تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة الممتحنة سورة الممتحنة مدنية وهي ثلاث عشرة آية بسم اللّه الرحمن الرحيم روى أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها أمسلمة جئت قالت لا قال أفمها جرة جئت قالت لاقال فما جاء بك قالت احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب ابن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعملوا أن رسول اللّه يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا وعمارا وعمرو وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرئد وكانوا فرسانا وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فان بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها فان ابت فاضربوا عنقها فادركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي واللّه ما كذبنا ولا كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسل سيفه وقال اخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأخرجه من مقاص شعرها وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم فاستحضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاطبا وقال ما حملك عليه فقال يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري فخشيت على أهلي فاردت أن اتخذ عندهم يدا وقد علمت أن اللّه ينزل عليهم بأسه وان كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه وقبل عذره فقال عمر رضي اللّه عنه دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى اللّه عليه وسلم ما يدريك يا عمر لعل اللّه قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي اللّه عنه فنزل _________________________________ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} عدى اتخذ إلى مفعوليه وهما عدوي وأولياء والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكنه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد وفيه دليل على أن الكبيرة لا نسلب اسم الايمان {تلقون} حال من الضمير في لا نتخذوا التقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين {إليهم بالمودة} أو متسأنف بعد وقف على التوبيخ والا لقاء عبارة عن إيصال المودة والافضاء بها اليهم والباء في المودة زائدة مؤكدة للتعدي كقوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف معناه تلقون اليهم اخبار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم {وقد كفروا} حال من لا تتخذوا أو من تلقون أي لا تتولهم أو توادونهم وهذه حالهم {بما جاءكم من الحق} دين الاسلام والقرآن {يخرجون الرسول وإياكم} استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من كفروا {أن تؤمنوا} تعليل ليخرجون أي يخرجونكم من مكة لايمانكم {باللّه ربكم إن كنتم خرجتم} متعلق بلا تتخذوا أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي وقول النحويين في مثله وشرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه {جهادا في سبيلي} مصدر في موضع الحال أي ان كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي {وابتغاء مرضاتي} ومبتغين مرضاتي {تسرون إليهم بالمودة} أي تفضون اليهم بمودتكم سرا أو تسرون اليهم أسرار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الاخفاء والاعلان سيان في علمي وأن مطلع رسولي على ما تسرون {ومن يفعله} أي هذا الاسرار {منكم فقد ضل سواء السبيل} فقد أخطأ طريق الحق والصواب ٢{إن يثقفوكم} أن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يكونوا لكم أعداء} خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما انتم {ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} بالقتل والشتم {وودوا لو تكفرون} وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فاذا موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم والماضي وان كان يجري في باب اشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني انهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الانفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها لعلهم أن الذين أعز عليكم من ارواحكم لأنكم بذالون هادونه والعدو أهم شيء عنده انيقصد اهم شيء عند صاحبه ٣{لن تنفعكم أرحامكم} قراباتكم {ولا أولادكم} الذين توالون الكفار من اجلهم وتتقربن اليهم محاماة عليم ثا قال {يوم القيامة يفصل بينكم} وبين اقاربكم وأولادكم يوم يفر المرء من أخيه الآية فما لكم ترفضون حق اللّه مراعاة لحتى من يفر منكم غدا يفصل عاصم يفصل حمزة وعلي والقائل هو اللّه عز وجل يفضل ابن ذكوان غيرهم يفصل {واللّه بما تعملون بصير} فيجازيكم على أعمالكم ٤{قد كانت لكم أسوة} قدوة في التبرئ من الأهل {حسنة في إبراهيم} أي في اقواله ولهذا استثنى منها إلى قول إبراهيم {والذين معه} من المؤمنين وقيل كانوا أنبياء {إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} جمع برئ كظريف وظرفاء {ومما تعبدون من دون اللّه كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة} بالافعال {والبغضاء} بالقلوب {أبدا حتى تؤمنوا باللّه وحده} فحينئذ نترك عداوتك {إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} وذلك لموعدة وعدها إياه أي افتدوا به في أقواله ولا تاتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر {وما أملك لك من اللّه من شيء} أي من هداية ومغفرة وتوفيق وهذه الجملة لاتليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله قل فمن يملك لكم من اللّه شيئا ولكن المراد أستثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال استغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار {ربنا عليك توكلنا} متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة وقيل معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أر من اللّه للمؤمنين بأن يقولوه {وإليك أنبنا} أقبلنا {وإليك المصير} المرجع ٥{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب {واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} أي الغالب الحاكم ٦{لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر} ثم كرر الحث على الاثتساء بابراهيم عليه السلام وقومه تقريرا وتأكيدا عليهم وذا جاء به مصدرا بالقسم لأنه الغاية في التأكيد وأبدل من قوله لكم قوله لمن كان يرجو اللّه أي ثوابه أي يخشى اللّه وعقبه بقوله {ومن يتول} يعرض عن امرنا ويوال الكفار {فإن اللّه هو الغني} عن الخلق {الحميد} المستحق للحمد فلم يترك نوعا من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع اقربائهم من المشركين اطعمهم في تحول الحال إلى خلافه فقال ٧{عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم} أي من أهل مكة من أقربائكم {مودة} بان يوافقهم للايمان فلما يسر فتح مكة أظفرهم اللّه بأمنيتهم فأسمل قومهم وتم بينهم التحاب وعسى وعد من اللّه على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك وأريد به إطماع المؤمنين {واللّه قدير} على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة {واللّه غفور رحيم} لمن أسلم من المشركين ٨{لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} تكرموهم وتحسنوا اليهم قولا وفعلا ومحل أن تبرهم جر على البدل من الذين لم يقاتلوكم وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الدين {وتقسطوا إليهم} وتقضوا اليهم بالقسط ولا تظلموهم واذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم {إن اللّه يحب المقسطين ٩إنما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} هو بدل من الذين قاتلوكم لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء {ومن يتولهم} منكم {فأولئك هم الظالمون} حيث وضعوا التوالي غير موضعه ١٠{يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات} سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان {مهاجرات} نصب على الحال {فامتحنوهن} فابتلوهن بالنظر في الإمرات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن وعن ابن عباس امتحانها ان تقول أشهد ان لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه {اللّه أعلم بإيمانهن} منكم فانكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند اللّه حقيقة العلم به {فإن علمتموهن مؤمنات} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الامارت وتسمية الظن علما يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضى إليه القياس جار مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله ولا تقف ما ليس لك به علم {فلا ترجعوهن إلى الكفار} فلا تردوهن إلى ازواجهن المشركين {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} أي لا حل بين المؤمنة والمشكر لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة {وآتوهم ما أنفقوا} واعطوا ازواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمنا منهم فانزل اللّه هذه الآية الحكم الأول {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات {إذا آتيتموهن أجورهن} أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه على أن لا عدة على المهاجرة {ولا تمسكوا} ولا تمسكوا بصري {بعصم الكوافر} العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب الكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما من كانت له امرأة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه {واسألوا ما أنفقتم} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها {وليسألوا ما أنفقوا} من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا {ذلكم حكم اللّه} أي جميع ما ذكر في هذه الآية {يحكم بينكم} كلام مستأنف أو حال من حكم اللّه على حذف الضمير أي يحكم اللّه أو جعل الحكم حاكما على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم {واللّه عليم حكيم ١١وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار} وان انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي اللّه تعالى عنه أحد {فعاقبتم} فاصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} فاعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم وألحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة {واتقوا اللّه الذي أنتم به مؤمنون} وقيل هذا الحكم منسوخ أيضا ١٢{يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} هو حال {على أن لا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن} يرد وأد البنات {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} كانت المرا تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين {ولا يعصينك في معروف} طاعة اللّه ورسوله {فبايعهن واستغفر لهن اللّه} عما مضى {إن اللّه غفور} بتمحيق ما سلف {رحيم} بتوفيق ما ائتنف وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال اخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام أبايعكن على أن لا تشركن باللّه شيئا فبايع عمر النساء على أن لا يشركن باللّه شيئا فقال عليه السلام ولا يسرقن فقالت هند ان أبا سفيان رجل شحيح وأني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرفها فقال لها انك لهند قالت نعم فاعف عما سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة فقال ولا يقتلن أولادهن فقالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ولا يأتين ببهتان فقالت واللّه ان البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا الا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك في معروف فقالت واللّه ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر ١٣{يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب اللّه عليهم} ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون {قد يئسوا من الآخرة} من ثوابها لأنهم ينكرون البعث {كما يئس الكفار} أي يئسوا الا انه وضع الظاهر موضع الضمير {من أصحاب القبور} ان يرجعوا اليه أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم وقيل هم اليهود آي لا تتولوا قوما مغضوبا عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم يعلمون أنه الرسول في التوراة كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء وقيل من اصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم واللّه اعلم |
﴿ ٠ ﴾