تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة التوبة سورة التوبة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية كوفى ومائة وثلاثون غيره لها أسماء التوبة المقشقشة المبعثرة المشردة المخزية الفاضحة المثيرة الحافرة المنكلة المدمدمة لأن فيها التوبة على المؤمنين وهى تقشقش من النفاق أى تبرئ منه وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم وفى ترك التسمية فى ابتدائها أقوال فعن على وابن عباس رضى اللّه عنهم أن بسم اللّه أمان وبراءة نزلت لرفع الامان وعن عثمان رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال اجعلوها فى الموضع الذى يذكر فيه كذا وكذا وتوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها وكانت قصتها تشبه قصة الانفال لأن فيها ذكر العهود وفى براءة نبذ العهود فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهى سبع وقيل اختلف أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال بعضهم الانفال وبراءة سورة واحدة نزلت فى القتال وقال بعضهم هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت بسم اللّه لقول من قال هما سورة واحدة _________________________________ {براءة} خبر مبتدأ محذوف أى هذه براءة {من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وليس بصلة كما فى قولك برئت من الدين أى هذه براءة واصلة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول كتاب من فلان إلى فلان أو مبتدأ لتخصيصها بصفتها والخبرالى الذين عاهدتم كقولك رجل من بنى تميم فى الدار والمعنى أن اللّه ورسوله قد برئا من العهد الذى عاهدتم به المشركين و أنه منبوذ اليهم ٢{فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} فسيروا فى الأرض كيف شئتم والسيح السير على مهل روى أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنوا ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا فى الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا ولا يتعرض لهم وهى الأشهر الحرم فى قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان وكان الامير فيها عتاب بن أسيد وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابا بكر على موسم سنة تسع ثم أتبعه عليا راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له لو بعثت بها إلى أبى بكر فقال لا يؤدى عنى إلا رجل منى فلما دنا على سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما لحقه قال أمير أو مامور قال مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقام على يوم النحر عند جمرة العقبة فقال يا أيها الناس إنى رسول اللّه اليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة و أن يتم إلى كل ذى عهد عهده فقالوا عند ذلك يا على ابلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا و أنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف والأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم أو عشرون من ذى الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر وكانت حرما لأنهم اومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها والجمهور على إباحة القتال فى الاشهر الحرم و أن ذلك قد نسخ {واعلموا أنكم غير معجزي اللّه} لا تفوتونه و أن أمهلكم {وأن اللّه مخزي الكافرين} مذلهم فى الدنيا بالقتل وفى الآخرة بالعذاب ٣{وأذان من اللّه ورسوله إلى الناس} ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ثم الجملة معطوفة على مثلها و الاذان بمعنى الايذان وهو الاعلام كما أن الامان والعطاء بمعنى الإيمان والاعطاء والفرق بين الجملة الاولى والثانية أن الاولى إخبار بثبوت البرءاة والثانية إخبار بوجوب الاعلام بما ثبت و إنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم واما الأذان فعام لجميع الناس من عاهدو من لم يعاهدوا من نكث من المعاهدين ومن لم ينكث {يوم الحج الأكبر} يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم افعال الحج أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف والنحر والحلق والرمى ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أن اللّه بريء من المشركين} أي بأن اللّه حذفت صلة الأذان تخفيفا {ورسوله} عطف على المنوى فى برىء أو على الابتداء وحذف الخبر اى ورسوله برىء وقرىء بالنصب عطفا على اسم إن والجر على الجوار أو على القسم كقولك لعمرك وحكى أن اعاربيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان اللّه بريئا من رسوله فانا منه برىء فلببه الرجل إلى عمر فحكى الاعرابى قراءة فعندها أمر عمر بتعلم العربية {فإن تبتم} من الكفر والغدر {فهو} أى التوبة {خير لكم} من الاصرار على الكفر {وإن توليتم} عن التوبة أو تبتم على التولى والاعراض عن الاسلام {فاعلموا أنكم غير معجزي اللّه} غير سابقين اللّه ولا فائتين اخذه وعقابه {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم ٤{إلا الذين عاهدتم من المشركين} استثناء من قوله فسيحوا فى الأرض والمعنى براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا الا الذين عاهدتم منهم {ثم لم ينقصوكم شيئا} من شروط العهد أى وفوا بالعهد ولم ينقضوه وقرىء لم ينقضوكم أى عهدكم وهو اليق لكن المشهورة أبلغ لأنه فى مقابلة التمام {ولم يظاهروا عليكم أحدا} ولم يعاونوا عليكم عدوا {فأتموا إليهم عهدهم} فأدوه اليهم تاما كاملا {إلى مدتهم} إلى تمام مدتهم والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا فى الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فاتموا اليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفى كالغادر {إن اللّه يحب المتقين} يعنى أن قضية التقوى أن لا يسوى بين الفريقين فاتقوا اللّه فى ذلك ٥{فإذا انسلخ} مضى أو خرج {الأشهر الحرم} التى أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا {فاقتلوا المشركين} الذين نقضوكم وظاهروا عليكم {حيث وجدتموهم} من حل أو حرم {وخذوهم} وأسروهم والأخذ الأسر {واحصروهم} وقيدوهم وامنعوهم من التصرف فى البلاد {واقعدوا لهم كل مرصد} كل ممر ومجتاز ترصدونهم به وانتصابه على الظرف {فإن تابوا} عن الكفر {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} فاطلقوا عنهم بعد الاسر والحصر أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إن اللّه غفور} بستر الكفر والغدر بالاسلام {رحيم} برفع القتل قبل الاداء بالالتزام ٦{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} أحد مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أى وان استجارك أحد استجارك والمعنى وان جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الاشهر لا عهد بينك وبينه واستامنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد و القرآن فأمنه {حتى يسمع كلام اللّه} ويتدبره ويطلع على حقيقة الامر {ثم أبلغه} بعد ذلك {مأمنه} داره التى يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت وفيه دليل على أن المستأمن لا يؤذى وليس له الاقامة فى دارنا ويمكن من العود {ذلك} أى الأمر بالاجارة فى قوله فأجره {بأنهم قوم لا يعلمون} بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوا إليه فلا بد من اعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق ٧{كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله} كيف استفهام فى معنى الاستنكار أى مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا فى ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا فى قتلهم ثم استدرك ذلك بقوله {إلا الذين عاهدتم} أى ولكن الذين عاهدتم منهم {عند المسجد الحرام} ولم يظهر منهم نكث كبنى كنانة وبنى ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم {فما استقاموا لكم} ولم يظهر منهم نكث أى فما أقاموا على وفاء العهد {فاستقيموا لهم} على الوفاء وما شرطية أى فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم {إن اللّه يحب المتقين} يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين ٨{كيف وإن يظهروا عليكم} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل لكونه معلوما أى كيف يكون لهم عهدو حالهم أنهم أن يظهروا عليكم أى يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق {لا يرقبوا فيكم إلا} لا يراعوا حلفا ولا قرابة {ولا ذمة} عهدا {يرضونكم بأفواههم} بالوعد بالايمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ فى وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد {وتأبى قلوبهم} الإيمان والوفاء بالعهد {وأكثرهم فاسقون} ناقضون العهد أو متمردون فى الكفر لامروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك فى بعض الكفرة من التفادى عنها ٩{اشتروا} استبدلوا {بآيات اللّه} بالقرآن {ثمنا قليلا} عرضا يسيرا وهو اتباع الاهواء والشهوات {فصدوا عن سبيله} فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أى بئس الصنيع صنيعهم ١٠{لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} لا تكرار لأن الأول على الخصوص حيث قال فيكم والثانى على العموم لأنه قال فى مؤمن {وأولئك هم المعتدون} المجاوزون الغاية فى الظلم والشرارة ١١{فإن تابوا} عن الكفر {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم} فهم اخوانكم على حذف المبتدأ {في الدين} لا فى النسب {ونفصل الآيات} ونبينها {لقوم يعلمون} يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض كأنه قيل و إن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريضا على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها ١٢{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم} أي نقضوا العهود المؤكدة بالإيمان {وطعنوا في دينكم} وعابوه {فقاتلوا أئمة الكفر} فقاتلوهم فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا إذا طعن الذمى فى دين الإسلام طعنا ظاهر اجاز قتله لأن العهد معقود معه علىألا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة أئمة بهمزتين كوفى وشامى الباقون بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسورة أصلها أأممة لانها جمع إمام كعماد وأعمدة فنقلت حركة الميم الاولى إلى الهمزة الساكنة وادغمت فى الميم الأخرى فمن حقق الهمزتين اخرجهما على الأصل ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها {إنهم لا أيمان لهم} و إنما أثبت لهم الأيمان فى قوله و إن نكثوا أيمانهم لأنه أراد أيمانهم التى اظهروها ثم قال لا أيمان لهم على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يمينا ومعناه عند الشافعى رحمه اللّه أنهم لا يوفون با لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث لا إيمان شامى اي لا إسلام {لعلهم ينتهون} متعلق بفقاتلوا أئمة الكفر وما بينهما اعتراض أى ليكن غرضكم فى مقاتلتهم أنتهاءهم عما هم عليه بعد ما وجد منهم من العظائم وهذا من غاية كرمه على المسىء ثم حرض على القتال فقال ١٣{ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم} التى حلفوها فى المعاهدة {وهموا بإخراج الرسول} من مكة {وهم بدؤوكم أول مرة} بالقتال والبادىء أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد واخرج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب {أتخشونهم} توبيخ على الخشية منهم {فاللّه أحق أن تخشوه} بأن تخشوه فقاتلوا اعداءه {إن كنتم مؤمنين} فاخشوه أى أن قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبال بمن سواه ولما وبخهم اللّه على ترك القتال جردلهم الأمر به بقوله ١٤{قاتلوهم} ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم وتصح نياتهم بقوله {يعذبهم اللّه بأيديكم} قتلا {ويخزهم} أسرا {وينصركم عليهم} يغلبكم عليهم {ويشف صدور قوم مؤمنين} طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ١٥{ويذهب غيظ قلوبهم} لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل اللّه هذه المواعيد كلها فكان دليلا على صحة نبوته {ويتوب اللّه على من يشاء} ابتداء كلام واخبار بان بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضا فقد أسلم ناس منهم كأبى سفيان وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو وهى ترد على المعتزلة قولهم إن اللّه تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باختيارهم {واللّه عليم} يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان {حكيم} في قبول التوبة ١٦{أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم} أم منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أى لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا فى سبيل اللّه لوجه اللّه {ولم يتخذوا من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} أى بطانة من الذين يضادون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ولما معناها التوقع وقد دلت على أن تبين ذلك متوقع كائن و أن الذين لم يخلصوا دينهم للّه يميز بينهم وبين المخلصين ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا داخل فى حيز الصلة كأنه قيل ولما يعلم اللّه المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون اللّه والمراد بنفىالعلم نفى المعلوم كقولك ما علم اللّه منى ما قيل فى تريد ما وجد ذلك منى والمعنى احسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين {واللّه خبير بما تعملون} من خير أو شر فيجازيكم عليه ١٧{ما كان للمشركين} ما صح لهم وما استقام {أن يعمروا مساجد اللّه} مسجد اللّه مكى وبصرى يعنى المسجد الحرام و إنما جمع فى القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ولان كل بقعة منه مسجد أو أريد جنس المساجد و إذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذى هو صدر الجنس وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول فلان لا يقرأ كتب اللّه فانه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك {شاهدين على أنفسهم بالكفر} باعترافهم بعبادة الاصنام وهو حال من الواو فى يعمروا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين امرين متضادين عمارة متعبدات اللّه مع الكفر باللّه وبعبادته {أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} دائمون ١٨{إنما يعمر مساجد اللّه} عمارتها رم ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من احاديث الدنيا لانها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم {من آمن باللّه واليوم الآخر} ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان باللّه قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما فى الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها أو دل عليه بقوله {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} وفى قوله {ولم يخش إلا اللّه} تنبيه على الاخلاص والمراد الخشية فى أبواب الدين بألآ لا يختار على رضا اللّه رضا غيره لتوقع مخوف إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك ألا يخشاها وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفى تلك الخشية عنهم {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم فى الانتفاع بأعمالهم لأن عسى كلمة اطماع والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتدا بها عند اللّه دون من سواهم ١٩{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه واللّه لا يهدي القوم الظالمين} السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية و لا بد من مضاف محذوف تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه وقيل المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراء ابن الزبير سقاة الحاج وعمارة المسجد الحرام والمعنى انكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحيطة بأعمالهم المثبتة و أن يسوى بينهم وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما نزلت جوابا لقول العباس حين أسر فطفق على رضى اللّه عنه يوبخه بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقطيعة الرحم تذكر مساوينا وتدع محاسننا فقيل أولكم محاسن فقال نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العانى وقيل افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلى رضى اللّه عنه بالإسلام والجهاد فصدق اللّه تعالى عليا ٢٠{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم} أولئك {أعظم درجة عند اللّه} من أهل السقاية والعمارة {وأولئك هم الفائزون} لا أنتم المختصون بالفوز دونهم ٢١{يبشرهم ربهم} يبشرهم حمزة {برحمة منه ورضوان وجنات} تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف {لهم فيها} فىالجنات {نعيم مقيم} دائم ٢٢{خالدين فيها أبدا إن اللّه عنده أجر عظيم} لا ينقطع لما أمر اللّه النبى عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنة ولاخيه ولقرابته أنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل ٢٣{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان} أى آثروه واختاروه {ومن يتولهم منكم} أى ومن يتول الكافرين {فأولئك هم الظالمون} ٢٤{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر {وأموال اقترفتموها} اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} فوات وقت نفاقها {ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي اللّه بأمره} وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} و الآية تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ ٢٥{لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة} كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة وقيل إن المواطن التى نصر اللّه فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطنا ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها {ويوم} أى واذكروا يوم {حنين} واد بين مكة والطائف كانت فيه الواقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فلما التقوا قال رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فساءت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام {إذ} بدل من يوم {أعجبتكم كثرتكم} فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن اللّه هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده وهو ثابت فى مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام دابته وابو سفيان بن الحرث ابن عمه آخذا بركابه فقال للعباس صح بالناس وكان صيتنا فنادى يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفا من تراب فرماهم به ثم قال انهزموا ورب الكعبة فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى و أنت المستعان وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر {فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} ما مصدرية والباء بمعنى مع أى مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور فى موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر أى ملتبسابها والمعنى لم تجدوا موضعا لفراركم عن اعدائكم فكأنها ضاقت عليكم {ثم وليتم مدبرين} ثم انهزمتم ٢٦{ثم أنزل اللّه سكينته} رحمته التى سكنوا بها وأمنوا {على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها} يعنى الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة آلاف أو ستة عشر ألفا {وعذب الذين كفروا} بالقتل والأسر وسبى النساء والذرارى {وذلك جزاء الكافرين} ٢٧{ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء} وهم الذين أسلموا منهم {واللّه غفور} بستر كفر العدو بالإسلام {رحيم} بنصر الولى بعد الانهزام ٢٨{يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} أى ذوو نجس وهو مصدر يقال نجس نجسا وقذر وقذرا لأن معهم الشرك الذى هو بمنزلة النجس و لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهى ملابسة لهم أو جعلوا كانهم النجاسة بعينها مبالغة فى وصفهم بها {فلا يقربوا المسجد الحرام} فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون فى الجاهلية {بعد عامهم هذا} وهو عام تسع من الهجرة حين أمر أبو بكر رضى اللّه عنه على الموسم ويكون المراد من نهى القربان النهى عن الحج والعمرة وهو من مذهبنا ولا يمنعون دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا وعند الشافعى رحمه اللّه يمنعون عن المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره وقيل نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه {وإن خفتم عيلة} أى فقرا بسبب منع المشركين عن الحج وما كان لكم فى قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب {فسوف يغنيكم اللّه من فضله} من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام {إن شاء} هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة اللّه تعالى لتنقطع الآمال إليه {إن اللّه عليم} بأحوالكم {حكيم} فى تحقيق آمالكم أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما تحكم وأراد ونزل فى أهل الكتاب ٢٩{قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه} لأن اليهود مثنيه والنصارى مثلثة {ولا باليوم الآخر} لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا اكل فى الجنة ولا شرب {ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله} لأنهم لا يحرمون ما حرم فى الكتاب والسنة أو لا يعملون بما فى التوراة والإنجيل {ولا يدينون دين الحق} ولا يعتقدون دين الإسلام الذى هو الحق يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده {من الذين أوتوا الكتاب} بيان للذين قبله و اما المجوس فملقحون باهل الكتاب فى قبول الجزية وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركى العرب لما روى الزهرى أن النبى عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب {حتى يعطوا الجزية} إلى أن يقبلوها وسميت جزية لأنه يجب على أهلها أن يجزوه أى يقضوه أو هى جزاء على الكفر على التحميل فى تذليل {عن يد} أى عن يد موانية غير ممتنعه ولذا قالوا أعطى بيده إذا انقاد وقالوا انزع يده عن الطاعة أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ {وهم صاغرون} أى تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتى بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس و أن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيه ويقال له أد الجزية يا ذمى وان كان يؤديها ويزخ فى قفاه وتسقط بالإسلام ٣٠{وقالت اليهود} كلهم أو بعضهم {عزير ابن اللّه} مبتدأ وخبر كقوله {المسيح ابن اللّه} وعزير اسم اعجمى ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ومن نون وهم عاصم وعلى فقد جعله عربيا {وقالت النصارى المسيح ابن اللّه ذلك قولهم بأفواههم} أى قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} لابد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهى قولهم ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا يعنى أن الذين كانوا فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهى قولهم قول قدمائهم يعنى أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث أو الضمير للنصارى أى يضاهى قولهم المسيح ابن اللّه قول اليهود عزير ابن اللّه لأنهم أقدم منهم يضاهئون عاصم و أصل المضاهاة المشابهة والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم امرأة ضهياء وهى التى أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج {قاتلهم اللّه} أى هم احقاء بان يقال لهم هذا {أنى يؤفكون} كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان ٣١{اتخذوا} أى أهل الكتاب {أحبارهم} علماءهم {ورهبانهم} نساكهم {أربابا} ألهة {من دون اللّه} حيث اطاعوهم فى تحليل ما حرم اللّه وتحريم ما احل اللّه كما يطاع الأرباب فى اوامرهم ونواهيهم {والمسيح ابن مريم} عطف على أحبارهم أى اتخذوه ربا حيث جعلوه ابن اللّه {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا} يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء ويصلح وصفا لواحد {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} تنزيه له عن الإشراك ٣٢{يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} مثل حالهم فى طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالتكذيب يحال من يريد أن ينفخ فى نور عظيم منبث فى الآفاق يريد اللّه أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه أجرى ويأبى اللّه مجرى لا يريد اللّه ولذا وقع فى مقابلة يريدون و إلا لا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدا ٣٣{هو الذي أرسل رسوله} محمدا عليه السلام {بالهدى} بالقرآن {ودين الحق} الإسلام {ليظهره} ليعليه {على الدين كله} على أهل الاديان كلهم أو ليظهر دين الحق على كل دين {ولو كره المشركون} ٣٤{يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس} استعار الأكل للأخذ {بالباطل} أى بالرشا فى الأحكام {ويصدون} سفلتهم {عن سبيل اللّه} دينه {والذين يكنزون الذهب والفضة} يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على إجتماع خصلتين ذميمتين فيهم اخذ الرشا وكنز الاموال والضن بها عن الإنفاق فى سبيل الخير ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظا وعن االنبى صلى اللّه عليه وسلم ما أدى زكاته فليس بكنز و إن كان باطنا وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز و إن كان ظاهرا ولقد كان كثير من الصحابة رضى اللّه عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الاموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن اعرض عن القنية لأن الاعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه {ولا ينفقونها في سبيل اللّه} الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم فهو كقوله {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} أو اريد الكنوز والاموال أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله فانى وقيار بها لغريب وقيار كذلك وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لانهما قانون التمول وأثمان الأشياء وذكر كنزهما دليل على ما سواهما {فبشرهم بعذاب أليم} ومعنى قوله ٣٥{يوم يحمى عليها في نار جهنم} أن النار تحمى عليها أى توقد و إنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور أصله يوم تحمى النار عليها فلما حذفت النار قيل يحمى لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول رفعت القصة إلى الأمير فإن لم تذكر القصة قلت رفع الى الامير {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا و إذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم أو معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا ما كنزتم لأنفسكم} يقال لهم هذه ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم انكم كنزتموه لتستضربه انفسكم وهو توبيخ {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أى وبال المال الذى كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين ٣٦{إن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا} من غير زيادة والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتنى على الشهور القمرية المحسوبة بالأهلة دون الشمسية {في كتاب اللّه} فيما اثبته واوجبه من حكمه أو فى اللوح {يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} ثلاثة سرد ذو القعدة للقعود عن القتال وذو الحجة للحج والمحرم لتحريم القتال فيه وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أى لتعظيمه {ذلك الدين القيم} أى الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعنى أن تحريم الاربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسىء فغيروا {فلا تظلموا فيهن} فى الحرم أو فى الاثنى عشر {أنفسكم} بارتكاب المعاصى {وقاتلوا المشركين كافة} حال من الفاعل أو المفعول {كما يقاتلونكم كافة} جميعا {واعلموا أن اللّه مع المتقين} أى ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لاهلها ٣٧{إنما النسيء} بالهمزة مصدر نساءه إذا أخره وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهرا آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر {زيادة في الكفر} أى هذا الفعل منهم زيادة فى كفرهم {يضل} كوفى غير أبى بكر {به الذين كفروا} بالنسىء والضمير فى {يحلونه عاما ويحرمونه عاما} للنسىء أى إذا احلوا شهرا من الأشهرعاما رجعوا فحرموه فى العام القابل {ليواطئوا عدة ما حرم اللّه} ليوافقوا العدة التى هى الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذى هو أحد الواجبين واللام تتعلق بيحلونه ويحرمونه أو بيحرمونه فحسب وهو الظاهر {فيحلوا ما حرم اللّه} أى فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم اللّه من القتال أو من ترك الاختصاص للاشهر بعينها {زين لهم سوء أعمالهم} زين لهم الشيطان ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} حال اختيارهم الثبات على الباطل ٣٨{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا} اخرجوا {في سبيل اللّه اثاقلتم} تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت فى التاء فصارت ثاء ساكنة قد خلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أى تباطأتم {إلى الأرض} ضمن معنى الميل والاخلاد فعدى بالى أى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم وكان ذلك فى غزوة تبوك استنفروا فى وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة إلا ورى عنها بغيرها إلا فى غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} بدل الآخرة {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة} فى جنب الآخرة {إلا قليل} ٣٩{إلا تنفروا} إلى الحرب {يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا} سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدراين و أنه يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خير منهم واطوع و أنه غنى عنهم فى نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا وقيل الضمير فى ولا تضروه للرسول عليه السلام لأن اللّه وعده أن يعصمه من الناس و أن ينصره ووعده كائن لا محالة {واللّه على كل شيء} من التبديل والتعذيب وغيرهما {قدير} ٤٠{إلا تنصروه فقد نصره اللّه} إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد فدل بقوله فقد نصره اللّه على أنه ينصره فى المستقبل كما نصره فى ذلك الوقت {إذ أخرجه الذين كفروا} أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حيث هموا بإخراجه أذن اللّه له فى الخروج فكأنهم أخرجوه {ثاني اثنين} أحد اثنين كقوله ثالث ثلاثة وهما رسول اللّه و ابو بكر وانتصابه على الحال {إذ هما} بدل من إذ أخرجه {في الغار} هو نقب فى أعلى ثور وهو جبل فى يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا {إذ يقول} بدل ثان {لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا} بالنصره والحفظ قيل طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إن تصب اليوم ذهب دين اللّه فقال عليه السلام ماظنك باثنين اللّه ثالثهما وقيل لما دخل الغار بعث اللّه حمامتين فباضنتا فى أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّهم اعم أبصارهم فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد اخذ اللّه بأبصارهم عنه وقالوا من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر لإنكاره كلام اللّه وليس ذلك لسائر الصحابة {فأنزل اللّه سكينته} ما القى فى قلبه من الأمنة التى سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه {عليه} على النبى صلى اللّه عليه وسلم أو على أبى بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب {وأيده بجنود لم تروها} هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين {وجعل كلمة الذين كفروا} أى دعوتهم إلى الكفر {السفلى وكلمة اللّه} دعوته إلى الإسلام {هي} فصل {العليا} وكلمة اللّه بالنصب يعقوب بالعطف والرفع على الاستئناف أوجه إذ هى كانت ولم تزل عاليه {واللّه عزيز} يعز بنصره أهل كلمته {حكيم} يذل أهل الشرك بحكمته ٤١{انفروا خفافا} فى النفور لنشاطكم له {وثقالا} عنه لمشقته عليكم أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتها أو خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا أو صحاحا ومرضا {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} إيجاب للجهاد بهما إن امكن أو باحدهما على حسب الحال والحاجة {في سبيل اللّه ذلكم} الجهاد {خير لكم} من تركه {إن كنتم تعلمون} كون ذلك خيرا فبادروا إليه ونزل فى المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين ٤٢{لو كان عرضا} هو ما عرض لك من منافع الدنيا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أى لو كان مادعوا إليه مغنما {قريبا} سهل المأخذ {وسفرا قاصدا} وسطا مقاربا والقاصد والقصد المعتدل {لاتبعوك} لوافقوك فى الخروج {ولكن بعدت عليهم الشقة} المسافة الشاطة الشاقة {وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم} من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما اخبر وباللّه متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد فى الوجهين أى سيحلفون يعنى المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم أو سيحلفون باللّه يقولون لو استطعنا وقوله لخرجنا سد مسد جوابى القسم ولو جميعا ومعنى الاستطاعة إستطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا {يهلكون أنفسهم} بدل من سيحلفون أو حال منه أى مهلكين والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب أو حال من لخرجنا أى لخرجنا معكم و إن اهلكنا أنفسنا وألقيناها فى التهلكة بما نحملها على المسير فى تلك الشقة {واللّه يعلم إنهم لكاذبون} فيما يقولون ٤٣{عفا اللّه عنك} كناية من الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو فى الخطاب وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام {لم أذنت لهم} بيان لما كنى عنه بالعفو ومعناه مالك أذنت لهم فى القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللّهم وهلا استأنيت بالإذن {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} يتبين لك الصادق فى العذر من الكاذب فيه وقيل شيئان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفدية من الأسارى فعاتبه اللّه وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد و إنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأضفل وهم يعاتبون على ترك الأفضل ٤٤{لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا} ليس من عادة المؤمنين أن يسستأذوك فى أن يجاهدوا {بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين} عدة لهم بأجزل الثواب ٤٥{إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر} يعنى المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلا {وارتابت قلوبهم} شكوا فى دينهم واضطربوا فى عقيدتهم {فهم في ريبهم يترددون} يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المستبصر ٤٦{ولو أرادوا الخروج لأعدوا له} للخروج أو للجهاد {عدة} اهبة لأنهم كانوا مياسير للغزو ولما كان ولو أرادوا الخروج معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم قيل {ولكن كره اللّه انبعاثهم} نهوضهم للخروج كأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم {فثبطهم} فكسلهم وضعف رغبتهم فى الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الامر بالتزهيد فيه {وقيل اقعدوا} أى قال بعضهم لبعض أو قاله الرسول عليه السلام غضبا عليهم أو قاله الشيطان بالوسوسة {مع القاعدين} هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شانهم القعود فى البيوت ٤٧{لو خرجوا فيكم ما زادوكم} بخروجهم معكم {إلا خبالا} إلا فسادا وشرا والاستثناء متصل لأن المعنى مازادوكم شيئا إلا خبالا والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك مازادوكم خيرا إلا خبالا والمستثنى منه فى هذا الكلام غير مذكور و إذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلا لأن الخبال بعضه {ولأوضعوا خلالكم} ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين يقال وضع البعير وضعا إذا أسرع وأوضعته أنا والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد الاسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشى وخط فى المصحف ولا اوضعوا بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربى والخط العربى اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقى من تلك الألف أثر فى الطباع فكتبوا صورة الهمزة الفا وفتحها ألفا أخرى ونحوه اولا أذبحنه {يبغونكم} حال من الضمير فى أوضعوا {الفتنة} أى يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلافة فيما بينكم ويفسدوا نياتكم فى مغزاكم {وفيكم سماعون لهم} أى نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه اليهم {واللّه عليم بالظالمين} بالمنافقين ٤٨{لقد ابتغوا الفتنة} بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة أو بالرجوع يوم أحد {من قبل} من قبل غزوة تبوك {وقلبوا لك الأمور} ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء فى إبطال أمرك {حتى جاء الحق} وهو تأييدك ونصرك {وظهر أمر اللّه} وغلب دينه وعلاشرعه {وهم كارهون} أى على رغم منهم ٤٩{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} ولا توقعنى فى الفتنة وهى الاثم بأن لا تأذن لى فانى أن تخلفت بغير إذنك أثمت أولا تلقنى فى الهلكة فانى إذا خرجت معك هلك مالى وعيالى وقيل قال الجد بن قيس المنافق قد علمت الانصار إنى مستهتر بالنساء فلا تفتنى ببنات الاصفر يعنى نساء الروم ولكنى أعينك بمالى فاتركنى {ألا في الفتنة سقطوا} يعنى أن الفتنةهى التى سقطوا فيها وهى فتنة التخلف {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} الآن لأن أسباب الاحاطة معهم أو هى تحيط بهم يوم القيامة ٥٠{إن تصبك} فى بعض الغزوات حسنة ظفر وغنيمة {تسؤهم وإن تصبك مصيبة} نكبة وشدة فى بعضها نحو ما جرى يوم أحد {يقولوا قد أخذنا أمرنا} الذى نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم {من قبل} من قبل ما وقع {ويتولوا} عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم {وهم فرحون} مسرورون ٥١{قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا} أى قضى من خير أو شر {هو مولانا} أى الذى يتولانا ونتولاه {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير اللّه ٥٢{قل هل تربصون بنا} تنتظرون بنا {إلا إحدى الحسنيين} وهما النصرة والشهادة {ونحن نتربص بكم} إحدى السوأيين اما {أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده} وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود {أو} بعذاب {بأيدينا} وهو القتل على الكفر {فتربصوا} بنا ما ذكرنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ٥٣{قل أنفقوا} فى وجوه البر {طوعا أو كرها} طائعين أو مكروهين نصب على الحال كرها حمزة وعلى وهو أمر فى معنى الخبر ومعناه {لن يتقبل منكم} أنفقتم طوعا أو كرها ونحوه استغفر لهم أولا تستغفر لهم وقوله اسيئى بنا أو احسنى لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت أى لن يغفر اللّه لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ولا نلومك اسأت الينا أو أحسنت وقد جاز عكسه فى قولك رحم اللّه زيدا ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها اللّه وقوله طوعا أى من غير إلزام من اللّه ورسوله وكرها أى ملزمين وسمى الالزام إكراها لأنهم منافقون فكان إلزامهم الانفاق شاقا عليهم كالاكراه {إنكم} تعليل الرد انفاقهم {كنتم قوما فاسقين} متمردين عاتين ٥٤{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم} وبالياء حمزة وعلى {إلا أنهم كفروا} أنهم فاعل منع وهم و أن تقبل مفعولاه أى وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم {باللّه وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} جمع كسلان {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} لأنهم لا يريدون بهما وجه اللّه تعالى وصفهم بالطوع فى قوله {طوعا} وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو من رؤسائهم وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار ٥٥{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} الاعجاب بالشيء أن تسربه سرور راض به متعجب من حسنه والمعنى فلا تستحسن ما اوتوا من زينة الدنيا فإن اللّه إنما اعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها أو بالانفاق منه فى أبواب الخير وهم كارهون له أو بنهب أموالهم وسبىء اولادهم أو يجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} وتخرج أرواحهم وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ودلت الآية على بطلان القول بالاصلح لأنه أخبر أن إعطاء الاموال والأولاد لهم للتعذيب والأمانة على الكفر و على ارادة اللّه تعالى المعاصى لأن ارادة العذاب بارادة ما يعذب عليه وكذا ارادة الأمانة على الكفر ٥٦{ويحلفون باللّه إنهم لمنكم} لمن جملة المسلمين {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية ٥٧{لو يجدون ملجأ} مكانا يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة {أو مغارات} أو غيرانا {أو مدخلا} أو نفقا يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول {لولوا إليه} لاقبلوا نحوه {وهم يجمحون} يسرعون إسراعا لا يردهم شيء من الفرس الجموح ٥٨{ومنهم} ومن المنافقين {من يلمزك في الصدقات} يعيبك فى قسمة الصدقات ويطعن عليك {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} إذا للمفاجأة أى وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح اهله لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه ٥٩{ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله وقالوا حسبنا اللّه سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله إنا إلى اللّه راغبون} جواب لو محذوف تقديره ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم و إن قل نصيبهم وقالوا كفانا فضل اللّه وصنعه وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة اخرى فيؤتنيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكثر مما آتانا اليوم أنا الى اللّه فى أن يغنمنا ويخولنا فضله الراغبون ثم بين مواضعها التى توضع فيها فقال ٦٠{إنما الصدقات للفقراء والمساكين} قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أى هى مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل إنما هى لهم لا لغيرهم كقولك إنما الخلافة لقريش تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وان تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابةو التابعين أنهم قالوا فى أى صنف منها وضعتها أجزأك وعند الشافعى رحمه اللّه لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروى عن عكرمة ثم الفقير الذى لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذى يسأل لأنه لا يجد شيئا فهو أضعف حالا منه وعند الشافعى رحمه اللّه على العكس {والعاملين عليها} هم السعاة الذين يقبضونها {والمؤلفة قلوبهم} على الإسلام أشراف من العرب كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريرا لهم على الإسلام {وفي الرقاب} وهم المكاتبون يعانون منها {والغارمين} الذين ركبتهم الديون {وفي سبيل اللّه} فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله وعدل عن اللام إلى الاربعة الأخيرة للايذان بأنهم أرسخ فى استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأنه فى للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيها الصدقات عليهم ممن سبق ذكره لأن فى للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع ويجعلوا مظنة لها وتكرير فى قوله فى سبيل اللّه وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين و إنما وقعت هذه الآية فى تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الاصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسما لأطماعهم واشعارا بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها فما لهم ومالها وما سلطهم على التكلم فيها ولمن قاسمها وسهم المؤلفة قلوبهم سقط باجماع الصحابة فى صدر خلافة أبى بكر رضى اللّه عنه لأن اللّه أعز الإسلام وأغنى عنهم والحكم متى ثبت معقولا لمعنى خاص يرتفع وينتهى بذهاب ذلك المعنى {فريضة من اللّه} فى معنى المصدر المؤكد لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض اللّه الصدقات لهم {واللّه عليم} بالمصلحة {حكيم} فى القسمة ٦١{ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} الاذن الرجل الذى يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمى بالجارجة التى هى آلة السماع كأن جملته أذن سامعه وايذاؤهم له هو قولهم فيه هو أذن قصدوا به المذمة و أنه من أهل سلامة القلوب والغرة ففسره اللّه تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال {قل أذن خير لكم} كقولك رجل صدق تريد الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الاذن ويجوز أن يريد هو اذن فى الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذان فى غير ذلك ثم فسر كونه {أذن خير} بأنه {يؤمن باللّه} أى يصدق لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار وعدى فعل الإيمان بالباء إلى اللّه لأنه قصد به التصديق باللّه الذى هو ضد الكفر به و إلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين و أن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ألا ترى إلى قوله وما أنت بمؤمن لنا كيف ينبىء عن الباء {ورحمة} بالعطف على أذن ورحمه حمزة عطف على خير اي هو أذن خير وأذن رحمه لا يسمع غيرهم ولا يقبله {للذين آمنوا منكم} أى وهو رحمه للذين آمنوا منكم أى أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم فى الاخرة بايمانهم فى الدنيا {والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم} فى الدارين ٦٢{يحلفون باللّه لكم ليرضوكم} الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون اليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم {واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أى أن كنتم مؤمنين كما تزعمون فاحق من أرضيتم اللّه ورسوله بالطاعة والوفاق و إنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا اللّه ورضا رسول اللّه فكانا فى حكم شيء واحد كقولكم إحسان زيد وإجماله نعشنى أو واللّه احق أن يرضوه ورسوله كذلك ٦٣{ألم يعلموا أنه} أن الامر والشأن {من يحادد اللّه ورسوله} يجاوز الحد بالخلاف وهى مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق {فأن له} على حذف الخبر أى فحق أن له {نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم} ٦٤{يحذر المنافقون} خبر بمعنى الأمر أى ليحذر المنافقون {أن تنزل عليهم سورة} تنزل بالتخفيف مكى وبصرى {تنبئهم بما في قلوبهم} من الكفر والنفاق والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت فى معناهم فهى نازلة عليهم دليله قل استهزءوا أو الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه {قل استهزؤوا} أمر تهديد {إن اللّه مخرج ما تحذرون} مظهر ما كنتم تحذرونه أى تحذرون إظهاره من نفاقكم وكانوا يحذرون أن يفضحهم اللّه بالوحى فيهم وفى استهزائهم بالاسلام واهله حتى قال بعضهم وددت أنى قدمت فجلدت مائة و أنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا ٦٥{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير فى غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا أنظرونا إلى الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فاطلع اللّه نبيه على ذلك فقال احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبى االلّه لا واللّه ماكنا فى شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ولكن كنا فى شيء مما يخوضن فيه الركب ليقصر مضنا على بعض السفر اي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك لقالوا إنما كنا نخوض ونلعب {قل} يا محمد {أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون} لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلى حرف التقرير وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء ٦٦{لا تعتذروا} لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم {قد كفرتم} قد اظهرتم كفركم باستهزائكم {بعد إيمانكم} بعد إظهاركم الإيمان {إن نعف عن طائفة منكم} بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} مصرين على النفاق غير تائبين منه إن يعف تعذب طائفة غير عاصم ٦٧{المنافقون والمنافقات} الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبيعن {بعضهم من بعض} أي كأنهم نفس واحدة وفيه نفى أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم فى قولهم ويحلفون باللّه إنهم لمنكم وتقرير لقوله وما هم منكم ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال {يأمرون بالمنكر} بالكفر والعصيان {وينهون عن المعروف} عن الطاعة و الإيمان {ويقبضون أيديهم} شحا بالمبار والصدقات والإنفاق فى سبيل اللّه {نسوا اللّه} تركوا امره أو غفلوا ذكره {فنسيهم} فتركهم من رحمته وفضله {إن المنافقين هم الفاسقون} هم الكاملون فى الفسق الذي هو التمرد فى الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذى وصف به المنافقون حين بالغ فى ذمهم ٦٨{وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} مقدرين الخلود فيها {هي} أى النار {حسبهم} فيه دلالة على عظم عذابها و أنه بحيث لا يزاد عليه {ولعنهم اللّه} واهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين {ولهم عذاب مقيم} دائم معهم فى العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدا من الفضحية ونزول العذاب إن اطلع علىأسرارهم الكاف فى ٦٩{كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} محلها رفع أى انتم مثل الذين من قبلكم أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلافهم أى تلذذوا بملاذ الدنيا والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أى ما خلق للانسان بمعنى قدر من خير {وخضتم} فى الباطل {كالذي خاضوا} كالفوج الذى قاضوا أو كالخوض الذى خاضره والخوض الدخول فى الباطل واللّهو و إنما قدم فاستمتعوا بخلاقهم وقوله كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر فى العاقبة وطلب الفلاح فى الآخرة ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} فى مقابلة قوله وآتيناه أجره فى الدنيا و إنه فى الآخرة لمن الصالحين {وأولئك هم الخاسرون} ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال ٧٠{ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح} هو بدل من الذين {وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين} و أهل مدين هم قوم شعيب {والمؤتفكات} مدائن قوم لوط وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر {أتتهم رسلهم بالبينات فما كان اللّه ليظلمهم} فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بالكفر وتكذيب الرسل ٧١{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فى التناصر والتراحم {يأمرون بالمعروف} بالطاعة و الإيمان {وينهون عن المنكر} عن الشرك والعصيان {ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون اللّه ورسوله أولئك سيرحمهم اللّه} السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهى تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد فى سأنتقم منك يوما {أن اللّه عزيز} غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب {حكيم} واضع كل موضعه ٧٢{وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه اللّه قصورا من اللؤلؤ والياقوت الاحمر والزبرجد {في جنات عدن} هو علم بدليل قوله جنات عدن التى وعد الرحمن وقد عرفت أن الذى والتى وضعا لوصف المعارف بالجمل وهى مدينة فى الجنة {ورضوان من اللّه} وشيء من رضوان اللّه {أكبر} من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة {ذلك} إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان {هو الفوز العظيم} وحده دون ما يعده الناس فوزا ٧٣{يا أيها النبي جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالحجة {واغلظ عليهم} فى الجهادين جميعا ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد فى العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما امكن منها {ومأواهم جهنم وبئس المصير} جهنم أقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم الجلاس ابن سويد فقال واللّه لئن كان ما يقول محمدا حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس اجل واللّه إن محمدا صادق و أنت شر من الحمار وبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستحضر فحلف باللّه ما قال فرفع عامر يده فقال اللّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل ٧٤{يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} يعنى إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير أو هى استهزاؤهم فقال الجلاس يا رسول اللّه واللّه لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته {وكفروا بعد إسلامهم} وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام وفيه دلالة على أن الإيمان و الإسلام واحد لأنه قال وكفروا بعد إسلامهم {وهموا بما لم ينالوا} من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس وقيل أرادوا أن يتوجوا ابن أبى و إن لم يرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {وما نقموا} وما انكروا {وما نقموا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله} وذلك أنهم حين قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة فى ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته آثنى عشر ألفا فاستغنى {فإن يتوبوا} عن النفاق {يك} الثواب {خيرا لهم} وهى الآية التى تاب عندها الجلاس {وإن يتولوا} يصروا على النفاق {يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة} بالقتل والنار {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} ينجيهم من العذاب ٧٥{ومنهم من عاهد اللّه} روى أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقنى مالا فقال عليه السلام يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذى بعثك بالحق لئن رزقنى مالا لأعطين كل ذى حق حقه فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجمعة والجماعة فسأل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال يا ويح ثعلبة فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدقين لاخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسالاه الصدقة فقال ما هده إلا جزية وقال ارجعا حتى أرى رأيى فلمارجعا قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يكلماه يا ويح ثعلبة مرتين فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال أن اللّه منعنى أن اقبل منك فجعل التراب على رأسه فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء بها إلى أبى بكر رضى اللّه عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمر رضى اللّه عنه فى خلافته فلم يقبلها وهلك فى زمان عثمان رضى اللّه عنه {لئن آتانا من فضله} أى المال {لنصدقن} لنخرجن الصدقة والأصل لنتصدقن ولكن التاء أدغمت فى الصاد لقربها منها {ولنكونن من الصالحين} باخراج الصدقة ٧٦{فلما آتاهم من فضله} أعطاهم اللّه المال ونالوا مناهم {بخلوا به} منعوا حق اللّه ولم يفوا بالعهد {وتولوا} عن طاعة اللّه {وهم معرضون} مصرون على الاعراض ٧٧{فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} فأورثهم البخل نفاقا متمكنا فى قلوبهم لأنه كان سببا فيه {إلى يوم يلقونه} أى جزاء فعلهم وهو يوم القيامة {بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} بسبب إخلافهم ما وعدوا اللّه من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ومنه جعل خلف التوبة ( ٧٨ _ ٨٠ ) الوعد ثلث النفاق ٧٨{ألم يعلموا} يعنى المنافقين {أن اللّه يعلم سرهم} أى ما اسروه من النفاق بالعزم على اخلاف ما وعدوه {ونجواهم} وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن فى الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها {وأن اللّه علام الغيوب} فلا يخفى عليه شيء ٧٩{الذين} محله النصب أو الرفع على الذم أو الجر على البدل من الضمير فى سرهم ونجواهم {يلمزون المطوعين} يعيبون المطوعين المتبرعين {من المؤمنين في الصدقات} متعلق بيلمزون روى أن رسول االلّه صلى اللّه عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لى ثمانية آلاف فاقرضت ربى أربعة وأمسكت أربعة لعيالى فقال عليه السلام بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما امسكت فبارك اللّه له حتى صولحت تماضر إمرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفا وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر {والذين} عطف على المطوعين {لا يجدون إلا جهدهم} طاقتهم وعن نافع جهدهم وهما واحد وقيل الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال بت ليلتى أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالى وجئت بصاع فلمزهم المتنافقون وقالوا ما اعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء و أما صاع أبى عقيب فاللّه غنى عنه {فيسخرون منهم} فيهزءون {سخر اللّه منهم} جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء {ولهم عذاب أليم} مؤلم لما سأل عبد اللّه بن عبد اللّه ابن أبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يستغفر لابيه فى مرضه نزل ٨٠{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} وقد أمر أن هذا الامر فى معنى الخبر كأنه قيل لن يغفر اللّه لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} والسبعون جار مجرى المثل فى كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر اللّه لهم لأنهم كفار واللّه لا يغفر لمن كفر به والمعنى وان بالغت فى الاستغفار فلن يغفر اللّه لهم وقد وردت الأخبار بذكر السبيعن وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ووجه تخصيص السبيعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير فالقليل ما دون الثلاث والكثير الثلاث فما فوقها و أدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية والعدد أيضا نوعان شفع ووتر واول واول الاشفاع إثنان و أول الاوتار ثلاثة والواحد ليس بعدد والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها اوتارا ثلاثة وأشفاعا ثلاثة والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك اثنا عشر وثلاثة عشر إلى عشرين والعشرون تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريرها ثلاثة مرات وكذلك إلى مائة فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السعبين لهذا المعنى واللّه اعلم {ذلك} إشارة إلى اليأس من المغفرة {بأنهم} بسبب إنهم {كفروا باللّه ورسوله} ولا غفران للكافرين {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان ٨١{فرح المخلفون} المنافقون الذين استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة فى غزوة تبوك أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان {بمقعدهم} بقعودهم عن الغزو {خلاف رسول اللّه} مخالفة له وهو مفعول له أو حال أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} أى لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من باعث الإيمان وداعى الايقان {وقالوا لا تنفروا في الحر} قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطا {قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} استجهال لهم لأن من تصون من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون فى مشقة الأبد كان اجهل من كل جاهل ٨٢{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} أى فيضحكون قليلا على فرحهم بتخلفهم فى الدنيا ويبكون كثيرا جزاء فى العقبى إلا أنه اخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره يروى أن أهل النفاق يبكون فى النار عمر الدنيا لا يرقألهم دمع ولا يكتحلون بنوم {جزاء بما كانوا يكسبون} من النفاق ٨٣{فإن رجعك اللّه} أى ردك من تبوك و إنما قال {إلى طائفة منهم} لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك {فاستأذنوك للخروج} إلى غزوة بعد غزوة تبوك {فقل لن تخرجوا معي أبدا} وبسكون الياء حمزة وعلى و أبو بكر {ولن تقاتلوا معي عدوا} معى حفص {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} مع من تخلف بعد وسأل ابن عبد اللّه بن أبى وكان مؤمنا أن يكفن النبى عليه السلام أباه فى قميصه ويصلى عليه فقبل فاعترض عمر رضى اللّه عنه فى ذلك فقال عليه السلام ذلك لا ينفعه و إنى أرجو أن يؤمن به ألف من قومه فنزل ٨٤{ولا تصل على أحد منهم} من المنافقين يعنى صلاة الجنازة روى أنه اسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبى صلى اللّه عليه وسلم {مات} صفة لأحد {أبدا} ظرف لتصل وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل {ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون} تعليل للنهى أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا باللّه ورسوله ٨٥{ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} التكرير للمبالغة والتأكيد و أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه و أن يعتقد أنه مهم و لأن كل آية فى فرقة غير الفرقة الأخرى ٨٦{وإذا أنزلت سورة} يجوز أن يراد سورة بتمامها و أن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه {أن آمنوا باللّه} بان آمنوا أو هى أن المفسرة {وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم} ذو الفضل والسعة {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} مع الذين لهم عذر فى التخلف كالمرضى والزمنى ٨٧{رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أى النساء جمع خالفة {وطبع على قلوبهم} ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق {فهم لا يفقهون} ما فى الجهاد من الفوز والسعادة وما فى التخلف من الهلاك والشقاوة ٨٨{لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أى إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم {وأولئك هم المفلحون} الفائزون بكل مطلوب ٨٩{أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} قوله أعد دليل على أنها مخلقوة ٩٠{وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} هو من عذر فى الأمر إذا قصر فيه وتوانى وحقيقته أن يوهم أن له عذر فيما فعل ولا عذر له أو المعتذرون بادغام التاء فى الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل هم أسد وعطفان قالوا إن لنا عيالا و إن بنا جهدا فاذن لنا فى التخلف {وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله} هم منافقوا الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا اللّه ورسوله فى ادعائهم الإيمان {سيصيب الذين كفروا منهم} من الاعراب {عذاب أليم} فى الدينا بالقتل وفى الآخرة بالنار ٩١{ليس على الضعفاء} الهرمى والزمنى {ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} هم الفقراء من مزينة وجهينة وبنى عذرة {حرج} إثم وضيق فى التأخر {إذا نصحوا للّه ورسوله} بان آمنوا فى السر والعلن واطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه {ما على المحسنين} المعذورين الناصحين {من سبيل} أى لاجناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم {واللّه غفور} يغفر تخلفهم {رحيم} بهم ٩٢{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} لتعطيهم الحمولة {قلت} حال من الكاف فى أتوك وقد قبله مضمرة أى إذا ما أتوك قائلا {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} هو جواب إذا {وأعينهم تفيض من الدمع} أى تسيل كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من تفيض دمعها لأن العين جعلت كان كلها دمع فائض ومن للبيان كقولك أفديك من رجل ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ويجوز أن يكون قلت لا اجد استئنافا كأنه قيل إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل مالهم تولوا باكين فقيل قلت لا أجد ما احملكم عليه إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالإعتراض {حزنا} مفعول له {ألا يجدوا ما ينفقون} لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له وناصبه حزنا والمستحملون أبو موسى الأشعرى وأصحابه أو البكاءون وهم ستة نفر من الانصار ٩٣{إنما السبيل على الذين يستأذنونك} فى التخلف {وهم أغنياء} وقوله {رضوا} استنئاف كأنه قيل مابالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا {بأن يكونوا مع الخوالف} أى بالانتظام فى جملة الخوالف {وطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يعلمون ٩٤يعتذرون إليكم} يقيمون لأنفسهم عذرا باطلا {إذا رجعتم إليهم} من هذه السفرة {قل لا تعتذروا} بالباطل {لن نؤمن لكم} لن نصدقكم وهو علة للنهى عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به {قد نبأنا اللّه من أخباركم} علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الاعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم فى معاذيرهم {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} أتنيبون أم تثبتون على كفركم {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} أى تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية {فينبئكم بما كنتم تعملون} فيجازيكم على حسب ذلك ٩٥{سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} لتتركوهم ولا توبخوهم {فأعرضوا عنهم} فاعطوهم طلبتهم {إنهم رجس} تعليل لترك معاتبتهم أى أن المعاتبة لا تنفع فيهم لا تصلحهم لأنهم أرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم {ومأواهم جهنم} ومصيرهم النار يعنى وكفتهم النار عتابا وتوبيخا فلا تتكلفوا عتابهم {جزاء بما كانوا يكسبون} أى يجزون جزاء كسبهم ٩٦{يحلفون لكم لترضوا عنهم} أى غرضهم بالحلف باللّه طلب رضاكم لينفعهم ذلك فى دنياهم {فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين} أى فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان اللّه ساخطا عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها و إنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا اللّه عنهم ٩٧{الأعراب} أهل البدو {أشد كفرا ونفاقا} من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء {وأجدر ألا يعلموا} وأحق بأن لا يعلموا {حدود ما أنزل اللّه على رسوله} يعنى حدود الدين وما أنزل اللّه من الشرائع والاحكام ومنه قوله عليه السلام: إن الجفاء والقسوة فى الفدادين يعنى الاكرة لأنهم يفدون أى يصيحون فى حروثهم والفديد الصياح {واللّه عليم} بأحوالهم {حكيم} فى إمهالهم ٩٨{ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق} أي يتصدق {مغرما} غرامة وخسرانا لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه اللّه وابتغاء المثوبة عنده {ويتربص بكم الدوائر} أى دوائر الزمان وتبدل الاحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة {عليهم دائرة السوء} أى عليهم تدور المصائب والحروب التى يتوقعون وقعوها فى المسلمين السوء مكى و أبو عمرو وهو العذاب والسوء بالفتح ذم للدائرة كقولك رجل سوء فى مقابلة قولك رجل صدق {واللّه سميع} ما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة {عليم} بما يضمرونه ٩٩{ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق} فى الجهاد والصدقات {قربات} أسبابا للقربة {عند اللّه} وهو مفعول ثان ليتخذ {وصلوات الرسول} أى دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعوا للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله: اللّهم صل على آل أبى أوفى {ألا إنها} أى النفقةاو صلوات الرسول {قربة لهم} قربة نافع وهذا شهادة من اللّه للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التبنيه والتحقيق المؤذين بثبات الأمر وتمكنه وكذلك {سيدخلهم اللّه في رحمته} أى جنته وما فى السين من تحقيق الوعد ومادل هذا الكلام على رضا اللّه عن المتصدقين و أن لصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها {إن اللّه غفور} يستر عيب المخل {رحيم} يقبل جهد المقل ١٠٠{والسابقون} مبتدأ {الأولون} صفة لهم {من المهاجرين} تبين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو بيعة الرضوان {والأنصار} عطف على المهاجرين أى ومن الانصار وهم أهل بيعة العقبة الاولى وكانوا سبعة نفر و أهل العقبة الثانية وكانوا سبعين {والذين اتبعوهم بإحسان} من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة وقيل هم الذين اتبعوهم بالايمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر {رضي اللّه عنهم} بأعمالهم الحسنة {ورضوا عنه} بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية {وأعد لهم} عطف على رضى {جنات تجري تحتها الأنهار} من تحتها مكى {خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} ١٠١{وممن حولكم} يعنى حول بلدتكم وهى المدينة {من الأعراب منافقون} وهم جهينة واسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها {ومن أهل المدينة} عطف على خبر المبتدأ الذى هو ممن حولكم والمبتدأ منافقون ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدا والخبر إذا قدرت و من أهل المدينة قوم {مردوا على النفاق} أى تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ أو صفة لمنافقون فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ودل على مهارتهم فيه بقوله {لا تعلمهم} أى يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم فى تحامى ما يشككك فى أمرهم ثم قال {نحن نعلمهم} أى لا يعلمهم إلا اللّه ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر فى سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين {سنعذبهم مرتين} هما القتل وعذاب القبر أو الفضيحة وعذاب القبر أو اخذ الصدقات من اموالهم ونهك أبدانهم {ثم يردون إلى عذاب عظيم} أى عذاب النار ١٠٢{وآخرون} أى قوم آخرون سوى المذكورين {اعترفوا بذنوبهم} أى لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل فى المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سوارى المسجد فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسال عنهم فذكر له أنهم اقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذى يحلهم فقال و أنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم فقالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا التى خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال ما أمرت أن آخذ من اموالكم شيئا فنزل {خذ من أموالهم صدقة} {خلطوا عملا صالحا} خروجا إلى الجهاد {وآخر سيئا} تخلفا عنه أو التوبة والاثم وهو من قولهم بعت الشاء شاة ودرهما فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للالصاق فيتناسبان أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به و إذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كانك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء {عسى اللّه أن يتوب عليهم إن اللّه غفور رحيم} ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة ١٠٣{خذ من أموالهم صدقة} كفارة لذنبوهم وقيل هى الزكاة {تطهرهم} عن الذنوب وهو صفة لصدقة والتاءللخطاب أو لغيبة المؤنث والتاء فى {وتزكيهم} للخطاب لا محالة {بها} بالصدقة والتزكية مبالغة فى التطهير وزيادة فيه أو بمعنى الانماء والبركة فى المال {وصل عليهم} واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم والسنة أن يدعوا المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها {إن صلاتك} صلاتك كوفى غير أبى بكر قيل الصلاة أكثر من الصلوات لانها للجنس {سكن لهم} يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن اللّه قد تاب عليهم {واللّه سميع} لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنبوهم ودعائهم {عليم} بما فى ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم ١٠٤{ألم يعلموا} المراد المتوب عليهم أى ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم {أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده} إذا صحت {ويأخذ الصدقات} ويقبلها إذا صارت عن خلوص النية وهو للتخصيص أى أن ذلك ليس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما اللّه هو الذى يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليه {وأن اللّه هو التواب} كثير قبول التوبة {الرحيم} يعفو الحوبة ١٠٥{وقل} لهؤلاء التائبين {اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون} أى فإن عملكم لا يخفى خيرا كان أو شرا على اللّه وعباده كما رأيتم وتبين لكم أو غير التائبين ترغيبا لهم فى التوبة فقد روى أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت وقوله تعالى فسيرى اللّه وعيد لهم وتحذير من عاقبة الاصرار والذهول عن التوبة {وستردون إلى عالم الغيب} ما يغيب عن الناس {والشهادة} ما يشاهدونه {فينبئكم بما كنتم تعملون} تنبئة تذكير ومجازاة عليه ١٠٦{وآخرون مرجون لأمر اللّه} بغير همز مدنى وكوفى غير أبى بكر مرجئون غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه المرجئة أى وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر اللّه فيهم {إما يعذبهم} أن أصروا ولم يتوبوا {وإما يتوب عليهم} إن تابوا وهم ثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومراره بن الربيع والضابط مكة تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا فى قوله وعلى الثلاثة الذين خلفوا {واللّه عليم} برجائهم {حكيم} فى ارجائهم واما للشك وهو راجع إلى العباد أى خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة وروى أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد انفسهم على السوارى واظهار الجزع والغم فلما علموا أن أحدا لا ينظر اليهم فوضوا أمرهم إلى اللّه وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم اللّه ١٠٧{والذين اتخذوا مسجدا} تقديره ومنهم الذين اتخذوا الذين بغير واو مدنى وشامى وهو مبتدأ خبره محذوف أى جازيناهم روى أن بنى عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ياتيهم فاتاهم فصلى فيه فحسدتهم اخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبنى مسجدا ونرسل إلى رسول اللّه يصلى فيه ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذ قدم من الشام وهو الذى قال لرسول اللّه عليه السلام يوم أحد لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلى لنا فيه فقال إنى على جناح سفر واذا قدمنا من تبوك إن شاء اللّه صلينا فيه فلما قفل من غزوة تبوك سألوه اتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشى قاتل حمزة ومعن بن عدى وغيرهما انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ومات أبو عامر بالشام {ضرارا} مفعول له وكذا ما بعده أى مضارة لاخوانهم أصحاب مسجد قباء {وكفرا} وتقوية للنفاق {وتفريقا بين المؤمنين} لأنهم كانوا يصلون مجتمعين فى مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم {وإرصادا لمن} واعدادا لأجل من {حارب اللّه ورسوله} وهو الراهب أعدوه له ليصلى فيه ويظهر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه اللّه أو بمال غير طيب فهو لا حق بمسجد بنى الضرار {من قبل} متعلق بحارب أى من قبل بناء هذا المسجد يعنى يوم الخندق {وليحلفن} كاذبين {إن أردنا إلا الحسنى} ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهى الصلاة وذكر اللّه والتوسعة على المصلين {واللّه يشهد إنهم لكاذبون} فى حلفهم ١٠٨{لا تقم فيه أبدا} للصلاة {لمسجد أسس على التقوى} اللام للابتداء وأسس نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهى يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة أو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة {من أول يوم} من أيام وجوده قيل القياس فيه مذلأنه الغاية فى الزمان ومن لابتداء الغاية فى المكان والجواب أن من عام فى الزمان والمكان {أحق أن تقوم فيه} مصليا {فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين} قيل لما نزلت مشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول اللّه إنهم لمؤمنون و أنا معهم فقال عليه السلام اترضون بالقضاء قالوا نعم قال أتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون فى الرخاء قالوا نعم قال عليه السلام مؤمنون أنتم ورب الكعبة فجلس ثم قال يا معشر الانصار إن اللّه عز وجل قد أثنى عليكم فما الذى تصنعون عند الوضوء وعند الغائط قالوا يا رسول اللّه نتبع الغائط الاحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى عليه السلام {رجال يحبون أن يتطهروا} قيل هو عام فى التطهر عن النجاسات كلها وقيل هو التطهر من الذنوب بالتوبة ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ومعنى محبة اللّه إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن اليهم كما يفعل المحب بمحبوبه ١٠٩{أفمن أسس بنيانه} وضع أساس ما يبنيه {على تقوى من اللّه ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه والمعنى أفمن أساس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهى تقوى اللّه ورضوانه خير أم من أسسه على قاعدة أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذى مثله مثل شفا جرف هار فى قلة الثبات والاستمساك وضع شفا الجرف فى مقابلة التقوى لأنه جعل مجازا عما ينافى التقوى والشفا الحرف والشفير وجرف الوادى جانبه الذى يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا والهار الهائر وهو المتصدع الذى أشفى على التهدم والسقوط ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليس بألف فاعل و إنما هى عينه وأصله هور فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ولا ترىأبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره أفمن أسس بنيانه امن أسس بنيانه شامى ونافع جرف شامى وحمزة ويحيى هار بالامالة أبو عمرو وحمزة فى رواية يحيى {فانهار به في نار جهنم} فطاح به الباطل فى نار جهنم ولما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذى هو للجرف وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هار من اودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى فى قعرها قال جابر رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم ١١٠{لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم علمهم {إلا أن تقطع قلوبهم} شامى وحمزة وحفص اي تنقطع غيرهم تقطع أى إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه واما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويرا لحال زوال الريبة عنها ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو فى القبور أو في النار أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم {واللّه عليم} بعزائمهم {حكيم} فى جزاء جرائمهم ١١١{إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} مثل اللّه اثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم فى سبيله بالشراء وروى تاجرهم فأغلى لهم الثمن وعن الحسن انفسا هو خلقها واموالا هو رزقها ومر برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابى وهو يقرؤها فقال بيع واللّه مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد {يقاتلون في سبيل اللّه} بيان محل التسليم {فيقتلون ويقتلون} أى تارة يقتلون العدو وطورا يقتلهم العدو فيقتلون ويقتلون حمزة وعلى {وعدا عليه} مصدر أى وعدهم بذلك وعدا {حقا} صفته أخبر أن هذا الوعد الذى وعده للمجاهدين فى سبيله وعد ثابت قد أثبته {في التوراة والإنجيل والقرآن} وهو دليل على أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه ثم قال {ومن أوفى بعهده من اللّه} لأن اخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين ولا نرى ترغيبا فى الجهاد أحسن منه وأبلغ {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} فافرحوا غاية الفرح فانكم تبيعون فانيا بباق {وذلك هو الفوز العظيم} قال الصادق ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ١١٢{التائبون} رفع على المدح أى هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين أو هو مبتدأ خبره {العابدون} أى الذين عبدوا اللّه وحده وأخلصوا له العبادة وما بعد خبر بعد خبر أى التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال وعن الحسن هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق {الحامدون} على نعمة الإسلام {السائحون} الصائمون لقوله عليه السلام: سياحة أمتى الصيام أو طلبة العلم لأنهم يسيحون فى الأرض يطلبونه فى مظانه أو السائرون فى الأرض للاعتبار {الراكعون الساجدون} المحافظون على الصلوات {الآمرون بالمعروف} بالإيمان والمعرفة والطاعة {والناهون عن المنكر} عن الشرك والمعاصى ودخلت الواو للاشعار بأن السبعة عقد تام أو للتضاد بين الأمر والنهى كما فى قوله ثيبات وأبكارا {والحافظون لحدود اللّه} أوامره ونواهيه أو معالم الشرع {وبشر المؤمنين} المتصفين بهذه الصفات وهم عليه السلام أن يستغفر لأبى طالب فنزل ١١٣{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} أى ماصح له الاستغفار فى حكم اللّه وحكمته {من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك ثم ذكر عذر إبراهيم فقال ١١٤{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} أى وعد ابوه اياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله لأستغفر لك دليله قراءة الحسن وعدها اباه ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله اعطاء الإسلام الذى به يغفر له {فلما تبين} من جهة الوحى {له} لابراهيم {أنه} أن أباه {عدو للّه} بأن يموت كافرا وانقطع رجاؤه عنه {تبرأ منه} وقطع استغفاره {إن إبراهيم لأواه} وهو المتاوه شفقا وفرقا ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر {حليم} هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك ١١٥{وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} أى ما أمر اللّه باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محذور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للاسلام ولا يخدلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الاجتناب واما قبل العلم والبيان فلا وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين والمراد بما يتقون ما يجب اتقاؤه للنهى فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف {إن اللّه بكل شيء عليم} ١١٦{إن اللّه له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير} ١١٧{لقد تاب اللّه على النبي} أى تاب اللّه عليه من إذنه للمنافقين فى التخلف عنه كقوله عفا اللّه عنك {والمهاجرين والأنصار} فيه بعث للمؤمنين على التوبة و أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبى صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين والانصار {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} فى غزوة تبوك ومعناه فى وقتها والساعة مستعملة فى معنى الزمان المطلق وكانوا فى عسرة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والاهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ومن الماء حتى نحروا الابل وعصروا كرشها وشربوه فى شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول فى تلك الغزوة والخروج معه وفى كاد ضمير الشأن والجملة بعده فى موضع النصب وهو كقولهم ليس خلق اللّه مثله أى ليس الشأن خلق اللّه مثله يزيغ حمزة وحفص {ثم تاب عليهم} تكرير للتوكيد {إنه بهم رؤوف رحيم} ١١٨{وعلى الثلاثة} أى وتاب على الثلاثة وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وهو عطف على النبى {الذين خلفوا} عن الغزو {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} برحبها أى مع سعتها وهو مثل للحيرة فى أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه قلقا وجزعا {وضاقت عليهم أنفسهم} أى قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لانها خرجت من فرط الوحشية والغم {وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه} وعلموا أن لا ملجا من سخط اللّه إلا إلى استغفارة {ثم تاب عليهم} بعد خمسين يوما {ليتوبوا} ليكونوا من جملة التبوابين {إن اللّه هو التواب الرحيم} عن أبى بكر الوراق أنه قال التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة ١١٩{يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين} فى إيمانهم دون المنافقين أو مع الذين لم يتخلفوا أو مع الذين صدقوا فى دين اللّه نية وقولا وعملا و الآية تدل على أن الإجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم ١٢٠{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه} المراد بهذا النفى النهى وخص هؤلاء بالذكر و إن استوى كل الناس فى ذلك لقربهم منه ولا يخفى عليهم خروجه {ولا يرغبوا} ولا أن يضنوا {بأنفسهم عن نفسه} عما يصيب نفسه أى لا يختاروا بقاء انفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه فى البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه فى كل شدة {ذلك} النهى عن التخلف {بأنهم} بسبب أنهم {لا يصيبهم ظمأ} عطش {ولا نصب} تعب {ولا مخمصة} مجاعة {في سبيل اللّه} فى الجهاد {ولا يطؤون موطئا} ولا يدوسون مكانا من امكنة الكفار بحوافر خيولهم واخفاف وراحلهم وأرجلهم {يغيظ الكفار} يغضبهم ويضيق صدورهم {ولا ينالون من عدو نيلا} ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة {إلا كتب لهم به عمل صالح} عن ابن عباس رضى اللّه عنهما لكل روعة سبعون ألف حسنة يقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام فى كل ما يسوءهم وفيه دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشى وكلام وغير ذلك وعلى أن المدد يشارك الجيش فى الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وقد أسهم النبى صلى اللّه عليه وسلم لابنى عامر وقد قدما بعد تقضى الحرب والموطئ اما مصدر كالمورد و اما مكان فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار يغيطهم وطؤه {إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين} أى أنهم محسنون واللّه لا يبطل ثوابهم ١٢١{ولا ينفقون نفقة} فى سبيل اللّه {صغيرة} ولو تمرة {ولا كبيرة} مثل ما أنفق عثمان رضى اللّه عنه فى جيش العسرة {ولا يقطعون واديا} أى أرضا فى ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل وهو فى الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الودى وقد شاع فى الاستعمال بمعنى الأرض {إلا كتب لهم} من الانفاق وقطع الوادى {ليجزيهم اللّه} متعلق بكتب أى أثبت فى صحائفهم لأجل الجزاء {أحسن ما كانوا يعملون} أى يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيرا لأجرهم ١٢٢{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الام لتأكيد النفى أى أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للافضاء إلى المفسدة {فلولا نفر} فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر {من كل فرقة منهم طائفة} أى من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير {ليتفقهوا في الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق فى تحصيلها {ولينذروا قومهم} وليجعلوا مرمى همتهم فى التفقة انذار قومهم وارشادهم {إذا رجعوا إليهم} دون الاعراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة فى المراكب والملابس {لعلهم يحذرون} ما يجب اجتنابه وقيل إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل فى المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعا عن التفقه فى الدين فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذى هو الجهاد الاكبر إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثرا من الجهاد بالنضال والضمير فى ليتفقهوا للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم ولينذروا قومهم ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا اليهم بما حصلوا فى أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه ١٢٣{يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم} يقربون منكم {من الكفار} القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ولكن الأقرب فالأقرب أوجب وقد حارب النبى صلى اللّه عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم {وليجدوا فيكم غلظة} شدة وعنفا فى المقال قبل القتال {واعلموا أن اللّه مع المتقين} بالنصرة والغلبة ١٢٤{وإذا ما أنزلت سورة} ما صلة مؤكدة {فمنهم} فمن المنافقين {من يقول} بعضهم لبعض {أيكم زادته هذه} السورة {إيمانا} إنكارا واستهزاء بالمؤمنين وأيكم مرفوع بالابتداء وقيل هو قول المؤمنين للحث والتنبيه {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} يقينا وثباتا أو خشية أو إيمانا بالسورة لأنهم لم يكونوا آمنوا بها تفصيلا {وهم يستبشرون} يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف ١٢٥{وأما الذين في قلوبهم مرض} شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد فى البدن {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} كفروا مضموما إلى كفرهم {وماتوا وهم كافرون} هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت ١٢٦{أو لا يرون} يعنى المنافقين وبالتاء حمزة خطاب للمؤمنين {أنهم يفتنون} يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما {في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون} عن نفاقهم {ولا هم يذكرون} لا يعتبرون أو بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ولاهم يذكرون بما يقع بهم من الاصطدام ١٢٧{وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض} تغامزوا بالعيون انكارا للوحى وسخرية به قائلين {هل يراكم من أحد} من المسلمين لننصرف فانا لا نصير على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم أو إذا ما انزلت سورة فى عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام {ثم انصرفوا} عن حضرة النبى عليه السلام مخافة الفضيحة {صرف اللّه قلوبهم} عن فهم القرآن {بأنهم} بسبب أنهم {قوم لا يفقهون} لا يتدبرون حتى يفقهوا ١٢٨{لقد جاءكم رسول} محمد صلى اللّه عليه وسلم {من أنفسكم} من جنسكم ومن نسبكم عربى قرشى مثلكم {عزيز عليه ما عنتم} شديد عليه شاق لكونه بعضا منكم عنتكم ولقاءكم المكروه فهو يخاف عليكم الوقوع فى العذاب {حريص عليكم} على ايمانكم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رؤوف رحيم} قيل لم يجمع اللّه اسمين من أسمائه لأحد غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ١٢٩{فإن تولوا} فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك {فقل حسبي اللّه} فاستعن باللّه وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم {لا إله إلا هو عليه توكلت} فوضت أمرى إليه {وهو رب العرش} هو أعظم خلق اللّه خلق مطافا لأهل السماء وقبلة للدعاء {العظيم} بالجر وقرىء بالرفع على نعت الرب جل وعز عن أبى آخر آية نزلت لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية |
﴿ ٠ ﴾