تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة سبأ مكية وهى أربع وخمسون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {الحمد} ان أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود وان أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق {للّه} بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلا فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلا {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} خلقا وملكا وقهرا فكان حقيقا بأن يحمد سرا وجهرا {وله الحمد في الآخرة} كما هو له فى الدنيا إذ النعم فى الدارين من المولى غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا لعدم التكلف وإنما يحمد أهل الجنة سرورا بالنعيم وتلذذا بما نالوا من الاجر العظيم بقولهم الحمد للّه الذى صدقنا وعده الحمد للّه الذى أذهب عنا الحزن {وهو الحكيم} بتدبير ما فى السماء والأرض {الخبير} بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض ٢{يعلم} مستأنف {ما يلج} ما يدخل {في الأرض} من الأموات والدفائن {وما يخرج منها} من النيات وجواهر المعادن {وما ينزل من السماء} من الامطار وأنواع البركات {وما يعرج فيها} يصعد إليها من الملائكة والدعوات {وهو الرحيم} بانزال ما يحتاجون إليه {الغفور} لما يجترءون عليه ٣{وقال الذين كفروا} أى منكرو البعث {لا تأتينا الساعة} ففى البعث وإنكار المجئ الساعة {قل بلى} أوجب ما بعد النفى بلى على معنى أن ليس الامر إلا اتيانها {وربي لتأتينكم} ثم أعيد ايجابه مؤكدا بما هو الغاية فى التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين باللّه عز وجل ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله {عالم الغيب} لان عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ئباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الامر وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت أو رسخ ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها فى الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق عالم الغيب مدنى وشامى أى هو عالم الغيب كلام الغيب حمزة وعلى على المبالغة {لا يعزب عنه} وبكسر الزاى على يقال عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد {مثقال ذرة} مقدار أصغر نملة {في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك} من مثقال ذرة {ولا أكبر} من مثقال ذرة {إلا في كتاب مبين} إلا فى اللوح المحفوظ ولا أصغر ولا أكبر بالرفع عطف على مثقال ذرة ويكون إلا بمعنى لكن أ ورفعا بالابتداء والخبر فى كتاب واللام فى ٤{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة} لما قصروا فيه من مدارج الإيمان {ورزق كريم} لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق بلتأتينكم تعليلا له ٥{والذين سعوا في آياتنا} جاهدوا فى رد القرآن {معاجزين} مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا معجزين مكى وأبو عمرو أى مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين اللّه إلى العجز {أولئك لهم عذاب من رجز أليم} يرفع أليم مكى وحفص ويعقوب صفة لعذاب أى عذاب أليم من سيئ العذاب قال قتادة الرجز سوء العذاب وغيرهم بالجر صفة لرجز ٦{ويرى} فى موضع الرفع بالاستئناف أى ويعلم {الذين أوتوا العلم} يعنى أصحاب رسول اللّه صىل ومن بطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد اللّه بن سلام وأصحابه والمفعول الأول ليرى {الذي أنزل إليك من ربك} يعنى القرآن {هو الحق} أى الصدق وهو فضل والحق مفعول ثان أو فى موضع النصب معطوف على ليجزى وليعلم أولو العلم عند مجئ الساعة أنه الحق علما لا يزاد غليه فى الإيقان {ويهدي} اللّه أو الذى أنزل إليك {إلى صراط العزيز الحميد} وهو دين اللّه ٧{وقال الذين كفروا} وقال قريش بعضهم لبعض {هل ندلكم على رجل} يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم وانما نكروه مع أنه كان مشهورا علما فى قريش وكان انباؤه بالبعث شائعا عندهم تجاهلا به وبأمره وباب التجاهل فى البلاغة وإلى سحرها {ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} أى يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشؤن خلقا جديدا بعد ان تكونوا رفاتا وترابا ويمزق أجسادكم البلاء كل ممزق أى يفرقكم كل تفريق فالممزق مصدر بمعنى التمزيق والعامل فى إذا مادل عليه أنكم لفى خلق جديد أى تبعثون والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز انكم بالفتح للام فى خبره ٨{افترى على اللّه كذبا} اهو مفتر على اللّه كذبا فيما ينسب إليه من ذلك والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها {أم به جنة} جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} ثم قال سبحانه وتعالى ليس محمد من الافتراء والجنون فى شىء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون فى عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك وذلك أجن الجنون جعل وقوعهم فى العذاب رسيلا لوقوعهم فى الضلال كانهما كائنان فى وقت واحد لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كانهما مقترنان ووصف الضلال بالبعيد من الاسناد المجازى لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة ٩{أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم} وبالادغام على التقارب بين الفاء والباء وضعفه البعض لزيادة صوت الفاء على الباء {الأرض أو نسقط} الثلاثة بالياء كوفى غير عاصم لقوله أفترى على اللّه كذبا {عليهم كسفا} كسفا حفص {من السماء} أى اعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض والأرض وانهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وان يخرجوا عماهم فيه من ملكوت الللّه ولم يخافوا أن يخسف اللّه بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الايكة {إن في ذلك} النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما تدلان عليه من قدرة اللّه تعالى {لآية} لدلالة {لكل عبد منيب} راجع إلى ربه مطيع له إذ المنيب لا يخلو من النظر فى آيات اللّه على أنه قادر على كل شىء من البعث ومن عقاب من يكفر به ١٠{ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال} بدل من فضلا أو من آتينا بتقدير قولنا يا جبال أو قلنا يا جبال {أوبي معه} من التأويب رجعى معه التسبيح ومعنى تسبيح الجبال ان اللّه يخلق فيها تسبيحا فيسمع منها كما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه السلام {والطير} عطف على محل الجبال والطير عطف على لفظ الجبال وفى هذا النظم من الفخامة مالا يخفى حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا وإا دعاهم أجابوا اشعار بأنه مامن حيوان إلا وهو منقاد لمشيئة اللّه تعالى ولو قال آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة {وألنا له الحديد} وجعلناه له لينا كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة وقيل لان الحديد فى يده لما أوتى من شدة القوة ١١{أن اعمل} أن بمعنى أى أمرناه ان اعمل {سابغات} دروعا واسعة تامة من السبوغ وهو أول من اتخذها وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء وقيل كان يخرج متنكرا فيسال الناس عن نفسه ويقول لهم ماتقولون فى داود فيثنون عليه فقيض اللّه له ملكا فى سورة آدمى فسأله على عادته فقال نعم الرجل لولا خصلة فيه وهو انه يطعم عيالهمن بيت المال فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغنى به عن بيت المال فعلمه صنعة الدروع وقدر في السرد لا نجعل المسامير دقاقا فنغلق ولا غلاظا فتفصم الحلق والسردنسج الدروع {واعملوا} الضمير لداود وأهله {صالحا} خالصا يصلح للقبول {إني بما تعملون بصير} فاجازيكم عليه ١٢{ولسليمان الريح} أى وسخرنا لسليمان الريح وهى الصبار ورفع الريح أبو بكر وحماد والفضل أى ولسليمان الريح مسخرة {غدوها شهر ورواحها شهر} جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشى كذلك وكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر فارس وبينهما مسيرة شهر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل كان يتغدى بالرى ويتعشى بسمرقند {وأسلنا له عين القطر} أى معدن النحاس فالقطر النحاس وهو الصفر ولكنه اساله وكان يسيل فىالشهر ثلاثة أيام كما يسيل الماء وكان قبل سليمان لا يذوب وسماه عين القطر باسم ما آل إليه {ومن الجن من يعمل} من فى موضع نصب أى وسخرنا من الجن من يعمل {بين يديه بإذن ربه} بأمر ربه {ومن يزغ منهم} ومن يعدل منهم {عن أمرنا} الذى أمرنا به من طاعة سليمان {نذقه من عذاب السعير} عذاب الآخرة وقيل كان معه ملك بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان عليه السلام ضربه ضربة أحرقته ١٣{يعملون له ما يشاء من محاريب} أى مساجد أو مساكن {وتماثيل} أى صور السباع والطيور وروى انهم عملوا له أسدين فى اسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الاسدان له ذراعيهما وإذا قعد اظله النسران بأجنحتهما وكان التصوير مباحا حينئذ {وجفان} جمع جفنة {كالجواب} جمع جابية وهى الحياض الكبار قيل كان يقعد علىالجفنة ألف رجل كالجوابى فىالوصل والوقف مكى ويعقوب وسهل وافق أبو عمرو فى الوصل الباقون بغير ياء اكتفاء بالكسرة {وقدور راسيات} ثابتات على الاثافى لا تنزل عنها لعظمها وقيل انها باقية باليمين وقلنا لهم {اعملوا آل داود شكرا} أى ارحموا أهل البلاد واسألوا ربكم العافية عن الفضيل وشكرا مفعول له أو حال أى شاكرين أو اشكروا اشكر الأن اعملوا فيه معنى اشكروا من حيث ان العمل للمنعم شكر له أو مفعول به يعنى انا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا انتم شكرا وسئل الجنيد عن الشكر فقال بذل المجهود بين يدى المعبود {وقليل من عبادي} بسكون الياء حمزة وغيره بفتحها {الشكور} المتوفر على اداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا أو اعترافا وكدحا وعن ابن عباس رضى اله عنه من يشكر على أحواله كلها وقيل من يشكر على الشكر وقيل من يرى عجزه عن الشكر وحكى عن داود عليه السلام أنه جزا ساعات اليل والنهار على أهله فلم تكن تأتى ساعة من الساعات إلا وانسان من آل داود قائم يصلى ١٤{فلما قضينا عليه الموت} أى على سليمان {ما دلهم} أىالجن وآل داود {على موته إلا دابة الأرض} أى الارضة وهى دويبة يقال لها سرفة والارض فعلها فاضيفت إليه يقال ارضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة {تأكل منسأته} والعصا تسمى منسأة لأنه ينسا بها اى يطرد ومنساته بغير همز مدنى وأبو عمرو {فلما خر} سقط سليمان {تبينت الجن} علمت الجن كلهم علما بينا بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم {أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا} بعد موت سليمان {في العذاب المهين} وروى ان داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فى موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فامر الشياطين باتمامه فلما بقى من عمره سنة سأل ربه أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاث عشر سنة فبقى فى ملكه أربعين سنة وبتدأ بناء بيت المقدس لاربع مضين من ملكه وروى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الاسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه ١٥{لقد كان لسبإ} بالصرف بتأويل الحى وبعدمه أبو عمر وبتأويل القبيلة {في مسكنهم} حمزة وحفص مسكنهم على وخلف وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التى كانوا مقيمين فيها باليمن أو مسكن كل واحد منهم غيرهم مساكنهم {آية} اسم كان {جنتان} بدل من آية أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان ومعنى كونهما آية ان أهلها لما أعرضوا عن شكر اللّه سلبهم اللّه النعمة ليعتبروا أو يتعظموا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط العم أو جعلهما آية أى علامة دالة على قدرة اللّه واحسانه ووجوب شكره {عن يمين وشمال} أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين فى تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة أو أراد بستانى كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله {كلوا من رزق ربكم واشكروا له} حكاية لما قال أنبياء اللّه المبعوثون إليهم أو لما قال لهم لسان الجمال أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ولما أمرهم بذلك اتبعه قوله {بلدة طيبة ورب غفور} أى هذه البلدة التى فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذى رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره قال ابن عباس كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتلىء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر وطيبها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها ١٦{فأعرضوا} عن دعوة أنبيائهم فكذبوهم وقالوا مانعرف للّه علينا نعمة {فأرسلنا عليهم سيل العرم} أى المطر الشديد أو العرم اسم الوادى أو هو الجرذ الذى نقب عليهم السكر لما طغوا سلط اللّه عليهم الجرذ فنقبه من أسفله فغرقهم {وبدلناهم بجنتيهم} المذكورتين {جنتين} وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها {ذواتي أكل خمط} الأكل الثمر يثقل ويخفف وهو قراءة نافع ومكى والخمط شجر الاراك وقيل كل شجر ذى شوك {وأثل وشيء من سدر قليل} الاثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودا ووجه من نون الاكل وهو غير أبى عمر وان أصله ذواتى أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم امضاف إليه مقامه أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل ذواتى أكل بشع ووجه أبى عمرو ان أكل الخمط فى معنى البرير وهو ثمر الاراك إذا كان غضا فكانه قيل ذواتى برير والاثل والسدر معطوفان على أكل لا على خمط لأن الاثل لا أكل له وعن الحسن قلل السدر لانه أكرم ما بدلوا لأنه يكون فى الجنان ١٧{ذلك جزيناهم بما كفروا} أى جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم {وهل نجازي إلا الكفور} كوفى غير أبى بكر وهل يجازى إلا الكفور غيرهم يعنى وهل نجازى مثل هذا الجزاء إلا م كفر النعمة ولم يشكرها أو كفر باللّه أو هل يعاقب لأن الجزاء وان كان عاما يستعمل فى معنى المعاقبة وفى معنى الاثابة لكن المراد الخاص وهو العقاب وعن الضحاك كانوا فى الفترة التى بين عيسى ومحمد عليه السلام ١٨{وجعلنا بينهم} بين سبا {وبين القرى التي باركنا فيها} بالتوسعة على أهلها فى النعم والمياه وهى قرى الشام {قرى ظاهرة} متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهى ظاهرة لأعين الناظرين أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وهى اربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبا إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أى جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر فى قرية ويروح فى اخرى إلى أن يبلغ الشام {سيروا فيها} وقلنا لهم سيروا ولا قول ثمة ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك {ليالي وأياما آمنين} أى سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فان الامن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات أى سيروا فيها آمنين لا تخافون عدوا ولا جوعا ولا عطشا وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياما وليالى ١٩{فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} قالوا ياليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا ونربح فى التجارات ونفاخر فى الدواب والأسباب بطر والنعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب بعد مكى وأبو عمرو {وظلموا} بما قالوا {أنفسهم فجعلناهم أحاديث} يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم {ومزقناهم كل ممزق} وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا يقولون ذهبوا أيدى سبأ وتفرقوا أيادى سبا فلحق غسان بالشام وإنما بيثرب وجذام بتهامة والازد بعمان {إن في ذلك لآيات لكل صبار} عن المعاصى {شكور} للنعم أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر ٢٠{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} بالتشديد كوفى أى حقق عليهم ظنه أو وجده صادقا وبالتخفيف غيرهم أى صدق فى ظنه {فاتبعوه} الضمير فى عليهم واتبعوه لأهل سبا أو لبنى آدم وقلل المؤمنين بقوله {إلا فريقا من المؤمنين} لفلتهم بالاضافة إلى الكفار ولا نجد أكثرهم شاكرين ٢١{وما كان له عليهم} لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقا {من سلطان} من تسليط واستيلاء بالوسوسة {إلا لنعلم} موجودا ما علمناه معدوما والتغير على المعلوم لا على العلم {من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ} محافظ عليه وفعيل ومفاعل متآخيان ٢٢{قل} لمشركى قومك {ادعوا الذين زعمتم من دون اللّه} أى زعمتموهم آلهه من دون اللّه فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول وحذف كما حذف فى قوله أهذا الذى بعث اللّه رسولا استخفافا لطول الموصول بصلته والمفعول الثانى آلهة وحذف لأنه موصوف صفته من دون اللّه والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامة إذا كان مفهوما فإذا مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون اللّه من الأصنام والملائكة وسميتموهم والتجؤا اليهم فيما يعروكم كما تلتجئون اليه وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته ثم أجاب عنهم بقوله {لا يملكون مثقال ذرة} من خير أو شر أو نفع أو ضر {في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك} ومالهم فى هذين الجنسين من شركة فى الخلق ولا فى الملك {وما له} تعالى {منهم} من آلهتهم {من ظهير} من عوين يعينه على تدبير خلقه يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ٢٣{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أى أذن له اللّه يعنى إلا من وقع الاذن للشفيع لأجله وهى اللام الثانية فى قولك أذن لزيد لعمر وأى لأجله وهذا تكذيب لقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه أذن له كوفى غير عاصم إلا الأعشى {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أى كشف الفزع عن قلوب الشافعين المشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة فى اطلاق الاذن وفزع شامى أى اللّه تعالى والتفزيع إزالة الفزع وحتى غاية لما فهم من أن ثم انتظار اللاذن وتوقفا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أولا يؤذن لهم كأنه قيل يتربصون ويتوقعون مليا فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا سأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم قالوا قال الحق أى القول وهو الاذن بالشفاعة لمن ارتضى {وهو العلي الكبير} ذو العو والكبرياء ليس لملك ولا نبى أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلا لمن ارتضى ٢٤{قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل اللّه} أمره بأن يقررهم بقوله من يرزقكم ثم أمره بأن يتولى الاجابة والاقرار عنهم بقوله يرزقكم اللّه وذلك للاشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنهم بما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوهوا بأن اللّه رازقهم لزمهم أن يقال لهم فمالكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق وأمره أن يقول لهم بعد الالزام والالجام الذى ان لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} ومعناه وان أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال وهذا من الكلام المنصف الذى كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك وفى درجة بعد تقدم ما قدم من التقرير دلالة غير خفية على من هومن الفريقين على الهدى ومن هو فى الضلال المبين ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض ونحوه قولك للكاذب أن أحدنا لكاذب وخولف بين حرفى الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كانه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء والضال كأنه ينغمس فى ظلام لايرى اين يتوجه ٢٥{قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} هذا أدخل فى الانصاف من الأول حيث أسند الاجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور والعمل إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور ٢٦{قل يجمع بيننا ربنا} يوم القيامة {ثم يفتح} يحكم {بيننا بالحق} بلا جور ولا ميل {وهو الفتاح} الحاكم {العليم} بالحكم ٢٧{قل أروني الذين ألحقتم} أى ألحقتموهم {به} باللّه {شركاء} فى العبادة معه ومعنى قوله أرونى وكان يراهم أن يريهم الخطا العظيم فى الحاق الشركاء باللّه وأن يطلعهم على حالة الاشراك به {كلا} ردع وتنبيه أى ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالكم {بل هو اللّه العزيز} الغالب فلا يشاركه أحدوهو ضمير الشأن {الحكيم} فى تدبيره ٢٨{وما أرسلناك إلا كافة للناس} إلا ارساله عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم وقال الزجاج معنى الكافة فىاللغة الاحاطة والمعنى أرسلناك جامعا للناس فىالانذار والابلاغ فجعله حالا من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلامة {بشيرا} بالفضل لمن أقر {ونذيرا} بالعدل لمن أصر {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فيحملهم جهلهم على مخالفتك ٢٩{ويقولون متى هذا الوعد} أى القيامة المشار إليها فى قوله قل يجمع بيننا ربنا {إن كنتم صادقين ٣٠قل لكم ميعاد يوم} الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فابدل منه اليوم وأما الاضافة فاضافة تبيين كما تقول بغير سانية {لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون} أى لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم انهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتا لا استرشاد فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا للسؤال علىالانكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدما عليه ٣١{وقال الذين كفروا} أى أبو جهل وذووه {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} أى ما نزل قبل القرآن من كتب اللّه أو القيامة والجنة والنار حتى أنهم جحدوا أن يكون القرآن من اللّه وأن يكون لما دل عليه من الاعادة حقيقة {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون} محبوسون {عند ربهم يرجع} يرد {بعضهم إلى بعض القول} فى الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم فى الآخرة فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو للمخاطب ولوترى فى الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرايت العجب فحذف الجواب {يقول الذين استضعفوا} أى الاتباع {للذين استكبروا} أى للرؤس والمقدمين {لولا أنتم لكنا مؤمنين} لولا دعاؤكم ايانا إلى الكفر لكنا مؤمنين باللّه ورسوله ٣٢{قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى} أولى الاسم أى نحن حرف الإنكار لأن المراد انكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتو من قبل اختيارهم {بعد إذ جاءكم} إنما وقعت إذ مضافا إليها وإن كانت إذ وإذا من الظروف الازمة للظرفية لأنه قد اتسع فى الزمان مالم يتسع فى غيره فاضيف إليها الزمان {بل كنتم مجرمين} كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا ٣٣{وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا} لم يأت بالعاطف فى قال الذين استكبروا وأتى به فى وقال الذين استضعفوا لأن الذين استضعفوا أولا فلا كلامهم فجىء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستثناء ثم جىء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الاول {بل مكر الليل والنهار} بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع فى الظرف بأجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الاسناد المجازى أى الليل والنهار مكرا بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق {إذ تأمروننا أن نكفر باللّه ونجعل له أندادا} أشباها والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم أنحن صددناكم أن يكونوا هم السبب فى كفر المستضعفين واثبتوا بقولهم بل كنتم مجرمين أن ذلك بكسبهم واختيارهم كر عليهم المستضفون بقولهم بل مكر الليل والنهار فابطلوا اضرابهم باضرابهم كانهم قالوا ما كان الاجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا أو حملكم إيانا على الشرك واتخاذ الانداد {وأسروا الندامة} اضمروا واظهروا وهو من الاضداد وهم الطالمون فى قوله إذ الظالمون موقوفون يندم المستكبرون على ضلالهم واضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المظلين لما {وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا} أى فى أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} فى الدنيا ٣٤{وما أرسلنا في قرية من نذير} نبى {إلا قال مترفوها} متنعموها ورؤساؤها {إنا بما أرسلتم به كافرون} هذه تسليه للنبى صلى اللّه عليه وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال ٣٥{وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} أرادوا أنهم أكرم على اللّه من أن يعذبهم نظرا إلى أحوالهم فى الدنيا وظنوا أنهم لو لم يكرموا على اللّه لما رزقهم اللّه ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم فأبطل اللّه ظنهم بان الرزق فضل من اللّه يقسمه كيف يشاء فربما وسع على العاصى وضيق على المطبع وربما عكس وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر الثواب بقوله ٣٦{قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} قدر الرزق تضييقه قال اللّه تعالى ومن قدر عليه رزقه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك ٣٧{وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} أى وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتى وذلك أن الجمع الكسر عقلاؤه وغيره عقلائه سواء فى حكم التأنيث والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب علىالمصدر أى تقربكم قربة كقوله أنبتكم من الأرض نباتا {إلا من آمن وعمل صالحا} الاستثناء من كم فى تقربكم يعنى أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذى ينفقها فى سبيل اللّه والاولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقهم فى الدين ورشحهم للصلاح والطاعة وعن ابن عباس إلا بمعنى لكن ومن شرط جوابه {فأولئك لهم جزاء الضعف} وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجاوز الضعف ثم جزاء الضعف ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا وقرأ يعقوب جزاء الضعف على فأولئك لهم الضعف جزاء {بما عملوا} بأعمالهم {وهم في الغرفات} أى غرف منازل الجنة الغرفة حمزة {آمنون} من كل هائل وشاغل ٣٨{والذين يسعون في آياتنا} فى إبطالها {معاجزين أولئك في العذاب محضرون ٣٩ قل إن ربي يبسط الرزق} يوسع {لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم} ما شرطية فى موضع النصب {من شيء} بيانه {فهو يخلفه} يعوضه لا معوض سواه اما عاجلا بالمال أو آجلا بالثواب جواب الشرط {وهو خير الرازقين} المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق اللّه أجراه على أيدى هؤلاء وهو خالق الرزق وخالق الاسباب التى ينتفع المرزوق بالرزق وعن بعضهم الحمد للّه الذى أوجدنى وجعلنى ممن يشتهى فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهى ٤٠{ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} وبالياء فيهما حفص ويعقوب هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر إياك أعنى واسمعى يا جارة ونحوه قوله أأنت قلت للناس اتخذونى الآية ٤١{قالوا} أى الملائكة {سبحانك} تنزيها لك أن يعبد معك غيرك {أنت ولينا} الموالاة خلاف المعاداة وهى مفاعلة من الولى وهو القرب والولى يقع على الموالى والموالى جميعا والمعنى أنت الذى نواليه {من دونهم} إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة اللّه ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك {بل كانوا يعبدون الجن} أى الشياطين حيث أطاعوهم فى عبادة غير اللّه أو كانوا يدخلون فى أجواف الاصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتهم أو صورت لهم الشياطين صورة قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها {أكثرهم} أكثر الانس أو الكفار {بهم} بالجن {مؤمنون ٤٢فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا} لان الامر فى ذلك اليوم للّه وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لاحد لان الدار دار ثواب وعقاب والمثيب والمعاقب هو اللّه فكانت حالها خلاف حال الدنيا التى هى دار تكليف والناس فيها مخلى بينهم يتضارون ويتنافعون والمراد أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله {ونقول للذين ظلموا} بوضع العبادة فى غير موضعها معطوف على لا يملك {ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون} فى الدنيا ٤٣{وإذا تتلى عليهم آياتنا} أى إذا قرىء عليهم القرآن {بينات} واضحات {قالوا} أى المشركون {ما هذا} أى محمد {رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا} أى القرآن {إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا} أى وقالوا والعدول عنه دليل إنكار عظيم وغضب شديد {للحق} للقرآن أو لأمر النبوة كله {لما جاءهم} وعجزوا عن الإتيان بمثله {إن هذا} أى الحق {إلا سحر مبين} بتوه على أنه سحر ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحرا ٤٤{وما آتيناهم من كتب يدرسونها} أى ما أعطينا مشركى مكة كتبا يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك {وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} ولا أرسلنا إليهم نذيرا ينذرهم بالعقاب ان لم يشركوا ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله ٤٥{وكذب الذين من قبلهم} أى كذب الذين تقدموهم من الامم الماضية والقرون الخاليه الرسل كما كذبوا {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} أى ومابلغ أهل مكة عشر ما أوتى الأولون من طول الأعمار وقوة الاجرام وكثرة الأموال والاواد {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} للمكذبين الاولين فليحذروا من مثله وبالياء فى الوصل والوقف يعقوب أى فحين كذبوا رسلهم جاءهم ٢إنكارى بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون فما بال هؤلاء وإنما قال فكذبوا وهو مستغنى عنه بقوله وكذب الذين من قبلهم لأنه لما كان معنى قوله وكذب الذين من قبلهم وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسببا عنه وهو كقول القائل أقدم فلان علىالكفر فكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ٤٦{قل إنما أعظكم بواحدة} بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله {أن تقوموا} على أنه عطف بيان لها وقيل هو بدل وعلى هذين الوجهين هو فى محل الجر وقيل هو فى محل الرفع على تقدير وهى أن تقوموا والنصب على تقدير أعنى وأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده أو قيام القصد إلى الشىء دون النهوض والانتصاب والمعنى إنما أعظكم بواحدة ان فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهى أن تقوموا {للّه} أى لوجه اللّه خالصا لا لحمية ولا عصبية بل لطلب الحق {مثنى} اثنين اثنين {وفرادى} فردا فردا {ثم تتفكروا} فى أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وما جاء به اما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والانصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق وكذلك الفرد يتفكر فى نفسه بعدل ونصفه ويعرض فكره على عقله ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويعمى البصائر ويمنع من الرؤية ويقل الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ولايسمع إلا نصرة المذهب وتتفكروا معطوف على تقوموا {ما بصاحبكم} يعنى محمد صلى اللّه عليه وسلم {من جنة} جنون والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} قدام عذاب شديد وهو عذاب الآخرة وهو كقوله عليه السلام بعثت بين يدى الساعة ثم بين أنه لا يطلب أجرا على الإنذار بقوله ٤٧{قل ما سألتكم من أجر} على إنذارى وتبليغى الرسالة {فهو لكم} جزاء الشرط تقديره أى شىء سألتكم من أجر كقوله ما يفتح اللّه للناس من رحمة ومعناه نفى مسألة الاجر رأسا نحو مالى فى هذا فهو لك أى ليس لى فيه شىء {إن أجري} مدنى وشامى وأبو بكر وحفص وبسكون الياء غيرهم {إلا على اللّه وهو على كل شيء شهيد} فيعلم أنى لا أطلب الاجر على نصيحتكم ودعائكم إليه الا منه ٤٨{قل إن ربي يقذف بالحق} بالوحى والقذف توجيه السهم ونحوه بدفع واعتماد ويستعار لمعنى الالقاء ومنه وقذف فى قلوبهم الرعب أن اقذفيه فى التابوت ومعنى يقذف بالحق يلقيه وينزل إلى أنبيائه أو يرمى به الباطل فيدمغه ويزهقه {علام الغيوب} مرفوع على البدل من الضمير فى يقذف أو على أنه خبر مبتدا محذوف ٤٩{قل جاء الحق} الإسلام والقرآن {وما يبدئ الباطل وما يعيد} أى زال الباطل وهلك لأن الابداء والاعاردة من صفات الحى فعدمهما عبارة عن الهلاك والمعنى جاء الحق وزهق الباطل كقوله جاء الحق وزهق الباطل وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه دخل النبى صلى اللّه عليه وسلم مكة وحول الكعبة أصنام فجعل يطعنها بعود معه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل أن كان زهوقا جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد وقيل الباطل الأصنام وقيل إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك أى لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحدا ولا يبعثه فالمنشىء والباعث هو اللّه ولما قالوا قد ضللت بترك دين آبائك قال اللّه تعالى ٥٠{قل إن ضللت} عن الحق {فإنما أضل على نفسي} إن ضللت فمنى وعلى {وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} أى فبتسديده بالوحى إلى وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما اهتدى لها كقوله فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولكن هما متقابلان معنى لأن النفس كل ما عليها وضار لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء ومالها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه وهذا حكم عام لكل مكلف وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلاله محله وسداد طريقته كان غيره أولى به {إنه سميع} لما اقوله لكم {قريب} منى ومنكم يجازينى ويجازيكم ٥١{ولو ترى} جوابه محذوف أى لرأيت أمرا عظيما وحالا هائلة {إذ فزعوا} عند البعث أو عند الموت أو يوم بدر {فلا فوت} فلا مهرب أو فلا يفوتون اللّه ولا يسبقونه {وأخذوا} عطف على فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم أو على لافوت على معنى إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا {من مكان قريب} من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من صحراء بدر إلى القليب ٥٢{وقالوا} حين عاينوا العذاب {آمنا به} بمحمد عليه السلام لمرور ذكره فى قوله ما بصاحبكم من جنة أو باللّه {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} التناوش التناول أى كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم يريدان النوبه كانت تقبل منهم فى الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة وقيل هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم فى ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم فى الدنيا مثلت حالهم بحال من يريد ان يتناول الشىء من غلوه كما يتناول الآخرة من قيس ذراع التناوش بالهمزة أبو عمرو وكوفى غير حفص همزت الواو لأن كل واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك ادور وتقاوم وإن شئت قلت إدؤر وتقاؤم وعن ثعلب التناؤش بالهمزة التناول من بعد وبغير همزة التناول من قرب ٥٣{وقد كفروا به من قبل} من قبل العذاب أو فى الدنيا {ويقذفون بالغيب} معطوف على قد كفروا على حكاية الحال الماضية يعنى وكانوا يتكلمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لابعث ولا حساب ولا جنة ولا نار {من مكان بعيد} عن الصدق أو عن الحق والصواب أو هو قولهم فى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شاعر ساحر كذاب وهذا تكلم بالغيب والامر الخفى لأنهم لم يشاهدوا منه سحرا ولا شعرا ولا كذبا وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله لأن أبعد شىء مما جاء به السحر والشعر وأبعد شىء من عادته التى عرفت بينهم وجربت الكذب ويقذفون بالغيب عن أبى عمرو على البناء للمفعول أى تأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه وإن شئت فعلقه بقوله وقالوا آمنا به على أنه مثلهم فى طلبهم تحصل ما عطلوا من الإيمان فى الدنيا بقولهم آمنا فى الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن فى لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه بعيدا ويجوز أن يكون الضمير فى آمنا به للعذاب الشديد فى قوله بين يدى عذاب شديد وكانوا يقولون ومانحن بمعذبين إن كان الامر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ونحن أكرم على اللّه من أن يعذبنا قائسين أمر الآخرة عن أمر الدنيا فهذا كان قذفهم الغيب وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف ٥٤{وحيل} وحجز {بينهم وبين ما يشتهون} من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم بقوله فَٱرْجِعْنَا نعمل صالحا والافعال التى هى فزعوا وأخذوا وحيل كلها للمضى والمراد بها الاستقبال لتحقق وقوعه {كما فعل بأشياعهم من قبل} بأشباههم من الكفرة {إنهم كانوا في شك} من أمر الرسل والبعث {مريب} موقع فى الريبة من أرابه إذا أوقعه فى الريبة هذا رد على من زعمم أن اللّه لا يعذب على الشك واللّه أعلم |
﴿ ٠ ﴾