تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الانسان

سورة الانسان مكية وهي احدى وثلاثون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{هل أتى} قد مضى

{على الإنسان} آدم عليه السلام

{حين من الدهر} ر أربعون سنة مصورا قبل نفخ الروح فيه

{لم يكن شيئا مذكورا} لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طينا يمر به الزمان ولو كان غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر ومحل لم يكن شيئا مذكورا النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور

٢

{إنا خلقنا الإنسان} أي ولد آدم وقيل الأول ولد آدم أيضا وحين من الدهر على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئا مذكورا بين الناس من

{نطفة أمشاج} نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن ومشجة ومزجة بمعنى ونطفة أمشاج كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد

{نبتليه} حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له

{فجعلناه سميعا بصيرا} ا ذا سمع و وبصر

٣

{إنا هديناه السبيل} بينا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع

{إما شاكرا} ا مؤمنا

{وإما كفورا} كافرا حالان من الهاء في هديناه أي ان شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرفناه السبيل اما سبيلا شاكرا واما سبيلا كفورا ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ولما ذكر الفريقين اتبعهما ما اعد لهما فقال

٤

{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل} جمع سلسلة بغير تنوين حفص ومكى وأبو عمرو وحمزة وبه ليناسب اغلالا وسعيرا اذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب غيرهم

{وأغلالا} جمع غل

{وسعيرا} نارا موقدة وقال

٥

{إن الأبرار} جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد واشهاد وهم الصادقون في الايمان أو الذين لا يؤذون الذر ولا يضرمون الشر

{يشربون من كأس} خمر فنفس الخمر تسمى كأسا وقيل الكأس الزجاجية إذا كان فيها خمر

{كان مزاجها} ما تمزج به

{كافورا} ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده

٦

{عينا} بدل منه

{يشرب بها عباد اللّه} أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو

يروى بها وإنما قال أولا بحرف من وثانيا بحرف الباء لان الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل يشرب عباد اللّه بها الخمر

{يفجرونها} يجرونها حيث شاءوا من منازلهم

{تفجيرا} سهلا لا يمتنع عليهم

٧

{يوفون بالنذر} بما أوجبوا على أنفسهم وهو جواب من عسى أن يقول ما لهم يرزقون ذاك والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على اداء الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه لوجه اللّه كان بما أوجبه اللّه عليه أوفى

{ويخافون يوما كان شره} شدائده

{مستطيرا} منتشرا من استطار الفجر

٨

{ويطعمون الطعام على حبه} أي حب الطعام مع الاشتهاء والحاجة اليه أو على حب اللّه مسكينا فقيرا عاجزا من الاكتساب

{ويتيما} صغيرا لا اب ل

{وأسيرا} مأسورا مملكوكا أو غيره ثم عللوا اطعامهم فقالوا

٩

{إنما نطعمكم لوجه اللّه} أي لطلب ثوابه أو هو بيان من اللّه عز وجل عما في ضمائرهم لأن اللّه تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وان لم يقولوا شيئا

{لا نريد منكم جزاء} هدية على ذلك

{ولا شكورا} ثاء وهو مصدر كالشكر

١٠

{إنا نخاف من ربنا} إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب اللّه على طلب المكافأة بالصدقة أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف

{يوما عبوسا} {قمطريرا} وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو نهارك صائم والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه

١١

{فوقاهم اللّه شر ذلك اليوم} صانهم من شدائده

{ولقاهم} أعطاهم بدل عبوس الفجار

{نضرة} حسنا في الوجوه

{وسرورا} فرحا في القلوب

١٢

{وجزاهم بما صبروا} بصبرهم على الإيثار نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما لما مرض الحسن والحسين رضي اللّه عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي اللّه عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضي اللّه تعالى عنها كل يوم صاعا وخبزت فآثروا بذلك ثلاث عشايا على أنفسهم مسكينا ويتيما وأسيرا ولم يذوقوا إلا الماء وفي وقت الإفطار

{جن} ة بستانا فيه مأكل هنىء

{وحريرا} ملبسا بهيا

١٣

{متكئين} حال من هم في جزاهم

{فيها} في الجنة

{على الأرائك} الأسرة جمع الأريكة

{لا يرون} حال من الضمير المرفوع في متكئين غير رائين

{فيها} في الجنة

{شمسا ولا زمهريرا} لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم وهواؤها معتد لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي وفي الحديث: هواء الجنة سجسج لا حر

ولا قر قازهمرير البرد الشديد وقيل القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر

١٤

{ودانية عليهم ظلالها} قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله إنا نخاف من ربنا * ولمن خاف مقام ربه جنتان

{وذللت} سخرت للقائم والقاعد واملتكىء وهو حال من دانية أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة

{قطوفها} ثمارها جمع قطف

{تذليلا

١٥

ويطاف عليهم بآنية من فضة} جمع كوب وهو إبريق لا عروة له

{كانت قواريرا} كان تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين اللّه نصب على الحال

١٦

{قوارير من فضة} أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حي يرى ما فيها من الشراب من خارجها قال ابن عباس رضي اللّه عنهما قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية ابي بكر بالتنوين فيهما وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما وابن كثير بتنوين الاول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة وفي الثاني لاتباعه الأول والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول

{قدروها تَقْدِيرًا} صفة لـ {قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ} أي أهل الجنة

قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم، أو السقاة جعلوها على قدرريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض.

١٧

{ويسقون} أي الأبرار

{فيها} في الجنة

كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً

١٨

{عَيْنًا فِيهَا}

{تسمى} تلك لعين

{سلسبيلا} سميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها والعرب تستلذه وتستطيبه وسلسبيلا لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها قال أبو عبيدة ماء سلسبيل أي عذب طيب

١٩

{ويطوف عليهم ولدان} غلمان ينشئهم اللّه لخدمة المؤمنين أو ولدوان الكفرة يجعلهم اللّه تعالى خدمة لأهل الجنة

{مخلدون} لا يموتون

{إذا رأيتهم حسبتهم} لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثائهم في مجالسهم

{لؤلؤا منثورا} وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم

٢٠

{وإذا رأيت ثم} ظرف أي في الجنة وليس لرأيت مفعول ظاهر ولا مقدر ليشع في كل مرئى تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة

{رأيت نعيما} كثيرا

{وملكا كبيرا} يروي أنه أدنى أهل الجنة منزله ينظر في ملكه مسيرة الف عام يرى اقصاه كما يرى

أدناه وقيل ملك لا يعقبه هلك أو لهم فيها ما يشاءون أو تسلم عليهم الملائكة ويستاذنون في الدخول عليهم

٢١

{عاليهم} بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أي يطوف عليهم ولد أن عليهم للمطفوف عليهم ثياب وبالسكون مدنى و ومدنى على أنه مبتدأ خبره

{ثياب سندس} أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج

{حضر} جمع أخضر

{وإستبرق} غليظ برفعهما حملا على الثياب نافع وحفص ويجرهما حمزة وعلى حملا على سندس وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه غيرهم

{وحلوا} عطف على ويطوف

{أساور من فضة} وفي سورة الملائكة يحملون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا قال ابن المسيب لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ

{وسقاهم ربهم} أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص وقيل ان الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبولهم منهم ويقولون لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد

{شرابا طهورا} ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجسا بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة

٢٢

{إن هذا} النعيم

{كان لكم جزاء} لأعمالكم

{وكان سعيكم مشكورا} محمودا مقبولا مرضيا عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والاسير لا نريد منكم جزاء ولا شكورا

٢٣

{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا} تكرير الضمير بعد إيقاهم اسما لأن تأكيد على تأكيد بمعنى اختصاص اللّه بالتنزيل ليستقر فين فس النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقا إلا حكمة وصوابا ومن الحكمة الأمر بالمصابرة

٢٤

{فاصبر لحكم ربك} عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة

{ولا تطع منهم} من الكفرة للضجر من تأخير الظفر

{إثما} راكبا لما هو آثم داعيا لكل اليه

{أو كفورا} فاعلا لما هو كفر داعيا لك اليه لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو اثم أو كفر أو غير اثم ولا كفر فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث وقيل الآثم عتبة لانه كان ركابا المآثم والفسوق والكفور الوليد لأنه كان غالبا في الكفر والجحود والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معا ومتفرقا ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجميع فيكون منهيا عن طاعتهما معا لا عن طاعة أحدهما وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعا انهى وقيل أو بمعنى أحدهما وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعا انهى وقيل أو بمعنى ولا أي ولا تطع آثما ولا كفورا

٢٥

{واذكر اسم} ربك صلّ له

{بكرة} صلاة الفجر

{وأصيلا} صلاة الظهر والعصر

٢٦

{ومن الليل فاسجد له} وبعض الليل فصل صلاة العشاءين

{وسبحه ليلا طويلا} أى تهجد له طريق طويلة من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه

٢٧

{إن هؤلاء} الكفرة

{يحبون العاجلة} يؤثرونها على الآخرة

{ويذرون وراءهم} قدامهم أو خلف ظهورهم

{يوما ثقيلا} شديدا لا يعبئون به وهو يوم القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار

٢٨

{نحن خلقناهم وشددنا} أحكمنا

{أسرهم} خلقهم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما والفراء

{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلفة ممن يطيع

٢٩

{إن هذه} السورة

{تذكرة} عظة

{فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} بالقرب اليه بالطاعة له وأتباع رسوله

٣٠

{وما تشاؤون} اتخاذ السبيل إلى اللّه وبالياء مكي وشامي وأبو عمرو ومحل

{إلا أن يشاء اللّه} النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة اللّه وإنما يشاء اللّه ذلك ممن علم منه اختياه ذلك وقيل هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة

{إن اللّه كان عليما} بما يكون منهم من الأحوال و

{حكيما} مصيبا في الأقوال والأفعال

٣١

{يدخل من يشاء} وهم المؤمنون

{في رحمته} جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلا في رحمته لأنه شاء ايمان الكل واللّه تعالى أخبر انه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى

{والظالمين} الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره

{أعد لهم عذابا أليما} نحو أوعدو كافأ

﴿ ٠