تفسير النسفى: مدارك التنزيل وحقائق التأويل

أبو البركات عبد اللّه بن أحمد بن محمود النسفى الحنيفي (ت ٧١٠ هـ ١٣١٠م)

_________________________________

سورة الفجر

سورة الفجر مكية وهى تسع وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{والفجر} أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله والصبح إذا أسفر أو بصلاة الفجر

٢

{وليال عشر} عشر ذى الحجة أو العشر الأول من المحرم أو الآخر من رمضان وإنما نكرت لزيادة فضيلتها

٣

{والشفع والوتر} شفع كل الأشياء ووترها

أو شفع هذه الليالى ووترها

أو شفع الصلاة ووترها

أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه التاسع

أو الخلق والخالق والوتر حمزة وعلى بفتح الواو غيرهما وهما لغتان فالفتح حجازى والكسر تميمى وبعد ما أقسم بالليالى المخصوصة أقسم بالليالى على العموم فقال

٤

{والليل} وقيل أريد ليلة القدر

{إذا يسر} إذا يمضى وياء يسر تحذف فى الدرج اكتفاء عنها بالكسرة وأما فى الوقف فتحذف مع الكسر وسأل واحد الاخفش عن سقوط الياء فقال لا حتى تخدمنى سنة فسأله بعد سنة فقال الليل لا يسر وأنما يسرى فيه فلما عدل عن معناه عدل عن لفظة موافقة وقيل معنى يسرى بسرى فيه كما يقال ليل نائم أ ى ينام فيه

٥

{هل في ذلك} أى فيما أقسمت به من هذا الأشياء

{قسم} أى مقسم به

{لذي حجر} عقل سمى به لأنه يحجر عن النهافت فيما لا ينبغى كما سمى عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالاقسام بها أو هل فى أقسامى بها أقسام الذى حجر أ ىهل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه أو هل فى القسم بهذه الأشياء قسم منع لذى عقل ولب والمقسم عليه محذوف وهو قوله ليعذبن يدل عليه قوله ألم تر إلى قوله فصب عليهم ربك سوط عذاب ثم ذكر تعذيب الامم التى كذبت الرسل فقال

٦

{ألم تر كيف فعل ربك بعاد}

٧

{إرم ذات العماد} أى ألم تعلم يا محمد علما يوازى العيان فى الايقان وهو استفهام تقرير قيل لعقب عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عاد كما يقال لبنى هاشم هاشم ثم قيل للاولين منهم عاد الاولى والارم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الاخيرة فارم عطف بيان لعاد وايذان بأنهم عاد الاولى القديمة وقيل ارم بلدتهم وأرضهم التى كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد ارم على الاضافة وتقديره بعاد أهل ارم كقوله واسأل القرية ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضا للتعريف والتأنيث وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الاجسام على تشبيه قدودهم بالاعمدة وان كانت صفة البلدة فالمعنى أنها ذات أساطين وروى أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات

شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال ابنى مثلها فبنى ارم فى بعض صحارى عدن فى ثلاثمائة وكان عمره تسعمائة سنة وهى مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبر جد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار ولما ثم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا وعن عبد اللّه بن قلانة أنه خرج فى طلب ابل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبر معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هى ارم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين فى زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج فى طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال هذا واللّه ذلك الرجل

٨

{التي لم يخلق مثلها في البلاد} أى مثل عاد فى قوتهم وطول قامتهم كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع أو لم يخلق مثل مدينة شداد فى جميع بلاد الدنيا

٩

{وثمود الذين جابوا الصخر} قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا قيل أول من تحت الجبال والصخور ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة

{بالواد} بوادى القرى

١٠

{وفرعون ذي الأوتاد} أى ذى الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا وقيل كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية

١١

{الذين} فى محل النصب على الذم أو الرفع على "هم الذين" أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون

طغوا فى البلاد تجاوزوا الحد

١٢

{فأكثروا فيها الفساد} بالكفر والقتل والظلم

١٣

{فصب عليهم ربك سوط عذاب} مجاز عن ايقاع العذاب بهم على أبلغ الوجود إذا الصب يشعر بالدوام والسواط بزيادة الايلام اى عذبوا عذابا مؤلما دائما

١٤

{إن ربك لبالمرصاد} وهو المكان الذى يترقب فيه الرصد مفعال من رصده وهذا مثل لارصاده العباد وانهم لا يفوتونه وانه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيخازيهم عليه ان خيرا فخيروان شرا فشر

١٥

{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن}

١٦

{وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه} أى ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته فقدر شامى ويزيد

{فيقول ربي أهانن} أى الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربى أكرمنى أى فضلنى بما أعطانى فيرى الاكرام فى كثره الحظ من الدنيا وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر قال ربى أهاننى فيرى الهوان فى قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها فرد عليه زعمه بقوله

١٧

{كلا} أى ليس الاكرام والاهانة فى كثرة المال وقلته بل الإكرام فى توفيق الطاعة والاهانة فى الخذلان وقوله تعالى فيقول خبر المبتدأ الذى هو الإنسان ودخول الفاء لما فى أما من معنى الشرط والظرف المتوسط بين المبتدأ أو الخبر فى تقدير التأخير كأنه قيل فأما الإنسان فقائل ربى أكرمن وقت الابتلاء وكذا فيقول الثانى خبر لمبتدأ تقديره وأما هو إذا ما ابنلاه ربه وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما أختيار للعبد فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر وإذا قدر عليه فقد اختبر خاله أيصبر أم يجزع ونحوه قوله تعالى وبنلوكم بالشر والخير فتنة وإنما أنكر قوله ربى أكرمن مع أنه أثبته بقوله فأكرمه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه اللّه عليه وأثبته وهو قصده أن اللّه أعطاه ما أعطاه اكراما له لاستحقاقه كقوله إنما أوتيته على علم عندى وإنما أعطاه اللّه تعالى ابتلاء من غير استحقاق منه

{بل لا تكرمون اليتيم}

١٨

{ولا تحاضون على طعام المسكين} أى بل هناك شر من هذا القول وهو أن اللّه يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من اكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين

١٩

{وتأكلون التراث} أى الميراث

{أكلا لما} ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم

٢٠

{وتحبون المال} يقال حبه وأحبه بمعنى

{حبا جما} كثيرا شديدا مع الحرص ومنع الحقوق ربى حجازى وأبو عمرو يكومون ولا يحضون ويأكلون ويحبون بصرى

٢١

{كلا} ردع لهم عن ذلك وانكار لفعلهم ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فر طوافيه حين لا تنفع الحسرة فقال

{إذا دكت الأرض} إذا زلزلت

{دكا دكا} دكا بعددك أى كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبئا

٢٢

{وجاء ربك} تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه فإنه واحدا من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهببة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه وعن ابن عباس امره وقضاؤه

{والملك صفا صفا} أى ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس

٢٣

{وجيء يومئذ بجهنم} قيل أنها برزت لأهلها كقوله وبرزت الجسيم للغاوين وقيل هو مجرى على حقيقة ففى الحديث: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها

{يومئذ يتذكر الإنسان} أى يتعظ

{وأنى له الذكرى} ومن أين له منفعة الذكرى

٢٤

{يقول يا ليتني قدمت لحياتي} هذه وهى حياة الآخرة أى ياليتنى قدمت الأعمال الصالحة فى الحياة الفانية لحياتى البانية

٢٥

{فيومئذ لا يعذب عذابه أحد} أى لا يتولى عذاب اللّه أحد لأن الأمر للّه وحده فى ذلك اليوم

٢٦

{ولا يوثق} بالسلاسل والاغلال

{وثاقه أحد} قال صاحب الكشف لا يعذب أحد أحداً كعذاب اللّه ولا يوثق أحد أحدا كوثاق اللّه {لا يعذب} {ولا يوثق} على وهى قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورجع اليها أبو عمرو فى آخر عمره والضمير يرجع الى الانسان الموصوف وهو الكافر وقيل هو أبى بن خلف اى لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه فى كفره وعناده ثم يقول اللّه تعالى للمؤمن

٢٧

{يا أيتها النفس} اكراما له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك

{المطمئنة} الآمنة التى لا يستفزها خوف ولا حزن وهى النفس المؤمنة أو المطئنة الى الحق التى سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك ويشهد للتفسير الاول قراءة أبى يا أيتها النفس الآمنة المطئنة وانما يقال لها عند الموت أو عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة

٢٨

{ارجعي إلى} موعد

{ربك} أو ثواب ربك

{راضية} من اللّه بما أوتيت

{مرضية} عند اللّه بما علمت

٢٩

{فادخلي في عبادي} فى جملة عبادى الصالحين فانتظمى فى سلكهم

٣٠

{وادخلي جنتي} معهم وقال أبو عبيدة أى مع عبادى أوبين عبادى أى خواصى كما قال: وادخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين وقيل النفس الروح ومعناه فادخلى فى أجسام عبادى كقراءة عبد اللّه بن مسعود فى جسد عبدى ولما مات بن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل فى نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير الفبر ولم يدر من تلاها قيل نزلت فى حمزة بن عبد المطلب وقيل فى خبيب بن عدى الذى صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه الى المدينة فقال اللّهم ان كان لى عندك خير فحول وجهى نحو قبلتك فحول اللّه وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله وقيل هى عامة فى المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب

﴿ ٠