أحد إلا بإذن اللّه} بعلمه ومشيئته {ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم} فى الاخرة وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التى تجر إلى الغواية {ولقد علموا} أى اليهود {لمن اشتراه} أى استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب اللّه {ما له في الآخرة من خلاق} من نصيب {ولبئس ما شروا به أنفسهم} باعوها إنما نفى العلم عنهم بقوله {لو كانوا يعلمون} مع إثباته لهم بقوله ولقد علموا على سبيل التوكيد القسمى لأن معناه لو كانوا يعملون بعلمهم جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم لا يعلمون ١٠٣{ولو أنهم آمنوا} برسول اللّه والقرآن {واتقوا} اللّه فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب اللّه وابتاع كتب الشياطين {لمثوبة من عند اللّه خير لو كانوا يعلمون} أن ثواب اللّه خير مما هم فيه وقد علموا لكنه جهلهم لما تركوا العمل بالعلم والمعنى لأثيبوا من عند اللّه ما هو خير وأوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها ولم يقل لمثوبة اللّه خير لأن المعنى لشئ من الثواب خير لهم وقيل لو بمعنى التمنى كأنه قيل وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند اللّه خير ١٠٤{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا} كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا من العلم راعنا يا رسول اللّه أى راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهى راعنا فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما هو فى معناها وهو أنظرنا من نظره إذا انتظره {واسمعوا} واحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويلقى عليكم من المسائل بآذان واعية واذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاه أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا {وللكافرين} ولليهود الذين سبو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {عذاب أليم} مؤلم ١٠٥{ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم} وبالتخفيف مكى و أبو عمرو {من خير من ربكم} من الاولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون والثانة مزيدة لاستغراق الحير والثالثة لابتداء الغاية والخير الوحي وكذلك الرحمة {واللّه يختص برحمته من يشاء} يعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحى واللّه يختص بالنبوة من يشاء {واللّه ذو الفضل العظيم} فيه اشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم لما طعنوا فى النسخ فقالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا نزل ١٠٦{ما ننسخ من آية أو ننسها} تفسير النسخ لغة التبديل وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعى المطلق الذى تقرر فى أوهامنا استمراره بطريق التراخى فكان تبديلا فى حقنا بيانا محضا فى حق صاحب الشرع وفيه جواب عن البداء الذى يدعيه منكروه أعنى اليهود ومحله حكم يحتمل الوجود والعدم فى نفسه لم يلحق به ما ينافى النسخ من توقيت أو تأييد ثبت نصا أو دلالة وشرطه التمكن من عقد القلب عندنا دون التمكن من الفعل خلافا للمعتزلة و إنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة متفقا ومختلفا ويجوز نسخ التلاوة والحكم والحكم دون التلاوة والتلاوة دون الحكم ونسخ وصف بالحكم مثل الزيادة على النص فإنه نسخ عندنا خلافا للشافعى رحمه اللّه والانساء أن يذهب بحفظها عن القلوب أو ننساها مكى و أبو عمرو أى نؤخرها من نسأت أى اخرت {نأت بخير منها} أى نأت بآية خير منها للعباد أى بآية العمل بها اكثر للثواب {أو مثلها} فى ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض {ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير} أى قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله ١٠٧{ألم تعلم أن اللّه له ملك السماوات والأرض} فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ {وما لكم من دون اللّه من ولي} بلى أمركم {ولا نصير} ناصر يمنعكم من العذاب ١٠٨{أم تريدون} أم منقطعة وتقديره بل اتريدون {أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} روى أن قريشا قالوا يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قال اجعل لنا إلها {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها {فقد ضل سواء السبيل} قصده ووسطه ١٠٩{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم} أن يردوكم {من بعد إيمانكم كفارا} حال من كم أى يردونكم عن دينكم كافرين نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة احد ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم {حسدا} مفعول له أى لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير {من عند أنفسهم} يتعلق بود أى ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك {من بعد ما تبين لهم الحق} أى من بعد علمهم بأنكم على الحق أو بحسدا أى حسدا متبالغا منبعثا من اصل نفوسهم {فاعفوا واصفحوا} فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة {حتى يأتي اللّه بأمره} بالقتال {إن اللّه على كل شيء قدير} فهو يقدر على الانتقام منهم ١١٠{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير} من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما {تجدوه عند اللّه} تجدوا ثوابه عنده {إن اللّه بما تعملون بصير} فلا يضيع عنده عمل عامل والضمير فى ١١١{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادى بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه ألا ترى إلى قوله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء [البقرة:١١٣] وهود جمع هائد كعائد وعوذ ووحد اسم كان للفظ من جمع الخبر لمعناه {تلك أمانيهم} أشير بها إلى الأمانى المذكورة وهى أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفارا وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أى تلك الأمانى الباطلة أمانيهم والأمنية أفعولة من التمنى مثل الأضحوكة {قل هاتوا برهانكم} هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتلك أمانيهم اعتراض {إن كنتم صادقين} فى دعواكم ١١٢{بلى} اثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة {من أسلم وجهه للّه} من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره {وهو محسن} مصدق بالقرآن {فله أجره} جواب من أسلم وهو كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط وبلى رد لقولهم {عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ١١٣وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} أى على شيء يصح ويعتد به والواو فى {وهم يتلون الكتاب} للحال والكتاب للجنس أى قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب وحق من حمل التوراة والانجيل و آمن به أن لا يكفر بالباقى لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر {كذلك} مثل ذلك القول الذى سمعت به {قال الذين لا يعلمون مثل قولهم} أى الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا انفسهم مع علمهم فى سلك من لا يعلم {فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أى بين اليهود والنصارى بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب اللائق به ١١٤{ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه} موضع من رفع على الابتداء وهو استفهام واظلم خبره والمعنى أى أحد أظلم و وأن يذكر ثانى مفعولى منع لأنك تقول منعته كذا ومثله وما منعنا أن نرسل بالآيات وما منع الناس أن يؤمنوا ويجوز أن يحذف حرف الجر مع أن أى من أن يذكر و أن تنصبه مفعولا له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد اللّه و إن مانعها من ذكر اللّه مفرط فى الظلم والسبب فيه طرح النصارى فى بيت المقدس الأذى ومنعهم الناس أن يصلوا فيه أو منع المشركين رسول اللّه أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية و إنما قيل مساجد اللّه وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاما و إن كان السبب خاصا كقوله تعالى ويل لكل همزة [الهمزة:١] والمنزول فيه الأخنس بن شريق {وسعى في خرابها} بانقطاع الذكر والمراد عن العموم كما اريد العموم بمساجد اللّه {أولئك} المانعون {ما كان لهم أن يدخلوها} أى ما كان ينبغى لهم أن يدخلوا مساجد اللّه {إلا خائفين} حال من الضمير فى يدخلوها أى على حالى التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها والمعنى ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم روى أنه لا يدخل بيت المقدس احد من النصارى إلا متنكرا خيفة أن يقتل وقال قتادة لا يوجد نصرانى فى بيت المقدس إلا بولغ ضربا ونادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك وقيل معناه النهى عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى {وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه} {لهم في الدنيا خزي} قتل وسبى للحربى وذلة بضرب الجزية للذمى {ولهم في الآخرة عذاب عظيم} أى النار ١١٥{وللّه المشرق والمغرب} أى بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها {فأينما} شرط {تولوا} مجزوم به أى ففى أى مكان فعلتم التولية يعنى تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [البقرة:١٤٤] والجواب {فثم وجه اللّه} أى جهته التى أمر بها ورضيها والمعنى انكم إذا منعتم أن تصلوا فى المسجد الحرام أو فى بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا فى أى بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها فان التولية ممكنة فى كل مكان {إن اللّه واسع عليم} أى وهو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما نزلت فى صلاة المسافر على الراحلة اينما توجهت وقيل عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذرواهو حجة على الشافعى رحمه اللّه فيما إذا استدبر وقيل فاينما تولوا للدعاء والذكر ١١٦{وقالوا اتخذ اللّه ولدا} يريد الذين قالوا المسيح ابن اللّه وعزير ابن اللّه قالوا شامى فاثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة اخرى {سبحانه} تنزيه له عن ذلك وتبعيد {بل له ما في السماوات والأرض} أى هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزير والولادة تنافى الملك {كل له قانتون} منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره والتنوين فى كل عوض عن المضاف إليه أى كل مافى السموات و الأرض أو كل من جعلوه للّه ولدا له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا اليهم وجاء بما الذى لغير اولى العلم من قوله قانتون كقوله سبحان ما سخركن لنا ١١٧{بديع السماوات والأرض} أى مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له ابدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتى فى دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضى اللّه عنهم {وإذا قضى أمرا} أى حكم أو قدر {فإنما يقول له كن فيكون} هو من كان التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثم و إنما المعنى أن ما قضاه من الأمور و أراد كونه فانما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطبع الذى يؤمر فيمتثل ولا يكون منه اباء وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدر كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فانى يتصور التوالد ثم والوجه الرفع فى فيكون وهو قراءة العامة على الاستئناف أى فهو يكون أو على العطف على يقول ونصبه ابن عامر على لفظ كن لأنه أمر وجواب الامر بالفاء نصب وقلنا أن كن ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال و إذا قضى امرا فانما يكونه فيكون وبين أن يقال فانما يقول له كن فيكون و إذا كان كذلك فلا معنى للنصب وهذا لأنه لو كان امرا فاما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بكن أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب ١١٨{وقال الذين لا يعلمون} من المشركين أو من أهل الكتاب ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به {لولا يكلمنا اللّه} هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى استكبارا منهم وعتوا {أو تأتينا آية} جحود الآن يكون ما اتاهم من آيات اللّه واستهانة بها {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} أى قلوب هؤلاء ومن قبلهم فى العمى {قد بينا الآيات لقوم يوقنون} أى لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والاذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها ١١٩{إنا أرسلناك بالحق بشيرا} للمؤمنين بالثواب {ونذيرا} للكافرين بالعقاب {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت وبلغت جهدك فى دعوتهم وهو حال كنذير أو بشير أو بالحق أى وغير مسئول أو مستأنف قراءة نافع ولا تسئل عن النهى ومعناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول كيف فلان سائلا عن الواقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه وقيل نهى اللّه نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعرى ما فعل أبواى ١٢٠{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} كأنهم قالوا لن ترضى عنك و إن أبلغت فىطلب رضانا حتى تتبع ملتنا اقناطا منهم لرسول اللّه عن دخولهم فى الإسلام فذكر اللّه عز وجل كلامهم {قل إن هدى اللّه} الذى رضى لعباده {هو الهدى} أى الإسلام وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذى تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله {ولئن اتبعت أهواءهم} أى أقوالهم التى هى أهواء وبدع {بعد الذي جاءك من العلم} أى من العلم بأن دين اللّه هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة {ما لك من اللّه} من عذاب اللّه {من ولي ولا نصير} ناصر ١٢١{الذين} مبتدأ {آتيناهم الكتاب} صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والانجيل أو أصحاب النبى عليه السلام والكتاب القرآن {يتلونه} حال مقدرة من هم لأنهم لم يكونوا تالين له وقت ايتائه ونصب على المصدر {حق تلاوته} أى يقرءونه حق قراءته فى الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر أو يعملون به ويؤمنون بما فى مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم {أولئك} مبتدأ خبره {يؤمنون به} والجملة خبر الذين ويجوز أن يكون يتلونه خبرا والجملة خبر آخر {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون} حيث اشتروا الضلالة بالهدى ١٢٢{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أى انعمتها عليكم {وأني فضلتكم على العالمين} وتفضيلى إياكم على عالمي زمانكم ١٢٣{واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} هم رفع بالابتداء والخبر ينصرون والجمل الأربع وصف ليوما أى واتقوا يوما لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا ينفعها فيه ولا هم ينصرون فيه وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصى منهم وختم قصة بنى اسرائيل بما بدأ به ١٢٤{وإذ} أى واذكر إذ {ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} اختبره بأوامر ونواه والاختبار منه لظهور مالم نعلم ومن اللّه لإظهار ما قد علم وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفى فى الشاهد والغائب جميعا فلذا تجوز إضافته إلى اللّه تعالى وقيل اختبار اللّه عبده مجاز عن تمكينه من اختبار احد الأمرين ما يريد اللّه تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك وقرأ أبو حنيفة رضى اللّه عنه إبراهيم ربه برفع إبراهيم وهى قراءة ابن عباس رضى اللّه عنهما أى دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه اليهن أم لا {فأتمهن} أى قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان ونحوه و إبراهيم الذى وفى ومعناه فى قراءة ابى حنيفة رحمه اللّه فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه فى قوله {رب اجعل هذا بلدا آمنا} [البقرة:١٢٦] {واجعلنا مسلمين لك} [البقرة:١٢٨] {وابعث فيهم رسولا منهم} [البقرة:١٢٩] {ربنا تقبل منا} [البقرة:١٢٧] والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق وخمس فى الجسد الختان وتقليم الأظافار ونتف الأبط وحلق العانه والاستنجاء وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما هى ثلاثون سهما من الشرائع عشر فى براءة التائبون الآية وعشر فى الأحزاب [:٣٥] ان المسلمين والمسلمات الآية وعشر فى المؤمنين و المعارج [:٣٤] إلى قوله يحافظون وقيل هى مناسك الحج {قال إني جاعلك للناس إماما} هو اسم من يؤتم به أى يأتمون بك فى دينهم {قال ومن ذريتي} أى واجعل من ذريتى إماما يقتدى به ذرية الرجل أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء فعيلة من الذرئ أى الخلق فأبدلت الهمزة ياء {قال لا ينال عهدي الظالمين} بسكون الياء حمزة وحفص أى لا تصيب الإمامة أهل الظلم من ولدك أى أهل الكفر أخبر أن إمامة المسلمين لا تثبت لأهل الكفر و ان من أولاده المسلمين والكافرين قال اللّه تعالى {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه} مبين والمحسن المؤمن والظالم الكافر قالت المعتزلة هذا دليل على أن الفاسق ليس بأهل للامامة قالوا وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالما فى نفسه فقد جاء المثل السائر من استرعى الذئب ظلم ولكنا نقول المراد بالظالم الكافر هنا إذ هو الظالم المطلق وقيل أنه سأل أن يكون ولده نبيا كما كان هو فأخبر أن الظالم لا يكون نبيا ١٢٥{وإذ جعلنا البيت} أى الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا {مثابة للناس} مباءة ومرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه {وأمنا} وموضع أمن فان الجانى يأوى إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا فى المتجىء إلى الحرم {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال هذا مقام إبراهيم فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت وقيل مصلى مدعى ومقام إبراهيم الحجر الذى فيه أثر قدميه وقيل الحرم كله مقام إبراهيم واتخذوا شامى ونافع بلفظ الماضى عطفا على جعلنا أى واتخد الناس من مكان إبراهيم الذى وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبله يصلون إليها {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما {أن طهرا بيتي} بفتح الياء مدنى وحفص أى بأن طهرا أو أى طهرا والمعنى طهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها {للطائفين} للدائرين حوله {والعاكفين} المجورين الذين عكفوا عنده أى أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين وقيل للطائفين للنزاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة {والركع السجود} والمصلين جمعا راكع وساجد ١٢٦{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا} أى اجعل هذا اليلد أو هذا المكان {بلدا آمنا} ذا أمن كعيشة راضية أو آمنا من فيه كقولك ليل نائم فهذا مفعول أول وبلدا مفعول ثان و آمنا صفة له {وارزق أهله من الثمرات} لأنه لم يكن لهم ثمرة ثم أبدل من آمن منهم باللّه واليوم الآخر من أهل بدل البعض من الكل أى و أرزق المؤمنين من أهله خاصة قاس الرزق على الامامة فخص المؤمنين به قال اللّه تعالى جوابا له {قال ومن كفر} أي وأرزق من كفر {فأمتعه قليلا} تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا إلى حين أجله فامتعه شامى {ثم أضطره} ألجئه {إلى عذاب النار وبئس المصير} المرجع الذى يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف ١٢٧{وإذ يرفع} حكاية حال ماضيه {إبراهيم القواعد} هى جمع قاعدة وهى الأساس والأصل لما فوقه وهى صفة غالبة ومعناها الثابتة ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر {من البيت} بيت اللّه وهو الكعبة {وإسماعيل} هو عطف على إبراهيم وكان إبراهيم يبنى واسمعيل يناوله الحجارة {ربنا} أى يقولان ربنا وهذا الفعل فى محل النصب على الحال وقد أظهره عبد اللّه فى قراءته ومعناه برفعانها قائلين ربنا {تقبل منا} تقربنا إليك ببناء هذا البيت {إنك أنت السميع} لدعائنا {العليم} بضمائرنا ونياتنا وفى إبهام القواعد وتبيينها بعد الابهام تفخيم لشأن المبين ١٢٨{ربنا واجعلنا مسلمين لك} مخلصين لك أو جهنا من قوله أسلم وجهه للّه [البقرة:١١٢] أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن والمعنى زدنا إخلاصا واذعانا لك {ومن ذريتنا} واجعل من ذريتنا {أمة مسلمة لك} ومن للتبعيض أو للنبيين وقيل أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام و إنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} {وأرنا مناسكنا} منقول من رأى بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أى وبصرنا متعبداتنا فى الحج أو عرفناها وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك وارنا مكى قاسه على فخذ فى فخذ وأبو عمر ويشم الكسرة {وتب علينا} ما فرط منا من التقصير أو استتابا لذريتهما {إنك أنت التواب الرحيم ١٢٩ربنا وابعث فيهم} فى الأمة المسلمة {رسولا منهم} من أنفسهم فبعث اللّه فيهم محمدا عليه السلام قال عليه السلام: انا دعوة ابى إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا امى {يتلو عليهم آياتك} يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ورسلك {ويعلمهم الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة وفهم القرآن {ويزكيهم} ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس {إنك أنت العزيز} الغالب الذى لا يغلب {الحكيم} فيما أوليت ١٣٠{ومن يرغب عن ملة إبراهيم} استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن يكون فى العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذى هو ملة إبراهيم والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج {إلا من} فى محل الرفع على البدل من الضمير فى يرغب وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك هل جاءك أحد إلا زيد والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من {سفه نفسه} أى جهل نفسه أى لم يفكر فى نفسه فوضع سفه موضع جهل وعدى كما عدى أو معناه سفه فى نفسه فحذف فى كما حذف من في قوله واختار موسى قومه أى من قومه وعلى فى قوله ولا تعزموا عقدة النكاح أى على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج وقال الفراء هو منصوب على التمييز وهو ضعف لكونه معرفة {ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين} بيان الخطأ رأى من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة فى طريقته منه ١٣١{إذ قال} ظرف لاصطفيناه وانتصب باضمار اذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذى لا يرغب من ملة مثله {له ربه أسلم} أذعن أو اطلع أو أخلص دينك للّه {قال أسلمت لرب العالمين} أى أخلصت ا و انقدت ١٣٢{ووصى} وأوصى مدنى وشامى {بها} بالملة أو بالكلمة وهى أسلمت لرب العالمين {إبراهيم بنيه ويعقوب} هو معطوف على إبراهيم داخل فى حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضا {يا بني} على إضمار القول {إن اللّه اصطفى لكم الدين} أى أعطاكم الدين الذى هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ووفقكم للأخذ به {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام فالنهى فى الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك لا تصل إلا و أنت خاشع فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع فى صلاته ١٣٣{أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} أو منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أى ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أى حين احتضر والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك إنما حصل لكم العلم به من طريق الوحى أو متصلة ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبى إلا على اليهودية كأنه قيل أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت {إذ قال} يدل من إذ الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف لحضر {لبنيه ما تعبدون} ما استفهام فى محل النصب بتعبدون أى أى شيء تعبدون وما عام فى كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول ما زيد تريد أفقيه أم طبيب {من بعدي} من بعد موتى {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك} أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار {إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} عطف بيان لآبائك وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم اب قال عليه السلام فى العباس: هذا بقية آبائى {إلها واحدا} بدل من إله آبائك كقوله بالناصية ناصية كاذبة [العلق:١٥] أو نصب على الاختصاص أى نريد بإله آبائك إلها واحدا {ونحن له مسلمون} حال من فاعل نعبد أو جملة معطوفة على نعبد أو جملة اعتراضية مؤكدة ١٣٤{تلك} إشارة إلى الأمة المذكورة التى هى ابراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون {أمة قد خلت} مضت {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} أى أن احدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا فكما أن اولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لا فتخار هم بآبائهم {ولا تسألون عما كانوا يعملون} ولا تؤاخذون بسيآتهم ١٣٥{وقالوا كونوا هودا أو نصارى} أى قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى وجزم {تهتدوا} لأنه جواب الأمر {قل بل ملة إبراهيم} بل نتبع ملة ابراهيم {حنيفا} حال من المضاف إليه نحو رأيت وجه هند قائمة والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق {وما كان من المشركين} تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلا منهم يدعى اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك ١٣٦{قولوا} هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أى قولوا لتكونوا على الحق و إلا فأنتم على الباطل {آمنا باللّه وما أنزل إلينا} أى القرآن {وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط}السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثنى عشر ويعدى أنزل بالى وعلى فلذا ورد هنا بالى وفى آل عمران بعلى {وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم} أى لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى وأحد فى معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه {ونحن له مسلمون} للّه مخلصون ١٣٧{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون اللّه تعالى مثل وتعالى عن ذلك فقيل الباء زائدة ومثل صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم والهاء يعود إلى اللّه عز وجل وزيادة الباء غير عزيز قال اللّه تعالى والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها [يونس:٢٧] والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله فى الآية الاخرى وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى:٤٠] وقيل المثل زيادة أى فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه بما آمنتم به وما بمعنى الذى بدليل قراءة ابى بالذى آمنتم به وقيل الباء للاستعانة كقولك كتبت بالقلم أى فإن دخلوا فى الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التى آمنتم بها {وإن تولوا} عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول فى الإيمان بها {فإنما هم في شقاق} أى فما هم إلا فى خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق فى شيء {فسيكفيكهم اللّه} ضمان من اللّه لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة و أن تأخر إلى حين {وهو السميع} لما ينطقون به {العليم} بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم أو وعد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى بسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك ١٣٨{صبغة اللّه} دين اللّه وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله آمنا باللّه [البقرة:١٣٦] وهى فعلة من صيغ كالجلسة من جلس وهى الحالة التى يقع عليها الصبغ والمعنى تطهير اللّه لأن الإيمان يطهر النفوس والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم فى ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانيا حقا فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم قولوا آمنا باللّه [البقرة:١٣٦] وصبغنا اللّه بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم وجىء بلفظ الصبغة للمشاكلة كقولك لمن يغرس الأشجار أغرس كما يغرس فلان تريد رجلا يصطنع الكرام {ومن أحسن من اللّه صبغة} تمييز أى لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير {ونحن له عابدون} عطف على آمنا باللّه [البقرة:١٣٦] وهذا العطف يدل على أن قوله صبغة اللّه داخل فى مفعول قولوا آمنا [البقرة:١٣٦] أى قولوا هذا وهذا ونحن له عابدون ويرد قول من زعم أن صبغة اللّه بدل من ملة إبراهيم [البقرة:١٣٥] أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة اللّه لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذى ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام ١٣٩{قل أتحاجوننا في اللّه} أى أتجادلوننا فى شأن اللّه واصطفائه النبى من العرب دونكم وتقولون لو أنزل اللّه على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا {وهو ربنا وربكم} نشترك جميعا فى أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} يعنى أن العمل هو أساس الامر وكما أن لكم أعمالا فلنا كذلك {ونحن له مخلصون} أى نحن له موحدون نخلصه بالايمان وانتم به مشركون والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره ١٤٠{أم تقولون} بالتاء شامى وكوفى غير ابى بكر و أم على هذا معادلة للّهمزة فى اتحاجوننا يعنى أى الأمرين تأتون المحاجة فى حكم اللّه أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء أو منقطعة أى بل أيقولون غيرهم بالياء وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة {إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى} ثم أمر نبيه عليه السلام أن يقول مستفهما رادا عليهم بقوله {قل أأنتم أعلم أم اللّه} يعنى أن اللّه شهد لهم بملة الإسلام فى قوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما [آل عمران:٦٧] {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من اللّه} أى كتم شهادة اللّه التى عنده أنه شهد بها وهى شهادة اللّه لإبراهيم بالحنيفية والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها أو إنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن احد أظلم منا فلا نكتمها وفيه تعريض بكتمانهم شهادة اللّه لمحمد عليه السلام بالنبوة فى كتبهم وسائر شهاداته ومن فى قوله من اللّه مثلها فى قولك هذه شهادة منى لفلان إذا شهدت له فى أنها صفة لها {وما اللّه بغافل عما تعملون} من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة ١٤١{تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} كررت للتأكيد ولأن المراد بالأول الأنبياء عليهم السلام وبالثاني اسلاف اليهود والنصارى ١٤٢{سيقول السفهاء من الناس} الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة وهم اليهود لكراهتمهم التوجه إلى الكعبة و أنهم لا يرون النسخ أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء اوالمشركون لقولهم رغب عن قبلة آبائه ثم رجع اليها واللّه ليرجعن إلى دينهم وفائدة الاخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد وعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقيل الرمى يراش السهم {ما ولاهم} ما صرفهم {عن قبلتهم التي كانوا عليها} يعنون بيت المقدس والقبلة الجهة التى يستقبلها الإنسان فىالصلاة لأن المصلى يقابلها {قل للّه المشرق والمغرب} أى بلاد الشرق والمغرب و الأرض كلها له {يهدي من يشاء} من أهلها {إلى صراط مستقيم} طريق مستو أى يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهى الكعبة التى أمرنا بالتوجه إليها أو الأماكن كلها للّه فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة الكعبة وطورا إلى البيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده ١٤٣{وكذلك جعلناكم} ومثل ذلك الجعل جعلناكم فالكاف للتشبيه وذاجر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب {أمة وسطا} خيارا وقيل للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع اليها الخلل والأوساط محمية أى كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم أو عدولا لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض أى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم امة وسطا بين العلو والتقصير فانكم لم تغلو غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالالوهية ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا {لتكونوا شهداء} غير منصرف لمكان ألف التأنيث {على الناس} صلة شهداء {ويكون الرسول عليكم شهيدا} عطف على لتكونوا روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب اللّه الأنبياء البينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فيقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بأخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع فى الأشياء المعروفة ولما كان الشهيد كالرقيب جىء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى {كنت أنت الرقيب عليهم} وقيل {لتكونوا شهداء على الناس} فى الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار ويكون الرسول عليكم شهيدا يزكيكم ويعلم بعدالتكم واستدل الشيخ أبو منصور رحمه اللّه بالآية على أن الإجماع حجة لأن اللّه تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله واخرت صلة الشهادة أو لا وقدمت آخرا لأن المراد فى الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفى الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} أى وما جعلنا القبلة الجهة كنت عليها وهى الكعبة فالتى كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثانى مفعول جعل روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفا لليهود ثم حول إلى الكعبة {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} أى وما جعلنا القبلة التى تحب أن تستقبلها الجهة التى كنت عليها أو لا بمكة إلا امتحانا للناس وابتلاء لنعلم الثابث على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقلته يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة قال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه معنى قوله لنعلم أى لنعلم كائنا أو موجودا ما قد علمناه أنه يكون ويوجد فاللّه تعالى عالم فى الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد فى الوقت الذى شاء وجوده فيه و لا يوصف بأنه عالم فى الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود فى الأزل فكيف يعلمه موجودا فإذا صار موجودا يدخل تحت علمه الأزلى فيصير معلوما له موجودا كائنا والتغير عل المعلوم لا على العلم أو لتميز النابع من الناكص كما قال تعالى ليميز اللّه الخبيث من الطيب فوضع العلم موضع التميز لأن العلم به يقع التميز أو ليعلم رسول اللّه عليه الصلاة والسلام والمؤمنون وإنما أسند علمهم إلى ذاته لانهم خواصه أو هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب فليلقه فى النار لنعلم أيذوب {وإن كانت} أى التحويلة أو الجعلة أو القبلة و إن هى المخففة واللام فى {لكبيرة} أى ثقيلة شاقة وهى خبر كان واللام فارقة {إلا على الذين هدى اللّه} أى هداهم اللّه فحذف العائد أى إلا على الثابتين الصادقين فى اتباع الرسول {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أى صلاتكم إلى بيت المقدس سمى الصلاة ايمانا لأن وجوبها على أهل الإيمان وقبولها من أهل الإيمان وأداؤها فى الجمعة دليل الإيمان ولما توجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الكعبة قالوا كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا فنزلت ثم علل ذلك فقال {إن اللّه بالناس لرؤوف} مهموز مشبع حجازى وشامى وحفص رءوف غيرهم بوزن فعل وهما المبالغة {رحيم} لا يضيع أجورهم والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما فى الرحمن الرحيم ١٤٤{قد نرى تقلب وجهك في السماء} تردد وجهك وتصرف نظرك فى جهة السماء وكان رسول صلى اللّه عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومحالفة لللّهيود و لأنهاء ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم {فلنولينك} فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياء له أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس {قبلة ترضاها} تحبها وتميل اليها لأغراضك الصحيحة التى أضمرتها ووافقت مشيئة اللّه وحكمته {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أى نحوه وشطر نصب على الظرف أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى فى جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائى وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين روى أنه عليه السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس سنة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة {وحيث ما كنتم} من الأرض وأردتم الصلاة {فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق} أى التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان فى بشارة انبيائهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه يصلى إلى القبلتين {من ربهم وما اللّه بغافل عما يعملون} بالياء مكى و أبو عمرو ونافع وعاصم وبالتاء غيرهم فالأول وعيد للكافرين بالعقاب على الحجود والاباء والثاني وعد للمؤمنين بالثواب على القبول والأداء ١٤٥{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} أراد ذوى العناد منهم {بكل آية} برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق {ما تبعوا قبلتك} لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما فى كتبهم من نعتك انك على الحق وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط {وما أنت بتابع قبلتهم} حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا فى ذلك وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذى ننتظره وطمعوا فى رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة و إن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم فى البطلان {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} يعنى أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون فى شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك فاليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى مطلع الشمس {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم} أى من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هى الكعبة و أن دين اللّه هو الإسلام {إنك إذا لمن الظالمين} لمن المرتكبين الظلم الفاحش وفى ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى وقيل الخطاب فى الظاهر للنبى عليه السلام والمراد امته ولزم الوقف على الظالمين إذ لو وصل لصار ١٤٦{الذين آتيناهم الكتاب} صفة للظالمين وهو مبتدأ والخبر {يعرفونه} أى محمدا عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة والاول أظهر لقوله {كما يعرفون أبناءهم} قال عبد اللّه بن سلام انا اعلم به منى يا بنى فقال له عمر ولم قال لأنى لست أشك فى محمد أنه نبى فاما ولدى فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه {وإن فريقا منهم} أى الذين لم يسلموا {ليكتمون الحق} حسدا وعنادا {وهم يعلمون} أن اللّه تعالى بينه فى كتابهم ١٤٧{الحق} مبتدأ خبره {من ربك} واللام للجنس أى الحق من اللّه لا من غيره يعنى أن الحق ما ثبت أنه من اللّه كالذى أنت عليه وما لم يثبت أنه من اللّه كالذى عليه أهل الكتاب فهو الباطل أو للعهد والاشارة إلى الحق الذى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو خبر مبتدأ محذوف أى هو الحق ومن ربك خير بعد خبر أو حال {فلا تكونن من الممترين} الشاكين فى أنه من ربك ١٤٨{ولكل} من أهل الأديان المختلفة {وجهه} قبلة وقرئ بها والضمير فى {هو} لكل وفى {موليها} للوجهة أى هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو للّه تعالى أى اللّه موليها اياه هو مولاها شامى أى هو مولى تلك الجهة قد وليها والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه اليها منكم ومن غيركم {فاستبقوا} أنتم {الخيرات} فاستبقوا اليها غيركم من أمر القبلة وغيره {أينما تكونوا} انتم واعداؤكم {يأت بكم اللّه جميعا} يوم القيامة فيفصل بين المحق والمبطل أو ولكل منكم يا امة محمد وجهة جهة يصلى اليها جنوبية أو شماليه أو شرقية أو غربية فاستقبلوا الفاضلات من الجهات وهى الجهة المسامتة للكعبة و إن اختلفت اينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم اللّه جميعا ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضرى المسجد الحرام {إن اللّه على كل شيء قدير ١٤٩ومن حيث خرجت} ومن أى بلد خرجت للسفر {فول وجهك شطر المسجد الحرام} إذا صليت {وإنه} و إن هذا المأمور به {للحق من ربك وما اللّه بغافل عما تعملون} وبالياء أبو عمرو ١٥٠{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوايدها {لئلا يكون للناس عليكم حجة} أى قد عرفكم اللّه جل ذكره أمر الاحتجاج فى القبلة بما قدبين فى قوله ولكل وجهة هوموليها [البقرة:١٤٨] لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة فى خلاف ما فى التوراة من تحويل القبلة وأطلق اسم الحجة على قول المعائدين لأنهم يسوقونه سياق الحجة {إلا الذين ظلموا منهم} استثناء من الناس أى لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض فى ترككم التوجه الىالكعبة التى هى قبلة إبراهيم وإسمعيل ابى العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بداله فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم ثم استأنف منبها بقوله {فلا تخشوهم} فلا تخافوا مطاعتهم فى قبلتكم فإنهم لا يضرونكم {واخشوني} فلا تخالفوا أمرى {ولأتم نعمتي عليكم} أى عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة ولأتم نعمتى عليكم بهدايتى إياكم إلى الكعبة {ولعلكم تهتدون} ولكى تهتدوا إلى قبلة إبراهيم الكاف فى ١٥١{كما أرسلنا فيكم} اما أن يتعلق بما قبله أى ولأتم نعمتى عليكم فى الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم فى الدنيا بإرسال الرسول أو بما بعده أى كما ذكر تكم بإرسال الرسول فاذكرونى بالطاعة أذكركم بالثواب فعلى هذا يوقف على تهتدون وعلى الأول لا {رسولا منكم} نم العرب {يتلو عليكم} يقرا عليكم {آياتنا} القرآن {ويزكيكم ويعلمكم الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة والفقه {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} مالا سبيل إلى معرفته إلا بالوحى ١٥٢{فاذكروني} بالمعذرة {أذكركم} بالمغفرة أو بالثناء والعطاء أو بالسؤال والنوال أو بالتوبة وعفو الحوبة أو بالاخلاص والخلاص أو بالمناجاة أو النجاة {واشكروا لي} ما أنعمت به عليكم {ولا تكفرون} ولا تجحدوا نعمائى ١٥٣{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر} فيه تنال كل فضيلة {والصلاة} فإنها تنهى عن كل رذيلة {إن اللّه مع الصابرين} بالنصر والمعونة ١٥٤{ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه} نزلت فى شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا {أموات} أى هم أموات {بل أحياء} أى هم أحياء {ولكن لا تشعرون} لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حسا عن الحسن رضى اللّه عنه أن الشهداء أحياء عند اللّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل اليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل اليهم الوجع وعن مجاهد ريحها وليسوا فيها ١٥٥{ولنبلونكم} ولنصيبنكم بدلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا {بشيء} بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الانسان و أن جل ففوقه ما يقل اليه ويريهم أن رحمته معهم فى كل حال وأعلمهم بوقوع البلواء قبل وقوعها ليوطنو نفوسهم عليها {من الخوف} خوف اللّه والعدو {والجوع} أى القحط أو صوم شهر رمضان {ونقص من الأموال} بموت المواشى أو الزكاة وهو عطف على شيء وعلى الخوف أى وشئ من نقص الأموال {والأنفس} بالقتل والموت أو بالمرض والشيب {والثمرات} ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة الفؤاد {وبشر الصابرين} على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم واذعان وفى الحديث: من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه وطفئ سراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: انا للّه و إنا إليه راجعون فقيل امصيبة هى قال نعم كل شيء يؤذى المؤمن فهو مصيبة والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل من يأتى منه البشارة ١٥٦{الذين} نصب صفة للصابرين ولا وقف عليه بل يوقف على راجعون ومن ابتداء بالذين وجعل الخبر اولئك يقف على الصابرين لا على راجعون و الأول الوجه لأن الذين وما بعده بيان للصابرين {إذا أصابتهم مصيبة} مكروه اسم فاعل من اصابته شدة أى لحقته ولا وقف على مصيبة لأن {قالوا} جواب إذا و إذا وجوابها صلة الذين {إنا للّه} اقرار له بالملك {وإنا إليه راجعون} إقرار على نفوسنا بالهلك ١٥٧{أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} الصلاة الحنو والتعطف فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة كقوله رأفة ورحمة * رءوف رحيم والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة {وأولئك هم المهتدون} لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر اللّه قال عمر رضى اللّه عنه نعم العدلان ونعم العلاوة أى الصلاة والرحمة والاهتداء ١٥٨{إن الصفا والمروة} هما علمان للجبلين {من شعائر اللّه} من أعلام مناسكه متعبداته جمع شعيرة وهى العلامة {فمن حج البيت} قصد الكعبة {أو اعتمر} زار الكعبة فالحج القصد والاعتمار الزيارة ثم غلبا على قصد البيت زيارته للنسكين المعروفين وهما فى المعانى كالنجم والبيت فى الأعيان {فلا جناح عليه} فلا اثم عليه {أن يطوف بهما} أى يتطوف فادغم التاء فى الطاء و أصل الطوف المشى حول الشئ والمراد هنا السعى بينهما قيل كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة هما ضمان يروى أنهما كانا رجلا وامرأة زنيا فى الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون اللّه وكان أهل الجاهلية إذا سعو امسحوا هما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله فلا جناح وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعى رحمهما اللّه تعالى وكذا قوله {ومن تطوع خيرا} أى بالطواف بهما وهو كذلك مشعر بأنه ليس بركن ومن يطوع حمزة وعلى أى يتطوع فادغم التاء فى الطاء {فإن اللّه شاكر} مجاز على القليل كثيرا {عليم} بالأشياء صغيرا أو كبيرا ١٥٩{إن الذين يكتمون} من أحبار اليهود {ما أنزلنا} فى التوراة {من البينات} من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام {والهدى} الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام {من بعد ما بيناه} أوضحناه {للناس في الكتاب} فى التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه {أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون} الذين يتاتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ١٦٠{إلا الذين تابوا} عن الكتمان وترك الإيمان {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم {وبينوا} وأظهروا ما كتموا {فأولئك أتوب عليهم} أقبل توبتهم {وأنا التواب الرحيم ١٦١إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} يعنى الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا {أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين} ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتا والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضا يوم القيامة قال اللّه تعالى كلما دخلت أمة لعنت أختها [الاعراف:٣٨] ١٦٢{خالدين} حال من هم فى عليهم {فيها} فى اللعنة أو فى النار إلا أنها أضمرت تفخيما لشأنها وتهويلا {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} من الانظار أى لا يمهلون أو لا ينتظرن ليعتذروا أو لا ينظر اليهم نظر رحمة ١٦٣{وإلهكم إله واحد} فرد فى ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غيره إلها {لا إله إلا هو} تقرير للوحدانية بنفى غيره وإثباته وموضع هو رفع لأنه بدل من موضع لا اله ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني والمعنى فى الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول ورفع {الرحمن الرحيم} أى المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه ورفع على أنه خبر مبتدأ أو على البدل من هولا على الوصف لأن المضمر لا يوصف لما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل ١٦٤{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} فى اللون والطول والقصر وتعاقبهما فى الذهاب والمجئ {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} بالذى ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس ومن فى {وما أنزل اللّه من السماء} لابتداء الغاية وفى {من ماء} مطر ومن لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره ثم عطف على أنزل {فأحيا به} بالماء {الأرض بعد موتها} يبسها ثم عطف على فأحيا {وبث} وفرق {فيها} فى الأرض {من كل دابة} هى كل ما يدب {وتصريف الرياح} الريح حمزة وعلى أى وتقليبها فى مهابها قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا وفى أحوالها حارة وباردة وعاصفة و لينة وعقما ولواقح وقيل تارة بالرحمة وطورا بالعذاب {والسحاب المسخر} المذلل المنقاد لمشيئة اللّه تعالى فيمطر حيث شاء {بين السماء والأرض} فى الهواء {لآيات لقوم يعقلون} ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها وفى الحديث: ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أى لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها ١٦٥{ومن الناس} أى ومع هذا البرهان النير من الناس {من يتخذ من دون اللّه أندادا} أمثالا من الأصنام {يحبونهم} يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب {كحب اللّه} كتعظيم اللّه والخضوع له أى يحبون الأصنام كما يحبون اللّه يعنى يسوون بينهم وبينه فى محبتهم لأنهم كانوا يقرون باللّه ويتقربون إليه وقيل يحبونهم كحب المؤمنين اللّه {والذين آمنوا أشد حبا للّه} من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى اللّه عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له {ولو يرى} ترى نافع وشامى على خطاب الرسول أو كل مخاطب أى ولو ترى ذلك لرأيت امرا عظيما {الذين ظلموا} إشارة إلى متخذى الأنداد {إذ يرون} يرون شامى {العذاب أن القوة للّه جميعا} حال {وأن اللّه شديد العذاب} شديد عذابه أى ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها للّه تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة فحذف الجواب لأن لو إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب ولو يليها الماضى وكذا إذ وضعها لتدل على الماضى إنما دخلتا على المستقبل هنا لأن أخبار اللّه تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضى ١٦٦{إذ تبرأ} مدغمة الذال فى التاء حيث وقعت عراقى غير عاصم وهو بدل من إذ يرون العذاب {الذين اتبعوا} أى المتبعون وهم لرؤساء {من الذين اتبعوا} من الأتباع {ورأوا العذاب} الواو فيه للحال أى تبرءوا فى حال رؤيتهم العذاب {وتقطعت} عطف على تبرأ {بهم الأسباب} الوصل التى كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ون الأنساب والمحاب ١٦٧{وقال الذين اتبعوا} أى الأتباع {لو أن لنا كرة} رجعة إلى الدنيا {فنتبرأ} نصب على جواب التمنى لأن لو فى معنى التمنى ولمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا الان {كذلك} مثل ذلك الإراء الفظيع {يريهم اللّه أعمالهم} أى عبادتهم الأوثان {حسرات عليهم} ندامات وهى مفعول ثالث ليريهم ومعناه أن اعمالهم تقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم {وما هم بخارجين من النار} بل هم فيها دائمون ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها ١٦٨{يا أيها الناس كلوا} أمر إباحة {مما في الأرض} من للتبعيض لأن كل ما فى الأرض ليس بمأكول {حلالا} مفعول كلوا أو حال مما فى الارض {طيبا} طاهرا من كل شبهة {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} طرقه التى يدعوكم إليها بسكون الطاء أبو عمرو غير عباس ونافع وحمزة و أبو بكر والخطوة فى الأصل ما بين قدمى الخاطى يقال اتبع خطواته إذا افتدى به واسن بسنته {إنه لكم عدو مبين} ظاهر العداوة لاخفاء به وأبان متعد ولازم ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} أى الشيطان لأنه عدوا للناس حقيقة ووليهم ظاهرا فإنه يريهم فى الظاهر الموالاة ويزين لهم اعمالهم ويريد بذلك هلاكهم فى الباطن ١٦٩{إنما يأمركم} بيان لوجوب لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أى لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم {بالسوء} بالقبيح {والفحشاء} وما يتجاوز الحد فى القبح من العظائم وقيل السوء مالا حد فيه والفحشاء ما فيه حد {وأن تقولوا} فى موضع الجر بالعطف على بالسوء أى وبأن تقولوا {على اللّه ما لا تعلمون} هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللّه تعالى مما لا يجوز عليه ١٧٠{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه} الضمير للناس وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفات قيل هم المشركون وقيل طائفة من اليهود لما دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الإيمان واتباع القرآن {قالوا بل نتبع ما ألفينا} وجدنا {عليه آباءنا} فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم فرد اللّه عليهم بقوله {أولو كان آباؤهم} الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم {لا يعقلون شيئا} من الدين {ولا يهتدون} للصواب ثم ضرب لهم مثلا فقال ١٧١{ومثل الذين كفروا} المضاف محذوف أى ومثل داعى الذين كفروا {كمثل الذي ينعق} يصيح والمراد {بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} البهائم والمعنى ومثل داعيهم إلى الإيمان فى أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التى لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذى هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئا آخر كما يفهم العقلاء والنعيق التصويت يقال نعق المؤذن ونعق الراعى بالظأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع {صم} خبر مبتدأ مضمر أى هم صم {بكم} خبر ثان {عمي} عن الحق خبر ثالث {فهم لا يعقلون} الموعظة ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال بقوله ١٧٢{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} من مستلذاته أو من حلالاته {واشكروا للّه} الذى رزقكموها {إن كنتم إياه تعبدون} إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطى النعم ثم بين المحرم فقال ١٧٣{إنما حرم عليكم الميتة} وهى كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح و إنما لإثبات المذكور ونفى ما عداه أى ما حرم عليكم إلا الميتة {والدم} يعنى السائل لقوله فى موضع آخر أو دما مسفوحا وقد حلت الميتتان والدمان بالحديث احلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال {ولحم الخنزير} يعنى الخنزير بجميع أجزائه وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل {وما أهل به لغير اللّه} أى ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم اللّه وأصل الاهلال رفع الصوت أى رفع به الصوت للصنم وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى {فمن اضطر} أى ألجئ بكسر النون بصرى وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين اعنى النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء {غير} حال أى فأكل غير {باغ} للذة وشهوة {ولا عاد} متعد مقدار الحاجة وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عاد فى سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة والحبس بالحضر يبيح بلا سفر ولأن بغيه لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان والمضظر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة {فلا إثم عليه} فى الأكل {إن اللّه غفور} للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار {رحيم} حيث رخص ونزل فى رؤساء اليهود وتغييرهم نعت النبى عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا ١٧٤{إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب} فى صفة محمد عليه السلام {ويشترون به ثمنا قليلا} أى عوضا أو إذ ثمن {أولئك ما يأكلون في بطونهم} ملء بطونهم تقول أكل فلان فىبطنه وأكل فى بعض بطنه {إلا النار} لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه اكل النار ومنه قولهم أكل فلان الدم إذا أكل الدية التى هى بدل منه قال يأكلن كل ليلة اكافا أى ثمن إكاف فسماه إكافا لتلبسه به بكونه ثمنا له {ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة} كلاما يسرهم ولكن بنحو قوله اخسؤا فيها ولا تكلمون {ولا يزكيهم} ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثنى عليهم {ولهم عذاب أليم} مؤلم فحرف النفى مع الفعل خبر أولئك وأولئك مع خبره خبران والجمل الثلاث معطوفة على خبر إن فقد صار لأن أربعة أخبار من الجمل ١٧٥{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} يكتمان نعت محمد عليه السلام {فما أصبرهم على النار} فأى شيء أصبرهم على عمل يؤدى إلى النار وهذا استفهام معناه التوبيخ ١٧٦{ذلك بأن اللّه نزل الكتاب بالحق} أى ذلك العذاب بسبب أن اللّه نزل ما نزل من الكتب بالحق {وإن الذين اختلفوا} أى أهل الكتاب {في الكتاب} هو للجنس أى فى كتب اللّه فقالوا فى بعضها حق وفى بعضها باطل {لفي شقاق} خلاف {بعيد} عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن اللّه نزل القرآن بالحق كما يعلمون و أن الذين اختلفوا فيه لفى شقاق بعيد عن الهدى ١٧٧{ليس البر أن تولوا} أى ليس البر توليتكم {وجوهكم قبل المشرق والمغرب} والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس وقبلة اليهود مغربه وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ {ولكن البر} بر {من آمن باللّه} أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف و الأول أجود والبر اسم للخير ولكل فعل مرضى وقيل كثر خوض المسلمين و أهل الكتاب فى أمر القبلة فقيل ليس البر العظيم الذى يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ولكن البر الذى يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال ليس البر بالنصب على أنه خبر ليس واسمه أن تولوا حمزة وحفص ولكن البر نافع وشامى وعن المبرد لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر وقرئ ولكن البار {واليوم الآخر} أى يوم البعث {والملائكة والكتاب} أى جنس كتب اللّه أو القرآن {والنبيين وآتى المال على حبه} أى على حب اللّه أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه {ذوي القربى} أى القرابة وقدمهم لانهم احق قال عليه الصلاة والسلام صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوى رحمك صدقة وصلة {واليتامى} والمراد الفقراء من ذوى القربى واليتامى و إنما أطلق لعدم الإلباس {والمساكين} المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر {وابن السبيل} المسافر المنقطع وهو جنس و إن كان مفردا لفظا وجعل ابنا للسبيل لملازمته له أو الضيف {والسائلين} المستطعمين {وفي الرقاب} وفى معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو فى فك الأسارى {وأقام الصلاة} المكتوبة {وآتى الزكاة} المفروضة قيل هو تأكيد للأول وقيل المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار {والموفون} عطف على من آمن {بعهدهم إذا عاهدوا} اللّه أو الناس {والصابرين} نصب على المدح والاختصاص أظهار الفضل فى الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال {في البأساء} الفقر والشدة {والضراء} المرض والزمانة {وحين البأس} وقت القتال {أولئك الذين صدقوا} أى أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا فى الدين {وأولئك هم المتقون} روى أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء فى الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جاء اللّه بالإسلام فنزل ١٧٨{يا أيها الذين آمنوا كتب} أى فرض {عليكم القصاص} وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار {في القتلى} جمع قتيل والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى {الحر بالحر} مبتدأ وخبر أى الحر مأخوذ أو مقتول بالحر {والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وقال الشافعى رحمه اللّه لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجرى القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى {أن النفس بالنفس} كما بين الذكر والانثى وبقوله عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم وبأن التفاضل غير معتبر فى الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفا على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} قالوا العفو ضد العقوبة يقال عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى بعن إلى الجانى والى الجناية ثم عفونا عنكم ويعفوا عن السيئات و إذا اجتمعا عدى إلى الأول باللام فتقول عفوت له عن ذنبه ومنه الحديث: عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وقال الزجاج من عفى له أى من ترك له القتل بالدية وقال الأزهرى العفو فى اللغة الفضل ومنه يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ويقال عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته وعفوت له عمالى عليه إذا تركته ومعنى الآية عند الجمهور فمن عفى له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولى المقتول وذكر بلفظ الأخوة بعثا له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه وقيل أقيم له مقام عند والضمير فى له وأخيه لمن وفى اليه للاخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالية جميلة وليؤد إليه المطلوب أى القاتل بدل الدم أداء بإحسان بألا يمطله ولا يبخسه وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ومن فسر عفى بترك جعل شيء مفعولا به وكذا من فسره بأعطى يعنى أن الولى إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعنى القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف وليؤده القاتل إليه بلا تسويف وإرتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أى فالواجب اتباع {ذلك} الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية {تخفيف من ربكم ورحمة} فانه كان فى التوراة القتل لا غير وفى الانجيل العفو بغير بدل لا غير وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيرا و الآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوة الثابتة بالإيمان ولا ستحقاق التخفيف والرحمة {فمن اعتدى بعد ذلك} التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد أخذ الدية {فله عذاب أليم} نوع من العذاب شديد الألم فى الاخرة ١٧٩{ولكم في القصاص حياة} كلام فصيح لما فيه من الغرابه إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفا للحياة وفى تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينه لأن المعنى ولكم فى هذا الجنس من الحكم الذى هو اختصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة و أي حياة أو نوع من الحياة وهى الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين {يا أولي الألباب} يا ذوى العقل {لعلكم تتقون} القتل حذرا من القصاص ١٨٠{كتب} فرض {عليكم إذا حضر أحدكم الموت} أى إذا دنا منه فظهرت أمارته {إن ترك خيرا} مالا كثيرا لما روى عن على رضى اللّه عنه أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة فمنعه وقال قال اللّه تعالى {إن ترك خيرا} والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب {الوصية للوالدين والأقربين} وكانت للوارث فى بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه فى شرح المنار وقيل هى غير منسوخة لانها نزلت فى حق من ليس بوارث بسبب الكفر لانهم كانوا حديثى عهد بالإسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه و الإسلام قطع الارث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء الحق القرابة ندبا وعلى هذا لا يراد بكتب فرض {بالمعروف} بالعدل وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث {حقا} مصدر مؤكد أى حق ذلك حقا {على المتقين} على الذين يتقون الشرك ١٨١{فمن بدله} فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقا للشرع من الأوصياء والشهود {بعد ما سمعه} أى الإيصاء {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} فما اثم التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصى والموصى له لانهما بريئان من الحيف {إن اللّه سميع} لقول الموصى {عليم} يجور المبدل ١٨٢{فمن خاف} علم وهذا شائع فى كلامهم يقولون اخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم {من موص} موص كوفى غير حفص {جنفا} ميلا عن الحق بالخطأ فى الوصية {أو إثما} تعمدا للحيف {فأصلح بينهم} بين الموصى لهم وهم الولدان والأجر اقربون بإئهم على طريق الشرع {فلا إثم عليه} حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم وقيل هذا فى حال حياة الموصى أى فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا اثم على هذا الموصى بما قال اولا {إن اللّه غفور رحيم ١٨٣يا أيها الذين آمنوا كتب} أى فرض {عليكم الصيام} هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان {كما كتب} أى كتابه مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف {على الذين من قبلكم} على الانبياءوالأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أى انتم متعبدون بالصيام فى أيام كما تعبد من كان قبلكم {لعلكم تتقون} الماصى بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السواء أو لعلكم تنتظمون فى زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم وانتصاب ١٨٤{أياما} بالصيام أى كتب عليكم أن تصوموا اباما {معدودات} موقتات بعدد معلوم أى قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير {فمن كان منكم مريضا} يخاف من الصوم زيادة المرض {أو على سفر} أو راكب سفر {فعدة} فعليه عدة أى فأفطر فعليه صيام عدد ايام فطره والعدة بمعنى المعدود أى أمر أن يصوم أياما معدودة مكانها {من أيام أخر} سوى أيام مرضه وسفره و آخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن لأصل فى فعلى صفة أن تستعمل فى الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى الصغر {وعلى الذين يطيقونه} وعلى المطيقين للصيام الذين لاعذرلهم أن أفطروا {فدية طعام مسكين} نصف صاع من بر أو صاع من غيره فطعام بدل من فدية طعام مساكين مدنى وابن ذكوان وكان ذلك فى بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم فى الإفطار والفدية ثم نسخ التخيير بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه ولهذا كرر قوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر لأنه لما كان مذكورا مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم وقيل معناه لا يطيقونه فأضمر لا لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخا {فمن تطوع خيرا} فزاد على مقدار الفدية {فهو خير له} فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع حمزة وعلى {وأن تصوموا} أيها المطيقون {خير لكم} من الفدية وتطوع الخير وهذا فى الابتداء وقيل و أن تصوموا فى السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم {إن كنتم تعلمون} شرط محذوف الجواب ١٨٥{شهر رمضان} مبتدأ خبره {الذي أنزل فيه القرآن} أى ابتدى فيه إنزاله وكان ذلك فى ليلة القدر أو أنزل فى شأنه القرآن وهو قوله تعالى {كتب عليكم الصيام} وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أى هو شهر والرمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع الصرف للتعريف والألف والنون وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التى وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فإن قلت ما وجه ما جاء فى الحديث: من صام رمضان إيمانا واحتسابا من أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعا قلت هو من باب الحذف لا من الإلباس القرآن حيث كان غير مهموز مكى وانتصب {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} على الحال أى أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل ذكر اولا أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به اللّه وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فمن كان شاهدا أى حاضرا مقيما غير مسافر فى الشهر فليصم فيه ولا يفطر والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء فى ليصمه ولا يكون مفعولا به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} فعدة مبتدأ والخبر محذوف أى فعليه عدة أى صوم عدة {يريد اللّه بكم اليسر} حيث أباح الفطر بالسفر والمرض {ولا يريد بكم العسر} ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا {ولتكملوا العدة} عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة {ولتكبروا اللّه على ما هداكم ولعلكم تشكرون} شرع ذلك يعنى جملة ماذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما افطر فيه ومن الترخيص فى اباحة الفطر فقوله لتكملوا علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر ولعلكم تشكرون علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك وعدى التكبير بعلى لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل لتكبروا اللّه أى لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه ولتكملوا بالتشديد أبو بكر ولما قال اعرابى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه نزل ١٨٦{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} علما واجابة لتعاليه عن القرب مكانا {أجيب دعوة الداع إذا دعان} الداعي دعانى فى الحالين سهل ويعقوب ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون فى الوصل غيرهم بغير ياء فى الحالين ثم إجابة الدعاء وعد صدق من اللّه لا خلف فيه غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فاجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول اللّه لبيك عبدى وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزا وقد يكون بعد مدة وقد يكون فى الآخرة وقد تكون الخيرة له فى غيره {فليستجيبوا لي} إذا دعوتهم للايمان والطاعة كما انى أجيبهم إذا دعونى لحوائجهم {وليؤمنوا بي} واللام فيها للأمر {لعلهم يرشدون} ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغى كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلى العشاء الاخرة أو يرقد فاذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة ثم إن عمر رضى اللّه عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الاخرة فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه فأتى النبى عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام: ما كنت جديرا بذلك فنزل ١٨٧{أحل لكم ليلة الصيام الرفث} أى الجماع {إلى نسائكم} عدى بالى لتضمنه معنى الافضاء و إنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الافضاء إلى نسائكم استقباحا لما وجد منهم قبل الاباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه فى عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} وقيل لباس أى ستر عن الحرام وهن لباس لكم استئناف كالبيان لسبب الاحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطةوالملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم فى مباشرتهن {علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم} تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة {فتاب عليكم} حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور {وعفا عنكم} ما فعلتم قبل الرخصة {فالآن باشروهن} جامعوهن فى ليالى الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعه مباشرة لالتصاق بشرتيهما {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} واطلبوا ما قسم اللّه لكم وأثبت فى اللوح من الولد بالمباشرة أى لا تباشروالقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع اللّه له النكاح من التناسل أو وابتغوا المحل الذى كتبه اللّه لكم وحللّه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} هو أول ما يبدو من الفجر المعترض فى الأفق كالخيط الممدود {من الخيط الأسود} وهو ما يمتد من سواد الليل شبها بخيطين أبيص وأسوج لامتدادهما {من الفجر} بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان احدهما بيان للآخر أو من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله وقوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيها بليغا كما أن قولك رأيت أسد ا مجازا فاذا ازدت من فلان رجع تشبيها وعن عدى بن حاتم قال عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتى فنظرت الهيما فلم يتبين لى الأبيض من الأسود فأخبرت النبى عليه السلام بذلك فقال: إنك لعريض القفا أى سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل وفى قوله {ثم أتموا الصيام إلى الليل} أى الكف عن هذه الأشياء وفيه دليل على جدواز النية بالنهار فى صوم رمضان وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر وعلى نفى الوصال وعلى وجوب الكفارة فى الأكل والشرب وعلى أن الجنابة لا تنافى الصوم {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} معتكفون فيها بين أن الجماع يحل فى ليالى رمضان لكن لغير المعتكف والجملة فى موضع الحال وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا فى المسجد و أنه لا يختص به مسجد دون مسجد {تلك} الأحكام التى ذكرت {حدود اللّه} أحكامه المحدودة {فلا تقربوها} بالمخالفة والتغيير {كذلك يبين اللّه آياته} شرائعه {للناس لعلهم يتقون} المحارم ١٨٨{ولا تأكلوا أموالكم بينكم} أى لا يأكل بعضكم مال بعض {بالباطل} بالوجه الذى لم يبحه اللّه ولم يشرعه {وتدلوا بها إلى الحكام} ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهى يعنى ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام {لتأكلوا} بالتحاكم {فريقا} طائفة {من أموال الناس بالإثم} بشهادة الزور أو بالايمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم وقال عليه السلام: للخصمين إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فاقضى له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئا فان ما أقضى له قطعة من نار فبكيا وقال: كل واحد منهما حقى لصاحبى وقيل وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة يقال أدلى دلوه أى ألقاه فى البئر للاستسقاء {وأنتم تعلمون} انكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق قال معاذ بن جبل يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس فنزل ١٨٩{يسألونك عن الأهلة} جمع هلال سمى به لرفع الناس أصواتهم عند رؤيته {قل هي مواقيت للناس والحج} أى معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك ومعالم للحج يعرف بها وقته كان ناس من الأنصار اذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دار ولا فسطاطا من باب فان كان من أهل الدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج وان كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} أى ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ولا خلاف فى رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة وهذه لا تحتمل إلا وجها واحدا وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر ليس {ولكن البر} بر {من اتقى} ما حرم اللّه البيوت وبابه مدنى وبصرى وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هىتوجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة فى نقصانها وتمامها معلوم أن كل ما يفعله اللّه تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا فى خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر فى شيء وانتم تحسبونها برا فهذا وجه اتصاله بما قبله ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم فى الحج ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم فى سؤالهم و أن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره والمعنى ليس البر وما ينبغى أن تكونوا عليه بأن تعكسوا فى مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله {وأتوا البيوت من أبوابها} أى وباشروا الأمور من وجوهها التى يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا أو المراحد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك فى ذلك متى لا يسأل عنه لما فى السؤال من الاتهام بمقارفة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {واتقوا اللّه} فيما أمركم به ونهاكم عنه {لعلكم تفلحون} لتفوزوا بالنعيم السرمدى ١٩٠{وقاتلوا في سبيل اللّه} المقاتلة فى سبيل اللّه الجهاد لاعلاء كلمة اللّه واعزاز الدين {الذين يقاتلونكم} يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخا بقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} كافة وقيل هى أول آية نزلت فى القتال فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم فى حكم المقاتلة {ولا تعتدوا} فى ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة {إن اللّه لا يحب المعتدين} ١٩١{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وجدتموهم والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أى من مكة وعدهم اللّه تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح {والفتنة أشد من القتل} أى شركهم باللّه أعظم من القتل الذى يحل بهم منكم وقيل الفتنة عذاب الاخرة وقيل المحنة والبلاء الذى ينزل بالانسان فيعذب به أشد عليه من القتل وقيل لحكيم ما أشد من الموت قال الذى يتمنى فيه الموت فقد جعل الاخراج من الوطن من الفتن التى يتمنى عندها الموت {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} أى ولا تبدءوا بقتالهم فى الحرم حتى يبدءوا فعندنا المسجد الحرام يقع على الحرم كله {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} فى الحرم فعندنا يقتلون فى الأشهر الحرم لا فى الحرم إلا أن يبدءوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم و إن كان ظاهر قوله {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} يبيح القتل فى الأمكنة كلها لكن لقوله {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا فى شرح التأويلات {كذلك جزاء الكافرين} مبتدأ وخبر ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم حمزة وعلى ١٩٢{فإن انتهوا} عن الشرك والقتال {فإن اللّه غفور} لما سلف من طغيانهم {رحيم} بقبول توبتهم وإيمانهم ١٩٣{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} شرك وكان تامة وحتى بمعنى كى أو إلى أن {ويكون الدين للّه} خالصا ليس للشيطان فيه نصيب أى لا يعبدونه شيء {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فان امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فانه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المتهين سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة كقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه قاتلهم المشركون عام الحديبية فى الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتم القتال وذلك فى ذى القعدة ١٩٤{الشهر الحرام} مبتدأ خبره {بالشهر الحرام} أى هذا الشهر بذلك الشهر وهتكة بهتكه يعنى تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم {والحرمات قصاص} قصاص أى وكل حرمة يجرى فيها القصاص من هتك حرمة أى حرمة كان اقتص منه بأن تهتك له حرمة فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مما ثلة لعدوانهم أو زائدة وتقديره عدوانا مثل عدوانهم {واتقوا اللّه} فى حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم فلا تعتدوا إلى مالا يحل لكم {واعلموا أن اللّه مع المتقين} بالنصر ١٩٥{وأنفقوا في سبيل اللّه} تصدقوا فى رضا اللّه وهو عام فى الجهاد وغيره {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} أى أنفسكم والباء زائدة أو ولا تقتلوا انفسكم بأيديكم كما يقال أهلك فلان نفسه بيده إذا تسبب لهلاكها والمعنى النهى عن ترك الاتفاق فى سبيل اللّه لأنه سبب الهلاك أو عن الاسراف فى النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله أو عن الاخطار بالنفس أو عن ترك الغزو الذى هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحد {وأحسنوا} الظن باللّه فى الاخلاف {إن اللّه يحب المحسنين} إلى المحتاجين ١٩٦{وأتموا الحج والعمرة للّه} وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضمها لوجه اللّه تعالى بلا توان ولا نقصان وقيل الاتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه اتمامهما وبه تقول أن العمرة تلزم بالشروع ولا تمسك للشافعى رحمه اللّه بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر باتمامها وقد يؤمر باتمام الواجب والتطوع أو اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفرا أو أن تنفق فيهما حلالا أو ألا تتجر معهما {فإن أحصرتم} يقال احصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز وحصر إذا حبسه عدو عن المضى وعندنا الاحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص وقد جاء فى الحديث: من كسر أو عرج فقد حل أى جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل وعند الشافعى رحمه اللّه الاحصار بالعدو وحده وظاهر النص يدل على أن الاحصار يتحقق فى العمرة أيضا لأنه ذكر عقبهما {فما استيسر من الهدي} فما تيسر منه يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب والهدى جمع هدية يعنى فان منعتم من المضى إلى البيت و أنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا اردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاه فما رفع بالابتداء أى فعليكم ما استيسر أو نصب أى فاهدوا له ما استيسر {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} الخطاب للمحصرين أى لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدى الذى بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أى مكانه الذى يجب نحره فيه وهو الحرم وهو حجة لنا فى أن دم الاحصار لا يذبح إلا فى الحرم على الشافعى رحمه اللّه إذ عنده يجوز فى غير الحرم {فمن كان منكم مريضا} فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق {أو به أذى من رأسه} وهو القمل أو الجراحة {ففدية} فعليه إذا حلق فدية {من صيام} ثلاثة أيام {أو صدقة} على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر {أو نسك} شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة {فإذا أمنتم} الاحصار أى فإذا لم تحصروا وكنتم فى حال أمن وسعة {فمن تمتع} استمتع {بالعمرة إلى الحج} واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى اللّه قبل انتفاعه بالتقرب بالحج وقيل إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرما عليه إلى أن يحرم بالحج {فما استيسر من الهدي} هو هدى المتعة وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر {فمن لم يجد} الهدى {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فعليه صيام ثلاثة أيام فى وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج {وسبعة إذا رجعتم} إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج {تلك عشرة كاملة} في وقوعها بدلا عن الهدى أو فى الثواب أو المراد رفع الابهام فلا يتوهم فى الواو أنها بمعنى الإباحة كما فى جالس الحسن وابن سيرين ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحد منهما كان ممتثلا {ذلك} إشارة إلى التمتع عندنا إذلا تمتع ولا قران لحاضرى المسجد الحرام عندنا وعند الشافعى رحمه اللّه إلى الحكم الذى هو وجوب الهدى أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئا {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة {واتقوا اللّه} فيما أمركم به ونهاكم عنه فى الحج وغيره {واعلموا أن اللّه شديد العقاب} لمن لم يتقه ١٩٧{الحج} أى وقت الحج كقولك البرد شهران {أشهر معلومات} معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهى شوال وذوا القعدة وعشر ذى الحجة وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعى رحمه اللّه وعندنا و إن انعقد لكنه مكروه وجمعت أى الأشهر لبعض الثالث أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى فقد صغت قلوبكما [التحريم:٤] {فمن فرض} ألزمه على نفسه بالإحرام {فيهن الحج} فى هذه الأشهر {فلا رفث} هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش {ولا فسوق} هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام: سباب المؤمن فسوق أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى بئس الاسم الفسوق [الحجرات:١١] {ولا جدال في الحج} ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين و إنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب فى كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير فى الصلاة والتطريب فى قراءة القرآن والمراد بالنفى وجوب انتفائها وانها حقيقة بأن لا تكون وقرأ أبو عمرو ومكى الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهى كأنه قيل فلا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالنصب على معنى الاخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل ولا شك ولا خلاف فى الحج ثم حث على الخير عقيب النهى عن الشر وان يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى {وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه} اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس فنزل فيهم {وتزودوا} أى تزودوا واتقوا والاستطعام و إبرام الناس والتثقيل عليهم {فإن خير الزاد التقوى} أى الاتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم أو تزودوا للعماد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها {واتقون} وخافوا عقابى وهو مثل دعان {يا أولي الألباب} يا ذوى العقول يعنى أن قضية اللب تقوى اللّه ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لالب له ونزل فى قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداج وليسوا بالحاج ١٩٨{ليس عليكم جناح أن تبتغوا} فى أن تبتغوا في مواسم الحج {فضلا من ربكم} عطاء وتفضيلا وهو النفع والربح بالتجارة والكراء {فإذا أفضتم} دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول {من عرفات} هى علم للموقف سمى بجمع كازرعات و إنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هى مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث وسميت بذلك لانها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها وقيل التقى فيها آدم وحواء فتعارفا وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده {فاذكروا اللّه} بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء {عند المشعر الحرام} هو قزع وهو الجبل الذى يقف عليه الإمام وعليه المقيدة والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة ووصف بالحرام لحرمته وسميت المزدلفة وجمعا لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها أى دنا منها أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين أو لأن الناس يزدلفون إلى اللّه تعالى أى يتقربون بالوقوف فيها {واذكروه كما هداكم} ما مصدرية أو كافة أى اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه {وإن كنتم من قبله} من قبل الهدى {لمن الضالين} الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه و إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة ١٩٩{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} ثم لتكن إفاضتكم من حيث افاض الناس ولا تكن من المزدلفة قالوا هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون نحن قطان حرمه فلا نخرج منه وقيل الإفاضة من عرفات مذكورة فهى الإفاضة من جمع إلى منى والمراد بالناس على هذا الحمس ويكون الخطاب للمؤمنين {واستغفروا اللّه} من مخالفتكم فى الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصيركم فى أعمال الحج {إن اللّه غفور رحيم} بكم ٢٠٠{فإذا قضيتم مناسككم} فإذا فرغتم من عباداتكم التى أمرتم بها فى الحج ونفرتم {فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم} أى فاذكروا اللّه ذكرا مثل ذكركم آباءكم والمعنى فأكثروا من ذكر اللّه وبالغوا فيه كما تفعلون فى ذكر آبائكم ومفاخرهم وأياسهم وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائكم ويذكرون محاسن أيامهم {أو أشد ذكرا} أى أكثر وهو فى موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر فى قوله كذكركم كما تفولون كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا وذكرا تمييز {فمن الناس من يقول} فمن الذين يشهدون الحج من يسأل اللّه حظوظ الدنيا فيقول {ربنا آتنا في الدنيا} اجعل إتياننا أى إعطاءنا فى الدنيا خاصة يعنى الجاه والغنى {وما له في الآخرة من خلاق} نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة والمعنى أكثروا ذكر اللّه ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر اللّه إلا أغراض الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أى من الذين قيل فيهم ٢٠١{ومنهم} ومن الذين يشهدون الحج {من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة} نعمة وعافية أو علما وعبادة {وفي الآخرة حسنة} عفوا ومغفرة أو المال والجنة أو ثناء الخلق ورضا الحق أو الإيمان والأمان أو الإخلاص والخلاص أو السنة والجنة أو القناعة والشفاعة أو المرأة الصالحة والحور العين أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة {وقنا عذاب النار} احفظنا من عذاب جهنم أو عذاب النار امرأة السوء ٢٠٢{أولئك} أى الداعون بالحسنتين {لهم نصيب مما كسبوا} من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذى هو المنافع الحسنة أو من أجل ما كسبوا وسمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ويجوز أن يكون أولئك للفريقين أو أن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا {واللّه سريع الحساب} يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الاخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته وروى أنه يحاسب الخلق فى قدر حلب شاة وروى فى مقدار لمحة ٢٠٣{واذكروا اللّه في أيام معدودات} هى أيام التشريق وذكر اللّه فيها التكبير فى أدبار الصلوات وعند الجمار {فمن تعجل} فمن عجل فى الفر أو استعجل النفر وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال تعجل فى الامر واستعجل ومتعديين يقال تعجل للذهاب واستعجله والمطاوعة اوفق بقوله ومن تأخر {في يومين} من هذه الايام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمى فى اليوم الثالث واكتفى برمى الجمار فى يومين من هذه الايام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمى في اليوم الثالث واكتفى برمى الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة {فلا إثم عليه} فلا يأثم بهذا التعجيل {ومن تأخر} حتى رمى فى اليوم الثالث {فلا إثم عليه لمن اتقى} الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير فى التعجيل والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل وقيل كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثما ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفى المأثم عنهما {واتقوا اللّه} فى جميع الأمور {واعلموا أنكم إليه تحشرون} حين يبعثكم من القبور كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم اللّه انى صادق فنزل فيه ٢٠٤{ومن الناس من يعجبك قوله} يروقك ويعظم فى قلبك ومنه الشئ العجيب الذى يعظم فى النفس {في الحياة الدنيا} فى يتعلق بالقول أى يعجبك ما يقوله فى معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة أو بيعجبك أى يعجبك حلو كلامه فى الدنيا لا فى الاخرة لما يرهقه فى الموقف من الحبسة واللكنة {ويشهد اللّه على ما في قلبه} أى يحلف ويقول اللّه شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام {وهو ألد الخصام} شديد الجدال والعداوة للمسلمين والخصام المخاصمة والإضافة بمعنى فى لأن افعل يضاف إلى ما هو بعضه تقول زيد افضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد فى الخصومة أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير وهو أشد الخصوم خصومة ٢٠٥{وإذا تولى} عنك وذهب بعد إلانه القول واحلاء المطنق {سعى في الأرض ليفسد فيها} كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلا وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم {ويهلك الحرث والنسل} أى الزرع والحيوان أو إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد فى الأرض باهلاك الحرث والنسل وقيل يظهر الظلم حتى يمنع اللّه بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل {واللّه لا يحب الفساد} ٢٠٦{وإذا قيل له} للأخنس {اتق اللّه} فى الإفساد والإهلاك {أخذته العزة بالإثم} حملته الخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذى ينهى عنه وألزمته ارتكابه أو الباء للسبب أى أخذته العزة من أجل الإثم الذى فى قلبه وهو الكفر {فحسبه جهنم} أى كافيه {ولبئس المهاد} أى الفراش جهنم ونزل فى صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه فاشترى نفسه بما له منهم وأتى المدينة أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل ٢٠٧{ومن الناس من يشري نفسه} يبيعها {ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوف بالعباد} حيث أثابهم على ذلك ٢٠٨{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم} وبفتح السين حجازى وعلى وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا للّه وأطيعوه أو الإسلام والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم {كافة} لا يخرج أحدمنكم يده عن طاعته حال من الضمير فى ادخلوا أى جميعا أو من السلم لانها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا فى الطاعات كلها أو فى شعب الإسلام وشرائعه كلها وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وساوسه {إنه لكم عدو مبين} ظاهر العداوة ٢٠٩{فإن زللتم} ملتم عن الدخول فيه هو الحق {فاعلموا أن اللّه عزيز} غالب لا يمنعه شيء من عذابكم {حكيم} لا يعذب إلا بحق وروى أن قارئا قرأ غفور رحيم فسمعه أعرابى لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام اللّه إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه اغراء عليه ٢١٠{هل ينظرون} ما ينتظرون {إلا أن يأتيهم اللّه} أى أمر اللّه وبأسه كقوله أو يأتى أمر ربك [النّحل:٣٣] فجاءها بأسنا أو المأتى به محذوف بمعنى أن يأتيهم اللّه ببأسه للدلالة عليه بقوله إن اللّه عزيز {في ظلل} جمع ظلة وهى ما أظلك {من الغمام} السحاب وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة فإذا أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول {والملائكة} أى وتأتى الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة {وقضي الأمر} أى وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه {وإلى اللّه ترجع الأمور} أى أنه ملك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور ترجع الأمور حيث كان شامى وحمزة وعلى ٢١١{سل} أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغنى عن همزة الوصل فصار سل وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسئل الكفرة يوم القيامة {بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} على أيدى أنبيائهم وهى معجزاتهم أو من آية فى الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام وكم استفهامية أو خبرية {ومن يبدل نعمة اللّه} هى آياته وهى أجل نعمة من اللّه لانها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها أن اللّه أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التّوبة:١٢٥] أى وحرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام {من بعد ما جاءته} من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه {فإن اللّه شديد العقاب} لمن استحقه ٢١٢{زين للذين كفروا الحياة الدنيا} المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها فى أعينهم بوساوسه وحببها اليهم فلا يريدون غيرها أو اللّه تعالى بخلق الشهوات فيهم و لأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ زين للذين كفروا الحيوة الدنيا {ويسخرون من الذين آمنوا} كانو يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أى لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها {والذين اتقوا} عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء {فوقهم يوم القيامة} لأنهم فى جنة عالية وهم فى نار هاوية {واللّه يرزق من يشاء بغير حساب} بغير تقتير بعنى أنه يوسع على من اراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره وهذه التوسعة عليكم من اللّه لحكمة وهى استدراجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم ٢١٣{كان الناس أمة واحدة} متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام أو هم نوح ومن كان معه فى السفينة فاختلفوا {فبعث اللّه النبيين} ويدل على حذفه قوله تعالى ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقرأءة عبد اللّه كان الناس أمة واحدة فاختلفوا وقوله تعالى {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس:١٩] أو كان الناس أمة واحدة كفارا فبعث اللّه النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه {مبشرين} بالثواب للمؤمنين {ومنذرين} بالعقاب للكافرين وهما حالان {وأنزل معهم الكتاب} أى مع كل واحد منهم كتابه {بالحق} بتبيان الحق {ليحكم} اللّه أو الكتاب اوالنبى المنزل عليه {بين الناس فيما اختلفوا فيه} فى دين الإسلام الذى اختلفوا فيه بعد الاتفاق {وما اختلف فيه} فى الحق {إلا الذين أوتوه} أى الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب {من بعد ما جاءتهم البينات} على صدقه {بغيا بينهم} مفعول له أى حسدا بينهم وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم {فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه} أى هدى اللّه الذين آمنوا للحق الذى اختلف فيه من اختلف فيه {من الحق} بيان لما اختلفوا فيه {بإذنه} بعلمه {واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ٢١٤أم حسبتم} أم منقطة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك أعندك زيد أم عمرو أى أيهما عندك وجوابه زيدان كان عند زيد أو عمرو إن كان عنده عمرو و اما أم المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة والتقدير بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجئ البينات تشجيعا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين و أهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له قال لهم على طريقة الالتفات التى هى أبلغ أم حسبتم {أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم} أى ولم يأتكم وفى لما معنى التوقع يعنى أن اتيان ذلك متوقع منتظر {مثل الذين خلوا} مضوا أى حالهم التى هى مثل فى الشدة {من قبلكم} من النبيين والمؤمنين {مستهم} بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلا قال كيف كان ذلك المثل فقيل مستهم {البأساء} أى البؤس {والضراء} المرض والجوع {وزلزلوا} وحركوا بأنواع البلايا وازعجوا ازعاجا شديدا شبيها بالزلزلة {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} إلى الغاية التى قال الرسول ومن معه من المؤمنين {متى نصر اللّه} أى بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم {ألا إن نصر اللّه قريب} إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر يقول بالرفع نافع على حكاية حال ماضية نحو شربت الابل حتى يجئ البعير يجر بطنه وغيره بالنصب على اضمار أن ومعنى الاستقبال لأن أن علم له ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم ماذا ننفق من اموالنا وأين نضعها نزل ٢١٥{يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هى فى التطوع {وما تفعلوا من خير فإن اللّه به عليم} فيجزى عليه ٢١٦{كتب عليكم القتال} فرض عليكم جهاد الكفار {وهو كره لكم} من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها فإنما هى إقبال وإدبار كأنه فى نفسه كراهة لفرط كراهتم له أو هو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أى وهو مكروه لكم {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} فأنتم تكروهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين اما الظفر والغنيمة واما الشهادة والجنة {وعسى أن تحبوا شيئا} وهو القعود عن الغزو {وهو شر لكم} لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر {واللّه يعلم} ما هو خير لكم {وأنتم لا تعلمون} ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به و إن شق عليكم ونزل فى سرية بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ٢١٧{يسألونك عن الشهر الحرام} أى يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام {قتال فيه} بدل الاشتمال من الشهر وقرىء عن قتال فيه على تكرير العامل كقوله للذين استضعفوا لمن آمن منهم [الاعراف:٧٥] {قل قتال فيه كبير} أى اثم كبير قتال مبتدأ وكبير خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وقد وصفت بغيه وأكثر الأقاويل على انها منسوخة بقوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التّوبة:٥] {وصد عن سبيل اللّه} أى منع المشركين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو متبدأ {وكفر به} أى باللّه عطف عليه {والمسجد الحرام} عطف على سبيل اللّه أى وصد عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء فى به أى كفر به وبالمسجد الحرام ولا يجوز عند البصريين العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار فلا تقول مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ولو كان معطوفا على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام {وإخراج أهله} أى أهل المسجد الحرم وهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون وهو عطف عليه أيضا {منه} من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة {أكبر عند اللّه} أى مما فعلته السرية من القتال فى الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن {والفتنة} الإخراج أو الشرك {أكبر من القتل} فى الشهر الحرام أو تعذيب الكفار المسلمين اشد قبحا من قتل هؤلاء المسلمين فى الشهر الحرام {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم} أى إلى الكفر وهو اخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وانهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم وحتى معناها التعليل نحو فلان يعبد اللّه حتى يدخل الجنة أى يقاتلونكم كى يردوكم وقوله تعالى {إن استطاعوا} استبعاد لا ستطاعتهم كقولك لعدوك إن ظفرت بى فلا تبق على و أنت واثق بانه لا يظفر بك {ومن يرتدد منكم عن دينه} ومن يرجع عن دينه إلى دينهم {فيمت وهو كافر} أى يمت على الردة {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين فى الدنيا من ثمرات الإسلام وفى الاخرة من الثواب وحسن المآب {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وبها احتج الشافعى رحمه اللّه على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها وقلنا قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين فى سبيل اللّه نزل ٢١٨{إن الذين آمنوا والذين هاجروا} تركوا مكة وعشائرهم {وجاهدوا في سبيل اللّه} مع المشركين ولا وقف عليه لأن {أولئك يرجون رحمة اللّه} خبر أن قيل من رجا طلب ومن خاف هرب {واللّه غفور رحيم} نزل فى الخمر أربع آيات نزل بمكة ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا فكان المسلمون يشربونها وهى لهم حلال ثم أن عمر ونفرا من الصحابة قالوا يا رسول اللّه أفتنا فى الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل ٢١٩{يسألونك عن الخمر والميسر} فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن ابن عوف جماعة فشربوا وسكروا وأم بعضهم فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزل لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [النساء:٤٣] فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر اللّهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزل إنما الخمر والميسر [المائدة:٩٠] إلى قوله فهل انتم منتهون [المائدة:٩١] فقال عمر انتهينا يا رب وعن على رضى اللّه عنه لو وقعت قطرة فى بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب وسميت بمصدر خمره خمرا إذا ستره لتغطيتها العقل والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد من فعله يقال يسرته إذا قمرته واشتقاقه من اليسر لأنه اخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب أو من اليسار كأنه سلب يساره وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم والتوأم وله سهمان والرقيب وله ثلاثة والحلس وله أربعة والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة والمعلى وله سبعة وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهى المنيح والسفيح والوغد فيجعلون الأقداح فى خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحا قدحا منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجذور كله وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه وفى حكم الميسر انواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما والمعنى يسألونك عما فى تعاطيهما بدليل {قل فيهما إثم كبير} بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور كثير حمزة وعلى {ومنافع للناس} بالتجارة فى الخمر والتلذذ بشربها وفى الميسر بارتفاق الفقراء أو نيل المال بلا كد {وإثمهما} وعقاب الاثم فى تعاطيهما {أكبر من نفعهما} لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} أى الفضل أى أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضا فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل و إذا كان صانعا أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة العفو أبو عمرو فمن نصبه جعل ماذا اسما واحدا فى موضع النصب بينفقون والتقدير قل ينفقون العفو ومن رفعه جعل ما مبتدأ وخبره ذا مع صلته فذا بمعنى الذي وينفقون صلته أى ما الذى ينفقون فجاء الجواب العفو أى هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال {كذلك} الكاف فى موضع نصب نعت لمصدر محذوف أى تبيينا مثل هذا التبيين {يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون ٢٢٠في الدنيا} أى فى أمر الدنيا {والآخرة} وفى يتعلق بتتفكرون أى تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتاخذون بما هو أصلح لكم أو تتفكرون فى الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ويجوز أن يتعلق بيبين أي يبين لكم الآيات فى أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون ولما نزل أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير} أى مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأمواهم خير من مجانبتهم {وإن تخالطوهم} وتعاشروهم ولم تجانبوهم {فإخوانكم} فهم إخوانكم فى الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه {واللّه يعلم المفسد} لأموالهم {من المصلح} لهم فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح {ولو شاء اللّه} اعناتكم {لأعنتكم} لحملكم على العنت وهو المشقة وأخرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم {أن اللّه عزيز} غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم {حكيم} لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم ولما سأل مرثد النبى صلى اللّه عليه وسلم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل ٢٢١{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} أى لا تتزوجوهن يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه {ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم} ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها {ولا تنكحوا المشركين} ولا تزوجوهم بمسلمة كدا قاله الزجاج وقال جامع العلوم حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين {حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} ثم بين علة ذلك فقال {أولئك} وهو إشارة إلى المشركات والمشركين {يدعون إلى النار} إلى الكفر الذى هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا {واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة} أى وأولياء اللّه وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم {بإذنه} بعلمه أو بأمره {ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} يتعظون كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود والمجوس فسأل أبو الدحداح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك وقال يارسول اللّه كيف نصنع بالنساء إذا حضن فنزل ٢٢٢{ويسألونك عن المحيض} هو مصدر يقال حاضت محيضا كقولك جاء مجيئا {قل هو أذى} أى المحيض شيء يستقذر ويؤذى من يقربه {فاعتزلوا النساء في المحيض} فاجتنبوهن أى فاجتنبوا مجامعتهن وقيل إن النصارى كانوا يجامعونهن لا يبالون بالحيض واليهود كانوا يعتزلونهن فى كل شيء فأمر اللّه بالاقتصاد بين الأمرين ثم عند ابى حنيفة و ابى يوسف رحمهما اللّه يجتنب ما اشتمل عليه الازار ومحمد رحمه اللّه لا يوجب إلا اعتزال الفرج وقالت عائشة رضى اللّه عنها يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك {ولا تقربوهن} مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن {حتى يطهرن} بالتشديد كوفى غير حفص أى يغتسلن وأصله يتطهرن فأدغم التاء فى الطاء لقرب مخرجيهما غيرهم يطهرن أى ينقطع دمهن والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها فى أكثر الحيض بعد انقطاع الدم و إن لم تغتسل عملا بقراءة التخفيف وفى أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت الصلاة عملا بقراءة التشديد والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف وعند الشافعى رحمه اللّه لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى {فإذا تطهرن فأتوهن} فجامعوهن فجمع بينهما {من حيث أمركم اللّه} من المأتى الذى أمركم اللّه به وحللّه لكم وهو القبل {إن اللّه يحب التوابين} من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى اللّه تعالى و إن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو اللّه حيث لا ييأس {ويحب المتطهرين} بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع فى الحيض أو من الفواحش كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة اتى الولد أحول فنزل ٢٢٣{نساؤكم حرث لكم} مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحاريث تشبيها لما يلقى فى أرحامهن من النطف التى منها النسل بالبذور والولد بالبنات ووقع قوله {نساؤكم حرث لكم} بيانا وتوضيحا لقوله {فأتوهن من حيث أمركم اللّه} أى أن المأتى الذى أمركم اللّه به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيها على أن المطلوب الأصلى فى الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتى الذى نيط به هذا المطلوب {فأتوا حرثكم أنى شئتم} جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث وهو تمثيل أى فأتوهن كما تأتون اراضيكم التى تريدون أن تحرثوها من أى جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة وقوله هو أذى فاعتزلوا النساء... من حيث أمركم اللّه [البقرة:٢٢٢] فأتوا حرثكم أنى شئتم من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها فى المحاورات والمكاتبات {وقدموا لأنفسكم} ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه أو هو طلب الولد أو والتسمية على الوطء {واتقوا اللّه} فلا تجترءوا على المناهى {واعلموا أنكم ملاقوه} صائرون إليه فاستعدوا للقائه {وبشر المؤمنين} بالثواب يا محمد و إنما جاء يسئلونك ثلاث مرات بلا واو ثم مع واو ثلاثا لأن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول كأنه وقع فى أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ وسألوا عن الحوادث الآخر فى وقت واحد فجئ بحرف الجمع لذلك ٢٢٤{ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم} العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهى اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه تقول فلان عرضة دون الخير وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أو عبادة ثم يقول أخاف اللّه أن أحنث فى يمينى فيترك البر إرادة البر فى يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم أى حاجزا لما حلفتم عليه وسمى المحلوف عليه يمينا بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وقوله {أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} عطف بيان لايمانكم أى للأمور المحلوف عليها التى هى البر والتقوى والإصلاح بين الناس واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا اللّه لإيمانكم برزخا ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة أى ولا تجعلوا اللّه لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا {واللّه سميع} لأيمانكم {عليم} بنياتكم ٢٢٥{لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم} اللغو الساقط الذى لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين الساقط الذى لا يعتد به فى الإيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه و الامر بخلاقه والمعنى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذى يحلفه أحدكم وعندالشافعى رحمه اللّه هو ما يجرى على لسانه من غير قصد للحلف نحو لا واللّه وبلى واللّه {ولكن يؤاخذكم} ولكن يعاقبكم {بما كسبت قلوبكم} بما اقترفته من اثم القصد إلى الكذب فى اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس وتعلق الشافعى بهذا النص على وجوب الكفارة فى الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت فى المائدة فكان البيان ثمة بيانا هنا وقلنا المؤاخذة هنا مطللقة وهى فى دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض {واللّه غفور حليم} حيث لم يؤاخذكم باللغو فى أيمانكم ٢٢٦{للذين يؤلون} يقسمون وهى قراءة ابن عباس رضى اللّه عنه ومن في {من نسائهم} يتعلق بالجار والمجرور أى للذين كما تقول لك متى نصرة ولك منى معونة أى للمؤلين من نسائهم {تربص أربعة أشهر} أى استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا بيؤلون لأن آلى بعدى بعلى يقال آلى فلان على امرأته وقول القائل آلى فلان من امرأته وهم توهمه من هذه الآية ولك أن تقول عدى بمن لما فى هذا القسم من معنى فكأنه قيل يبعدون من نسائهم مؤلين {فإن فاؤوا} فى الأشهر لقراءة عبد اللّه فإن فاءوا فيهن أى رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه {فإن اللّه غفور رحيم} حيث شرع الكفارة ٢٢٧{وإن عزموا الطلاق} بترك الفئ فتربصوا إلى مضى المدة {فإن اللّه سميع} لإبلائه {عليم} بنيته وهو وعيد على اصرارهم وتركهم الفيئة وعند الشافعى رحمه اللّه معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضى المدة لأن الفاء للتعقيب وقلنا قوله فإن فاءوا [البقرة:٢٢٦] وان عزموا تفصيل لقوله للذين يؤلون من نسائهم [البقرة:٢٢٦] والتفصيل يعقب المفصل كما تقول انا نزيلكم هذا الشهر فإن احمدتكم اقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول ٢٢٨{والمطلقات} أراد المدخول بهن من ذوات الإقراء {يتربصن بأنفسهن} خبر فى معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات و إخراج الأمر فى صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الامر بالتربص فهو يخبر عنه موجودا ونحوه قولهم فى الدعاء رحمك اللّه أخرج فى صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها وبناءه على المتبدأ مما زاده أيضا فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام واثبات بخلاف الفعلية وفى ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص {ثلاثة قروء} جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام: دعى الصلاة أيام اقرائك وقوله: طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان. ولم يقل طهران وقوله تعالى {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر} [الطلاق:٤] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الإطهار و لأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذى يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة و لأنه لو كان طهرا كما قال الشافعى لا نقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقض العدد عن الثلاثة لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده و إذا طلقها فى آخر الحيض فذا غير محسوب من العدة عندنا والثلاث اسم خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرئ وانتصاب ثلاثة على أنه مفعول به أى يتربصن مضى ثلاثة قروء أو على الظرف أى يتربصن مدة ثلاثة قروء وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التى هى الإقراء لاشتراكهما فى الجمعية اتساعا ولعل القروء كانت اكثر استعمالا فى جمع قرء من الإقراء فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن} من الولد أو من دم الحيض أو منهما وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها أو كتمت حيضها وقالت وهى حائض قد طهرت استعجالا للطلاق ثم عظم فعلهن فقال {إن كن يؤمن باللّه واليوم الآخر} لأن من امن باللّه وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم {وبعولتهن} البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع {أحق بردهن} أى أزواجهن أولى برجعتهن وفيه دليل على أن الطلاق الرجعى لا يحرم الوطء حيث سماه زوجا بعد الطلاق {في ذلك} فى مدة ذلك التربص والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقا فى الرجعة {إن أرادوا} بالرجعة {إصلاحا} لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن {ولهن مثل الذي} يجب لهم {عليهن} من الأمر والنهى {بالمعروف} بالوجه الذى لا ينكر فى الشرع وعادات الناس فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب فى كونه حسنه لا فى جنس الفعل فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال {وللرجال عليهن درجة} زيادة الحق وفضيلة بالقيام بأمرها و أن اشتركا فى اللذة والاستمتاع أو بالانفاق وملك النكاح {واللّه عزيز} لا يعترض عليه فى أموره {حكيم} لا يامر إلا بما هو صواب وحسن ٢٢٩{الطلاق مرتان} الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أى التطيلق الشرعى تطيلقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله {ثم ارجع البصر كرتين} أى كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا فى أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة فى طهر واحد لأن اللّه تعالى أمرنا بالتفريق لأنه و إن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر ولا يؤدى إلى الخلف فى خبر اللّه تعالى لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد وقيل قالت أنصارية أن زوجى قال لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت الطلاق مرتان أى الطلاق الرجعى مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث {فإمساك بمعروف} برجعة والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف {أو تسريح بإحسان} بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة وقيل بأن لا يطلقها الثالثة فى الطهر الثالث ونزل فى جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد اعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان فى الإسلام {ولا يحل لكم} أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون الأخذ والايتاء عند الترافع اليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون {أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} مما اعطيتموهن من المهور {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه} إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود اللّه فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها {فإن خفتم} ايها الولاة وجاز أن يكون أول الخطاب للأزواج وآخره للحكام {ألا يقيما حدود اللّه فلا جناح عليهما} فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت {فيما افتدت به} فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر إلا أن يخافا حمزة على البناء للمفعول وابدال ألا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو خيف زيد تركه إقامة حدود اللّه {تلك حدود اللّه} أى ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك {فلا تعتدوها} فلا تجاوزوها بالمخالفة {ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون} الضارون أنفسهم ٢٣٠{فإن طلقها} مرة ثالثة بعد المرتين فإن قلت الخلق طلاق عندنا وكذا عند الشافعى رحمه اللّه فى قول فكان هذه تطليقة رابعة قلت الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة وهذا بيان للتلك أى فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا {فلا تحل له من بعد} من بعد التطليقة الثالثة {حتى تنكح زوجا غيره} حتى يتزوج غيره والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتهم والإصابة شرطت بحيث العسيلة كما عرف فى اصول الفقه والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلص لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه {فإن طلقها} الزوج الثاني بعد الوطء {فلا جناح عليهما} على الزوج الأول وعليها {أن يتراجعا} أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج {إن ظنا أن يقيما حدود اللّه} إن كان فى ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجيه ولم يقل أن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللّه {وتلك حدود اللّه يبينها} وبالنون المفضل {لقوم يعلمون} يفهمون ما بين لهم ٢٣١{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} أى آخر عدتهن وشارفن منتهاها والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها يقال لعمر الإنسان أجل وللموت الذى ينتهى به أجل {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} أى فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة و إما أن يخليها حتى تنقضى عدتها وتبين من غير ضرار {ولا تمسكوهن ضرارا} مفعول له أو حال أى مضارين وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطول العدة عليها فهو الامساك ضرارا {لتعتدوا} لتظلموهن أو لتلجئهون إلى الاقتداء {ومن يفعل ذلك} يعنى الامساك للضرار {فقد ظلم نفسه} بتعريضها لعقاب اللّه {ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا} أى جدوا فى الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها و إلا فقد اتخذتموها هزوا يقال لمن لم يجد فى الامر إنما أنت لاعب وهازئ {واذكروا نعمة اللّه عليكم} بالاسلام وبنبوة محمد عليه السلام {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها {يعظكم به} بما أنزل عليكم وهو حال {واتقوا اللّه} فيما امتحنكم به {واعلموا أن اللّه بكل شيء عليم} من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد ٢٣٢{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} أى انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على اقتران البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة الأولى الرجعة وذا يكون فى العدة {فلا تعضلوهن} فلا تمنعوهن العضل المنع والتضييق {أن ينكحن} من أن ينكحن {أزواجهن} الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء والخطاب للازواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلما ولا يتركونهن يتزوجهن من شئن من الأزواج سموا أزواجا باسم ما يؤول إليه أو للأولياء فى عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجا لهن سموا أزواجا باعتبار ما كان نزلت فى معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول أو للناس أى لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا فى حكم العاضلين {إذا تراضوا بينهم} إذا تراضى الخطاب والنساء {بالمعروف} بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا والخطاب فى {ذلك} للنبى صلى اللّه عليه وسلم أو لكل واحد {يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر} فالمواعظ إنما تنجح فيهم {ذلكم} أى ترك العضل والضرار {أزكى لكم وأطهر} أى لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر أفضل وأطيب {واللّه يعلم} ما فى ذلك من الزكاء والطهر {وأنتم لا تعلمون} ذلك ٢٣٣{والوالدات يرضعن أولادهن} خبر فى معنى الامر المؤكد كيتربصن وهذا الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبى إلا ثدى امه أو لم توجد له ظئرا وكان الأب عاجزا عن الاستئجار أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لآجل الرضاع {حولين} ظرف {كاملين} تامين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما {لمن أراد أن يتم الرضاعة} بيان لمن توجه إليه الحكم أى هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بارضاعه وهى مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ولا يجوز استئجار الام ما دامت زوجة أو معتدة {وعلى المولود له} الهاء يعود إلى اللام بمعنى الذى والتقدير وعلى الذى يولد له وهو الوالد وله في محل الرفع على الفاعلية كعليهم في المغضوب عليهم وإنما قيل على المولود له دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للأباء والنسب اليهم لا اليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا ارضعن ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا} {رزقهن وكسوتهن بالمعروف} بلا إسراف ولا تقتير وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا {لا تكلف نفس إلا وسعها} وجدها أو قدر إمكانها ولتكليف إلزام ما يؤثره فى الكلفة وانتصاب وسعها على أنه مفعول ثان لتكلف لاعلى الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين {لا تضار} مكى وبصرى بالرفع على الاخبار ومعناه النهى وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول و أن يكون الأصل تضار بكسر الراء أو تضار بفتحها الباقون لا تضار على النهى والأصل تضار أسكنت الراء الأولى وأدغمت فى الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين {والدة بولدها} أى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة و أن تشغل قلبه بالتفريط فى شأن الولد وأن تقول بعد ما ألفها الصبى اطلب له ظئرا وما أشبه ذلك {ولا مولود له بولده} أى ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيء مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهى تريد إرضاعه و إذا كان مبنيا للمفعول فهو نهى عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أى لا تضر والدة ولدها فلا تسئ غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر فى حقها فتقصرهى فى حق الولد وإنما قيل بولدها وبولده لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافا لها عليه وكذلك الوالد {وعلى الوارث} عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أى وعلى وارث الصبى عند عدم الأب {مثل ذلك} أى مثل الذى كان على أبيه فى حياته من الرزق والكسوة واختلف فيه فعند ابن ابى ليلى كل من ورثة وعندنا من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه وعلى الوارث ذى الرحم المحرم مثل ذلك وعند الشافعى رحمه اللّه لا نفقة فيما عدا الولاد {فإن أرادا} يعنى الأبوين {فصالا} فطاما صادرا {عن تراض منهما وتشاور} بينهما {فلا جناح عليهما} فى ذلك زاد على الحولين أو نقصا وهذه توسعة بعد التحديد والتشاور استخراج الرأى من شرت العسل إذا استخرجته وذكره ليكون التراض عن تفكر فلا يضر الرضيع فسبحان الذى أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} أى لأولادكم عن الزجاج وقيل استرضع منقول من أرضع يقال أرضعت المرأة الصبى واسترضعتها الصبى معدى إلى مفعولين أى أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعلولين يعنى غير الأم عند إبائها أو عجزها {فلا جناح عليكم إذا سلمتم} إلى المراضع {ما آتيتم} ما أردتم إيتاءه من الأجرة أتيتم مكى من أتى إليه إحسنانا إذا فعله ومنه قوله كان وعده مأتيا [مريم:٦١] أى مفعولا والتسليم ندب لا شرط للجواز {بالمعروف} متعلق بسلمتم أى سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور {واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه بما تعملون بصير} لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها ٢٣٤{والذين يتوفون منكم} تقول توفيت الشئ واستوفيته إذا أخذته وافيا تاما أى تستوفى أرواحهم {ويذرون} ويتركون {أزواجا يتربصن بأنفسهن} أى وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أى يعتددن أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعد هم للعلم به و إنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ فى الجملة التى وقعت خبرا يتوفون المفضل أى يستوفون آجالهم {أربعة أشهر وعشرا} أى وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهابا إلى الأيام تقول صمت عشرا ولو ذكرت لخرجت من كلامهم {فإذا بلغن أجلهن} فإذا انقضت عدتهن {فلا جناح عليكم} أيها الأئمة والحكام {فيما فعلن في أنفسهن} من التعرض للخطاب {بالمعروف} بالوجه الذى لا ينكره الشرع {واللّه بما تعملون خبير} عالم بالبواطن ٢٣٥{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} الخطبة الاستنكاح والتعريض أن تقول لها إنك بجميلة أو صالحة ومن غرضى أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إنى اريد أن أتزوجك والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشئ بغير لفظه الموضوع له والتعريض أن تذكر شيئا تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا وحسبك بالتسليم منى تقاضيا فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض {أو أكننتم في أنفسكم} أو سترتم وأضمرتم فى قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين {علم اللّه أنكم ستذكرونهن} لا محالة ولا تنفكون عن النطق النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن {ولكن لا تواعدوهن سرا} جماعا لأنه مما يسر أى لا تقولوا فى العدة إنى قادر على هذا العمل {إلا أن تقولوا قولا معروفا} وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا و إلا متعلق بلا تواعدوهن أى لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة {ولا تعزموا عقدة النكاح} من عزم الأمر وعزم عليه وذكر العزم مبالغة فى النهى عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل انهى ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث: لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل. وروى لمن لم يبيت الصيام أى ولا تعزموا على عقدة النكاح {حتى يبلغ الكتاب أجله} حتى تنقضى عدتها وسميت العدة كتابا لانها فرضت بالكتاب يعنى حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أى غايته {واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم} من العزم على ملا يجوز {فاحذروه} ولا تعزموا عليه {واعلموا أن اللّه غفور حليم} لا يعاجلكم بالعقوبة ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهرا ولا جامعها ٢٣٦{لا جناح عليكم} أى لا تبعة عليكم من إيجاب مهر {إن طلقتم النساء} شرط ويدل على جوابه لا جناح عليكم والتقدير إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم {ما لم تمسوهن} ما لم تجامعوهن وما شرطية أى أن لم تمسوهن تماسوهن حمزة وعلى حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين {أو تفرضوا لهن فريضة} إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر وان لم يسم لها مهر فليس لها نصب مهر المثل بل تجب المتعة والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله {وإن طلقتموهن} الى قوله {فنصف ما فرضتم} فقوله فنصف ما فرضتم إثبات للجناح المنفى ثمة {ومتعوهن} معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعهون والمتعة درع وملحفة وخمار {على الموسع} الذى له سعة {قدره} مقدراه الذى يطيقه قدره فيهما كوفى غير أبى بكر وهما لغتان {وعلى المقتر} الضيق الحال {قدره} ولا تجب المتعة عندنا إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات {متاعا} تأكيد لمتعوهن أى تمتيعا {بالمعروف} بالوجه الذى يحسن فى الشرع والمروءة {حقا} صفة لمتاعا أى متاعا واجبا عليهم أو حق ذلك حقا {على المحسنين} على المسلمين أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام: من قتل قتيلا فله سلبه وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة ثم بين حكم التى سمى لها مهرا فى الطلاق قبل المس فقال ٢٣٧{وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} أن مع الفعل بتأويل المصدر فى موضع الجر أى من قبل مسكم إياهن {وقد فرضتم} في موضع الحال {لهن فريضة} مهرا {فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} يريد المطلقات وأن مع الفعل فى موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل فعليكم نصف ما فرضتم فى جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر والفرق بين الرجال يعفون والنساء يعفون أن الواو فى الأول ضميرهم والنون علم الرفع والواو فى الثاني لام الفعل والنون ضميرهن والفعل مبنى لا أثر فى لفظه للعامل {أو يعفو} عطف على محله {الذي بيده عقدة النكاح} هو الزوج كذا فسره على رضى اللّه عنه وهو قول سعيد بن جبير وشريح و مجاهد و أبي حنيفة والشافعى على الجديد رضى اللّه عنهم وهذا لأن الطلاق بيده فكان بقاء العقد بيده والمعنى أن الواجب شرعا هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطى هو الكل تفضلا وعند مالك والشافعى فى القديم هو الولى قلنا هو لا يملك التبرع بحق الصغير فكيف يجوز حمله عليه {وأن تعفوا} مبتدأ خبره {أقرب للتقوى} والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أى عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له وعفو المرأة باسقاط كله خير لها أو للازواج {ولا تنسوا الفضل} التفضيل {بينكم} أى ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض {إن اللّه بما تعملون بصير} فيجازيكم على تفضلكم ٢٣٨{حافظوا على الصلوات} داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها {والصلاة الوسطى} بين الصلوات أى الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط و إنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفصل وهى صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه اللّه وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه بيوتهم نارا وقال عليه السلام: أنها الصلاة التى شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب وفى مصحف حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر و لانها بين صلاتى الليل وصلاة النهار وفضلها لما فى وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم وقيل صلاة الظهر لأنها في وسط النهار أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتى النهار وصلاتى الليل أو صلاة المغرب لانها بين الأربع والمثنى ولأنها بين صلاتى مخافتة وصلاتى جهر أو صلاة العشاء لأنها بين وترين أو هى غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل {وقوموا للّه} فى الصلاة {قانتين} حال أى مطيعين خاشعين أو ذاكرين اللّه فى قيامكم والقنوت أن تذكر اللّه قائما أو مطيلين القيام ٢٣٩{فإن خفتم} فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره {فرجالا} حال أى فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام {أو ركبانا} وحدانا بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة {فإذا أمنتم} فإذا زال خوفكم {فاذكروا اللّه} فصلوا صلاة الأمن {كما علمكم} أى ذكرا مثل ما علمكم {ما لم تكونوا تعلمون} من صلاة الأمن ٢٤٠{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} بالنصب شامى و أبو عمرو وحمزة وحفص أى فليوصوا وصية عن الزجاج غيرهم بالرفع أى فعليهم وصية {متاعا} نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعا {إلى الحول} صفة لمتاعا {غير إخراج} مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول أو بدل من متاعا والمعنى أن حق الذين يتوفون عن ازواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا أى يتفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن وكان ذلك مشروعا فى أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} إلى قوله أربعة أشهر وعشرا [البقرة:٢٣٤] والناسخ متقدم عليه تلاوة ومتأخر نزولا كقوله تعالى {سيقول السفهاء من الناس} مع قوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء} {فإن خرجن} بعد الحول {فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن} من التزين والتعرض للخطاب {من معروف} مما ليس بمنكر شرعا {واللّه عزيز حكيم} فيما حكم ٢٤١{وللمطلقات متاع} أى نفقة العدة {بالمعروف حقا} نصب على المصدر {على المتقين ٢٤٢كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تعقلون} هو فى موضع الرفع لأنه خبر لعل و وأن اريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكروة وهى على سبيل الندب ٢٤٣{ألم تر} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب {إلى الذين خرجوا من ديارهم} من قرية قيل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم اللّه ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام وقيل هم قوم من بنى اسرائيل دعاهم ملكهم إلى ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم اللّه ثمانية أيام ثم أحياهم {وهم ألوف} فى موضع النصب على الحال وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهى جمع ألف لا آلف {حذر الموت} مفعول له {فقال لهم اللّه موتوا} أى فأماتهم اللّه و إنما جئ به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر اللّه ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد و أن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل اللّه {ثم أحياهم} ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم اللّه وقضائه وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم احياهم أو لما كان معنى قوله فقال لهم اللّه موتوا فأماتهم كان عطفا عليه معنى {إن اللّه لذو فضل على الناس} حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} ذلك والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثا على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال فى سبيل اللّه وهو قوله ٢٤٤{وقاتلوا في سبيل اللّه} فحرض على الحهاد بعد الاعلام بأن الفرار من الموت لا يغنى وهذا الخطاب لأمه محمد عليه السلام أو لمن أحياهم {واعلموا أن اللّه سميع} يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون {عليم} بما يضمرونه ٢٤٥{من} استفهام فى موضع رفع بالابتداء {ذا} خبره {الذي} نعت لذا أو بدل منه {يقرض اللّه} صلة الذى سمى ما ينفق فى سبيل اللّه قرضا لأن القرض ما يقبض ببدل ببدل مثله من بعد سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه والقرض القطع منه المفراض وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده و أنه يجزيهم عليه لا محالة {قرضا حسنا} بطيبة النفس من المال الطيب والمراد النفقة فى الجهاد لأنه لما أمر بالقتال فى سبيل اللّه ويحتاج فيه إلى المال حث على الصدقة ليتهيا أسباب الجهاد {فيضاعفه له} بالنصب عاصم على جواب الاستفهام وبالرفع أبو عمرو ونافع وحمزة وعلى عطفا على يقرض أو هو مستانف أى فهو يضاعفه فيضعفه شامى فيضعفه مكى {أضعافا} فى موضع المصدر {كثيرة} لا يعلم كنهها إلا اللّه وقيل الواحد بسبعمائة {واللّه يقبض ويبسط} يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة ويبصط حجازى وعاصم وعلى {وإليه ترجعون} فيجازيكم على ما قدمتم ٢٤٦{ألم تر إلى الملإ} الأشراف لأنهم يملئون القلوب جلالة والعيون مهابة {من بني إسرائيل} من للتبعيض {من بعد موسى} من بعد موته ومن لابتداء الغاية {إذ قالوا} حين قالوا {لنبي لهم} هو شمعون أو يوشع أو اشمويل {ابعث لنا ملكا} انهض للقتال معنا أميرا نصدر فى تدبير الحرب عن رأيه وننتهى إلى أمره {نقاتل} بالنون والجزم على الجواب {في سبيل اللّه} صلة نقاتل {قال} النبى {هل عسيتم} عسيتم حيث كان نافع {إن كتب عليكم القتال} شرط فاصل بين اسم عسى وخبره وهو {ألا تقاتلوا} والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعنى هل الأمر كما أتوقعه انكم لا تقاتلون وتجبنون فادخل هل مستفهما عما هو متوقع عنده وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وانه صائب فى توقعه {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل اللّه} و أى داع لنا إلى ترك القتال و أى غرض لنا فيه {وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} الواو فى وقد للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد {فلما كتب عليهم القتال} أى أجيبوا إلى ملتمسهم {تولوا} أعرضوا عنه {إلا قليلا منهم} وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر {واللّه عليم بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد ٢٤٧{وقال لهم نبيهم إن اللّه قد بعث لكم طالوت} هو اسم أعجمى كجالوت وداود ومنع من الصرف للتعريف والعجمة {ملكا} حال {قالوا أنى يكون له الملك علينا} أى كيف ومن اين وهو انكار لتملكه عليهم واستبعاد له {ونحن أحق بالملك منه} الواو للحال {ولم يؤت سعة من المال} أى كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير ولا بد للملك من مال يعتضد به و إنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت فى سبط لاوى بن يعقوب عليه السلام والملك فى سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين وكان رجلا سقاء أو دباغا فقيرا وروى أنه نبيهم دعا اللّه حيث طلبوا منه ملكا فاتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت {قال إن اللّه اصطفاه عليكم} الطاء فى اصطفاه بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أى اختاره عليكم وهو اعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العم المبسوط والجسامة فقال {وزاده بسطة} مفعول ثان {في العلم والجسم} قالوا كان أعلم بنى إسرائيل بالحرب والديانات فى وقته وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه والبسطة السعة والامتداد والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدرى غير منتفع به و أن يكون حسيما لأنه أعظم فى النفوس وأهيب فى القلوب {واللّه يؤتي ملكه من يشاء} أى الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة {واللّه واسع} أى واسع الفضل والعطاء يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر {عليم} بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء اللّه طالوت ٢٤٨{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت} أى صندوق التوراة وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بنى اسرائيل ولا يفرون {فيه سكينة من ربكم} سكون وطمأنينة {وبقية} هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشئ من التوارة ونعلا موسى وعمامة هرون عليهما السلام {مما ترك آل موسى وآل هارون} أى مما تركه موسى وهرون والآل مقحم لتفخيم شأنهما {تحمله الملائكة} يعنى التابوت وكان رفعه اللّه بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه والجملة فى موضع الحال وكذا فيه سكينة ومن ربكم نعت لسكينة ومما ترك نعت لبقية {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين} إن فى رجوع التابوت إليكم علامة أن اللّه قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين ٢٤٩{فلما فصل طالوت} خرج {بالجنود} عن بلده إلى جهاد العدو وبالجنود فى موضع الحال أى مختلطا بالجنود وهم ثمانون ألفا وكان الوقت قيظا وسألوا أن يجرى اللّه لهم نهرا {قال إن اللّه مبتليكم} مختبركم أى يعاملكم معاملة المختبر {بنهر} وهو نهر فلسطين ليتميز المحق فى الجهاد من المعذر {فمن شرب منه} كريما {فليس مني} فليس من اتباعى وأشياعى {ومن لم يطعمه} ومن لم يذقه من طعم الشئ إذا ذاقه {فإنه مني} وبفتح الياء مدنى و أبو عمرو واستثنى {إلا من اغترف} من وقوله فمن شرب منه فليس منى والجملة الثانية فى حكم المتأخره عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية {غرفة بيده} غرفة حجازى و أبو عمرو بمعنى المصدر وبالضم بمعنى المعروف ومعناه الرخصة فى اغتراف الغرفة باليد دون الكرع والدليل عليه {فشربوا منه} أى فكرعوا {إلا قليلا منهم} وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا {فلما جاوزه} أى النهر {هو} طالوت {والذين آمنوا معه} أى القليل {قالوا لا طاقة لنا اليوم} أى لا قوة لنا {بجالوت} هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان فى بيضته ثلثمائة رطل من الحديد {وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا اللّه} يوقنون بالشهادة قيل الضمير فى قالوا للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه وروى أنه الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وأدواته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش {كم من فئة قليلة} كم خبرية وموضعها رفع بالابتداء {غلبت} خبرها {فئة كثيرة بإذن اللّه} بنصره {واللّه مع الصابرين} بالنصر ٢٥٠{ولما برزوا لجالوت وجنوده} خرجوا لقتالهم {قالوا ربنا أفرغ} أصبب {علينا صبرا} على القتال {وثبت أقدامنا} بتقوية قلوبنا والقاء الرعب فى صدور عدونا {وانصرنا على القوم الكافرين} أعنا عليهم ٢٥١{فهزموهم} أى طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده {بإذن اللّه} بقضائه {وقتل داود جالوت} كان بيشا أبو داود فى عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم فأوحى اللّه إلى نبيهم أن داود هو الذى يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر فى طريقة بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له إنك تقتل بنا جالوت فحملها فى مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجة طالوت بنته ثم حسده و أراد قتله ثم مات تائبا {وآتاه اللّه الملك} فى مشارق الأرض المقدسة ومغاربها وما اجتمعت بنوإسرائيل على ملك قط قبل داود {والحكمة} والنبوة {وعلمه مما يشاء} من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك {ولولا دفع اللّه الناس} هو مفعول به {بعضهم} بدل من الناس دفاع مدنى مصدر دفع أو دافع {ببعض لفسدت الأرض} أى ولولا أن اللّه تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل أو ولولا أن اللّه تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد {ولكن اللّه ذو فضل على العالمين} بازالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة فى مسألة الأصلح ٢٥٢{تلك} مبتدأ خبره {آيات اللّه} يعنى القصص التى اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبى {نتلوها} حال من آيات اللّه والعامل فيه معنى الإشارة أو آيات اللّه بدل من تلك ونتلوها الخبر {عليك بالحق} باليقين الذى لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه فى كتبهم كذلك {وإنك لمن المرسلين} حيث تحير بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله ٢٥٣{تلك الرسل} إشارة إلى جماعة الرسل التى ذكرت قصصها فى هذه السورة من آدم إلى داود أو التى ثبت علمها عند رسول اللّه عليه السلام {فضلنا بعضهم على بعض} بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون فى صفة الإيمان ويتفاوتون فى الطاعات بعد الإيمان ثم بين ذلك بقوله {منهم من كلم اللّه} أى كلمه اللّه حذف العائد من الصلة يعنى منهم من فضلة اللّه بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام {ورفع بعضهم} مفعول أول {درجات} مفعول ثان أى بدرجات أو إلى درجات يعنى ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم فى الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة وبأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر وفى هذا الابهام تفخيم وبيان أنه العلم الذى لا يشتبه على أحد والمتميز الذى لا يلتبس وقيل أريد به محمد و إبراهيم وغيرهما من أولى العزم من الرسل {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} كاحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك {وأيدناه بروح القدس} قويناه بجبريل أو بالانجيل {ولو شاء اللّه ما اقتتل} أى ما اختلف لأنه سببه {الذين من بعدهم} من بعد الرسل {من بعد ما جاءتهم البينات} المعجزات الظاهرات {ولكن اختلفوا} بمشيئتى ثم بين الاختلاف فقال {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} بمشيئتى يقول اللّه تعالى أجريت أمور رسلى على هذا أى لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته فى حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر {ولو شاء اللّه ما اقتتلوا} كرره للتأكيد أى لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجرى فى ملكى إلا ما يوافق مشيئتى وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء ألا يقتتلوا فاقتتلوا {ولكن اللّه يفعل ما يريد} أثتب الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة ٢٥٤ {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من ما رزقناكم} فى الجهاد فى سبيل اللّه أو هو عام فى كل صدقة واجبة {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} أى من قبل أن يأتى يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الانفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه {ولا خلة} حتى يسامحكم أخلاؤكم به {ولا شفاعة} أى للكافرين فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه {والكافرون هم الظالمون} أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة مكى وبصرى ٢٥٥{اللّه لا إله إلا هو} لا مع إسمه وخبره وما أبدل من موضعه فى موضع الرفع خبر المبتدأ وهو اللّه {الحي} الباقى الذى لا سبيل عليه للفناء {القيوم} الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه {لا تأخذه سنة} نعاس وهو ما يتقدم النوم من الفتور {ولا نوم} عن المفضل السنة ثقل فى الرأس والنعاس فى العين والنوم فى القلب وهو تأكيد للقيوم لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوما وقد أوحى إلى موسى عليه السلام قل لهؤلاء أنى أمسك السموات بقدرتى فلوا أخذنى نوم أو نعاس لزالتا {له ما في السماوات وما في الأرض}ملكا وملكا {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ليس لأحد ان يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه و أن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له فى الكلام وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما فى السموات و الأرض لأن فيهم العقلاء {ولا يحيطون بشيء من علمه} من معلومه يقال فى الدعاء اللّهم اغفر علمك فينا أى معلومك {إلا بما شاء} إلا بما علم {وسع كرسيه السماوات والأرض} أى علمه ومنه الكرامة لتضمنها العلم والكراسى بالعلماء وسمى العلم كرسيا تسمية بمكانه الذى هو كرسى العالم وهو كقوله تعالى ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما [المؤمن:٧] أو ملكه تسمية بمكانه الذىهو كرسى الملك وعرشه كذا عن الحسن أو هو سرير دون العرض فى الحديث: ما السموات السبع فى الكرسى إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل الفلاة على تلك الحلقة أو قدرته بدليل قوله {ولا يؤوده} ولا يثقله ولا يشق عليه {حفظهما} حفظ السموات و الأرض {وهو العلي} فى ملكه وسلطانه {العظيم} فى عزه وجلاله أو العلى المتعالى عن الصفات التى لا تليق به العظيم المتصف بالصفات التى تليتى به فهما جامعان لكمال التوحيد و إنما ترتبت الجمل فى آية الكرسى بلا حرف عطف لانها وردت على سبيل البيان فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه والثانية لكونه مالكا لما يدبره والثالثه لكبرياء شأنه والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلالة وعظم قدره و إنما فضلت هذه الآية حتى ورد فى فضلها ما ورد ما روى عن على رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد. و من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه اللّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله وقال عليه السلام:: سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الأيام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسى وقال: ما قرئت هذه الآية فى دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة اربعين ليلة وقال: من قرأ آية الكرسى عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح وقال: من قرأ هاتين الآيتين حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح و إن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى آية الكرسى و أول حم المؤمن إلى إليه المصير لاشتمالهما على توحيد اللّه تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم ان أشرف العلوم علم التوحيد ٢٥٦{لا إكراه في الدين} أى لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام وقيل هو إخبار فى معنى النهى وروى أنه كان لأنصارى إبنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال واللّه لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال الانصارى يا رسول اللّه أيدخل بعضى فى النار و انا أنظر فنزلت فخلاهما قال ابن مسعود وجماعة كان هذا فى الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال {قد تبين الرشد من الغي} قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة {فمن يكفر بالطاغوت} بالشيطان أو الأصنام {ويؤمن باللّه فقد استمسك} تمسك {بالعروة} أى المعتصم والمتعلق {الوثقى} تأنيث الأوثق أى الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون {لا انفصام لها} لا انقطاع للعروة وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا لا تحله شبهة {واللّه سميع} لإقراره {عليم} باعتقاده ٢٥٧{اللّه ولي الذين آمنوا} أرادوا أن يؤمنوا أى ناصرهم ومتولى امورهم {يخرجهم من الظلمات} من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها {إلى النور} إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان {والذين كفروا} مبتدأ والجملة هى {أولياؤهم الطاغوت} خبره {يخرجونهم من النور إلى الظلمات} وجمع لأن الطاغوت فى معنى الجمع يعنى والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك أو اللّه ولى المؤمنين يخرجهم من الشبهة فى الدين أن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذى يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذى كان يدعى الربوبية بقوله ٢٥٨ {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} فى معارضته ربوبية ربه والهاء فى ربه يرجع إلى إبراهيم أو الذى حاج فهو ربهما {أن آتاه اللّه الملك} لأن آتاه اللّه يعنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك وهو دليل على المعتزلة فى الأصلح أو حاج وقت أن آتاه اللّه الملك {إذ قال} نصب يحاج أو بدل من أن آتاه إذا جعل بمعنى الوقت {إبراهيم ربي} حمزة {الذي يحيي ويميت} كأنه قال له من ربك قال ربى الذي يحيى ويميت {قال} نمرود {أنا أحيي وأميت} يريد اعفى عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد ابراهيم عليه السلام ما لا يتأنى فيه التلبيس على الضعفة حيث {قال إبراهيم} عليه السلام {فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الاولى كانت لازمة ولكن لما عاندا للعين حجة الأحياء بتحلية واحد وقتل آخر كلمه من وجه لا يعاند وكانوا أهل تنجيم وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال إن ربى يحرك الشمس قسرا على غير حركتها فإن كنت ربا فحركها بحركتها فهو أهون {فبهت الذي كفر} تحير ودهش {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} أى لا يوفقهم وقالوا إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن اللّه تعالى صرفه عنه وقيل إنه كان يدعى الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره ومعنى قوله انا أحيى وأميت أن الذى ينسب إليه الإحياء والامانة انا لا غيرى و الآية تدل على إباحة التكلم فى علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضا ولولم يكن مباحا لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام ولأنا أمرنا بدعاء الكفره إلى الإيمان باللّه وتوحيده و إذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا من الدليل على ذلك وذا لا يكون إلا بعد المناضرة كذا في شرح التأويلات ٢٥٩{أو كالذي مر} معناه أو أرأيت مثل الذى فحذف لدلالة ألم تر عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره أرأيت كالذى حاج إبراهيم أو كالذى مر وقال صاحب الكشف فيه الكاف زائدة والذى عطف على قوله إلى الذى حاج عن الحسن إن المار كان كافرا بالبعث لا نتظامه مع نمرود فى سلك ولكلمة الاستبعاد التى هى انى يحيى والأكثر أنه عزيز أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام و انى يحيى اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظام لقدرة المحيى {على قرية} هى بيت المقدس حيث خربه بختنصر وهى التى خرج منها الألوف {وهي خاوية على عروشها} ساقطة مع سفوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان كل مر عرش {قال أنى يحيي} أى كيف {هذه} أى أهل هذه {اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه} أى أحياه {قال} له ملك {كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم} بناء على الظن وفيه دليل جواز الاجتهاد روى أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم {قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك} روى أن طعامه كان تينا وعنبا وشرابه عصيرا ولبنا فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله {لم يتسنه} لم يتغير والهاء أصليه أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين لأن لا مهاهاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت يقال سانهت فلانا أى عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون لم يتسن بحذف الهاء فى الوصل وبإثباتها فى الوقف حمزة وعلى {وانظر إلى حمارك} كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه أو وانظر ليه سالما فى مكانه كما ربطته وذلك من اعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير {ولنجعلك آية للناس} فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه وقيل الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك قيل أتى قومه راكبا حمارا وقال انا عزير فكذبوه فقال هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرا التوراة ظاهرا أحد قبل عزير فذلك كونه آية وقيل رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخا وهو شاب {وانظر إلى العظام} أى عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم {كيف ننشزها} نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب ننشرها بالرا حجازى وبصرى نحييها {ثم نكسوها} أى العظام {لحما} جعل اللحم كاللباس مجازا {فلما تبين له} فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن اللّه على كل شيء قدير {قال أعلم أن اللّه على كل شيء قدير} فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم ضربنى وضربت زيدا ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعنى أمر إحياء الموتى قال اعلم على لفظ الامر حمزة وعلى أى قال اللّه له اعلم أو هو خاطب نفسه ٢٦٠{وإذ قال إبراهيم رب أرني} بصرنى {كيف تحيي الموتى} موضع كيف نصب تبحي {قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} و إنما قال له أو لم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين وبلى إيجابا لما بعد النفى معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضرورى واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب {قال فخذ أربعة من الطير} طاوسا وديكا وغرابا وحمامة {فصرهن إليك} وبكسر الصاد حمزة أى امهلهن واضممهن إليك {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا} ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التى بحضرتك وفى أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة جزءا بضمتين وهمز أبو بكر {ثم ادعهن} قل لهن تعالين بإذن اللّه {يأتينك سعيا} مصدر فى موضع الحال أى ساعيات مسرعات فى طيرانهن أو فى مشيهن على أرجلهن و إنما أمره بضمها إلى نفسه بعد اخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيآتها وحلاها لئلا تلتبس عليه االأحياء ولا يتوهم أنها غير تلك وروى أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رءوسها ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعا من كل طائر ثم يصيح بها تعالين بإذن اللّه تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا ثم أقبلن فانضممن إلى رءوسهن كل جثة إلى رأسها {واعلم أن اللّه عزيز} لا يمتنع عليه ما يريده {حكيم} فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمةولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق فى سبيل اللّه وأعلم أن من أنفق فى سبيله فله فى نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال ٢٦١{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه} لا بد من حذف مضاف أى مثل نفقتهم {كمثل حبة} أو مثلهم كمثل باذر حبة {أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} المنبت هو اللّه ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض و إلى الماء ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقا يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عينى الناظر والممثل به موجود فى الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة فى الأرض القوية المعلة فيبلغ حبها هذا المبلغ على أن التمثيل يصح و إن لم يوجد على سبيل الفرض والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء {واللّه يضاعف لمن يشاء} أى يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء يضعف شامى ويضعف مكى {واللّه واسع} واسع الفضل والجود {عليم} بنيات المنفقين ٢٦٢{الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا} هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها {ولا أذى} هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه ومعنى ثم إظهار التفاوت بين الانفاق وترك المن والأذى و أن تركهما خير من نفس الانفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله ثم استقاموا {لهم أجرهم عند ربهم} أى ثواب انفاقهم {ولا خوف عليهم} من بخس الأجر {ولا هم يحزنون} من فوته أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوات الثواب و وإنما قال هنا لهم أجرهم وفيما بعد فلهم أجرهم لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة ٢٦٣{قول معروف} رد جميل {ومغفرة} وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسئول أو ونيل مغفرة من اللّه بسبب الرد الجميل {خير من صدقة يتبعها أذى} وصح الاخبار على المبتدأ الكرة لاختصاصه بالصفة {واللّه غني} لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذى {حليم} عن معاجلته بالعقوبة وهذ وعيد له ثم أكد ذلك بقوله ٢٦٤{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي} الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير بطلا مثل ابطال الذى {ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر} أى لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كابطال المنافق الذى ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا اللّه ولا ثواب الاخرة ورئاء مفعول له {فمثله كمثل صفوان عليه تراب} مثله ونفقته التى لا ينتفع بها ألبته بحجر أملس عليه تراب {فأصابه وابل} مطر عظيم القطر {فتركه صلدا} أجرد نقيا من التراب الذى كان عليه {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا أو الكاف فى محل النصب على الحال أى لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذى ينفق و إنما قال لا يقدرون بعد قوله كالذى ينفق لأنه أراد بالذى ينفق الجنس أو الفريق الذى ينفق {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} ماداموا مختارين الكفر ٢٦٥{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه وتثبيتا من أنفسهم} أى وتصديقا للاسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم لأنه إذا أنفق المسلم ماله فى سبيل اللّه علم ان تصديقه و إيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن اخلاص قلبه ومن لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أى للابتغاء والتثبيت والمعنى ومثل نفقه هؤلاء فى زكاتها عند اللّه {كمثل جنة} بستان {بربوة} مكان مرتفع وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا بربوة عاصم وشامى {أصابها وابل فآتت أكلها} ثمرتها أكلها نافع ومكى و أبو عمرو {ضعفين} مثلى ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل {فإن لم يصبها وابل فطل} فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها أو مثل حالهم عند اللّه بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا اللّه تعالى زاكية عند اللّه زائدة فى زلفاهم وحسن حالهم عنده {واللّه بما تعملون بصير} يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص الهمزة فى ٢٦٦{أيود أحدكم} للانكار أن تكون له {جنة} بستان {من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له} لصاحب البستان {فيها} فى الجنة {من كل الثمرات} يريد بالثمرات المنافع التى كانت تحصل له فيها أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منها و إن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليبا لهما على غيرهما ثم اردفهما ذكر كل الثمرات {وأصابه الكبر} الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقدأصابه به الكبر والواو فى {وله ذرية ضعفاء} أولاد صغار للحال أيضا والجملة فى موضع الحال من الهاء فى أصابه {فأصابها إعصار} ريح تستدير فى الأرض ثم تسطع نحوالسماء كالعمود {فيه} فى الاعصار وارتفع {نار} بالظرف إذ جرى الظرف وصفا لاعصار {فاحترقت} الجنة وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة {كذلك} كهذا البيان الذى بين فيما تقدم {يبين اللّه لكم الآيات} فى التوحيد والدين {لعلكم تتفكرون} فتنتبهوا ٢٦٧{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} من جياد مكسوباتكم وفيه دليل وجوب الزكاة فى أموال التجارة {ومما أخرجنا لكم من الأرض} من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات {ولا تيمموا الخبيث} ولا تقصدوا المال الردئ {منه تنفقون} تخصونه بالانفاق وهو فى محل الحال أى ولا تيمموا الخبيث منفقين أى مقدرين النفقة {ولستم بآخذيه} وحالكم أنكم لا تأخذونه فى حقوقكم {إلا أن تغمضوا فيه} إلا بأن تتسامحوا فى أخذه وتترخصوا فيه من قولك أعمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره ويقال للبائع أغمض أى لا تستقص كانك لا تبصر وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه {واعلموا أن اللّه غني} عن صدقاتكم {حميد} مستحق للحمد أو محمود ٢٦٨{الشيطان يعدكم} فى الانفاق {الفقر} ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفقروا والوعد يستعمل فى الخير والشر {ويأمركم بالفحشاء} ويغريكم على البخل ومنع الصدقات واغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل {واللّه يعدكم} فى الانفاق {مغفرة منه} لذنوبكم وكفارة لها {وفضلا} و أن يخلف عليكم أفضل مما انفقتم أو ثوابا عليه فى الآخرة {واللّه واسع} يوسع على من يشاء {عليم} بأفعالكم ونياتكم ٢٦٩{يؤتي الحكمة من يشاء} علم القرآن والسنة أو العلم النافع الموصل إلى رضا اللّه والعمل به والحكيم عند اللّه هو العالم العامل {ومن يؤت الحكمة} ومن يؤت يعقوب أى ومن يؤته اللّه الحكمة {فقد أوتي خيرا كثيرا} تكير تعظيم أى أوتى خيرا أى خير كثير {وما يذكر إلا أولوا الألباب} وما يتعظ بمواعظ اللّه إلا ذو العقول السليمة أو العلماء العمال والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآى فى معنى الانفاق ٢٧٠{وما أنفقتم من نفقة} فى سبيل اللّه أو في سبيل الشيطان {أو نذرتم من نذر} فى طاعة اللّه أو فى معصيته {فإن اللّه يعلمه} لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه {وما للظالمين} الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم فى المعاصى أو ينذرون فى المعاصى أو لا يفون بالنذور {من أنصار} ممن ينصرهم من اللّه ويمنعهم من عقابه ٢٧١{إن تبدوا الصدقات فنعما هي} فنعم شيأ ابداؤها وما نكرة غير موصلة ولا موصوفة والمخصوص بالمدح هى فنعما هى بكسر النون وإسكان العين أبو عمرو ومدنى غير ورش وبفتح النون وكسر العين شامى وحمزة وعلى وبكسر النون والعين غيرهم {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء} وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء {فهو خير لكم} فالاخفاء خير لكم قولوا المراد صدقات التطوع والجهر فى الفرائض أفضل لنفى التهمة حتى إذا كان المزكى من لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل والمتطوع إن أراد أن يفتدى به كان إظهاره أفضل {ونكفر} بالنون وجزم الراء مدنى وحمزة وعلى وبالياء ورفع الراء شامى وحفص وبالنون والرفع غيرهم فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر اللّه {عنكم من سيئاتكم} والنون على معنى نحن نكفر {واللّه بما تعملون} من الابداء والإخفاء {خبير} عالم ٢٧٢{ليس عليك هداهم} لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والانفاق من الخبيث وغير ذلك وما عليك إلا أن تبلغهم النواهى فحسب {ولكن اللّه يهدي من يشاء} أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى و إنما ذلك إلى اللّه {وما تنفقوا من خير} من مال {فلأنفسكم} فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه} وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه اللّه أى رضا اللّه ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذى لا يوجه مثله إلى اللّه أو هذا نفى معناه النهى أى ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه {وما تنفقوا من خير يوف إليكم} ثوابه أضعافا مضاعفة فلا عذر لكم فى أن ترغبوا عن إنفاقه و أن يكون على أحسن الوجوه وأجملها {وأنتم لا تظلمون} ولا تنقصون كقوله ولم تظلم منه شيأ [الكهف:٣٣] أى لم تنقص الجار فى للفقراء متعلق بمحذوف أى اعمدوا للفقراء أو هو خبر مبتدأ محذوف أى هذه الصدقات للفقراء ٢٧٣{الذين أحصروا في سبيل اللّه} هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف {ولا يستطيعون} لاشتغالهم به {ضربا في الأرض} للكسب وقيل هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجرى قريش لم تكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر فكانوا فى صفة المسجد وهى سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون فىكل سرية بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى {يحسبهم الجاهل} بحالهم بحسبهم وبابه شامى ويزيد وحمزة وعاصم غير الاعشى وهبيرة والباقون بكسر السين {أغنياء من التعفف} مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة {تعرفهم بسيماهم} من صفرة الوجوه ورثاثة الحال {لا يسألون الناس إلحافا} إلحاحا قيل هو نفى السؤال والإلحاح جميعا كقوله على لا حب لا يهتدى بمناره يريد نفى المنار والاهتداء به والإلحاح هو اللزوم و أن لا يفارق إلا بشئ يعطاه وفى الحديث إن اللّه يحب الحيى الحليم المتعفف ويبغض البذى السآل الملحف وقيل معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا {وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم} لا يضيع عنده ٢٧٤{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} هما حالان أى مسرين ومعلنين يعنى يعممون الاولقات والاحوال بالصدقة لحصرهم على الخير فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال وقيل نزلت فى ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه حيث تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة فى السر وعشرة فى العلانية أو فى على رضى اللّه عنه لم يملمك إلا أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية {فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٢٧٥الذين يأكلون الربا} هو فضل مال خال عن العوض فى معاوضة مال بمال وكتب الربوا بالواو على لغة من يفخم كماكتبت الصلوة والزكوة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع {لا يقومون} إذا بعثوا من قبورهم {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان} أى المصروع لأنه تخبط فى المعاملة فجوزى على المقابلة والخبط الضرب على غير استواء كحبط العشواء {من المس} من الجنون وهو يتعلق بلا يقومون أى لا يقومون من المس الذى بهم إلا كما يقوم المصروع أو بيقوم أى كما يقوم المصروع من جنونه والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون الاأكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه اللّه فى بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض {ذلك} العقاب {بأنهم} بسبب أنهم {قالوا إنما البيع مثل الربا} ولم يقل إنما الربا مثل البيع مع أن الكلام فى الربا لا فى البيع لأنه جىء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم فى حل الربا أنهم جعلوه اصلا وقانونا فى الحل حتى شبهوا به البيع {وأحل اللّه البيع وحرم الربا} إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فانى يتماثلان ودلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال اللّه وتحريمه {فمن جاءه موعظة من ربه} فمن بلغه وعظ من اللّه وزجر بالنهى عن الربا {فانتهى} فتبع النهى وامتنع {فله ما سلف} فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه اخذ قبل نزول التحريم {وأمره إلى اللّه} يحكم فى شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به {ومن عاد} إلى استحلال الربا عن الزجاج أو إلى الربا مستحلا {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم اللّه عز وجل فهو كافر فإذا استحق الخلود بهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية فى تخليد الفساق ٢٧٦{يمحق اللّه الربا} يذهب ببركته ويهلك المال الذى يدخل فيه {ويربي الصدقات} ينميها ويزيدها أى يزيد المال الذى أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه وفى الحديث: ما نقصت زكاة من مال قط {واللّه لا يحب كل كفار} عظيم الكفر باستحلال الربا {أثيم} متماد فى الاثم بأكله ٢٧٧{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} قيل المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا ٢٧٨{يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا} أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها روى أنها نزلت فى ثقيف وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا {إن كنتم مؤمنين} كاملى الإيمان فان دليل كماله امتثال المأمور به ٢٧٩{فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله} فاعلموا بها من أذن بالشئ إذا علم يؤيدة قراءة الحسن فايقنوا فآذنوا حمزة و أبو بكر غير ابن غالب فاعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب اللّه ورسوله لأن هذا أبلغ لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند اللّه ورسوله وروى أنها لما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب اللّه ورسوله {وإن تبتم} من الارتباء {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون} المديونين بطلب الزيادة عليها {ولا تظلمون} بالنقصان منها ٢٨٠{وإن كان ذو عسرة} و إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار {فنظرة} فالحكم أو فالأمر نظرة أى إنظار {إلى ميسرة} يسار ميسرة نافع وهما لغتان {وأن تصدقوا} بالتخفيف عاصم أى تتصدقوا برؤس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم وبالتشديد غيره فالتخفيف على حذف إحدى التاءين والتشديد على الإدغام {خير لكم} فى القيامة وقيل أريد بالتصدق الانظار لقوله عليه السلام: لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة {إن كنتم تعلمون} أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به و إن علمه كأنه لا يعلمه ٢٨١{واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه} ترجعون أبو عمرو فرجع لازم ومتعد قيل هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقر وعاش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما أو إحدا وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات {ثم توفى كل نفس ما كسبت} أى جزاء ما كسبت {وهم لا يظلمون} بنقصان الحسنات وزيادة السيآت ٢٨٢{يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} أى إذا داين بعضكم بعضا يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا {إلى أجل مسمى} مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج و وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى اجل مسمى ليترجع الضمير إليه فى قوله {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن و لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال و إنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم اللّه الربا أباح السلف المضمون إلى أجل معلوم فى كتابه و أنزل فيه أطول آية وفيه دليل على اشتراط الأجل فى السلم {وليكتب بينكم} بين المتداينين {كاتب بالعدل} هو متعلق بكاتب صفة له أى كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص وفيه دليل أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط حتى يجئ مكتوبه معدلا بالشرع وهو أمر للمتدينين بتخير الكاتب و ألا يستكتبوا إلا فقيها دينا حتى يكتب ما هو متفق عليه {ولا يأب كاتب} ولا يمتنع واحد من الكتاب {أن يكتب كما علمه اللّه} مثل ما علمه اللّه كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب {فليكتب} تلك الكتابة لا يعدل عنها {وليملل الذي عليه الحق} ولا يكن المملى إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته فى ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقرارا على نفسه بلسانه والإملال والإملاء لغتان {وليتق اللّه ربه} وليتق اللّه الذى عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحودا لكل حقه {ولا يبخس منه شيئا} ولا ينقص من الحق الذى عليه شيئا فى الإملاء فيكون جحودا لبعض حقه {فإن كان الذي عليه الحق سفيها} أى مجنونا لأن السفه خفة فى العقل أو محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف {أو ضعيفا} صبيا {أو لا يستطيع أن يمل هو} لعى به أو خرس أو جهل باللغة {فليملل وليه} الذى يلى امره ويقوم به {بالعدل} بالصدق والحق {واستشهدوا شهيدين} واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين {من رجالكم} من رجال المؤمنين والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا {فإن لم يكونا} فان لم يكن الشهيدان {رجلين فرجل وامرأتان} فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص {ممن ترضون من الشهداء} ممن تعرفون عدالتهم وفيه دليل على أن غير المرضى شاهد {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} لأجل أن تنسى أحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى إن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد حمزة كقوله ومن عاد فينتقم اللّه منه [المائدة:٩٥] فتذكر بالنصب مكى وبصرى من الذكر لا من الذكر {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف منزلة الكائن فالأول للفرض والثاني للندب {ولا تسأموا} ولا تملوا قال الشاعر سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم والضمير فى {أن تكتبوه} للدين أو الحق {صغيرا أو كبيرا} على أى حال كان الحق من صغر أو كبر وفيه دلالة جواز السلم فى الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير و إنما يقال فى الذرعى ويجوز أن يكون الضمير للكتاب و أن يكتبوه مختصرا أو مشبعا {إلى أجله} إلى وقته الذى اتفق الغريمان على تسميته {ذلكم} إشارة إلى أن تكتبوه لأنه فى معنى المصدر أى ذلك الكتب {أقسط} أعدل من القسط وهو العدل {عند اللّه} ظرف لا قسط {وأقوم للشهادة} وأعون على إقامة الشهادة وبنى أفعلا التفضيل أى أقسط وأقوم من اقسط وأقام على مذهب سيبويه {وأدنى ألا ترتابوا} وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك فى المقدار والصفات و إذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك وألف أدنى منقلبة من واو لأنه من الدنو {إلا أن تكون تجارة حاضرة} عاصم أى إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على كان التامة أى إلا أن تقع تجارة حاضرة أو هى ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخير {تديرونها} وقوله {بينكم} ظرف لتديرونها ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يدا بيد {فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} يعنى إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس ألا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم فى التداين {وأشهدوا إذا تبايعتم} أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا لأنه أحوط وأبعد من وقوع الإختلاف أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعنى التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة والأمر للندب {ولا يضار كاتب ولا شهيد} يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضى اللّه عنه ولا يضارر وللمفعول لقراءة ابن عباس رضى اللّه عنهما ولا يضار والمعنى نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان أو النهى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزا أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد {وإن تفعلوا} و إن تضاروا {فإنه} فان الضرار {فسوق بكم} مأثم {واتقوا اللّه} فى مخالفة أ {ويعلمكم اللّه} شرائع دينه {واللّه بكل شيء عليم} لا يلحقه سهو ولا قصور ٢٨٣{وإن كنتم} أيها المتداينون {على سفر} مسافرين {ولم تجدوا كاتبا فرهان} فرهان مكى و أبو عمرو أى فالذى يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن كقف وسقف وبغل وبغال ورهن فى الأصل مصدر سمى به ثم كسر تكسير الأسماء ولما كان السفر مظنة لا عواز الكتب والاشهاد أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لأن السفر شرط تجويز الارتهان وقوله {مقبوضة} يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض {فإن أمن بعضكم بعضا} فان أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} دينه وائتمن افتعل من الامن وهو حث للمدين على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له و أن يؤدى إليه الحق الذى ائتمنه عليه فلم يرتهن منه وسمى الدين أمانة وهو مضمون لإئتمانه عليه بترك الارتهان منه {وليتق اللّه ربه} فى إنكار حقه {ولا تكتموا الشهادة} هذا خطاب للشهود {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} ارتفع قلبه بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه أو بالابتداء وآثم خبر مقدم والجملة خبران وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآئمة لا القلب وحده لأن كتمان الشهادة أن يضمرها فى القلب ولا يتكلم بها فلما كان إثما مقترفا مكتسبا بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التى يعمل بها أبلغ كما تقول هذا مما أبصرته عينى ومما سمعته أذنى ومما عرفه قلبى و لأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التى إن صلحت صلح الجسد كله و إن فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل فقد تمكن الاثم فى أصل نفسه وملك أشرف مكان منه و لأن أفعال القلوب أعظم من افعال سائر الجوارح ألا ترى أن أصل الحسنات والسيآت الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب و إذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أكبر الكبائر الإشراك باللّه وشهادة الزور وكتمان الشهادة {واللّه بما تعملون} من كتمان الشهادة وإظهارها {عليم} لا يخفى عليه شيء ٢٨٤{للّه ما في السماوات وما في الأرض} خلقا وملكا {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} يعنى من السوء {يحاسبكم به اللّه} يكافئكم ويجازيكم ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الانسان لأن ذلك مما ليس فى وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أى بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا قيل لا لقوله عليه السلام: إن اللّه عفى عن أمتى ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به والجمهور على أن الحديث فى الخطرة دون العزم و أن المؤاخذة فى العزم ثابتة و إليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلوانى رحمهما اللّه والدليل عليه قوله تعالى {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} الآية وعن عائشة رضي اللّه عنها ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك ما يلحقه من الهم والحزن فى الدنيا وفى أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضى اللّه عنهم وقالوا أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله {آمن الرسول} إلى قوله {لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فتعلق ذلك بالكسب دون العزم وفى بعضها أنها نسخت بهذه الآية والمحققون على أن النسخ يكون فى الأحكام لا فى الإخبار {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} برفعهما شامى وعاصم أى فهو يغفر ويعذب ويجزمهما غيرهم عطفا على جواب الشرط وبالإدغام أبو عمرو وكذا فى الاشارة والبشارة وقال صاحب الكشاف مدغم الراء فى اللام لاحن مخطئ لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ولا يجوز ادغام المضاعف وراوية عن ابى عمرو مخطى مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس فى العربية ما يؤذن بجهل عظيم {واللّه على كل شيء} من المغفرة والتعذيب وغيرهما {قدير} قادر ٢٨٥{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إن عطف المؤمنون على الرسول كان الضمير الذى التنوين نائب عنه فى {كل} راجعا إلى الرسول والمؤمنون أى كلهم {آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله} ووقف عليه و أن كان مبتدأ كان عليه كل مبتدأ ثانيا والتقدير كل منهم وآمن خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير كل من آمن على معنى كل واحد منهم آمن وكتابه حمزة وعلى يعنى القرآن أو الجنس {لا نفرق} أى يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل {بين أحد من رسله} أحد فى بمعنى الجمع ولذا دخل عليه بين وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد {وقالوا سمعنا} أجبنا قولك {أطعنا} أمرك {غفرانك} أى اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر {ربنا وإليك المصير} المرجع وفيه اقرار بالبعث والجزاء والآية تدل على بطلان الاستثناء فى الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر ٢٨٦{لا يكلف اللّه نفسا} محكى عنهم أو مستأنف {إلا وسعها} إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف كذا فى شرح التاويلات وقال صاحب الكشاف الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود فقد كان فى طاقة الإنسان أن يصلى أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش والنفس تنكمش فى الشر وتتكلف للخير {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا} تركنا أمرا من أوامرك سهوا {أو أخطأنا} ودل هذا على جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ خلافا للمعتزلة لا مكان التحرز عنهما فى الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى {ربنا ولا تحمل علينا إصرا} عبأ يأصر حامله أى يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك {كما حملته على الذين من قبلنا} كاليهود {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} من العقوبات النازلة بمن قبلنا {واعف عنا} امح سيآتنا {واغفر لنا} واسترد ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر {وارحمنا} بتثقيل ميزاننا مع افلاسنا أو الأول من المسخ والثاني من الخسف والثالث من الغرق {أنت مولانا} سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولى أمورنا {فانصرنا على القوم الكافرين} فمن حق المولى أن ينصر عبيده فى الحديث: من قرأ آمن الرسول إلى آخره فى ليلة كفتاه وفيه من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ويجوز أن يقال قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روى عن على رضى اللّه عنه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش وقال بعضهم يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التى تذكر فيها البقرة واللّه أعلم |
﴿ ٠ ﴾