تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة السجدة

١

{الم

٢

تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} سورة السجدة مكية وفى ثلاثون آيه مدنى وكوفى وتسع وعشرون آية يصرى بسم اللّه الرحمن الرحيم

{الم} على انها اسم السورة مبتدأ وخبره

{تنزيل الكتاب} وإن حعلتها تعديدا للحروف ارتفع تنزيل بأنه خبر مبتدأ محذوف أو هو مبتدأ خبره

{لا ريب فيه} أو يرتفع بالابتداء وخبره

{من رب العالمين} ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير فى فيه راجع إلى مضمون الجملة كانه قال لا ريب فى ذلك أى فى كونه منزلا من رب العالمين لأنه معجز للبشر ومثله ابعد شيء من الريب ثم أضرب عن ذلك إلى قوله

٣

{أم يقولون افتراه} أى اختلقه محمد لأن أم هى المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة معناه بل أيقولون افتراه انكارا لقولهم وتعجبنا منهم لظهور أمره فى عجز بلغئهم عن مثل ثلاث آيات منه

{بل هو الحق} ثم اضرب عن الانكار إلى اثبات أنه الحق

{من ربك} ولم يفتره محمد صلى اللّه عليه وسلم كما قالوا تعنتا وجهلا

{لتنذر قوما} أى العرب

{ما أتاهم من نذير من قبلك} ما للنفى والجملة صفة لقوما

{لعلهم يهتدون} على الترجى من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما كان لعله يتذكر على الترجى من موسى وهرون

٤

{اللّه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} استولى عليه باحداثه

{ما لكم من دونه} من دون اللّه

{من ولي ولا شفيع} أى إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لانفسكم وليا أى ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم

{أفلا تتذكرون} تتعظون بمواعظ اللّه

٥

{يدبر الأمر} أى أمر الدنيا

{من السماء إلى الأرض} إلى أن تقوم الساعة

{ثم يعرج إليه} ذلك الأمر كله أى يصير إليه ليحكم فيه

{في يوم كان مقداره ألف سنة} وهو يوم القيامة

{مما تعدون} من أيام الدنيا ولاتمسك للمشبهة بقوله إليه فى إثبات الجهة لأن معناه إلى حيث يرضاه أو أمره كما لاتشبث لهم بقوله إنى ذاهب إلى ربى إنى مهاجر إلى ربى ومن يخرج من بيته مهاجر إلى اللّه

٦

{ذلك عالم الغيب والشهادة} أى الوصوف بما مر عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه

{العزيز} الغالب امره

{الرحيم} البالغ لطيفه وتيسيره وقيل لا وقف عليه لأن

٧

{الذي} صفته

{أحسن كل شيء} أى حسنه لأن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة

{خلقه} كوفى ونافع وسهل على الوصف أى كل شيء خلقه فقد أحسن خلقه غيرهم على البدل أى أحسن خلق كل شيء

{وبدأ خلق الإنسان} آدم

{من طين

٨

ثم جعل نسله} ذريته

{من سلالة} من نطفة

{من ماء} أى منى وهو بدل من سلالة

{مهين} ضعيف حقير

٩

{ثم سواه} قومه كقوله فى أحسن تقويم

{ونفخ} أدخل

{فيه من روحه} الإضافة للاختصاص كانه قال ونفخ فيه من الشيء الذى اختص هو به وبعلمه

{وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا

{قليلا ما تشكرون} أى تشكرون قليلا

١٠

{وقالوا} القائل أبى بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم

{أئذا ضللنا في الأرض} أى صرنا ترابا وذهبنا مختلطين بتراب الارض لا نتميز منه كما يضل الماء فى اللبن أو غبنا في الأرض بالدفن فيها وقرأ على ضللنا بكسر اللام يقال ضل يضل وضل يضل وانتصب الظرف في أئذا ضللنا بما يدل عليه

{أئنا لفي خلق جديد} وهو نبعث

{بل هم بلقاء ربهم كافرون} جاحدون لما ذكر كفرهم بالبعث اضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو انهم كافرون بجميع ما يكون فى العاقبة لا بالبعث وحدة

١١

{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} أى يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بقبض أرواحكم ثم ترجعون إلى ربكم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء وهذا معنى لفاء اللّه والتوفى استبفاء النفس وهى الروح أى يقبض أرواحكم أجمعين من قولك توفيت حقى من فلان إذا أخذته وافيا كملا من غير نقصان وعن مجاهد حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء وقيل ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها واللّه تعالى هو الآمر لذلك كله وهو الخالق لأفعال المخلوقات وهذا وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله توفته رسلنا وقوله اللّه يتوفى الانفس حين موتها

١٢

{ولو ترى} الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد ولو امتناعيه والجواب محذوف أى لرايت أمرا عظيما

{إذ المجرمون} هم الذين قالوا أئذا ضللنا فى الأرض ولو واذ للمضى وانما جاز ذلك لأن المترقب من اللّه بمنزله الموجود لا يقدر لنرى ما يتناوله كأنه قيل ولو تكون منك الرؤية واذ ظرف له

{ناكسو رؤوسهم} من الذل والحياء والندم

{عند ربهم} عند حساب ربهم ويوقف عليه لحق الحذف اذ التقدير يقولون

{ربنا أبصرنا} صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك أو كنا عميا وصما فأبصرناوسمعنا

{فارجعنا} إلى الدنيا

{نعمل صالحا} أى الإيمان والطاعة

{إنا موقنون} بالبعث والحساب الآن

١٣

{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} فى الدنيا أى لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذى لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا لكن لم نعطهم ذلك الطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم شاء اللّه أن يعطى كل نفس ما به اهتدت وقد أعطاها لكنها لم تهدوهم أولوا الآية بمشيئة الجبر وهو تأويل فاسد لما عرف فىتبصر الأدلة

{ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} ولكن وجب القول منى بما علمت أنه يكون منهم ما يستوجبون به جهنم وهو ما علم منهم أنهم يختارون الرد والتكذيب وفى تخصيص الإنس والجن اشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم

١٤

{فذوقوا} العذاب

{بما نسيتم لقاء} بما تركتم من علم لقاء

{يومكم هذا} وهو الإيمان به

{إنا نسيناكم} تركنا كم فى العذاب كالمنسى

{وذوقوا عذاب الخلد} أى العذاب الدائم للذى لا انقطاع له

{بما كنتم تعملون} من الكفر والمعاصى

١٥

{إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها} أى وعظوا بها

{خروا سجدا} سجدوا للّه تواضعا وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام

{وسبحوا بحمد ربهم} ونزهوا اللّه عما لا يليق به واثنوا عليه حامدين له

{وهم لا يستكبرون} عن الإيمان به والسجود له

١٦

{تتجافى} ترتفع وتتنحى

{جنوبهم عن المضاجع} عن الفرش ومضاجع النوم قال سهل وهب لقوم هبة وهو ان أذن لهم فى مناجاته وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال نتجافى جنوبهم عن المضاجع

{يدعون} داعين

{ربهم} عابدين له

{خوفا وطمعا} مفعول له أى لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم فى رحمته وقم المتهجدون وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم فى تفسيرها قيام العبد من الليل وعن ابن عطاء أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة وطلبت بساط القرية يعنى صلاة الليل وعن أنس كان أناس من أصحاب النبى صلى اللّه عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة فنزلت فيهم وقيل هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها

{ومما رزقناهم ينفقون} فى طاعة اللّه تعالى

١٧

{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} ما بمعنى الذى أخفى على حكاية النفس حمزة ويعقوب

{من قرة أعين} أى لا يعلم أحد ما أعد لهؤلاء من الكرامة

{جزاء} مصدر أى جوز واجزاء

{بما كانوا يعملون} عن الحسن رضى اللّه عنه أخفى القوم أعمالا فى الدنيا فاخفى اللّه لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وفيه دليل على أن المراد الصلاة فى جوف الليل ليكون الجزاء وفاقا ثم بين ان من كان فى نور الطاعة والايمان لايستوى مع من هو فى ظلمة الكفر والعصيان بقوله

١٨

{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا} أى كافرا وهما محمولان على لفظ من قوله

{لا يستوون} على المعنى بدليل قوله

١٩

{أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى} هى نوع من الجنان تأوى إليها أرواح الشهداء وقيل هى عن يمين العرش

{نزلا بما كانوا يعملون} عطاء بأعمالهم والنزل عطاء النازل ثم صار عاما

٢٠

{وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} أى ملجؤهم ومنزلهم

{كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم} أى تقول لهم خزنة النار

{ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذالتكذيب يقابل الايمان

٢١

{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} أى عذاب الدنيا من الاسر وما محنوا به من السنة سبع سنين

{دون العذاب الأكبر} أى عذاب الآخرة أى نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة عن الدار انى العذاب الادنى الخذلال والعذاب الأكبر الخلود فى النيران وقيل العذاب الادنى عذاب القبر

{لعلهم} لعل المعذبين بالعذاب الأدنى

{يرجعون} يتوبون عن الكفر

٢٢

{ومن أظلم ممن ذكر} وعظ

{بآيات ربه} أى بالقرآن

{ثم أعرض عنها} أى فتولى عنها ولم يتدبر فيهاوثم للاستبعاد أى أن الاعراض عن مثل هذه الآيات فى وضوحها وانارتها وارشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد فى العقل كما تقول لصاحبك وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعادا لتركه الانتهاز

{إنا من المجرمين منتقمون} ولم يقل منه لأنه إذا جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم فقد دل على اصابة الاطلم النصيب الا وفر من الانتقام ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة

٢٣

{ولقد آتينا موسى الكتاب} التوراة

{فلا تكن في مرية} شك

{من لقائه} من لقاء موسى الكتاب أو من لفائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة أو من لقاء موسى ربه فى الآخرة كذا عن النبى صلى اللّه عليه وسلم

{وجعلناه هدى لبني إسرائيل} وجعلنا الكتاب المنزل على موسى لقومه هدى

٢٤

{وجعلنا منهم أئمة} بهمزتين كوفى وشامى

{يهدون} بذلك الناس ويدعونهم إلى ما فى التوراة من دين اللّه وشرائعه

{بأمرنا} اياهم بذلك

{لما صبروا} حين صبروا على الحق بطاعة اللّه أو عن المعاصى لما صبروا حمزة وعلى أي لصبرهم على الدنيا وفيه دليل على أن الصبر ثمرته امامة الناس

{وكانوا بآياتنا} التوراة

{يوقنون} يعلمون علما لا يخالجه شك

٢٥

{إن ربك هو يفصل} يقضى

{بينهم يوم القيامة} بين الانبياء وأممهم أو بين المؤمنين والمشركين

{فيما كانوا فيه يختلفون} فيظهر المحق من المبطل

٢٦

{أولم} الواو للعطف على المعطوف عليه منوى من جنس المعطوف أى أو لم يدع

{يهد} يبين والفاعل اللّه بدليل قراءة زيد عن يعقوب نهد

{لهم} لأهل مكة

{كم} لا يجوز أن يكون كم فاعل يهدى لأن كم للاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله ومحله نصب بقوله

{أهلكنا من قبلهم من القرون} كعاد وثمود وقوم لوط

{يمشون في مساكنهم} أى أهل مكة يمرون فى متاجرهم على ديارهم وبلادهم

{إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون} المواعظ فيتعظوا

٢٧

{أولم يروا أنا نسوق الماء} نجرى المطر والانهار

{إلى الأرض الجرز} أى الارض التى جرز نباتها أى قطع اما لعدم الماء أو لانه رعى ولا يقال التى لا تنبت كالسباخ جرز بدليل قوله

{فنخرج به} بالماء

{زرعا تأكل منه} من الزرع

{أنعامهم} من عصفه

{وأنفسهم} من حبه

{أفلا يبصرون} بأعينهم فيستدلوا به على قدرته على احياء الموتى

٢٨

{ويقولون متى هذا الفتح} النصر أو الفصل بالحكومة من قوله ربنا افتح بيننا وكان المسلمون يقولون ان اللّه سيفتح لنا على المشركين أو يفتح بيننا وبينهم فإذا سمع المشركون ذلك قالوا متى هذا الفتح أى فى أى رقت يكون

{إن كنتم صادقين} فى أنه كائن

٢٩

{قل يوم الفتح} أى يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم أو يوم نصرهم عليهم أو يوم بدر أو يوم فتح مكة

{لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} وهذا الكلام لم ينطبق جوابا على سؤالهم ظاهرا ولكن لما كان غرضهم فى السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم فى سؤالهم فقيل لهم لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا فكانى بكم وقد حصلتم فى ذلك اليوم وآمنتم فلا ينفعكم الايمان أو استنظرتم فى إدراك العذاب فلم تنظروا ومن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر فهو يريد المقتولين منهم فانهم لا ينفعهم إيمانهم فى حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق

٣٠

{فأعرض عنهم وانتظر} البصرة وهلا كهم

{إنهم منتظرون} العلبة عليكم وهلاككم وكان عليه السلام لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذى بيده الملك وقال من قرأ الم تنزيل فى بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال سورة الم تنزيل هى المانعة تمنع من عذاب القبر واللّه اعلم

﴿ ٠