تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية وهي اثنتا عشرة آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك} روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلا بمارية في عائشة رضي اللّه عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي على وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال راجعها فانها صوامة وإنها لمن نسائك في الجنة وروى أنه

شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالنا له إنا نشم منك ريح المغافير وكان يكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النقل فحرم العسل فمعناه تحرم ما أحل اللّه لك من ملك اليمين أو من العسل

{تبتغي مرضات أزواجك} تفسير لتحرم أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لانه ليس لأحد أن يحرم ما أحل اللّه

{واللّه غفور} قد غفر لك ما زللت فيه

{رحيم} قد رحمك فلم يؤاخذك به

٢

{قد فرض اللّه لكم تحلة أيمانكم} قد قدر اللّه لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة أو شرع اللّه لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك ان يقول إن شاء اللّه عقيبها حتى لا يحنث وتحريم الحلال يمين عندنا وعن مقاتل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتق رقبة في تحريم مارية وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين

{واللّه مولاكم} سيدكم ومتولي أموركم وقيل مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لم من نصائحكم أنفسكم

{وهو العليم} بما يصلحكم فيشرعه لكم

{الحكيم} فيما أحل وحرم

٣

{وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه} يعني حفصة

{حديثا} حديث مارية وإمامة الشيخين

{فلما نبأت به} أفشته إلى عائشة رضي اللّه عنها

{وأظهره اللّه عليه} واطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم على إفشائها لحديث على لسان جبريل عليها السلام

{عرف بعضه} اعلم ببعض الحديث

{وأعرض عن بعض} فلم يخبر به تكرما قال على لسان جبريل عليه السلام

{عرف بعضه} اعلم ببعض الحديث

{وأعرض عن بعض} فلم يخبر به تكرما قال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام عرف بالتخفيف على أي جازي عليه من قولك الشيء لأعرفن لك ذلك وقيل المعروف حديث الامامة والمعرض عنه حديث مارية وروى أنه قال لما ألم أقل لكم أكتمي على قالت والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خص اللّه بها أباها

{فلما نبأها به} نبأ لنبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة

{قالت} حفصة النبي صلى اللّه عليه وسلم

{من أنبأك هذا قال نبأني العليم} بالسرائر

{الخبير} بالضمائر

٤

{إن تتوبا إلى اللّه} خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ ي معاتبتهما وجواب الشرط محذوف والتقدير أن تتوبا إلى اللّه فهو الواجب ودل على المحذوف

{فقد صغت} مالت

{قلوبكما} عن الواجب في مخالصة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه

{وإن تظاهرا عليه} بالتخفيف كوفي وان تعاونا عليه بما يسوءه من الافراط في الغيرة وافشاء سره

{فإن اللّه هو مولاه} وليه وناصره وزيادة إيذان بانه يتولى ذلك بذاته

{وجبريل} أيضا وليه

{وصالح المؤمنين}

ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحا وقيل من برئ من النفاق وقيل الصحابة وقبل واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس وقيل اصله صالحوا المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ

{والملائكة} على تكاثر عددهم

{بعد ذلك} بعد نصرة اللّه وجبريل وصالحي المؤمنين

{ظهير} فوج مظاهر له فما يبلغ بعد ذلك تعظيما لنصرتهم ومظاهرتهم

٥

{عسى ربه إن طلقكن أن يبدله} يبدله مني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة

{أزواجا خيرا منكن} فان قلت كيف تكون المبدلات خيرا منها ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين قلت إذا طلقهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لايذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهم من الموصوفات بهذه الأوصاف

{خيرا منكن مسلمات مؤمنات} مقرات مخلصات

{قانتات} مطيعا فالقنوت هو القيام بطاعة اللّه وطاعة اللّه في طاعة رسوله

{تائبات} من الذنوب أو راجعات إلى اللّه وإلى أمر رسوله

{عابدات} للّه

{سائحات} مهاجرات أو صائمات وقيل للصائم سائح لأن سائح لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في أمساكه إلى ان يجئ وقت إفطاره

{ثيبات وأبكارا} إنما وسط العاطف بين الثيبات والابكاردون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات

٦

{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم} بترك المعاصي وفعل الطاعات

{وأهليكم} بان تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم

{نارا وقودها الناس والحجارة} نوعا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب

{عليها} بلى أمرها وتعذيب أهلها

{ملائكة} يعني الزبانية التسعة عشر واعوانهم

{غلاظ شداد} في اجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال

{لا يعصون اللّه} في موضع الرفع على النعت

{ما أمرهم} في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر اللّه أي أمره كقوله افعصيت أمري أولا يعصونه فيما أمرهم

{ويفعلون ما يؤمرون} وليست الجملتان في معنى واحد إذ معنى الأولى انهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عليه ولا يتوانون فيه

٧

{يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون} في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم أو لانه لا ينفعكم الاعتذار

٨

{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى اللّه توبة نصوحا}

صادقة عن الاخفش رحمه اللّه وقيل خاصلة يقال عسل ناصح إذا خلص من الشمع وقيل نصوحا من نصاحة الثوب أي توبة ترفوا خروقك في دينك وترم خللك ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها وبضم النون حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أن تنصح نصوحا وجاء مرفوعا أن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع وعن حذيفة بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم لا ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع وعن حذيفة بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب يعود فيه وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما هي الاستغفار وباللسان والندم بالجنان والاقلاع بالأركان

{عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} هذا على ما جرت به عادة الملوك من الاجابة بعسى ولعل ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت

{ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار} ونصب

{يوم} يدخلكم

{لا يخزي اللّه النبي والذين آمنوا معه} فيه تعريض بمن أخزاهم اللّه من أهل الكفر

{نورهم} مبتدأ

{يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} في موضع الخبر

{يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين

{واغفر لنا إنك على كل شيء قدير

٩

يا أيها النبي جاهد الكفار} بالسيف

{والمنافقين} بالقول الغليظ والوعد البليغ وقيل باقامة الحدود عليها

{واغلظ عليهم} على الفريقين فيما نجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان

{ومأواهم جهنم وبئس المصير}

١٠

{ضرب اللّه مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللّه شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} مثل اللّه عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة ولا بنفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبين من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بافشاء أسرارهما فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج اغناء ما من عذاب اللّه وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء أو مع داخليها من اخوانكما من قوم نوح وقوم لوط

١١

{وضرب اللّه مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون}

هي آسيه بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الاربعة

{إذ قالت} وهي تعذب

{رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك

{ونجني من فرعون وعمله} أي منعمل فرعون أو من نفس فرعو الخبيثة وخصوصا من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جزم

{ونجني من القوم الظالمين} من القبط كلهم وفيه دليل على أن الاستعاذة باللّه والالتجاء اليه ومسئلة الخلاص عند المحن والنوازل من سير الصالحين

١٢

{ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها} من الرجال

{فنفخنا} فنفخ جبريل بأمرنا

{فيه} في الفرج

{من روحنا} المخلوقة لنا

{وصدقت بكلمات ربها} أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره

{وكتبه} بصرى وحفص يعني الكتب الأربعة

{وكانت من القانتين} لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على أناثه ومن للبعيض ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على انها ولدت من الفائتين لأنها من أعقاب هرون أخي موسى عليهما السلام ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم لا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند اللّه بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند اللّه مع كونها زوجة أعدى اعداء اللّه ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفارا وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه إشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وان لا يتكلا على أنهما زوجا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

﴿ ٠