تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية وهي اثنتا عشرة آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} خص النبي صلى اللّه عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام امته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا ظهار لتقدمه واعتبارا لترؤسه وانه قدوة قومنه فكان هو وحده في حكم كلهم وسادا مسد جميعهم وقيل التقدير يا أيها النبي والمؤمنون ومعنى اذا طلقتم النساء إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الاسر المشراف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام: من قتل قتيلا فله سلبه ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي

{فطلقوهن لعدتهن} فطلقوهن مستقبلات لعدتهن وفي قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قبل عدتهن واذا طلقت المرأة فيالطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها والمراد ان تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعن فيه ثم يخلين حتى تنقضي عدتهه وهذا احسن الطلاق

{وأحصوا العدة} واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لانقصان فيهن وخوطب الازواج لغفلة النساء

{واتقوا اللّه ربكم لا تخرجوهن} حتى تنقضي عدتهن

{من بيوتهن} من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الازواج واضيف اليهن لاختصاصها بهن من حيث المسكن وفيه دليل على ان السكنى واجبة وان الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير سلك ثابت فيما اذا حلف لا يدخل داره ومعنى الاخراج ان لا يخرجهن البعولة غضبا عليهم وكراهة لمسا كنتهن أو لحاجة الا المساكن وان لا يأذنوا الهن في الخروج اذا طلبن ذلك إيذانا بأن اذنهم لا أثر له في رفع الحظر

{ولا يخرجن} بأنفسهن ان اردن ذلك

{إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} قيل هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لاقامة الحد عليهن وقيل خروجاه قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه

{وتلك حدود اللّه} أي الاحكام المذكورة

{ومن يتعد حدود اللّه فقد ظلم نفسه لا تدري} أيها المخاطب

{لعل اللّه يحدث بعد ذلك أمرا} بأن يقلب قلبه من بغضه إلى محبتها ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ومن عزيمة الطلاق إلى الندم إليه فيراجعها والمعنى فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلك تندمون فتراجعون

٢

{فإذا بلغن أجلهن} قاربن آخر العدة

{فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}

أي فأنتم بالخيار ان شئنم فالرجعة والامساك بالمعروف والاحسان وان شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهوان يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلا للعد علهيا وتعذيبا لها

{وأشهدوا} يعني عند الرجعة والفرقة جميعا وهذا الاشهاد مندوب اليه لئلا يقع بينهما التجاحد

{ذوي عدل منكم} من المسلمين

{وأقيموا الشهادة للّه} لوجهه خالصا وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر

{ذلكم} الحث على إقامة الشهادة لوجه اللّه ولاجل القيام بالقسط

{يوعظ به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر} أي انما ينتفع به هؤلاء

{ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا} هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من اجراء أمر الطلاق على السنة والمعنى ومن يتق اللّه فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتط فأشده يجعل اللّه له مخرجا مما في شأن الازواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص

٣

{ويرزقه من حيث لا يحتسب} من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله ذلك يوعظ به أي ومن يتق اللّه يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة

وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأها فقال: مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات المت ومن شدائد يوم القيامة

وقال صلى اللّه عليه وسلم: إني لأعلم آية لو اخذ الناس بهم لكفتهم ومن يتق اللّه

فما زال يقرؤها ويعيدها وروى أن عرف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أسر ابني وشكا اليه الفاقة فقال:

ما أمسى عند آل محمد الامد فاتق اللّه واصبرو وأكثر من قول لا حول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم فعاد الى بيته وقال لامرأته ان رسول اللّه أمرني واياك ان نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم

فقالت نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك فبينما هو في بيته أذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الابل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية

{ومن يتوكل على اللّه} يكل أمره اليه عن طمع غيره وتدبير نفسه

{فهو حسبه} كافيه من الدارين

{إن اللّه بالغ أمره} حفص أي منفذ أمره غيره بالغ أمره أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب

{قد جعل اللّه لكل شيء قدرا} تقديرا وتوقيتا وهذا بيان لوجوب التوكل على اللّه وتفويض الامر اليه لانه اذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون الا بتقديره وتوقيته ولم يتق الا التسليم للقدر والتوكل

٤

{واللائي يئسن من المحيض من نسائكم} روى ان ناسا قالوا قد عرفنا عدة ذوات الاقراء فما عدة اللائي لم يحضن فنزلت

{إن ارتبتم} أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن

{فعدتهن ثلاثة أشهر} أي فهذا حكمهن وقيل ان ارتبتم في دم البالغات مبلغ الياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أن استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر واذا

كانت هه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك

{واللائي لم يحضن} هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها

{وأولات الأحمال أجلهن} عدتهن

{أن يضعن حملهن} والنص يتناول المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وعن علي وابن عباس رضي اللّه عنهما عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين

{ومن يتق اللّه يجعل له من أمره يسرا} ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى

٥

{ذلك أمر اللّه} أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات

{أنزله إليكم} من اللوح المحفوظ

{ومن يتق اللّه} في العمر بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه

{يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} ثم بين التقوى في قوله ومن يتق اللّه كأنه قيل كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات فقيل

٦

{أسكنوهن} وكذا وكذا

{من حيث سكنتم} هي من التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم أب بعض مكان سكناكم

{من وجدكم} هو عطف بيان لقوه من حيث سكنتم وتفسير له كانه قيل اسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه والوجد الوسع والطاقة وقرئ بالحركات الثلاث والمشهور الضم النفقة والسكن واجبتان لكل مطلقة وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لا سكنى لك ولا نفقة وعن عمر رضي اللّه عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة

{ولا تضاروهن} ولا تستعملوا معهن الضرار

{لتضيقوا عليهن} في المسكن بعض الأسباب من انزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج

{وإن كن} أي المطلقات

{أولات حمل} ذوات أحمال

{فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} وفائدة اشتراط الحمل ان مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم

{فإن أرضعن لكم} يعني هؤلاء المطلقات ان ارضعن لكم ولدا من ظئرهن أو منهن بعد

انقطاع عصمة الزوجية

{فآتوهن أجورهن} فحكمهن في ذلك حكم الاظآر ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن مالم يبن خلافا للشافعي رحمه اللّه وائتمروا بينكم أي تشاوروا على التراضي في الأجرة أو ليأمر بعضكم بعضا أو الخطاب للآباء والأمهات

{بمعروف} بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الاشفاق عليه

{وإن تعاسرتم} تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الاب على ذلك

{فسترضع له أخرى} ولا تعود مرضعة غير الأم ترضعه وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاشرة وقوله له أي للاب أي سيجد الاب غير معاشرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه

٧

{لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللّه} أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد ما أمر به من الانفاق على المطلقات والمرضعات ومعنى قدر عليه رزقه ضيق أي رزقه اللّه على قدر قوته

{لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها} أعطاها من الرزق

{سيجعل اللّه بعد عسر يسرا} بعد ضيق في المعيشة سعة وهذا وعد لذي العسر باليسر

٨

{وكأين من قرية} من أهل قرية

{عتت} أي عصت

{عن أمر ربها ورسله} أعرضت عنه على وجه العتو والعناد

{فحاسبناها حسابا شديدا} بالاستقصاء والمناقشة

{وعذبناها عذابا نكرا} نكرا مدني وأبو بكر منكرا عظيما

٩

{فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا} أي خسارا وهلاكا والمراد حساب الآخرة وعذابها وما يذقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر وجئ به على الفظ الماضي لان المنتظر من وعد اللّه ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكان قد

١٠

{أعد اللّه لهم عذابا شديدا} تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبا كأنه قال أعد اللّه لهم هذا العذاب

{فاتقوا اللّه يا أولي الألباب الذين آمنوا} فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين لطفا في تقوى اللّه وحذر عقابه ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا وإثباتها في صحائف الحفظة وما اصيبوا به من العذاب في العاجل وأن يكون عتت وما عطف عليه صفة للقرية وأعد اللّه لهم جوابا لكأين

{قد أنزل اللّه إليكم ذكرا} أي القرآن وانتصب

١١

{رسولا} بفعل مضمر تقديره أرسل رسولا أو بدل من ذكرا كأنه في نفسه ذكرا وعلى تقدير حذف المظاف أي قد أنزل اللّه اليكم ذا ذكر رسولا أو أريد بالذكر الشرف كقوله وإنه لذكر لك ولقومك أي فاشرف ومجد عند اللّه وبالرسول جبريل أو محمد عليهما السلام

{يتلو} أي الرسول واللّه عز وجل

{عليكم آيات اللّه مبينات ليخرج} اللّه

{الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الايمان والعمل الصالح أو ليخرج الذين علم أنهم يؤمنون

{من الظلمات إلى النور} من ظلمات الكفر أو الجهل إلى نور الإيمان أو العلم

{ومن يؤمن باللّه ويعمل صالحا يدخله} وبالنون مدني وشامي

{جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} وحد وجمع حملا على لفظ من ومعناه

{قد أحسن اللّه له رزقا} فيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب

١٢

{اللّه الذي خلق} مبتدأ وخبر

{سبع سماوات} اجمع المفسرون على أن السموات سبع

{ومن الأرض مثلهن} بالنصب عطفا على سبع سموات قيل ما في القرآن آية تدل على أن الارضين سبع إلا هذه الآية وبين كل سماءين مسيرةخمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك والأرضون مثل السموات وقيل الأرض واحدة إلا أن ألاقاليم سبعة

{يتنزل الأمر بينهن} أي يجري امر اللّه وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن

{لتعلموا أن اللّه على كل شيء قدير} اللام يتعلق بخلق

{وأن اللّه قد أحاط بكل شيء علما} هو تمييز أو مصدر من غير لفظ الأول أي قد علم كل شيء علما وهو عالم الغيوب

﴿ ٠