تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الحجرات

سورة الحجرات بسم اللّه الرحمن الرحيم

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا} {السجود} اى من التأثير الذى يؤثره السجود وعن عطاء استنارت وجوههم من طول ما وصلوا بالليل لقوله عليه السلام: من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار

{ذلك} اى المذكور

{مثلهم} صفتهم

{في التوراة} وعليه وقف

{ومثلهم في الإنجيل} مبتدأ خبره

{كزرع أخرج شطأه} فراخه يقال اشطأ الزرع اذا فرخ

{فآزره} قواه فآزره شامى

{فاستغلظ} فصار من الرقة إلى الغلظ

{فاستوى على سوقه} فاستقام على قصبة جمع ساق

{يعجب الزراع} يتعجبون من قوته وقيل مكتوب في الانجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وعن عكرمة اخرج شطأه بأبى بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلى رضوان اللّه عليهم وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لبدء الاسلام وترقيه في الزيادة الى ان قوى واستحكم لان النبى صلى اللّه عليه وسلم قام وحده ثم قواه اللّه تعالى بمن آمن معه كما يقوى الطاقة الاولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع

{ليغيظ بهم الكفار} تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة ويجوز ان يعلل به

{وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} لان الكفار اذا سمعوا بما اعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك ومن في منهم للبيان كما في قوله فاجتنبوا الرجس من الاوثان يعنى فاجتنبوا الرجس الذى هو الاوثان وقولك انفق من الدراهم اى اجعل نفقتك هذا الجنس وهذه الآية ترد قول الروافض انهم كفروا بعد وفاة النبى صلى اللّه عليه وسلم اذ الوعد لهم بالمغفرة والاجر العظيم انما يكون ان لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته سورة الحجرات مدنية وهى ثمان عشر آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا} قدمه واقدمه منقولان بتثقيل الحشو والهمزة من قدمه اذا تقدمه في قوله تعالى يقدم قومه وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل وجاز ان لا يقصد مفعول والنهى متوجه الى نفس التقدمة كقوله هو الذى يحيى ويميت أو هو من قدم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهى الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة

{بين يدي اللّه ورسوله واتقوا اللّه إن اللّه سميع عليم} يعقوب لا تقدموا بحذف احدى تاءى تتقدموا

{بين يدي اللّه ورسوله} حقيقة قولهم جلست بين يدى فلان ان تجلس بين الجهتين المسامنتين ليمينه وشماله قريبا منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعا كما يسمى الشىء باسم غيره اذا جاوره في هذه العبارة ضرب من المجاز الذى يسمى تمثيلا وفيه فائدة جليلة وهى تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الاقدام على امر من الامور دون الاحتذاء على امثلة الكتاب والسنة ويجوز ان يجرى مجرى قولك سرني زيد وحسن حاله اى سرنى حسن حال زيد فكذلك هنا المعنى بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفائدة هذا الاسلوب الدلالة على قوة الاختصاص ولما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اللّه بالمكان الذى لا يخفى سلك به هذا المسلك وفى هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام لان من فضله اللّه بهذه الاثرة واختصه هذا الاختصاص كان ادنى ما يجب له من التهيب والاجلال ان يخفض بين يديه الصوت وعن الحسن ان اناسا ذبحوا يم الاضحى قبل الصلاة فنزلت وامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يعيدوا ذبحا اخر وعن عائشة رضى عنها انها نزلت في النهى عن صوم يوم الشك

{واتقوا اللّه} فانكم ان اتقيتموه عافتكم التقوى عن التقدمة المنهى عنها

{إن اللّه سميع} لما تقولون

{عليم} بما تعملون وحق مثله ان يتقى

٢

{يا أيها الذين آمنوا} إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم

{لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} اى اذا نطق ونطقتم فعليكم ان لا تبلغوا باصواتكم وراء الحد الذى يبلغه بصوته وان تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم وجهره باهرا لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة

{ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} اى اذا كلمتموه وهو صامت فاياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم ان لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم وان تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذى يضاد الجهر اولا تقولوا له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبى صلى اللّه عليه وسلم ابو بكر وعمر الا كاخى السرار وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما انها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في اذنه وقر وكان جهورى الصوت وكان اذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبى صلى اللّه عليه وسلم فيتأذى بصوته وكاف التشبيه في محل النصب اى لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض وفى هذا انهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه بالمخافتة وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة ابهة النبوة وجلالة مقدارها

{أن تحبط أعمالكم} منصوب الموضع على انه المفعول له متعلق بمعنى النهى والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أى لخشية حبوطها

{وأنتم لا تشعرون}

٣

{إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه} على تقدير حذف المضاف

{وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللّه} ثم اسم ان عند قوله رسول اللّه والمعنى يخفضون اصواتهم في مجلسه تعظيما له

{أولئك} مبتدأ خبره

{الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى} وتم صلة الذين عند قوله للتقوى وأولئك مع خبره خبران والمعنى اخلصها للتقوى من قولهم امتحن الذهب وفتنه اذا اذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضى اللّه عنه اذهب الشهوات عنها والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد

{لهم مغفرة وأجر عظيم} جملة اخرى قيل نزلت في الشيخين رضى اللّه عنهما لما كان منهما من غض الصوت وهذه الآية بنظمها الذى وتبت عليه من إيقاع الغاضين اصواتهم اسما لان المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدا وخبر معرفتين معا والمبتدا امس الاشارة واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم وايراد الجزاء نكرة مبهما امره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين اصواتهم وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون اصواتهم

٤

{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} نزلت في وفد بنى تميم اتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الافرع بن حابس وعيينه بن حصن ونادوا النبى صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا اخرج الينا يا محمد فان مدحنازين وذمنا شين فاستيقظ وخرج والوراء الجهة التى بوار بها عنك لشخص بظلمه من خلف أو قدام ومن لابتداء الغاية وان المناداة نشأت من ذلك المكان والحجرة الرقعة من الارض المحجورة بحائط يحوط عليها وهى فعلة بمنى مفعولة كالفيضة وجمعها الحجرات بضمتين والحجرات بفتح الجيم وهى قراءة يزيدوالمراد حجرات نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت لكل منهن حجرة ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها اجمعت اجلالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والفعل وان كان مسند الى جميعهم فانه يجو ان يتولاه بعضهم وكا الباقون راضين فكانهم تولوه جميعا

{أكثرهم لا يعقلون} يحتمل ان يكون فهم من قصد استثناؤه ويحتمل ان يكون المراد النفى العام اذ القلة تقع موقع النفى وورود الآية على النمط الذى وردت عليه فيه ما لا يخفى من اجلال محل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها لتسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل ومنها ايقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ومنها التعريف باللام دون الاضافة ولو تأمل متأمل من اول السورة الى اخر هذه الآية لوجدها كذلك فتامل كيف ابتدا بايجاب ان تكون الامور التى تنتمى الى اللّه ورسوله متقدمة على الامور كلها من غير تقيد ثم اردف ذلك النهى عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كان الاول بساط للثانى ثم اثنى على الغاضين اصواتهم ليدل على عظيم موفعه عند اللّه ثم عقبه بما هو اطم وهجنته أتم من الصباح برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما

٥

{ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم واللّه غفور رحيم} بصاح بأهون الناس قدر الينبه على فظاعة ما جسروا عليه لان من رفع اللّه قدره على ان يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذى بلغ في التفاحش مبلغا

{ولو أنهم صبروا} اى ولو ثبت صبرهم ومحل انهم صبروا الرفع على الفاعلية والصبر حبس النفس عن ان تنازع الى هواها قال اللّه تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس وقيل الصبر من لا يتجرعه الاخر وقوله

{حتى تخرج إليهم} يفيد انه لو خرج ولم يكن خروجه اليهم ولاجلهم للزمهم ان يصبروا الى ان يعلموا ان خروجه اليهم

{لكان} الصبر

{خيرا لهم} في دينهم

{واللّه غفور رحيم} بلغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء ان تابوا وانابوا

٦

{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ} اجمعوا انها نزلت في الوليد بن عقبه وقد بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدقا إلى نبى المصطق وكانت بينه وبينهم احنة في الجاهلية فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين اليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والانباء كانه قال اى فاسق جاءكم بأى نبأ

{فتبينوا} فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الامر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا بقول الفاسق لان من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذى هو نوع منه وفى الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا الخصيص به عن الفائدة والفسوق الخروج من الشىء ويقال فسقت الرطبة عن قشرها ومن مقلوبه فقست البيضة اذا كسرتها واخرجت مافيها ومن مقلوبه أيضا قفست الشىء اذا اخرجته من يد مالكه مغتصبا له عليه ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر حمزة وعلى فتثبتوا والتثبت والنبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف

{أن تصيبوا قوما} لئلا تصيبوا

{بجهالة} حال يعنى جاهلين بحقيقة الامر وكنه القصه

{فتصبحوا} فتصبروا

{على ما فعلتم نادمين} الندم ضرب من الغم وهو ان تغنم على ما وقع منك نتمنى انه لم يقع وهو غم يصحب الانسان صحبه لها دوام

٧

{واعلموا أن فيكم رسول اللّه} فلا تكذبوا فان اللّه يخبره فينهتك ستر الكاذب أو فارجعوا اليه اطلبوا رايه ثم قال مستأنفا

{لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} لوقعتم في الجهد والهلاك وهذا يدل على ان بعض المؤمنين زينوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايقاع ببنى المصطلق وتصديق قول الوليد وان بعضهم كانوا يتصونون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله

{ولكن اللّه حبب إليكم الإيمان} وقيل هم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى ولما كانت صفة الذين حبب اللّه اليهم الايمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقت لكن في

{وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق} حال موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبله نفيا واثباتا

{وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر} وهو تغطية نعم اللّه وغمطها بالجحود

{والفسوق} وهو الخروج عن محجة الايمان بركوب الكبائر

{والعصيان} وهو ترك الانقياد لما امر به الشارع

{أولئك هم الراشدون} اى اولئك المستثنون هم الراشدون يعنى اصابوا طريق الحق ولم يميلو ا عن الاستقامة والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهى الصخرة

٨

{فضلا من اللّه ونعمة} الفضل والنعمة بمعنى الافضال والانعام والانتصاب على المفعول له اى حبب وكره للفضل والنعمة

{واللّه عليم} باحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل

{حكيم} حين يفضل وينعم بالتوفيق على الافاضل

٩

{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مجلس بعض الانصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبى بانفه وقال خل سبيل حمارك فقد اذانا نتنه فقال عبداللّه بن رواحه واللّه ان بول حماره لاطيب من مسكك ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما وهما الاوس والخزرج فتجالدوا بالعصى وقيل بالايدى والنعال والسعف فرجع اليهم رسول له صلى اللّه عليه وسلم فاصلح بينهم ونزلت وجمع اقتتلوا حملا على المعنى لان الطائفتين في معنى القوم والناس وثنى في فاصلحوا بينهما نظر الى اللفظ

{فإن بغت إحداهما على الأخرى} البغى الاستطالة والظلم واباء الصلح

{فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء} اى ترجع والفىء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لان الظل يرجع بعد نسخ الشمس والغنيمة ما يرجع من اموال الكفار الى المسلمين وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فاذا كفت وقبضت عن الحرب ايديها تركت

{إلى أمر اللّه} المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء

{فإن فاءت} عن البغى الى امر اللّه

{فأصلحوا بينهما بالعدل} بالانصاف

{وأقسطوا} واعدلوا وهو امر استعمال القسط على طريق العموم بعد ما امر به في اصلاح ذات البين

{إن اللّه يحب المقسطين} العادلين والقسط الجور والقسط العدل والفعل منه اقسط وهمزته للسلب اى زال القسط وهو الجوار

١٠

{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} هذا تقرير لما الزمه من تولى الاصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين وبيان ان الايمان قد عقد بين اهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما ان لم يفضل الاخوة لم ينقص عنها ثم قد جرت العادة على انه اذا نشب مثل ذلك بين الاخوين ولا الزم السائر ان يتناهضوا في رفعه وازاحته بالصلح بينهما فالاخوة في الدين احق

{واتقوا اللّه لعلكم ترحمون} بذلك اخوتكم يعقوب

{واتقوا اللّه لعلكم ترحمون} اى واتقوا اللّه فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة اللّه اليكم مرجوا والآية تدل على ان البغى لا يزيل اسم الايمان لانه سماهم مؤمنين مع وجود البغى

١١

{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} القوم الرجال خاصة لانهم القوام بامور النساء قال اللّه تعالى الرجال قوامون على النساء وهو في الاصل جمع فائم كصوم وزورق في جمع صائم وزائر واختصاص القوم بالرجال صريح الآية اذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله

وما أدرى ولست اخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء

واما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والاناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الاناث لأتهن توابع لرجالهن وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين ان يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض وان يقصد افادة الشياع وان يصير كل جماعة منهم منهية من السخرية وانما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد اعلاما باقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعا للشان الذى كانوا عليه وقوله عسى ان يكونوا خيرا منهم كلام مستأنف ورد مورد جوبا المستخير عن علة النهى والا فقد كان حقه ان يوصل بما قبله بالفاء والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد ان المسخور منه ربما كان عند اللّه خيرا من الساخر اذ لا اطلاع للناس الا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر والذى يزن عند اللّه خلوص الضمائر فينبغى ان لا يجترىء احد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه اذ رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته فلعله اخلص ضميرا واتقى قلبا ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره اللّه تعالى وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلت لخشيت ان احول كلبا

{ولا تلمزوا أنفسكم} ولا تطعنوا اهل دينكم واللمز الطعن والضرب باللسان ولا تلمزوا يعقوب وسهل والمؤمنون كنفس واحدة فاذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه وقيل معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة

{ولا تنابزوا بالألقاب} التنابز بالألقاب التداعى بها والنبز لقب السوء والتقليب المنهى عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له فاما ما يحبه فلا بأس به وروى ان قوما من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت وعن عائشة رضى اللّه عنها انها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة وعن انس رضى اللّه عنه عيرت نساء النبى صلى اللّه عليه وسلم ام سلمة

{بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} بالقصر وروى انها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسمع فاتى يوما وهو يقول تفسحوا حتى انتهى الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لرجل تنح فلم يفعل فقال من هذا فقال الرجل انا فلان فقال بل انت ابن فلانه يريد اما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت لا افخر على احد في الحسب بعدها ابدا

{بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم طار اسمه في الناس بالكرام أو باللؤم وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كانه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم ان يذكروا بالفسق وقوله بعد الايمان استقباح للجمع بين الايمان وبين الفسق الذى يخطره الايمان كما تقول بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة وقيل كان في شتائمهم لمن اسلم من اليهود يا يهودى يا فاسق فنهو عنه وقيل لهم بئس الذكر ان تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد ايمانه

{ومن لم يتب} عما نهى عنه

{فأولئك هم الظالمون} وحد وجمع للفظ من ومعناه

١٢

{يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن} يقال جنبه الشر اذا ابعده عنه وحقيقته جعله في جانب فيعدى الى مفعولين قال اللّه تعالى واجنبنى وبنى ان نعبد الاصنام ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولا والمامور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة الا ترى الى قوله

{إن بعض الظن إثم} قال الزجاج هو ظنك باهل الخير سوء فاما اهل الفسق فلما ان نظن فيهم مثل الذى ظهر منهم أو معناه اجتنابا كثيرا أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض والاثم الذنب الذى يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الآثام فعال منه كالنكال والعذاب

{ولا تجسسوا} اى لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم يقال تجسس الامر اذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس وعن مجاهد خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر اللّه وقال سهل لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره اللّه على عباده

{ولا يغتب بعضكم بعضا} الغيبه الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهى من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال وفي الحديث هو ان تذكر اخاك بما يكره فان كان فيه فهو غيبه والا فهو بهتان وعن ابن عباس الغيبة ادام كلاب الناس

{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} ميتا مدنى وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على افحش وجه وفيه مبالغات منها الاستفهام الذى معناه التقرير ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة وصولا بالمحبة ومنها اسناد الفعل الى احدكم والاشعار بان احدا من الاحدين لا يحب ذلك ومنها ان لم يقتصر على تمثيل الاغتياب باكل لحم الانسان حتى جعل الانسان اخا ومنها ان لم يقتصر عل لحم الاخ حتى جعل ميتا وعن قتادة كما تكره إن وجدت جيفة مدودة ان تاكل منها كذلك فاكره لحم اخيك وهو حى وانتصب ميتا على الحال من اللحم

{فكرهتموه واتقوا اللّه إن اللّه تواب رحيم} أو من اخيه ولما قررهم بان احدا منهم لا يحب اكل جيفة اخيه عقب ذلك بقوله

{فكرهتموه} اى فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق ان تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الذين

{واتقوا اللّه إن اللّه تواب رحيم} التواب البليغ في قبول التوبة والمعنى واتقوا اللّه بترك ما امرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فانكم ان اتقيتم تقبل اللّه توبتكم وانعم عليكم بثواب المتقين التائبين وروى ان سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوى لهما طعامهما فنام عن شأنه يوما فبعثاه الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبغى لهما اداما وكان أسامة على طعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما عندى شىء فأخبرهما سلمان فقالا لو بعثناه الى بئر سميحة لغار ماؤها فلما جاء الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لهما مالى أرى خضرة اللحم في افواهكما فقالا ما تناولنا لحما قال انكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلما فقد اكل لحمه ثم قرأ الآية وقيل غيبة الخلق انما تكون من الغيبة عن الحق

١٣

{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} من آدم وحواء أو كل واحد منكم من اب وام فما منكم من احد الا وهو يدلى بمثل ما يدلى به الاخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب

{وجعلناكم شعوبا وقبائل} الشعب الطبقة الاولى من الطبقات الست التى عليها العرب وهى الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن تجمع الافخاذ والفخذ تجمع الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسمت الشعوب لان القبائل تشعبت منها

{لتعارفوا} اى انما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعترى الى غير آبائه لا ان تتفاخروا بالآباء والاجداد وتدعوا التفاضل في الانساب ثم بين الخصلة التي يفضل بها الانسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند اللّه فقال

{إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم} في الحديث من سره ان يكون اكرم الناس فليتق اللّه عن ابن عباس رضى اللّه عنهما كرم الدنيا الغنى وكرم الاخرة التقوى وروى انه صلى اللّه عليه وسلم طاف يوم فتح مكه فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال الحمد للّه الذى اذهب عنكم غيبة الجاهليةوتكبرها يا أيها الناس انما الناس رجلان مؤمن تقى كريم على اللّه وفاجر شقى هين على اللّه ثم قرأ الآية وعن يزيد ابن شجرة مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاما اسود يقول من اشترانى فعلى شرط ان لا يمنعنى من الصلوات الخمس خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم توفى فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئا فنزلت

{إن اللّه عليم} كرم القلوب وتقواها

{خبير} بهمهم النفوس في هواها

١٤

{قالت الأعراب} اى بعض الاعراب لان من الاعراب من يؤمن باللّه واليوم الاخر وهم اعراب بنى اسد قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا

{آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه

{آمنا} اى ظاهر وباطنا

{قل} لهم يا محمد

{لم تؤمنوا} لم تصدقوا بقلوبكم

{ولكن قولوا أسلمنا} فالايمان هو التصديق والاسلام الدخول في السلم والخروج من ان يكون حربا للمؤمنين باظهار الشهادتين الا ترى الى قوله

{ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} فاعلم ان ما يكون من الاقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو اسلام وما واطا فيه القلب اللسان فهو ايمان وهذا من حيث اللغة واما في الشرع فالايمان والاسلام واحد لما عرف وفى لما معنى التوقع وهو دال على ان بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد والآية تنقض على الكرامية مذهبهم ان الايمان لا يكون بالقلب ولكن باللسان فان قلت مقتضى نظم الكلام ان قال قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا اسلمنا أو قل لم تؤمنوا ولكن اسلمتم قلت افاد هذا النظم تكذيب دعواهم اولا فقيل قل لم تؤمنوا مع ادب حسن فلم يقل كذبتم تصريحا ووضع لم تؤمنوا الذى هو نفى ما ادعوا اثباته موضعه واستغنى بقوله لم تؤمنوا عن ان يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان ان يخاطبوا بلفظ مؤداه النهى عن القول بالايمان ولم يقل ولكن اسلمتم ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك ولو قيل ولكن اسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به وليس قوله ولما يدخل الايمان في قلوبكم تكرير المعنى قول لم تؤمنوا فان فائدة قوله لم تؤمنوا تكذيب لدعواهم وقوله ولما يدخل الايمان في قلوبكم توقيت لما امروا به ان يقولوه كانه قيل لهم ولكن قولوا اسلمنا حين لم نثبت مواطأة قلوبكم لالسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قولوا

{وإن تطيعوا اللّه ورسوله} في السر بترك النفاق

{لا يلتكم} لا يألتكم بصرى

{من أعمالكم شيئا} اى لا ينقصكم من ثواب حسناتم شيئا الت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص

{إن اللّه غفور} يستر الذنوب

{رحيم} بهدايتهم للتوبة عن العيوب ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال

١٥

{إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله ثم لم يرتابوا} ارتاب مطاوع رابه إذا اوقعه في الشك مع التهمة والمعنى انهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدقوه ولما كان الايقان وزوال الريب ملاك الايمان أفرااد بالذكر بعد تقدم الايمان تنبيها على مكانه وعطف على الايمان بكلمة التراخى اشعار باستقراره في الازمنة المتراخية المتطاولة غضا جديد

{وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} يجوز ان يكون المجاهد منويا وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى وان يكون جاهد مبالغة في جهد ويجوز ان يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وان بناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة وان يتناول

اللّه الرحمن الرحيم

{ق والقرآن المجيد} {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من اعمال البر وخبرالمبتدا الذى هو المؤمنون

{أولئك هم الصادقون} اى الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب اعراب بنى اسد وهم الذين ايمانهم ايمان صدق وحق وقوله الذين آمنوا صفة لهم ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا انهم مخلصون فنزل

١٦

{قل أتعلمون اللّه بدينكم} اى اتخبرونه بتصديق قلوبكم

{واللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض واللّه بكل شيء عَلِيمٌ } من النفاق والاخلاص وغير ذلك

١٧

{يمنون عليك أن} اى بان

{أسلموا} يعنى باسلامهم والمن ذكر الايادى تعريضا للشكر

{قل لا تمنوا علي إسلامكم بل اللّه يمن عليكم} أي المنة للّه عليكم

{أن هداكم} بان هداكم أو لان

{للإيمان إن كنتم صادقين} ان صح زعمكم وصدقت دعواكم الا انكم تزعمون وتدعون ما اللّه عليم بخلافة وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ان كنتم صادقين في ادعائكم الايمان باللّه فللّه المنة عليكم وقرىء ان هداكم

١٨

{إن اللّه يعلم غيب السماوات والأرض واللّه بصير بما تعملون} وبالياء مكى وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعنى انه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفىعليه منه شىء فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم وهو علام الغيوب

﴿ ٠