تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة المزمل

سورة المزمل صلى اللّه عليه وسلم مكية وهي تسع عشرة آية بصرى وثمان عشرة شامي بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يا أيها المزمل} أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بادغام التاء في الزاي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم نائما بالليل متزملا في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله

٢

{قم الليل إلا قليلا}

٣

{نصفه} بدل من الليل والا فليلا استثناء من قوله نصفه تقديره قم نصف الليل إلا قليلا من نصف الليل

{أو انقص منه} من النصف بضم الواو غير عاصم وحمزة

{قليلا} إلى الثلث

٤

{أو زد عليه} على النصف إلى الثلثين والمراد التخيير بين أمرين بين أين يقوم أقل من نصف الليل على البت وبين ان يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه وان جعلت نصفه بدلا من قليلا كان مخيرا بين ثلاثة أشياء بين قيام نصف الليل تاما وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه وإنا وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فاطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا إذا أقر أن لفلان عليه ألف درهم الا قليلا انه يلزمه أكثر من نصف الألف

{ورتل القرآن} بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان وكلام رتل بالتحريك أي مرتل وثغر رتل أيضا إذا كان مستوى البنيان أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف واشباع الحركات

{ترتيلا} هو تأكيد في إيجاب الامر به وانه لا بد منه للقارئ

٥

{إنا سنلقي عليك} سننزل عليك

{قولا ثقيلا} أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين أو ثقيلا على المنافقين أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف

٦

{إن ناشئة الليل} بالهمزة سوى ورش قيام الليل عن ابن مسعود رضي اللّه عنه فهو مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة وكان زيد العابدين رضي اللّه عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه نائشة الليل

{هي أشد وطأ} وفاقا شامي وأبو عمرو وأي يواطئ فيها قلب القائم لسانه وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق غيرهما وطأ أي اثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى اللّه عليه وسلم: اللّهم اشدد وطأتك على مضر

{وأقوم قيلا}

وأشد مقالا واثبت قراءة لهدو الاصوات وانقطاع الحركات

٧

{إن لك في النهار سبحا طويلا} تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغا طويلا لنومك وراحتك

٨

{واذكر اسم ربك} ودم على ذكره في الليل والنهار وذكر اللّه يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم

{وتبتل إليه} انقطع إلى عبادته عن كل شيء والتبتل الانقطاع إلى اللّه تعالى بتأميل الخير منه دون غيره وقيل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند اللّه

{تبتيلا} في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتلك اللّه فتبتل أوجئ به مراعاة لحق الفواصل

٩

{رب المشرق والمغرب} بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره

{لا إله إلا هو} وبالجر شامي وكوفي غير حفص بدل من ربك وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما على القسم باضمار حرف القسم نحو اللّه لأفعلن وجوابه لا إله إلا هو كقوله واللّه لا أحد في الدار إلا زيد

{فاتخذه وكيلا} وليا وكفيلا بما وعدك من النصر أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وان لا إله إلا هو فاتخذه كافيا لأمورك وفائدة الفاء ان تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار

١٠

{واصبر على ما يقولون} في من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر

{واهجرهم هجرا جميلا} جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة وقيل هو منسوخ بآية القتال

١١

{وذرني} أي كلهم إلى فأنا كافيهم

{والمكذبين} رؤساء المسرة

{ومهلهم} إمهالا

{قليلا} إلى يوم بدرا وإلى يوم القيامة

١٢

{إن لدينا} للكافرين في الآخرة

{أنكالا} قيودا ثقالا جمع نكل

{وجحيما} نارا محرقة

١٣

{وطعاما ذا غصة} أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع الزقوم

{وعذابا أليما} يخلص وجعه إلى القلب وروى انه صلى اللّه عليه وسلم قرأه هذه الآية فصعق وعن الحسن أنه امسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق

١٤

{يوم} منصوب بما في لدينا من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم

{ترجف الأرض والجبال} أي تتحرك حركة شديدة

{وكانت الجبال كثيبا} رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول

{مهيلا} سائلا بعد اجتماعه

١٥

{إنا أرسلنا إليكم} يا أهل مكة

{رسولا} يعني محمد عليه السلام

{شاهدا عليكم} يشهد

عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم

{كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} يعني موسى عليه السلام

١٦

{فعصى فرعون الرسول} أي ذلك الرسول إذ النكرة إذا اعيدت معرفة كان الثاني عين الأول

{فأخذناه أخذا وبيلا} شديدا غليظا وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشرا بين أهل مكة لانهم كانوا جيران اليهود

١٧

{فكيف تتقون إن كفرتم يوما} هو مفعول تتقون أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة ان كفرتم في الدنيا أو منصوب بكفرتم على تأويل جحدتم أي كيف تتقون اللّه وتخشونه ان جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى اللّه خوف عقابه

{يجعل الولدان} صفة ليوما والعائد محذوف أي فيه

{شيبا} من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السالم قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب وقيل هو على التمثيل للتهويل يقال اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال

١٨

{السماء منفطر به} وصف اليوم بالشدة أيضا أي السماء على عظمها واحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر وقوله به أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهو له كما ينطفر الشيء بما ينفطر به

{كان وعده} المصدر مضاف إلى المفعول وهو ا ليوم أو إلى الفاعل وهو اللّه عز وجل

{مفعولا} كائنا

١٩

{إن هذه} الآيات الناطقة بالوعيد

{تذكرة} موعظة

{فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} أي فمن شاء تعظ بها واتخذ سبيلا إلى اللّه بالتقوى والخشية

٢٠

{إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى} اقل فاستعير الادنى وهو الأقرب لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الاحياز واذا بعدت كثر ذلك

{من ثلثي الليل} بضم اللام سوى هشام

{ونصفه وثلثه} منصوبان عطف على أدنى مكي وكوفي ومن جرهما عطف على ثلثي

{وطائفة} عطف على الضمير في تقوم وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل

{من الذين معك} أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك

{واللّه يقدر الليل والنهار} أي لا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا اللّه وحده وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنيا عليه يقدر هو الدال على أنه مختص بالتقدير ثم انهم قاموا حتىانتفخت اقدامهم فنزل

{علم أن لن تحصوه} لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج

{فتاب عليكم} فخفف عليكم واسقط عنكم فرض قيام الليل

{فاقرؤوا} في الصلاة والأمر للوجوب أي وفي غيرها والأمر للندب

{ما تيسر} عليكم

{من القرآن} روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه أنه قال

من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين وقيل أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للاول ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال

{علم أن سيكون منكم} أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها

{مرضى} فيشق عليهم قيام الليل

{وآخرون يضربون في الأرض} يسافرون

{يبتغون} حال من ضمير يضربون

{من فضل اللّه} رزقه بالتجارة أو طلب العلم

{وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه} سوى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد قال ابن مسعود رضي اللّه عنه ايما رجل جلب شيئا إلى المدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه من الشهداء وقال ابن عمر رضي اللّه عنهما ماخلق اللّه موته أموتها بعد القتل في سبيل اللّه أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض ابتغى من فضل اللّه

{فاقرؤوا ما تيسر من} كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم

{وأقيموا الصلاة} المفروضة

{وآتوا الزكاة} الواجبة

{وأقرضوا اللّه} بالنوافل والقرض لغة القطع فالمقرض بقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله اللّه تعالى وإنما أضافة إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منه بل المة للفقير عليه

{قرضا حسنا} من الحلال بالاخلاص

{وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه} أي ثوابه وهو جواب الشرط

{عند اللّه هو خيرا} مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني لتجدوه خيرا وهو فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل ما أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف وأعظم أجرا وأجزل ثوابا واستغفروا من السيآت والتقصير في الحسنات

{إن اللّه غفور} يستر على أهل الذنب والتقصير

{رحيم} يخفف عن أهل الجهد والتوفير وهو على ما يشاء قدير واللّه اعلم

﴿ ٠