تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________آل عمران سورة آل عمران نزلت بالمدينة وهى مائتا آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {الم} ٢{اللّه} حركت الميم لالتقاء الساكنين أعنى سكونها وسكون لام اللّه وفتحت لخفة الفتحة ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحاميا عن توالى الكسرات وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها فى حم ولا يصح أن يقال أن فتح الميم هو فتحة همزة اللّه نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط فى الدرج وتسقط معها حركتها ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف والباقون بوصل الألف وفتح الميم واللّه مبتدأ {لا إله إلا هو} خبره وخبر لا مضمر التقدير لا اله فى الوجود إلا هو وهو فى موضع الرفع بدل من موضع لا واسمه {الحي القيوم} خبر مبتدأ محذوف أى هو الحى أو بدل من هو والقيوم فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت ٣{نزل} أى هو نزل {عليك الكتاب} القرآن {بالحق} حال أى نزله حقا ثابتا {مصدقا لما بين يديه} لما قبله {وأنزل التوراة والإنجيل} هما اسمان اعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين و إنما قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والانجيل لأن القرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة ٤{من قبل} من قبل القرآن {هدى للناس} لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس {وأنزل الفرقان} أى جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل أو الزبور أو كرر ذكره القرآن بما هو نعت له تفخيما لشأنه {إن الذين كفروا بآيات اللّه} من كتبه المنزلة وغيرها {لهم عذاب شديد واللّه عزيز ذو انتقام} ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم ٥{إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} أى فى العالم فعبر عنه بالسماء و الأرض أى هو مطلع على كفر من كفر و إيمان من آمن وهو مجازيهم عليه ٦{هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} من الصور المختلفة {لا إله إلا هو العزيز} فى سلطانه {الحكيم} فى تدبيره روى أنه لما قدم وفد بنى نجران وهم ستون راكبا أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا فى أن عيسى إن لم يكن ولدا للّه فمن أبوه فقال عليه السلام ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه قالوا بلى قال ألم تعلموا أن اللّه تعالى حى لا يموت وعيسى يموت و أن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك و أنه لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا فى السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم و أنه صور عيسى فى الرحم كيف شاء فحملته امه ووضعته وأرضعته وكان ياكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية ٧{هو الذي أنزل عليك الكتاب} القرآن {منه} من الكتاب {آيات محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه {هن أم الكتاب} أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد اليها {وأخر} وآيات آخر {متشابهات} مشتبهات محتملات مثال ذلك {الرحمن على العرش استوى} فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ولا يجوز الأول على اللّه تعالى بدليل المحكم وهو قوله {ليس كمثله شيء} أو المحكم ما أمر اللّه به فى كل كتاب انزله نحو قوله {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} الآيات والمتشابه ما وراءه أو مالا يحتمل إلا وجها واحدا وما احتمل أوجها أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله أو الناسخ الذى يعمل به والمنسوخ الذى لا يعمل به و إنما لم يكن كل القرآن محكما لما فى المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ولما فى تقادح العلماء واتعابهم القرائح فى استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند اللّه تعالى {فأما الذين في قلوبهم زيغ} ميل عن الحق وهم أهل البدع {فيتبعون ما تشابه} فيتعلقون بالمشابه الذى يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق {منه ابتغاء الفتنة} طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم {وابتغاء تأويله} وطلب أن يؤولوه التأويل الذى يشتهونه {وما يعلم تأويله إلا اللّه} أى لا يهتدى أى تأويله الحق الذى يجب أن يحمل عليه إلا اللّه {والراسخون في العلم} والذين رسخوا أى ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور والوقف عندهم على قوله إلا اللّه وفسروا المتشابه بما استأثر اللّه بعلمه وهو مبتدأ عندهم والخبر {يقولون آمنا به} وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به واعتقاد حقية ما أراد اللّه به ومعرفة قصور إفهام البشر عن الوقوف على مالم يجعل لهم إليه سبيلا ويعضده قراءة أبي ويقول الراسخون وعبد اللّه أن تأويله إلا عند اللّه ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين فى العلم يعلمون المتشابه ويقولون كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أى بالمتشابه أو بالكتاب {كل} من متشابهه ومحكمه {من عند ربنا} من عند اللّه الحكيم الذي لا يتناقض كلامه {وما يذكر} وما يتعظ وأصله يتذكر {إلا أولوا الألباب} أصحاب العقول وهو مدح للراسخين بالقاء الذهن وحسن التامل وقيل يقولون حال من الراسخين ٨{ربنا لا تزغ قلوبنا} لا تملها عن الحق بخلق الميل فى القلوب {بعد إذ هديتنا} للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه {وهب لنا من لدنك رحمة} من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت {إنك أنت الوهاب} كثير الهبة و الآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أى قولوها وكذلك التى بعدها وهى ٩{ربنا إنك جامع الناس ليوم} أى تجمعهم لحساب يوم ولجزاء يوم {لا ريب فيه} لا شك فى وقوعه {إن اللّه لا يخلف الميعاد} الموعد والمعنى أن الإلهية تنافى خلف الميعاد كقولك إن الجواد لا يخيب سائله أى لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب ١٠{إن الذين كفروا} برسول اللّه {لن تغني} تنفع أو تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه} من عذابه {شيئا} من الأشياء {وأولئك هم وقود النار} حطبها ١١{كدأب آل فرعون والذين من قبلهم} الدأب مصدر دأب فى العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة فى تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم أو منصوب المحل بلن تغنى أى لن تغنى عنهم مثل مالم تغن عن أولئك كدأب بلا همز حيث كان أبو عمرو {كذبوا بآياتنا} تفسير لدأبهم مما فعلوا أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر من حالهم ويجوز أن يكون حالا أى قد كذبوا {فأخذهم اللّه بذنوبهم} بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أى جازيته عليه {واللّه شديد العقاب} شديد عقابه فالإضافة غير محضة ١٢{قل للذين كفروا} هم مشكرو مكة {ستغلبون} يوم بدر {وتحشرون إلى جهنم} من الجهنام وهى بئر عميقة بالياء فيها حمزة وعلى {وبئس المهاد} المستقر جهنم ١٣{قد كان لكم آية} الخطاب لمشركى قريش {في فئتين التقتا} يوم بدر {فئة تقاتل في سبيل اللّه} وهم المؤمنون {وأخرى} وفئة أخرى {كافرة يرونهم مثليهم} يرى المشركون المسلمين مثلى عدد المشركين ألفين أو مثلى عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين أراهم اللّه إياهم مع قلتهم اضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ترونهم نافع أى ترون يا مشركى قريش المسلمين مثلى فئتكم الكافرة أو مثلى أنفسهم ولا يناقض هذا ما قال فى سورة الانفال ويقللكم فى اعينهم لأنهم قللوا أولا فى أعينهم حتى اجترءوا عليهم فلما اجتمعوا كثروا فى أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير فى حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان وقفوهم أنهم مسئولون وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى فى أعينهم أبلغ فى القدرة وإظهار الآية ومثليهم نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله {رأي العين} يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها {واللّه يؤيد بنصره من يشاء} كما أيد أهل بدر بتكثيرهم فى أعين العدو {إن في ذلك} فى تكثير القليل {لعبرة} لعظة {لأولي الأبصار} لذوى البصائر ١٤{زين للناس} المزين هو اللّه عند الجمهور للابتلاء كقوله {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم} دليلة قراءة مجاهد زين للناس على تسمية الفاعل وعن الحسن الشيطان {حب الشهوات} الشهوة توقان النفس إلى الشئ جعل الأعيان التى ذكرها شهوات مبالغة فى كونها مشتهاة أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية {من النساء} و الإماء داخلة فيها {والبنين} جمع ابن وقد يقع فى غير هذا الموضع على الذكور والإناث وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون فى الطباع والمعدون للدفاع {والقناطير} جمع قنطار وهو المال الكثير قيل ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا {المقنطرة} المنضدة أو المدفونة {من الذهب والفضة} سمى ذهبا لسرعة ذهابه بالإنفاق وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق {والخيل} سميت به لاختيالها فى مشيها {المسومة} المعلمة من السومة وهى العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها {والأنعام} هى الازواج الثمانية {والحرث} الزرع {ذلك} المذكور {متاع الحياة الدنيا} يتمتع بها فى الدنيا {واللّه عنده حسن المآب} المرجع ثم زهدهم فى الدنيا فقال ١٥{قل أؤنبئكم بخير من ذلكم} من الذى تقدم {للذين اتقوا عند ربهم جنات} كلام مستانف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم فجنات مبتدأ وللذين اتقوا خبره {تجري من تحتها الأنهار} صفة لجنات ويجوز أن يتعلق اللام بخير واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به ويرتفع جنات على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ جنات بالجر على البدل من خير {خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه} أى رضا اللّه {واللّه بصير بالعباد} عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات ١٦{الذين يقولون} نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد {ربنا إننا آمنا} إجابة لدعوتك {فاغفر لنا ذنوبنا} انجازا لوعدك {وقنا عذاب النار} بفضلك ١٧{الصابرين} على الطاعات والمصائب وهونصب على المدح {والصادقين} قولا باخبار الحق وفعلا باحكام العمل ونية بإمضاء العزم {والقانتين} الداعين أو المطيعين {والمنفقين} المتصدقين {والمستغفرين بالأسحار} المصلين أو طالبين المغفرة وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء و لأنه وقت الخلوة قال لقمان لابنه يا بنى لا يكن الديك اكيس منك ينادى بالأسحار و أنت نائم والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم فى كل واحدة منها وللاشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح ١٨{شهد اللّه} أى حكم أو قال {أنه} أى بأنه {لا إله إلا هو والملائكة} بما عاينوا من عظيم قدرته {وأولو العلم} أى الأنبياء والعلماء {قائما بالقسط} مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب وما يأمر به عباده من أنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم اللّه تعالى أو من هو و إنما جاز افراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت جاء زيد وعمرو راكبا لم يجز لعدم الالباس فانك لو قلت جاءنى زيد وهند راكبا جاز لتميزه بالذكروة أو على المدح وكرر {لا إله إلا هو} للتأكيد {العزيز الحكيم} رفع على الاستئناف أى هو العزيز وليس بوصف لهو لأن الضمير لا يوصف يعنى أنه العزيز الذى لا يغالب الحكيم الذى لا يعدل عن الحق ١٩{إن الدين عند اللّه الإسلام} جملة مستأنفة وقرئ أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو [آل عمران:١٨] أى شهد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام قال عليه السلام: من قرأ الآية عند منامه خلق اللّه تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ومن قال بعدها وأنا أشهد بما شهد اللّه به واستودع اللّه هذا الشهادة وهى لى عند اللّه وديعة يقول اللّه تعالى يوم القيامة إن لعبدى عندى عهدا و انا أحق من وفى بالعهد ادخلوا عبدى الجنة {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} أى أهل الكتاب من اليهود والنصارى واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير ابن اللّه {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أنه الحق الذى لا محيد عنه {بغيا بينهم} أى ما كان ذلك الاختلاف إلا حسدا بينهم وطلبا منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستنباع كل فريق ناسا لاشبهة فى الإسلام وقيل هو اختلافهم فى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض وقيل هم النصارى واختلافهم فى أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد اللّه ورسوله {ومن يكفر بآيات اللّه} بحججه ودلائلة {فإن اللّه سريع الحساب} سريع المجازاة ٢٠{فإن حاجوك} فإن جادلوك فى أن دين اللّه الإسلام والمراد بهم وفد بنى نجران عند الجمهور {فقل أسلمت وجهي للّه} أى أخلصت نفسى وجملتى للّه وحده لم أجعل فيها لغيره شريكا بأن أعبده وأدعو إلها معه يعنى أن دينى دين التوحيد وهو الدين القويم الذى ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندى وما جئت بشئ بديع حتى تجادلونى فيه ونحوه قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذى لا شك فيه فما معنى المحاجة {ومن اتبعن} عطف على التاء فى أسلمت أى أسلمت أنا و من اتبعنى وحسن للمفاصل ويجوز أن يكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولا معه ومن اتبعنى فى الحالين سهل ويعقوب وافق أبو عمرو فى الوصل وجهى مدنى وشامى وحفص والأعشى والبرجمى {وقل للذين أوتوا الكتاب} من اليهود والنصارى {والأميين} والذين لا كتاب لهم من مشركى العرب {أأسلمتم} بهمزتين كوفى يعنى أنه قدأتاكم من البينات ما يقتضى حصول الإسلام فهل أسلمتم أم انتم عبد على كفركم وقيل لفظه لفظ الاستفهام أم ومعناه الأمر أى أسلموا كقوله فهل أنتم منتهون أى انتهوا {فإن أسلموا فقد اهتدوا} فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} أى لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى {واللّه بصير بالعباد} فيجازيهم على اسلامهم وكفرهم ٢١{إن الذين يكفرون بآيات اللّه ويقتلون النبيين} هم أهل الكتاب راضون بقتل آبائهم الأنبياء {بغير حق} حال مؤكدة لأن قتل النبى لا يكون حقا {ويقتلون الذين يأمرون} ويقاتلون حمزة {بالقسط} بالعدل {من الناس} أى سوى الأنبياء قال عليه السلام: قتلت بنو اسرئيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار فى ساعة واحدة فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا فى آخر النهار من ذلك اليوم {فبشرهم بعذاب أليم} دخلت الفاء فى خبران لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنىمن يكفر فبشرهم وهذا لأن إن لا تغير معنى الابتداء فهى للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها ليت أو لعل لامتنع دخول الفاء ٢٢{أولئك الذين حبطت أعمالهم} أى ضاعت {في الدنيا والآخرة} فلهم اللعنة والخزى فى الدنيا والعذاب فى الاخرة {وما لهم من ناصرين} جمع لوقف رءوس الآى وإلا فالواحد النكرة فى النفى يعم ٢٣{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} يريد أحبار اليهود و أنهم حصلوا نصيبا وافرا من التوراة ومن للتبعيض أو للبيان {يدعون} حال من الذين {إلى كتاب اللّه} أى التوراة أو القرآن {ليحكم بينهم} جعل حاكما حيث كان سببا للحكم أو ليحكم النبى روى أنه عليه السلام دخل مدارسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد على أى دين أنت قال النبي عليه السلام: على ملة إبراهيم قالا إن إبراهيم كان يهوديا قال لهما: إن بيننا وبينك التوراة فهلموا إليها فأبيا {ثم يتولى فريق منهم} استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب اللّه واجب {وهم معرضون} وهم قوم لا يزال الاعراض دينهم ٢٤{ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} أى ذلك التولى والاعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم فى الخروج من النار بعد أيام قلائل وهى أربعون يوما أو سبعة أيام وذلك مبتدأ وبأنهم خبره {وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} أى غرهم افتراؤهم على اللّه وهو قولهم نحن أبناء اللّه وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيره ٢٥{فكيف إذا جمعناهم ليوم} فكيف يكون حالهم فى ذلك الوقت {لا ريب فيه} لا شك فيه {ووفيت كل نفس ما كسبت} جزاء ما كسبت {وهم} يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه فى معنى كل الناس {لا يظلمون} بزيادة فى سيئاتهم ونقصان فى حسناتهم ٢٦{قل اللّهم} الميم عوض من يا ولذا لا يجتمعان وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء فى القسم وبدخول حرف النداء عليه وفيه لام التعريف وبقطع همزته فى يا اللّه وبالتفخيم {مالك الملك} تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثان أى يا مالك الملك {تؤتي الملك من تشاء} تعطى من تشاء النصيب الذى قسمت له من الملك {وتنزع الملك ممن تشاء} أى تنزعه فالملك الاول عام والملكان الآخران خاصان مضان من الكل روى أنه عليه السلام حين فتح مكة واعدأمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم هم اعز وامنع من ذلك {وتعز من تشاء} بالملك {وتذل من تشاء} بنزعه منه {بيدك الخير} أى الخير والشرفا كفتى بذكر أحد الضدين عن الآخر أو لأن الكلام وقع فى الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى انكرته الكفرة فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك {إنك على كل شيء قدير} ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك وقيل المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة قال عليه السلام ملوك الجنة من امتى القانعون بالقوت يوما فيوما أو ملك قيام الليل وعن الشبلى الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها ثم ذكر قدرته بالباهرة بذكر حال الليل والنهار فى المعاقبة بينهما وحال الحى والميت فى إخرج أحدهما من الآخر وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله ٢٧{تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل} فالإيلاج ادخال الشئ فى الشئ وهو مجاز هنا أى تنقص من ساعات الليل وتزيد فى النهار وتنقص من ساعات النهار وتزيد فى الليل {وتخرج الحي من الميت} الحيوان من النطفة أو الفرج من البيضة أو المؤمن من الكافر {وتخرج الميت من الحي} النطفة من الإنسان أو البيض من الدجاج أو الكافر من المؤمن {وترزق من تشاء بغير حساب} لا يعرف الخلق عدده ومقداره و إن كان معلوما عنده ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للافهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويدلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفى بعض الكتب انا اللّه ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدى فان العباد أطاعونى جعلتهم عليم رحمة و إن العباد عصونى جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم وهو معنى قوله عليه السلام كما تكونوا يولى عليكم الحى من الميت والميت من الحى بالتشديد حيث كان مدنى وكوفى غير أبى بكر ٢٨{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك وقد قرر ذلك فى القرآن والمحبة فى اللّه والبغض في اللّه باب عظيم فى الإيمان {من دون المؤمنين} يعنى أن لكم موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم {ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء} أى ومن يوال الكفرة فليس من ولاية اللّه فى شيء لأن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان {إلا أن تتقوا منهم تقاة} إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه أى إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطال المعاداة {ويحذركم اللّه نفسه} أى ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد {وإلى اللّه المصير} أى مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر ٢٩{قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه} من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى اللّه {يعلمه اللّه} ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد {ويعلم ما في السماوات وما في الأرض} استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أى هو الذى يعلم ما فى السموات وما فى الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم {واللّه على كل شيء قدير} فيكون قادرا على عقوبتكم ٣٠{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا} يوم منصوب بتودوا الضمير فيه بينه لليوم أى يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينهما وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا أى مسافة بعيدة أو باذكر ويقع تجد على ما عملت وحده ويرتفع وما عملت على الابتداء وتود خبره أى والذى عملته من سوء تودهى لو تباعد ما بينها وبينه ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تود نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضيا لكن الجزم هوالكثير وعن المبرد أن الرفع شاذ وكرر قوله {ويحذركم اللّه نفسه} ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه {واللّه رؤوف بالعباد} ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذورا لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم [فصلت (السجدة):٤٣] ونزل حين قال اليهود نحن أبناء اللّه وأحباؤه [المائدة:١٨] ٣١{قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه} محبة العبد للّه إيثار طاعته على غير ذلك ومحبة اللّه العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله وعن الحسن زعم اقوام على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم يحبون اللّه فأراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب اللّه يكذبه وقيل محبة اللّه معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به وقيل هى اتباع النبى عليه السلام فى أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به وقيل علامة المحبة أن يكون دائم التفكير كثير الخلوة دائم الصمت لا يبصر إذا نظر ولا يسمع إذا نودى ولا يحزن إذا أصيب ولا يفرح إذا اصاب ولا يخشى أحدا ولا يرجوه {ويغفر لكم ذنوبكم واللّه غفور رحيم} ٣٢قل أطيعوا اللّه والرسول} قيل هى علامة المحبة {فإن تولوا} أعرضوا عن قبول الطاعة ويحتمل أن يكون مضارعا أى فان تتولوا {فإن اللّه لا يحب الكافرين} أى لا يحبهم ٣٣{إن اللّه اصطفى} اختار {آدم} أبا البشر {ونوحا} شيخ المرسلين {وآل إبراهيم} إسماعيل وإسحق وأولادهما {وآل عمران} موسى وهرون هما ابنا عمران بن يصهر وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة {على العالمين} على عالمى زمانهم ٣٤{ذرية} بدل من آل إبراهيم وآل عمران {بعضها من بعض} مبتدأ وخبره فى موضع النصب صفة لذرية يعنى أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض موسى وهرون من عمران وعمران من يصهر ويصهر من قاهث وقاهث من لاوى ولاوى من يعقوب ويعقوب من إسحق وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثار وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحق وقد دخل فى آل إبراهيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل بعضها من بعض فى الدين {واللّه سميع عليم} يعلم من يصلح للاصطفاء أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها ٣٥{إذ قالت} وإذ منصوب به أو باضمار اذكر {امرأة عمران} هى امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهى حنة بنت فاقوذا {رب إني نذرت لك} أوجبت {ما في بطني محررا} هو حال من ما وهى بمعنى الذى أى معتقا لخدمة بيت المقدس لا يد لى عليه ولا أستخدمه وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم أو مخلصا للعبادة يقال طين حر أى خالص {فتقبل مني} مدنى و أبو عمرو والتقبل أخذ الشئ على الرضا به {إنك أنت السميع العليم} ٣٦{فلما وضعتها} الضمير لما فى بطنى و إنما أنث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة {قالت رب إني وضعتها أنثى} انثى حال من الضمير فى وضعتها أى وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى و إنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال اللّه {واللّه أعلم بما وضعت} تعظيما لموضوعها أى واللّه أعلم بالشئ الذى وضعت وماعلق به من عزائم الأمور وضعت شامى و أبو بكر بمعنى ولعل للّه فيه سرا وحكمة وعلى هذا يكون داخلا فى القول وعلى الأول يوقف عند قوله أنثى وقوله واللّه أعلم بما وضعت ابتداء اخبار من اللّه تعالى {وليس الذكر} الذى طلبت {كالأنثى} التى وهتب لها واللام فيهما للعهد {وإني سميتها مريم} معطوف على انى وضعتها أنثى وما بينهما جملتان معترضتان و إنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم فى لغتهم العابدة فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها و أن يصدق فيها ظنها بها ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان قوله {وأني} مدنى {أعيذها بك} أجيرها {وذريتها} أولادها {من الشيطان الرجيم} الملعون فى الحديث: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ٣٧{فتقبلها ربها} قبل اللّه مريم ورضى بها فى النذر مكان الذكر {بقبول حسن} قيل القبول اسم ما يقبل به الشئ كالسعوط بما يسعط به وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر فى النذر ولم تقبل قبلها أنثى فى ذلك أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة روى أن حنة لما ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون وهم فى بيت المقدس كالحجبة فى الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم وكانت بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندى أختها فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها وقيل هو مصدر على تقدير حذف المضاف أى فتقبلها بذى قبول حسن أى بمر ذى قبول حسن وهو الاختصاص {وأنبتها نباتا حسنا} مجاز عن التربية الحسنة قال ابن عطاء ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات ونباتا مصدر على خلاف الصدر أو التقدير فنبتت نباتا {وكفلها} قبلها أو ضمن القيام بأمرها وكفلها كوفى أى كفلها اللّه زكريا يعنى جعله كافلاها وضامنا لمصالحها {زكريا} بالقصر كوفى غير أبى بكر فىكل القرآن وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه فى العبرى دائم الذكر والتسبيح {كلما دخل عليها زكريا المحراب} قيل بنى لها زكريا محرابا فى السمجد أى غرفة تصعد اليها بسلم وقيل المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت فى أشرف موضع من بيت المقدس وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده {وجد عندها رزقا} كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء فى الصيف وفاكهة الصيف فى الشتاء {قال يا مريم أنى لك هذا} من أين لك هذا الرزق الذى لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت فى غير حينه {قالت هو من عند اللّه} فلا تستبعد قيل تكلمت وهى صغيرة كما تكلم عيسى وهو فى المهد {إن اللّه يرزق من يشاء} من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين {بغير حساب} بغير تقدير لكثرته أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة على عمل ٣٨{هنالك} فى ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم فى المحراب أو فى ذلك الوقت فقد يستعار هنا وحيث وثم للزمان لما رأى حال مريم فى كرامتها على اللّه ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة فى الكرامة على اللّه و إن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت أمها كذلك وقيل لما رأى الفاكهة فى غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر {دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية} ولدا والذرية يقع على الواحد والجمع {طيبة} مباركة والتأنيث للفظ الذرية {إنك سميع الدعاء} مجيبه ٣٩{فنادته الملائكة} قيل ناداه جبريل عليه السلام و إنما قيل الملائكة لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم فلان يركب الخيل فناديه بالياء والامالة حمزة وعلى {وهو قائم يصلي في المحراب} وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات وقال ابن عطاء ما فتح اللّه تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب {إن اللّه} بكسر الألف شامى وحمزة على إضمار القول أو لأن النداء قول الباقون بالفتح أى بأن اللّه {يبشرك} يبشرك وما بعده حمزة وعلى من بشره والتخفيف والتشديد لغتان {بيحيى} هو غير منصرف إن كان عجميا وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى و إن كان عربيا فللتعريف ووزن الفعل كيعمر {مصدقا} حال منه {بكلمة من اللّه} أى مصدقا بعيسى مؤمنا به فهو أول من آمن به وسمى عيسى كلمة اللّه لأن تكونه بكن بلا أب أو مصدقا بكلمة من اللّه مؤمنا بكتاب منه {وسيدا} هو الذى يسود قومه أى يفوقهم فى الشرف وكان يحيى فائقا على قومه لانه لم يركب شيئة قط وبالها من سيادة وقال الجنيد هو الذى جاد بالكونين عوضا عن المكون {وحصورا} هو الذى لا يقرب النساء مع القدرة حصرا لنفسه أى منعا لها من الشهوات {ونبيا من الصالحين} ناشئا من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائنا من جملة الصالحين ٤٠{قال رب أنى يكون لي غلام} استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك {وقد بلغني الكبر} كقولهم أدركته السن العالية أى أثر فى الكبر وأضعفنى وكان له تسعة وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون {وامرأتي عاقر} لم تلد {قال كذلك اللّه يفعل ما يشاء} من الأفعال العجيبة ٤١{قال رب اجعل لي} مدنى و أبو عمرو {آية} علامة أعرف بها الحبل لألتقى النعمة بالشكر إذا جاءت {قال آيتك ألا تكلم الناس} أى لا تقدر على تكليم الناس {ثلاثة أيام إلا رمزا} إلا إشارة بيد أو رأس أو عين أو حاجب وأصله التحرك يقال ارتمز إذا تحرك واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدى مؤدى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمى كلاما أو هو استثناء منقطع و إنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر اللّه ولذا قال {واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار} أى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الايات الباهرة والأدلة الظاهرة و إنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر اللّه لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر وأحسن الجواب ما كان منتزعا من السؤال والعشى من حين الزوال إلى الغروب والابكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى ٤٢{وإذا} عطف على إذ قالت امرأة عمران أو التقدير واذكر إذ {قالت الملائكة يا مريم} روى أنهم كلموها شفاها {إن اللّه اصطفاك} اولا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية {وطهرك} مما يستقذر من الأفعال {واصطفاك} آخرا {على نساء العالمين} بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء ٤٣{يا مريم اقنتي لربك} أديمى الطاعة أو أطيلى قيام الصلاة {واسجدي} وقيل أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة ثم قيل لها {واركعي مع الراكعين} أى ولتكن صلاتك مع المصلين أى فى الجماعة أو وانظمى نفسك فى جملة المصلين وكونى فى عدادهم ولا تكونى فى عداد غيرهم ٤٤{ذلك} إشارة الى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم {من أنباء الغيب نوحيه إليك} يعنى أن ذلك من الغيوب التى لم تعرفها إلا بالوحى {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} أزلامهم وهى قداحهم التى طرحوها فى النهر مقترعين أو هى الأقلام التى كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركا بها {أيهم يكفل مريم} متعلق بمحذوف دل عليه يلقون كأنه قيل يلقونها ينظرون أيهم يكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون {وما كنت لديهم إذ يختصمون} فى شأنها تنافسا فى التكفل بها ٤٥{إذ قالت الملائكة} أى اذكر {يا مريم إن اللّه يبشرك بكلمة} أى بعيسى {منه} فى موضع جر صفة لكلمة {اسمه} مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر {المسيح} خبره والجملة في موضع جر صفة لكلمة والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله {وجعلني مباركا أين ما كنت} وقيل سمى مسيحا لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكانا {عيسى} بدل من المسيح {ابن مريم} خبر مبتدأ محذوف أى هو ابن مريم ولا يجوز أن يكون صفة لعيسى لأنه اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم و إنما قال ابن مريم اعلاما لها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه {وجيها} ذا جاه وقدر {في الدنيا} بالنبوة والطاعة {والآخرة} بعلوا الدرجة والشفاعة {ومن المقربين} يرفعه إلى السماء وقوله وجيها حال من كلمة لكونها موصوفة وكذا ومن المقربين أى وثابتا من المقربين وكذا ٤٦{ويكلم الناس} أى ومكلما الناس {في المهد} حال من الضمير فى يكلم أى ثابتا فى المهد وهو ما يمهد للصبى من مضجعة سمى بالمصدر {وكهلا} عطف عليه أى ويكلم الناس طفلا وكهلا أى يكلم الناس فى هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التى يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء {ومن الصالحين} حال أيضا والتقدير يبشرك به موصوفا بهذه الصفات ٤٧{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك اللّه يخلق ما يشاء} {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} أى إذا قدر تكون شيء كونه من غرتأخير لكنه عبر بقوله كن اخبارا عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه ٤٨{ويعلمه} مدنى وعاضم وموضعه حال معطوفة على وجيها الباقون بالنون على أنه كلام مبتدا {الكتاب} أى الكتابة وكان أحسن الناس خطا فى زمانه وقيل كتب اللّه {والحكمة} بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد والحكمة البيان باللسان {والتوراة والإنجيل} ٤٩{ورسولا} أى ونجعله رسولا أو يكون فى موضع الحال أى وجيها فى الدنيا والآخرة ورسولا {إلى بني إسرائيل أني} بأنى {قد جئتكم بآية من ربكم} بدلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة {أني أخلق لكم} نصب بدل من أنى قد جئتكم أو جر بدل من آية أو رفع على هى أنى أخلق لم أنى نافع على الاستئناف {من الطين كهيئة الطير} أى اقدر لكم شيئا مثل صورة الطير {فأنفخ فيه} الضمير للكاف أى فى ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير {فيكون طيرا} فيصير طيرا كسائر الطيور طائرا مدنى {بإذن اللّه} بأمره قيل لم يخلق شيئا غير الخفاش {وأبرئ الأكمه} الذى ولد أعمى {والأبرص وأحيي الموتى بإذن اللّه} كرر بإذن اللّه دفعا لوهم من يتوهم فيه اللاهوتية روى أنه أحيا سام ابن نوح عليه السلام وهم ينظرون إليه فقالوا هذا سحر مبين فأرنا آية فقال يا فلان اكلت كذا ويا فلان خبئ لك كذا وهو قوله {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} وما فيهما بمعنى الذى أو مصدرية {إن في ذلك} أى فيما سبق {لآية لكم إن كنتم مؤمنين ٥٠ومصدقا لما بين يدي من التوراة} أى قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقا {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} رد على قوله بآية من ربكم أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم وما حرم اللّه عليهم فى شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذى ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك {وجئتكم بآية من ربكم} كرر للتأكيد {فاتقوا اللّه} فى تكذيبى وخلافى {وأطيعون} فى أمرى ٥١{إن اللّه ربي وربكم} إقرار بالعبودية ونفى للربوبية عن نفسه بخلاف ما يزعم النصارى {فاعبدوه} دونى {هذا صراط مستقيم} يؤدى صاحبه إلى النعيم المقيم ٥٢{فلما أحس عيسى منهم الكفر} علم ن اليهود كفرا علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس {قال من أنصاري} مدنى هو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف {إلى اللّه} بتعلق بمحذوف حال من الياء أو من أنصارى ذاهبا إلى اللّه ملتجأ إليه {قال الحواريون} حوارى الرجل صفوته وخاصته {نحن أنصار اللّه} اعوان دينه {آمنا باللّه واشهد} يا عيسى {بأنا مسلمون} إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدا لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم وفيه دليل على أن الإيمان والاسلام واحد ٥٣{ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول} أى رسولك عيسى {فاكتبنا مع الشاهدين} مع الانبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية أو مع امة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس ٥٤{ومكروا} أى كفار بنى إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه {ومكر اللّه} أى جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء و ألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ولا يجوز إضافة المكر إلى اللّه تعالى إلا على معنى الجزاء لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا فى شرح التأويلات {واللّه خير الماكرين} أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ٥٥{إذ قال اللّه} ظرف لمكر اللّه {يا عيسى إني متوفيك} أى مستوفى أجلك ومعناه إنى عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أمنفك لا قتلا بأيديهم {ورافعك إلي} إلى سمائى ومقر ملائكتى {ومطهرك من الذين كفروا} من سوء جوارهم وخبث صحبتهم وقيل متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالى على فلان إذا استوفيته أو مميتك فى وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن إذ الواو لا توجب الترتيب قال النيى عليه السلام ينزل عيسى خليفة على امتى يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ويتزوج ويولد له ثم يتوفى وكيف تهلك امة انا فى أولها وعيسى فى آخرها والمهدى من أهل بيتى فى وسطها أو متوفى نفسك بالنوم ورافعك و أنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ و أنت فى السماء آمن مقرب {وجاعل الذين اتبعوك} أى المسلمين لأنهم متبعوه فى أصل الإسلام و إن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى {فوق الذين كفروا} بك {إلى يوم القيامة} يعلمونهم بالحجة وفى أكثر الأحوال بها وبالسيف {ثم إلي مرجعكم} فى الآخرة {فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ٥٦{فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا...} ٥٧وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم...} وتفسيرا لحكم هاتين الآيتان فيوفيهم حفص ٥٨{ذلك} اشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهومبتدأ {نتلوه عليك} خبره {من الآيات} خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف {والذكر الحكيم} القرآن يعنى المحكم أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه نزل لما قال وفد بنى نجران هل رأيت ولدا بلا أب ٥٩{إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم} أى أن شان عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام {خلقه من تراب} قدره جسدا من طين وهى جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أى خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب و أم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب فشبه الغريب بالأغراب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استعر به وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى قالوا لأنه لا أب له قال فآدم أولى لانه لا أبوين له قالوا كان يحيى الموتى قال فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف فقالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص قال فجرجيس أولى لأنه طبخ واحرق ثم قام سالما {ثم قال له كن} أى أنشأه بشرا {فيكون} أى فكان وهو حكاية حال ماضية وثم لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه ٦٠{الحق من ربك} خبر مبتدأ مخذوف أى هو الحق {فلا تكن} أيها السامع {من الممترين} الشاكين ويحتمل أن يكون الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء ٦١{فمن حاجك} من النصارى {فيه} فى عيسى {من بعد ما جاءك من العلم} من البينات الموجبة للعلم وما بمعنى الذى {فقل تعالوا} هلموا والمراد المجئ بالعزم والرأى كما تقول تعال لنفكر فى هذه المسألة {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أى يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة {ثم نبتهل} ثم نتباهل بأن نقول بهلة اللّه على الكاذب منا ومنكم والبهلة بالفتح والضم اللعنة وبهله اللّه لعنه وأبعده من رحمته وأصل الابتهال هذا ثم يستعمل فى كل دعاء يجتهد فيه و إن لم يكن التعانا وروى أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فقال العاقب وكان ذا رأيهم واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أ محمدا نبى مرسل وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد غدا محتضنا للحسين آخذا بيدالحسن وفاطمة تمشى خلقه وعلى خلفها وهو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكو ولا يبقى عل وجه الأرض نصرانى فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبى على ألف حلة كل سنة فقال عليه السلام: والذى نفسى بيده أن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير و إنما ضم الأبناء والنساء و إن كانت المباهلة مختصة وبمن يكاذبه لأن ذلك آكدا فى الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وافلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع احبته واعزته إن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم اعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم فى الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبى صلى اللّه عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك {فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} منا ومنكم فى شأن عيسى ونبتهل ونجعل معطوفان على ندع ٦٢{إن هذا} الذى قص عليك من نبأ عيسى {لهو القصص الحق} هو فصل بين اسم إن وخبرها أو مبتدا والقصص الحق خبره والجملة خبر إن وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخول على الفصل اجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه واصلها أن تدخل على المبتدا ومن فى {وما من إله إلا اللّه} بمنزلة البناء على الفتح لا إله إلا اللّه فى إفادة معنى الاستغراق والمراد الرد على النصارى في تثليثهم {وإن اللّه لهو العزيز} فى الانتقام {الحكيم} فى تدبير الأحكام ٦٣{فإن تولوا} أعرضوا ولم يقبلوا {فإن اللّه عليم بالمفسدين} وعيدلهم بالعذاب المذكور فى قوله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ٦٤{قل يا أهل الكتاب} هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة {تعالوا إلى كلمة سواء} أى مستوية {بيننا وبينكم} لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل وتفسير الكلمة قوله {ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه} يعنى تعالوا إليها حتى لا تقول عزير ابن اللّه ولا المسيح ابن اللّه لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع اللّه وعن عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول اللّه قال أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك {فإن تولوا} عن التوحيد {فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} أى لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب فى جدال أو صراع اعتراف بأنى انا الغالب وسلم إلى الغلبة ٦٥{يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين ابراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة {أفلا تعقلون} حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ٦٦{ها أنتم هؤلاء} هاللتنبيه وأنتم مبتدأوهؤلاء خبره {حاججتم} جملة مستأنفة مبينة للجملة الاولى يعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم انكم جادلتم {فيما لكم به علم} مما نطق به التوراة والإنجيل {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} ولا ذكر له فى كتابيكم من دين إبراهيم وقيل هؤلاء بمعنى الذين وحاججتم صلته ها أنتم بالمد وغير الهمز حيث كان مدنى و أبو عمرو {واللّه يعلم} علم ما تحاججتم فيه {وأنتم لا تعلمون} وأنتم جاهلون به ثم أعلمهم بأنه برئ من دينهم فقال ٦٧{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} كأنه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لا شراكهم به عزيرا والمسيح أو ما كان من المشركين كما لم يكن منهم ٦٨{إن أولى الناس بإبراهيم} إن اخصهم به واقربهم منه من الولى والمراد محمد عليه السلام {والذين آمنوا} من أمته {واللّه ولي المؤمنين} ناصرهم ٦٩{ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم} هم اليهود دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية {وما يضلون إلا أنفسهم} وما يعود وبال الاضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم {وما يشعرون} بذلك ٧٠{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه} بالتوراة والإنجيل وكفرهم با أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغيرها {وأنتم تشهدون} تعترفون بأنها آيات اللّه أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تكفرون بآيات اللّه جميعا وأنتم تعلمون أنها حق ٧١{يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل} تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم {وتكتمون الحق} نعت محمد عليه السلام {وأنتم تعلمون} أنه حق ٧٢{وقالت طائفة من أهل الكتاب} فيما بينهم {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا} أى القرآن {وجه النهار} ظرف أى اوله يعنى اظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين فى أول النهار {واكفروا آخره} واكفروا به آخره {لعلهم يرجعون} لعل المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم ٧٣{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى اللّه} ولا تؤمنوا متعلق بقوله {أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم} وما بينهما اعتراض أى ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أونوا من كتب اللّه مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثبابا ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام {أو يحاجوكم عند ربكم} عطف على أن يؤتى والضمير فى يحاجوكم لأحد لأنه فى معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند اللّه بالحجة ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى اللّه من شاء هداه حتى اسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين وكذلك قوله {قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء} يريد الهداية والتوفيق أو يتم الكلام عند قوله إلا لمن تبع دينكم أى ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن اسلموا منكم لآن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ومعنى قوله أن يؤتى لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشئ آخر يعنى أن مابكم من الحسد والبغى أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلم ويدل عليه قراءة ابن كثير آن بالمد والاستفهام يعنى ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب تحسدونهم وقوله أو يحاجوكم على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم {واللّه واسع} أى واسع الرحمة {عليم} بالمصلحة ٧٤{يختص برحمته} بالنبوة أو بالإسلام {من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم ٧٥ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك} هو عبد اللّه بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتى أوقيه ذهبا فأداه إليه {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} هو فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينار فجحده وخانه وقيل المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم والخائنون فى القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم {إلا ما دمت عليه قائما} إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه ملازما له يؤده ولا يؤده بكسر الهاء مشبعة مكى وشامى ونافع وعلى وحفص واختلس أبو عمرو فى رواية غيرهم بسكون الهاء {ذلك} اشارة إلى ترك الأداء الذى دل عليه لا يؤده {بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل} أى تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم ليس علينا فى الأميين سبيل أى لا يتطرق علينا إثم وذم فى شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم فى كتابنا حرمة وقيل بايع اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك فى كتابهم {ويقولون على اللّه الكذب} بادعائهم أن ذلك فى كتابهم {وهم يعلمون} أنهم كاذبون ٧٦{بلى} إثبات لما نفوه من السبيل عليهم فى الأميين أى بلى عليهم سبيل فيهم وقوله {من أوفى بعهده واتقى} جملة مستأنفة مقررة للجملة التى سدت بلى مسدها والضمير فى بعهده يرجع إلى اللّه تعالى أى كل من أوفى بعهد اللّه واتقاه {فإن اللّه يحب المتقين} أى يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى من ويدخل فى ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء قيل نزلت فى عبد اللّه بن سلام ونحوه من مسلمى أهل الكتاب ويجوز أن يرجع الضمير إلى من أوفى أى كل من أوفى بما عاهد اللّه عليه واتقى اللّه في ترك الخيانة والغدر فإن اللّه يحبه ونزل فيمن حرف التوراة وبدل نعته عليه السلام من الهيود واخذ الرشوة على ذلك ٧٧{إن الذين يشترون} يستبدلون {بعهد اللّه} بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم {وأيمانهم} وبما حلفوا به من قولهم واللّه لنؤمنن به ولننصرنه {ثمنا قليلا} متاع الدنيا من الترؤس والإرتشاء ونحو ذلك وقوله بعهد اللّه يقوى رجوع الضمير فى بعهده إلى اللّه {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة} أى لا نصيب {ولا يكلمهم اللّه} بما يسرهم {ولا ينظر إليهم يوم القيامة} نظر رحمة {ولا يزكيهم} ولا يثنى عليهم {ولهم عذاب أليم} مؤلم ٧٨{وإن منهم} من أهل الكتاب {لفريقا} هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيى بن أخطب وغيرهم {يلوون ألسنتهم بالكتاب} يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف واللى الفتل وهو الصرف والمراد تحريفهم كآية الرجم ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ونحو ذلك والضمير فى {لتحسبوه} يرجع إلى مادل عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرف ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه {من الكتاب} أى التوراة {وما هو من الكتاب} وليس هو من التوراة {ويقولون هو من عند اللّه} تأكيد لقوله هو من الكتاب وزيادة تشنيع عليهم {وما هو من عند اللّه ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون} أنهم كاذبون ٧٩{ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب} تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام وقيل قال رجل يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون اللّه ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله {والحكم} والحكمة وهى السنة أو فصل القضاء {والنبوة ثم يقول} عطف على يؤتيه {للناس كونوا عبادا لي من دون اللّه ولكن كونوا ربانيين} ولكن يقول كونوا ربانيين والربانى منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين اللّه وطاعته حين مات ابن عباس قال ابن الحنفية مات ربانى هذه الأمة وعن الحسن ربانيين علماء فقهاء وقيل علماء معلمين وقالوا الربانى العالم العامل {بما كنتم تعلمون الكتاب} كوفى وشامى أى غيركم غيرهم بالتخفيف {وبما كنتم تدرسون} أى تقرءون والمعى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التى هى قوة التمسك بطاعة اللّه مسببة عن العلم والدارسة وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه فى جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل فكان كمن عرس من شجرة حسناء تؤنقه بمظهرها ولا تنفق بثمرها وقيل معنى تدرسون تدرسونه على الناس كقوله لتقرأه على الناس [الاسراء:١٠٦] فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير ٨٠{ولا يأمركم} بالنصب عطفا على ثم يقول ووجهه أن تجعل لا مزيدة لتأكيد معنى النفى في قوله ما كان لبشر والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه وينصبه للدعاء إلى اختصاص اللّه بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم {أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا} كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهيننى ولا يستخف بى وبالرفع حجازى و أبو عمروا وعلى على ابتداء الكلام والهمزة فى {أيأمركم بالكفر} للانكار والضمير فى لا يأمركم وأيأمركم للبشر أو للّه وقوله {بعد إذ أنتم مسلمون} يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له ٨١{وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين} هو على ظاهره من أخد الميثاق على النبيين بذلك أو المراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف واللام فى {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} لام التوطئة لأن أخذ الميثاق فى معنى الاستحلاف وفى لتؤمنن لام جواب القسم وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا و أن تكون موصولة بمعنى الذى آتيتكموه لتؤمنن به {ثم جاءكم} معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به {رسول مصدق لما معكم} لكتاب الذى معكم {لتؤمنن به} بالرسول {ولتنصرنه} أى الرسول وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم لما آتيتكم حمزة وما بمعنى الذى أو مصدرية أى لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجئ رسول مصدق لما معكم واللام للتعليل أى أخذ اللّه ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أنى آتيتكم الحكمة و أن الرسول الذى آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف آتيناكم مدنى {قال} أى اللّه {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} أى قبلتم عهدى وسمى إصرا لأنه مما يؤصر أى يشد ويعقد {قالوا أقررنا قال فاشهدوا} فليشهد بعضكم على بعض بالاقرار {وأنا معكم من الشاهدين} وأنا معكم على ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة اللّه وشهادة بعضهم على بعض وقيل قال اللّه للملائكة اشهدوا ٨٢{فمن تولى بعد ذلك} الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبى الجائى {فأولئك هم الفاسقون} المتمردون من الكفار ٨٣{أفغير دين اللّه يبغون} دخلت همزة الانكار على الفاء العاطفة جملة على جملة والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين اللّه يبغون ثم توسطت الهمزة بينهما ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره أيتولون فغير دين اللّه يبغون وقدم المفعول وهو غير دين اللّه على فعله لأنه أهم من حيث أن الانكار الذى هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل {وله أسلم من في السماوات} الملائكة {والأرض} الإنس والجن {طوعا} بالنظر فى الأدلة والإنصاف من نفسه {وكرها} بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بنى اسرئيل وإدراك الغرق فرعون والاشفاء على الموت فلما رأوابأسنا قالوا آمنا باللّه وحده وانتصب طوعا وكرها على الحال أى طائعين ومكرهين {وإليه ترجعون} فيجازيكم على الأعمال يبغون ويرجعون بالياء فيهما حفص وبالتاء فى الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس وبالتاء فيهما وفتح الجيم غيرهما ٨٤{قل آمنا باللّه وما أنزل علينا} أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير فى قل وجمع فى آمنا أو أمر بان يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من اللّه لقدر نبيه وعدى أنزل هنا بحرف الاستعلاء وفى البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنييم إذ الوحى ينزل من فوق وينتهى إلى الرسول فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر وقال صاحب اللباب والخطاب فى البقرة للأمة لقوله قولوا فلم يصح إلا إلى لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء و إلى أمتهم جميعا وهنا قال قل وهو خطاب للنبى عليه السلام دون أمته فكان اللائق به على لأن الكتب منزلة عليه لاشركة للأمة فيه وفيه نظر لقوله تعالى آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا [آل عمران:٧٢] {وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء {وما أوتي موسى وعيسى والنبيون} كرر فى البقرة وما أوتى ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لما آتيتكم {من ربهم} من عند ربهم {لا نفرق بين أحد منهم} فى الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى {ونحن له مسلمون} موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا فى عبادتنا ٨٥{ومن يبتغ غير الإسلام} يعنى التوحيد وإسلام الوجه للّه أو غير دين محمد عليه السلام {دينا} تمييز {فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} من الذين وقعوا فى الخسران ونزل فى رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ٨٦{كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم} والواو فى {وشهدوا أن الرسول حق} للحال وقد مضمرة أى كفروا وقد شهدوا أن الرسول أى محمد حق أو للعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا {وجاءهم البينات} أى الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} أي ما داموا مختارين الكفر أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفارا ٨٧{أولئك} مبتدأ {جزاؤهم} مبتدأ ثان خبره {أن عليهم لعنة اللّه} وهما خبر أولئك أو جزاؤهم بدل الاشتمال من أولئك {والملائكة والناس أجمعين ٨٨خالدين} حال من الهاء والميم فى عليهم {فيها} فى اللعنة {لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ٨٩إلا الذين تابوا من بعد ذلك} الكفر العظيم والارتداد {وأصلحوا} ما أفسدوا أو دخلوا فى الصلاح {فإن اللّه غفور} لكفرهم {رحيم} بهم ونزل فى اليهود ٩٠{إن الذين كفروا} بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة {ثم ازدادوا كفرا} بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن أو كفروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه فى كل وقت أو نزل فى الذين ارتدوا ولحقوا بمكة وازديادهم الكفران قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون {لن تقبل توبتهم} أى إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال اللّه تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا {وأولئك هم الضالون ٩١إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض} الفاء في فلن يقبل يؤذن بأن الكلام بنى على الشرط والجزاء و أن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب {ذهبا} تمييز {ولو افتدى به} أى فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا قال عليه السلام: يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به فيقول نعم فيقال له لقد سئلت أيسر من ذلك قيل الواو لتأكيد النفى {أولئك لهم عذاب أليم} مؤلم {وما لهم من ناصرين} معينين دافعين للعذاب ٩٢{لن تنالوا البر} لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبرارا أو لن تنالوا بر اللّه وهو ثوابه {حتى تنفقوا مما تحبون} حتى تكون نفقتكم من أموالكم التى تحبونها وتؤثرونها وعن الحسن كل من تصدق ابتغاء وجه اللّه بما يحبه ولو ثمرة فهو داخل فى هذه الآية قال الواسطى الوصول البر بإنفاق بعض المحاب و إلى الرب بالتخلى عن الكونين وقال أبو بكر الوراق لن تنالوا برى بكم إلا ببركم بإخوانكم والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشترى أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له لم لا تتصدق بثمنها قال لأن السكر احب إلى فأردت أن أنفق مما أحب {وما تنفقوا من شيء فإن اللّه به عليم} أى هو عليم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه ومن الأولى للتبعيض لقراءة عبد اللّه حتى تنفققوا بعض ما تحبون والثانية للتبيين أى من أى شيء كان الانفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه ولما قالت اليهود للنبى عليه السلام إنك تدعى انك على ملة إبراهيم وانت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام: كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله فقالت اليهود إنها لم تزل محرمة فى ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيبا لهم ٩٣{كل الطعام} أى المطعومات التى فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم {كان حلا لبني إسرائيل} أى حلالا وهو مصدر يقال حل الشئ حلا ولذا استوى فى صفته المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال اللّه تعالى لا هن حل لهم [الممتحنة:١٠] {إلا ما حرم إسرائيل} أى يعقوب {على نفسه من قبل أن تنزل التوراة} وبالتخفيف مكى وبصرى وهو لحوم الابل وألبانها وكانا أحب الطعام إليه والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلا لبنى إسرائيل من قبل إنزال التوارة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الابل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه فلم يجرءوا على إخراج التوراة وبهتوا وفيه دليل بين على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذى ينكرونه ٩٤{فمن افترى على اللّه الكذب} بزعمه أن ذلك كان محرما فى ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام {من بعد ذلك} من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة {فأولئك هم الظالمون} المكابرون الذين لا ينصفون من انفسهم ولا يلتفتون إلى البينات ٩٥{قل صدق اللّه} فى إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أى ثبت أن اللّه تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون {فاتبعوا ملة إبراهيم} وهىملة الإسلام التى عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التى ورطتكم فى فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب اللّه لتسوية أغراضكم وألزمتكم تحريم الطيبات التى أحلها اللّه لإبراهيم ولمن تبعه {حنيفا} حال ن إبراهيم أى مائلا عن الأديان الباطلة {وما كان من المشركين} ولما قالت اليهود للمسلمين قبلتنا قبل قبلتكم نزل ٩٦{إن أول بيت وضع للناس} والواضع هو اللّه عزوجل ومعنى وضع اللّه بيتا للناس أنه جعله متعبدا لهم فكأنه قال إن أول متعبد للناس الكعبة وفى الحديث: أن المسجد الحرم وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة قيل أول من بناه إبراهيم وقيل هو أول بيت حج بعد الطوفان وقيل هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والارض وقيل هو أول بيت بناه آدم عليه السلام فى الأرض وقوله وضع للناس فى موضع جر صفة لبيت والخبر {للذي ببكة} أى للبيت الذى ببكة وهى علم للبلد الحرام ومكة وبكة لغتان فيه وقل مكة البلد وبكة موضع المسجد وقيل اشتقاقها من بكة إذا زحمه لازدحام الناس فيها أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أى تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه اللّه {مباركا} كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيآت {وهدى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم ومباركا وهدى حالان من الضمير فى موضع ٩٧{فيه آيات بينات} علامات واضحات لا تلتبس على أحد {مقام إبراهيم} عطف بيان لقوله آيات بينات وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهرور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللّه تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه فى حجر صلد أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم فى الصخرة الصماء آية وغوصه فيها إلى الكعبين آية و إلانة بعض الصخرة دون بعض آية وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن {ومن دخله كان آمنا} عطف بيان لآيات و إن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام لابراهيم وأمن داخله والاثنان فى معنى الجمع ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما لدلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحوا نمحاق الأحجار مع كثرة الرماة وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ونحوه فى طى الذكر قوله عليه السلام: حبب إلى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عينى فى الصلاة فقرة عينى ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا والثالث يطوى وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيها على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئا من الدنيا فذكر شيئا هو من الدين وقيل فى سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه وقيل أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة اسمعيل عليه السلام أنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقى أثر قدميه عليه وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا وكان الرجل لوجنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب وعن عمر رضى اللّه عنه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب مامسته حتى يخرج منه ومن لزمه الفتل فى الحل بقود اوردة أو زنا فإلتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وقيل أمنا من النار لقوله عليه السلام من مات فى أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار وعنه عليه السلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران فى الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة وعنه عليه السلام من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتى عام {وللّه على الناس حج البيت} أى استقر له عليهم فرض الحج حج البيت كوفى غير ابى بكر وهو إسم وبالفتح مصدر وقيل هما لغتان فى مصدر حج {من} فى موضع جر على أنه بدل البعض من الكل {استطاع إليه سبيلا} فسرها النبى عليه السلام بالزاد والراحلة والضمير فى إليه للبيت أو للحج وكل مأتى إلى الشئ فهو سبيل إليه ولما نزل قوله تعالى {وللّه على الناس حج البيت} جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن اللّه تعالى كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه فنزل {ومن كفر} أى جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ويجوز أن يكون من الكفران أى ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج {فإن اللّه غني عن العالمين} مستغن عنهم وعن طاعتهم وفى هذه الآية انواع من التأكيد والتشديد منها اللام وعلى أى أنه حق واجب للّه فى رقاب الناس ومنها الابدال ففيه تنبيه للمراد وتكرير له و لأن الإيضاح بعد الابهام والتفصيل بعد الاجمال أيراد له فى صورتين مختلفتين ومنها قوله ومن كفر مكان ومن لم يحج تغليظا على تاركى الحج ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط ومنها قوله عن العالمين و إن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة و لأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظيم السخط الذى وقع عبارة عنه ٩٨{قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه واللّه شهيد على ما تعملون} الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات اللّه الدلالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن اللّه شهيد على اعمالكم فيجازيكم عليها ٩٩{قل يا أهل الكتاب لم تصدون} الصد المنع {عن سبيل اللّه من آمن} عن دين حق علم أنه سبيل اللّه التى أمر بسلوكها وهو الاسلام وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل {تبغونها} تطلبون لها نصب على الحال {عوجا} اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة بتغيركم صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك {وأنتم شهداء} أنها سبيل اللّه التى لا يصد عنها إلا ضال مضل {وما اللّه بغافل عما تعملون} من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله ١٠٠{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} قيل مر شاس بن قيس اليهودى على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فى مجلس لهم يتحدثون فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شابا من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا السلاح السلاح فبلغ النبى عليه السلام فخرج اليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال: اتدعون الجاهلية و انا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللّه بالإسلام وألف بينكم فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا باكين فنزلت الآية ١٠١{وكيف تكفرون} معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أى من أين يتطرق إليكم الكفر {وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه} والحال أن آيات اللّه وهى القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية {وفيكم رسوله} وبين أظهركم رسول اللّه عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم {ومن يعتصم باللّه} ومن يتمسك بدينه أو بكتابه أو هو حث لهم على الالتجاء إليه فى دفع شرور الكفار ومكايدهم {فقد هدي إلى صراط مستقيم} أرشد إلى الدين الحق أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعا عند الشبه يحفظه عن الشبه ١٠٢{يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته} واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم وعن عبد اللّه هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى أو هو أن لا تأخذه فى اللّه لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه وقيل لا يتقى اللّه عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ١٠٣{واعتصموا بحبل اللّه} تمسكوا بالقرآن لقوله عليه السلام: القرآن حبل اللّه المتين لا تنقضى عجائبة ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم {جميعا} حال من ضمير المخاطبين وقيل تمسكوا باجماع الامة دليله {ولا تفرقوا} أى ولا تتفرقوا يعنى ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى أو كما كنتم متفرقين فى الجاهلية يحارب بعضكم بعضا {واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} كانوا فى الجاهلية بينهم العداوة والحرب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف فى قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخوانا {وكنتم على شفا حفرة من النار} وكنتم مشفين على أن تقعوا فى نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر {فأنقذكم منها} بالإسلام وهو رد على المعتزلة فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا اللّه تعالى والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا و أنث لاضافته إلى الحفرة وشفا الحفرة حرفها ولامها واو فلهذا يثنى شفوان {كذلك} مثل ذلك البيان البليغ {يبين اللّه لكم آياته} أى القرآن الذى فيه أمر ونهى ووعد ووعيد {لعلكم تهتدون} لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب ١٠٤{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} بما استحسنه الشرع والعقل {وينهون عن المنكر} عما استقبحه الشرع والعقل أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة والمنكر ما خالفهما أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصى والدعاء إلى الخير عام فى التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص ومن للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفاية و لأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر فى إقامته فانه يبدأ بالسهل فان لم ينفع ترقى إلى الصعب قال اللّه تعالى فأصلحوا بينهما [الحجرات:٩] ثم قال فقاتلوا أو للتبيين أى وكونوا امة تأمرون كقوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف} [آل عمران:١١٠] {وأولئك هم المفلحون} أى هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه فى أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه وعن على رضى اللّه عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ١٠٥{ولا تكونوا كالذين تفرقوا} بالعداوة {واختلفوا} في الديانة وهم اليهود والنصارى فانهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضا {من بعد ما جاءهم البينات} الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهى كلمة الحق {وأولئك لهم عذاب عظيم} ونصب ١٠٦{يوم تبيض وجوه} أى وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا {وتسود وجوه} أى وجوه الكافرين والبياض من النور والسواد من الظلمة {فأما الذين اسودت وجوههم} فيقال لهم {أكفرتم} فحذف الفاء والقول جميعا للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم {بعد إيمانكم} يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول ابى وهو الظاهر أو هم المرتدون أو المنافقون أى أكفرتم باطنا بعد إيمانكم ظاهرا أو أهل الكتاب وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ١٠٧وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة اللّه} ففى نعمته وهى الثواب المخلد ثم استأنف فقال {هم فيها خالدون} لا يظعنون عنها ولا يموتون ١٠٨{تلك آيات اللّه} الواردة فى الوعد والوعيد وغير ذلك {نتلوها عليك} ملتبسة {بالحق} والعدل من جزاء المحسن والمسء {وما اللّه يريد ظلما للعالمين} أى لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحدا بغير جرم أو يزيد فى عقاب مجرم أو ينقص من ثواب محسن ١٠٩{وللّه ما في السماوات وما في الأرض وإلى اللّه ترجع الأمور} فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته ترجع شامى وحمزة وعلى كان عبارة عن وجود الشئ فى زمان ماض على سبيل الإبهام ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على إنقطاع طارئ ومنه قوله ١١٠{كنتم خير أمة} كأنه قيل وجدتم خير أمة أو كنتم فى علم اللّه أو فى اللوح خير امة أو كنتم فى الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به {أخرجت} أظهرت {للناس} اللام يتعلق بأخرجت {تأمرون} كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم بينت بالاطعام والالباس وجه الكرم فيه {بالمعروف} بالإيمان وطاعة الرسول {وتنهون عن المنكر} عن الكفر وكل محظور {وتؤمنون باللّه} وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضى الترتيب {ولو آمن أهل الكتاب} بمحمد عليه السلام {لكان خيرا لهم} لكان الإيمان خيرا لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم عن دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لكان خيرا لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين {منهم المؤمنون} تعبد اللّه بن سلام وأصحابه {وأكثرهم الفاسقون} المتمردون في الكفر ١١١{لن يضروكم إلا أذى} إلا ضررا مقتصرا على أذى بقول من طعن فى الدين أو تهديد أو نحو ذلك {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} منهزمين ولا يضروكم يقتل أو أسر {ثم لا ينصرون} ثم لا يكن لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء اخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على يولوكم إذ لو كان معطوفا عليه لقيل ثم لا ينصروا و إنما استؤنف ليؤذن أن اللّه لا ينصرهم قاتلوا أو لم يقاتلوا وتقدير الكلام أخبركم أنهم أن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وثم للتراخى فى المرتبة لأن الاخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار ١١٢{ضربت} ألزمت {عليهم الذلة} أى على اليهود {أينما ثقفوا} وجدوا {إلا بحبل من اللّه} فى محل النصب على الحال والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من اللّه {وحبل من الناس} والحبل العهد والذمة والمعنى ضربت عليهم الذلة فى كل حال إلا فى حال اعتصامهم بحبل اللّه وحبل الناس يعنى ذمة اللّه وذمة المسلمين أى لا عز لهم قط الاهذه الواحدة وهى التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية {وباؤوا بغضب من اللّه} استوجبوه {وضربت عليهم المسكنة} الفقر عقوبة لهم على قولهم إن اللّه فقير ونحن أغنياء أو خوف الفقر مع قيام اليسار {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حق} ذلك اشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب اللّه أى ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء بغير حق ثم قال {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أى ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم للّه واعتدائهم لحدوده ١١٣{ليسوا سواء} ليس أهل الكتاب مستوين {من أهل الكتاب} كلام مستأنف لبيان قوله {ليسوا سواء} كما وقع قوله {تأمرون بالمعروف} بيانا لقوله {كنتم خير أمة} {أمة قائمة} جماعة مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام أى استقام وهم الذين أسلموا منهم {يتلون آيات اللّه} القرآن {آناء الليل} ساعاته واحدها إنى كمعنى أو إنو كقنو أو إنى كنحى {وهم يسجدون} يصلون قيل يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها وقيل عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن فى ساعات الليل مع السجود ١١٤{يؤمنون باللّه واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف} بالايمان وسائر أبواب البر {وينهون عن المنكر} عن الكفر ومنهيات الشرع {ويسارعون في الخيرات} يبادرون اليها خشية الفوت وقوله يتلون [آل عمران:١١٣] و يؤمنون فى محل الرفع صفتان لأمة أى أمة قائمة تالون مؤمنون ووصفهم بخصائص ما كانت فى اليهود من تلاوة آيات اللّه بالليل ساجدين ومن الإيمان باللّه لأن ايمانهم به كلا ايمان لا شراكهم به عزيرا وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ومن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها والمسارعة فى الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب فى الأمر سارع بالقيام به {وأولئك} الموصفون بما وصفوا به {من الصالحين} من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند اللّه ورضيهم ١١٥{وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} بالياء فيهما كوفى غير أبى بكر و أبو عمرو مخير غيرهم بالتاء وعدى يكفروه إلى مفعولين وان كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها لتضمنه معنى الحرمان كأنه قيل فلن تحرموه أى فلن تحرموا جزاءه {واللّه عليم بالمتقين} بشارة للمتقين بجزيل الثواب ١١٦{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا} أى من عذاب اللّه {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ١١٧مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا} فى المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى اللّه مع كفرهم {كمثل ريح} كمثل مهلك ربح وهو الحرث أو مثل اهلاك ما ينفقون كمثل اهلاك ريح {فيها صر} برد شديد عن ابن عباس رضى اللّه عنهما وهو مبتدأ وخبر فى موضع جر صفة لربح مثل {أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم} بالكفر {فأهلكته} عقوبة على كفرهم {وما ظلمهم اللّه} باهلاك حرثهم {ولكن أنفسهم يظلمون} بارتكاب ما استحقوا به العقوبة أو يكون الضمير للمنفقين أى وما ظلمهم اللّه بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لاثقة للقبول ونزل نهيا للمؤمنين عن مصافاة المنافقين ١١٨{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة} بطانة الرجل ووليجته خصيصته وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال فلان شعارى وفى الحديث: الأنصار شعار والناس دثار {من دونكم} من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أى بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم {لا يألونكم خبالا} فى موضع النصب صفة لبطانة يعنى لا يقصرون فى فساد دينكم يقال ألا فى الأمر يألو إذا قصر فيه والخبال الفساد وانتصب خبالا على التمييز أو على حذف فى أى فى خبالكم {ودوا ما عنتم} أى عنتكم فما مصدرية والعنت شدة الضرر والمشقة أى تمنوا أن يضروكم فى دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه وهو مستأنف على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة كقوله {قد بدت البغضاء من أفواههم} لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم انفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بعضهم للمسلمين {وما تخفي صدورهم} من البغض لكم {أكبر} مما بدا {قد بينا لكم الآيات} الدالة على وجوب الاخلاص فى الدين وموالاة أولياء اللّه ومعاداة أعدائه {إن كنتم تعقلون} ما بين لكم ١١٩{ها أنتم أولاء} ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره أى أنتم أولاء الخاطئون فى موالاة منافقى أهل الكتاب {تحبونهم ولا يحبونكم} بيان لخطئهم فى موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء وأولاء موصول صلتة تحبونهم والواو فى {وتؤمنون بالكتاب كله} للحال وانتصابها من لا يحبونكم أى لا يحبونكم والحال انكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشئ من كتابكم وفيه توبيخ شديد لأنهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم وقيل الكتاب للجنس {وإذا لقوكم قالوا آمنا} أظهروا كلمة التوحيد {وإذا خلوا} فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والابهام {قل موتوا بغيظكم} دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله وما لهم فى ذلك من الذل والخزى {إن اللّه عليم بذات الصدور} فهو يعلم ما فى صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم فى حال خلو بعضهم ببعض وهو داخل فى جملة المقول أى أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظا إذا خلوا وقل لهم إن اللّه عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور فلا تظنوا أن شيئا من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول أى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعى إياك على ما يسرون فانى أعلم بما هو اخفى من ذلك وهو ما أضمروه فى صدورهم ١٢٠{إن تمسسكم حسنة} رخاء وخصب وغنيمة ونصرة {تسؤهم} تحزنهم اصابتها {وإن تصبكم سيئة} اضداد ما ذكرنا والمس مستعار من الاصابة فكان المعنى واحدا ألا ترى إلى قوله تعالى {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة} [التّوبة:٥٠] {يفرحوا بها} باصابتها {وإن تصبروا} على عداوتهم {وتتقوا} ما نهيتم عنه من موالاتهم أو وان تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا اللّه فى اجتنابكم محارمه {لا يضركم كيدهم شيئا} مكرهم وكنتم فى حفظ اللّه وهذا تعليم من اللّه وارشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى وقال الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا فى نفسك لا يضركم مكى وبصرى ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغى أن يكون بفتح الراء كقراءة المفصل عن عاصم إلا أن ضمة الراء لا تباع ضمة الضاد نحو مد يا هذا {إن اللّه بما تعملون} بالتاء سهل أى من الصبر والتقوى وغيرهما {محيط} ففاعل بكم ما أنتم أهله وبالياء غيره أى أنه عالم بما يعملون فى عداوتكم فمعاقبهم عليه ١٢١{وإذ غدوت من أهلك} واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة والمراد غدوه من حجرة عائشة رضى اللّه عنها إلى أحد {تبوئ المؤمنين} تنزلهم وهو حال {مقاعد للقتال} مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة وللقتال يتعلق يتبوئ {واللّه سميع عليم} سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصحابه ودعا عبد اللّه بن أبى فاستشاره فقال اقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم فقال عليه السلام: إنى رأيت فى منامى بقرامذبحة حولى فأولتها خيرا ورأيت فى ذباب سيفى ثلمة فأولتها هزيمة ورأيت كأنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة فلم يزل به قوم ينشطون فى الشهادة حتى لبس لامته ثم ندموا فقالوا الأمر اليك يا رسول اللّه فقال عليه السلام: لا ينبغى لنبى أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل فخرج بعد صلاة الجمعة و أصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال ١٢٢{إذ همت} بدل من إذ غدوت أو عمل فيه معنى عليم {طائفتان منكم} حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكان عليه السلام خرج إلى أحد فى ألف والمشركون فى ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح أن صبروا فانخذل عبد اللّه بن أبى بثلث الناس وقال علام نقتل أنفسنا واولادنا فهم الحيان باتباعه فعصمهم اللّه فمضوا مع رسول اللّه {أن تفشلا} أى بأن تفشلا أى بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور {واللّه وليهما} محبهما أو ناصرهما أو متولى أمر هما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على اللّه {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه قال جابر واللّه ما يسرنا انا لم نهم بالذى هممنا به وقد أخبرنا اللّه بأنه ولينا ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسرلهم من الفتح يوم بدروهم فى حال قلة وذلة فقال ١٢٣{ولقد نصركم اللّه ببدر} وهو إسم ما ء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدرا فسمى به أو ذكر بدر ا بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر {وأنتم أذلة} لقلة العدد فانهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وكان عدوهم زهاء الف مقاتل والعدد فانهم خرجوا على التواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة جاء يجمع القلة وهو اذلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلا {فاتقوا اللّه} فى الثبات مع رسوله {لعلكم تشكرون} بتقواكم ما أنعم اللّه به عليكم من النصر ١٢٤{إذ تقول للمؤمنين} ظرف لنصركم على أن تقول لهم ذلك يوم بدر أى نصركم اللّه وقت مقالتكم هذه أو بدل ثان من إذ غدوت على أن تقول لهم ذلك يوم أحد {ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} منزلين شامى منزلين أبو حيوة أى للنصرة ومعنى ألن يكفيكم إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وجئ بلن الذى هو لتأكيد النفى للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر ١٢٥{بلى} إيجاب لما بعد لن أى يكفيكم الامداد بهم فأوجب الكفاية ثم قال {إن تصبروا} على القتال {وتتقوا} خلاف الرسول عليه السلام {ويأتوكم} يعنى المشركين {من فورهم هذا} من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التى لا ريث بها ولا تعريج على شيء ن صاحبها فقيل خرج من فوره كما تقول من ساعته لم يلبث ومنه قول الكرخى الأمر المطلق على الفور لا على التراخي والمعنى أن يأتوكم من ساعتهم هذه {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة} فى حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعنى أن اللّه تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم {مسومين} بكسر الواو مكى وأبو عمرو وعاصم وسهل أى معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعرف بها فى الحرب والسومة العلامة عن الضحاك معلمين بالصوف الابيض فى تواصى الدواب وأذنابها غيرهم بفتح الواو أى معلمين قال الكلبى معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم وكانت عمامه الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك قال قتادة نزلت ألفا فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف ١٢٦{وما جعله اللّه} الضمير يرجع إلى الامداد الذي دل عليه أن يمدكم {إلا بشرى لكم} أي وما جعل اللّه إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون {ولتطمئن قلوبكم به} كما كانت السكينة لبنى إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم {وما النصر إلا من عند اللّه} لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوى به اللّه رجاء النصرة والطمع فى الرحمة {العزيز} الذى لا يغالب فى أحكامه {الحكيم} الذى يعطى النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه واللام فى ١٢٧{ليقطع طرفا من الذين كفروا} ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقة بقوله ولقد نصركم اللّه أو بقوله وما النصر إلا من عند اللّه أو يمددكم ربكم {أو يكبتهم} أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة وحقيقة الكبت شدة وهن تقع فى القلب فيصرع فى الوجه لأجله {فينقلبوا خائبين} فيرجعو غير ظافرين بمبتغاهم ١٢٨{ليس لك من الأمر شيء} اسم ليس شيء والخبر لك ومن الامر حال من شيء لانها صفة مقدمة {أو يتوب عليهم} عطف على ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم وليس لك من الأمر شيء اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه والمعنى أن اللّه تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا {أو يعذبهم} إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لانذارهم ومجاهدتهم وعن الفراء أو بمعنى حتى وعن ابن عيسى بمعنى إلا أن كقولك لآلزمتك أو تعطينى حقى أى ليس لك من امرهم شيء إلا أن يتوب اللّه عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتشفى منهم وقيل أراد أن يدعوا عليهم فنهاه اللّه تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن {فإنهم ظالمون} مستحقون للتعذيب ١٢٩{وللّه ما في السماوات وما في الأرض} أى الأمر له لا لك لأن ما فى السموات وما فى الأرض ملكه {يغفر لمن يشاء} للمؤمنين {ويعذب من يشاء} الكافرين {واللّه غفور رحيم} ١٣٠يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} مضعفة مكى وشامى هذا نهى عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول إما أن تقضى حقى أو تربى وتزيد فى الأجل {واتقوا اللّه} فى أكله {لعلكم تفلحون} ١٣١واتقوا النار التي أعدت للكافرين} كان أبو حنيفة رضى اللّه عنه يقول هى أخوف آية فى القرآن حيث اوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله ١٣٢{وأطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون} وفيه رد على المرجئة فى قولهم لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلا وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة وفى ذكره تعالى لعل وعسى فى نحو هذا المواضع و إن قال أهل التفسير أن لعل وعسى من اللّه للتحقيق مالا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا اللّه تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه ١٣٣{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} سارعوا مدنى وشامى فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها ومن حذفها استأنفها ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الاقبال على ما يوصل اليها ثم قيل هى الصلوات الخمس أو التكبيرة الاولى أو الطاعة أو الإخلاص أو التوبة أو الجمعة والجماعات {عرضها السماوات والأرض} أى عرضها عرض السموات والأرض كقوله عرضها كعرض السماء و الأرض والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس خلقه وأبسطه وخص العرض لأنه فى العادة أدنى من الطول للمبالغة وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض وما روى أن الجنة فى السماء السابعة أو فى السماء الرابعة فمعناه أنها فى جهتها لا أنها فيها أو فى بعضها كما يقا فى الدار بستان و إن كان يريد عليها لأن المراد أن بابه إليها {أعدت} فى موضع جر صفة لجنة أيضا أى جنة واسعة معدة {للمتقين} ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان ثم المتقى من يتقى الشرك كما قال وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا باللّه ورسله أو من يتقى المعاصى فإن كان المراد الثاني فهى لهم بغير عقوبة و إن كان الأول فهى لهم أيضا فى العاقبة ويوقف عليه إن جعل ١٣٤{الذين ينفقون في السراء والضراء} فى حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة وجعل الخبر أولئك و إن جعل وصفا للمتقين وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة وجعل الخبر أولئك و إن جعل وصفا للمتقين وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة أى أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف فإن قلت الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين قلت جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل اللّه وعفوه غيرها كما يقال أعدت هذه المائدة للأمير ثم قد يأكلها أتباعه ألا ترى أنه قال واتقوا النار التى أعدت للكافرين ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق وافتتح بذكر الانفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص ولأنه كان فى ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه فى مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين وقيل المراد الانفاق فى جميع الأحوال لانها لا تخلوا من حال مسرة ومضرة {والكاظمين الغيظ} والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا ملأها وشدفاها ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما فى نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا والغيظ توقد حرارة القلب من الغضب وعن النبى عليه السلام: من كظم غيظا وهو يقدر على انقاذه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا {والعافين عن الناس} أى إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروى ينادى مناد يوم القيامة أين الذين كان أجورهم على اللّه فلا يقوم إلا من عفا وعن ابن عيبنة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه {واللّه يحب المحسنين} اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون أو للعهد فيكون إشاره إلى هؤلاء عن الثورى الإحسان أن تحسن إلى المسئ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة ١٣٥{والذين إذا فعلوا فاحشة} فعلة متزايدة القبح ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك {وظلموا أنفسهم} قيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما {ذكروا اللّه} بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة {فاستغفروا لذنوبهم} فتابوا عنها لقبحها نادمين قيل بكى إبليس حين نزلت هذه الآية {ومن يغفر الذنوب إلا اللّه} من مبتدأ ويغفر خبره وفيه ضمير يعود إلى من و إلا اللّه بدل من الضمير في يغفر والتقدير ولا أحد يغفر الذنوب إلا اللّه وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه تطييب لنفوس العباد وتنشيط للتبوبة وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته ن التائب وإشعار بأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم {ولم يصروا على ما فعلوا} ولم يقيموا على قبيح فعلهم والاصرار الإقامة قال عليه السلام: ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة وروى لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغير مع الاصرار {وهم يعلمون} حال من الضمير فى ولم يصروا أى وهم يعلمون أنهم أساءوا أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا اللّه ١٣٦{أولئك} الموصوفون {جزاؤهم مغفرة من ربهم} بتوبته {وجنات} برحمته {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} المخصوص بالمدح محذوف أى ونعم أجر العاملين وذلك يعنى المغفرة والجنات نزلت فى ثمار قال لامرأة تريد التمر فى بيتى تمر أجود فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم أو فى أنصارى استخلفه ثقفى وقد آخى بينهما النبى عليه السلام فى غيبة غزوة فأتى اهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح فى الأرض صارخا فاستعتبه اللّه تعالى ١٣٧{قد خلت} مضت {من قبلكم سنن} يريد ما سنة اللّه تعالى فى الأمم المكذبين من وقائعه {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} فتعتبروا بها ١٣٨{هذا} أى القرآن أو ما تقدم ذكره {بيان للناس وهدى} أى إرشاد {وموعظة} ترغيب وترهيب {للمتقين} عن الشرك ١٣٩{ولا تهنوا} ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة {ولا تحزنوا} على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح وهو تسلية من اللّه لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم {وأنتم الأعلون} وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد أو أنتم الأعلون بالنصر والظفر فى العاقبة وهى بشارة لهم بالعلو والغلبة وإن جندنا لهم الغالبون أو وأنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم للّه ولاعلاء كلمته وقتالهم للشيطان ولاعلاء كلمة الكفر أو لآن قتلاكم فى الجنة وقتلاهم فى النار {إن كنتم مؤمنين} متعلق بالنهى أى ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعنى أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد اللّه وقلة المبالاة بأعدائه أو بالأعلون أى إن كنتم مصدقين بما يعدكم اللّه به ويبشركم به من الغلبة ١٤٠{إن يمسسكم قرح} بضم القاف حيث كان كوفى غير حفص وبفتح القاف غيرهم وهما لغتان كالضعف والضعف وقيل بالفتح الجراحة وبالضم ألمها {فقد مس القوم قرح مثله} أى أن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منه يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا {وتلك} مبتدا {الأيام} صفته والخبر {نداولها} نصرفها {بين الناس} أى نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطى لهؤلاء تارة وطورا لهؤلاء كبيت الكتاب فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر {وليعلم اللّه الذين آمنوا} أى نداولها لضروب من التدبير وليعلم اللّه المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود {ويتخذ منكم شهداء} وليكرم ناسا منكم بالشهادة يريد للمستشهدين يوم أحد أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله لتكونوا شهداء على الناس {واللّه لا يحب الظالمين} اعتراض بين بعض التعليل وبعض ومعناه واللّه لا يحب من لبس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين فى سبيله وهم المنافقون والكافرون ١٤١{وليمحص اللّه الذين آمنوا} التمحيص التطهير والتصفية {ويمحق الكافرين} ويهلكهم يعنى إن كانت الدولة على المؤمنين للتمييز والاستشهاد والتمحيض وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم ١٤٢{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أى لا تحسبوا {ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم} اى ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقة لأنه منتف بانتفائه تقول ما علم اللّه فى فلان خيرا أى ما فيه خير حتى بعلمه ولما بمعنى لم إلا أن فيه ضربا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل {ويعلم الصابرين} نصب باضماران والواو بمعنى الجمع نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن أو جزم للعطف على يعلم اللّه و إنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها ١٤٣{ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه} خوطب به الذين لم يشهدوا بدرا وكان يتمنون أن يحضروا مشهدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لينالوا كرامة الشهادة وهم الذين ألحو على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الخروج إلى المشركين وكان رأيه فى الإقامة بالمدينة يعنى وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه و تعرفوا شدته {فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أى رأيتموه معا بين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بإلحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه و إنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من علبة الكفار كمن شرب الدواء من طيبب نصرانى فان قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو اللّه وتنفيقا لصناعته لما رمى ابن قمئة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال قتلت محمدا وخرج صارخا قيل هو الشيطان ألا إن محمدا قد قتل ففشا فى الناس خبر قتله فانكفئوا وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوا إلى عباد اللّه حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا يا رسول اللّه فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل ١٤٤{وما محمد إلا رسول قد خلت} مضت {من قبله الرسل} سيخلوكما خلوا وكما أن أتباعهم بقوا متمسكنين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينهم بعد خلوه لأن المقصود من بعثه الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التى قبلها على معنى التسبيب والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم على اعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه والانقلاب على العقبين مجاز على الإرتداد أو عن الإنهزام {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر اللّه شيئا} وإنما ضر نفسه {وسيجزي اللّه الشاكرين} الذين لم ينقلبوا وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا ١٤٥{وما كان} وما جاز {لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه} أى بعلمه أو بأن بأذن ملك الموت فى قبض روحه والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة اللّه وفيه تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو وإعلام بأن الحذر لا ينفع وان أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك {كتابا} مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتابا {مؤجلا} مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر {ومن يرد} بقتاله {ثواب الدنيا} أى الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد {نؤته منها} من ثوابها {ومن يرد ثواب الآخرة} أى إعلاء كلمة اللّه والدرحة فى الآخرة {نؤته منها وسنجزي الشاكرين} وسنجزى الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة اللّه فلم يشغلهم شيء عن الجهاد ١٤٦{وكأين} أصله أى دخل عليه كاف التشبيه وصار فى معنى كم التى للتكثير وكائن يوزن كاع حيث كان مكى {من نبي قاتل} قتل مكى وبصرى ونافع {معه} حال من الضمير فى قتل أى قتل كائنا معه {ربيون كثير} والربيون والربانيون وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب والضم والكسر من تغييرات النسب {فما وهنوا} فما فتروا عند قتل نبيهم {لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا} عن الجهاد بعده {وما استكانوا} وما خضعوا لعدوهم وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الارجاف بقتل رسول اللّه عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبى فى طلب الأمان من أبى سفيان {واللّه يحب الصابرين} على جهاد الكافرين ١٤٧{وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا} أى وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضمالها {وإسرافنا في أمرنا} تجاوزنا حد العبودية {وثبت أقدامنا} فى القتال {وانصرنا على القوم الكافرين} بالغلبة وقدم الدعاء الاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام فى مواطن الحرب والنصرة على الأعداء لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة ١٤٨{فآتاهم اللّه ثواب الدنيا} أى النصرة والظفر والغنيمة {وحسن ثواب الآخرة} المغفرة والجنة وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه و أنه هو المعتد به عنده {واللّه يحب المحسنين} أى هم محسنون واللّه يحبهم ١٤٩{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم} يرجعوكم إلى الشر {فتنقلبوا خاسرين} قيل هو عام فى جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم فى شيء حتى لا يستجروهم إن موافقتهم وعن السدى إن تستكينوا لأبى سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم وقال على رضى اللّه عنه نزلت فى قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا فى دينهم ١٥٠{بل اللّه مولاكم} ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره {وهو خير الناصرين ١٥١سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الرعب شامى وعلى وهما لغتان قيل قذف اللّه فى قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة {بما أشركوا باللّه} بسبب إشراكهم أى كان السبب فى القاء اللّه الرعب فى قلوبهم إشراكهم به {ما لم ينزل به سلطانا} آلهة لم ينزل اللّه باشراكها حجة ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة و إنما المراد نفى الحجة ونزولها جميعا كقوله ولا ترى الضب بها ينجحر أى ليس بها ضب فينجحر ولم يعن أن بها ضبا ولا ينجحر {ومأواهم} مرجعهم {النار وبئس مثوى الظالمين} النار فالمخصوص بالذم محذوف ولما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أصحابه إلى المدينة فالناس من اصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا اللّه النصر فنزل ١٥٢{ولقد صدقكم اللّه وعده} أى حقق {إذ تحسونهم} تقتلونهم قتلا ذريعا وعن ابن عيسى حسه أبطل حسه بالقتل {بإذنه} بأمره وعلمه {حتى إذا فشلتم} جبنتم {وتنازعتم في الأمر} أى اختلفتم {وعصيتم} أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة {من بعد ما أراكم ما تحبون} من الظفر وقهر الكفار ومتعلق إذا محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره وجاز أن يكون المعنى صدقكم اللّه وعده إلى وقت فشلكم {منكم من يريد الدنيا} أى الغنيمة وهم الذين تركوا المركز لطلب الغنيمة وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم حتى إذا فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم قد انهزم المشركون فما موقفنا ههنا فادخلوا عسكر المسلمين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم وقال بعضهم لا تخالفوا أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فممن ثبت مكانه عبد اللّه بن جبير أمير الرماة فى نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله {ومنكم من يريد الآخرة} فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد اللّه بن جبير واقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله {ثم صرفكم عنهم} أى كفك معونته عنكم فغلبوكم {ليبتليكم} ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازى على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه {ولقد عفا عنكم} حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {واللّه ذو فضل على المؤمنين} بالعفو عنهم وقبول توبتهم أو هو متفضل عليهم فى جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة ١٥٣{إذ تصعدون} تبالغون فى الذهاب فى صعيد الأرض والاصعاد الذهاب فى صعيد الأرض أو الابعاد فيه وانتصب بصرفكم أو بقوله ليبتليكم أو باضمار اذكروا {ولا تلوون على أحد} ولا تلتفتون وهو عبارة عن غاية انهزامهم وخوف عدوهم {والرسول يدعوكم} يقول إلى عباد اللّه انا رسول اللّه من يكر فله الجنة والجملة فى موضع الحال {في أخراكم} فى ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهى المتأخرة يقال جئت فى آخر الناس وأخراهم كما تقول فى أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى {فأثابكم} عطف على صرفكم أى فجازاكم اللّه {غما} حين صرفكم عنهم وابتلاكم {بغم} بسبب غم اذقتموه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعصيانكم امره أو غما مضاعفا غما بعد غم وغما متصلا بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللّه عليه السلام والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر {لكيلا تحزنوا على ما فاتكم} لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع {ولا ما أصابكم} ولا على مصيب من المضار {واللّه خبير بما تعملون} عالم بعلمكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وهذا ترغيب فى الطاعة وترهيب عن المعصية ١٥٤{ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} ثم أنزل اللّه الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذى كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم عن أبى طلحة غشينا النعاس ونحن فى مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه والأمنة الأمن ونعاسا بدل من أمنة أو هو مفعول وأمنة حال منه مقدمة عليه نحو رأيت راكبا رجلا والأصل أنزل عليكم نعاسا ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ويجوز أن يكون أمنة مفعولا له أو حالا من المخاطبين بمعنى ذوى أمنه أو على أنه جمع آمن كبار وبررة {يغشى} يعنى النعاس تغشى بالتاء والامالة حمزة وعلى أى الأمنة {طائفة منكم} هم أهل الصدق واليقين {وطائفة} هم المنافقون {قد أهمتهم أنفسهم} ما يهمهم إلا هم انفسهم وخلاصها لاهم الدين ولاهم رسول صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين رضوان اللّه عليهم {يظنون باللّه غير الحق} فى حكم المصدر أى يظنون باللّه غير الظن الحق الذى يحب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمدا صلى اللّه عليه وسلم {ظن الجاهلية} بدل منه والمراد الظن المختص بالمللة الجاهلية أو ظن أهل الجاهلية أى لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون باللّه {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} هل لنا معاشر المسلمين من أمر اللّه نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو {قل إن الأمر} أى النصر والغلبة {كله للّه} ولأوليائه المؤمنين و إن جندنا لهم الغالبون كله تأكيد للأمر وللّه خبران كله بصرى وهو مبتدأ وللّه خبره والجملة خبران {يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} خوفا من السيف {يقولون} فى أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم إن الأمر كله للّه {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} أى لو كان الأمر كما قال محمد أن الأمر كله للّه ولأوليائه و أنهم الغالبون لما غلبنا قط ولما قتل من المسلمين من قتل فى هذه المعركة قد أهمتهم صفة لطائفة ويظنون خبر لطائفة أو صفة أخرى أو حال أى قد اهمتهم أنفسهم ظانين ويقولون بدل من يظنون ويخفون حال من يقولون وقل إن الأمر كله للّه اعتراض بين الحال وذي الحال ويقولون بدل من يخفون أو استئناف {قل لو كنتم في بيوتكم} أى ن علم اللّه منه أنه يقتل فى هذه المعركة وكتب ذلك فى اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم فى بيوتكم {لبرز} من بينكم {الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} مصارعهم بأحد ليكون ما علم اللّه أنه يكون والمعنى أن اللّه كتب فى اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة فى الغلبة لهم وان دين الإسلام يظهر على الدين كله وان ما ينكبون به فى بعض الأوقات تمحيص لهم {وليبتلي اللّه ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} وليمتحن ما فى صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما فى قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللاتبلاء والتمحيص {واللّه عليم بذات الصدور} بخفياتها ١٥٥{إن الذين تولوا منكم} انهزموا {يوم التقى الجمعان} جمع محمد عليه السلام وجمع أبى سفيان للقتال بأحد {إنما استزلهم الشيطان} دعاهم إلى الزلة وحمهلم عليها {ببعض ما كسبوا} بتركهم المركز الذى امرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب وكان اصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلا منهم أبو بكر وعلى وطلحة وابن عوف وسعد بن أبى وقاص والباقون من الأنصار {ولقد عفا اللّه عنهم} تجاوز عنهم {إن اللّه غفور رحيم} للذنوب {حليم} لا يعاجل بالعقوبة ١٥٦{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} كابن أبى وأصحابه {وقالوا لإخوانهم} أى فى حق إخوانهم في النسب أو في النفاق {إذا ضربوا في الأرض} سافروا فيها للتجارة أو غيرها {أو كانوا غزى} جمع غاز كعاف وعفى وأصابهم موت أو قتل {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم} اللام يتعلق بلا تكونوا أى لا تكونوا كهؤلاء فى النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل اللّه ذلك حسرة فى قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم أو بقالوا أى قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة فى قلوبهم خصاة والحسرة الندامة على فوت المحبوب {واللّه يحيي ويميت} رد لقولهم إن القتال يقطع الآجال أى الأمر بيده قد يحيى المسافر والمقاتل ويميت المقيم والقاعد {واللّه بما تعملون بصير} فيجازيكم على أعمالكم يعملون مكى وحمزة وعلى أى الذين كفروا ١٥٧{ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم} متم وبابه بالكسر نافع وكوفى غير عاصم تابعهم حفص إلا فى هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم غيرهم بضم الميم فى جميع القرآن فالضم من مات يموت والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت {لمغفرة من اللّه ورحمة خير مما يجمعون} ما بمعنى الذى والعائد محذوف وبالياء حفص ١٥٨{ولئن متم أو قتلتم لإلى اللّه تحشرون} لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم اللّه فى هذا الموضع مع تقديمه وادخال اللام على الحرف المتصل به شأن غنى عن البرهان لمغفرة جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط وكذلك لإلى اللّه تحشرون كذب الكافرين اولا فى زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ثم قال لهم ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل فى سبيل اللّه فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت فى سبيل اللّه خير مما تجمعون من الدنيا فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد ١٥٩{فبما رحمة من اللّه لنت لهم} ما مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من اللّه ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم {ولو كنت فظا} جافيا {غليظ القلب} قاسية {لانفضوا من حولك} لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم {فاعف عنهم} ما كان منهم يوم أحد مما يختص بك {واستغفر لهم} فيما يختص بحق اللّه إتماما للشفقة عليهم {وشاورهم في الأمر} أى فى أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحى تطبيبا لنفوسهم وترويحا لقلوبهم ورفعا لأقدارهم أو لتقتدى بك أمتك فيها فى الحديث: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعنى شاورت فلانا أظهرت ما عندى وما عنده من الرأى وشرت الدابة واستخرجت جريها وشرت العسل أخذته من مآخذ نوفيه دلالة جواز الاجتهاد وبيان أن القياس حجة {فإذا عزمت} فإذا قطعت الرأى على شيء بعد الشورى {فتوكل على اللّه} فى إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة {إن اللّه يحب المتوكلين} رعليه والتوكل الاعتماد على اللّه والتفويض فى الأمور إليه وقال ذو النون خلع الأرباب وقطع الأسباب ١٦٠{إن ينصركم اللّه} كما نصركم يوم بدر {فلا غالب لكم} فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر اللّه من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته {وإن يخذلكم} كما خذلكم يوم أحد {فمن ذا الذي ينصركم من بعده} من مبعد خذلانه وهو ترك المعونة أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته وهذا تنبيه على أن الأمر كله للّه وعلى وجوب التوكل عليه {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه علمهم أنه لا ناصر سواه و لأن إيمانهم يقتضى ذلك ١٦١{وما كان لنبي أن يغل} مكى و أبو عمرو وحفص وعاصم أى يخون وبضم الياء وفتح الغين غيرهم يقال غل شيئا من المغنم غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه فى خفية ويقال أغله إذا وجده غالا والمعنى ما صح له ذلك يعنى أن النبوة تنافى الغلول وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه وما صح له أن يوجد غالا ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها فنزلت الآية {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} أى يأت بالشئ الذى غله بعينه حاملا له على ظهره كما جاء فى الحديث أو يأت بما احتمل من وباله واثمه {ثم توفى كل نفس ما كسبت} تعطى جزاؤها وافيا ولم يقل ثم يوفى ما كسب ليتصل بقوله يغلل بل جيئ بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيرا أو شرا مجزى فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب {وهم لا يظلمون} أى جزاء كل على قدر كسبه ١٦٢{أفمن اتبع رضوان اللّه} أى رضا اللّه قيل هم المهاجرون والأنصار {كمن باء بسخط من اللّه} وهم المنافقون والكفار {ومأواه جهنم وبئس المصير} المرجع ١٦٣{هم درجات عند اللّه} هم متفاوتون كما يتفاوت الدرجات أو ذوو درجات والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين والتفاوت بين الثواب والعقاب {واللّه بصير بما يعملون} عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسابها ١٦٤{لقد من اللّه على المؤمنين} على من آمن مع رسول اللّه عليه السلام من قومه وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} من جنسهم عربيا مثلهم أو من ولد اسماعيل كما أنهم من ولده والمنة فى ذلك من حيث أنه إذا كان منهم كان اللسان واحدا فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله فى الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه وكان لهم شرف بكونه منهم وفى قراءة رسول اللّه من أنفسهم أى من أشرفهم {يتلو عليهم آياته} أى القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق اسماعهم شىء من الوحى {ويزكيهم} ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة {ويعلمهم الكتاب والحكمة} القرآن والسنة {وإن كانوا من قبل} من قبل بعثه الرسول صلى اللّه عليه وسلم {لفي ضلال} عمى وجهالة {مبين} ظاهر لا شبهة فيه إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير وان الشأن والحديث كانوا من قبل فى ضلال مبين ١٦٥{أو لما أصابتكم مصيبة} يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم {قد أصبتم مثليها} يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو فىموضع رفع صفة لمصيبة {قلتم أنى هذا} من أين هذا {قل هو من عند أنفسكم} لا ختياركم الخروج من المدينة أو لترككم المركز لما نصب بقلتم وأصابتكم فى محل الجربإضافة لما إليه وتقديره أفلتم حين أصابتكم وأنى هذا نصب لأنه مقول والهمزة للتقرير والتقريع وعطفت الواو هذه الجملة على ما مضى من قصة أحد من قوله ولقد صدقكم اللّه وعده [آل عمران:١٥٢] أو على محذوف كأنه قيل أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا {إن اللّه على كل شيء قدير} يقدر على النصر وعلى منعه ١٦٦{وما أصابكم} ما بمعنى الذى وهو مبتدأ {يوم التقى الجمعان} جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر {فبإذن اللّه} فكائن بإذن اللّه أى بعلمه وقضائه {وليعلم المؤمنين ١٦٧وليعلم الذين نافقوا} وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر إيمان هولاء ونفاق هؤلاء {وقيل لهم} للمنافقين وهو كلام مبتدأ {تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه} أى جاهدوا للآخرة كما تقاتل المؤمنون {أو ادفعوا} أى قاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة وقيل أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو {قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} أى لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا تبعناكم يعنون أن ما انتم فيه لخطأ رأيكم ليس بشئ ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس فى التهلكة {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} يعنى أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية المشركين {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} أى يظهرون خلاف ما يضمرون من الإيمان وغيره والتقييد بالأفواه للتأكيد ونفى المجاز {واللّه أعلم بما يكتمون} من النفاق ١٦٨{الذين قالوا} أى ابن أبى وأصحابه وهو فى موضع رفع على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون أو نصب باضمارأعنى أو على البدل من الذين نافقوا أو جر على البدل من الضمير فى أفواهم أو قلوبهم {لإخوانهم} لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتلوين يوم أحد {وقعدوا} أى قالوا وقد قعدوا عن القتال {لو أطاعونا ما قتلوا} لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقعود ووافقوا نافيه لما قتلوا كما لم نقتل {قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت أو معناه قل إن كنتم صادقين فى انكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتال فخذوا إلى دفع الموت سبيلا وروى أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا ونزل فى قتلى أحد ١٦٩{ولا تحسبن} شامى وحمزة وعلى وعاصم وبكسرالسين غيرهم والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد {الذين قتلوا} قتلوا شامى {في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء} بل هم أحياء {عند ربهم} مقربون عنده ذوو زلفى {يرزقون} مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التى هم عليها من التنعم برزق اللّه ١٧٠{فرحين} حال من الضمير فى يرزقون {بما آتاهم اللّه من فضله} وهو التوفيق فى الشهادة وما ساق اليهم من الكراهة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلالهم رزق الجنة ونعيمها وقال النبى عليه السلام: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم فى أجواف طير خضر تدور فى أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش وقيل هذا الرزق فى الجنة يوم القيامة وهو ضعيف لأنه لا يبقى للتخصيص فائدة {ويستبشرون بالذين} ربإخوانهم المجاهدين الذين {لم يلحقوا بهم} لم يقتلوا فيلحقوا بهم {من خلفهم} يريد الذين من بعدهم خلفهم قد بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم أو لم يلحقوا بهم يدركوا فضلهم ومنزلتهم {ألا خوف عليهم} بدل من الذين والمعنى ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهم أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة بشرهم اللّه بذلك فهم مستبشرون به وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على الجد فى الجهاد والرغبة فى نيل منازل الشهداء {ولا هم يحزنون} ١٧١{يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل} يسرون بما أنعم اللّه عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة {وأن اللّه} عطف على النعمة والفضل و أن اللّه على بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض {لا يضيع أجر المؤمنين} بل يوفر عليهم ١٧٢{الذين استجابوا للّه والرسول} مبتدأ خبره للذين أحسنوا وصفة للمؤمنين أو نصب على المدح {من بعد ما أصابهم القرح} الجرح روى أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب النبى واصحابه للخروج فى طلب أبى سفيان فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهى من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فألقى اللّه الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا فنزلت {للذين أحسنوا منهم واتقوا} من للتبيين ومثلها فى قوله وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة [الفتح:٢٩] لأن الذين استجابوا للّه والرسول قد احسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم {أجر عظيم} فى الآخرة ١٧٣{الذين قال لهم الناس} بدل من الذين استجابوا {إن الناس قد جمعوا لكم} روى أن ابا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل فقال عليه السلام: إن شاء اللّه فلما كان القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة فألقى اللّه الرعب فى قلبه فبداله أن يرجع فلقى نعيم بن مسعود الاشجعى وقد قدم معتمرا فقال يا نعيم انى واعدت محمدا أن نلتقى بموسم بدر وقد بدا لى أن أرجع فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فواللّه لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام: واللّه لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد فخرج فى سبعين راكبا وهم يقولون حسبنا اللّه ونعم الوكيل حتى وافوا بدرا وأقاموا بها ثمان ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيرا ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتأكلوا السوق فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له اتباع يثبطون مثل تثبيطه والثانى أبو سفيان وأصحابه {فاخشوهم} فخافوهم {فزادهم} أى المقول الذى هو أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو القول أو نعيم {إيمانا} بصيرة وإيقانا {وقالوا حسبنا اللّه} كافينا اللّه أى الذى يكفينا اللّه يقال أحسبه الشئ إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول هذا رجل حسبك فتصف به النكرة لأن اضافته غير حقيقة لكونه فى معنى اسم الفاعل {ونعم الوكيل} ونعم الموكول إليه هو ١٧٤{فانقلبوا بنعمة من اللّه} وهى السلامة وحذر العدو منهم {وفضل} روهو الربح فى التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين {لم يمسسهم سوء} لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير فى انقلبوا وكذا بنعمة والتقدير فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء {واتبعوا رضوان اللّه} بجزاءتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على انقلبوا {واللّه ذو فضل عظيم} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا ١٧٥{إنما ذلكم الشيطان} هو خبر ذلكم أى إنما ذلكم المثبط هو الشيطان وهو نعيم {يخوف أولياءه} أى المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته أو الشيطاتن صفة لاسم الاشارة ويخوف الخبر {فلا تخافوهم} أى اولياءه {وخافون إن كنتم مؤمنين} لأن الإيمان يقتضى أن يؤثر العبد خوف اللّه على خوف غيره وخافونى فى الوصل والوقف سهل ويعقوب وافقهما أبو عمرو فى الوصل ١٧٦{ولا يحزنك} يحزنك فى كل القرآن نافع إلا فى سورة الأنبياء لا يحزنهم الفراغ الأكبر {الذين يسارعون في الكفر} يعنى لا يحزنونك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله {إنهم لن يضروا اللّه شيئا} أى أولياء اللّه يعنى أنهم لا يضرون بمسارعتهم فى الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائدا على غيرهم ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله {يريد اللّه ألا يجعل لهم حظا في الآخرة} أى نصيبا من الثواب {ولهم} بدل الثواب {عذاب عظيم} وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه و الآية تدل على إرادة الكفر ومعاصي لأن إرادته ان لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم ١٧٧{إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أى استبدلوه به {لن يضروا اللّه شيئا} هو نصب على المصدر أى شيئا من الضرر الآية الاولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام والثانية فى جميع الكفار أو على العكس {ولهم عذاب أليم ١٧٨ولا يحسبن} وثلاثة بعدها مع ضم الباء فى يحسبنهم بالياء مكى و أبو عمر وكلها بالتاء حمزة وكلها بالياء مدنى وشامى إلا فلا تحسبنهم فإنها بالتاء الباقون الأوليان بالياء والأخريان بالتاء {الذين كفروا} فيمن قرأ بالياء رفع أى ولا يحسبن الكافرون و إن مع اسمه وخبره فى قوله {أنما نملي لهم خير لأنفسهم} فى موضع المفعولين ليحسبن والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيرا لأنفسهم وما مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الامام متصلة فلا يخالف وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملى لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين أى ولا تحسبن أن ما نملى للكافرين خير لهم وان مع ما فى حيزه ينوب عن المفعولين والإملاء لهم امهالهم واطالة عمرهم {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما} ما هذه حقها أن تكتب متصلة لانها كافة دون الأولى وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قبل ما بالهم لا يحسبون الاملاء خيرا لهم فقيل إنما نملى لهم ليزدادوا إثما والآية حجة لنا على المعتزلة فى مسألتى الأصلح وارادة المعاصى {ولهم عذاب مهين} واللام فى ١٧٩{ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافين لتأكيد النفى {حتى يميز الخبيث من الطيب} حتى يعزل المنافق عن المخلص يميز حمزة وعلى والخطاب فى أنتم للمصدقين من أهل الاخلاص والنفاق كأنه قيل ما كان اللّه ليذر المخلصين منكم على الحال التى انتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض حتى يميزهم منكم بالوحى إلى نبيه واخباره بأحوالكم {وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب} وما كان اللّه ليؤتى أحدا منكم علم الغيوب فلاتنوهموا عند إخبار الرسل بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما فى القلوب اطلاع اللّه فيخبر عن كفرها وإيمانها {ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء} أى ولكن اللّه يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بان فى الغيب كذا و أن فلانا فى قلبه النفاق وفلانا فى قلبه الاخلاص فيعلم ذلك من جهة إخبار اللّه لامن جهة نفسه و الآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك لامامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول وإن اثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله وخاتم النبيين {فآمنوا باللّه ورسله} بصفة الاخلاص {وإن تؤمنوا وتتقوا} النفاق {فلكم أجر عظيم} فى الآخرة ونزل فى ما نعى الزكاة ١٨٠{ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} من قرأ بالتاء قدر مضافا محذوفا أى ولا تحسبن بخل الباخلين وهو فصل و خيرا لهم مفعول ثان وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول اللّه أو ضمير أحد ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان التقدير ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرا لهم وهو فصل وخيرا لهم مفعول ثان {بل هو} أى البخل {شر لهم} لأن اموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} تفسير لقوله بل هو شر لهم أى سيجعل مالهم الذى منعوه عن الحق طوقا فى أعناقهم كما جاء فى الحديث من منع زكاة ماله يصير حية ذكرا اقرع له نابان فيطوق فى عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار و {وللّه ميراث السماوات والأرض} وله مافيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه فى سبيل اللّه والأصل فى ميراث موارث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها {واللّه بما تعملون خبير} وبالياء مكى و أبو عمرو فالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ فى الوعيد والياء على الظاهر ١٨١{لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء} قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى {من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا} وقالوا إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذا أغنياء وهو فقير ومعنى سماع اللّه له انه لم يخف عليه و أنه أعدله كفاء من العقاب {سنكتب ما قالوا} سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا فى الصحائف أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ مافيه فسمى به مجازا وما مصدرية أو بمعنى الذى {وقتلهم الأنبياء بغير حق} معطوف على ما جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذانا بأنهما فى العظم إخوان و إن من قتل من الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء علىمثل هذا القول {ونقول} لهم يوم القيامة {ذوقوا عذاب الحريق} أى عذاب النار كما أذقتم المسلين الغصص قال الضحاك ويقول لهم ذلك خزنة جهنم و إنما اضيف إلى اللّه تعالى لأنه بأمره كما فى قوله سنكتب سيكتب وقتلهم ويقول حمزة ١٨٢{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من عقابهم {بما قدمت أيديكم} أى ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصى والاضافة إلى اليد لأن أكثر الأعمال يكون بالأيدى فجعل كل عمل كالواقع بالأيدى على سبيل التغلب ولانه يقال للآمر بالشئ فاعله فذكر الأيدى للتحقيق يعنى أنه فعل نفسه لا غيره بأمره {وأن اللّه ليس بظلام للعبيد} وبأن اللّه لا يظلم عباده فلا يعاقبهم بغير جرم ١٨٣{الذين قالوا} فى موضع جر على البدل من الذين قالوا أو نصب باضمار أعنى أو رفع باضمارهم {إن اللّه عهد إلينا} أمرنا فى التوراة وأوصانا {ألا نؤمن} بأن لا نؤمن {لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} أى يقرب قربانا فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك وهذه دعوى باطلة وافتراء على اللّه لأن اكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتى به لكونه معجزة فهو إذا وسائر المعجزات سواء {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات} المعجزات سوى القربان {وبالذي قلتم} أى بالقربان يعنى قد جاء أسلافكم الذين انتم على ملتهم وراضون بفعلهم {فلم قتلتموهم} أى كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوا به ولم قتلتموهم {إن كنتم صادقين} فى قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا ١٨٤{فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك} فان كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك {جاؤوا بالبينات} بالمعجزات الظاهرات {والزبر} الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة وبالزبر شامى {والكتاب} جنسه {المنير} المضئ قيل هما واحد فى الأصل و إنما ذكرا الاختلاف الوصفين فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة والكتاب الهادى ١٨٥{كل نفس} مبتدأ والخبر {ذائقة الموت} وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إلى فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} أى تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء {فمن زحزح} بعد و الزحزحة الابعاد {عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} ظفر بالخير وقيل فقد حصل له الفوز المطلق وقيل الفوز نيل المحبوب والبعد عن المكروه {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} شبه الدنيا بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور و عن سعيد بن جبير إنما هذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب الاخرة فإنها متاع بلاغ وعن الحسن كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها ١٨٦{لتبلون} واللّه لتبلون أى لتختبرن {في أموالكم} بانفاق فى سبيل اللّه وبما يقع فيها ن الآفات {وأنفسكم} بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من انواع المخاوف والمصائب وهذه الآية دليل على أن النفس هى الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطل كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة كذا فى شرح التأويلات {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعنى اليهود والنصارى {ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} كالطعن فى الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من امن ونحو ذلك {وإن تصبروا} على أذاهم {وتتقوا} مخالفة أمر اللّه {فإن ذلك} فان الصبر والتقوى {من عزم الأمور} من معزومات الأمور أى مما يجب العزم عليه من الامور خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا انفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه ١٨٧{وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب} واذكر وقت أخذ اللّه ميثاق أهل الكتاب {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله وقضينا إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن وبالياء مكى وأبو عمر وأبو بكر لأنهم غيب والضمير للكتاب أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه {فنبذوه وراء ظهورهم} فنبذوا الميثاق و تأكيده عليهم أى لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل فى الطرح وترك الاعتداد وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه و أن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم أو لجر منفعة أو دفع أذية أو لبخل بالعلم وفى الحديث: من كتم علما عن أهله ألجمه اللّه بلجام من نار {واشتروا به ثمنا قليلا} عرضا يسيرا {فبئس ما يشترون} والخطاب فى ١٨٨{لا تحسبن} لرسول اللّه واحد المفعولين {الذين يفرحون} والثاني بمفازة وقوله فلا تحسبنهم تأكيده تقديره لا تحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين {بما أتوا} بما فعلوا وهى قراءة أبى وجاء و أنى يستعملان بمعنى فعل أنه كان وعده مأتيا لقد جئت شيئا فريا وقرأ النخعى بما آتوا أى أعطوا {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} بمنجاة منه {ولهم عذاب أليم} مؤلم روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما فى التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافة وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا من تدليسهم فأطلع اللّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أى لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم ويستحمدون اليهم بالإيمان الذى لم يفعلوه على الحقيقة وفيه وعيد لمن يأتى بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه ١٨٩{وللّه ملك السماوات والأرض} فهو يملك أمر هما وفيه تكذيب لمن قال إن اللّه فقير {واللّه على كل شيء قدير} فهو يقدر على عقابهم ١٩٠{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات} لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر {لأولي الألباب} لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر فيرى أن العرض المحدث فى الجواهر يدل على حدوث الجواهر لأن جوهرا ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم و إلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى مالا يتناهى وحسن صنعه يدل على علمه واتقانه يدل على حكمته وبقاؤه يجب على قدرته قال عليه السلام: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وحكى فيها أن فى بنى اسرائيل من إذا عبد اللّه ثلانين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه لعل فرطه فرطت منك فى مدتك قال ما أذكر قالت لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر قال لعل قالت فما أوتيت إلا من ذلك ١٩١{الذين} فى موضع جر نعت لأولى أو نصب باضمار أعنى أو رفع باضمارهم {يذكرون اللّه} يصلون {قياما} قائمين عند القدرة {وقعودا} قاعدين {وعلى جنوبهم} أى مضطجعين عند العجز وقياما وقعودا حالان من ضمير الفاعل فى يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضا أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو عن هذه الاحوال فى الحديث: من أحب أن يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام و إبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه وعن النبى عليه السلام: بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم و إلى السماء فقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللّهم اغفرلى فنظر اللّه إليه فغفر له وقال عليه السلام: لاعبادة كالتفكر وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر {ربنا ما خلقت هذا باطلا} أى يقولون ذلك وهو فى محل الحال أى يتفكرون قائلين والمعنى ماخلقته خلقا باطلا بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك وهذا إشارة إلى الخلق عى أن المراد به المخلوق أو إلى السموات و الأرض لانها فى معنى المخلوق كأنه قيل ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا {سبحانك} تنزيها لك عن الوصف يخلق الباطل وهو اعتراض {فقنا عذاب النار} الفاء دخلت إمنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا ١٩٢{ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أهنته أو أهلكته أو فضحته واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله يوم لايخزى اللّه النبى والذين آمنوا معه [التحريم:٨] فى أن من يدخل النار لا يكون مؤمنا ويخلد قلنا قال جابر اخزاء المؤمن تأديبه وان فوق ذلك لخزيا {وما للظالمين} اللام اشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار {من أنصار} من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين ١٩٣{ربنا إننا سمعنا مناديا} تقول سمعت رجلا يقول كذا فتوقع الفعل على الرجل ونحذف المسموع لانك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره ولولا الوصف لم يكن منه بد و أن يقال سمعت كلام فلان والمنادى هو الرسول عليه السلام أو القرآن {ينادي للإيمان} لأجل الإيمان باللّه وفيه تفخيم لشأن المنادى إذ لا منادى أعظم من مناد ينادى للايمان {أن آمنوا} بأن آمنوا أو أى آمنوا {بربكم فآمنا} قال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا} كبائرنا {وكفر عنا سيئاتنا} صغائرنا {وتوفنا مع الأبرار} مخوصين بصحبتهم معدودين فى جملتهم والأبرار المتمسكون بالسنة جمع بر أو بار كرب وأرباب وصاحب وأصحاب ١٩٤{ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} أى على تصديق رسلك أو ما وعدتنا منزلا على رسلك أو على ألسنة رسلك وعلى متعلق بوعدتنا والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء و إنما طلبوا انجاز ما وعد اللّه واللّه لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤتك يؤيده قوله {ولا تخزنا يوم القيامة} أو هو إظهار للخضوع والضراغة {إنك لا تخلف الميعاد} هو مصدر بمعنى الوعد ١٩٥{فاستجاب لهم ربهم} أى أجاب يقال استجاب له واستجابه {إني} يأنى {لا أضيع عمل عامل منكم} منكم صفة لعامل {من ذكر أو أنثى} بيان لعامل {بعضكم من بعض} الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنوا آدم لو بعضكم من بعض فى النصرة والدين وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد اللّه عباده العاملين عن جعفر الصادق رضى اللّه عنه من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أتجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد و قرأ الآيات {فالذين هاجروا} مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهى المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى اللّه بدينهم إلى حيث يأمنون عليه فالهجرة كائنة فى آخر الزمان كما كانت فى أول الإسلام {وأخرجوا من ديارهم} التى ولدوا فيها ونشئوا {وأوذوا في سبيلي} بالشتم والضرب ونهب المال يريد سبيل الدين {وقاتلوا وقتلوا} وغروا المشركين واستشهدوا وقتلوا مكى وشامى وقتلوا وقاتلوا على التقديم والتأخير حمزة وعلى وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر {لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار} وهو جواب قسم محذوف {ثوابا} فى موضع المصدر المؤكد يعنى إثابة أو تثويبا {من عند اللّه} لأن قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم فى معنى لأثيبنهم {واللّه عنده حسن الثواب} أى يختص به ولا يقدر عليه غيره وروى أن طائفة من المؤمنين قالوا أن أعداء اللّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع فنزل ١٩٦{لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} والخطاب لكل أحد أو للنبى عليه السلام والمراد به غيره ولان مدره القوم ومقدمهم يخاطب بشئ فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل لا يغرنكم و لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله فلاتكونن ظهيرا للكافرين [القصص:٨٦] ولا تكونن من المشركين وهذا فى النهى نظير قوله فى الأمر اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة:٦] يا أيها الذين آمنوا آمنوا [النساء:١٣٦] ١٩٧{متاع قليل} خبر مبتدأ محذوف أى تقلبهم فى البلاد متاع قليل و أراد قلته فى جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو فى جنب ما أعد اللّه للمؤمنين من الثواب أو أراد أنه قليل فى نفسه لانقضائه وكل زائل قليل {ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} وساء مامهدوا لأنفسهم ١٩٨{لكن الذين اتقوا ربهم} عن الشرك {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا} النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من جنات لتخصصها بالصفة والعامل اللام فى لهم أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقا أو عطاء {من عند اللّه} صفة له {وما عند اللّه} من الكثير الدائم {خير للأبرار} مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل لكن بالتشديد يزيد وهو للاستدراك أى لابقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا ونزلت فى ابن سلام وغيره من مسلمى أهل الكتاب أو فى أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على عيسى عليه السلام فأسلموا ١٩٩{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه} دخلت لام الإبتداء على اسم إن لفصل الظرف بينهما {وما أنزل إليكم} من القرآن {وما أنزل إليهم} من الكتابين {خاشعين للّه} حال من فاعل يؤمن لأن من يؤمن فى معنى الجمع {لا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا} كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أى غير مشترين {أولئك لهم أجرهم عند ربهم} أى ما يختص بهم الأجر وهو ماوعده فى قوله أولئك يؤتون اجرهم مرتين [القصص:٥٤] {إن اللّه سريع الحساب} لنفوذ علمه فى كل شيء ٢٠٠{يا أيها الذين آمنوا اصبروا} على الدين وتكاليفه قال الجنيد رضى اللّه عنه الصبر حبس النفس على المكروه بنفى الجزع {وصابروا} أعداء اللّه فى الجهاد أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا {ورابطوا} وأقيموا فى الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو {واتقوا اللّه لعلكم تفلحون} الفلاح البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ولعل لتغيب المآل لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال وقيل اصبروا فى محبتى وصابروا فى نعمتى ورابطوا أنفسكم فى خدمتى لعلكم تفلحون تظفرون بقربتى قال النبى صلى اللّه عليه وسلم: اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فانهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما واللّه أعلم بالصواب و إليه المرجع والمآب |
﴿ ٠ ﴾