تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة النبأ

سورة النبأ مكية وهي أربعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{عم} أصله عن ما وقرىء بها ثم أدغمت النون في الميم فصار عما وقرىء بها ثم حذفت الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية

{يتساءلون} يسأل بعضهم بعضا أو يسألون غيرهم من المؤمنين والضمير لاهل

مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء

٢

{عن النبإ العظيم} أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره عم يتساءلون عن النبإ العظيم

٣

{الذي هم فيه مختلفون} فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك وقيل الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جميعا يتساءلون عنه فالمسلم يسأل ليزداد خشية والكافر يسأل استهزاء

٤

{كلا} ردع الاختلاف والتساؤل هزؤا

{سيعلمون} وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عيانا أن ما يتساءلون عنه حق

٥

{ثم كلا سيعلمون} كرر الردع للتشديد وثم يشعر بأن الثاني أبلغ من الاول وأشد

٦

{ألم نجعل الأرض} لما أنكروا البعث قيل لهم ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو الا اختراع كهذه الاختراعات أو قيل لهم لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثا وإنكار البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل

{مهادا} فراشا فرشناها لكم حتى سكنتموها

٧

{والجبال أوتادا} للأرض لئلا تميد بكم

٨

{وخلقناكم أزواجا} ذكر وأنثى

٩

{وجعلنا نومكم سباتا} قطعا لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبب القطع

١١

{وجعلنا الليل لباسا} سترا يستركم عن العيون إذا أردتم اخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه

{وجعلنا النهار معاشا} وقت معاش تنقلبون في حوائجكم ومكاسبكم

١٢

{وبنينا فوقكم سبعا} سبع سموات

{شدادا} جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثر فيها مرور الزمان أو غلاظا غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام

١٣

{وجعلنا سراجا وهاجا} مضيا وقادا أي جامعا للنور والحرارة والمراد الشمس

١٤

{وأنزلنا من المعصرات} أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض أو الرياح لانها تنشىء السحاب وتدر أخلافه فيصح أن يجعل مبدأ للانزال وقد جاء أن اللّه تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب

{ماء ثجاجا} منصبا بكثرة

١٥

{لنخرج به} بالماء

{حبا} كالبر والشعير

{ونباتا} وكلأ

١٦

{وجنات} بساتين

{ألفافا} ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع ولفيف كشريف وأشراف أولا واحد له كاوزاع أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة ولا وقف من ألم نجعل إلى ألفافا والوقف الضروري على أوتادا معاشا

١٧

{إن يوم الفصل} بين المحسن والمسييء والمحق والمبطل

{كان ميقاتا} وقيا محدودا ومنتهى معلوما لوقوع الجزاء أو ميعادا للثواب والعقاب

١٨

{يوم ينفخ} بدل من يوم الفصل أو عطف بيان

{في الصور} في القرن

{فتأتون أفواجا} حال أي جماعات مختلفة أو أمما كل أمة مع رسولها

١٩

{وفتحت السماء} خفيف كوفى أي شقت لنزول الملائكة

{فكانت أبوابا} فصارت ذات أبواب وطرق وفروج وما لها اليوم من فروج

٢٠

{وسيرت الجبال} عن وجه الأرض

{فكانت سرابا} أي هباء تخيل الشمس أنه ماء

٢١

{إن جهنم كانت مرصادا} طريقا عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها وقيل المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها

٢٢

{للطاغين مآبا} للكافرين مرجعا

٢٣

{لابثين} ماكثين حال مقدرة من الضمير في في للطاغين حمزة لبثين واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه فلبث وإن قل واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان

{فيها} في جهنم

{أحقابا} في ظرف جمع حقب وهو لدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ولا يستعمل الحقب والحقبة والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها وقيل الحقب ثمانون سنة وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة لابثين فيها أحقابا

٢٤

{لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا} أي غير ذائقين حال من ضمير لابثين فإذا انقضت هذه الأحقاب الذي عذ بوافيها بمنع البرد والشرب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها وقيل هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فينتصب حالا عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين ولا يذوقون فيها بردا ولا شرابا تفسير له وقوله

٢٥

{إلا حميما وغساقا} استثناء منقطع أي لا يذوقون في جهنم أو في الأحقاب بردا روحا ينفس عنهم حر النار أو نوما ومنه منع البرد البرد ولا شرابا يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما ماء حارا حرق ما يأتي عليه وغساقا ماء يسله من صديدهم وبالتشديد كوفى غير أبي بكر

٢٦

{جزاء} جوزوا جزاء

{وفاقا} موافقا لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق ثم استانف معللا فقال

٢٧

{إنهم كانوا لا يرجون حسابا} لا يخافون محاسبة اللّه اياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حسابا

٢٨

{وكذبوا بآياتنا كذابا} تكذيبا وفعال في باب فعل كله فاش

٢٩

{وكل شيء} نصب بمضمر يفسره

{أحصيناه كتابا} مكتوبا في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء أو أحصينا في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالبا وهذه الآية اعتراض لأن قوله

٣٠

{فذوقوا} مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والا لنفات شاهد على شدة

{فلن نزيدكم إلا عذابا

٣١

إن للمتقين مفازا

٣٢

حدائق وأعنابا} والغضب

{فلن نزيدكم إلا عذابا} في الحديث: هذه الآية اشد ما في القرآن على أهل النار

{إن للمتقين مفازا} مفعل من الفوز يصلح مصدرا أي نجاة من كل مكروه وظفرا بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة ثم أبدل مه بدل البعض من الكل فقال

{حدائق} بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة وأعنابا كروما عطف على حدائق

٣٣

{وكواعب} نواهد

{أترابا} لدات مستويات في السن

٣٤

{وكأسا دهاقا} مملوأة

٣٥

{لا يسمعون فيها} في الجن حال من ضمير خبر أن

{لغوا} باطلا

{ولا كذابا} الكسائي خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضا أو لا يكاذبه

٣٦

{جزاء} مصدر أي جزاهم جزاء

{من ربك عطاء} مصدر أبو بدل مم جزاء

{حسابا} صفة يعني كافيا أو على حسب أعمالهم

٣٧

{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن} بجرهما ابن عامر وعاصم بدلا من ربك ومن رفعهما فرب خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره الرحمن أو الرحمن صفته ولا يملكون خبرا وهما خبران والضمير في

لا يملكون لأهل السموات والارض وفي

منه خطابا للّه تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفا

٣٨

{يوم يقوم} إن جعلته ظرفا للايملكون لا تقف على خطابا وإن جعلته ظرفا للايتكلمون تقف

{الروح} جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق اللّه تعالى بعد العرش خلقا أعظم منه

{والملائكة صفا} حال أي مصطفين

{لا يتكلمون} أي الخلائق ثم خوفا

{إلا من أذن له الرحمن} في الكلام أو الشفاعة

{وقال صوابا} حقا بأن قال المشفوع له لا إله إلا اللّه في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة

٣٩

{ذلك اليوم الحق} الثابت وقوعه

{فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} مرجعا بالعمل الصالح

٤٠

{إنا أنذرناكم} أيهما الكفار

{عذابا قريبا} في الآخرة لأن ما هو آت قريب

{يوم ينظر المرء} الكافر قوله إنا أنذرنا كم عذابا قريبا

{ما قدمت يداه} من الشر لقوله وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام

{ويقول الكافر} وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم أو المرء عالم وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشرا وهو المرمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير

وما استفهامية منصوبة بقدمت أى ينظر أى شىء قدمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال نظرته يعنى نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أى ما قدمته

{يا ليتني كنت ترابا} فى الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أو ليتنى كنت ترابا فى هذا اليوم فلم أبعث وقيل يحشر اللّه الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده ترابا فيود الكافر حاله وقيل الكافر ابليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقا من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين واللّه أعلم

﴿ ٠