تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الجن

سورة الجن مكية وهي ثمان وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{قل} يا محمد لأمتك

{أوحي إلي أنه} أي الأمر والشأن أجمعوا على فتح أنه لأنه فاعل أوحى وأن لو ستقاموا وان المساجد للعطف على أنه استمع فان مخففة من الثقيلة وان قد أبلغوا لتعدي يعلم

إليها وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو فإن له نار جنهم وقالوا إنا سمعنا لأنه مبتدأ محكي بعد القول واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من أنه تعالى جد ربنا إلى وأنا منا المسلمون ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفا على أنه استمع أو على محل الجار والمجرور في آمنا به تقديره وصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا إلى آخرها وكسرها غيبرهم عطفا على أنا سمعنا وهم يقفون على آخر الآيات

{استمع نفر} جماعة من الثلاثة إلى العشرة

{من الجن} جن نصيبين

{فقالوا} لقومهم حين رجعوا اليهم من استماع قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم في صلاة الفجر

{إنا سمعنا قرآنا عجبا} عجيبا بديعا مبانينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه والعجب ما يكون خارجا عن العادة وهو مصدر وضع موضع العجيب

٢

{يهدي إلى الرشد} يدعو إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان

{فآمنا به} بالقرآن ولما كان الايمان به إيمانا باللّه وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا

{ولن نشرك بربنا أحدا} من خلقه وجاز أن يكون الضمير في به للّه تعالى لأن قوله بربنا يفسره

٣

{وأنه تعالى جد ربنا} عظمته يقال جد فلان في عيني أي عظم ومنه قول عمر أو أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا

{ما اتخذ صاحبة} زوجه

{ولا ولدا} كما يقول كفار الجن والإنس

٤

{وأنه كان يقول سفيهنا} جاهلنا أو إبليس اذ ليس فوقه سفيه

{على اللّه شططا} كفرا لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت أو قولا يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد غليه والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره

٥

{وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على اللّه كذبا} قولا كذبا أو مكذوبا فيه أو نصب على الصدر إذا الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحدا لن يكذب على اللّه بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال اعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال

٦

{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم} أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم

{رهقا} طغيانا وسفها وكبرا بأن قالوا سدنا الجن والإنس أو فزادا الجن والإنس رهقا إنما لاستعاذتهم بهم وأصل الرهق غشيان المحظور

٧

{وأنهم} وأن الجن

{ظنوا كما ظننتم} يا أهل مكة

{أن لن يبعث اللّه أحدا} بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كانكاركم ثم بسماع القرىن واهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا

٨

{وأنا لمسنا السماء} طلبنا بلوغ السماء

واستماع كلام اهلها واللمس المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف

{فوجدناها ملئت حرسا شديدا} جمعا أقوياء من الملائكة يحرسون جمع حارس ونصب على التمييز وقيل الحرس أسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداد

{وشهبا} جمع شهاب أي كواكب مضيئة

٩

{وأنا كنا نقعد منها} من السماء قبل هذا

{مقاعد للسمع} لاستمع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث

{فمن يستمع} يرد الاستماع

{الآن} بعد المبعث

{يجد له} لنفسه

{شهابا رصدا} صفة لشهابا بمعنى الراصد ان يجد شهابا راصدا له ولاجله أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم وقيل كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلا بعد مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم

١٠

{وأنا لا ندري أشر} عذاب

{أريد بمن في الأرض} بعدم استراق السمع

{أم أراد بهم ربهم رشدا} خيرا ورحمة

١١

{وأنا منا الصالحون} الابرار المتقون

{ومنا} قوم

{دون ذلك} فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين

{كنا طرائق قددا} بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة والقدد حمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته

١٢

{وأنا ظننا} أيقنا

{أن لن نعجز اللّه} لن نفوته

{في الأرض} حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها

{ولن نعجزه هربا} مصدر في موضع الحال أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم

١٣

{وأنا لما سمعنا الهدى} القرآن

{آمنا به} بالقرآن وباللّه

{فمن يؤمن بربه فلا يخاف} فهو لا يخاف مبتدأ وخبر

{بخسا} نقصا من ثوابه

{ولا رهقا} أي ولا ترهقه ذلة من قوله وترهقهم ذل وقوله ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة وفيه دليل على أن العمل ليس من الايمان

١٤

{وأنا منا المسلمون} المؤمنون

{ومنا القاسطون} الكافرون الجائزون عن طريق الحق قسط جار واقسط عدل

{فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} طلبوا هدى التحري طلب الاحرى أي الأولى

١٥

{وأما القاسطون فكانوا} في علم اللّه

{لجهنم حطبا} وقودا وفيه دليل

على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم

١٦

{وإن} مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الوحي أي أوحى إلىأن الشأن

{لو استقاموا} أي القاسطون

{على الطريقة} طريقة الاسلام

{لأسقيناهم ماء غدقا} كثيرا والمعنى لوسعنا عليهم الرزق وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعه الرزق

١٧

{لنفتنهم فيه} لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه

{ومن يعرض عن ذكر ربه} القرآن أو التوحيد أو العبادة

{يسلكه} بالباء عراقي غير أبي بكر يدخله

{عذابا صعدا} شاقا مصدر صعد يقال صعد صعدا وصعودا فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ومنه قول عمر رضي اللّه تعالى عنه ما تصعدني شيء ما تصعدني خطبة النكاح أي ماشق على

١٨

{وأن المساجد للّه} من جملة الموحى أن اللام متعلقة بلا تدعوا أي

{فلا تدعوا مع اللّه أحدا} في المساجد لأنها خالصة للّه ولعبادته وقيل المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان

١٩

{وأنه لما قام عبد اللّه} محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد اللّه

{يدعوه} يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي اللّه أو رسوله لأنه من أحب الاسماء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ولأنه لما كان واقعا في كلامه صلى اللّه عليه وسلم عن نفسه جئ به على ما يقتضيه التواضع أو لأن عبادة عبد اللّه للّه ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبدا

{كادوا} كاد الجن

{يكونون عليه لبدا} جماعات جمع لبدة تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به واعجابا بما تلاه من القرآن لانهم راوا ما لم يروا مثله

٢٠

{قل إنما أدعو ربي} وحده قال غير عاصم وحمزة

{ولا أشرك به أحدا} في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون على

٢١

{قل إني لا أملك لكم ضرا} مضرة

{ولا رشدا} نفعا أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي غيا ولا رشدا يعني لا استطيع أن أضركم وأن انفعكم لأن الضار والنافع هو اللّه

٢٢

{قل إني لن يجيرني من اللّه أحد} لن يدفع عني عذابه أحد أن عصصيته كقول صالح عليه السلام فمن ينصرني من اللّه ان عصيته

{ولن أجد من دونه ملتحدا} ملتجأ

٢٣

{إلا بلاغا من اللّه} استثناء من لا أملك أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من اللّه وقل إني لن يجبرني اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه وقيل بلاغا بدل من ملتحدا أي لن أجد من دونه منحي إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعين لا ينجيني إلا أن ابلغ عن اللّه ما ارسلت به فإن ذلك ينجيني وقال الفراء هذا شرط وجزاء وليس باستثناء وأن

منفصمة من لا وتقديره أن لا أبلغ بلاغا أي ان لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيرا إلى كقولك أن لاقيا فقعودا والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ

{ورسالاته} عطف على بلاغا كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات الا أن ابلغ عن اللّه فأقول قال اللّه كذا ناسبا لقوله اليه وان ابلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان ومن ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال بلغ عنه انما هي بمنزلة من في براءة من اللّه أي بلاغا كائنامن اللّه

{ومن يعص اللّه ورسوله} في ترك القبول لما أنزل على الرسول لانه ذكر على أثر تبليغ الرسالة

{فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} وحد في قوله له وجمع في خالدين للفظ ومن معناه

٢٤

{حتى} يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كانه قيل لا يزالون على ما هم عليه حتى

{إذا رأوا ما يوعدون} من العذاب

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا

٢٥

قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ

{أم يجعل له ربي} وبفتح الياء حجازي وأبو عمرو

{أمدا} غاية بعيدة يعني انكم تعذبون قطعا ولكن لا أدري أهو حال أم مؤجل

٢٦

{عالم الغيب} هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب

{فلا يظهر} فلا يطلع

{على غيبه أحدا} من خلقه

٢٧

{إلا من ارتضى من رسول} إلا رسولا قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون اخباره عن الغيب معجزة له فإنه يطلعه على غيبه ما شاء ومن رسول بيان لمن ارتضى والوي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ولكنه اخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره وكذلك المتطيبة يعرفون طبائع النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا علىعلمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق

{فإنه يسلك} يدخل

{من بين يديه} يدي الرسول

{ومن خلفه رصدا} حفظه من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي

٢٨

{ليعلم} اللّه

{أن قد أبلغوا} أي الرسل

{رسالات ربهم} كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل اليهم أي ليعلم اللّه ذلك موجودا حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد وحد الضمير في من بين يديه للفظ من وجمع في أبلغوا لمعناه

{وأحاط} اللّه

{بما لديهم} بما عند الرسل من العلم

{وأحصى كل شيء عددا}

من الفطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه وعددا حال أي وعلم كل شيء معدودا محصورا أو مصدر في معنى إحصاء واللّه اعلم

﴿ ٠