تفسير روح البيان

إسماعيل حقى بن مصطفى بروسوي الإستانبولي

الحنفي الجلوتي (ت ١١٣٧ هـ ١٧٢٥ م)

سُورَةُ الْفاَتِحَةِ الْكِتاَبِ

مَكِّيَّةٌ وَهِيَ سَبْعُ آياَتٍ

١

{ بسم اللّه الرحمن الرحيم } الاصح المقبول عند متأخرى الحنفية ان البسملة آية فذة ليست جزأ من سورة انزلت للفصل والتبرك بالابتداء كما بذكرها في كل أمر ذى بال وهى مفتاح القرآن واول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ واول ما نزل على آدم عليه السلام وحكمة تأخرها واول ما جرى به القلم فى اللوح المحفوظ واول ما نزل على آدم عليه السلام وحكمة تأخرها عن الاستعاذة تقدم التخلية بالمعجمة على التحلية والاعراض عما سوى اللّه على الاقبال والتوجه اليه

{ بسم اللّه } كانت الكفار يبدؤون باسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات والعزى فوجب ان يقصد الموحد معنى اختصاص اسم اللّه عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل فلذلك قدر المحذوف متأخرا اى باسم اللّه اقرأ او اتلو أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له

قالوا واودع جميع العلوم في الباء اى بى كان ما كان وبى يكون ما يكون فوجد العوالم بى وليس لغيرى وجود حقيقى الا بالاسم والمجاز وهو معنى قولهم ما نظرت شياً الا ورأيت اللّه فيه او قبله ومعنى قوله عليه السلام ( لا تسبوا الدهر فان الدهر هو اللّه ) فان قلت ما الحكمة في افتتاح اللّه بالباء عشرة معان.

احدها ان فى الالف ترفعا وتكبرا وتطاولا وفى الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا فمن تواضع للّه رفعه اللّه.

وثانيها ان الباء مخصوصة بالالصاق بخلاف اكثر الحروف خصوصا الالف من حروف القطع وجدت شرف العندية من اللّه تعالى كما قال اللّه تعالى ( انا عند المنكسرة قلوبهم من اجلى )

ورابعها ان فى الباء تساقطا وتكسرا فى الظاهر ولكن رفعة درجة وعلوهمة فى الحقيقة وهى من صفات الصديقين وفى الالف ضدها اما رفعة درجتها فبانها اعطيت نقطة وليست للالف هذه الدرجة

واما علو الهمة فانه لما عرضت عليها النقط ما قبلت الا واحدة ليكون حالها كحال محب لا يقبل الا محبوبا واحدا.

وخامسها ان فى الباء صدقا فى طلب قربة الحق لانها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتها تحت قدمها وما تفاخرت بها ولا يناقضه الجيم والياء لان نقطهما فى وضع الحروف ليست تحتهما بل فى وسطهما وانما موضع النقط تحتهما عند اتصالهما مفردة أو متصلة بحرف آخر.

وسادسها ان الالف حرف علة بخلاف الباء.

وسابعها ان الباء حرف تام متبوع فى المعنى وان كان تابعا صورة من حيث ان موضعه بعد الالف فى وضع الحروف وذلك لان الالف فى لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الالف فان الباء لا يتبعه والمتبوع فى المعنى اقوى

وثامنها ان الباء حرف عامل ومتصرف فى غيره فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة فصلحت للابتداء بخلاف الالف فانه ليس بعامل.

وتاسعها أن الباء حرف كامل فى صفات نفسه بانه للالصاق والاستعانة والاضافة مكمل لغيره بان يخفض الاسم التابع له ويجعله مكسوراً متصفاً بصفات نفسه وله علو وقدرة في تكميل الغير بالتوحيد والارشاد كما اشارة اليه سيدنا على رضى اللّه عنه بقوله [ان النقطة تحت الباء] فالباء له مرتبة الارشاد والدلالة على التوحيد

وعاشرها ان الباء حرف شفوى تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية ولذلك كان اول انفتاح فم الذرة الانسانية فى عهد الست بربكم بالباء فى جواب بلى فلما كان الباء اول حرف نطق به الانسان وفتح به فمه وكان مخصوصا بهذه المعانى اقتضت الحكمة الالهية اختياره من سائر الحروف فاختارها ورفع قدرها واظهر برهانها وجعلها مفتاح كتابه ومبدأ كلامه وخطا به تعالى وتقدس كذا فى التأويلات النجمية.

واسم اللّه ما يصح ان يطلق عليه بالنظر الى ذاته او باعتبار صفة من صفاته السلبية كالقدوس او الثبوتية كالعليم او باعتبار فعل من افعاله كالخالق ولكنها توقيفية عند بعض العلماء كما فى الشرح المشارق لابن الملك ثم المختار ان كلمة اللّه هو الاسم الاعظم فان سأل سائل وقد قلنا ان للدعاء آدابا وشرائط لا يستجاب الدعاء الا بها كما ان للصلاة كذلك فاول شرائطه اصلاح الباطن باللقمة الحلال وقد قيل ( الدعاء مفتاح السماء واسنانه لقمة الحلال ) وآخر شرائطه الاخلاص وحضور القلب كما قال اللّه تعالى

{ فادعوا اللّه مخلصين له الدين } فان حركة الانسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولولة الواقف على الباب وصوت الحارث على السطح اما اذا كان حاضرا فالقلب الحاضر فى الحضرة شفيع له.

قال الشيخ مؤيد الدين الجندى قدس سره ان للاسم الاعظم الذى اشتهر ذكره وطاب خبره ووجر طيه وحرم نشره من عالم الحقائق والمعانى حقيقة ومعنى ومن عالم الصورة والالفاظ صورة ولفظا اما حقيقته فهى احدية جمع جميع الحقائق الجمعية الكمالية كلها

واما معناه فهو الانسان الكامل فى كل عصر وهو قطب الاقطاب حامل الامانة الالهية خليفة اللّه

واما صورته فهى صورة كامل ذلك العصر وعلمه كان محرما على سائر الامم لما لم تكن الحقيقة فحسب فلما وجد معنى الاسم الاعظم وصورته بوجود الرسول صلى اللّه عليه وسلم اباح اللّه العلم به كرامة له

{ الرحمن } الرحمة فى اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرحم لانعطافها على ما فيها والمراد بها ههنا هو التفضل والاحسان او ارادتهما بطريقة اطلاق اسم السبب بالنسبة الينا على مسببه البعيد او القريب فان اسماء اللّه تؤخذ باعتبار الغايات التى هي افعال دون المبادى التي هى انفعالات فالمعنى العاطف على خلقه بالرزق لهم ودفع الآفات عنهم لا يزيد فى رزق المتقى لقبل تقواه ولا ينقص من رزق الفاجر لقبل فجوره بل يرزق الكل بما يشاء

{ الرحيم } المترحم اذا سئل اعطى واذا لم يسأل غضب وبنى آدم حين يسأل يغضب والعم ان الرحمة من صفات الذات وهو ارادته ايصال الخير ودفع الشر والارادة صفة الذات لان اللّه تعالى لو لم يكن موصوفا بهذه الصفة لما خلق الموجودات فلما خلق الخلق علمنا ان رحمته صفة ذاتية لان الخلق ايصال خير الوجود الى المخلوق ودفع شر العدم عنهم فان الوجود خير كله

قال الشيخ القيصرى اعلم ان الرحمة صفة من الصفات الالهية وهى حقيقة واحدة لكنها تنقسم بالذاتية والصفاتية اى تقتضيها اسماء الذات واسماء الصفات وكل منهما عامة وخاصة فصارت اربعا ويتفرع منها الى ان يصير المجموع مائة رحمة واليها اشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله

( ان للّه مائة رحمة اعطى واحدة منها لاهل الدنيا كلها وادخر تسعا وتسعين الى الآخرة يرحم بها عباده ) فالرحمة العامة والخاصة الذاتيتان ما جاء فى البسملة من الرحمن الرحيم والرحمة الرحمانية عامة لشمول الذات جميع الاشياء علما وعينا والرحيمية خاصة لانها تفصيل تلك الرحمة العامة الموجب لتعيين كل من الأعيان بالاستعداد الخاص بالفيض الاقدس والصفاتية ما ذكره فى الفاتحة من الرحمن الرحيم الاولى عامة الحكم لترتبها على ما افاض الوجود العام العلمى من الرحمة العامة الذاتية والثانية خاصة وتخصيصها بحسب استعداد الاصلى الذى لكل عين من الاعيان وهما نتيجتان للرحمتين الذاتيتين العامة والخاصة انتهى كلامه قالوا للّه تعالى ثلاثة آلاف اسم الف عرفها الملائكة لا غير والف عرفها الانبياء لا يغر وثلاثمائة فى التوراة وثلاثمائة فى الانجيل وثلاثمائة فى الزبور وتسعة وتسعون في القرآن وواحد استأثر اللّه به ثم معنى هذه الثلاثة آلاف فى هذه الاسماء الثلاثة فمن علمها وقالها فكأنما ذكر اللّه تعالى بكل اسمائه وفى الخبر ان النبى عليه السلام قال ( ليلة اسرى بى الى السماء عرض على جميع الجنان فرأيت فيها اربعة انهار نهرا من ماء ونهرا من لبن ونهرا نم خمر ونهرا من عسل فقلت يا جبريل من اين تجيئ هذه الانهار والى اين تذهب قال تذهب الى حوض الكوثر ولا ادرى من اين تجئ فادع اللّه تعالى ليعلمك او يريك فدعا ربه فجاء ملك فسلم على النبى عليه السلام ثم قال يا محمد غمض عينيك قال فغمضت عينى ثم قال افتح عينيك ففتحت فاذا انا عند شجرة ورأيت قبة من درة بيضاء ولها باب من ذهب احمر وقفل لو أن جميع ما فى الدنيا من الجن والانس وضعوا على تلك القمة لكانوا مثل طائر جالس على جبل فرأيت هذه الانهار الاربعة تخرج من تحت هذه القبة فلما اردت ان ارجع قال لى ذلك الملك لم لا تدخل القبة قلت كيف ادخل وعلى بابها قفل لا مفتاح له عندى قال مفتاحه بسم اللّه الرحمن الرحيم فلما دنوت من القفل وقلت بسم اللّه الرحمن الرحيم انفتح القفل فدخلت فى القبة فرأيت هذه الانهار تجرى من اربعة اركان القبة ورأيت مكتوبا على اربعة اركان القبة بسم اللّه الرحمن الرحيم ورأيت نهر الماء يخرج من ميم بسم اللّه ورأيت نهر اللبن يخرج من هاء اللّه ونهر الخمر يخرج من ميم الرحمن ونهر العسل من ميم الرحيم فعلمت ان اصل هذه الانهار الاربعة من البسملة فقال اللّه عز وجل يا محمد من ذكرنى بهذه الاسماء من امتك بقلب خالص من رياء وقال بسم اللّه الرحمن الرحيم سقيته من هذه الانهار )

وفى الحديث ( لا يرد دعاء اوله بسم اللّه الرحمن الرحيم ) وفي الحديث ايضا ( من رفع قرطاسا من الارض مكتوبا عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم اجلالا له ولاسمه عن ان يدنس كان عند اللّه من الصديقين وخفف عن والديه وان كانا مشركين ) وذكر الشيخ احمد البونى فى لطائف الاشارات ان شجرة الوجود تفرعت عن بسم اللّه الرحمن الرحيم وان العالم كله قائم بها جملة وتفصيلات فلذلك من اكثر من ذكرها رزق الهيبة عند العالم العلوى والسفلى. وكتبت قيصر ملك الروح الى عمررضى اللّه عنه قلنسوة فكان اذا وضعها على رأسه سكن صداعه واذا رفعها عن رأسه عاد صداعه فتعجب منه ففتش فى القلنسوة فاذا فيها كاعد مكتوب عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم.

قال الشيخ الاكبر في الفتوحات اذا قرأت فاتحة الكتاب فصل جبريل عليه السلام حالفا عن ميكائيل عليه السلام حالفا عن اسرافيل عليه السلام قال اللّه تعالى ( يا اسرافيل بعزتي وجلالى وجودى وكرمى من قرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة فاشهدوا على انى قد غفرت له وقبلت منه الحسنات وتجاوزت له عن السيآت ولا احرق لسانه بالنار واجيره من عذاب القبر وعذاب النار وعذاب يوم القيامة والفزع الاكبر وتلقانى قبل الانبياء والاولياء اجميعن )

وجه التسمية بفاتحة الكتاب اما لافتتاح المصاحف والتعليم وقراءة القرآن والصلاة بها

واما لان الحمد فاتحة كل كلام

واما لانها اول سورة نزلت

واما لانها اول ما كتب في اللوح المحفوظ

واما لانها فاتحة ابواب المقاصد فى الدنيا وابواب الجنان فى العقبى

واما لان انفتاح ابواب خزائن اسرار الكتاب بها لانها مفتاح كنوز لطائف الخطاب بانجلائها ينكشف جميع القرآن لاهل البيان لان من عرف معانيها يفتح بها اقفال المتشابهات ويتقبس بسناها انوار الآيات. وسميت بام القرآن وما الشئ اصله لان المقصود من كل القرآن تقرير امور اربعة اقرار بالالوهية والنبوة واثبات القضاء

{ اياك نعبد واياك نستعين } على نفى الجبر والقدر وعلى اثبات ان الكل بقضاء اللّه تعالى وسميت بالسبع المثانى لانها سبع آيات او لان كل آية منها تقوم مقام سبع من القرآن فمن قرأها اعطى ثواب اعطى ثواب قراءة الكل او لان من فتح فاه بقراءة آياتها السبع غلقت عنه ابواب النيرات السبعة هذه وجوه التسمية بالسبع

واما بالمثانى فلانها تثنى فى كل صلاة او فى كل ركعة بالنسبة الى الاخرى او المراد تشفع فى كل ركعة سورة حقيقية او حكما او لان نزولها مرتين مرة فى مكة ومرة فى المدينة.

وسميت بسورة الصلاة وسورة الشفاء والشافية واساس القرآن والكافية والوافية وسورة الحمد وسورة السؤال وسورة الشكر وسورة الدعاء لاشتمالها عليها وسورة الكنز لما يروى ان اللّه تعالى قال ( فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشى )

﴿ ١