تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الحاقة

سورة الحاقة احدى وخمسون آية مكية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{الحاقة} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجئ التي هي آتيه لا ريب فيها من حق بحق بالكسر أي وجب

٢

{ما الحاقة} مبتدأ وخبر وهما خبر الحاقة والأصل الحاقة ما هي أي شيء هي تفخيما لشأنها وتعظيما لهو لها أي سقها أن يستفهم عنها لعظمها فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل

٣

{وما أدراك} وأي شيء أعلمك

{ما الحاقة} يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين وما هي بالابتداء وإدراك الخبر والجملة بعه في موضع نصب لأنها مفعول ثان لأدري

٤

{كذبت ثمود وعاد بالقارعة}

أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من اسماء القيامة وسميت بها لأنها تقرع الناس بالافزاع والاهوال ولما ذكرها وفخمها اتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بهاوما حل بهم بسبب التكذيب تذكيرا لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم

٥

{فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة واختلف فيها فقيل الرجفة وقيل الصيحة وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم ولكن هذا لا يطابق قوله

٦

{وأما عاد فأهلكوا بريح} أي بالدبور لقوله صلى اللّه عليه وسلم نصرت بالصبا واهلكت عاد بالدبور

{صرصر} شديدة الصوت من الصرة الصيحة أبو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها

{عاتية} شديدة العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن اللّه غضبا على أعدا اللّه

٧

{سخرها} سلطها

{عليهم سبع ليال وثمانية أيام} وكان ابتداء العذاب يوم الاربعاء آخر الشهر إلى الاربعاء الآخرى

{حسوما} أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحسام في إعادة الكي على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم وجاز ان يكون مصدرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا

{فترى} أيها المخاطب

{القوم فيها} في مهابها أو في الليالي والأيام

{صرعى} حال جمع صريع

{كأنهم} حال أخرى

{أعجاز} أصول

{نخل} جمع نخلة

{خاوية} ساقطة أو بالية

٨

{فهل ترى لهم من باقية} من نفس باقية أومن بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان

٩

{وجاء فرعون ومن قبله} ومن تقدمه من الأمم ومن قبله بصرى وعلى أي ومن عنده من اتباعه

{والمؤتفكات} قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم

{بالخاطئة} أبو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم

١٠

{فعصوا} أي قوم لوط

{رسول ربهم} لوط

{فأخذهم أخذة رابية} شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح

١١

{إنا لما طغى الماء} ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعا

{حملناكم} أي آباءكم

{في الجارية} في سفينة نوح عليه السلام

١٢

{لنجعلها} أي الفعلة وهي انجاء المؤمنين وإغراق الكافرين

{لكم تذكرة} عبرة وعظة

{وتعيها} وتحفظها

{آذن} بضم الذال غير نافع

{واعية} حافظة لما تسمع قال قتادة وهي اذن عقلت عن اللّه وانتفعت بما سمعت

١٣

{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس والثانية يبعثون عندها

١٤

{وحملت الأرض والجبال} رفعت عن موضعهما

{فدكتا دكة واحدة} دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا

١٥

{فيومئذ} فحينئذ

{وقعت الواقعة} نزلت النازلة وهي القيامة وجواب إذا وقعت ويومئذ بدل من إذا

١٦

{وانشقت السماء} فتحت أبوابا

{فهي يومئذ واهية} مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة

١٧

{والملك} الجنس بمعنى الجمع وهو أعلم من الملائكة

{على أرجائها} جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجئون إلى أطرافها

{ويحمل عرش ربك فوقهم} فوق الملك الذين على أرجائها

{يومئذ ثمانية} منهم واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة وعن الضحاك ثمانية صفوف وقيل ثمانية أصناف

١٨

{يومئذ تعرضون} للحساب والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله

{لا تخفى منكم خافية} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا وبالياء كوفي غير عاصم وفي الحديث:

يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعندها تطيرا الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله

١٩

{فأما} تفصيل للعرض

{من أوتي كتابه بيمينه فيقول} سرورا به لما يرى فيه من الخيرات خطابا لجماعته

{هاؤم} اسم الفعل أي خذاوا

{اقرؤوا كتابيه} تقديره هاؤم كتابي اقرءوا كتابيه فحذف الاول لدلالة الثاني عليه والعامل في كتابيه اقرءوا عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب والهاء في كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه للسكت وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها لثبوتها في المصحف

٢٠

{إني ظننت} علمت وإنما أجري الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لمالا يخلو عنه

{أني ملاق حسابيه} معاين حسابي

٢١

{فهو في عيشة راضية} ذات رضا بها صاحبها كلاين

٢٢

{في جنة عالية} رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر

٢٣

{قطوفها دانية} ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكئ يقال لهم

٢٤

{كلوا واشربوا هنيئا} كلا وشربا هنيئا لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنتم هنيئا على المصدر {بما أسلفتم} بما قدمتم من الأعمال الصالحة

{في الأيام الخالية} الماضية من أيام الدنيا وعن ابن عباس هى فى الصائمين أى كلوا واشربوا بدل ما امسكتم عن الآكل والشرب لوجه اللّه

٢٥

{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه} لما يرى فيها من الفضائح

٢٦

{ولم أدر ما حسابيه} أى يا ليتنى لم أعلم ما حسابى

٢٧

{يا ليتها} يا ليت الموتة التى متها

{كانت القاضية} أى القاطعة لامرى فلم أبعث بعدها وام ألق ما ألقى

٢٨

{ما أغنى عني ماليه} أى لم ينفعنى ما جمعته فى الدنيا فما نفعى والمفعول محذوف اى شيئا

٢٩

هلك عني سلطانيه} ملكى وتسلطى على الناس وبقيت فقيرا ذليلا وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ضلت عنى حجتى أى بطلت حجتى التى كنت احتج بها فى الدنيا فيقول اللّه تعالى لخزنة جهنم

٣٠

{خذوه فغلوه} أى اجمعوا يديه إلى عنقه

٣١

{ثم الجحيم صلوه} أى ادخلوه يعنى لا ثم تصلوه إلا الجحيم وهى النار العظمى أو نصب الجحيم بفعل يفسره صلوه

٣٢

{ثم في سلسلة ذرعها} طولها

{سبعون ذراعا} بذراع الملك عن ابن جريج وقيل لا يعرف قدرها إلا اللّه

{فاسلكوه} فادخلوه والمعنى فى تقديم السلسلة على السلك مثله فى تقديم الجحيم على النصليه

٣٣

{أنه} تعليل كانه قيل ماله يعذب ٢هذا العذاب الشديد فأجيب بأنه

{كان لا يؤمن باللّه العظيم

٣٤

ولا يحض على طعام المسكين} على بذل طعام المسكين وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لآن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه اللّه ورجاء الثواب فى الآخرة فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على اطعامهم أى أنه مع كفره لا يحرص غيره على إطعام المحتاجين وفيه دليل قوى على عظم جرم حرمان المسكين لآنه عطفه على الكفر وجعله دليلا عليه وقرينة له لآنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق وعن أبى الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لآجل المساكين ويقول خلعنا نصف السلسلة بالايمان فنخلع نصفها بهذا وهذه الآيات ناطقه على ان المؤمنين يرحمون جميعا والكافرين لا يرحمون لآنه قسم الخلق نصفين فجعل صنفا منهم أهل اليمين ووصفهم بالايمان فحسب بقوله انى ظننت أنى ملاق حسابيه وصنفا منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله انه كان لا يؤمن باللّه العظيم وجاز أن الذى يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه

٣٥

{فليس له اليوم ها هنا حميم} قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه

٣٦

{ولا طعام إلا من غسلين} غسالة أهل النار فعلين

من الفسل والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم

٣٧

{لا يأكله إلا الخاطئون} للكافرون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب

٣٨

{فلا أقسم بما تبصرون} من الاجسام والآرض والسماء

٣٩

{وما لا تبصرون} من الملائكة والآرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الآشياء

٤٠

{أنه} أى أن القرأن

{لقول رسول كريم} أى محمد صلى اللّه عليه وسلم أو جبريل عليه السلام أى بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند اللّه

٤١

{وما هو بقول شاعر} كما تدعون

{قليلا ما تؤمنون}

٤٢

{ولا بقول كاهن} كا تقولون

{قليلا ما تذكرون} وبالياء فيهما مكى وشامى ويعقوب وسهل وبتخفيف الذال كوفى غير أبي بكر والقلة فى معنى العدم يقال هذه أرض قلما تنبت أى لا تنبت أصلا والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة

٤٣

{تنزيل} هو تنزيل بيانا لآنه قول رسول نزل عليه

{من رب العالمين}

٤٤

{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} ولو ادعى علينا شيئا لم نفعله

٤٥

{لأخذنا منه باليمين} لقتلناه صبرا كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول وهو أن يأخذ بيده وتضرب رقبته وخص اليمين لآن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب فى قفاه أخذ بيسار وإذا أراد أن يوقعه فى جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ومعنى لآخذنا منه باليمين لآخذنا بيمينه وكذا

٤٦

{ثم لقطعنا منه الوتين} لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه

٤٧

{فما منكم} الخطاب للناس أو للمسلمين

{من أحد} من زائدة

{عنه} عن قتل محمد وجمع

{حاجزين} وإن كان وصف أحد لآنه فى معنى الجماعة ومنه قوله تعالى لانفرق بين أحد من رسله

٤٨

{وإنه} وأن القرآن

{لتذكرة} لعظة

{للمتقين}

٤٩

وإنا لنعلم أن منكم مكذبين

٥٠

{وإنه} وان القرآن

{لحسرة على الكافرين} به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به

٥١

{وإنه} وان القرآن

{لحق اليقين} لعين اليقين ومحض اليقين

٥٢

{فسبح باسم ربك العظيم} فسبح اللّه بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان اللّه

﴿ ٠