تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة المطففين

سورة المطففين مختلف فيها وهى ست وثلاثون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{ويل} مبتدا خبره

{للمطففين} للذين يبخسون حقوق الناس فى الكيل والوزن

٢

{الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} أى إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة ولما كان اكتيالهم على الناس

{يستوفون} أى إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من الدلالة على ذلك ويجوز أن يتعلق على يستوفون ويقدم المفعول على الفعل لافادة الاختصاص أى يستوفون على

الناس خاصة وقال الفراء من وعلى يعتقبان فى هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك فكانه قال أخذت ما عليك وإذ قال اكتلت منك فكأنه قال استوفيت منك والضمير المنصوب فى

٣

{وإذا كالوهم أو وزنوهم} راجع إلى الناس أى كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار واوصل الفعل وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل أو وزنوهم اكتفاء ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعون ويحتالون فى الملء وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من الجنس فى النوعين

{يخسرون} ينقصون يقال خسر الميزان واخسره

٤

{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون

٥

ليوم عظيم} يعنى يوم القيامة ادخل همزة الاستفهام على النافية توبيخا وليست إلا هذه للتنبيه وفيه انكار وتعجيب عظيم من حالهم فى الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة ولو نوا أنهم يبعثون ما نقصوا فى الكيل والوزن وعن عبد الملك بن مروان أن اعرابيا قال له لقد سمعت ما قال اللّه فى المطففين أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذى سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب

٦

{يوم يقوم الناس} بمبعوثون

{لرب العالمين} لأمره وجزائه وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده

٧

{كلا} ردع وتنبيه أى ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال

{إن كتاب الفجار} صحائف أعمالهم

{لفي سجين

٨

وما أدراك ما سجين

٩

كتاب مرقوم} فان قلت قد أخبر اللّه تعالى عن كتاب الفجار بأنه فى سجين وفسر سجينا بكتاب مرقوم فكأنه قيل إن كتابهم فى كتاب مرقوم فما معناه قلت سجين كتاب جامع هو ديوان الشر دون اللّه فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها والمعنى أ ما كتب من أعمال الفجار مثبت فى ذلك الديوان وسمى سجينا فعيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق فى جهنم أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة فى مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب

١٠

{ويل يومئذ} يوم يخرج المكتوب

{للمكذبين}

١١

{الذين يكذبون بيوم الدين} الجزاء والحساب

١٢

{وما يكذب به} بذلك اليوم

{إلا كل معتد} مجاوز للحد

{أثيم} مكتسب للائم

١٣

{إذا تتلى عليه آياتنا} أى القرآن

{قال أساطير الأولين} أى أحاديث المتقدمين وقال الزجاج أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث

١٤

{كلا} ردع للمعتدى الأثيم عن هذا القول

{بل} نفى لما قالوا ويقف حفص على بل وقيفة

{ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} عطاها كسبهم أى غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصى وعن الحسن الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب وعن الضحاك الرين موت القلب وعن أبى سليمان لرين والقسوة زماما الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فان وجد بعد ذلك قسوة فليترك الادام

١٥

{كلا} ردع عن الكسب الرائن على القلب

{إنهم عن ربهم} عن رؤية ربهم

{يومئذ لمحجوبون} لممنوعون والحجب المنع قال الزجاج فى الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم والا لا يكون التخصيص مفيدا وقال الحسين بن الفضل كما حجبهم فى الدنيا عن توحيده حجبهم فى العقبى عن رؤيته وقال مالك بن أنس رحمه اللّه لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه وقيل عن كرامة ربهم لأنهم فى الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا فى الآخرة عن كرامته مجازاة والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها

١٦

{ثم إنهم لصالوا الجحيم} ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار

١٧

{ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون} أى هذا العذاب هو الذى كنتم تكذبون به فى الدنيا وتنكرون وقوعه

١٨

{كلا} ردع عن التكذيب

{إن كتاب الأبرار} ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر فى مقابلة الفجار وبين الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين وعن الحسن البر الذى لا يؤذى الذر

{لفي عليين} هو علم لديوان الخير الذى دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع على فعيل من العلو سمى به لأنه سبب الارتفاع إلىأعالى الدرجات فىالجنة أو لأنه مرفوع فىالسماء السابعة حيث يسكن الكروييون تكريما له

١٩

{وما أدراك} ما الذى أعلمك يا محمد

{ما عليون} أى شىء هو

٢٠

{كتاب مرقوم}

٢١

{يشهده المقربون} تحضره الملائكة قيل يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع

٢٢

{إن الأبرار لفي نعيم} تنعم فىالجنان

٢٣

{على الأرائك} الاسرة فى الحجال

{ينظرون} إلى كرامة اللّه ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون

٢٤

{تعرف في وجوههم نضرة النعيم} بهجة التنعم وطراوته

٢٥

{يسقون من رحيق} شراب خالص لا غش فيه

{مختوم}

٢٦

{ختامه مسك} تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذى يختم به الشراب فى الدنيا أمر اللّه تعالى بالختم عليه إكراما لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أى توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه خاتمة على

{وفي ذلك} الرحيق أو النعيم

{فليتنافس المتنافسون} فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والاتنهاء عن السيآت

٢٧

{ومزاجه} ومزاج الرحيق

{من تسنيم} هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذى هو مصدر سنمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب فى الجنة أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب فى أوانيهم

٢٨

{عينا} حال أو نصب على المدح

{يشرب بها} أى منها

{المقربون} عن ابن عباس وابن مسعود رضى اللّه عنهم يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين

٢٩

{إن الذين أجرموا} كفروا

{كانوا من الذين آمنوا يضحكون} فى الدنيا استهزاء بهم

٣٠

{وإذا مروا بهم يتغامزون} يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعنا فيهم وعيبا لهم قيل جاء على رضى اللّه عنه فى نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا أتزون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل على إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

٣١

{وإذا انقلبوا إلى أهلهم} أى إذا رجع الكفار إلى منازلهم

{انقلبوا فكهين} متلذذين بذكرهم والسخرية منهم وقرأ غير حفص فاكهين أى فرحين

٣٢

{وإذا رأوهم} و إذا رأى الكافرون المؤمنين

{قالوا إن هؤلاء لضالون} أى خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه فى الآخرة من الكرامات فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال

٣٣

{وما أرسلوا} وما أرسل الكفار

{عليهم} على المؤمنين

{حافظين} يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا باصلاح أنفسهم فاشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم

٣٤

{فاليوم} أى يوم القيامة

{الذين آمنوا من الكفار يضحكون} ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة

٣٥

{على الأرائك ينظرون} حال أى يضحكون منهم ناظون إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والا سنكنار وهم على الأرائك آمنون وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم هلموا إلى الجنة فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم

٣٦

{هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} هل جوزوا بسخريتهم بالؤمنين فى الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر واللّه أعلم

﴿ ٠