تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة التغابن

سورة التغابن ثماني عشرة آية مختلف فيها بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يسبح للّه ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد للّه عز وجل وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدئ كل شيء والقائم به وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة اللّه جرت على يده

٢

{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} أي فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ويدل عليه قوله

{واللّه بما تعملون بصير} أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين من عملكم والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل

النعم الذي هو الخلق والايجاد عن العدم وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين فما بالكم تفرقتم أمما فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين وقيل هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنك مؤمن به

٣

{خلق السماوات والأرض بالحق} بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعلموا فيجازيهم

{وصوركم فأحسن صوركم} أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الانسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب ومن كان دميم مشوه الصور سمج الخلقة فلا سماجة ثم ولكن الحسن على طقبات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن وقالت الحكماء شيآن لا غاية لهما الجمال والبيان

{وإليه المصير} فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم

٤

{يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون واللّه عليم بذات الصدور} نبه بعلمه ما في السموات والأرض ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه ثم بعلم بذات الصدور نبه بعلمه ما في السموات والأرض ثم بلعمه بما يسره العباد ويعلنونه ثم بعلمه بذات الصدور ان شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه فحقه ان يتقي ويحذرولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعد قوله فمنكم كافر ومنكم مؤمن في معنى الوعيد على الكفر وانكار ان يعصى الخالق ولا تشكر نعمته

٥

{ألم يأتكم} الخطاب لكفار مكة

{نبأ الذين كفروا من قبل} يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط

{فذاقوا وبال أمرهم} أي ذاقوا وبال كفرهم بالدنيا

{ولهم عذاب أليم} في العقبى

٦

{ذلك} اشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدلهم من العذاب في الآخر

{بأنه} بأن الشأن والحديث

{كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} بالمعجزات

{فقالوا أبشر يهدوننا} أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر

{فكفروا} بالرسل

{وتولوا} عن الايمان

{واستغنى اللّه} اطلق ليتناول كل شيء ومن حملته ايمانهم وطاعتهم

{واللّه غني} عن خلقه

{حميد} على صنعه

٧

{زعم الذين كفروا} أي أهل مكة والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم

{أن لن يبعثوا} أن مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا

{قل بلى} هو اثبات لما بعد لن وهو البعث

{وربي لتبعثن} أكد الاخبار باليمين فان قلت ما معنى اليمين على شيء أنكروه قلت هو جائز لأن التهدد به أعظ وقعا في اقلب فكانه قيل

لهم ما تنكرونه كائن لا محالة

{ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك} البعث

{على اللّه يسير} هين

٨

{فآمنوا باللّه ورسوله} محمد صلى اللّه عليه وسلم

{والنور الذي أنزلنا} يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدى به كما بالنور

{واللّه بما تعملون خبير} ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون

٩

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ

{ذلك يوم التغابن} وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ونزول الاشقياء منازل التي كانوا ينزلوها لو كانوا أشقياء كما ورد في الحديث ومعنى ذلك يوم التغابن وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وان تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا

{ومن يؤمن باللّه ويعمل صالحا} صفة للمصدر أي عملا صالحا

{يكفر عنه سيئاته ويدخله} وبالنون فيهما مدني وشامي

{جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}

١٠

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير

١١

{ما أصاب من مصيبة} شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي هما

{إلا بإذن اللّه} بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه

{ومن يؤمن باللّه يهد قلبه} للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول غنا للّه وإنا اليه راجعون أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأ لم يكن ليصبه وعن مجاهد أن ابتلى صبروا وان اعطى شكر وان ظلم غفر

{واللّه بكل شيء عليم

١٢

وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فإن توليتم} عن طاعة اللّه وطاعة رسوله

{فإنما على رسولنا البلاغ المبين} أي فعليه التبلغي وقد فعل

١٣

{اللّه لا إله إلا هو وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} بعث لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على التوكل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنها

١٤

{يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم} أي ان من الأزواج ازواجا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ومن الأولاد اولادا يعادون آباءهم ويقعونهم

{فاحذروهم} الضمير للعدوا أي للأزواج والأولاد جميعا أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدو فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم

{وأن تعفوا} عنهما اذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها

{وتصفحوا} تعرضوا عن التوبيخ

{وتغفروا} تستروا ذنوبهم

{فإن اللّه غفور رحيم} يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنمك سيئاتكم قيل إن ناسا أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم ازواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا فلما هاجروا بعد ذلك ورأو الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو

١٥

{أنما أموالكم وأولادكم فتنة} بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الاثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما

{واللّه عنده أجر عظيم} أي في الآخرة وذلك أعظم من مفعتكم بأموالكم وأولادكم ولم يدخل فيه من كما في العداوة لأن الكل لا يخلو ع نالفتنة وشغل القلب وقد يخلوا بعضهم عن العداوة

١٦

{فاتقوا اللّه ما استطعتم} جهدكم ووسعكم قيل هو تفسير لقوله حق تقاته

{واسمعوا} ما توعظون به

{وأطيعوا} فيما تؤمرون وتنهون عنه

{وأنفقوا} في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها

{خيرا لأنفسكم} أي إتفاقا خيرا لأنفسكم وقال الكسائي يكن الاتفاق خيرا لأنفسكم والاصح تقديره ائتوا خيرا لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا

{ومن يوق شح نفسه} أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة

{فأولئك هم المفلحون

١٧

إن تقرضوا اللّه قرضا حسنا} بنية وإخلاس وذكر القرض تلطف في الاستدعاء

{يضاعفه لكم} يكتب لكم بالوحدة عشرا أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة

{ويغفر لكم واللّه شكور} يقبل القليل ويعطي الجزيل

{حليم} يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقبوة لمانعها

١٨

{عالم الغيب} أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب

{والشهادة} أي ما انتشر من ظواهر الخطوب

{العزيز} المعز باظهار السيوب

{الحكيم} في الأخبار عن الغيبوب واللّه اعلم

﴿ ٠