تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة النحل سورة النحل مكية وهي مائة وثمان وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيبا بالوعد فقيل لهم _________________________________ {أتى أمر اللّه} أي هو بمنزلة الآتى الواقع وان كان منتظر القرب وقوعه {فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون} تبرأ جل وعز عن ان يكون له شريك وعن إشراكهم فما موصولة أو مصدرية واتصال هذا باستعجالهم من حيث أن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك ٢{ينزل الملائكة} وبالتحفيف مكى وأبو عمرو {بالروح} بالوحى أو بالقرآن لأن كلا منهما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد أو يحيى القلوب الميتة بالجهل {من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا} أن مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحى فيه معنى القول ومعنى انذروا {أنه لا إله إلا أنا فاتقون} اعلموا بأن الأمر ذلك من نذرت بكذا إذا علمته والمعنى اعلموا الناس قولى لا إله إلا أنا فاتقون فخافون وبالياء يعقوب ثم دل على وحدانيته وانه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وهو قوله ٣{خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} وبالتاء في الموضعين حمزة وعلى وخلق الإنسان وما يكون منه وهو قوله ٤{خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} أي فاذا هو منطبق مجادل عن نفسه مكافح لخصومه مبين لحجته بعد ما كان نطفة لاحس به ولا حركة أو فاذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيى العظام وهي رميم وهو وصف للانسان بالوقاحة والتمادى في كفران النعمة وخلق ما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وهو قوله ٥{والأنعام خلقها لكم} هي الأزواج الثمانية وأكثر ما يقع على الإبل وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله والقمر قدرناه منازل أو بالعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام ثم قال خلقها لكم أي ما خلقها إلا لكم يا جنس الإنسان {فيها دفء} هو اسم ما يدفأ به من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر {ومنافع} وهي نسلها ودرها {ومنها تأكلون} قدم الظرف وهو يؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجارى مجرى التفكه ٦{ولكم فيها جمال حين تريحون} تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشى {وحين تسرحون} ترسلونها بالغداة إلى مسارحها من اللّه تعالى بالتجميل بها كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشى لأن الرعيان إذا روحوها بالعشى وسرحوها بالغداة تزينت باراحتها وتسريحها الافنية وفرحت أربابها وأكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس وإنما قدمت الاراحة على التسريح لأن الجمال في الاراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ٧{وتحمل أثقالكم} أحمالكم {إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} وبفتح الشين أبو جعفر وهما لغتان في معنى المشقة وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع وأما الشق فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما ينال من الجهد والمعنى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة فضلا أن تحملوا أثقالكم على ظهورهم أو معناه لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس وقيل أثقالكم أبدانكم ومنه الثقلان للجن والانس ومنه وأخرجت الأرض اثقالها أي بنى آدم {إن ربكم لرؤوف رحيم} حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح ٨{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} عطف على الأنعام أي وخلق هذه للركوب والزينة وقد احتج أبو حنيفة رحمه اللّه على حرمة أكل لحم الخيل لأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الاكل بعد ما ذكره في الأنعام ومنفعة الأكل أقوى والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في مواضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما وانتصاب زينة على المفعول له عطفا على محل لتركبوها وخلق ما لا تعلمون من أصناف خلائقه وهو قوله {ويخلق ما لا تعلمون} ومن هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به غيره ٩{وعلى اللّه قصد السبيل} المراد به الجنس ولذا قال {ومنها جائر} والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ومعناه إن هداية الطريق الموصل إلى الحق عليه كقوله إن علينا للّهدى وليس ذلك للوجوب إذ لا يجب على اللّه شيء ولكن يفعل ذلك تفضيلا وقيل معناه وإلى اللّه وقال الزجاج معناه وعلى اللّه تبيين الطريق الواضح المستقيم والدعاء إليه بالحجج ومنها جائر أي من السبيل مائل عن الاستقامة {ولو شاء لهداكم أجمعين} أراد هداية اللطف بالتوفيق والانعام به الهدى العام ١٠{هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب} لكم متعلق بإنزال أو خبر لشراب وهو ما يشرب {ومنه شجر} يعنى الشجر الذي ترعاه المواشي {فيه تسيمون} من سامت الماشية إذا رعت فهى سائمة واسامها صاحبها وهو من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالمرعى علامات في الأرض ١١{ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} ولم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض من كلها للتذكرة {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته والآية الدلالة الواضحة ١٢{وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} بنصب الكل على وجعل النجوم مسخرات والنجوم مسخرات فقط حفص والشمس والقمر والنجوم مسخرات شامى على الابتداء والخبر {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} جمع الآية وذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة ١٣{وما ذرأ لكم في الأرض} معطوف على الليل والنهار أي ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك {مختلفا} حال {ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} يتعظون ١٤{وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا} هو السمك ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيؤكل سريعا طريا خيفة الفساد وإنما لا يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحما لأن مبنى الإيمان على العرف ومن قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار {وتستخرجوا منه حلية} هي اللؤلؤة والمرجان {تلبسونها} المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم {وترى الفلك مواخر} جوارى تجرى جريا وتشق الماء والمخر شق الماء بحيزومها {فيه} في البحر {ولتبتغوا من فضله} هو عطف على محذوف أي لتعتبروا ولتبتغوا وابتغاء الفضل التجارة {ولعلكم تشكرون} اللّه على ما أنعم عليكم به ١٥{وألقى في الأرض رواسي} جبالا ثوابت {أن تميد بكم} كراهية أن تميل بكم أو تضطرب أو لئلا تميد بكم لكن حذف المضاف أكثر قيل خلق اللّه الأرض فجعلت تميد فقالت الملائكة ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت {وأنهارا} وجعل فيها انهارا لأن القي فيه معنى جعل {وسبلا} طرقا {لعلكم تهتدون} إلى مقاصدكم أو إلى توحيد ربكم ١٦{وعلامات} هي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك {وبالنجم هم يهتدون} المراد بالنجم الجنس أو هو التريا والفرقدان وبنات نعش والجدى فان قلت وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه النجم مقحم فيه هم كأنه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد بهم قلت كانه أراد قريشا فلهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ولهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا ١٧{أفمن يخلق} أي اللّه تعالى {كمن لا يخلق} أي الأصنام وجىء بمن الذي هو لأولى العلم لزعمهم حيث سموها آلهة وعبدوها فاجروها مجرى أولى العلم أو لأن المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم فكيف بما لا علم عنده وانما لم يقل أفمن لا يخلق كمن يخلق مع اقتضاء المقام بظاهره إياه لكونه الزاما للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها باللّه لأنهم حين جعلوا غير اللّه مثل اللّه في تسميته باسمه والعبادة له فقد جعلوا اللّه من جنس المخلوقات وشبيها بها فانكر عليهم ذلك بقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق وهو حجة على المعتزلة في خلق الأفعال {أفلا تذكرون} فتعرفون فساد ما انتم عليه ١٨{وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} لاتضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم فضلا ان تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر وانما اتبع ذلك ما عدد من نعمة تنبيها على أن ما وراءها لا ينحصر ولا يعد {إن اللّه لغفور رحيم} يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ولا يقطعها عنكم لتفريطكم ١٩{واللّه يعلم ما تسرون وما تعلنون} من أقوالكم وأفعالكم وهو وعيد ٢٠{والذين يدعون} والآلهة الذين يدعوهم الكفار {من دون اللّه} وبالتاء غير عاصم {لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} ٢١{أموات} أي هم أموات {غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} نفي عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون اموات جاهلون بالبعث ومعنى أموات غير أحياء انهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات اي غير جائز عليها الموت وامرهم بالعكس من ذلك والضمير في يبعثون للداعين أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء أعمالهم منهم على عبادتهم وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث ٢٢{إلهكم إله واحد} أي ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير اللّه وان معبودكم واحد {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} للوحدانية {وهم مستكبرون} عنها وعن الاقرار بها ٢٣{لا جرم} حقا {أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون} أي سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد {إنه لا يحب المستكبرين} عن التوحيد يعنى المشركين ٢٤{وإذا قيل لهم} لهؤلاء الكفار {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} ماذا منصوب بأنزل أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع على الابتداء أي أي شيء انزله ربكم وأساطير خبر مبتدأ محذوف قيل هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا أساطير الأولين أي أحاديث الأولين واباطيلهم واحدتها اسطورة وإذا رأوا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبرونهم بصدقه وانه نبي فهم الذين قالوا خيرا ٢٥{ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم} أي قالوا ذلك اضلالا للناس فحملوا أوزار إضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم وهو وزر الاضلال لأن المضل والضال شريكان واللام للتعليل {بغير علم} حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال {ألا ساء ما يزرون} محل ما رفع ٢٦{قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد} أي من جهة القواعد وهي الأساطين هذا تمثيل يعنى أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها رسل اللّه فجعل اللّه هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وماتوا وهلكوا والجمهور على أن المراد به نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان فاهب اللّه الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا فأتى اللّه أي أمره بالاستئصال {فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون ٢٧{ثم يوم القيامة يخزيهم} يذلهم بعذاب الخزى سوى ما عذبوا به في الدنيا {ويقول أين شركائي} على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم {الذين كنتم تشاقون فيهم} تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم تشاقون نافع أي تشاقوننى فيهم لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة اللّه {قال الذين أوتوا العلم} أي الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم الى الايمان ويعظونهم فلا يلتفتون اليهم ويشاقونهم يقولون ذلك شماتة بهم أو هم الملائكة {إن الخزي اليوم} الفضيحة {والسوء} العذاب {على الكافرين} ٢٨ {الذين تتوفاهم الملائكة} وبالياء حمزة وكذا ما بعده {ظالمي أنفسهم} بالكفر باللّه {فألقوا السلم} أي الصلح والاستسلام اي اخبتوا وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} وجحدوا ما وجد منهم من الكفران والعدواة فرد عليهم أولوا العلم وقالوا {بلى إن اللّه عليم بما كنتم تعملون} فهو يجازيكم عليه وهذا أيضا من الشماتة وكذلك ٢٩{فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} جهنم ٣٠{وقيل للذين اتقوا} الشرك {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} وإنما نصب هذا ورفع أساطير لأن التقدير هنا أنزل خيرا فأطبقوا الجواب على السؤال وثمة التقدير هو أساطير الأولين فعدلوا بالجواب عن السؤال {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} أي آمنوا وعملوا الصالحات أو قالوا لا إله إلا اللّه {حسنة} بالرفع أي ثواب وأمن وغنيمة وهو بدل من خيرا لقول الذين اتقوا اي قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا ثم حكاه أو هو كلام مستأنف عدة للقائلين وجعل قولهم من جملة احسانهم {ولدار الآخرة خير} أي لهم في الآخرة ما هو خير عنها كقوله فآتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة {ولنعم دار المتقين} دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره ٣١{جنات عدن} خبر لمبتدأ محذوف أو هو مخصوص بالمدح {يدخلونها} حال {تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي اللّه المتقين} ٣٢{الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر لأنه في مقابلة ظالمى أنفسهم {يقولون سلام عليكم} قيل إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال السلام عليك يا ولى اللّه اللّه يقرأ عليك السلام ويبشره بالجنة ويقال لهم في الآخرة {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} بعملكم ٣٣{هل ينظرون} ما ينتظر هؤلاء الكفار {إلا أن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم وبالياء على وحمزة {أو يأتي أمر ربك} اي العذاب المستأصل أو القيامة {كذلك} مثل ذلك الفعل من مشرك والتكذيب {فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم اللّه} بتدميرهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير ٣٤{فأصابهم سيئات ما عملوا} جزاء سيئات أعمالهم {وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} واحاط بهم جزاء استهزائهم ٣٥{وقال الذين أشركوا لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} هذا كلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقادا لكان صوابا {ولا حرمنا من دونه من شيء} يعنى البحيرة والسائبة ونحوهما {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي كذبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل قولهم استهزاء {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} إلا ان يبلغوا الحق ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه ٣٦{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا اللّه} بأن وحدوه {واجتنبوا الطاغوت} الشيطان يعنى طاعته {فمنهم من هدى اللّه} لاختيارهم الهدى {ومنهم من حقت عليه الضلالة} اي لزمته لاختياره اياها {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} حيث أهلكهم اللّه وأخلى ديارهم عنهم ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ايمانهم وأعلمه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة فقال ٣٧{إن تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدي من يضل} بفتح الياء وكسر الدال كوفى الباقون بضم الياء وفتح الدال والوجه فيه أن من يضل مبتدأ ولا يهدى خبره {وما لهم من ناصرين} يمنعونهم من جريان حكم اللّه عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم ٣٨{وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} معطوف على وقال الذين أشركوا {لا يبعث اللّه من يموت بلى} هو إثبات لما بعد النفي أي بل يبعثهم {وعدا عليه حقا} وهو مصدر مؤكد لما دل عليه بلى لأن يبعث موعد من اللّه وبين أن الوفاء بهذا الوعد حق {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن وعده حق أو أنهم يبعثون ٣٩{ليبين لهم} متعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو يشمل المؤمنين والكافرين {الذي يختلفون فيه} هو الحق {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} في قولهم لا يبعث اللّه من يموت ٤٠{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أي فهو يكون وبالنصب شامى وعلى على جواب كن قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن فيكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد يبين أن مرادا لا يمتنع عليه وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذ أورد على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثم والمعنى أن إيجاد كل مقدور على اللّه بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات ٤١{والذين هاجروا في اللّه} في حقه ولوجهه {من بعد ما ظلموا} هم رسول اللّه وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم الى اللّه منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ومنهم من هاجر إلى المدينة {لنبوئنهم في الدنيا حسنة} صفة للمصدر اي تبوئة حسنة أو لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدنية حيث آواهم أهلها ونصروهم {ولأجر الآخرة أكبر} الوقف لازم عليه لأن جواب {لو كانوا يعلمون} محذوف والضمير للكفار أي لو علموا ذلك لرغبوا في الدين أو للمهاجرين أي لو كانوا يعلمون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم ٤٢{الذين صبروا} أي هم الذين صبروا أو أعنى الذين صبروا وكلاهما مدح أي صبروا على مفارقة الوطن الذي هو حرم اللّه المحبوب في كل قلب فكيف بقلوب قوم هو مسقط رءوسهم وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل اللّه {وعلى ربهم يتوكلون} أي يفوضون الأمر إلى ربهم ويرضون بما أصابهم في دين اللّه ولما قالت قريش اللّه أعظم من ان يكون رسوله بشرا نزل ٤٣{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} على السنة الملائكة نوحى حفص {فاسألوا أهل الذكر} اهل الكتاب ليعلموكم أن اللّه لم يبعث إلى الأمم السالفة الا بشرا وقيل للكتاب الذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين {إن كنتم لا تعلمون} ٤٤{بالبينات والزبر} أي بالمعجزات والكتب والباء يتعلق برجالا صفة له أي رجالا ملتبسين بالبينات أو بأرسلنا مضمرا كانه قيل بم أرسل الرسل فقيل بالبينات أو بيوحى أي يوحى اليهم بالبينات أو بلا تعلمون وقوله فاسئلوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة وقوله {وأنزلنا إليك الذكر} القرآن {لتبين للناس ما نزل إليهم} في الذكر مما امروا به ونهوا عنه ووعدوا به وأوعدوا {ولعلهم يتفكرون} في تنبيهاته فينتبهوا ٤٥{أفأمن الذين مكروا السيئات} أي المكرات والسيئات وهم أهل مكة وما مكروا به رسول اللّه عليه السلام {أن يخسف اللّه بهم الأرض} كما فعل بمن تقدمهم {أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي بغتة ٤٦{أو يأخذهم في تقلبهم} متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم {فما هم بمعجزين} ٤٧{أو يأخذهم على تخوف} متخوفين وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف قوله من حيث لا يشعرون {فإن ربكم لرؤوف رحيم} حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم مع استحقاقكم والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فانما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم ٤٨{أو لم يروا} وبالتاء حمزة وعلي وأبو بكر {إلى ما خلق اللّه} ما موصولة بخلق اللّه وهو مبهم بيانه {من شيء يتفيأ ظلاله} أي يرجع من موضع إلى موضع وبالتاء بصرى {عن اليمين} أي الإيمان {والشمائل} جمع شمال {سجدا للّه} حال من الظلال عن مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء {وهم داخرون} صاغرون وهو خال من الضمير في ظلاله لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق اللّه من كل شيء له ظل وجمع بالواو والنون لأن الدخور من اوصاف العقلاء أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب والمعنى أو لم يروا إلى ما خلق اللّه من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن ايمانها وشمائلها أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة للّه تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والاجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال اللّه فيها غير ممتنعة ٤٩{وللّه يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة} من بيان لما في السموات وما في الأرض جميعا على أن في السموات خلقا يدبون فيها كما تدب الأناسى في الأرض أو بيان لما في الأرض وحده والمراد بما في السموات ملائكتهن وبقوله {والملائكة} ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم قيل المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقيادهم لارادة اللّه ومعنى الانقياد يجمعهما فلم يختلفا فلذا أجاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد وجىء بما إذ هو صالح للعقلاء وغيرهم ولو جىء بمن لتناول العقلاء خاصة {وهم لا يستكبرون} ٥٠{يخافون ربهم} هو حال من الضمير في لا يستكبرون أي لا يستكبرون خائفين {من فوقهم} ان علقته بيخافون فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم وان علقته بربهم حالا منه فمعناه يخافون ربهم غالبا لهم قاهرا كقوله وهو القاهر فوق عباده {ويفعلون ما يؤمرون} وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى وأنهم بين الخوف والرجاء ٥١{وقال اللّه لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} فان قلت انما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا عندى رجال ثلاثة لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان قلت الاسم الحامل لمعنى الافراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا اريدت الدلالة على أن المعنى به منهما هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد اليه والعناية به الا ترى أنك لو قلت انما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الالهية لا الوحدانية {فإياي فارهبون} نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم وهو من طريقة الالتفات وهو أبلغ في الترغيب من قوله فاياه فارهبوا فارهبونى يعقوب ٥٢{وله ما في السماوات والأرض وله الدين} أي الطاعة {واصبا} واجبا ثابتا لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه وهو حال عمل فيه الظرف أو وله الجزاء دائما يعنى الثواب والعقاب {أفغير اللّه تتقون} ٥٣{وما بكم من نعمة} وأي شيء اتصل بكم من نعمة عافية وغنى وخصب {فمن اللّه} فهو من اللّه {ثم إذا مسكم الضر} المرض والفقر والجدب {فإليه تجأرون} فما تتضرعون إلا إليه والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة ٥٤{ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} الخطاب في وما بكم من نعمة ان كان من نعمة ان كان عاما فالمراد بالفريق الكفرة وان كان الخطاب للمشركين فقوله منكم للبيان لا للتبعيض كأنه قال فاذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ٥٥{ليكفروا بما آتيناهم} من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ثم أوعدهم فقال {فتمتعوا فسوف تعلمون} هو عدول الى الخطاب على التهديد ٥٦{ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم} أي لآلهتم ومعنى لا يعلمون أنهم يسمونها آلهة ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند اللّه وليس كذلك لأنها جماد لا تضر ولا تنفع أو الضمير في لا يعلمون للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيبا في أنعامهم وزروعهم أم لا وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا اليهم {تاللّه لتسألن} وعيد {عما كنتم تفترون} أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها ٥٧{ويجعلون للّه البنات} كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات اللّه {سبحانه} تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم {ولهم ما يشتهون} يعنى البنين ويجوز في ما الرفع على الابتداء ولهم الخير والنصب على العطف على البنات وسبحانه اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور ٥٨{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا} أي صار فظل وأمسى وأصح وبات تستعمل بمعنى الصيرورة لأن أكثر الوضع يتفق بالليل فيظل نهاره معتما مسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس {وهو كظيم} مملوء حنقا على المرأة ٥٩{يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} يستخفى منهم من أجل سوء المبشر به ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر {أيمسكه على هون} أيمسك ما بشر به على هون وذل {أم يدسه في التراب} أم يئده {ألا ساء ما يحكمون} حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم للّه ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف ٦٠{للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الاناث ووأدهن خشية الاملاق {وللّه المثل الأعلى} وهو الغنىعن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين {وهو العزيز} الغالب في تنفيذ ما أراد {الحكيم} في امهال العباد ٦١{ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم} بكفرهم ومعاصيهم {ما ترك عليها} على الأرض {من دابة} قط ولاهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما من دابة من مشرك يدب {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي أجل كل أحد أو وقت تقضيه الحكمة أو القيامة {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} ٦٢{ويجعلون للّه ما يكرهون} ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها {وتصف ألسنتهم الكذب} مع ذلك أي ويقولون الكذب {أن لهم الحسنى} عند اللّه وهي الجنة ان كان البعث حقا كقوله ولئن رجعت إلى ربى ان لى عنده للحسنى وأن لهم الحسنى بدل من الكذب {لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون} مفرطون نافع مفرطون أبو جعفر فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلانا فرطته في طلب الماء إذا قدمته أو منسيون متروكون من أفرطت فلانا خلفى إذا خلفته ونسيته والمكسور المخفف من الافراط في المعاصى والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها ٦٣{تاللّه لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} أي أرسلنا رسلا إلى من تقدمك من الأمم {فزين لهم الشيطان أعمالهم} من الكفر والتكذيب بالرسل {فهو وليهم اليوم} أي قرينهم في الدنيا تولى اضلالهم بالغرور أو الضمير لمشركى قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولى هؤلاء لأنهم منهم أو هو على حذف المضاف أي فهو ولى أمثالهم اليوم {ولهم عذاب أليم} في القيامة ٦٤{وما أنزلنا عليك الكتاب} القرآن {إلا لتبين لهم} للناس {الذي اختلفوا فيه} هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به {وهدى ورحمة} معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل {لقوم يؤمنون} ٦٥{واللّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع ٦٦{وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه} وبفتح النون نافع وشامى وأبو بكر قال الزجاج سقيته واسقيته بمعنى واحد ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفردا وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلان معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل كيف العبرة فقال تسقيكم مما في بطونه {من بين فرث ودم لبنا خالصا} أي يخلق اللّه اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتفانه وبينه وبينهما برزخ لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها وطبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجرى الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر وفي ذلك عبرة لمن اعتبر وسئل شقيق عن الاخلاص فقال تميز العمل من العيوب كتميز اللبن من بين فرث ودم {سائغا للشاربين} سهل المرور في الحلق ويقال لم يغص أحد باللبن قط ومن الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية لابتداء الغاية ويتعلق ٦٧{ومن ثمرات النخيل والأعناب} بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله {تتخذون منه سكرا} بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد والضمير في منه يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا ثم فيه وجهان أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة وثانيهما ان يجمع بين العتاب والمنة وقيل السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه إلى حد السكر ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب وبأخبار جمة {ورزقا حسنا} هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} ٦٨{وأوحى ربك إلى النحل} ولهم {أن اتخذي من الجبال بيوتا} هي أن المفسرة لأن الايحاء فيه معنى القول قال الزجاج واحد النحل نحلة كنحل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا ومن في من الجبال {ومن الشجر ومما يعرشون} يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في يعرشون للناس وبضم الراء شامى وأبو بكر ٦٩{ثم كلي من كل الثمرات} أي ابنى البيوت ثم كلى كل ثمرة تشتهيها فاذا أكلتها {فاسلكي سبل ربك} فادخلى الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكى إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها {ذللا} جمع ذلول وهي حال من السبل لأن اللّه تعالى ذللّها وسهلها أو من الضمير في فاسلكى أي وأنت ذلل منقادة لماامرت به غير ممتنعة {يخرج من بطونها شراب} يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها {مختلف ألوانه} منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على الوان أغذيتها {فيه شفاء للناس} لأنه من جملة الأدوية النافعة وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما ان كل دواء كذلك وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام اسقه عسلا فجاءه وقال زاده شرا فقال عليه السلام صدق اللّه وكذب بطن أخيك اسقه عسلا فسقاه فصح وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل على وقومه وعن بعضهم أن رجلا قال عند المهدى إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل جعل اللّه طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدى وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم ٢ {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} في عجب أمرها فيعلمون أن اللّه أودعها علما بذلك وفطنها كما أعطى أولى العقول عقولهم ٧٠{واللّه خلقكم ثم يتوفاكم} بقبض أرواحكم من ابدانكم {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون {لكي لا يعلم بعد علم شيئا} لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه {إن اللّه عليم} بحكم التحويل إلى الارذل من الأكمل أو إلى الافناء من الاحياء {قدير} على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء ٧١{واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق} اي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم {فما الذين فضلوا} في الرزق يعنى الملاك {برادي} بمعطى {رزقهم على ما ملكت أيمانهم} فكان ينبغى ان تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم {فهم فيه سواء} جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت إيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق وهو مثل ضربه اللّه للذين جعلوا له شركاء فقال لهم أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما انعمت به عليكم ولا تجعلونهم فيه شركاء ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدى لي شركاء {أفبنعمة اللّه يجحدون} وبالتاء أبو بكر فجعل ذلك من جملة جحود النعمة ٧٢{واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجا} أي من جنسكم {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت وإليك نسعى ونحفد واختلف فيه فقيل هم الأختان على البنات وقيل أولاد الأولاد والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدما النحل ( ٧٢ _ ٧٦ ) يحفدون في مصالحكم ويعينونكم {ورزقكم من الطيبات} أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا انموذج منها {أفبالباطل يؤمنون} هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها {وبنعمة اللّه} أي الاسلام {هم يكفرون} أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة اللّه ما أحل لهم ٧٣{ويعبدون من دون اللّه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا} أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئا فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق فان أردت المصدر نصبت به شيئا اي لا يملك أن يرزق شيئا وان اردت المرزوق كان شيئا بدلا منه اى قليلا ومن السموات ةالأرض صلة للرزق ان كان مصدرا اى لا يرزق من السموات مطرا و لا من الارض نباتا وصفة ان كان اسما لما يرزق والضمير في {ولا يستطيعون} لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم ٧٤{فلا تضربوا للّه الأمثال} فلا تجعلوا للّه مثلا فانه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء {أن اللّه يعلم} أنه لا مثل له من الخلق {وأنتم لا تعلمون} ذلك أو ان اللّه يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول ثم ضرب المثل فقال ٧٥{ضرب اللّه مثلا عبدا} هو بدل من مثلا {مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا} مصدران في موضع الحال أي مثلكم في اشراككم باللّه الاوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه اللّه ما لا فهو يتصرف فيه وينفق منه ما شاء وقيد بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جمعيا إذ هما من عباد اللّه وبلا يقدر على شيء ليمتاز من المكاتب والمأذون فهما يقدران على التصرف ومن موصوفة أي وحرا رزقناه ليطابق عبدا أو موصولة {هل يستوون} جمع الضمير لارادة الجمع أي لا يستوى القبيلان {الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون} بأن الحمد والعبادة للّه ثم زاد في البيان فقال ٧٦{وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} الأبكم الذي ولد اخرس فلا يفهم ولا يفهم {وهو كل على مولاه} أي ثقل وعيال على من يلى امره ويعوله {أينما يوجهه لا يأت بخير} حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح {هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل} أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير {وهو} في نفسه {على صراط مستقيم} على سيرة صالحة ودين قويم وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع ٧٧{وللّه غيب السماوات والأرض} أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفى عليهم علمه أو اراد بغيب السموات والارض يوم القيامة على ان علمه غائب عن اهل السموات والارض لم يطلع عليه احد منهم {وما أمر الساعة} في قرب كونها وسرعة قيامها {إلا كلمح البصر} كرجع طرف وانما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه {أو هو} أي الامر {أقرب} وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى كونوا في كونها على هذا الاعتبار وقيل بل هو اقرب {إن اللّه على كل شيء قدير} فهو يقدر على ان يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم دل على قدرته بما بعده فقال ٧٨{واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم} وبكسر الألف وفتح الميم على اتباعا لكسرة النون وبكسرهما حمزة والهاء مزيدة في امهات للتوكيد كما زيدت في أراف فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة {لا تعلمون شيئا} حال أي غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} أي وما ركب فيكم هذه الاشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها ٧٩{ألم يروا} وبالتاء شامى وحمزة {إلى الطير مسخرات} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك {في جو السماء} هو الهواء المتباعد من الارض في سمت العلو {ما يمسكهن} في قبضهن وبسطهن ووقوفهن {إلا اللّه} بقدرته وفيه نفى لما يصوره الوهم عن خاصية القوى الطبيعية {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} بأن الخلق لا غنى به عن الخالق ٨٠{واللّه جعل لكم من بيوتكم سكنا} هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن اليه وينقطع إليه من بيت أو الف {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا} هي قباب الأدم {تستخفونها} ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل {يوم ظعنكم} بسكون العين كوفى وشامى وبفتح العين غيرهم والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال {ويوم إقامتكم} قراركم في منازلكم والمعنى أنها خفيفة عليكم في اوقات السفر والحضر على ان اليوم بمعنى الوقت {ومن أصوافها} اي اصواف الضأن {وأوبارها} وأوبار الإبل {وأشعارها} واشعار المعز {أثاثا} متاع البيت {ومتاعا} وشيئا ينتفع به {إلى حين} مدة من الزمان ٨١{واللّه جعل لكم مما خلق ظلالا} كالاشجار والسقوف {وجعل لكم من الجبال أكنانا} جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار {وجعل لكم سرابيل} هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن {تقيكم الحر} وهي تقى البرد أيضا إلا انه اكتفى بأحد الضدين ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم سكون البرد يسيرا محتملا {وسرابيل تقيكم بأسكم} ودروعا من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم والبأس شدة الحرب والسربال وعام يقع على ما كان من حديد أو غيره {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون} أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتقادون له ٨٢{فإن تولوا} أعرضوا عن الاسلام {فإنما عليك البلاغ المبين} أي فلا تبعه عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت ٨٣{يعرفون نعمة اللّه} التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون أنها من اللّه {ثم ينكرونها} بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء {وأكثرهم الكافرون} أي الجاحدون غير المعترفين أو نعمة اللّه نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عنادا وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم وثم يدل على إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر ٨٤{ويوم} انتصابه باذكر {نبعث} نحشر {من كل أمة شهيدا} نبيا يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والايمان والكفر {ثم لا يؤذن للذين كفروا} في الاعتذار والمعنى لا حجة لهم فدل بترك الاذن على أن لا حجة لهم ولا عذر {ولا هم يستعتبون} ولا هم يسترضون أي لا يقال لهم ارضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل ومعنى ثم انهم يمنون أي يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو أطم وأغلب منها وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في الفاء معذرة ولا ادلاء بحجة ٨٥{وإذا رأى الذين ظلموا} كفروا {العذاب فلا يخفف عنهم} أي العذاب بعد الدخول {ولا هم ينظرون} يمهلون قبله ٨٦{وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} أوثانهم التي عبدوها {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا} أي آلهتنا التي جعلناها شركاء {الذين كنا ندعو من دونك} أي نعبد {فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} اي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جمادا لا تعرف من عبدها ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها للّه عن الشرك ٨٧{وألقوا} يعنى الذين ظلموا {إلى اللّه يومئذ السلم} القاء السلم الاستسلام لأمر اللّه وحكمه بعد الاباء والاستكبار في الدنيا {وضل عنهم} وبطل عنهم {ما كانوا يفترون} من ان للّه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرءوا منهم ٨٨{الذين كفروا} في أنفسهم {وصدوا عن سبيل اللّه} وحملوا غيرهم على الكفر {زدناهم عذابا فوق العذاب} اي عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيل اللّه {بما كانوا يفسدون} بكونهم مفسدين الناس بالصد ٨٩{ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم} يعنى نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم {وجئنا بك} يا محمد {شهيدا على هؤلاء} على أمتك {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا} بليغا {لكل شيء} من امور الدين أما في الأحكام المنصوصة فظاهر وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالاجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وحثنا على الإجماع فيه بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقد رضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه بقوله أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله فاعتبروا يا أولى الأبصار فكانت السنة والإجماع وقول الصحابى والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فنتبين أنه كان تبيانا لكل شيء {وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة ٩٠{إن اللّه يأمر بالعدل} بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وايصال كل ذي حق إلى حقه {والإحسان} إلى من أساء اليكم أو هما الفرض والندب لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب {وإيتاء ذي القربى} وإعطاء ذى القرابة وهو صلة الرحم {وينهى عن الفحشاء} عن الذنوب المفرطة في القبح {والمنكر} ما تنكره العقول {والبغي} طلب التطاول بالظلم والكبر {يعظكم} حال أو مستأنف {لعلكم تذكرون} تتعظون بمواعظ اللّه وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون فإنه قال ما كنت أسلمت إلاحياء منه عليه السلام لكثرة ما كان يعرض على الإسلام ولم يستقر الإيمان في قلبى حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبى فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال واللّه ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وما هو بقول البشر وقال ابو جهل ان إلهه ليأمر بمكارم الاخلاق وهي أجمع آية القرآن للخير والشر ولهذه يقرؤها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة لتكون عظة جامعة لكل مأمور ومنهى ٩١{وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم} هي البيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام ان الذين يبايعونك إنما يبايعون اللّه {ولا تنقضوا الأيمان} إيمان البيعة {بعد توكيدها} بعد توثيقها باسم اللّه وأكد ووكد لغتان فصيحتان والأصل الواو والهمزة بدل منها {وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا} شاهدا ورقيبا لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه {إن اللّه يعلم ما تفعلون} من البر والحنث فيجازيكم به ٩٢{ولا تكونوا} في نقض الايمان {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة} كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد ان احكمته وابرمته فجعلته {أنكاثا} جمع نكث وهو ما ينكث فتله قيل هي ريطة وكانت حمقاء تغزل هي وجواربها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن {تتخذون أيمانكم} حال كأنكاثا {دخلا} أحد مفعولى تتخذ أي ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا {بينكم} أي مفسدة وخيانة {أن تكون أمة} بسبب أن تكون أمة يعنى جماعة قريش {هي أربى من أمة} هي أزيد عددا وأوفر مالا من أمة من جماعة المؤمنين هي أربى مبتدأ و خبر في موضع الرفع صفة لأمة وأمة فاعل تكون وهي تامة وهي ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين {إنما يبلوكم اللّه به} الضمير للمصدر اي إنما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد اللّه وما وكدتم من إيمان البيعة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وفيه تحذير عن مخالفة ملة الاسلام ٩٣{ولو شاء اللّه لجعلكم أمة واحدة} حنيفة مسلمة {ولكن يضل من يشاء} من علم منه اختيار الضلالة {ويهدي من يشاء} من علم منه اختيار الهداية {ولتسألن عما كنتم تعملون} يوم القيامة فتجزون به ٩٤{ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم} كرر النهى عن اتخاذ الايمان دخلا بينهم تأكيدا عليهم واظهار العظمة {فتزل قدم بعد ثبوتها} فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وإنما وحدت القدم ونكرت الاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن تثبت عليه فكيف بأقدام كثيرة {وتذوقوا السوء} في الدنيا {بما صددتم} بصدودكم {عن سبيل اللّه} وخروجكم عن الدين أو بصدكم غيركم لأنهم لو نقضوا ايمان البيعة وارتدوا لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها {ولكم عذاب عظيم} في الآخرة ٩٥{ولا تشتروا} ولا تستبدلوا {بعهد اللّه} وبيعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ثمنا قليلا} عرضا من الدنيا يسيرا كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ولما كانوا يعدونهم ان رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فثبتهم اللّه {إنما عند اللّه} من ثواب الآخرة {هو خير لكم إن كنتم تعلمون} ٩٦{ما عندكم} من اعراض الدنيا {ينفد وما عند اللّه} من خزائن رحمته {باق} لا ينفد {وليجزين} وبالنون مكى وعاصم {الذين صبروا} على أذى المشركين ومشاق الاسلام {أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} ٩٧{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى} من مبهم يتناول النوعين إلا ان ظاهره للذكور فبين بقوله من ذكر أو أنثى ليعم الموعد النوعين {وهو مؤمن} شرط الإيمان لأن اعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على ان العمل ليس من الايمان {فلنحيينه حياة طيبة} أي في الدنيا {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} وعده اللّه ثواب الدنيا والآخرة كقوله فآتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا ان كان موسرا فظاهر وان كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة اللّه تعالى وأما الفاجر فأمره بالعكس ان كان معسرا فظاهر وان كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه وقيل الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة باللّه وصدق المقام مع اللّه وصدق الوقوف على أمر اللّه والاعراض عما سوى اللّه ٩٨{فإذا قرأت القرآن} فاذا أردت قراءة القرآن {فاستعذ باللّه} فعبر عن ارادة الفعل بلفظ الفعل لأنها سبب له والفاء للتعقيب إذ القراءة المصدرة بالاستعاذة من العمل الصالح المذكور {من الشيطان} يعنى ابليس {الرجيم} المطرود أو الملعون قال ابن مسعود رضي اللّه عنه قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا اقرأنيه جبريل عليه السلام ٩٩{إنه ليس له} لإبليس {سلطان} تسلط وولاية {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه ١٠٠{إنما سلطانه على الذين يتولونه} يتخذونه وليا ويتبعون وساوسه {والذين هم به مشركون} الضمير يعود إلى ربهم أو الى الشيطان أي بسببه ١٠١{وإذا بدلنا آية مكان آية} تبديل الآية مكان الآية هو النسخ واللّه تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة رآها وهو معنى قوله {واللّه أعلم بما ينزل} وبالتخفيف مكى وأبو عمرو {قالوا إنما أنت مفتر} هو جواب إذا وقوله واللّه أعلم بما ينزل اعتراض كانوا يقولون ان محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون ولقد افتروا فقد كان ينسخ الاشق بالأهون والأهون بالاشق {بل أكثرهم لا يعلمون} الحكمة في ذلك ١٠٢{قل نزله روح القدس} أي جبريل عليه السلام أضيف إلى الى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود والمراد الروح والمقدس وخاتم الجواد و المقدس المطهر من المآثم {من ربك} من عنده امره {بالحق} حال اي نزله ملتبسا بالحكمة {ليثبت الذين آمنوا} ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا والحكمة لأنه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب {وهدى وبشرى} مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت والتقدير تثبيتا لهم وارشادا وبشارة {للمسلمين} وفيه تعريض بحصول اضداد هذه الخصال لغيرهم ١٠٣{ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} أراودا به غلاما كان لحو يطب قد أسلم وحسن اسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب أو هو جبر غلام رومى لعامر بن الحضرمى أو عبدان جبر ويسار كانا يقرآن التوراة والانجيل فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسمع ما يقرآن أو سلمان الفارسي {لسان الذي يلحدون إليه} وبفتح الياء والحاء حمزة وعلى {أعجمي وهذا لسان عربي مبين} أي لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمى غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة ردا لقولهم وإبطالا لطعنهم وهذه الجملة اعنى لسان الذي يلحدون إليه أعجمى لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم واللسان اللغة ويقال الحد القبر ولحده وهو وملحود وملحوذ إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استعير لكل امالة عن الاستقامة فقالوا ألحد فلان في قوله وألحد في دينه ومنه الملحد لانه أمال مذهبه عن الاديان كلها ١٠٤{إن الذين لا يؤمنون بآيات اللّه} أي القرآن {لا يهديهم اللّه} ما داموا مختارين الكفر {ولهم عذاب أليم} في الآخرة على كفرهم ١٠٥{إنما يفتري الكذب} على اللّه {الذين لا يؤمنون بآيات اللّه} أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا عليه وهو رد لقولهم إنما أنت مفتر {وأولئك} اشارة الى الذين لا يؤمنون أي وأولئك {هم الكاذبون} على الحقيقة الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات اللّه أعظم الكذب أو وأولئك هم الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر جوزوا أن يكون ١٠٦{من كفر باللّه من بعد إيمانه} شرطا مبتدأ أو حذف جوابه لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل من كفر باللّه فعليهم غضب {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} ساكن به {ولكن من شرح بالكفر صدرا} أي طاب به نفسا واعتقده {فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم} وأن يكون بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات اللّه على أن يجعل وأولئك هم الكاذبون اعتراضا بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفترى الكذب من كفر باللّه من بعد ايمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ثم قال ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من اللّه وأن يكون بدلا من المبتدأ الذي هو أولئك أي ومن كفر باللّه من بعد إيمانه هم الكاذبون أو من الخبر الذي هو الكاذبون أي وأولئك هم من كفر باللّه من بعد ايمانه وان ينتصب على الذم روى أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا وكان فيهم من اكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للايمان منهم عمار وأما أبواه ياسر وسمية فقد قتلاوهما أول قتيلين في الاسلام فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان عمارا كفر فقال كلا ان عمارا ملىء ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط الايمان لحمه ودمه فأتى عمار رسول اللّه صلى عليه وسلم وهو يبكى فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسح عينيه وقال مالك ان عادوا لك فعدهم بما قلت وما فعل أبو عمار أفضل لأن في الصبر على القتل اعزازا للاسلام ١٠٧{ذلك} إشارة إلى الوعيد وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم {بأنهم استحبوا} آثروا {الحياة الدنيا على الآخرة} أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة {وأن اللّه لا يهدي القوم الكافرين} ما داموا مختارين للكفر ١٠٨{أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} فلا يتدبرون ولا يصغون إلى المواعظ ولا يبصرون طريق الرشاد {وأولئك هم الغافلون} أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها ١٠٩{لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} ١١٠{ثم إن ربك} ثم يدل على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك {للذين هاجروا} من مكة أي أنه لهم لا عليهم يعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محميا منفوعا غير مضرور {من بعد ما فتنوا} بالعذاب والاكراه على الكفر فتنوا شامى أي بعد ما عذبوا المؤمنين ثم أسلموا {ثم جاهدوا} المشركين بعد الهجرة {وصبروا} على الجهاد {إن ربك من بعدها} من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر {لغفور} لهم لما كان منهم من التكلم بكلمة الكفر تقية {رحيم} لا يعذبهم على ما قالوا في حالة الاكراه ١١١{يوم تأتي} منصوب برحيم أو باذكر {كل نفس تجادل عن نفسها} وإنما أضيفت النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكانه قيل يوم يأتى كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كل يقول نفسى نفسى ومعنى المجادلة عنها الاعتذار كقولهم هؤلاء أضلونا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية واللّه ربنا ما كنا مشركين {وتوفى كل نفس ما عملت} تعطى جزاء عملها وافيا {وهم لا يظلمون} في ذلك ١١٢{وضرب اللّه مثلا قرية} أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم اللّه عليهم فابطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فانزل اللّه بهم نقمته فيجوز ان يراد قرية مقدرة على هذه الصفة وان تكون في قرى الاولين قرية كانت هذه حالها فضربها اللّه مثلا لمكة انذارا من مثل عاقبتها {كانت آمنة} من القتل والسبى {مطمئنة} لا يزعجها خوف لأن الطمأنينة مع الأمن والإنزعاج والقلق مع الخوف {يأتيها رزقها رغدا} واسعا {من كل مكان} من كل بلد {فكفرت} أهلها {بأنعم اللّه} جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس {فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} الاذاقة واللباس استعارتان والاذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ووجه صحة ذلك أن الاذاقة جارية عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الانسان والتبس به من بعض الحوادث وأما ايقاع الاذاقة على لباس الجوع والخوف فلانه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكانه قيل فاذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ١١٣{ولقد جاءهم رسول منهم} أي محمد صلى اللّه عليه وسلم {فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون} أي في حال التباسهم بالظلم قالوا انه القتل بالسيف يوم بدر روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجه إلى أهل مكة في سنى القحط بطعام ففرق فيهم فقال اللّه لهم بعد ان أذاقهم الجوع ١١٤{فكلوا مما رزقكم اللّه} على يدى محمد صلى اللّه عليه وسلم {حلالا طيبا} بدلا عما كنتم تأكلونه حراما خبيثا من الاموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب {واشكروا نعمة اللّه إن كنتم إياه تعبدون} تطيعون أو ان صح زعمكم أنكم تعبدون اللّه بعبادة الآلهة لانها شفعاؤكم عنده ثم عدد عليهم محرمات اللّه ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم باهوائهم فقال ١١٥{إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن اللّه غفور رحيم} إنما للحصر أي المحرم هذا دون البحيرة وأخواتها وباقي الآية قد مر تفسيره ١١٦{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب} هو منصوب بلا تقولوا أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف الى الوحى أو الى القياس المستنبط منه واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما احل اللّه هو حرام وقوله {هذا حلال وهذا حرام} بدل من الكذب ولك أن تنصب الكذب بتصف وتجعل ما مصدرية وتعلق هذا حلال وهذا حرام بلا تقولوا أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وهذا لوصف ألسنتكم الكذب أي ولا تحوموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم لا لأجل حجة وبينة ولكن قول ساذج ودعوى بلا برهان وقوله تصف ألسنتكم الكذب من فصيح الكلام جعل قولهم كانه عين الكذب فاذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولك وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر واللام في {لتفتروا على اللّه الكذب} من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض {إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون} ١١٧{متاع قليل ولهم عذاب أليم} هو خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعذابها عظيم ١١٨{وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} في سورة الانعام يعنى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية {وما ظلمناهم} بالتحريم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم ١١٩{ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة} في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ومرادهم لذة الهوى لاعصيان المولى {ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها} من بعد التوبة {لغفور} بتكفير ما كثروا قبل من الجرائم {رحيم} بتوثيق ما وثقوا بعد من العزائم ١٢٠{إن إبراهيم كان أمة} انه كان وحده امة من الامم لكماله في جميع صفات الخير كقوله ليس على اللّه بمستنكر أن يجمع العالم في واحد وعن مجاهد كان مؤمنا وحده الناس كلهم كفار أو كان أمة بمعنى ماموم يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير {قانتا للّه} هو القائم بما امره اللّه وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه ان معاذا كان امة قانتا للّه فقيل له إنما هو ابراهيم عليه السلام فقال الامة الذي يعلم الخير والقانت المطيع للّه ورسوله وكان معاذ كذلك وقال عمر رضي اللّه عنه لو كان معاذ حيا لاستخلفته فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة ومعاذ أمة اللّه قانت للّه ليس بينه وبين اللّه يوم القيامة إلا المرسلون {حنيفا} مائلا عن الاديان إلى ملة الاسلام {ولم يك من المشركين} نفى عنه الشرك تكذيبا لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم وحذف النون للتشبيه بحروف اللين ١٢١{شاكرا لأنعمه} روى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فاخر غداءه فاذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم الى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاما فقال الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا للّه على أنه عافانى وابتلاكم {اجتباه} اختصه واصطفاه للنبوة {وهداه إلى صراط مستقيم} إلى ملة الاسلام ١٢٢{وآتيناه في الدنيا حسنة} نبوة وأموالا وأولادا أو تنويه اللّه بذكره فكل أهل دين يتولونه أو قول المصلى منا كما صليت على إبراهيم {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} لمن أهل الجنة ١٢٣{ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} في ثم تعظيم منزلة نبينا عليه السلام واجلال محله والايذان بأن أشرف ما أوتى خليل اللّه من الكرامة اتباع رسولنا ملته ١٢٤{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} روى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرغ اللّه فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لان بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة فأذن اللّه لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فأطاع أمر اللّه الرضوان بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم يصبروا عن الصيد فمسخهم اللّه دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازى كل واحد من الفريقين بما هو أهله ١٢٥{ادع إلى سبيل ربك} إلى الاسلام {بالحكمة} بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة {والموعظة الحسنة} وهي التي لا يخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها أو بالقرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة والحكمة المعرفة بمراتب الافعال والموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة والانذار بالبشارة {وجادلهم بالتي هي أحسن} بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة أو بما يوقظ القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} اي هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ١٢٦{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} سمى الفعل الأول عقوبة والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله جزاء سيئة سيئة مثلها فالثانية ليست بسيئة والمعنى ان صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم فرأى النبي عليه السلام حمزة مبقور البطن فقال أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الاخبار بالنهى عنها حتى بالكلب العقور {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} الضمير في له يرجع إلى مصدر صبرتم والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من اللّه عليهم لانهم صابرون على الشدائد ثم قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {واصبر} أنت فعزم عليه بالصبر ١٢٧{وما صبرك إلا باللّه} أي بتوفيقه وتثبيته {ولا تحزن عليهم} على الكفار إن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين وما فعل بهم الكفار فانهم وصلوا إلى مطلوبهم {ولا تك في ضيق مما يمكرون} ضيق مكى والضيق تخفيف الضيق أي في امر ضيق ويجوز ان يكونا مصدرين كالقيل والقول والمعنى ولا يضيقن صدرك من مكرهم فانه لا ينفذ عليك ١٢٨{إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} أي هو ولى الذين اجتنبوا السيآت وولى العاملين بالطاعات قيل من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان اللّه معه في أحواله ومعينه نصرته في المأمور وعصمته في المحظور |
﴿ ٠ ﴾