تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م) _________________________________سورة الملك سورة الملك مكية وهي ثلاثون آية وتسمى الوقعية والمنجية لأنها تقي قارئها من عذاب القبر وجاء مرفوعا: من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {تبارك} تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين {الذي بيده الملك} أي بتصرفه الملك والاستيلاء عل كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء {وهو على كل شيء} من المقدورات أو من الأنعام والانتقام {قدير} قادر على الكمال ٢{الذي خلق الموت} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله {والحياة} أي ما يصح بوجوده الاحساس والموت ضده ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيه المكلفون {ليبلوكم} ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم {أيكم} مبتدأ وخبره {أحسن عملا} أي اخلصه وأصوبه فالخالص أن يكون لوجه اللّه والصواب أن يكون على السنة والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وسلط عليمك الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه الا البعث والجزاء الذي لا بد منه وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله {وهو العزيز} أي الغالب الذي لا يعجزه من اساء العمل {الغفور} الستور الذي لا ييأس منه أهل الاساءة والزلل ٣{الذي خلق سبع سماوات طباقا} مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقا على طبق وهذا وصف بالمصدر أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقا وقيل جمع طبق كجمل وجمال الخطاب في {ما ترى في خلق الرحمن} للرسول أو لكل مخاطب {من تفاوت} تفوت حمزة وعلى ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب وعن السدي من عيب وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه وهذه الجملة صفة لطباقا واصلها ما ترى فيهن من تفاوت وهو انه خلق الرحمن وانه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب {فارجع البصر} رده إلى السماء حتى يصح عندك ما اخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه {هل ترى من فطور} صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق ٤{ثم ارجع البصر كرتين} كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى وقيل سوى الأولى فتكون ثلاث مرات وقيل لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خلا أو عيبا وجواب الأمر {ينقلب} يرجع {إليك البصر خاسئا} ذليلا أو بعيدا مما تريد وهو حال من البصر {وهو حسير} كايل معي ولم ير فيها خللا ٥{ولقد زينا السماء الدنيا} القربى أي السماء الدنيا منكم {بمصابيح} بكواكب مضيئة كاضاءة الصبح والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب الناس يزينون مساجدهم ودورهم بايقاد المصابيح ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي باي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة {وجعلناها رجوما للشياطين} أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات قال قتادة خلق اللّه النجوم لثلاث زينة الساء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف مالا علم له به والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به ومعنى كونها رجوما للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قيس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها {وأعتدنا لهم} للشياطين {عذاب السعير} في الآخرة بعد الاحراق بالشهب في الدنيا ٦{وللذين كفروا بربهم} ولكل من كفر باللّه من الشياطين وغيرهم {عذاب جهنم} ليس الشياطين المرجومون مخصوصين بذلك {وبئس المصير} المرجع جهنم ٧{إذا ألقوا فيها} طرحوا في جنهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سمعوا لها} لجهنم {شهيقا} صوتا منكرا كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق {وهي تفور} تغلي بهم غليان المرجل بما فيه ٨{تكاد تميز} أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق {من الغيظ} على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم {كلما ألقي فيها فوج} جماعة من الكفار {سألهم خزنتها} مالك واعوانه من الزبانية توبيخا لهم {ألم يأتكم نذير} رسول يخوفكم من هذا العذاب ٩{قالوا بلى قد جاءنا نذير} اعتراف منهم بعدل اللّه واقرارا بأنه تعالى أزاح عللّهم ببعث الرسل وانذارهم ما وقعوا فيه {فكذبنا} أي فكذبناهم {وقلنا ما نزل اللّه من شيء} مما تقولون من وعد ووعيد وغير ذلك {إن أنتم إلا في ضلال كبير} أي قال الكفار للمنذرين ما أنتم إلا في خطأ عظيم فالنذير بمعنى الإنذار ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الانذار كانهم ليسوا إلا انذارا وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار على إرادة القول ومرادهم بالضلال بالهلاك أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله ١٠{وقالوا لو كنا نسمع} الانذار سماع طالب الحق {أو نعقل} أي نعقله عقل متأمل {ما كنا في أصحاب السعير} في جملة أهل النار وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وانهما حجتان ملزمتان ١١{فاعترفوا بذنبهم} بكفرهم في تكذيبهم الرسل {فسحقا لأصحاب السعير} وبضم الحاء يزيد وعلى فبعدا لهم عن رحمة اللّه وكرامته اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء ١٢{إن الذين يخشون ربهم بالغيب} قبل معاينة العذاب {لهم مغفرة} للذنوب {وأجر كبير} أي الجنة ١٣{وأسروا قولكم أو اجهروا به} ظاهره الامر بأحد الأمرين الاسرار والإجهار ومعناه وليستو عندكم أسراركم واجهاركم في علم اللّه بهما روى أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيخبره جبريل مما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت ثم عللت بقوله {إنه عليم بذات الصدور} أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به ١٤{ألا يعلم من خلق} من في موضع رفع بأنه فاعل يعلم {وهو اللطيف الخبير} انكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الاشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء وفيه اثبات خلق الأقوال فيكون دليلا على خلق أفعال العباد وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب من مفعول والفاعل مضمر وهو اللّه تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال ١٥{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا} لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها {فامشوا في مناكبها} جوابها استدلالا استرزاقا أو جبالها أو طرقها {وكلوا من رزقه} أي من رزق اللّه فيها {وإليه النشور} أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم ١٦{أأمنتم من في السماء} أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضايا وكتبه وأوامره ونواهيه فكانه قال أأمنتم خالق السماء وملكه أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وانه في السماء وان الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم أامنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان {أن يخسف بكم الأرض} كما خسف بقارون {فإذا هي تمور} تضطرب وتتحرك ١٧{أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا} حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا أن يخسف {فستعلمون كيف نذير} أي إذا رأيتم المنذر ربه علمتم كيف انذاري حين لا ينفعكم العلم ١٨{ولقد كذب الذين من قبلهم} من قبل قومك {فكيف كان نكير} أي انكاري عليهم إذا أهلكتهم ثم نبه على قدرته علىالخسف وإرسال الحاصب بقوله ١٩{أولم يروا إلى الطير} جمع طائر {فوقهم} في الهواء {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن {ويقبضن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن ويقبضن معطوف على اسم الفاعل حملا على المعنى أي يصففن ويقبضن أو صافات وقابضات واختيار هذا التركيب باعتبار أن اصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والهواء للطائر كالماء للسابح والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجئ بما هو طارئ بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح {ما يمسكهن} عن الوقوع عند القبض والبسط {إلا الرحمن} بقدرته وإلا فالثقيل طبعا حالا ولا يعلوا وكذا لو أمسك حفظه تدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك وما يمسكهن مستأنف وان جعل حالا من الضمير في يقبضن يجوز {إنه بكل شيء بصير} يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب ٢٠{آمن} مبتدأ خبره {هذا} ويدل من هذا {الذي هو جند لكم} ومحل {ينصركم من دون الرحمن} رفع نعت لجند محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير اللّه تعالى {إن الكافرون إلا في غرور} أي ماهم إلا في غرور ٢١{أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق فلما لم يتعظون اضرب عنهم فقال {بل لجوا} تمادوا {في عتو} استكبارا عن الحق {ونفور} وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه ثم ضرب مثلا للكافرين والمؤمنين فقال ٢٢{أفمن يمشي مكبا على وجهه} أي ساقطا على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفا وخير من {أهدى} أرشد وأكب مطاوع كبه يقال كببته فاكب {أم من يمشي سويا} مستويا منتصبا سالما من العثور والخرور {على صراط مستقيم} على طريق مستو وخبر من محذوف لدلالة اهدى عليه وعن الكلبي عني بالمكبأبو جهل وبالسوي النبي عليه السلام ٢٣{قل هو الذي أنشأكم} خلقكم ابتداء {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} خصها لأنها آلات العلم {قليلا ما تشكرون} هذه النعم لأنكم تشركون باللّه ولا تخلصون له العبادة والمعنى تشكرون شكرا قليلا وما زائدة وقيل القلة عبارة عن العدم ٢٤{قل هو الذي ذرأكم} خلقكم {في الأرض وإليه تحشرون} السحاب والجزاء ٢٥{ويقولون} أي الكافرون للمؤمنين استهزاء {متى هذا الوعد} التي تعدوننا به يعني العذاب {إن كنتم صادقين} في كونه فاعلمونا زمانه ٢٦{قل إنما العلم} أي علم وقت العذاب {عند اللّه وإنما أنا نذير} مخوف {مبين} أبين لكم الشرائع ٢٧{فلما رأوه} أي الوعد يعني العذاب الموعود {زلفة} قريبا منهم وانتصابها على الحال {سيئت وجوه الذين كفروا} أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها الفترة والسواد {وقيل هذا الذي} القائلون للزبانية {كنتم به تدعون} تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون اثتنا بما تعدنا أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب تدعون ٢٨{قل أرأيتم إن أهلكني اللّه} أي اماتني اللّه كقوله ان امرؤ هلك {ومن معي} من أصحابي {أو رحمنا} أو آخر في آجالنا {فمن يجير} ينجي {الكافرين من عذاب أليم} مؤلم كان كفار مكة يدعون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم نحن مؤمنون متربصون لاحدى الحسنيين اما ان نهلك كما نتمنون فنقلب إلى الجنة أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجوا فأنتم ما تصنعون من مجيركم وانتم كافرون من عذاب النار لا بد لكم منه ٢٩{قل هو الرحمن} أي الذي أدعوكم اليه الرحمن {آمنا به} صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم {وعليه توكلنا} فوضنا إليه امورنا {فستعلمون} اذا نزل بكم العذاب وبالياء على {من هو في ضلال مبين} نحن ام انتم ٣٠{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا} غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل {فمن يأتيكم بماء معين} جار يصل إليه من اراده وتليت عند ملحد فقال يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي وقيل انه محمد بن زكريا المتطبب زادنا اللّه بصيرة |
﴿ ٠ ﴾