تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة المنافقين

سورة المنافقين إحدى عشرة آية مدنية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول اللّه} أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم

{واللّه يعلم إنك لرسوله} أي واللّه يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم انك لرسول اللّه

{واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون} في ادعاء المواطأة أو انهم لكاذبون فيه لأنه اذا خلا عن الموطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة أو انهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول اللّه صلى اللّه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه

٢

{اتخذوا أيمانهم جنة} وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين

{فصدوا} الناس

{عن سبيل اللّه} عن الاسلام بالتنفير والقاء الشبه

{إنهم ساء ما كانوا يعملون} من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل اللّه وفي ساء معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين

٣

{ذلك} اشارة إلى قوله ساء ما كانوا يعملون أي ذلك القول الشاهدة عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا

{بأنهم} بسب أنهم

{آمنوا ثم كفروا} أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان وبالايمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثم كفروا ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم ان كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير ونحو ذلك أو نطقوا بالايمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالاسلام كقوله {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} الآية

{فطبع على قلوبهم} فختم عليها حتى لا يدخلها الايمان جزاء على نفاقهم

{فهم لا يفقهون} لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الايمان والخطاب في

٤

{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} لرسول اللّه أو لكل من

يخاطب

{وإن يقولوا تسمع لقولهم} كان ابن أبي رجلا جسيما صبيحا واضحا وقوم من المنافقين في مثل صفته فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم فيستندرون فيه ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم وموضع

{كأنهم خشب} رفع على هم كأنهم خشب أو هو كلام مستأنف لا محل له

{مسندة} إلى الحائط شبهوا في اسنادهم وما هم الا اجرام خالية عن الايمان والخير بالخشب المسندة على الحائط لان الخشب اذا انتفع به كان في سقف أو جمار أو غيرها من مظان الانتفاع وما دام متروكا غير منتفع به اسند على الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع أو لانهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام خشب أبو عمرو غير عباس وعلى جمع خشبة كبدنة وبدن وخشب كثمرة وثمر

{يحسبون كل صيحة عليهم} كل صيحة مفعول أول والمفعول الثاني عليهم وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني اذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة وانشدت ضالة ظنوه إبقاعا بهم ثم قال

{هم العدو} أي هم الكاملون في العدواة لان اعدى الاعداء العدو المداجي الذي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي

{فاحذرهم} ولا تغترر بظواهرهم

{قاتلهم اللّه} دعاء عليهم أو تعليم المؤمنين أو يدعوا عليهم بذلك

{أنى يؤفكون} كيف يعدلون عنالحق تعجبا من جهلهم وضلالتهم

٥

{وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لووا رؤوسهم} عطفوها وامالوها اعراضا عن ذلك واستكبارا الواوا بالتخفيف نافع

{ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} عن الاعتذار والاستغفار روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم ازدحم على الماء جهجاه ابن سعيد أجير لعمر وسنان الجهني حليف لابن ابي واقتتلا فصرخ جهجاه للمهاجرين وسنان يا للأنصار فأعان جهجاها من فقراء المهاجرين ولطم سنان فقال عبد اللّه الجعال وأنت هناك وقال ما صحبنا محمدا إلا لنلطم واللّه ما مثلنا ومثلما إلا كما قال سمن كلبك يأكلك وأما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال لقومه واللّه لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليه ينفضوا من حول محمد بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين فقال عبد اللّه اسكت فانما كنت ألعب فأخبر زيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عمر رضي اللّه عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول اللّه فقال اذن ترعد أنف كثيرة بيثرب قال فان كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارينا قال فكيف اذا تحد الناس

أن محمدا يقتل اصحابه وقال عليه الصلاة السلام لعبد اللّه أنت صاحب الكلام الذي بلغني قال واللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وان زيدا لكاذب فهو قوله اتخذوا أيمانهم جنة فقال الحاضرون يا رسول اللّه شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكن قد وهم فلما نزلت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزيد يا غلام ان اللّه قد صدقك وكذب المنافقين فلما بان كذب عبد اللّه قيل له نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستغفر لك فلوى راسه فقال امرتموني أن اؤمن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد فنزل واذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسو لاللّه ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات

٦

{سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم} أي ما داموا على النافق والمعنى سواء عليم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون اليه ولا يعتدون به لكفرهم أو لأن اللّه لا يغفر لهم وقرئ استغفرت على حذف حرف الاستفهام لأن أم المعادلة تدل عليه

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

٧

{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى تنفضوا} يتفرقوا

{وللّه خزائن السماوات والأرض} أي وله الأرزاق القسم فهو رازقهم نمها وان أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم

{ولكن المنافقين لا يفقهون} ولكن عبد اللّه وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان

٨

{يقولون لئن رجعنا} من غزوة بن المصطلق

{إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وللّه العزة} الغلبة والقوة

{ولرسوله وللمؤمنين} ولمن أعزه اللّه وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين وعن بعض الصالحات كانت في هيئة رثة ألست على الاسلام وه والعز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما أن رجلا قال له ان الناس يزعمون أن فيك تيها قال ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية

{ولكن المنافقين لا يعلمون}

٩

{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم} لا تشغلكم

{أموالكم} والتصرف فيها والسعي في تدبير امرها بالنماء وطلب التاج

{ولا أولادكم} وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم

{عن ذكر اللّه} أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن

{ومن يفعل ذلك}

يريد الشغل بالدنيا عن الدين وقيل من يشتغل بثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده

{فأولئك هم الخاسرون} في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني

١٠

{وأنفقوا من ما رزقناكم} من للتبعيض والمرد بالانفاق الواجب

{من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي من أن يرى قبل دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الامهال ويتعذر عليه الانفاق

{فيقول رب لولا أخرتني} هلا أخرت موتي

{إلى أجل قريب} إلى زمان قليل

{فأصدق} فأتصدق وهو جواب لولا

{وأكن من الصالحين} من المؤمنين والآية في المؤمنين وقيل في المنافقين وأكون أبو عمرو بالنصب عطفا على اللفظ والجزم على موضع فأصدق كأنه قيل إن أخرتني أصدق وأكن

١١

{ولن يؤخر اللّه نفسا} عن الموت

{إذا جاء أجلها} المكتوب في اللوح المحفوظ

{واللّه خبير بما تعملون} يعملون حماد ويحيى المعنى أنكم اذا علمتم أن تأخير الموت عو وقته مما لا سبيل اليه وانه هاجم لا محالة وان اللّه عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع احب وغيره لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء اللّه تعالى واللّه أعلم بالصواب

﴿ ٠