٢٦{إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة} أى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها و اصل الحياء تغير وانكسار يعترى الانسان من تخوف ما يعاب به ويذم ولا يجوز على القديم التغير وخوف الذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ويجوز أن تقع هذه العبارة فى كلام الكفرة فقالوا اما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت فجاءت على سبيل المقابلة واطباق الجواب على السؤال وهو فن من كلامهم بديع وفيه لغتان التعدي بنفسه وبالجار يقال اسحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا وضرب المثل صنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم وما هذه إبهامية وهى التى إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهامها وزادته عموما كقولك أعطنى كتابا ما تريد أي كتاب كان أوصلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى فبما نَقْضِهم ميثاقهم [النساء:١٥٥] كأنه قال لا يستحيى أن يضرب مثلا البتة وبعوضة عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب ومثلا حال من النكرة مقدمة عليه أو انتصبا مفعولين على أن ضرب بمعنى جعل واشتاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشئ لأنه قطعه منه والبعوض فى اصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت {فما فوقها} فما تجاوزها وزاد عليها فى المعنى الذى ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة أو فما زاد عليه فى الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهى النهاية فى الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثلا للدنيا {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق} الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذى لا يسوغ انكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب {من ربهم} فى موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا} يوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك وفى قولهم ماذا أراد اللّه بهذا مثلا استحقار كما قالت عائشة رضى اللّه عنها فى عبد اللّه بن عمرو يا عجبا لابن عمر وهذا محقرة له ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كقوله هذه ناقة اللّه لكم [الاعراف:٧٣] آية واما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء وفائدته فى الكلام أن يعطيه فضل توكيد تقول زيد ذاهب فإذا قصدت توكيده و أنه لا محالة ذاهب قلت اما زيد فذاهب و لذا قال سيبويه فى تفسيره مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وهذا التفسير يفيد كونه تأكيدا وانه فى معنى الشرط وفى إيراد الجملتين مصدرتين به و أن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون احماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ونعى على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء وماذا فيه وجهان أن يكون ذا إسما موصولا بمعنى الذى وما استفهاما فيكون كلمتين وان تكون ذا مركبة مع ما مجعولتين اسما واحدا للاستفهام فيكون كلمة واحدة فما على الأول رفع بالابتداء وخبره ذا مع صلته أى أراد والعائد محذوف وعلى الثاني منصوب المحل بأراد والتقدير أى شيء أراد اللّه والارادة مصدر أردت الشئ إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك وهى عند المتكلمين معنى يقتضى تخصيص المفعولات بوجه دون وجه واللّه تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة وقال معتزلة بغداد إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة فإذا قيل أراد اللّه كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساه ولا مكره عليه و إن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأما وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة و أن العلم بكونه حقا من باب الهدى و أن الجهل بحسن موروده من باب الضلالة و أهل الهدى كثير فى انفسهم و إنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ولأن القليل من المهتدين كثير فى الحقيقة وإن قالوا فى الصورة إن الكرام كثير فى البلاد و إن قلوا كما غيرهم قل و إن كثروا والاضلال خلق فعل الضلال فى العبد والهداية خلق فعل الاهتداء هذا هو الحقيقة عند أهل السنة وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به كذلك و إن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ولما كانت حال الآلهة التى جعلها الكفار أندادا للّه لا حال أحقر منها وأقل ولذلك تجعل بيت العنكبوت مثلها فى الضعف والوهن وجعلت اقل من الذباب وضربت لها البعوضة فالذى دونها مثلا لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب فى تمثيله محق فى قوله سائق للمثل على قضية مضربه ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الانصاف والنظر فى الأمور بناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنه الحق و أن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالانكار و أن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين والعجب منهم كيف انكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا أجمع من ذرة وأجرأ من الذباب وأسمع من قراد وأضعف من فراشة وآكل من السوس واضعف من البعوضة وأعز من مخ البعوض ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح {وما يضل به إلا الفاسقين} هو مفعول يضل وليس بمنصوب على الاستثناء لأن يضل لم يستوف مفعوله والفسق الخروج عن القصد والفاسق فى الشريعة الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أى بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء اللّه |
﴿ ٢٦ ﴾