تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة المؤمنون

{قد أفلح المؤمنون} قد نقضية لما هى تثبت المتوقع ولما تنفيه وكان المؤمنين يتوقعون مثل هذه البشارة وهى الاخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بمادل على ثبات ما توقعوه والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أى فازوا بما طلبوا أونجوا مما هربوا والإيمان فى اللغة التصديق والمؤمن المصدق لغة وفى الشرع كل من نطق بالشهادتين موطئا قلبه لسانه فهو مؤمن قال عليه السلام خلق اللّه الجنة فقال لها تكلمى فقالت قد أفلح المؤمنون ثلاثا أنا حرام على كل بخيل مراء لأنه بالرياء ابطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية

٢

{الذين هم في صلاتهم خاشعون} خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح وقيل الخشوع فى الصلاة جمع الهمة لها والاعراض عما سواها وأن لا يجاوز بصره لا يجاوز بصره مصلاه وأن لا يلتفت ولا يبعث ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ونحو ذلك وعن أبى الدرداء هواخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلى له لانتفاع المصلى بها وحده وهى عدته وذخيرته وأما المصلى له فغنى عنها

{والذين هم عن اللغو} من الكلام وغيره {معرضون}

٤

{والذين هم للزكاة فاعلون} مؤدون وبفظ فاعلون يدل على المداومة بخلاف مؤدون وقيل الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذى يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير وعلى المعنى وهو فعل المزكى الذى هو التزكية وهو المراد هنا فجعل المزكين فاعلين له لأن لفظ الفعل يعم جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما تقول للضارب والقاتل والمزكى فعل الضرب والقتل والتزكية ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الاداء ودخل اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل عمل الفى فانك تقول هذا ضارب لزيد ولاتقول ضرب لزيد

٥

{والذين هم لفروجهم حافظون} الفرج يشمل سوءة الرجل والمرأة

٦

{إلا على أزواجهم} موضع الحال أى إلاوالين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك كان زياد على البصرة أى واليا عليها والمعنى انهم لفروجهم حافظون فى جميع الأحوال إلا فى حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين كانه قيل

{أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} يلامون إلا على أزواجهم أى يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فانهم غير ملومين عليه وقال الفراء إلا من أزواجهم أى زوجاتهم

{أو ما ملكت أيمانهم} أى أمائهم ولم يقل من لأن المملوك جرى مجرى غير العقلاء ولهذا يباع كما تباع البهائم

{فإنهم غير ملومين} أى لا لوم عليهم ان لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وامائهم

٧

{فمن ابتغى وراء ذلك} طلب قضاء شهوة من غير هذين

{فأولئك هم العادون} الكاملون فى العدوان وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة

٨

{والذين هم لأماناتهم وعهدهم} لأمانتهم وعهدهم لأمانتهم مكى وسهل سمى الشئ المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ومنه قوله تعالى ان اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإنما تؤدى العيون لا المعانى والمراد به العموم فى كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة اللّه عز وجل ومن جهة الخلق

{راعون} حافظون والراعى القائم على الشئ بحفظ وإصلاح كراعى الغنم

٩

{والذين هم على صلواتهم} صلاتهم كوفى غير أبى بكر

{يحافظون} يداومون فى أوقاتها وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها أو لأنها وحدت أولا ليفاد الخشوع فى جنس الصلاة أية صلاة كانت وجمعت آخرا ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل

١٠

{أولئك} الجامعون لهذه الأوصاف

{هم الوارثون} الاحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله

١١

{الذين يرثون} من الكفار فى الحديث ما منكم من أحد الا وله منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فان مات ودخل الجنة ورث أهل النار منزله وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله

{الفردوس} هو البستان الواسع الجامع لاصناف الثمر وقال قطرب هو أعلى الجنان

{هم فيها خالدون} أنث الفردوس بتأويل الجنة

١٢

{ولقد خلقنا الإنسان} أى آدم

{من سلالة} من للابتداء والسلالة الخاصة لانها تسل من بين الكدر وقيل إنما سمى التراب الذى خلق آدم منه سلالة لأنه سل من كل تربة

{من طين} من البيان كقوله من الاوثان

١٣

{ثم جعلناه} أى نسله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأن آدم عليه السلام لم يصر نطفة وهو كقوله وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين وقيل الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة والعرب تسمى النطفة سلالة أى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعنى من نطفة مسلولة من طين أى من مخلوق من طين وهو آدم عليه السلام

{نطفة} ماء قليلا

{في قرار} مستقر يعنى الرحم {مكين} حصين

١٤

{ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} {ثم خلقنا النطفة} أى صيرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين والخلق يتعدى إلى مفعول واحد

{علقة} قطعة دم والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء

{فخلقنا العلقة مضغة} لحما قدر ما يمضغ

{فخلقنا المضغة عظاما} فصيرناها عظاما

{فكسونا العظام لحما} فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس عظما العظم شامى وأبوبكر عظما العظام زيد عن يعقوب عظاما العظم عن أبى زيد وضع الواحد موضع الجمع لعدم اللبس إذ الانسان ذو عظام كثيرة

{ثم أنشأناه} الضمير يعود إلى الانسان أوإلى المذكور

{خلقا آخر} أى خلقنا مباينا للخلق الأول حيث جعله حيوانا وكان جمادا وناطقا وسميعا وبصيرا وكان بضد هذه الصفات ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن اليضة ولا يرد الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة

{فتبارك اللّه} فتعالى أمره فى قدرته وعلمه

{أحسن} بدل أو خبر مبتدا محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وان أضيف لأن المضاف إليه عوض من من

{الخالقين} المقدرين أى أحسن المقدرين تقديرا فترك ذكر الممين لدلالة الخالقين عليه وقيل ان عبداللّه بن سعد بن أبو سرح كان يكتب للنبى عليه السلام فنطق بذلك قبل املائه فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكتب هكذا نزلت فقال عبد اللّه ان محمد نبينا يوحى إليه فانا نبى يوحى إلى فارتد ولحق بمكة ثم أسلم يوم الفتح وقيل هذه الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية وقيل القائل عمر أو معاذ رضى اللّه عنهما

١٥

{ثم إنكم بعد ذلك} بعد ما ذكرنا من أمركم

{لميتون} عند انقضاء آجالكم

١٦

{ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} تحيون للجزاء

١٧

{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} جمع طريقة وهى السموات كانه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها أو أراد به الناس وأنه إنما خلقنا فوقهم ليفتح عليهم الارزاق والبركات منها وما كان غافلا عنهم وعما يصلحهم

١٨

{وأنزلنا من السماء ماء} مطرا

{بقدر} بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم

{فأسكناه في الأرض} كقوله فسلكه ينابيع فى الأرض وقيل جعلناه ثابتا فى الأرض فماء الأرض كله من السماء ثم استأدى شكرهم بقوله

{وإنا على ذهاب به لقادرون} أى كما قدرنا على انزاله نقدر على اذهابه فقيدوا هذه النعمة بالشكر

١٩

{فأنشأنا لكم به} بالماء {جنات من نخيل}

{وأعناب لكم فيها} فى الجنات

{فواكه كثيرة} سوى النخيل والأعناب

{ومنها تأكلون} أي من الجنات أى من ثمارها ويجوز أن هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يغتلها أى أنها طعمته وجهته التى منها يحصل رزقه كانه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترزقون وتتعيشون

٢٠

{وشجرة} عطف على جنات وهى شجرة الزيتون

{تخرج من طور سيناء} طور سيناء وطور سنين لا يخلو اما ان يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسيتون وأما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف اليه كامرئ القيس وهو جبل فلسطين وسيناء غير منصرف بكر حال مكسور السين كقراءة الحجازى وأبى عمرو للتعريف والعجمة أو مفتوحها كقراءة غيرهم لأن الألف للتأنيث كصحراء

{تنبت بالدهن} قال الزجاج الباء للحال أى تنبت ومعها الدهن تنبت مكى وأبو عمرو اما لأن أنبت بمعنى نبت كقوله حتى إذا أنبت البقل أن لأن مفعوله محذوف أى تنبت زيتونها وفيه الدهن

{وصبغ للآكلين} أى إدام لهم قال مقاتل جعل اللّه تعالى فى هذه إداما ودهنا فالادام الزيتون والدهن الزيت وقيل هى أول شجرة نبتت بعد الطوفان وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع

٢١

{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى ٱلأَنْعَـٰمِ } جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم

{ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ } وبفتح النون: شامي ونافع وأبو بكر وسقى وأسقى لغتان

{ مّمَّا فِى بُطُونِهَا } أي نخرج لكم من بطونها لبناً سائغاً

{ولكم فيها منافع كثيرة} سوى الألبان وهى منافع الأصواف والاوبار والاشعار

{ومنها تأكلون} أى لحومها

٢٣

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا اللّه} وحدوه

{ما لكم من إله} معبود

{غيره} بالرافع على المحل وبالجر على اللفظ والجملة استئناف تجرى مجرى التعليل للامر بالعبادة

{أفلا تتقون} أفلا تخافون عقوبة اللّه الذى هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق

٢٤

{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} العبادة فى شئ

{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أى اشرافهم لعوامهم

{ما هذا إلا بشر مثلكم} يأكل ويشرب

{يريد أن يتفضل عليكم} أى يطلب الفضل عليكم ويترأس

{ولو شاء اللّه} إرسال رسول

{لأنزل ملائكة} لارسل ملائكة

{ما سمعنا بهذا} أى بارسال بشر رسولا أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا والعجب منهم انهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر

{في آبائنا الأولين

٢٥

إن هو إلا رجل به جنة} جنون

{فتربصوا به حتى حين} فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلى أمره فان أفاق من جنونه وإلا قتلتموه

٢٦

{قال رب انصرني بما كذبون} فلما أيس من إيمانهم دعا اللّه بالانتقام منهم والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم ايادى غذ فى نصرته أهلاكهم أو انصرنى بدل ما كذبون كقولك هذا بذاك أى بدل ذاك والمعنى أبدلنى من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم

٢٧

{فأوحينا إليه} أى أجبنا دعاءه فاوحينا إليه

{أن اصنع الفلك بأعيننا} أى تصنعه وأنت واثق بحفظ اللّه لك ورؤيته اياك أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من اللّه حفاظا يكلؤونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم عليه من اللّه عين كالئة

{ووحينا} أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها روى أنه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر

{فإذا جاء أمرنا} أى عذابنا بأمرنا

{وفار التنور} أى فار الماء من تنور الخبر أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الأنذار والإعتبار روى أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة فلما نبع الماء من التنور من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة واختلف فى مكانه فقيل فى مسجد الكوفة وقيل بالشام وقيل بالهند

{فاسلك فيها} فادخل فى السفينة

{من كل زوجين} من كل أمة زوجين وهما أمة الذكر وأمة الانثى كالجمال والنوق والحصن والرماك

{اثنين} واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة وروى أنه لم يحمل الا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أى من كل أمة زوجين اثنين واثنين تاكيد وزيادة بيان

{وأهلك} ونساءك وأولادك

{إلا من سبق عليه القول} من اللّه باهلاكه وهو ابنه واحدى زوجتيه فجئ بعلى مع سبق الضار كما جئ باللام مع سبق النافع فى قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ[الصافات: ١٧١] ونحوها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ

{منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ونحوها لها ما كسبت وعليها ما اكبسبت

{منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} ولا تسألنى تجاه الذين كفروا فانى أغرقهم

٢٨

{فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} فاذا تمكنتم عليها راكبين

{فقل الحمد للّه الذي نجانا من القوم الظالمين} أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ولم يقل فقولوا وان كان فاذا استويت أنت ومن معك فى معنى إذا استويتم لانه نبيهم وامامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الاشعار بفضل النبوة

٢٩

{وقل} حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها

{رب أنزلني منزلا} أى انزالا أو موضع انزلت منزلا أبو بكر أى مكانا

{مباركا وأنت خير المنزلين} والبركة فى السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات

٣٠

{إن في ذلك} فيما فعل بنوح وقومه

{لآيات} لعبروا مواعظ

{وإن} هى المخففة من المثقلة واللام هى الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة

{كنا لمبتلين} مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى ولقد تركناها آية فهل من مذكر

٣١

{ثم أنشأنا} خلقنا

{من بعدهم} من بعد قوم نوح

{قرنا آخرين} هم عاد وقوم هود ويشهد له قول هود واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ومجئ قصة هود على أثر قصة نوح فى الاعراف وهود والشعراء

٣٢

{فأرسلنا فيهم} الارسال يعدى بالى ولم يعد بفى هنا وفى قوله كذلك أرسلناك فى أمة [الرعد: ٣٠] * وما أرسلنا فى قرية [ الأعراف: ٩٤] ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للارسال كقوله رؤبة

أرسلت فيها مصعبا ذا اقحام

{رسولا} هو هود

{منهم} من قومهم

{أن اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} أن مفسرة لأرسلنا أى قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا اللّه

٣٣

{وقال الملأ من قومه} ذكر مقالة قوم هود فى جوابه فى الاعراف وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال فما قومه فقيل له قالوا كيت وكيت وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ومعناه أنه اجتمع فى الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبى صلى اللّه عليه وسلم متصل بكلامه ولم يكن بالفاء وجئ بالفاء فى قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه

{الذين كفروا} صفة للملأ أولقومه

{وكذبوا بلقاء الآخرة} أى بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك

{وأترفناهم} ونعمناهم

{في الحياة الدنيا} بكثرة الاموال والأولاد

{ما هذا} أى النبى

{إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} أى منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أى من أين يدعى رسالة اللّه من بينكم وهو مثلكم

٣٤

{ولئن أطعتم بشرا مثلكم} أى فيما يأمركم به وينهاكم عنه

{إنكم إذا} واقع فى جزاء الشرط وجواب للذين فاولوهم من قومهم

{لخاسرون} بالانقياد لمثلكم ومن حمقهم انهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم

٣٥

{أيعدكم أنكم إذا متم} بالكسر نافع وحمزة وعلى حفص وغيرهم بالضم

{وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى انكم للتأكيد وحسن ذلك للفصل بين الأول والثانى بالظرف ومخرجون خبر عن الأول والتقدير أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم ترابا وعظاما

٣٦

{هيهات هيهات} وبكسر التاء يزيد وروى عنه بالكسر والتنوين فيهما والكسائى يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أى بعد ما توعدون من البعث

٣٧

{إن هي} هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به غلا بما يتلوه من بيانه وأصله ان الحياة

{إلا حياتنا الدنيا} ثم وضع هى موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التى نحن فيها ودنت منا وهذا لأن ان النافية دخلت على هى التى فى معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التى لنفى الجنس

{نموت ونحيا} أى يموت بعض ويولد بعض ينقوض قرن فيأتى قرن آخر أو فيه تقديم وتأخير أى نحيا ونموت وهو قراءة ابى وابن مسعود رضى اللّه عنهما

{وما نحن بمبعوثين} بعد الموت

٣٨

{إن هو إلا رجل افترى على اللّه كذبا} أى ما هو إلا مفتر على اللّه فيما يدعيه من استنبائه له وفيما يعدنا من البعث

{وما نحن له بمؤمنين} بمصدقين

٣٩

{قال رب انصرني بما كذبون} فاجاب اللّه دعاء الرسول بقوله

٤٠

{قال عما قليل} قليل صفة للزمان كقديم وحديث فى قولك ما رأيته قديما ولا حديثا وفى معناه عن قريب وما زائدة أو بمعنى شئ أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف

{ليصبحن نادمين} إذا عاينوا ما يحل بهم

٤١

{فأخذتهم الصيحة} أى صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم

{بالحق} بالعدل من اللّه يقال فلان يقضى بالحق أى بالعدل

{فجعلناهم غثاء} شبههم فى دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلى واسود من الورق والعيدان

{فبعدا} فهلاكا يقال بعد بعدا وأبعد هلك وهو من المصادر المنصوبة بافعال لا يستعمل اظهارها

{للقوم الظالمين} بيان لمن دعى عليه بالبعد نحو هيت لك

٤٢

{ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين} قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم

٤٣

{ما تسبق من أمة} من صلة أى ما تسبق أمة

{أجلها} المكتوب لها والوقت الذى حد لهلاكها وكتب

{وما يستأخرون} لا يتأخرون عنه

٤٤

{ثم أرسلنا رسلنا تترا} فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف تترى بالتنوين مكى وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للالحاق كارطى وهو نصب على الحال فى القراءتين أى متتابعين واحدا بعد واحد وتاؤها فيهما بدل من الواو والاصل وترى من الوتر وهو الفرد فقلبت الواو تاء كتراث

{كل ما جاء أمة رسولها كذبوه} الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما

{فأتبعنا} الأمم والقرون

{بعضهم بعضا} فى الهلاك

{وجعلناهم أحاديث} أخبارا يسمع بها ويتعجب منها والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام وتكون جمعا للأحدوثة وهو ما يتحدث به الناس تليها وتعجبا وهو المراد هنا

{فبعدا لقوم لا يؤمنون

٤٥

ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون} بدل من أخاه

{بآياتنا} التسع

{وسلطان مبين} وحجة ظاهرة

٤٦

{إلى فرعون وملئه فاستكبروا} امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعا وتكبرا

{وكانوا قوما عالين} متكبرين مترفعين

٤٧

{فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} البشر يكون واحد جميعا ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث

{وقومهما} أى بنو إسرائيل

{لنا عابدون} خاضعون مطيعون وكل من دان الملك فهو عابد له عند العرب

٤٨

{فكذبوهما فكانوا من المهلكين} بالغرق

٤٩

{ولقد آتينا موسى} أى قوم موسى

{الكتاب} التوراة

{لعلهم يهتدون} يعملون بشرائعها ومواعظها

٥٠

{وجعلنا ابن مريم وأمه آية} تدل على قدرتنا على ما نشاء لانه خلق من غير نطفة وحدلان الاعجوبة فيهما واحدة أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها

{وآويناهما} جعلنا مأواهما أى منزلهما

{إلى ربوة} شامى وعاصم ربوة غيرهما أى ارض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعنى أنه لاجل الثمار يستقر فيها ساكنوها

{ومعين} ماء ظاهر جار على وجه الأرض أوانه مفعول أى مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه أو فعيل أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة

٥١

{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لانهم أرسلوا متفرقين فى أزمنة مختلفة وإنما المعنى الاعلام بأن كل رسول فى زمانه نودى بذلك ووصى به ليعتقد السامع ان أمرا نودى له جميع الرسل ووصوابه حقيق ان يؤخذ به ويعمل عليه أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل فى زمانه وكان يأكل من الغنائم أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات والمراد بالطيبات ما حل والامر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والامر للترفيه والإباحة

{واعملوا صالحا} موافقا للشريعة

{إني بما تعملون عليم} فاجازيكم على اعمالكم

٥٢

{وإن هذه} كوفى على الاستئناف وان حجازى وبصرى بمعنى ولان اى فاتقون ىن هذه أو معطوف على ما قبله أى بما تعملون عليهم وبأن هذه أو تقديره واعلموا ان هذه

{أمتكم} أى ملتكم وشريعتكم التى أنتم عليها

{أمة واحدة} ملة واحدة وهى شريعة الإسلام وانتصاب أمة على الحال والمعنى وان الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله ان الدين عند اللّه الإسلام

{وأنا ربكم} وحدى

{فاتقون} فخافوا عقابى فى مخالفتكم أمرى

٥٣

{فتقطعوا أمرهم بينهم} تقطع بمعنى قطع أى قطعوا أمر دينهم

{زبرا} جمع زبور اى كتبا مختلفة يعنى جعلوا دينهم أديانا وقيل تفرقوا فى دينهم فرقا كل فرقة تنتحل كتابا وعن الحسن قطعوا كتاب اللّه قطعا وحرفوه وقرئ زبرا جمع زبرة أى قطعا

{كل حزب} كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم

{بما لديهم} من الكتاب والدين أو من الهوى والرأى

{فرحون} مسرورون معتقدون أنهم على الحق

٥٤

{فذرهم في غمرتهم} جهالتهم وغفلتهم

{حتى حين} أى إلى أن يقتلوا أو يموتوا

٥٥

{أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين} ما بمعنى الذى وخبران

٥٦

{نسارع لهم في الخيرات} والعائد من خبران إلى أسمها محذوف اى نسارع لهم به والمعنى ان هذا الامداد ليس إلا استدراجا لهم إلى المعاصى وهم يحسبونه مسارعة لهم فى الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم وهذه الآية حجة على المعتزلة فى مسألة الأصلح لأنهم يقولون أن اللّه لا فعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له فى الدين وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم فى الدين ولا أصلح

{بل لا يشعرون} بل استدراك لقوله أيحسبون أى أنهم أشباه البهائم لاشعور لهم حتى يتأملوا فى ذلك أنه استدراج أو مسارعة فى الخير ثم بين ذكر أوليائه فقال

٥٧

{إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أى خائفون

٥٨

{والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أى بكتب اللّه كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب

٥٩

{والذين هم بربهم لا يشركون} كمشركى العرب

٦٠

{والذين يؤتون ما آتوا} أى يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقرئ يؤتون ما أتوا بالقصر أى يفعلون ما فعلوا

{وقلوبهم وجلة} خائفة أن لا تقبل منهم لتقصيرهم

{أنهم إلى ربهم راجعون} الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبران الذين

٦١

{أولئك يسارعون في الخيرات} يرغبون فى الطاعات فيبادرونها

{وهم لها سابقون} أى لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس

٦٢

{ولا نكلف نفسا إلا وسعها} أى طاقتها يعنى أن الذى وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق

{ولدينا كتاب} أى اللوح أو صحيفة الأعمال

{ينطق بالحق وهم لا يظلمون} لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد بزيارة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف مالا وسع له به

٦٣

{بل قلوبهم في غمرة من هذا} بل قلوب الكفرة فى غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين

{ولهم أعمال من دون ذلك} أى ولهم أعمال خبيثة متجاوزة

متخطية لذلك أى لما وصف به المؤمنون

{هم لها عاملون} وعليها مقيمون لايفطمون عنها حتى يأخذهم اللّه بالعذاب

٦٤

{حتى إذا أخذنا مترفيهم} متنعميهم

{بالعذاب} عذاب الدنيا وهوالقحط سبع سنين حين دعا عليهم النبى عليه الصلاة والسلام أو قتلهم يوم بدر وحتى هى التى يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية

{إذا هم يجأرون} يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم

٦٥

{لا تجأروا اليوم} فان الجؤار غير نافع لكم

{إنكم منا لا تنصرون} أى من جهتنا لا يلحقكم نصرا ومعونة

٦٦

{قد كانت آياتي تتلى عليكم} أى القرآن

{فكنتم على أعقابكم تنكصون} ترجعون القهقرى والنكوص ان يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراء

٦٧

{مستكبرين} متكبرين على المسلمين حال من تنكصون

{به} بالبيت أوبالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذى سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو بآياتى لأنها فى معنى كتابى ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكبارا ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدى تعديته أو يتعلق الياء بقوله

{سامرا} تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعرا وسحرا والسامر نحو الحاضر فى الإطلاق على الجمع وقرئ سمارا أو بقوله

{تهجرون} وهو من الهجر الهذيان تهجرون نافع من أهجر فى منطقة إذا أفحش

٦٨

{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ } أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به

٦٩

{أم لم يعرفوا رسولهم} محمدا بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أى عرفوه بهذه الصفات

{فهم له منكرون} بغيا وحسدا

٧٠

{أم يقولون به جنة} جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا

{بل جاءهم بالحق} الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والاسلام ولم يجدوا له مردا ولا مدفعا فلذلك نسبوه إلى الجنون

{وأكثرهم للحق كارهون} وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارها للحق بل كان تاركا للايمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبى طالب

٧١

{ولو اتبع الحق} أى اللّه

{أهواءهم} فيما يعتقدون من الآلهة

{لفسدت السماوات}

{والأرض} كما قال لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا

{ومن فيهن} خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع

{بل أتيناهم بذكرهم} بالكتاب الذى هو ذكرهم أى وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم أو بالذكر الذى كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين الآية

{فهم عن ذكرهم معرضون} بسوء اختيارهم

٧٢

{أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} حجازى وبصرى وعاصم خرجا فخرج على وحمزة شامى خراجا فخراج وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله والخرج أخص من الخراج تقول خراج القرية وخرج الكوفة فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت القراءة الأولى يعنى أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير من

{وهو خير الرازقين} أفضل المعطين

٧٣

{وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك

٧٤

{وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون} لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم

٧٥

{ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر} لما أخذهم اللّه بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له أنشدك اللّه والرحم الست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية والمعنى لو كشف اللّه عنهم هذا الضر وهو القحط الذى اصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب

{للجوا} أى لتمادوا

{في طغيانهم يعمهون} يترددون يعنى لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه

٧٦

{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } استفعل من الكون أى انتقل من كون إلى كون كما قيل استحال إذا انتقل من حال إلى حال

٧٧

{حتى إذا فتحنا} فتحنا يزيد

{عليهم بابا ذا عذاب شديد} أى باب الجوع الذى هو أشد من الأسر والقتل

{إذا هم فيه مبلسون} متحيرون آيسون

من كل خير وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة فى العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤى فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقولهوَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُبْلِسُ ٱلْمُجْرِمُونَ

٧٨

{وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة} خصها بالذكر لأنها تتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها

{قليلا ما تشكرون} أى تشكرون شكرا قليلا وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقا والمعنى أنكم لم تعرفوا عظيم هذه النعم ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم فى آيات اللّه وأفعاله ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له شيئا

٧٩

{وهو الذي ذرأكم} خلقكم وبثكم بالتناسل

{في الأرض وإليه تحشرون} تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم

٨٠

{وهو الذي يحيي ويميت} أى يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالافناء

{وله اختلاف الليل والنهار} أى مجئ أحدهما عقيب الآخر واختلافهما فى الظلمة والنور أو فى الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره

{أفلا تعقلون} فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا

٨١

{بل قالوا} أى أهل مكة

{مثل ما قال الأولون} أى الكفار قبلهم ثم بين ما قالوا بقوله

٨٢

{قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون} متنا نافع وحمزة وعلى وحفص

٨٣

{لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا} أى البعث

{من قبل} مجئ محمد

{إن هذا إلا أساطير الأولين} جمع إسطار جمع سطر وهى ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطور أوفق ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله

٨٤

{ قُل لّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فإنهم

{ سَيَقُولُونَ للّه } لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا

٨٥

{قل أفلا تذكرون} فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادرا على إعادة الخلق وكان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه فى الربوبية

{أفلا تذكرون} بالتخفيف حمزة وعلى وحفص وبالتشديد غيرهم

٨٦

{قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم}

٨٧

سيقولون للّه قل أفلا تتقون} أفلا تخافونه فلا تشركوا به أو أفلا تتقون فى جحودكم

قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء

٨٨

{قل من بيده ملكوت كل شيء} الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبئ عن عظم الملك

{وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} اجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعنى وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحدا

٨٩

{سيقولون للّه قل فأنى تسحرون} تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته والخادع هو الشيطان والهوى الأول للّه بالإجماع إذ السؤال لمن وكذا الثانى والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت من رب هذا فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعرة

إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قيل لخاد

أى لمن المزالف ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت من رب هذا فجوابه فلان

٩٠

{بل أتيناهم بالحق} بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل

{وإنهم لكاذبون} فى قولهم اتخذ اللّه ولدا ودعائهم الشريك ثم أكد كذبهم بقوله

٩١

{ما اتخذ اللّه من ولد} لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه

{وما كان معه من إله} وليس معه شريك فى الألوهية

{إذا لذهب كل إله بما خلق} لانفرد كل واحد من الآلهة بالذى خلقه فاستبد به ولتميز ملك كل واحد منهم عن الآخر

{ولعلا بعضهم على بعض} ولغلب بعضهم بعضا كما ترون حال ملوك الدنيا مما لكهم متمايزة وهم متغالبون وحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شئ ولا يقال إذا لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع لذهب جزاء وجوابا ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة لدلالة وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن حاجه من المشركين

{سبحان اللّه عما يصفون} من الأنداد والأولاد

٩٢

{عالم} بالجر صفة للّه وبالرفع مدنى وكوفى غير حفص خبر مبتدأ محذوف

{الغيب والشهادة} السر والعلانية

{فتعالى عما يشركون} من الأصنام وغيرها

٩٣

{قل رب إما تريني ما يوعدون} اما والنون مؤكدان أى إن كان لابد من أن ترينى ما تعدهم من العذاب فى الدنيا أو فى الآخرة

٩٤

{رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} أى فلا تجلعنى قرينا لهم ولا تعذبنى بعذابهم عن الحسن رضى اللّه عنه أخبره اللّه

المؤمنون ( ١٠٠ - ٩٥ )

٩٥

{وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} أن له فى أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها فأمر أن يدعو هذا الدعاء ويجوز أن يسأل النبى المعصوم صلى اللّه عليه وسلم ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذ قام من مجلسه سبعين مرة لذلك والفاء فى فلا لجواب الشرط ورب اعتراض بينهما للتأكيد

{وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم إن اللّه قادر على إنجاز ما وعد ان تأملتم فما وجه هذا الإنكار

٩٦

{ادفع بالتي} بالخصلة التى

{هي أحسن السيئة} هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفصيل كأنه قال ادفع بالحسنة السيئة والمعنى اصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما هى شهادة أن لا إله إلا اللّه والسيئة الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة وقيل هى منسوخة بآية السيف وقيل محكمة إذ المداراة محثوث عليها مالم تؤد إلى ثلم دين

{نحن أعلم بما يصفون} من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه

٩٧

{وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} من وساوسهم ونخساتهم والهمزة النخس والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض والمعنة أن الشياطين يحثون الناس على المعاصى كما تهمز الراضة الدواب حثالها على المشى

٩٨

{وأعوذ بك رب أن يحضرون} أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع

٩٩

{حتى إذا جاء أحدهم الموت} حتى يتعلق بيصفون أى لا يزالون يشركون إلى وقت مجئ الموت أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض والتأكيد للاغضاء عنهم مستعينا باللّه على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم

{قال رب ارجعون} أى ردونى إلى الدنيا خاطب اللّه بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك

١٠٠

{لعلي أعمل صالحا فيما تركت} فى الموضع الذى تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط لعلى ساكنة الياء كوفى وسهل ويعقوب

{كلا} ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد

{إنها كلمة} المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله رب ارجعون * لعلى أعمل صالحا فيما تركت

{هو قائلها} لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه

{ومن ورائهم} أى أمامهم والضمير للجماعة

{برزخ} حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا

{إلى يوم يبعثون} لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو اقناط كلى لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة

١٠١

{فإذا نفخ في الصور} قيل انها النفخة الثانية

{فلا أنساب بينهم يومئذ} وبالإدغام أبو عمر ولا جتماع المثلين وإن كانا من كلمتين يعنى يقع التقاطع بينهم حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين ولا يكون التواصل بينهم بالأنساب إذ يفر المرء من أخيه وأمه وابيه وصاحبته وبنيه وإنما يكون بالأعمال

{ولا يتساءلون} سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون فى الدنيا لأن كلا مشغول عن سؤال صاحبه بحاله ولا تناقض بين هذا وبين قوله وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون فللقيامة مواطن ففى موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون وفى موطن يفيقون فيتساءلون

١٠٢

{فمن ثقلت موازينه} جمع موزون وهى الموزونات من الأعمال الصالحة التى لها وزن وقدر عنداللّه تعالى من قوله فلا نقيم لها يوم القيامة وزنا

{فأولئك هم المفلحون

١٠٣

ومن خفت موازينه} بالسيئات والمراد الكفار

{فأولئك الذين خسروا أنفسهم} غبنوها

{في جهنم خالدون} يدل من خسروا أنفسهم و محل للبدل والمبدل منه لأنه الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف

١٠٤

{تلفح} أى تحرق

{وجوههم النار وهم فيها كالحون} عابسون فيقال لهم

١٠٥

{ألم تكن آياتي} أى القرآن

{تتلى عليكم} فى الدنيا

{فكنتم بها تكذبون} وتزعمون أنها ليست من اللّه تعالى

١٠٦

{قالوا ربنا غلبت علينا} ملكتنا

{شقوتنا} شقاوتنا حمزة وعلى وكلاهما مصدر أى شقينا بأعمالنا السيئة التى عملناها وقول أهل التأويل غلب علينا ما كتب علينا من الشقاوة لا يصح لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره ولا يكتب غير الذى علم أنه يختاره فلا يكون مغلوبا ومضطرا فى فى الفعل وهذا لأنهم إنما يقولون ذلك القول اعتذارا لما كان منهم من التفريط فى أمره فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذرا فيما كان منهم

{وكنا قوما ضالين} عن الحق والصواب

١٠٧

{ربنا أخرجنا منها} أى من النار

{فإن عدنا} إلى الكفر والتكذيب

{فإنا ظالمون} لأنفسنا

١٠٨

{قال اخسؤوا فيها} اسكتوا سكوت ذلة وهوان

{ وَلاَ تُكَلّمُونِ } في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف. قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير أن يحضروني. ارجعوني ولا تكلموني بالياء في الوصل والوقف: يعقوب وغيره بلا ياء

١٠٩

{ إِنَّهُ } إن الأمر والشأن

{ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } مفعول ثان وبالضم: مدني وحمزة وعلي، وكلاهما مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسبة مبالغة. قيل: هم الصحابة رضي اللّه عنهم. وقيل: أهل الصفة خاصة ومعناه اتخذتموهم هزؤوا وتشاغلتم بهم ساخرين

١١٠

{حتى أنسوكم} بتشاغلكم بهم على تلك الصفة

{ذكرى} فتركتموه أى كان التشاغل بهم سببا لنسيانكم ذكرى

{وكنتم منهم تضحكون} استهزاء بهم

١١١

{إني جزيتهم اليوم بما صبروا} بصبرهم

{إنهم} أى لأنهم

{هم الفائزون} ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا أى جزيتهم اليوم فوزهم لأن جزى يتعدى إلى اثنين وجزاهم بما صبروا جنة انهم حمزة وعلى على الإستئناف أى انهم هم الفائزون لا أنتم

١١٢

{قال} أى اللّه أو والمأمور بسؤالهم من الملائكة قل مكى وحمزة وعلى أمر لمالك أن يسألهم

{كم لبثتم في الأرض} فى الدنيا

{عدد السنين} أى كم عدد سنين لبثتم فكم نصب بلبثتم وعدد تمييز

١١٣

{قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا بالاضافى إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة

{فاسأل العادين} أى الحساب أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم فسل بلا همز مكى وعلى

١١٤

{ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ما لبثتم إلا زمناً قليلاً أو لبثاً قليلاً

{ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } صدقهم اللّه تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخههم على غفلتهم التي كانوا عليها { قل إن } حمزة وعلي

١١٥

{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} حال أى عابثين أومفعول له أى للعبث

{وأنكم إلينا لا ترجعون} بفتح التاء وكسر الجيم حمزة وعلى يعقوب وهو معطوف على إنما خلقناكم أو على عبثا أى للعبث ولنترككم غير مرجوعين بل خلقناكم للتكليف ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فثبب المحسن

١١٦

{ فَتَعَـٰلَى ٱللّه } عن أن يخلق عبثاً { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. وقرىء شاذاً برفع { الكريم } صفة للرب تعالى.

١١٧

{ وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللّه إِلَـهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ } أي لا حجة

{ لَهُ بِهِ } اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك «من أحسن إلى زيد ـ لا أحق بالإحسان منه ـ فإن اللّه مثيبه» أو صفة لازمة جيء بها للتوكيد كقولك «يطير بجناحيه لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان»

{ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } أي جزاؤه وهذا جزاء الشرط

{ عِندَ رَبّهِ } أي فهو يجازيه لا محالة

{ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } جعل فاتحة السورة

{ قد أفلح المؤمنون } وخاتمتها

{ إنه لا يفلح الكافرون } فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله

١١٨

{ وَقُل رَّبّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ } ثم قال

{ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ } لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته.

﴿ ٠