تفسير روح البيان إسماعيل حقى بن مصطفى بروسوي الإستانبولي الحنفي الجلوتي (ت ١١٣٧ هـ ١٧٢٥ م) سُورَةُ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَتَانِ وَسِتٌّ وَثَمَانُونَ آيَةً ١ { آلم } ان قلت ما الحكمة فى ابتداء البقرة بالم والفاتحة بالحرف الظاهر المحكم الجواب قال السيوطى رحمه اللّه فى الاتقان اقول فى مناسبة ابتداء البقرة بالم انه لام ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل احد بحيث لا يعذر فى فهمه ابتدئت البقرة بمقابلة وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل ليعلم مراتبه للعقلاء والحكماء ليعجزهم بذلك ليعتبروا ويدبروا آياته كذا فى خواتم الحكم وحل الرموز وكشف الكنوز للعارف باللّه الشيخ المعروف بعلى دده واعلم انهم تكلموا فى شأن هذه الفواتح الكريمة وما اريد بها فقيل انها من العلوم المستورة والاسرار المجحوبة اى من المشتابه الذى استأثر اللّه بعلمه وهى سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها الى اللّه تعالى وفائدة ذكرها طلب الايمان بها والالف اللّه واللام لطيف والميم مجيد اى انا اللّه اللطيف المجيد كما ان قوله تعالى { الر } انا اللّه ارى و { كهيعص } انا اللّه الكريم الهادى الحكيم العلمي الصادق وكذا قوله تعالى { ق } اشارة الى انه القادر القاهر و { ن } اشارة الى انه النور الناصر فهى حروف مقطعة كل منها مأخوذ من اسم من اسمائه تعالى والاكتفاء ببعض الكلمة معهود فى العربية كما قال الشاعر قلت لها قفى فقالت ق ... اي وقفت وقيل ان هذه الحروف ذكرت فى اوائل بعض السور لتدل على ان القرآن مؤلف من الحروف اتى هى ( ا ب ت ث ) فجاء بعضها مقطعا وبعضها مؤلفا ليكون ايقاظا لما تحدى بالقرآن وتنبيها لهم على انهم منتظم من عين ما ينظمون منه كلامهم فلولا انه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلاق القوى والقدر لأتوا بمثله هذا ما جنح اليه اهل التحقيق ولكن فيه نظر لانه يفهم من هذا القول ان لا يكون لتلك الحروف معان واسرار والنبى عليه السلام اوتى علم الاولين والآخرين فيحتمل ان يكون الم وسائر الحروف المقطعة من قبيل الموضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهما وقد واضعها اللّه تعالى مع نبيه عليه السلام فى وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام باسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره يدل على هذا ما روى فى الاخبار ان جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى { كهيعص } فلما قال ( كاف ) قال النبى عليه السلام ( علمت ) فقال ( ها ) فقال ( علمت ) فقال ( ياء ) فقال ( علمت ) فقال ( عين ) فقال ( علمت ) فقال ( صاد ) فقال ( علمت ) فقال جبريل عليه السلام كيف علمت ما لم اعلم. وقال الشيخ الاكبر قدس سره فى اول تفسيره { الم ذلك الكتاب } واما الحروف المجهولة التى انزلها اللّه تعالى فى اوائل السورة فسبب ذلك من أجلها لغو العرب عند نزول القرآن فانزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفر دواعيهم لما انزل اللّه اذا سمعوا مثل هذا الذى ما عهدوه والنفوس من طبعها ان تميل الى كل امر غريب غير معتاد فينفستون عن اللغو ويقبلون عليها ويصغون اليها فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتى بعد هذه الحروف النازلة من عند اللّه تعالى وتتوفر دواعيهم للنظر فى الامر المناسب بين حروف الهجاء التى جاء بها مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم وابهم الامر عليهم من عدم اطلاعهم عليها فرد اللّه بذلك شرا كبيرا من عنادهم وعتوهم ولغوهم كان يظهر منهم فذاك رحمة للؤمنين وحكمة منه سبحانه انتهى كلامه. قال بعض العارفين كل ما قيل فى شرحها بطريقة النظر والاعتبار فتخمين النظر من قائله لا حقيقة الا لمن كشف اللّه له عن قصده تعالى بها يقول الفقير جامع هذه المعارف واللطائف شكر اللّه مساعيه وبسط اليه من عنده اياديه قال شيخى الاكمل فى هامش كتاب اللائحات البرقيات له بعد ما ذكر بعض خواص الم على طريق الحقيقة زلق فى امثال هذا المتشابه اقدام الزائغين عن العلم وتحير عقول الراسخين فى العلم وبعضهم توقف تأدبا مع اللّه تعالى ولم يتعرض بل قالوا آمنا به كل من عند ربنا وبعضهم تأولوا لكن بوجوه بعيدة عن المرام بعدا بعيدا الا انها مستحسنة شرعا مقبولة دينا وعقلا وما يذكر اى بالمقصود والمرام على ما هو عليه فى نفسه فى الواقع الا اولوا الباب لكن بتذكير اللّه تعالى والهامه واطلاعه تخصيصا لهم وتمييزا لهم عما عداهم اختصاصا اليها ازليا لهم من عند اللّه لا بتفكر انفسهم ونظر عقولهم بل بمحض فيض اللّه والهامه انتهى كلامه الشريف قدس سره اللطيف. وقال عبد الرحمن البسطامى قدس سره مؤلف الفوائح المسكية فى بحر الوقوف ثم ان بعض الانبياء علموا اسرار الحروف بالوحى الربانى والالقاء الصمدانى وبعض الاولياء بالكشف الجلى النورانى والفيض العلى الروحانى وبعض العلماء بالنقل الصحيح والعقل الرجيح وكل منهم اخبر اصحابه ببعض اسرارها بطريق الكشف والشهود او بطريق الرسم والحدود والصحيح ان اللّه تعالى طوى علم اسرار الحروف عن اكثر هذه الامة لما فيها من الحكم الالهية والمصالح الربانية ولم يأذن للاكابر ان يعرفوا منه الا بعض اسراره التى يشتمل عليها تركيبها الخاص المنتج انواع التسخيرات والتأثيرات فى العوالم العلويات والسفليات الى غير ذلك انتهى كلام بحجر الوقوف وفى التأويلات النجمية هيئة الصلاة التى ذكرت فى القرآن ثلاثة القيام لقوله تعالى { وقوموا للّه قانتين } والركوع لقوله تعالى واركعوا اشارة الى الركوع والميم اشارة الى السجود يعنى من قرأ سورة الفاتحة التى هى مناجاة العبد مع اللّه فى الصلاة التى هى معراج المؤمنين يجيبه اللّه تعالى بالهداية التى طلبها منه بقوله اهدنا. ثم اعلم ان المتشابه كالمحكم من جهة اجر التلاوة لما ورد عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة والحسنة بعشر امثالها لا اقول الم حرف بل الف حرف ولام حرف وميم حرف ( ففى الم تسع حسنات). ٢ { ذلك الكتاب } الم مبتدأ على انه اسم القرآن على احد الوجوه وذلك خبره اشارة الى الكتاب فيكون الكتاب صفة والمراد به الكتاب الكامل الموعود انزاله فى الكتب المتقدمة وانما اشار بذلك الى ما ليس ببعيد لان الكتاب من حيث كونه موعودا فى حكم البعيد قالوا لما انزل اللّه تعالى على موسى التوراة وهى الف سورة كل سورة الف آية قال موسى عليه السلام يا رب قال على خاتم النبيين قال وكيف تقرؤه امته ولهم اعمار قصيرة قال انى ايسره عليهم حتى يقرؤه صبيانهم قال يا رب وكيف تفعل قال وعشرين على ابراهيم والتوراة عليك والزبور على داود والانجيل على عيسى وذكرت الكائنات فى هذه الكتب فأذكر جميع معانى هذه الكتب فى كتاب محمد واجمع ذلك كله فى مائة واربع عشرة سورة واجعل هذه السور فى ثلاثين جزأ والجزاء فى سبعة اسباع ومعنى هذه الاسباع فى سبع آيات الفاتحة ثم معانها فى سبعة احرف وهى بسم اللّه ثم ذلك كله فى الألف من الم ثم افتتح سورة البقرة فاقول الم ولما وعد اللّه ذلك فى التوراة وانزله على محمد عليه السلام جحدت اليهود لعنهم اللّه ان يكون هذ ذلك فقال تعالى ذلك الكتاب كما فى تفسير التيسير ولهذه الآية وجوه اخر من الاعراب ذكرت فى التفاسير فلتطلب ثمة { لا ريب } كائن { فيه } فقوله ريب اسم لا وفيه خبرها وهو فى الاصل من رابنى الشئ اذا حصل فيك الريبة وهى قلق النفس واضطرابها سمى به الشك لانه يقلق النفس ويزيل الطمأنينية وفى الحديث ( دع ما يريبك الى ما لا يريبك ) فان الشك ريبة والصدق طمأنينة ومنه ريب الزمان لنوائبه * وفى التفسير المسمى بالتيسير الريب شك فيه خوف وهو اخص من الشك فكل ريب شك وليس كل شك ريبا والشك هو التردد بين النقيضين لا ترجيح لاحدهما على الآخر عند الشاك ولم يقدم الظرف على الريب لئلا يذهب الفهم الى ان كتابا آخر فيه الريب لا فيه. فان قلت الكفار شكوا فيه فلم يقروا بكتاب اللّه تعالى والمبتدعون من اهل القبلة شكوا فى معانى متشابهه فاجروها على ظاهرها وضلوا بها والعلماء شكوا فى وجوهه فلم يقطعوا القول على وجه منها والعوام شكوا فيه فلم يفهموا معانيه فما معنى نفى الريب عنه فالجواب ان هذا نفى الريب عن الكتاب لاعن الناس والكتاب موصوف بانه لا يتمكن فيه ريب فهو حق صدق معلوم ومفهوم شك فيه الناس او لم يكشوا كالصدق صدق فى نفسه وان وصفه الناس بالكذب والكذب كذب وان وصفه الناس بالصدق فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب او يتمكن فيه عيب ويجوز ان يكون خبرا فى معنى الامر ومعناه لا ترتابوا كقوله تعالى { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } المعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا كما فى الوسيط والعيون { هدى } اى هو رشيد وبيان { للمتقين } اى للضالين المشارفين التقوى الصائرين اليها ومثله حديث ( من قتل قتيلا فله سلبه ) وفى تفسير الارشاداى المتصفين بالتقوى حالا او مآلا وتخصيص الهدى بهم لما انهم المقتبسون من انواره المنتفعون بآثاره وان كان ذلك شاملا لكل ناظر من مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال تعالى { هدى للناس } اى كلهم بيانا وهدى للمتقين على الخصوص ارشادا * قال فى التيسير وكذلك يقال فى كل من انتفع بشئ دون غيره انه لك على الخصوص اى انت المنتفع به وحدك وليس فى كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه من ان يكون هدى فالشمس شمس وان لم يرها الضرير والعسل عسل وان لم يجد طعمه المرور والمسك مسك وان لم يدرك طيبه المأنوف فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والبحر زاخر وبقى فى الظلمة والبدر زاهر وخبث والطيب حاضر وذوى والروض ناظر والحسرة كل الحسرة لمن عصى وفسق والقرآن ناه آمر وفارق الرغبة والرهبة والوعد متواتر والوعيد متظاهر ولذلك قال تعالى { وانه لحسرة على الكافرين } والمتقى اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة قال البغوى هو مأخوذ من الاتقاء واضله الحاجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه اى جعله حاجزا بين نفسه وبين ما يقصده وفى الحديث كنا اذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اى اذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدو فكان المتقى يجعل امتثال امر اللّه والاجتناب عما نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى فى عرف الشرع عبارة عن كمال التوقى عما يضره فى الآخرة وله ثلاث مراتب الاولى التوقى عن العذاب المخلد بالتبرى من الكفر وعليه قوله تعالى { والزمهم كلمة التقوى } والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل او ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى فى الشرع وهو المعنى بقوله تعالى { ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا } والثالثة ان يتنزه عما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل اليه بكليته وهو التقوى الحقيقة المأمور بها فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته } واقصى مراتب هذا النوع من التقوى ما انتهى اليه همم الانبياء عليهم السلام حيث جمعوا رياستى النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الاشباح عن العروج الى عالم الارواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق فى شؤن الحق لكمال استعداد نفسوهم الزكية المؤبدة بالقوة القدسية. وهداية الكتاب المبين شاملة لا رباب هذه المراتب اجمعين فهداية العام بالاسلام وهداية الخاص بالايقان والاحسان وهداية الاخص بكشف الحجب ومشاهدة العيان. وفى التأويلات النجمية المتقون هم الذين اوفوا بعهد اللّه من بعد ميثاقه ووصلوا به ما امر اللّه ان يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرا وباطنا يدل على هذا قوله تعالى { واوفوا بعهدى اوف بعهدكم } الى قوله { واياى فاتقون } اى اذا انتم اقررتم بربوبيتى بقولكم بلى يوم الميثاق اوفوا بعهدى الذى عاهدتمونى عليه وهوالهداية الى. وفى الرسالة القشيرية والمتقى مثل ابن سيرين كان له اربعون حبسمنا فاخرج غلامه فأرة من حب فسأله من اى حب اخرجتها فقال لا ادرى فصبها كلها. ومثل ابى يزيد البسطامى اشترى بهمذان جانبا من حب القرطم فلما رجع الى بسطام رأى فيه نملتين فرجع الى همذان ووضع النملتين - وحكى - ان ابا حنيفة رحمه اللّه كان لا يجلس فى ظل شجرة غريمه ويقول فى الخبر ( كل قرض جر نفعها فهو ربا ) وقيل ان ابا يزيد غسل ثوبه فى الصحراء مع صاحب له فقال له نعلق الثوب فى جدار الكروم فقال لا نضرب الوتد فى جدار الناس فقال نعلقه فى الشجر فقال انه يكسر الاغصان فقال نبسطه على الارض فقال انه علف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جف جانب ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر. ٣ { الذين يؤمنون بالغيب } الجملة صفة مقيدة للمتقين ان فسر التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية والتصوير على التصقيل وموضحة ان فسر بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية لاشتماله على ما هو اصل الاعمال واساس الحسنات من الايمان والصلاة والصدقة فانها امهات الاعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصى غالبا ألا يرى قوله تعالى { ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقوله عليه السلام ( الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الاسلام ) والايمان هو التصديق بالقلب لان المصدق يؤمن المصدق يؤمن المصدق يؤمن المصدق اى يجعله آمنا بفضله واستعماله بالباء ههنا لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فان الواثق يسير ذا امن وطمانينة. قال فى الكواشى الايمان فى الشريعة هو الاعتقاد بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالاركان والاسلام الخضوع والانقياد فكل ايمان اسلام وليس كل اسلام ايمانا اذا لم يكن معه تصديق فقد يكون الرجل مسلما ظاهرا غير مصدق باطنا ولا يكون مصدقا باطنا غير منقاد ظاهرا. قال المولى ابو السعود رحمه اللّه فى تفسيره هو فى الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة انه من دين نبينا صلى اللّه عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها وهل هو كاف فى ذلك او لا بد من انضمام الاقرار اليه للتمكن منه الاول رأى الشيخ الاشعرى ومن تابعه والثانى مذهب ابى حنيفة رحمه اللّه ومن تابعه وهو الحق فانه جعلهما جزئين له خلا ان الاقرار ركن محتمل للسقوط كما عند الاكراه وهو مجموع ثلاثة امور اعتقاد الحق والاقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن اخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن اخل بالقرار فهو كافر ومن اخل بالعمل فهو فاسق اتفاقا عندنا وكافر عند الخوارج وخارج عن الايمان غير داخل فى الكفر عند المعتزلة. والغيب مصدر سمى به الغائب توسعا كقولهم للزآئر زور وهو ما غاب عن الحسن والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان قسم لا دليل عليه وهو الذي اريد بقوله سبحانه { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو } وقسم نصب عليه دليل كالصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الاحكام والشرائع واليوم الآخر واحواله من البعث والنشور والحساب والجاء وهو المراد ههنا. فالباء صلة الايمان اما بتمينه معنى الاعتراف او بجعله مجازا عن الوثوق وهو واقع موقع المفعول به وان جعلت الغيب مصدرا على حاله كالغيبة فالباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل اى يؤمنون ملتبسين بالغيبة اما عن المؤمن به اى غائبين عن النبى صلى اللّه عليه وسلم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ويدل عليه انه قال حارث بن نغير لعبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه نحن نحتسب لكم يا اصحاب محمد ما سبقتمونا به من رؤية محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحبته فقال عبد اللّه ونحن نحتسب لكم ايمانكم به ولم تروه وان افضل الايمان ايمان بالغيب ثم قرأ عبد اللّه { الذين يؤمنون بالغيب } كذا فى تفسير ابى الليث واما عن الناس اى غائبين عن المؤممنين لا كالمنافقين الذين { واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم } وقيل المراد بالغيب القلب لانه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بافواههم ما ليس فى قلوبهم فالباء حينئذ للآلة. وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه قال بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذا قبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه احد منا فاقبل حتى جلس بين يدى رسول اللّه اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان تشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا ) فقال صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه ثم قال فما الايمان قال ( ان تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره ) فقال صدقت ثم قال فما الاحسان قال ( ان تعبد اللّه كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ) قال صدقت ثم قال فاخبرنى عن الساعة فقال ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) قال صدقت قال فاخبرنى عن اماراتها قال ( ان تلد الامة ربتها وان ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان ) قال صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يا عمر هل تدرى من الرجل ) قلت اللّه ورسوله اعلم قال ( ذاك جبريل اتاكم يعلمكم امر دينكم وما اتانى فى صورة الا عرفته فيها الا فى صورته هذه ) وفى التأويلات النجمية { يؤمنون بالغيب } اى بنور عيبى من اله فى قلوبهم نظروا فى قول محمد صلى اللّه عليه وسلم فشاهدوا صدق قوله فآمنوا به كما قال عليه السلام ( المؤمن ينظر بنور اللّه ) واعلم ان الغيب غيبان غيب غاب عنك وغيب غبت عنه فالذى غاب عنك عالم الارواح فانه قد كان حاضرا حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك فى عهد الست بربكم واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعارف الارواح من الانبياء والاولياء وغيرهم فغاب عنك اذ تعلقت بالقالب ونظرت بالحواس الخمس اى بالمحسوسات من عالم الاجسام واما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود وما غاب عنك بالوجود وما غاب عنك بالوجود وهو معكم اينما كنتم انت بعيد منه وهو قريب منك كما قال { ونحن اقرب اليه من حبل الوريد } انتهى كلام الشيخ نجم الدين قدس سره قال الشيخ سعدى دوست نزديكتر ازمن بمنست ... وين عجبرتركه من ازوى ذورم جه كنم باكه توان كفت كه او ... در كنار من ومن مهجورم { ويقيمون الصلاة } الصلاة اسم للدعاء فى قوله تعالى { وصل عليهم } اى ادع لهم والثناء كما فى قوله تعالى { ان اللّه وملائكته يصلون } والقراءة كما فى قوله تعالى { ولا تجهر بصلوتك } اى بقراءتك والرحمة كما فى قوله تعالى { اولئك عليهم صلوات من ربهم } والصلاة المشروعة المخصوصة بافعال واذ كار سميت بها لما فى قيامها من القراءة وفى قعودها من الثناء والدعاء ولفاعلها من الرحمة. والصلاة فى هذه الآية اسم جنس اريد بها الصلوات الخمس. واقامتها عبارة عن المواظبة عليها من قامت السوق اذا نفقت او عن التشمر لادائها منغير فتور ولاتوان من قولهم قام بالامر واقامه اذا جد فيه وتجلد وضده قعد عن الامر وتقاعد او عن ادائها فان قول المؤذن قد قامت الصلاة معناه اخذوا فى ادائها عبر عن ادائها بالاقامة لاشتمالها على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح او عن تعديل اركانها وحفظها من ان يقع فى شئ من فرائضها وسننها وادائها زيغ من اقام العود اذا قومهوعدله وهو الاظهر لانه اشهر والى الحقيقة اقرب وافيد لتضمنه التنبيه على ان الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنين وحقوقها الباطنه من الخشوع ولاقبال بقلبه على اللّه تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون. قال ابراهيم النخعى اذا رأيت رجلا يخفف الركوع ولاسجود فترحم على عياله يعنى سن ضيق المعيشة. وذكر ان حاتما الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم يا حاتم هل تحسن ان تصلى فقال نعم قال كيف تصلى قال اذا تقارب وقت الصلاة اسبغ الوضوء ثم استوى فى الموضع الذى اصلى فيه حتى يستقر كل عضو منى وارى الكعبة بين حاجبى والمقام بحيال صدرى واللّه فوقى يعلم ما فى قلبى وكأن قدمى على الصراط والجنة عن يمينى والنار عن شمالى وملك الموت خلفى واظن انها آخر الصلاة ثم اكبر تكبيرا باحسان واقرأ قراءة بتفكر واركع ركوعا بالتواضع والسجد سجودا بالتضرع ثم اجلس على التمام والتشهد على الرجاء واسلم على السنة ثم اسلمها للاخلاص واقوم بين الخوف والرجاء ثم العاهد على الصبر قال عاصم يا حاتم أهكذا صلاتك قال كذا صلاتى منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم وقال ما صليت من صلاتى مثل هذا قط كذا فى تنبيه الغافلين : قال السمدى كه داند جو دربند حق نيستى ... اكربى وضو درنماز ايستى قال فى تفسيره التيسير المذكور فى الآية اقامة الصلاة واللّه تعالى امر فى الصلاة بالشياء باقامتها بقوله { واقيموا الصلاة } وبالمحافظة عليها وادامتها بقوله { الذين هم على صلواتهم دائمون } وبادائها فى اوقاتها بقوله { كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وبادائها فى جماعة بقوله { واركعوا مع الراكعين } وبالخشوع فيها بقوله { الذين هم فى صلواتهم خاشعون } وبعد هذه الاوامر صارت الناس على طبقات. طبقة لم يقبلوها ورأسلهم ابو جهل لعنه اللّه قال اللّه تعالى فى حقه { فلا صدق ولا صلى } وذكر مصيرهم فقال { ما سلككم فى صقر قالوا لم نكن من المصلين } الى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } وطبقة قبلوها ولم يؤدوها وهم اهل الكتاب قال اللّه تعالى { وخلف من بعد خلف } وهم اهل الكتاب { اضاعوا الصلاة } وذكر مصيرهم فقال { فسوف يلقون غيا } وهى دركة فى جهنم هى اهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا وكذا مرة ثم قال اللّه { ولا من تاب } اى من اليهودية والنصرانية { وآمن } اى بمحمد { وعمل صالحا } اى حافظ على الصلاة. وطبقة ادوا بعضا ولم يؤدا بعضا متكاسلين وهم المنافقون قال اللّه تعالى { ان المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم واذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى } وذكران مصيرهم ويل وهو واد فى جهنم لو جعلت فيه جبال الدنيا لماعت اى سالت قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( من ترك صلاة حتى مضى وقتها عذب فى النار حقبا ) والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم الف سنة مما تعدون. قالوا وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة واصغر الكبيرة ما قيل انه يكون كانه زنا بامه سبعين مرة كما فى روضة العلماء. وطبقة قبلوها وهم يراعونها فى مواقيتها بشرائطها ورأسهم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى { ان ربك يعلم انك تقوم ادنى من ثلثى الليل } وقال تعالى { قل ان صلوتى ونسكى ومحياى ومماتى للّه رب العالمين } الآية واصحابه كذلك فذكرهم اللّه تعالى بقوله { قد افلح المؤمنون الذين هم فى صلواتهم خاشعون } وذكر مصيرهم فقال { اولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس } وهو ارفع مواضع فى الجنة وابهاه ينال المؤمن فيه مناه وينظر الى مولاه. قال الحكماء كن نجما فان لم تستطع فكن قمرا فان لم تستطع فكن شمسا اى مصليا جميع الليل كالنجم يشرق جميع الليل او كالقمر يضيء بعض الليل او كالشمس تضيء بالنهار معناه عامة العلماء حتى اذا صلى وحده جاز وان فاته فضل الجماعة. وقال احمد بن حنبل ان الجماعة فرض وليست بنافلة حتى اذا صلى وحده لم تجز صلاته غير انها وان لم تكن فريضة عندنا فالواجب على المسلم ان يتعاهدها ويحفظها قال تعالى { يا قومنا اجيبوا داعى اللّه } قال بعضهم المراد من الداعى المؤذنون الذين يدعون الى الجماعة فى الصلوات الخمس وتارك الجماعة شر من شار بالخمر وقاتل النفس بغير حق ومن القتات ومن العاق لوالديه ومن الكاهن والساحر ومن المغتاب وهو ملعون فى التوراة والانجيل والزبور والفرقان وهو ملعون على لسان الملائكة لا يعاد اذا مرض ولا تشهد جنازته اذا مات قال النبى صلىللّه عليه الصلاة والسلام ( تارك الجماعة ليس منى ولا انا منه ولا يقبل اللّه منه صرفا ولا عدلا ) اى نافلة وفريضة فان ماتوا على حالهم فالنار اولى بهم كذا فى روضة العلماء. وقال فى نصاب الاحتساب قال عليه السلام ( لقد هممت ان آمر رجلا يصلى بالناس وانظر الى اقوام يتخلفون عن الجماعة فاحرق بيوتهم ) وهذا يدل على جواز احراق بيت الذى يتخلف عن الجماعة لان ألهم بالمعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لانه معصية فاذا علم جواز احراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك فى احراق البيت على ترك الواجب والفرض وما ظنك فى احراق آلات المعصية انتهى كلام النصاب هذا. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما بعث اللّه نبيه عليه السلام بشهادة ان لا اله الا اللّه فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم اكمل لهم الدين. قال مقاتل بالصوات الخمس كما فى روضة الاخيار. وانما فرضت الصلاة ليلة المعراج لان المعراج افضل الاوقات واشرف الحالات واعز المناجات والصلاة بعد الايمان افضل الطاعات وفى التعبد احسن الهيآت ففرض افضل العبادات فى افضل الاوقات وهو وصول العبد الى ربه وقربه منه. واما الحكمة فى فرضيتها فلانه صلى اللّه عليه وسلم لما اسرى به شاهد ملكوت السموات باسرها وعبادات سكانها من الملائكة فابتثرها عليه السلام غبطة وطلب ذلك لامته فجمع اللّه له فى الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلها لان منهم من هو قائم ومنهم من هو راكع ومنهم من هو ساجد وحامد ومسبح الى غير ذلك فاعطى اللّه تعالى اجور عبادات اهل السموات لامته اذا قاموا الصلوات الخمس. واما الحكمة فى ان جعلها اللّه تعالى مثنى وثلاث ورباع فلانه عليه السلام شاهد هياكل الملائكة تلك الليلة اى ليلة الاسراء اولى اجنحة مثنى وثلاث ورباع فجمع اللّه ذلك فى ضور انوار الصلوات عند عروج ملائكة الاعمال بارواح العبادات لان كل عبادة تتمثل فى الهيا كل النورانية وصورها كما وردت الاشارات فى ذلك بل يخلق الملائكة من الاعمال الصالحة كما ورد فى الاحاديث الصحيحة وكذلك جعل اللّه اجنحة الملائكة على الحكمة فى كونها خمس صلوات فلانه عليه السلام بعد سؤاله التخفيف ومراجعته قال له اللّه تعالى ( يا محمد انهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر حسنات فتلك خمسون صلاة وكانت خمسين على من قبلنا ) فحطت ليلة المعراج الى خمس تخفيفا وثبت جزاء الخمسين تضعيفا. وحكمة اخرى فى كونها خمس صلوات انها كانت متفرقة فى الامم السالفة فجمعها سبحانه لنبيه وامته لانه عليه السلام مجمع الفضائل كلها دنيا وآخره وامته بين الامم كذلك فاول من صلى الفجر آدم والظهر ابراهيم والعصر يونس والمغرب عيسى والعشاء موسى عليهم السلام فهذا سر القرار على خمس صلوات وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت بعده بين الانبياء عليهم السلام مجمع الفضائل كلها دنيا وآخرة وامته بين الامم كذلك فاول من صلى الفجر آدم والظهر ابراهيم والعصر يونس والمغرب عيسى والعشاء موسى عليهم السلام فهذا سر القرار على خمس صلوات وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت بعده بين الانبياء عليهم السلام واول من صلى الوتر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة المعراج لذلك قال ( زادنى ربى صلاة ) اى الوتر على الخمس او صلاة الليل فافهم اول من بادر الى السجود جبريل عليه السلام ولذلك صار رفيق الانبياء وخادمهم واول من قال سبحان اللّه جبريل والحمد للّه آدم ولا اله الا اللّه نوح واللّه اكبر ابراهيم ولا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم رسول اللّه اللّه صل اللّه تعالى عليه وسلم كل ذلك فى كشف الكنوز وحل الرموز. وذكر فى الحكم الشاذلية وشرحها انه لما علم الحق منك وجود الملل القاطع عن بلوغ الامل فحجرها عليك فى الاوقات اذ جعل فى اليوم خمسا وفى السنة شهرا وفى المائتين خمسة وفى العمر زورة ولكل واحدة فى تفاصيلها وقت لا تصح فى غيره كل ذلك رحمة بك وتيسيرا للعبودية عليك وقد قيد اللّه الطاعات باعيان الاوقات كيلا ينفك عنها وجود التوسيف ووسع الوقت عليك كى تبقى صفة الاختيار : قالوا المولى جلال الدين قدس سره كرنباشد فعل خلق اندرميان ... بس مكوكس راجرا كردى جنان يك مثال ايى دل بى فرقى بيار ... تابدانى جبررا از اختيار دست كان لرزان بود ازار تعاش ... وانكه دستى را تولرزانى زجاش هردوجنبش آفريده حق شناس ... ليك نتوان كرد اين با آن قياس وفى التأويلات النجمية بدارية الصلاة اقامة ثم ادامة فاقامتها بالمحافظة عليها بمواقيتها واتمام ركوعها وسجودها وحدودها ظاهرا وباطنا وادامتها بدوام المراقبة وجمع الهمة فى التعرض النفحات الطاف الربوبية التى هى مودعة فيها لقوله عليه السلام ( ان اللّه فى ايام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) فصورة الصلاة صورة التعرض والامر بها صورة جذبة الحق بان يجذب صورتك عن الاستعمال لغير العبودية وسر الصلاة حقيقه التعرض ففى كل شرط من شرائط صورتها وركن من اركانها وسنة من سننها وأدب من آدابها وهيسئة من هيآتها سر يشير الى طهارة يستعد بها لاقامة الصلاة ففى غسل اليدين اشارة الى تطهير نفسك عن تلوث المعاصى وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والتبعية والشيطانية كما قال تعالى لحبيبه عليه السلام { وثيابك فطهر } جاء فى التفسير اى قلبك فطهر وغسل الوجه اشارة الى طهارة وجه همتك من دنس ظلمة حب الدنيا فانه رأسُ كل خطيئة. ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة وفيه اشارة الى الاعراض عما سوى طلب الحق والتوجه الى حضرة الربوبية لطلب القرية والمناجاة ورفع اليدين اشارة الى رفع يدالهمة عن الدنيا والآخرة والتكبير تعظيم الحق بانه اعظم من كل شيء فى قلب العبد طلبا ومحبة وعظما وعزة ومقارنة النية مع التكبير اشارة الى ان صدق النفية فى فى الطلب ينبغى ان يكون مقرونا بتكبير وعظم ذلك المطلوب لا اللّه تعالى فلا تجوز صلاته حقيقة كما لا تجوز صلاته صورة الا بتكبير اللّه فان قال الدنيا اكبر او العقبى على الصدر اشارة الى اقامة رسم العبودية بين يدى مالكه وحفظ القلب عن محبة ما سواه وفى افتتاح القراءة بوجهت اشارة الى توجهه للحق خالصا عن شرك طلبه غير الحق وفى وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها اشارة الى حقيقة تعرض العبد فى الطلب لنفحات الطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين وطلب الهداية وهى الجذبات الالهية التى توازى كل جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقسومة بين العبد والرب نصفين والقيام والركوع والسجود اشارة الى رجوعه الى عالم الارواح ومسكن الغيب كما جاء منه فاول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم بالحيوانية ثم بالانسانية فالقيام من خصائص الانسان والركوع من خصائص الحيوان والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى { والنجم والشجر يسجدان } فللعبد فى كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران والحكمة فى تعلق الروح العلوى والنورانى بالجسد السفلى الظلمانى كان هذا الربح لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام ( خلقت الخلق ليربحوا على لا لأربح عليهم ) ليربح الروح فى كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد فى مراتب العلويات وان كان قد ابتلى اولا ببلاء الخسران كما قال تعالى { والعصر ان الانسان لفى خسر الا الذين آمنوا } لآية فبنور الايمان والعمل الصالح يتخلص العبد من بلاه خسران المراتب السفلية ويفوز بربحها فبالقيام فى الصلاة بالتذلل وتواضع العبودية يتخلص من خسران التكبر والتجبر الذى من خاصته ان يتكامل فى الانسان ويظهر منه انا ربكم الاعلى ويفوز بربح علو الهمة الانسانية التى اذا كملت فى الانسان لا يلتفت الى الكون فى طلب المكون كما كان حال النبى عليه السلام { اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاع البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى } فاذا تخلص من التكبر الانسانى يرجع من القيام الحيوانية ويفوز بربح تحمل الاذى والحلم ثم يرجع من الركوع الحيوانى الى السجود النباتى فبالسجود يتخلص من خسران الذلة النباتية والدناءة السفلية ويفوز بربح الخشوع الذى يتضمن الفلاح الابدى والفوز العظيم السرمدى كما قال تعالى { قد افلح المؤمنون الذين هم فى صلوتهم خاشعون } فالخشوع اكمل آلات العروج فى العبودية وقد حصل فى تعلقه بالجسد النيرانى وليس لاحد من العالمين هذا الخشوع وبهذا السرابت الملائكة وغيرهم ان يحملن الامانة فاشفقن منها لان الاباء ضد الخشوع وحملها الانسان باستعداد الخشوع وكمل خشوعه بالسجود اذ هو غاية التذلل فى صورة الانسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلى وعروجه الى العالم الروحانى العلوى برجوعه من مراتب الانسانية والحيوانية والنباتية وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وانفاق الموجود من انانية الوجود الذى هو من شرط المصلين كقوله تعالى { ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } الرزق فى اللغة العطاء. وفى العرف ما ينتفع به الحيوان وهو تناول الحلال والحرام عند اهل السنة والقرينة تخصصه ههنا بالحلال لان المقام مقام المدح وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآى وادخال من التبعيضية عليه للكف عن الاسراف المنهى عنه وصيغة الجمع فى رزقنا مع انه تعالى واحد لا شريك له لانه خطاب الملوك واللّه تعالى مالك الملك وملك الملوك والمعهود من كلام الملوك اربعة اوجه الاخبار على لفظ الواحد نحو فعلت كذا وعلى لفظ الجمع فعلنا كذا وعلى ما لم يسم فاعله رسم لكم كذا واضافة الفعل الى اسمه على وجه المغايبة امركم سلطانكم بكذا والقرآن نزل بلغة العرب فجمع اللّه فيه هذه الوجوه كلها فيما اخبر به عن نفسه فقال تعالى { ذرنى ومن خلقت وحيدا } على صيغة الواحد وقال تعالى { إنا انزلناه فى ليلة القدر } على صيغة الجمع وقال فيما لم يسم فاعله { كتب عليكم الصيام } وامثاله وقال فى المغايبة { واللّه الذى خلقكم } وامثاله كذا فى التيسير. ويقول الفقير جامع هذه اللطائف سمعت من شيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة ان الافراد بالنظر الى الذات والجمع بالنظر الى الاسماء والصفات ولا ينافى كثرة الاسماء والصفات وحدة الذات اذ كل منها راجع اليها والانفاق والانفاد اخوان خلا ان فى الثانى معنى الاذهاب بالكلية دون الاول والمراد بهذا الانفاق الصرف الى سيبل الخير فرضا كان او نفلا ومن فسره بالزكاة ذكر افضل انواعه والاصل فيه او خصصه بها لاقترانه بما هى شقيقتها واختها وهى الصلاة وقد جوز ان يراد به الانفاق من جميع المعادن التى منحهم اللّه اياها من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله صلى اللّه عليه وسلم ( ان علما لا ينال به ككنز لا ينفق منه ) واليه ذهب من قال فى تفسير الآية ومما خصصناهم من انوار المعرفة يفيضون والاظهر ان يقال المراد من النفقة هى الزكاة وزكاة كل شئ من جنسه كما روى عن انس بن مالك ( زكاة الدار ان يتخذ فيها بيت للضيافة ) كما فى الرسالة القشيرية. قالوا انفاق اهل الشريعة من حيث الاموال وانفاق ارباب الحقيقة من حيث الاحوال : قال المولى جلال الدين قدس سره. آن درم دادن سخى را لايق است ... جان سبردن خود سخاى عاشق است وانفاق الاغنياء من اموالهم لا يدخرونها عن اهل الحاجة وانفاق الابدين من نفوسهم لا يدخرونها عن وظائف الخدمة وانفاق العارفين من قلوبهم لا يدخرونها عن حقائق المراقبة وانفاق المحبين من ارواحهم لا يدخرونها عن مجارى الاقضية. والاقصر ان يقال انفاق الاغنياء اخراج المال من الجيب وانفاق الفقراء اخراج الاغيار من القلب ثم ذكر فى الآية الايمان وهو بالقلب ثم الصلاة وهى بالبدن ثم الانفاق وهو بالمال وهو مجموع كل العبادات ففى الايمان النجاة وفى الصلاة المناجاة وفى الانفاق الدردجات وفى الايمان البشارة وفى الصلاة الكفارة وفى الانفاق الطهارة وفى الايمان العزة وف الصلاة القربة وفى الانفاق الزيادة. وقيل ذكر فى هذه الآية اربعة اشياء التقوى والايمان بالغيب واقامة الصلاة والانفاق وهى صفة الخلفاء الراشدين الاربعة ففى الآية بيان فضلهم التقوى لابى بكر الصديق رضى اللّه تعالى عنه قال اللّه تعالى { فاما من اعطى واتقى وصدق بالحسنى } والايمان بالغيب لعمر الفاروق رضى اللّه عنه قال اللّه تعالى { حسبك اللّه ومن اتبعك من المؤمنين } واقامة الصلاة لعثمان ذى النورين رضى اللّه تعالى عنه قال اللّه تعالى { أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقاسما } الآية والانفاق لعلى المرتضى رضى اللّه تعالى عنه قال اللّه تعالى { الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار } الآية. وعند اقوم اى الصوفية السخاء هو الرتبة الاولى ثم الجود بعده ثم الايثار فمن اعطى البعض وابقى البعض فهو صاحب سخاء ومن بذل الاكثر وابقى لنفسه شيأ فهو صاحب جود والذي قاسى الضرورة وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب ايثار وبالجملة فى الانفاق فضائل كثيرة. وروى عن ابى عبد اللّه الحارث الرازى انه قال اوحى اللّه الى بعض انبيائه ( انى قضيت عمر فلان نصفه بالفقر ونصفه بالغنى فخيره حتى اقدم له أيهما شاء ) فدعا نبى اللّه عليه السلام الرجل واخبره فقال حتى اشاور زوجتى فقالت زوجته اختر الننى حتى يكون هو الاول فقال لها ان الفقر بعد الغنى صعب شديد والغنى بعد الفقر طيب لذيذ فقالت لا بل اطعنى فى هذا فرجعع الى النبى عليه السلام فقال اختار نصف عمرى الذى قضى لى فيه بالغنى ان يقدم فوسع اللّه عليه الدنيا وفتح عليه باب الغنى فقالت له امرأته ان اردت ان تبقى هذه النعمة فاستعمل السخاء مع خلق ربك فكان اذا اتخذ لنفسه ثوابا اتخذا لفقير ثوبا مثله فلما تم نصف عمره الذى قضى له فيه بالغنى اوحى اللّه تعالى الى نبى ذلك الزمان ( انى كنت قضيت نصف عمره بالفقر ونصفه بالغنى لكنى وجدته شاكرا لنعمائى والشكر يستوجب المزيد فبشرة انى قضيت باقى عمره بالغنى ) قال المولى جلال الدين قدس سره. هركه كارد كردد انبارش تهى ... ليكش اندر مزرعه باشد بهى وانكه در انبار ماند وصرفه كرد ... ابش وموش حوادثهاش خورد قال الحافظ احوال كنج قارون كايام درد برباد ... باغنجه باز كوييد تازر نهان ندارد وفى التأويلات النجمية { ومما رزقناهم ينفقون } اى من اوصاف الوجود يبذلون بحق النصف المقسوم من الصلاة بين العبد والرب فاذا بلغ السبيل زباه والتعرض منهاه ادركته العناية الازلية بنفحات ألطاف وهداه الى درجات قرباته فكما جذبة الحق للنبي عليه السلام فى صورة خطاب ( أدن ) فجذبة الحق للمؤمن تكون فى صورة خطاب { واسجد واقترب } ففى التشهد بعدا السجود اشارة الى الخلاص من حجب الانانية والوصول الى شهود جمال الحق بجذبات الربانية ثم بالتحيات يراقب رسوم العباد فى الرجوع الى حضرة الملوك بمراسم تحفة الثناء والتحنن الى اللقاء وفى التسليم عن اليميين وعن الشمال اشارة الى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين الى نعيم الجنات او عن الشمال الى اللذات والشهوات وهو فى مقامات الاجابات والمناجاة ودرجات القربات مستغرق فى بحر الكرامات مقيد بقيد الجذبات كما قال تعالى { واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } فاهل الصورة بالسلام يخرجون من اقامة الصلاة واهل الحقيقة بالسلام يدخلون فى ادامة الصلاة كقوله { والذين هم على صلواتهم دائمون } فقوم يقيمون الصلاة والصلاة تحفظهم كما قال تعالى { ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فهم { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } بمالهم فى الغيب معد بقوله ( اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) فعلموا ان ماهو المعد لهم لا تدركه الابصار ولا الآذان ولا القلوب التى رزقهم اللّه وليس بينهم وبين ما هو المع لهم حجاب الا وجودهم فاشتاقوا الى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم فآنسوا من جانب طور صلاتهم نار لان صلاتهم بمثابة لاطور لهم للمناجاة فلما اتاها نودى ان بورك من فى النار ومن حولها وسبحان اللّه رب العالمين فجعلوا ما رزقهم اللّه من اوصاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقونه عليها ويقيمون الصلاة حتى نودوا انكم وما تعدبون من دون اللّه حصب جهنم انتم لها واردون ومن لم يكن له نار تحرق فى نار جهنم الصلاة حطب وجوده ووجود كل من يعبد من دون اللّه فلا بدله من الحرقة بنار جهنم الآخرة فالفرق بين النارين ان نار الصلاة تحرق لب وجودهم الذى هم به محجوبون عن اللّه تعالى ويبقى جلد وجودهم وهو الصورة والحجاب من لب الوجود لا من جلده وهذا سر عظيم لا يطلع عليه الا اولوا الالباب المحترقة ونار جهنم تحرق جلودهم ويبقى لب وجودهم لا جرم لا ترفع الحجب عنهم كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون لان اللب باق والجلد وان احترق بقى اللب كما قال تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } فمن انفق لب الوجود وما تبدى منه له الوجود من المال والجاه فى سبيل نار الصلاة والقربة الى اللّه فينفق اللّه عليه وجود نار الصلاة كما قال لحبيبه عليه السلام ( انفق عليك ) فبقى بنار الصلاة بلا انانية الوجود فتكون صلاته دائمة بنور نار الصلاة يؤمن بما انزل على الانبياء عليهم الصلاة والسلام. ٤ { والذين يؤمنون } نزلت فى مؤمنى اهل الكتاب وما قبله الى قوله تعالى { ومما رزقناهم ينفقون } نزلت فى مؤمنى العرب { بما انزل اليك } هو القرآن باسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن انزاله بالماضى مع كون بعضه مترقبا حينئذ لتغليب المحقق على المقدر او التنزيل ما فى شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما فى قوله تعالى { انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى } مع ان الجن ما كانوا سمعوا الاكتاب جميعا ولا كان الجمع اذ ذاك نازلا. وفى الكواشى لان القرآن شئ واحد فى الحكم ولان المؤمن ببعضه مؤمن بكله انتهى ثم معنى ما انزل اليك هو القرآن الذى يتلى والوحى الذى لا يتلى فالمتلو هو هذه الصور والآيات وغير المتلو ما بين النبى عليه السلام من اعداد الركعات ونصب الزكوات وحدود الجنايات قال تعالى { وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى } ولانزال فى هذا الآية بمعنى الوحى ويكون بمعنى الاعلاء وهو النقل من الاسفل الى الاعلى وان حمل الانزال الذى هو من العلو الى الاسفل فمعناه انزال جبريل لتبليغه كما قال تعالى { نزل به الروح الامين } يعنى ان الانزال نقل الشئ من اعلى الى اسفل وهو انما يلحق المعانى بتوسط لحقوقه الذوات الحاملة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الآلهية الى الرسل عليهم السلام واللّه اعلم بان يتلقاها الملك من جنابه عز وجل تلقيا روحانيا او يحفظها من اللوح المحفوظ فينزل بها الى الرسل فيلقيها عليهم { وما انزل من قبل } التوراة والانجيل وسائر الكتب السالفة والايمان بالكل جملة فرض عين وبالقرآن تفصيلا من حيث انا متعبدون بتفاصيله فرض كفاية فان فى وجودبه على الكل عينا حرجا بينا واخلالا بامر المعاش. قال فى التيسير الايمان بكل الكتب مع تنافى احكامها على وجهين احدهما التصديق ان كلها من عند اللّه والثانى الايمان بما لم ينسخ من احكامها { وبالاخرة } تأنيث الآخر الذي يقابل الاول وهو فى المعدوداتع اسم للفرد اللاحق وهى صفة الدار بدليل قوله تعالى { تلك الدار الآخرة } وهى من الصفات الغالبة وكذا الدنيا والآخرة بفتح الخاء الذى يلى الاول وسميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا { هم يوقنون } الايقان اتقان العلم بالشئ بنفى الشك والشبه عند نظرا واستدلالا ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقينا وكذا العلوم الضرورية اى يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان اهل الكتاب عليه من الشكوك والاوهام التى من جملتها زعمهم ان الجنة لا يدخلها الا من كان هودا او نصارى وان النار لم تمسهم الا اياما معدودات واختلافهم فى ان نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا اولا وهل هو دائم اولا فقال فرقة منهم يجرى حالهم فى التلذذ بالمطاعم والمشارب والمناكح على حسب مجراها فى الدنيا وقال آخرون ان ذلك انما احتيج اليه فى هذه الدار من اجل نماء الاجسام ولمكان التوالد والتناسل واهل الجنة مستغنون عنه فلا يتلذذون الا بالنسيم والراواح العبقة والسماع اللذيذ والفرح والسرور وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من اهل الكتاب وبما كانوا عليه من اثبات امر الآخرة على خلاف حقيقته فان اعتقادهم فى امور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول الى مرتبة اليقين فدل التقديم على التخصيص بان ايقان من آمن بما انزل اليك وما انزل من قبلك مقصور على الآخرة الحقيقية لا يتجاوز الى ما اثبته الكفار بالاقرار من اهل الكتاب * قال ابو الليث رحمه اللّه فى تفسيره اليقين على ثلاثة اوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة فاما يقين العيان فهو انه اذا رأى شيأ زال الشك عنه فى ذلك الشئ واما يقين الدلالة فهو ان يرى الرجل دخانا ارتفع من موضع يعلم باليقين ان هناك نارا وان لم يرها واما يقين الخبر فهو ان الرجل يعلم باليقين ان فى الدنيا مدينة يقال لها بغداد وان لم ينته اليها فههنا يقين خبر ويقين دلالة لان الآخرة حق ولان الخبر يصير معاينة عند الرؤية انتهى كلامه. ويقال علم اليقين ظاهر الشريعة وعين اليقين الاخلاص فيها وحق اليقين المشاهدة فيها والعلم اليقين هو العلم الحاصل بالادراك الباطنى بالفكر الصائب والاستدلال وهذا للعلماء الذين يوقنون بالغيب ولا تزيد هذه المرتبة العلمية الا بمناسبة الارواح القدسية فاذا يكون العلم عينا ولامر نبة للعين الا اليقين الحاصل من مشاهدة المعلوم ولا تزيد هذه المرتبة الا بزوال حجاب الاثينية فاذا يكون العين حقا وزيادة هذه المرتبه اى حق اليقين عدم ورود المحاجب بعده وعينه للاولياء وحقه للانبياء وهذه الدرجات والمراتب لا تحصل الا بالمجاهدة مثل دوام الوضوء وقلة الا كل والذكر او السكوت بالفكر فى ملكوت السموات والارض وباداء السنن والفرائض وترك ما سوى الحق والغرض وتقليل المنام والعرض واكل الحلال وصدق المقال والمراقبة بقلبه الى اللّه تعالى فهذه مفاتيح المعاينة والمشاهدة كذا فى شرح النصوص المسمى باسرار السرور بالوصول الى عين النور. ثم ثمرة اليقين بالآخرة الاستعداد لها فقد قيل عشرة من المغرورين من ايقن ان اللّه خالقه ولا يعبده ومن ايقن ان اللّه رازقه ولا يطمئن به ومن ايقن ان الدنيا زائلة ويعتمد عليها ومن ايقن ان الورثة اعداؤه ويجمع لهم توباخود ببرتوشة خويشتن ... كه شفقت نيايد زفرزندوزن ومن ايقن ان الموت آت فلا يستعد له ومن ايقن ان القبر منزله فلا يعمره ومن ايقن ان الديان الفجار فلا يصحح حجته ومن ايقن ان الصراط ممره فلا يخفف ثقله ومن ايقن ان النار دار الفجار فلا يهرب منها ومن ايقن ان الجنة دار الابرار فلا يعمل لها كما فى التيسير. قال ذو النون المصرى اليقين داع الى قصر الامل وقصر الامل يدعو الى الزهد والزهد يورث الحكمة والحكمة تورث النظر فى العواقب. قال ابو على الدقاق رحمه اللّه فى قول النبى عليه السلام فى عيسى ابن مريم عليهما السلام ( لو لم يزدد يقينا ما مشى فى الهواء ) اشار بهذا الحديث الى حال نفسه صلى اللّه عليه وسلم ليلة المعراج لان فى لطائف المعراج انه قال رأيت البراق قد بقى ومشيت * وقال ابو تراب رأيت غلاما فى البادية يمشى بلا زاد فقلت ان لم يكن معه يقين فقد هلك فقلت يا غلام أيمشى فى مثل هذا الموضع بلا زاد فقال يا شيخ ارفع رأسك هل ترى غير اللّه تعالى فقلت الآن فاذهب حيث شئت. قال ابراهيم الخواص طلب الماشى لاكل الحلال فاصطدمت السمك فيوما وقع فى الشبكة سمك فاخرجتها وطرحت الشبكة فى الماء فوقعت اخرى فيها ثم عدت فهتف بى هاتف لم تجد معاشا الا ان تأتى الى من يذكر اللّه فتقتلهم فكسرت لاقصبة وتركت كذا فى الرسالة القشيرية وذكر فى التأويلات النجمية ان من تخلص من ذل الحجاب الوجودى يجد عزة الايقان بالامور الاخروية وكان مؤمنا بها من وراء الحجاب فصار موقنا بها بعد رفع الحجاب كما قال امير المؤمنين على كرم اللّه وجه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا لان من كشف عنه غطاء الوجود لا يحجبه غطاء المحسوسات الدنيوية عن الامور الاخروية فبكشف الحجب يتخلصون من مرتبة الايمان الى مرتبة الايقان كما قال تعالى { وبالآخرة هم يوقنون } ولكن هذا خاص اى يوقنون بالآخرة دون ما انزل على الانبياء من الكتب فانهم لا يتخلصون من مرتبة الايمان باللّه وكتبه ابدا وهذا سر عظيم وما رأيت احدا فرق بين هاتين المرتبتين وذلك لانه لا يمكن للانسان ان يشاهد الامور الاخروية كلها بطريق الكشف فى الدنيا واما بطريق المشاهدة فى العقبى فيصير موقنا بها بعد ما كان مؤمنا كما قال تعالى { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } فاما ما يتعلق بذات اللّه تعالى وصفاته فلا مكن لاحد ان يشاهده بالكلية لانه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدة وان فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا من مرتبة الايمان بما لم يشاهدوا بعد ولا يحيطون به علما الى ابدا لآباد بل ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء. ٥ { اولئك } الجملة فى محل الرفع ان جعل احد الموصلين مفصولا عن المتقين خبر له وكأنه لما قيل هدى للمتقين قيل ما بالهم خصوا بذلك اجيب بقوله الذين يؤمنون الى آخر الآيات والا فاستئناف لا محل لها فكأنه نتيجة الاحكام السابقة والصفات المتقدمة. واو لاء جمع لا واحد له من لفظه بنى على الكسر وكافه للخطاب كالكاف فى ذلك اى المذكورون قبله وهم المتقون الموصوفون بالايمان بالغيب وسائر الاوصاف المذكورة بعده وفيه دلالة على انهم متميزون بذلك اكمل تميز منتظمون بسببه فى سلك الامور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للاشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم فى الفضل وهو مبتدأ وقوله عز وجل { على هدى } خبره وما فيه من الابهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمة كأنه قيل على هدى اى هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره كما تقول لو ابصرت فلانا لابصرت رجلا وايراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم فى ملابستهم بالهدى بحال من يقبل الشئ ويستولى عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد وذلك انما يحصل باستفراغ الفكر وادامة النظر فيما نصف من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس فى العمل يعنى اكرمهم اللّه فى الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريق الفلاح قبل الموت { من ربهم } متعلق بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الاضافية اثر بيان فخامته الذاتية مؤكدة لها اى على هدى كائن من عنده تعالى وهو شامل لجميع انواع هدايته تعالى وفنون توفيقه والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى ضميرهم لغاية تفخيم الموصوف والمضاف اليهم وتشريفهما. ثم هذه الآية ذكر الهدى للموصوفين بكل هذه الصفات وفى قوله { قولوا آمنا باللّه وما انزل الينا } الى قوله تعالى { فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } ذكر لهم الهداية بالاقرار والاعتقاد بدون سائر الطاعات بيانا لشرف الايمان وجلال قدره وعلو امره فانه اذا قوى لم يبطله نفس المخالفات بل هو الذى يغلب فيرد الى التوبة بعد التمادى فى البطالات وكما هدى اليوم الى يهدى غدا الى الجنان فقد قال تعالى { ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم } وذلك ان المطيعين يسعى نورهم بين ايديهم وبايمانهم وهم على مراكب طاعاتهم والملائكة تتلقاهم قال تعالى { يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا } وتتلقاهم الملائكة وتبقى العصاة منفردين منقطعين فى متاهات القيامة ليس لهم نور الطاعات ولافى حقهم استقبال الملائكة فلا يهتدون السبيل ولا يهديهم دليل فيقول اللّه لهم { عبادى ان اصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون } ان اهل الجنة من حسن الثواب لا يتفرغون لكم واهل النار من شدة العقاب لا يرحمونكم معاشر المساكين سلام عليكم كيف انتم ان كان اشكالكم سبقوكم ولم يهدوكم فانا هاديكم ان عاملتكم بما تستوجبون فاين الكرم كذا فى التيسير : قال السعدى نه يوسف كه جندان بلاديد وبند ... جوحكمش روان كشت وقدرش بلند كنه عفو كرد آل يعقوبرا ... كه معنى بود صورت خوبرا بكردار بد شان مقيد نكرد ... بضاعات مزجاتشان ردنكرد زلطفت همى جشم داريم نيز ... برين بى بضاعت ببخش اى عزيز بضاعت نياوردم الا اميد ... خدايا زعفوم مكن ن اميد { واولئك هم المفلحون } تكرير اولئك للدلالة على ان كل واحد من الحكمين مستبد فى تميزهم به عن غيرهم فكيف بهما وتوسط العطف بينهما تنبيه على تغايرهما فى الحقيقة وفائدة الفصل بين المبتدأ والخبر الدلالة على ان ما بعده خبر لا صفة وان المسند ثابت للمسند اليه دون غيره فصفة الفلاح مقصورة عليهم لا تتجاوز الى من عداهم من اليهود والنصارى ولا يلزم من هذا ان لا يكون للمتقين صفة اخرى غير الفلاح فالقصر قصر الصفة على الموصوف لا العكس حتى يلزم ذلك والمفلح الفائز بالبغية كانه الذى انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه والتركيب دال على معنى الشق والفتح والقطع ومنه سمى الزارع فلاحا لانه يشق الارض وفى المثل احديد بالحديد يفلح اى يقطع والمعنى هم الفائزون بالجنة والناجون من النار يوم القيامة والمقطوع لهم بالخير فى الدنيا والآخرة. وحاصل الفلاح يرجع الى ثلاثة اشياء. احدها الظفر على النفس فلم يتابعوا هواها والدنيا فلم يطغوا بزخارفها والشيطان فلم يفتنوا بوساوسه وقرناء السوء فلم يبتلوا بمكروهاتهم. والثانى النجاة من الكفر والضلالة والبدعة والجهالة وغرور النفس ووسوسة الشيطان وزوال الايمان وفقد الامان ووحشة القبور واهوال النشور وزالة الصراط وتسليط الزبانية الشداد الغلاظ وحرمان الجنان ونداء القطيعة والهجران. والثالث البقاء فى الملك الابدى والنعيم السرمدى ووجدان ملك لا زوال له ونعيم لا انتقال له وسرور لا حزن معه وشباب لا هرم معه وراحة لا شدة معها وصحة لا علة معها ونيل نعيم لا حساب معه ولقاء لا حجاب له كذا فى تفسير التيسير. وقد تشبثت الوعيدية بالآية فى خلود الفساق من اهل القبلة فى العذاب ورد بان المراد بالمفلحين الكاملون فى الفلاح ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم لا عدم الفلاح لهم رأسا كما فى تفسير البضاوى قال الشيخ نجم الدين داية قدس سره ذكر هدى بالنكرة اى على كشف من كشوف ربهم ونور من انواره وسر من اسراره ولطف من ألطافه وحقيقة من حقائقه فان جميع ما انعم اللّه به على انبيائه واوليائه بالنسبة الى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وانعامه واحسانه قطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الانفاق ابدا كما قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( يمين اللّه ملأ لا ينقصها نفقة سخاء الليل والنهار ) وفيه اشارة لطيفة وهى انهم بذلك الهدى آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون واولئك هم المفلحون الذين تخلصوا من حجب الوجود بنور نار الصلاة وشاهدوا الآخرة وجذبتهم العناية بالهداية الى مقامات القربة وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه وما حطوا رحالهم الا بفنائه فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى ونالوا الدرجة العلبا وحققوا قول الحق { وان الى ربك الرجعى } نتهى كلام الشخ فى تأويلاته : قال المولى جلال الدين قدس سره كرهمى خواهى كه بفروزى جوروز ... هتئ همجون شب خودرا بسور هستيت درهست آن هستى نواز ... همجومس در كيميا اندر كداز ٦ { ان الذين كفروا } لما ذكر خاصة عباده وخالصة اوليائه بصفاتهم التى اهلتهم للّهدى والفلاح عقبهم اضدادهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يغنى عنهم الآيات والنذر وتعريف الموصول اما للعهد والمراد به ناس باعيانهم كابى لهب وابى جهل والوليد ابن المغيرة واحبار اليهود او للجنس مناولا كل من صمم على كفره تصميما لا يرعوى بعده وغيرهم فخص منهم غير المصرين بما اسند اليه. والكفر لغة الستر والتغطية وفى الشريعة انكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول صلى اللّه عليه وسلم به وانما عد لباس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرها كفرا لدلالته على التكذيب فان من صدق النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يكاد يجترئ على امثال ذلك اذ لا داعى اليه كالزنى وشرب الخمر لا لانه كفر فى نفسه. والكافر فى القرآن على اربعة اوجه. احدها نقيض المؤمن قال اللّه تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه } والثانى الجاحد قال تعالى { ومن كفر فان اللّه غنى عن العالمين } اى جحد وجوب الحج. والثالث نقيض الشاكر قال تعالى { واشكروا لى ولا تكفرون } والرابع المتبرى قال تعالى { ويوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } اى يتبرأ بعضكم من بعض كذا فى التيسير. وقال فى البغوى الكفر على اربعة اوجه كفر الانكار وهوان لا يعرف اللّه اصلا ولا يعترف به وكفر الجحود وهو ان يرفع اللّه بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر ابليس قال اللّه تعالى { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وكفر العناد وهو ان يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ولا يدين به ككفر ابى طالب حيث يقول. ولقد علمت بان دين محمد ... من خير اديان البرية دينا لولا الملامة او حذرا مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا وكفر النفاق وهو ان يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب وجميع هذه الانواع سواء فى ان من لقى اللّه بواحد منها لا يغفر له انتهى كلام البغوى لكن الكلام فى ابى طالب سيجئ عند قوله تعالى { ولا تسئل عن اصحاب الجحيم } { سواء عليهم } اى عندهم وهو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال اللّه تعالى { تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم } وارتفاعه على انه خبر لان وقوله تعالى { ءانذرتهم } يا محمد { أم لم تنذرهم } مرتفع على الفاعلية لان الهمزة وما مجردتان عن معنى الاسفتهام لتحقيق معنى الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الامر والنهى لذلك عن معنييهما فى قوله عز وجل { استغفر لهم او لا تستغفر لهم } وحرف النداء فى قولك اللّهم اغفر لنا ايتها لاعصابة وعن معنى الطلب لمجرد التخصيص كانه قيل ان الذين كفروا مستو عليهم انذارك وعدمه كقولك ان زيدا مختصم اخوه وابن عمه. واصل الانذار الاعلام بامر مخوف وكل منذر تعلم وليس كل معلم منذرا كما فى تفسير ابى الليث والمراد ههنا التخويف من عذاب اللّه وعقابه على المعاصى وانما اقتصر عليه لما انهم ليسوا باهل للبشارة اصلا ولا الانذار اوقع فى القلوب واشد تأثيرا فى النفوس فان دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لا يرفعوا للبشارة رأسا اولى. وانما لم يقل سواء عليك كما قال لعبدة الاصنام { سواء عليكم ادعوتموهم ام انتم صامتون } لان انذارك وترك انذارك ليسا سواء فى حقك لانك تثابك على الانذار وان لم يؤمنوا فما فى حقهم فهما سواء لانهم لا يؤمنون فى الحالين وهو نظير الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فانه يثاب به الآمر وان لم يعمل به المأمور وكان هؤلاء القوم كقوم هود الذين قالوا لهود عليه السلام { سواء علينا أوعظت ام لم تكن من الواعظين } وقال تعالى فى حق هؤلاء { سواء عليهم } الخ ويقال لهم فى القيامة { اصلوها فاصبروا او لا تصبروا سواء عليكم انما تجزون ما كنتم تعملون } واخبر عنهم انهم يقولون { سواء علينا اجزعنا ام صبرنا ما لنا من محيص } فلما كان الوعظ وتركه سواء كان صبرهم فى النار وتركه سواء وجزعهم فيها وتركه سواء وانت اذا كان عصيانك فى الشباب والشيب سواء وتماديك فى الصحة والمرض سواء واعراضك فى النعمة والمحنة سواء وقسوتك على القريب والبعيد سواء وزيغك فى السر والعلانية سواء اما تخشى ان تكون توبتك عند الموت واصرارك عند النزع وسكوتك سواء وزيارة الصالحين لك وامتناعهم سواء وقيام الشفعاء بامرك وتركهم سواء كذا فى تفسير التيسير { لا يؤمنون } جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من اجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الاعراب ثم هذا تخفيف للنبى عليه السلام وتفريغ لقلبه حيث اخبره عن هؤلاء بما اخبر به نوحا صلوات اللّه عليه وعلى سائر الانبياء فى الانتهاء فانه قال تعالى لنوح عليه السلام بعد طول الزمان ومقاساة الشدائد والاحزان { إنه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن } فدعا بهلاكهم بعد ذلك وكذلك سائر الانبياء. فى الآية الكريمة اخبار بالغيب على ما هو به ان اريد بالموصول اشخاص باعيانهم فهى من المعجزات الباهرة وفى الآية اثبات فعل العباد فانه قال لا يؤمنون فيه اثبات فعل العباد فانه قال لا يؤمنون وفيه اثبات الاختبار ونفى الاكراه والاجبار فانه لم يقل لا يستطيعون بل قال لا يؤمنون. فان قلت لما علم اللّه انهم لا يؤمنون فلم امر النبى عليه السلام بدعائهم. قلت فائدة الانذار بعد العلم بانه لا ينجع الزام الحجة كما ان اللّه تعالى بعث موسى الى فرعون ليدعوه الى السلام وعلم انه لا يؤمن قال اللّه تعالى { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل } وقال { ولو انا اهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك } فان قلت لما اخبر اللّه رسوله انهم لا يؤمنون فهلا الهكهم كما اهلك قوم نوع بعدما اخبرانهم لا يؤمنون. قلت لما اخبر اللّه رسوله انهم لا يؤمنون فهلا اهلكهم كما اهلك قوم نوح بعدما اخبرانهم لا يؤمنون. قلت لان النبى عليه السلام كان رحمة للعالمين كما ورد به الكتاب وقد قال اللّه تعالى { وما كان اللّه ليعذبهم وانت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } ثم ان الاخبار بوقوع الشئ او عدمه لا ينفى القدرة عليه كاخباره تعالى عما يفعله هو او العبد باختياره فلا يلزم جواز تكليف ما لا يطاق. قال الامام القشيرى من كان فى غطاء صفته محجوبا عن شهود حقه فسيان عنده قول من دله على الحق وقول من اعانه على استجلاب الحظ بل هو لى داعى الغفلة اميل وفى الاصغاء اليه ارغب وكما ان الكافر لا يرعوى عن ضلالته لما سبق من شقاوته فكذلك المربوط باغلال نفسه محجوب عن شهود غيبه وحقه فهو لا يبصر رشده ولا يسلك قصده. وقال ايضا ان الذى بقى فى ظلمات دعاويه سواء عنده نصح الراشدين وتسويلات المبطلين لان اللّه تعالى نزع من احواله. بركات الانفصاف فلا يصغى الى داعى الرشاد كما قيل وعلى النصوح نصيحتى ... وعلى عصيان النصوح وفى التأويلات النجمية { ان الذين كفروا } اى جحدوا ربوبيتى بعد اقرارهم فى عهد الست بربكم باجابة بلى وستروا صفاء قلوبهم برين ما كسبوا من اعمالهم الطيبعية النفسانية وافسدوا حسن استعدادهم من فطرة اللّه التى فطر الناس عليها باكتساب الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } وذلك بان ارواحهم النفسية لما نظروا برزونة الحواس الخمس الى عالم الصورة الخسيسة حجبت عن مألوفاتها ومحابها ثم ابتليت بصحبة النفوس الحيوانية واستأنست بها ولهذا يسمى الانسان انسانا لانه انيس فبمجاورة النفس الخسيسة صار الروح النفيس خسيسا فاستحسن ما استحسنت النفسص واستلذ به ما استلذ به النفس واستمتع من المراتع الحيوانية فانقطع عند الاغذية الروحانية ونسى حظائر القدس وجوار الحق فى رياض الانس ولهذا سمى الناس ناسا لانه ناس فتاه فى اودية الخسران واستهوته الشياطين فى الارض حيران ولما نسوا اللّه بالكفران نسيهم بالخذلان حتى غلب إيهم الهوى واوقعهم فى مهالك الردى فاصبحوا بنفوس احياء وقلوب موتى { سواء عليهم ءانذرتهم } بالوعد والوعيد وخوفتهم بالعذاب الشديد { ام لم تنذرهم لا يؤمنون } بما اخبرتهم ودعوتهم اليه وانذرتهم عليه لان روزنة قلوبهم الى عالم الغيب منسدة بقساوة حلاوة الدنيا وقلوبهم مغلوقة بحب الدنيا وشهواتها مقفول عليها بمتابعة الهوى كما قال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها } فما تنسموا روائح الانس من رياض القدس بل هب عليهم صرصر الشقاوة من مهب حكم السابقة وادركهم بالختم على أقفا لها كما قال تعالى { ختم اللّه } الآية انتهى ما فى التأويلات. ومن امثال الانجيل قلوبكم كالحصاة لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الريح : قال السعدى جون بو داصل جوهرى قابل ... تربيت را دراواثر باشد هيج صيقل نكو نداند كرد ... آهنى راكه بد كهر باشد ٧ { ختم اللّه على قلوبهم } لما ذكر هؤلاء الكفار بصفاتهم وحالاتهم الحق به ذكر عقوباتهم فهو تعليل للحكم السابق وبيان ما يقتضيه. والختم الكتم سمى به الاستيثاق من الشئ بضرب الخاتم عليه لانه كتم له وبلوغ آخره ومنه ختم القرآن نظرا الى انه آخر فعل يفعل فى احرازه ولا ختم على الحقيقة وانما المراد به ان يحدث فى نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصى واستقباح الايمان والطاعات بسبب غيهم وانهماكهم فى التقليد واعراضهم عن النظر الصحيح فتجعل قلوبهم بحيث لا يؤثر فيها الانذار ولا ينفذ فيها الحق اصلا وسمى هذه الهيئة على الاستعارة ختما وقد عبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع فى قوله تعالى { اولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وابصارهم } وبالاغفال فى قوله { ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا } وبالاقساء فى قوله وجعلنا قلوبهم قاسية وهى من حيث ان الممكنات باسرها مسندة الى اللّه تعالى واقعة بقدرته اسندت اليه تعالى ومن حيث انها مسببة مما اقترفوه بدليل قوله تعالى { بل طبع اللّه عليها بكفرهم } وقوله ذلك { بانهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم } وردت الآية الكريمة ناعية عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم فالختم مجازاة لكفرهم واللّه تعالى قد يسر عليهم السبل فلو جاهدوا لوفقهم فسقط الاعتراض بانه اذا ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة. قال الشيخ فى تفسيره واسناد الختم الى اللّه للتنبيه على ان اباءهم عن قبول الحق كالشئ الخلق غير العرضى انتهى. وقال فى التيسير حاصل الختم عند اهل عقوبة من اللّه تعالى لا تمنع العبد من الايمان جبرا ولا تحمله على الكفر كرها بل هى زيادة عقوبة له على سوء اختياره وتماديه فى الكفر واصراره يحرم بها من اللطف الذي سهل به فعل الايمان وترك العصيان بدل عليه انهم بقوا مخاطبين بالايمان بقوله تعالى { آمنوا باللّه ورسوله } وملومين على الامتناع عنه لقوله تعالى { فما لهم لا يؤمنون } ولو صاروا مجبورين وعن الايمان عاجزين لزال الخطاب وسقط اللوم والعتاب كما فى الختم على الافواه يوم الحساب لما عجزوا به حقيقة عن الكلام لم يبق الخطاب بالكلام وتحقيق المذهب اثبات فعل العبد وتخليق اللّه تعالى. والقلوب جمع قلب وهو الفؤاد سمى قلبا لتقلبه فى الامور ولتصرفه فى الاعضاء. وفى تفسير الشيخ القلب قطعة لحمم مشكل بالشكل الصنوبرى معلق بالوتين مقلوبا والوتين عرق فى القلب الذى انقطع مات صاحبه ويقال له الابهر وفى تفسير الكواشى القلب قطعة سوداء فى الفؤاد وزعم بعضهم انه الشكل الصنوبرى المعلق بالوتين مقلوبا * وفى تعريفات السيد القلب لطيفة ربانية لها بهذا القلب الجسمانى الصنوبرى الشكل المودع فى الجانب الايسر من الصدر تعلق وتلك اللطيفة هى حقيقة الانسان : قال المولى الجامى نسيت اين بيكر مخروطى دل ... بلكه اين قفص طوطى دل كرتو طوطى زقفس نشناسى ... بخدا ناس نه نشناسى والمراد بالقلب فى الآية محل القوة العاقلة من الفؤاد وقد يطلق ويراد به المعرفة والعقل كما قال { ان فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب } { و } ختم اللّه { على سمعهم } اى على آذانهم فجعلها بحث تعاف استماع الحق ولا تصفى الى خير ولا تعيه ولا تقبله كأنها مستوثق منها بالختم عقوبة لهم على سوء اختيارهم وميلهم الى الباطل وايثارهم. والسمع هو ادراك القوة وهو المختوم عليه اصالة. وفى توحيد السمع وجوده. احدها انه فى الاصل مصدر والمصادر لا تجمع لصلاحيتها للواحد والاثنين والجماعة قال تعالى { انهم يكيدون كيدا واكيد كيدا } فان قالوا فلم جمع الابصار والواحد بصر وهو كالسمع قلنا انه اسم للعين فكان اسما لا مصدرا فجمع لذلك. والثانى ان فيه اضمارا اى على مواضع سمعهم وحواسه كما فى قوله تعالى { واسئل القرية } اى اهلها وثبت هذا الاضمار دلالة ان السمع فعل ولا يختم على الفعل وانما يختم على محله. والثالث انه اراد سمع كل واحد منهم والاضافة الى الجماعة تغنى عن الجماعة وفى التوحيد امن اللبس كما فى قوله كلو فى بعض بطنكم اى بطونكم اذا لبطن لا يشترك فيه. والرابع قول سيبويه دل على الانوار ذكر الظلمات وتقديم ختم قلوبهم للايذان بانها الاصل فى عدم الايمان وتقديم حال السمع على حال ابصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم فى تلك الحال. قالوا السمع افضل من البصر لانه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولان السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث اللّه تعالى رسولا اصم ولان السمع وسيلة الى استكمال العقل بالمعارف التى تتلقف من اصحابها { وعلى ابصارهم } جمع بصر وهو ادراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضوين وهو المراد ههنا لانه اشد مناسبة للتغطية { غشاوة } اى غطاء ولا تغشية على الحقيقة وانما المراد بها احداث حاله تجعل ابصارهم بسبب كفرهم لا تجتلى الآيات المنصوبة فى الانفس والآفاق كما تجتليها اعين المستبصرين وتصير كأنها غطى عليها وحيل بينها وبين الابصار ومعنى التنكير ان على ابصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس وهى غشاوة التعامى عن الآيات. قوله غشاوة مبتدأ مؤخر خبره المقدم قوله وعلى ابصارهم ولما اشترك السمع والقلب فى الادراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما الختم الذى يمنع من جميع الجهات وادراك الابصار مما اختص بجهة المقابلة جعل المانع لها عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. قال فى التيسير انما ذكر فى الآية القلوب والسمع والابصار لان الخطاب كان باستعمال هذه الثلاثة فى الحق كما قال تعالى { أفلا تعقلون أفلا تبصرون أفلا تسمعون } { ولهم عذاب عظيم } اى عقوبة شديدة القوة ومنه العظم والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال اعذب عن الشئ اذا امسك عنه وسمى العذاب عذابا لانه يمنع عن الجناية اذا تأمل فيها العاقل ومنه الماء العذب لما انه يقمعالعطش ويردعه بخلاف الملح فانه يزيده ويدل عليه تسميتهم اياه نفاخا لانه ينقخ العطش اى يكسره وفراتا لانه يرفته على القلب يعنى الفرات وهو الماء العذب مأخوذ من الوفت وهو قلبه وقيل انما سمى به لانه جزاء ما استعذ به المرؤ بطبعه اى استطابه ولذلك قالوا فذوقوا عذابى وانما يذاق الطيب على معنى انه جزاء ما استطابه واستحلاه بهواه فى الدنيا * والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فكان العظيم فوق الكبير كما ان الحقير دون الصغير. قال فى التيسير عظيم اى كبير او كثير او دائم وهو التعذيب بالنار ابدا ثم عظمه باهواله وبشدة احواله وكثرة سلاسله واغلاله فتكون هذه الآية وعيدا وبيانا لما يستحقونه فى الآخرة وقيل هو القتل والاسر فى الدنيا والتحريق بالنار فى العقبى ومعنى التوصيف بالعظيم انه اذا قيس سائر ما يجانسه قصر عنه جميعه ومعنى التنكير ان لهم من الآلام نوعا عظيما لا يعلم كنهه الا اللّه عز وجل. فعلى العاقل ان يجتنب عما يؤدى الى العذاب الاليم والعقاب العظيم وهو الاصرار على الذنوب والاكباب على اقتراف الخطيأت والعيوب. قيل فى سبب الحفظ من هذه العقوبة التى هى الختم على الكيس فلا يمنعه عن حق ووضع الختم على اللسان فلا يطلق فى باطل قال السعدى بكمراه كفتن نكو ميروى ... كناه بزركست وجور قوى مكو شهدشيرين شكر فايقست ... كسى كه سقمونيا لا يقست قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( ان هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ) قيل وما جلاؤها قال ( تلاوة القرآن وكثرة ذكر اللّه وكثرة ذكر الموت ) وامهات الخطايا ثلاث الحرص والحسد والكبر فحصل من هؤلاء ست فصارت تسعا الشبع والنوم والراحة وحب المال وحب الجاه وحب الرياسة فحب المال والرياسة من اعظم ما يجر صاحبه الى الكفر والهلاك - حكى - ان ملكا شابا قال انى لا اجد فى الملك لذة فلا ادرى أكذلك يجدة الناس ام انا اجده فقالوا له كذلك يجده الناس قال فماذا يقيمه قالوا يقيمه لك ان تطيع اللّه فلا عصيه فدعا من كان فى بلده من العلماء والصلحاء فقال لهم كونوا بحضرتى ومجلسى فما رأيتم من طاعة اللّه فاثمرونى وما رأيتم من المعصية فازجرونى عنها ففعل ذلك فاستقام له الملك اربعمائة سنة ثم ان ابليس اتاه يوما على صورة رجل وقال له من انت قال الملك رجل من بنى آدم قال لوكانت من بنى آدم لمنت كما تموت بنوا آدم ولكنك اله فادع الناس الى عبادتك. دخل فى قلبه شئ ثم صعد المنبر فقال ايها الناس انى اخفيت عليكم امرا حان اظهار وهو انى ملككم منذ كذا سنة ولو كنت من بنى آدم لمت ولكنى اله فاعبدونى فاوحى اللّه الى نبى زمانه وقال اخبره انى استقمت له ما استقام لى فتحول من طاعتى الى معصيتى فبعزتى وجلالى لاسلطن عليه بخت نصر ولم يتحول عن ذلك فسلطه عليه فضرب عنقه وأوقر من خزينته سبعين سفينة من ذهب : قال المولى جلال الدين قدس سره جز عنايت كه كشايد جثم را ... جز محبت كه نشاند خشم را جهد بى توفيق خود كس را مباد ... در جهان واللّه اعلم بالرشاد وفى التأويلات النجمية فى الختم اشارة الى بداية سوابق احكام القدر بالسعادة والشقاوة على وفق الحكمة والارادة الازلية للخليقة كما قال تعالى { فمنهم شقى وسعيد } مع حسن استعداد جميعهم بقبول الايمان والكفر ولهذا لما خاطب الحق ذراتهم بخطاب الست بربكم قالوا بلى جميعا ثم اودع اللّه الذرات ف القلوب والقلوب فى الاجساد والاجساد فى الدنيا فى ظلمات ثلاث وكانت روزنة القلوب كلها مفتوحة الى عالم الغيب بواسطة الذرات المودعات التى سمعت خطاب الحق وشاهدت كمال الحق الى وقت ولادة كل انسان كما قال عليه السلام ( كل مولود يولد على فطرة الاسلام فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) وفيه اشارة الى ان اللّه يكل الاشقياء الى تربية الوالدين فى معنى الدين حتى يلقونهم تقليد ما الفوا عليهم آباءهم من الضلالة فيضلوهم كما قال تعالى { انتم وآباؤكم فى ضلال مبين } فكانت تلك الشقاوة المقدرة مضمرة فى ضلالة التقليد والصفات النفسانية الظلمانية والهوى والطبيعة ثم جعل تأثيرها وظلمتها ورينها يندرج الى القلوب فيقسيها ويسودها ويغطيها ويسد روزنتها الى الذرات فيعميها وبصمها حتى لا يبصر اهل الشقاوة ببصر الذرات من الحق ما كانوا يبصرون ولا يسمع يسمع الذرات من الحق ما كانوا يسمعون فينكرون على الانبياء ويكفرون بهم وبما يدعونهم اليه فيختم اللّه شقاوتهم بكفرهم هذا ويطبع به على قلوبهم كقوله تعالى { بل طبع اللّه عليها بكفرهم } فسر القدر مستور لا يطلع عيله احد الا اللّه فيظهر آثار السعادة باقرار السعداء ويظهر آثار الشفاؤة بانكار الاشقياء وكفرهم من القدر كالبذر فى الارض مستور فتظهر الشجرة منه وهو فى الشجرة مستور فيخرج مع الاغصان من الشجرة وهو فى الاغصان مستور حتى يخرج مع الاغصان من الشجرة وهو فى الاغصان مستور حتى يخرج مع الثمرة من الاغصان وهو فى الثمرة مستور حتى يظهر من الثمرة فيختم ظهور البذر بالثمرة فكذلك سر القدر وهو بذر السعادة او الشقاوة مستور فى علم اللّه تعالى فتظهر شجرة وجود الانسان منه والسعادة والشقاوة مستورة فيها فتخرج مع اغصان الاخلاق وهى مستورة فيها فتخرج مع ثمرة الاعمال وهى الاقرار والنكار والايمان والكفر فيختم ظهور سر القدر وهو السعادة او الشقاوة بثمرة الايمان او الكفر فيظهر سر القدر عند الختم بالسعادة او الشقاوة فالذين { ختم اللّه على قلوبهم } انما ختم بخاتم كفرهم وان كان نقش خاتمهم هو الاحكام الازلية وسر القدر حتى حرموا من دولة الوصال وبه ختم { على سمعهم } حتى لم يسمعوا خطاب الملك ذى الجلال { وعلى ابصارهم غشاوة } من العمى والضلال فلم يشاهدوا ذلك الجمال والكمال فلهم حرمان مقيم { ولهم عذاب عظيم } لانهم منعوا من مرادهم وهو العلى العظيم فعظم العذاب يكون على قدر عظمة المراد الممنوع منه انتهى ما فى التأويلات. ٨ { من الناس } لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين اخلصوا دينهم للّه وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى باضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم وهم اى المنافقون اخبث الكفرة وابغضهم الى اللّه لانهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول فى بيان خبثهم. قال القاشانى الاقتصار فى وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والاطناب فى وصف المنافقين فى ثلاث عشرة آية للاضراب عن اولئك صفحا اذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدى عليهم الخطاب واما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى ان يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكى بواطنهم وتمضحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى فى قوله تعالى { الا الذين تابوا واصلحوا واعتصموا باللّه واخلصوا دينهم للّه فاولئك مع المؤمنين وسوف يؤت للّه المؤمنين اجرا عظيما } والناس اسم جمع للانسان سمى به لانه عهد اليه فنسى قال تعالى { ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما } ولذلك جاء فى تفسير قوله تعالى { ان الانسان لربه لكنود } اى نساء للنعم ذكار للمحن وقيل لظهوره من آنس اى ابصر لانهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كما سمى الجن جنا لاجتنانهم اى استتارهم عن اعين الناس وقيل هو من الانس الذى هو ضد الوحشة لانهم يستأنسون بامثالهم او يستأنس ارواحهم بابدانهم وابدانهم بارواحهم واللام فيه للجنس ومن فى قوله { من يقول } موصوفة اذ لا عهد فكأنه قال ومن الناس ناس يقولون اى يقرون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور فى النفس المعبرعنه باللفظ وللرأى وللمذهب مجازا ووحد الضمير فى يقول باعتبار لفظ من وجمعه فى قوله { آمنا } وقوله { وما هم } باعتبار معناها لان كلمة من تصلح للواحد والجمع او اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد اللّه بن ابى بن سلول واصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث اظهروا كلمة الاسلام ليسلموا من النى عليه السلام واصحابه واعتقدوا خلافها واكثرهم من اليهود فانهم من حيث انهم صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم زيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فان الاجناس انما تتنوع بزيادات يختلف فيها ابعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثانى { آمنا باللّه } اى صدقنا باللّه { وباليوم الآخر } والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر الى ما لا ينتاهى اى الوقت الدائم الذى هو آخر الاوقات المنقضية والمراد به البعث او الى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار لانه آخر الايام المحدودة اذ لا حد وراءه وسمى بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للايمان بهما بالذكر له ادعاء انهم قد حازوا الايمان من قطريه واحاطوا به من طرفيه وايذان بانهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لان القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر ايمانا كلا ايمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وان الجنة لا يدخلها غيرهم وان النار لن تمسهم الاياما معدودة وغيرها ويرونه المؤمنين انهم آمنوا مثل ايمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كما خبثهم فان ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك ايمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثا الى خبث وكفرا الى كفر { وما هم بمؤمنين } ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء اى ليسوا بمصدقين لانهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفى الحكم عليهم بانهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لانه نفى اصل الايمان منهم بادخال الباء فى خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فان الاول ابلغ من الثانى. دلت الآية على ان الدعوى مردودة اذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فان من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قالوا فرعون عليه لعنات اللّه { وانا من المسلمين } فقيل وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام { انى كنت من الظالمين } فقيل له { فلولا انه من المسبحين } قال الحافظ قدس سره. خوش بود كر محك تجربه آيد بميان ... تاسيه روى شود هركه دروغش باشد - حكى - ان شيخا كان له تلميذ يدعى انه امين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ فى ذلك ويدعى الامانة ويطلب منه ان يكشف له سرا من اسرار اللّه تعالى فاخذ الشيه يوما تلميذا من اصحابه وخبأه فى بيت وعمد الى كبش فذبحه والقاه فى عدل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخا بالدماء والعدل امامه والسكين فى يده فقال له يا سيدى ما شأنك فقال له غاظنى فلان يعنى ذلك التلميذ فقتلته يعنى التلميذ يعنى بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ انه فى العدل فقال الشيخ هذه امانة فاستر على وادفن معى هذا المذبوح الذى هى هذا العدل فدفنه معه فى الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وان يفعل معه ما يخرجه وجاء ابو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندى فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى الى والد ذلك المخبوء وابخره ان الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك الى السلطان فوقف السلطان فى ذلك الامر لما يعرفه نم جلالة الشيخ وبعث اليه بالقاضى والفقهاء واخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا الى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المبخوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم كذا فى الرسالة المسماة بالامر المحكم المربوط فيما يلزم اهل طريق اللّه من الشروط للشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فظهر من هذا ان الاسرار لا توهب الا للامناء والانوار لا تفيض الا على الادباء : قال الحافظ قدس سره. -حديث دوست نكويم مكر بحضرت دوست ... كه آشنا سخن آشنانكه دارد - وفى التأويلات النجمية { ومن الناس } هم الذين نسوا اللّه ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم { من يقول آمنا باللّه } يقولون بافواهمهم ما ليس فى قلوبهم فان الايمان الحقيقى ما يكون من نورا للّه الذى يقذفه اللّه فى قلوب خواصه { وباليوم الآخر } اى بنور اللّه يشاهد الآخرة فيؤمن به فمن لم ينظر بنور اللّه فلا يكون مشاهدا لعالم الغيب فلا يعلم الغيب فلا يكون مؤمنا باللّه وباليوم الآخر ولهذا قال { وما هم بمؤمنين } اى بالذين يؤمنون من نور اللّه تعالى وفيه معنى آخر وما هم بمستعدين للّهداية الى الايمان الحقيقى لانهم فى غاية الغفلة والخذلان انتهى. ٩ { يخادعون اللّه } بيان ليقول فى الآية السابقة وتوبيخ لما هو غرضهم مما يقولون او استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كانه قيل مالهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون الخ اى يخدعون وانما اخرج فى زنة فاعل للمبالغة وخداعهم مع اللّه سبحانه ليس على ظاهره لانه لا تخفى عليه خافية ولانهم لم يقصدوا خديعته بل المراد ما مخادعة رسوله على حذف المضاف او على ان معاملة الرسول معاملة اللّه من حيث انه خليفته فى ارضه والناطق عنه باوامره ونواهيه مع عباده ففيه رفع درجة النبى صلى اللّه عليه وسلم حيث جعل خداعه خداعه واما ان صورة صنعهم مع اللّه من اظهار الايمان واستبطان الكفر وصنع اللّه معهم من اجراء احكام المسلمين عليهم وهم عنده تعالى اخبث الكفار واهل الدرك الاسفل من النار استدراجا لهم وامتثال الرسول والمؤمنين امر اللّه تعالى فى اخفاء حالهم واجراء حكم الاسلام عليهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنع المخادعين فتكون المخادعة بين الاثنين والخدع ان يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب او يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغتر بذلك فينجو منه لسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذى اذا امر الحارش يده على باب حجره يوهمه الاقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنين مناسب للمقام فانهم كانوا يريدون بما صنعوا ان يطلعوا على اسرار المؤمنين فييعوها الى منابذيهم اى يشيعوها الى مخالفيهم واعدائهم وان يدفعوا عن انفسهم ما يصيب سائر الكفرة من القتل والنهب والاسر وان ينالوا به نظم مصالح الدنيا جميعا كأن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين من الاعطاء { والذين آمنوا } اى يخادعون المؤمنين بقولهم اذا رأوهم آمنا وهم غير مؤمنين وهو عطف على الاول ويجوز حمله على الحقيقة فى حقهم فانه وسعهم كذا فى التيسير { وما يخدعون الا انفسهم } النفس ذات الشئ حقيقته وقد يقال للروح لان النفس الحى به وللقلب لانه محل الروح او متعلقة وللدم لان قوامها به وللماء ايضا لشدة حاجتها اليه والمراد هنا هو المعنى الاول لان المقصود بيان ان ضرر مخادعتهم راجع اليهم لا يتخطاهم الى غيرهم اى يفعلون ما يفعلون والحال انهم ما يضرون بذلك الا انفسم فان دائرة فعلهم مقصورة عليهم ومن حافظ على الصيغة قال وما يعاملون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين الا انفسهم لان ضررها لا يحقيق الا بهم ووبال خداعهم راجع اليهم لان اللّه تعالى يطلع نبيه صلى اللّه عليه وسلم على نفاقهم فيفضحون فى الدنيا ويستوجبون العقاب فى العقبى : قال المولى جلال الدين قدس سره. بازئ خود ديدى اى شطرنج باز ... بازئ خصمت ببين دور ودراز وقيل يعاملهم على وفق ما عاملوا وذلك فيما جاء انهم اذا القوا فى النيران وعذبوا فيها طويلا من الزمان استغاثوا بالرحمن قيل لهم هذا الابواب قد فتحت فاخرجوا فيتبادرون الى الابواب فاذا انتهوا اليها اغلقت دونهم واعيدوا الى الآبار والتوابيت مع الشياطين والطواغيت قال تعالى { انهم يكيدون كيدا واكيد كيدا } وفى الحديث ( يؤمر بنفر من الناس يوم القيامة الى الجنة حتى اذا دنوا منها واستنشقوا رايحتها ونظروا الى قصورها والى ما اعد اللّه تعالى لاهلها نودوا ان اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة وندامة ما رجع الاولون والآخرون بمثلها فيقولون يا ربنا لو ادخلتنا النار قبل ان ترينا ما اريتنا من ثواب ما اعددت لاوليائك فيقول ذلك اردت بكم كنتم اذا خلوتم بى بارزتمونى بالعظائم فاذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤن الناس وتظهرون خلاف ما تنطوى قلوبكم عليه هبتم الدنيا ولم تهابنى اجللتم الناس ولم تجلونى وتركتم للناس ولم تتركوا لى ) يعنى لاجل الناس فاليوم اذ يقكم أليم عذابى مع ما حرمتكم يعنى من جزيل ثوابى كذا فى روضة العلماء وتنبيه الغافلين { وما يشعرون } حال من ضمير ما يخدعون اى يقتصرون على خدع انفسهم والحال انهم ما يسحون بذلك لتماديهم فى الغفلة والغواية جعل طوق وبال الخداع ورجوع ضرره اليهم فى الظهور كالمحسوس الذى لا يخفى الا على مؤوف الحواس وهذا تنزيل لهم منزله الجمادات وحط من مرتبة البهائم حيث سلب منهم لاحس الحيوانى فهم ممن قيل فى حقهم بل هم اضل فلا يشعرون ابلغ وانسب من لا يعلمون. والشعور الاحساس اى علم الشئ علم حس ومشاعر الانسان حواسه سميت به لكون كل حاسة محلا للشعور والعظة فيه ان المنافق عمل ما عمل وهو لا يعلم بوبال ما عمل والمؤمن يعلم به فما عذره عند ربه ثم فى هذه الآية نفى العلم عنهم وفى قوله { وتكتمون الحق وانتم تعلمون } اثبات العلم لهم والتوفيق بينهما انهم علموا به حقيقة ولكن لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا وهو كقوله عز وجل { صم بكم عمى } فكانوا ناطقين سامعين ناظرين حقيقة لكن لم ينتفعوا بذلك فكانوا كأنهم صم بكم عمى فذولآلة اذا لم ينتفع بها فهو وعادم اللآلة سواء والعالم الذى لا يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء والغنى الذى لا ينتفع بماله فهو والفقير سواء فاثبات العلم للكفار الزام الحجة وذكر الجهل ثابت المنقضة بخلاف المؤمنين فان اثبات العلم لهم اثبات الكرامة وذكر الجهل تلقين عذر المعصية كذا فى التيسير. فعلى المؤمن ان يتحلى بالعلم والعمل ويجتنب عن الخطأ والزلل ويطيع ربه خالصا لوجهه الكريم ويعبده بقلب سليم وفى الحديث ( ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر ) قالوا وما الشرك الاصغر يا رسول اللّه قال ( الرياء يقول اللّه تعالى يوم يجازى العباد باعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراؤن لهم فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم خيرا ) وانما يقال لهم ذلك لان عملهم فى الدنيا كان على وجه الخداع فيعاملون فى الآخرة على وجه الخداع كذا فى تنبي الغافلين : قال السعدى جه قدر آورد بنده نزد رئيس ... كه زير قبا دارد اندام بيس وفى التأويلات النجمية الاشارة ان اللّه تعالى لما قدر لبعض الناس الشقاوة فى الازل اثمر بذر سر القدر المستور فى اعماله ثمرة مخادعة اللّه فى الظاهر ولا يشعر ان المخادعة نتيجة بذر سر القدر بطريق تزيين الدنيا فى نظره وحب شهواتها فى قلبه كما قال تعالى { زين للناس حب الشهوات } الآية فانخدع بزينة الدنيا وطلب شهواتها عن اللّه وطلب السعادة الاخروية فعلى الحقيقة هو المخادع الممكور كما قال تعالى { يخادعون اللّه وهو خادعهم } فعلى هذا { وما يخدعون الا انفسهم } حقيقة فى صورة مخادعتهم اللّه والذين آمنوا لانهم كانوا قبل مخادعتهم اللّه مستوجبين النار بكفرهم مع امكان ظهور الايمان منهم فلما شرعوا فى اظهار النفاق بطريقة المخادعة نزلوا بقدم النفاق الدرك الاسفل من النار فابطلوا استعداد قبول الايمان وامكانه عن انفسهم فكانت مفسدة خداعهم ومكرهم راجعة الى انفسهم { وما يشعرون } اى ليس لهم الشعور بسر القدر الازلى وان معاملتهم فى المكر والخداع من نتايجه لان فى قلوبهم مرضا ومرض القلب ما يفهم من شعور سر القدر. ١٠ { فى قلوبهم مرض فزادهم اللّه } زاد يجيئ متعدي كما فى هذه الآية ولازما كما فى قوله تعالى { فارسلناه الى مائة الف او يزيدون } والمرض حقيقة فيما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخلل فى افاعليه ويؤدىلى الموت ومجاز فى الاعراض النفسانية التى تخل بكمالها كالجهل وسوء العقيدة والحسد والضغينة وحب المعاصى وغير ذلك من فنون الكفر المؤدى الى الهلاك الروحانى لانها مانعة عن نيل الفضائل او مؤدية الى زوال الحياة الابدية والآية الكريمة تحتملها فان قلوبهم كانت متألمة تحرفا على مافات عنهم من الرياسة وحسدا على ما يرون من ثبات الرسول عليه السلام واستعلاء شأنه يوما فيوما فزاد اللّه غمهم بما زاد فى اعلاء امره ورفع قدره وان نفوسهم كانت مؤوفة بالكفر وسوء الاعتقاد ومعاداة النبيى عليه السلام ونحوها فزاد اللّه ذلك بان طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بانه لا يؤثر فيها التذكير والانذار وبازدياد التكاليف الشرعية وتكرير الوحى وتضاعف النصر لانهم كلما ازداد التكاليف بنزول الوحى يزدادون كفرا وقد كان يشق عليهم التكلم بالشهادة فكيف وقد لحقتهم الزيادات وهى وظائف الطاعات ثم العقوبة على الجنايات فازدادوا بذلك اضطرابا على اضطراب وارتيابا على ارتياب ويزدادون بذلك فى الآخرة عذابا على عذاب قال تعالى { زدناهم عذابا فوق العذاب } والمؤمنون لهم فى الدنيا ما قال { ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى } وفى العقبى ما قال { ويزيدهم من فضله }. قال القطب العلامة امراض القلب اما متعلقة بالدين وهو سوء الاعتقاد والكفر او بالاخلاق وهى اما رذائل فعلية كالغل والحسد واما رذائل انفعالية كالضعف والجبن فحمل المرض اولا على الكفر ثم على الهيآت الفعلية ثم على الهيآت الانفعالية ويحتمل ان يكون قوله تعالى { فزادهم اللّه } دعاء عليهم * فان قلت فكيف يحمل على الدعاء والدعاء للعاجز عرفا واللّه تعالى منزه عن العجز قلت هذا تعليم من اللّه عباده انه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لانهم شر خلق اللّه لانه اعد لهم يوم القيامة الدرك الاسفل من النار وهذا كقوله تعالى { قاتلهم اللّه } { ولعنهم اللّه } { ولهم } فى الآخرة { عذاب اليم } يصل المه الى القلوب وهو بمعنى المؤلم بفتح اللام على انه اسم مفعول من الايلام وصف به العذاب للمبالغة وهو فى الحقيقة صفة المعذب بفتح الذال المعجمة كما ان الجد للجاد فى قولهم جدجده وجه المبالغة افادة ان الالم بلغ الغاية حتى سرى المعذب الى العذاب المتعلق به { بما كانوا يكذبون } الباء للسببية او للمقابلة وما مصدرية داخلة فى الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لافادة دوام كذبهم وتجدده اى بسب بكذبهم المتجدد المستمر الذى هو قولهم آمنا الخ وفيه رمز الى قبح الكذب وسماجته وتخييل ان العذاب الاليم لاحق بهم من اجل كذبهم نظرا الى ظاهر العبارة المتخيلة لانفراده بالسببية مع احاطة علم السامع بان لحوق العذاب بهم من جهات شتى وان الاقتصار عليه للاشعار بنهاية قبحه والتنفير عنه. والكذب الاخبار بالشئ على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. واما ما روى ان ابراهيم عليه السلام ( كذب ثلاث كذبات ) فالمراد به التعريض لكن لما شابه الكذب فى صورته سمى به واحدى الكذبات. قوله { انى سقيم } اى ذاهب الى السقم او الى الموت او سيسقم لما يجد من الغيظ فى اتخاذهم النجوم آلهة قاله ليتركوه منالذهاب معهم الى عيد لهم حتى يخلوا سبيله فيكسر اصنامهم. والثانية قوله { بل فعله كبيرهم } هذا على الفرض والتقدير على سبيل الالزام كانه قال لوكان الها معبودا وجب ان يكون قادرا على ان يفعله فاذا لم يكن قادرا عليه يكون عاجزا والعاجز بمعزل عن الالوهية واستحقاق العبادة فكيف حالكم فى العكوف عليه فهذا القول تهكم بعقولهم. وثالثها قوله فى حق زوجته سارة رضى اللّه عنها { هذه اختى } والمراد منه الاخوة فى الدين وغرضه منه تخليصها من يد الظالم لان من دين ذلك الملك الذى يتدين به فى الاحكام المتعلقة بالسياسة لا يتعرض الا لذوات الازواج لان من دينه ان المرأة اذا اختارت الزوج فالسلطان احق بها من زوجها واما اللاتى لا ازواج لهن فلا سبيل عليهن الا اذا ارضين. واما قوله { هذا ربى } فهو من باب الاستدراج وهو ارخاء العنان مع الخصم وهو نوع من التعريض لان الغرض منه حكاية قولهم كذا فى حواشى ابن تميجيد. واعلم ان الكذب من قبايح الذنوب وفواحش العيوب ورأس كل معصية بها يتكدر القلوب وابغض الاخلاق انه مجانب للايمان يعنى الايمان فى جانب والكذب فى جانب والكذب فى جانب آخر مقابل له وهذا كناية عن كمال البعد بينهما وفى الحديث ( مالى اراكم تتهافتون فى الكذب تهافت الفراش فى النار كل الكذب مكتوب كذبا لا محالة الا ان يكذب الرجل فى الحرب فان الحرب خدعة او يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما او يحدث امرأته ليرضيها ) مثل ان يقول لا احد احب الى منك وكذا من جانب المرأة فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفى معناها ما أداها اذا ارتبط بمقصود صحيح له او لغيره كما قيل بالفارسية. دروغ مصلحت آميز به ازراست فتنه انكيز ... لكن هذا فى حق الغير واما فى حق نفسه فالصدق اولى وان لزم الضرر : كما قال السعدى دانى كه سخن عين صوابست ... ايد بكفتن دهن ازهم نكشايى كرراست سخن كويى ودربندبمانى ... به زانكه دروغت دهد ازبند رهايى المراد بالكذب فى الحقيقة الكذب فى العبودية والقيام بحقوق الربوبية كما للمنافقين ومن يحذو حذوهم ولا يصح الاقتداء بارباب الكذب مطلقا ولا يعتمد عليهم فانهم يجرون الى الهلاك والفراق عن مالك الاملاك : قال فى المثنوى ب كاروا انهارا زدهاست ... كه ببوى روز بيروى آمده است صبح كاذب خلق را رهبر مباد ... و دهد بس كاروانها را بباد شانى فى تأويل الآية فى قلوبهم حجاب من حجب الرذائل النفسانية الشيطانية والصفات البشرية عن تجليات الصفات الحقانية وفى التأويلات النجمية { فى قلوبهم مرض } وهو التفات الى غير اللّه { فزادهم اللّه مرضا } اى زاد مرض الالتفات على مرض خداعهم فحرموا من الوصول والوصال { ولهم عذاب اليم } من حرمان الوصول الى اللّه تعالى { بما كانوا يكذبون } بقولهم انا آمنا باللّه فانهم ليسوا بمؤمنين حقيقة والايمان الحقيقى نور اذا دخل القلب يظهر على المؤمن حقيقته كما كان لجارثة لما سأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( كيف اصبحت يا حارثة ) قال اصبحت مؤمنا حقا قال ( يا حارثة ان لكل حق حقيقة فما حقيقة ايمانك ) قال اعرضت نفسى عن الدنيا اى زهدت وانصرفت فاظمأ نهارها واسهر ليلها واستوى عندى حجرها وذهبها وكأنى انظر الى اهل الجنة يتزاورون والى اهل النار ينصاعون وكأنى انظر الى عرش ربى بارزا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اصبت فالزم ) قال فى المثنوى اهل صيقل رسته اند ازبوورنك ... هر دمى بينند خوبى بى درنك نقش وقشر علم را بكذا شتند ... رايت عين اليقين افرا شتند بر ترنداز عرش وكرسى وخلا ... ساكنان مقعد صدق خدا علم كان نبود زهو بى واسطه ... آن نبايد همجورنك ما شطه ١١ { واذا قيل لهم } اى قال المسلمون لهؤلاء المنافقين { لا تفسدوا فى الارض } اسناد قيل الى لا تفسدوا اسناد له الى لفظه كانه قيل واذا قيل لهم هذا القول كقولك الف ضرب من ثلاثة احرف. والفساد خروج الشئ عن الاعتدال والصلاح ضده وكلاهما يعمان كل ضار ونافع والفساد فى الارض تهيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن احوال العباد واختلال امر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدى الى ذلك من افشاء اسرار المؤمنين الى الكفار واغرائهم عليه وغير ذلك من فنون الشرور فلما كان ذلك من صنيعهم مؤديا إلى الفساد قيل لا تفسدوا كما يقول الرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك فى النار اذا اقدم على ما هذه عاقبته وكانت الارض قبل البعثة يعلن فيها بالمعاصى فلما بعث اللّه النبى صلى اللّه عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الارض فاذا اعلنوا بالمعاصى فقد افسدوا فى الارض بعد اصلاحها كما فى تفسير ابى الليث { قالوا انما نحن مصلحون } جواب لاذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى انه لا يصلح مخاطبتنا بذلك فان شاننا ليس الا الاصلاح وان حالنا متمحضة عن شوائب الفساد وانما قالوا ذلك الفهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما فى قلوبهم من المرض كما قال اللّه تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } فانكروا كون ذلك فسادا وادعوا كونه اصلاحا محضا وهو من قصر الموصوف على الصفة مثل انما زيد منطلق. قال ابن التمجيد ان المسلمين لما قالوا لهم لا تفسدوا توهموا ان المسلمين ارادوا بذلك انهم يخلطون الافساد بالاصلاح فاجابوا بانهم مقصورون على الاصلاح لا يتجاوزون منه الى صفة الافساد فيلزم منه عدم الخلط فهو من باب قصر الافراد حيث توهموا ان المؤمنين اعتقدوا الشركة فاجابهم اللّه تعالى بعد ذلك بما يدل على القصر القلبى وهو قوله تعالى. { ألا } ايها المؤمنون اعلموا { انهم هم المفسدون } فانهم لما اثبتوا لانفسهم احدى الصفتين ونفوا الاخرى واعتقدوا ذلك قلب اللّه اعتقادهم هذا بان اثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما اثبتوا والمعنى هم مقصورون على افساد انفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الايمان لا يتخطون منه الى صفة الاصلاح من باب قصر الشئ على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والافساد ولا يلزم منه ان لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى { ولكن لا يشعرون } انهم مفسدون للايذان بان كونهم مفسدين من الامور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه. قال الشيخ فى تفسيره ذكر الشعور بازاء الفساد اوفق لانه كالمحسوس عادة ثم فيه بيان شرف المؤمنين حيث تولى اللّه جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين كما كان فى حق المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم فان الوليد بن المغيرة قال له انه مجنون فنفاه اللّه عنه بقوله { ما انت بنعمة ربك بمجنون } ثم قال فى ذم ذلك اللعين { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير متعد اثيم عتل بعد ذلك زنيم } اى حلاف حقير عياب يمشى بين الناس بالنميمة بخيل للمال ظالم فاجر غليظ القلب جاف ومع ذلك الوصف المذكور هو ولد الزانى وذلك لانه صلى اللّه عليه وسلم اتخذ ربه وكيلا على اموره بمقتضى قوله { فاتخذوه وكيلا } فهو تعالى يكفى مؤونته كما قال اهل الحائق ان خوارق العادات قلما تصدر من الاقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلى فلا يتصرفون لانفسهم فى شئ ومن جملة كمالات الاقطاب ومنن اللّه عليهم ان لا يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الادباء الامناء يحملون عنهم اثقالهم وينفذون احكامهم واقوالهم وذلك كما كان الكامل آصف بن برخيا وزير سليمان عليه الصلاة والسلام الذى كان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم فظهر منه ما ظهر من اتيان عرش بلقيس كما حكاه اللّه تعالى فى القرآن. وفى التأويلات النجمية ١٢ { ألا } ايها المؤمنون اعلموا { انهم هم المفسدون } فانهم لما اثبتوا لانفسهم احدى الصفتين ونفوا الاخرى واعتقدوا ذلك قلب اللّه اعتقادهم هذا بان اثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما اثبتوا والمعنى هم مقصورون على افساد انفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الايمان لا يتخطون منه الى صفة الاصلاح من باب قصر الشئ على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والافساد ولا يلزم منه ان لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى { ولكن لا يشعرون } انهم مفسدون للايذان بان كونهم مفسدين من الامور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه. قال الشيخ فى تفسيره ذكر الشعور بازاء الفساد اوفق لانه كالمحسوس عادة ثم فيه بيان شرف المؤمنين حيث تولى اللّه جواب المنافقين عما قالوه للمؤمنين كما كان فى حق المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم فان الوليد بن المغيرة قال له انه مجنون فنفاه اللّه عنه بقوله { ما انت بنعمة ربك بمجنون } ثم قال فى ذم ذلك اللعين { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير متعد اثيم عتل بعد ذلك زنيم } اى حلاف حقير عياب يمشى بين الناس بالنميمة بخيل للمال ظالم فاجر غليظ القلب جاف ومع ذلك الوصف المذكور هو ولد الزانى وذلك لانه صلى اللّه عليه وسلم اتخذ ربه وكيلا على اموره بمقتضى قوله { فاتخذوه وكيلا } فهو تعالى يكفى مؤونته كما قال اهل الحائق ان خوارق العادات قلما تصدر من الاقطاب والخلفاء بل من وزرائهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلى فلا يتصرفون لانفسهم فى شئ ومن جملة كمالات الاقطاب ومنن اللّه عليهم ان لا يبتليهم بصحبة الجهلاء بل يرزقهم صحبة العلماء الادباء الامناء يحملون عنهم اثقالهم وينفذون احكامهم واقوالهم وذلك كما كان الكامل آصف بن برخيا وزير سليمان عليه الصلاة والسلام الذى كان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم فظهر منه ما ظهر من اتيان عرش بلقيس كما حكاه اللّه تعالى فى القرآن. وفى التأويلات النجمية. { واذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض } الاشارة فى تحقيق الآيتين ان الانسان وان خلق متسعدا لخلافة الارض ولكنه فى بداية الخلقة مغلوب الهوى والصفات النفسانية فيكون مائلا الى الفساد كما اخبرت عنه الملائكة وقالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } الآية فبأوامر الشريعة ونواهيها يتخلص جوهر الخلافة عن معدن نفس الانسان فاهل السعادة وهم المؤمنون ينقادون من الدين ويتبعون الهوى واذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض اى لاتسعوا فى افساد حسن استعدادكم وصلاحيتكم للخلافة فى الارض باتباعكم الهوى وحرصكم على الدنيا { قالوا انما نحن مصلحون } لا يقبلون النصيحة غافلين عن حقيقتها : كما قال السعدى كسى را كه بند ار در سربود ... مندار هركزكه حق بشنود زعمش ملال آيد ازوعظ ننك ... شقايق بباران نرويد زسنك فكذهبم اللّه تعالى تعالى بقوله { ألا انهم هم المفسدون } يفسدون صلاح آخرتهم باصلاح دنياهم { ولكن لا يشعرون } اى لا شعور لهم بافسد حالهم وسوء اعمالهم وعظم وبالهم من خسار حسن صنيعهم وادعائهم بالصلاح على انفسهم كما قال اللّه تعالى { قل هل بنبئكم بالاخسرين اعمالا } آية : قال المولى جلا الدين قدس سره اى كه خودرا شر يزدان خوانده ... سالها شد باسكى درماندة جون كند آن سك برى توشكار ... جون شكار سك شدستى آشكار ١٣ { واذا قيل لهم } من طرف المؤمنين بطريق الامر بالمعروف اثر نهيهم عن المنكر اتمام للنصح واكمالا للارشاد فان كمال الايمان بمجموع الامرين الاعراض عما لا ينبغى وهو المقصود بقوله تعالى { لا تفسدوا فى الارض } والاتيان بما ينبغى وهو المطلوب بقوله تعالى { آمنوا } حذف المؤمن به لظهوره اى آمنوا باللّه وباليوم الآخر او اريد افعلوا الايمان { كما آمن السفهاء } الكاف فى محل النصب على انه نعت لمصدر مؤكد محذوف اى آمنوا ايمانا مماثلا لايمانهم فما مصدرية او كافة اى حققوا ايمانكم كما تحقق ايمانهم. واللام فى الناس للجنس والمراد به الكاملون فى الانسانية العاملون بقضية العقل او للعهد والمراد به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن معه او من آمن من اهل بلدتهم اى من اهل ضيعتهم كابن سلام واصحابه والمعنى آمنوا ايمانا مقرونا بالاخلاص متمحضا من شوائب النفاق مماثلا لايمانهم { قَالُوا } مقابلين للامر بالمعروف بالانكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد اوصافهم الحسان { انؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للانكار واللام مشار بها الى الناس الكاملين او المعهودين او الى الجنس باسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة عقل وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والاناه وانما نسبوهم اليه مع انهم فى الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك انفسهم فى السفاهة وتماديهم فى الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالا او لتحقير شأنهم فان كثير من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالى كصهيب وبلال او للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد اللّه بن سلام وامثاله فان قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقوله { أنؤمن كما آمن السفهاء } قلنا فيه اقوال * الاول ان المنافقين لعنهم اللّه كانوا يتكلمون بهذا الكلام فى انفسهم دون ان ينطقوا به بألسنتهم لكن هتك اللّه تعالى استارهم واظهر اسرارهم عقوبة على عداوتهم وهذا كما ظهر ما اضمره اهل الاخلاص من الكلام الحسن وان لم يتكلموا به بالألسن تحقيقا لولا يتهم قال اللّه تعالى { يوفون بالنذر } الى ان قال { انما نطعمكم لوجه اللّه } وكان هذا فى قلوبهم فاظهره اللّه تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم هذا قول صاحب التيسير. والثانى ان المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فاخبر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين بذلك هذا قول البغوى. والثالث قول ابى السعود فى الارشاد حيث قال هذا القول وان صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم لكن لا يقتضى كونهم مجاهرين لا منافقين فانه ضرب من الكفر أنيق وفن فى النفاق عريق لانه محتمل للشر كما ذكر فى تفسيره وللخير بان يحمل على ادعاء الايمان كأيمان الناس وانكار ما اهتموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بايمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كايمان الناس حتى تأمرون بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لارادة المعنى الاخير وهم يقولون على الاول فرد عليهم ذلك بقوله عز وجل { الا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } انهم هم السفهاء ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه والمؤمنون بايمانهم واخلاصهم هربوا من السفه وغبوا فى العلم والحق وهم العلماء على الحقيقة والمستقيمون على الطريقة وهذا رد ومبالغة فى تجهيلهم فان الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع اعظم ضلالة واتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فانه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر. واعلم ان قوله تعالى { وما يشعرون } فى الآية الاولى نقى الاحساس عنهم وفى الثانية نفى الفطنة لان معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة وفى الآية الثالثة نفى العلم وفى نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق وذلك انه بين فى الاول ان فى استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس وفى الثانى انهم لا يفطنون تنبيها على ان ذلك لازم لهم لان من لا حس له لا فطنة له وفى الثالث انهم لا يعلمون تنبيها على ان ذلك ايضا لازم لهم لان من لا فطنة له لا علم له فان العلم تابع للعقل - كما حكى - ان اللّه تعالى لما خلق آدم عليه السلام اتى اليه جبرائيل بثلاث تحف العلم والحياء والعقل فقال يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فاشار جبريل الى العلم والحياء بالرجوع الى مقرهما فقالا انا كنا فى عالم الارواح مجتمعين فلا نرضى ان يفترق بعضنا عن بعض فى فى الاشباح ايضا فنتبع العقل حيث كان فقال جبريل عليه السلام استقرا فاستقر العقل فى الدماغ والعلم فى القلب والحياء فى العين : قال المولى جلال الدين قدس سره. جمله حيوانرا بى انسان بكش ... جمله انسانرا بكش ازبهر هش هش جه باشد عقل كل اى هو شمند ... عقل جز وى هش بود امانزند لطف او عاقل كند مرنيل را ... قهر او ابله كند قابيل را فليسارع العاقل الى تحصيل العلم والمعرفة حتى يصل الى توحيد الفعل والصفة. قال الامام القشيرى رحمه اللّه للعقل نجوم وهى للشيطان رجوم وللعلوم اقمار هى للقلوب انوار واستبصار وللمعارف شموس ولها على اسرار الارفين طلوع والعلم اللدنى هو الذى ينفتح فى بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج وللقلب بابان باب الى الخارج يأخذ العلم من الحواس وباب الى الداخل يأخذ العلم بالالهام فمثل القلب كمثل الحوض الذى يجرى فيه انهار خمسة فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الانهار الخمسة بخلاف ما اذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه اصفى واجلى فكذا القلب اذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدرة وشك وشبهة بخلاف ما اذا ظهر من صميم القلب بطريقة الفيض فانه اصفى واولى. وقال الشيخ زين الدين الحافى رحمه اللّه والعجب ممن دخل فى هذه الطريقة واراد ان يصل الى الحقيقة وقد حصل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعانى من كتاب اللّه واحاديث رسوله صلى اللّه عليه وسلم ثم لا يشتغل بذكر اللّه وبمراقبته والاعراض عما سواه لتنصب الى قلبه العلوم اللدنية التى لو عاش الف سنة فى تدريس الاصطلاحات وتصنيفها لا يشم منها رائحة ولا يشاهد من آثارها وانوارها لمعة فالعلم بلا عم لعقيم والعمل بلا علم سقيم والعمل بالعمل صراط مستقيم : قال فى المثنوى. آنكه بى همت جه با همت شده ... وآنكه باهمت جه با نعمت شده وفى التأويلات النجمية { واذا قيل لهم } اى لاهل الغفلة والنسيان { آمنوا كما آمن الناس } اى بعض الناسين منكم الذين تفكروا فى آلاء اللّه تعالى وتدبروا آياته بعد نسيان عهد ألست بربكم ومعاهدة اللّه تعالى على التوحيد والعبودية فتذكروا تلك العهود والمواثيق فآمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به { قالوا } اى اهل الشقاوة منهم { أنؤمن كما آمن السفهاء } فكذلك احوال اصحاب الغفلات مدعى الاسلام اذا دعوا عن الايمان التقليدى الذى وجدوه بالميراث الى الايمان الحقيقى المكتسب بصدق الطلب وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع الى الخق والتمادى فى الباطل ينسبون ارباب القلوب واصحاب الكرامات العالية الى السفه والجنون وينظرون اليهم بنظر العجز والذلة والقلة والمسكنة ويقولون انترك الدنيا ورغبوا عن مراتب اهل التقى ومشارب اهل النهى كما قال اللّه تعالى { ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه } فانه ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) ومن عرف ربه ترك غيره وعرف اهل اللّه وخاصته فلا يرغب عنهم ولا يسبهم الى السفه وينظر اليهم بالعزة فان الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الاطمار ووجوههم المصفرة عند اللّه كالشموس والاقمار ولكن تحت قباب العزة مستورون وعن نظر الاغيار محجوبون : قال فى المثنوى. مهر با كان درميان جان نشان ... دل مده الا بمهر دلخوشان كرتوسنك سخره ومرمر شوى ... جون بصاحب دل رسى جوهر شوى انهم تحت قبابى كامنون ... جزكه يزدانشان نداند زآزمون ١٤ { واذا لقوا الذين آمنوا } بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة فمساقه لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فليس بتكرير اى هؤلاء المنافقون اذا عاينوا وصادفوا واستقبلوا الذين آمنوا وهم المهاجرون والانصار { قَالوا } كذبا { آمنا } كأيمانكم وتصديقكم روى ان عبد اللّه بن ابى المنافق واصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة رضى اللّه عنهم فقال ابن ابى انظروا كيف ارد هذه السفهاء عنكم فلما دنوا منهم اخذ بيد ابى بكر رضى اللّه عنه فقال مرحبا بالصديق سيد بنى تميم وشيخ الاسلام وثانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الغار الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم اخذ بيد عمر رضى اللّه عنه فقال مرحبا بسيد بنى عدى الفاروق القوى فى دينه الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم اخذ بيد على رضى اللّه عنه فقال مرحبا بابن عم رسول اللّه وخنته وسيد بنى هاشم ما خلا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال له على رضى اللّه عنه يا عبد اللّه اتق اللّه ولا تنافق فان المنافقين شر خلق اللّه فقال له مهلا يا ابا الحسن أنى تقول هذا واللّه ان ايماننا كأيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن ابى لاصحابه كيف رأيتمونى فعلت فاذا رأيتموهم فافعلوا ما فعلت فأثنوا عليه خيرا وقالوا ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واخبروه بذلك فنزلت الآية { واذا خلوا } اى مضوا أو اجتمعوا على الخلوة والى بمعنى مع او انفر دونا والى بمعنى الباء او مع تقول خلوت بفلان واليه اذا انفردت معه { الى شياطينهم } اصحابهم المماثلين للشيطان فى التمرد والعناد المظهرين لكفرهم واضافتهم اليه للمشاركة فى الكفر او كبار المنافقين والقائلون صغارهم وكل عات متمرد فهو شيطان. وقال الضحاك المراد بشياطينهم كهنتهم وهم فى بنى قريظة كعب بن الاشرف وفى بنى اسلم ابو بردة وفى جهينة عبد الدار وفى بنى اسد عوف بن عامر وفى الشام عبد اللّه بن سوداء وكانت العرب تعتقد فيهم انهم مطلعون على الغيب ويعرفون الاسرار ويداوون المرضى وليس من كاهن الا وعند العرب ان معه شيطانا يلقى اليه كهانته وسموا شياطين لبعدهم عن الحق فان الشطون هو البعد كذا فى التيسير { قالوا انا معكم } انا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم واعتقادكم لا نفارقكم فى حال من الاحوال وكأنه قيل لهم عند قوله { انا معكم } فما بالكم توافقون المؤمنين فى الاتيان بكلمة الشهادة وتشهدون مشاهدهم وتدخلون مساجدهم وتحجون وتغزون معهم فقالوا { انما نحن } اى فى اظهار الايمان عند المؤمنين { مستهزءون } بهم من غير ان يخطر ببالنا الايمان حقيقة فنريهم انا نوافقهم على دينهم ظاهرا وباطنا وانما نكون معهم ظاهرا لنشاركهم فى غنائمهم وننكح بناتهم ونطلع على اسرارهم ونحفظ اموالنا واولادنا ونساءنا من ايديهم والاستهزاء التجهيل والخسرية والاستخفاف والمعنى انا نجهل محمد واصحابه ونسخر بهم باظهارنا الاسلام فرد اللّه عليهم بقوله ١٥ { اللّه يستهزئ بهم } اى يجازيهم على استهزائهم او يرجع وبال ألا ستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم او ينزل بهم الحقارة والهوان الذى هو لازم الاستهزاء والغرض منه او يعاملهم معاملة المستهزئ بهم اما فى الدنيا فباجراء احكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة فى النعمة على التمادى فى الطغيان واما فى الآخرة فما يروى انه يفتح لهم باب الى الجنة وهم فى جهنم فيسرعون نحوه فاذا وصلوا اليه سند عليهم الباب وردوا الى جهنم والمؤمنون على الارائك فى الجنة ينظرو اليهم فيضحكون منهم كما ضحكوا من المؤمنين فى الدنيا فذلك بمقابلة هذا ويفعل بهم ذلك مرة بعد مرة { ويمدهم } اى يزيدهم ويقويهم من مد الجيش وأمده اذا زاده وقواه لا من المد فى العمر فانه يعدى باللام كأملى لهم ويدل عليه قراءة ابن كثير ويمدهم { فى طغيانهم } متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد فى كل امر والمراد افراطهم فى العتو وغلوهم فى الكفر وفى اضافته اليهم ايذان باختصاصه بهم وتأييد لما اشير اليه من ترتب المد على سوء اختيارهم { يعمهون } اى يترددون فى الضلالة متحيرين عقوبة لهم فى الدنيا لاستهزائهم وهو حال من الضمير المنصوب او المجرور لكنون المضاف مصدرا فهو مرفوع حكما. والعمه فى البصيرة كالعمى فى البصر وهو التحير والتردد بحيث لا يدرى اين يتوجه وفى الآيتين اشارات. الاولى فى قوله تعالى { انا معكم } وهى ان من رام ان يجمع بين طريق الارادة وما عليه اهل العادة لا يلتئم له ذلك والضدان لا يجتمعان ومن كان له من كل ناحية خليط ومن كل زاوية من قلبه ربيط كان نهبا للطوارق ومنقسما بين العلائق فهذا حال المنافق يذبذب بين ذلك وذلك يعنى ان المنافقين لما ارادوا ان يجمعوا بين غبرة الكفار وصحبة المسلمين وان يجمعوا بين مفاسد الكفر ومصالح الايمان وكان الجمع بين الضدين غير جائز فبقوا بين الباب والدار كقوله تعالى { مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء } وكذلك حال المتمنين الذي يدعون الارادة ولا يخرجون عن العادة ويريدون الجمع بين مقاصد الدارين يتمنون اعلى مراتب الدين ويرتعون فى اسفل مراتع الدنيا فلا يلتئم لهم ذلك قال عليه السلام ( ليس الدين بالتمنى ) وقال ( بعثت لرفع العادات ودفع الشهوات ) وقال ( الدنيا والآخرة ضرتان فمن يدع الجمع بينهما فممكور ومغرور ) فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ الى الدرجات العلى فهو كالمستهزئ بطريق هذا الفريق فكم فىهذا البحر من امثاله غريق فاللّه تعالى يمهلهم فى طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوزوا فى طلبها حد الاحتياج اليها ويمنح ابواب المقاصد الدنيوية عليهم ليستغنوا بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانهم كما قال اللّه تعالى { ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى } فكان جزاء سيئة تلونهم فى الطلب الاستهزاء وجزاء سيئة الاستهزاء الخذلان والامهال الى ان طغوا وجزاء سيئة المؤمنين ومنزلتهم عند اللّه حيث ان اللّه هو الذى يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين ولا يحوج المؤمنين الى ان يعارضوهم باستهزاء مثله فناب اللّه عنهم واستهزأ بهم الا بلغ الذى ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان مالا يوصف به. ودلت الآية على قبح الاستهزاء بالناس وقد قال { لا يسخر قوم من قوم } وقال فى قصة موسى عليه السلام { قالوا أتتخذنا هوزوا قال اعوذ باللّه ان اكون من الجاهلين } فاخبر انه فعل الجاهلين واذا كان الاستهزاء بالناس قبيحا فما جزاء الاستهزاء باللّه وهو فيما قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( المستغفر من الذنب وهو مصر كالمستهزئ بربه ) والاشارة الثالثة فى قوله تعالى { ويمدهم فى طغيانهم يعمهون } وهى ان العبد ينبغى له ان لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثربة امواله واولاده واللّه تعالى يقول فى اعدائه فى حق المعمر ويمدهم وفى حق المال والبنين يحسبون انما نمدهم به من مال وبنين وكان طول العمر لهم خذلانا وكثرة الاموال والاولاد لهم حرمانا ولهم فى مقابلة هذا المدمد قال اللّه تعالى { ونمد له من العذاب مدا } وقد جعل اللّه لعدوه فى الدنيا مالا ممدودا ولوليه فى الآخرة ظلا ممدودا وقال اللّه جل جلاله لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ليلة المعراج ( ان من نعمتى على امتك انى قصرت اعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم واقللت اموالهم كيلا يشتد فى القيامة حسابهم واخرت زمانهم كيلا يطول فى القبور حبسهم ) وروى ان اللّه تعالى قال لحبيبه ليلة المعراج ( يا احمد لا تتزين بلبن اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فان النفس مأوى كل شرو وهى رفيق سوء كلما تجرها الى طاعة تجرك الى معصية وتخالفك فى الطاعة وتطيع لك فى المعصية وتطغى اذا شبعت وتتكبر اذا استغنت وتنسى اذا ذكرت وتغفل اذا امنت وهى قرينة للشيطان ) كذا فى مشكاة الانوار. ١٦ { اولئك } المنافقون المتصفون بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم اكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عيله وما فيه من معنى البعد للايذان ببعد منزلتهم فى الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اصل الاشتراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الاشياء ثم استعير للاعراض عما فى يده محصلا به غيره ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشئ طمعا فى غيره وهو ههنا عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية واشتروا الضلالة وهى الكفر والعدول عن الحق والصواب بالهدى وهو الايمان والسلوك فى الطريق المستقيم والاستقامة عليه مستعار لاخذها بدل منه اخذا متصفا بالرغبة فيها والاعراض عنه اى اختاروها عليه واستبدولها به واخذوها مكانه وجعل الهدى كأنه فى ايديهم لتمكنهم منه وهو الاستعداد به فبميلهم الى الضلالة عطلوه وتركوه. والباء تصحب المتورك فى باب المعاوضة وهذا دليل على ان الحكم يثبت بالتعاطى من غير تكلم بالايجاب والقبول فان هؤلاء سموا مشترين بترك الهدى واخذ الضلال من غير التكلم بهذه المبادلة كما فى التيسير { فما ربحت تجارتهم } ترشيح للمجاز اى ما ربحوا فيها فان الربح مسند الى ارباب التجارة فى الحقيقة فاسناده الى التجارة نفسها على الاتساع لتلبسها بالفاعل او لمشابهتها اياه من حيث انها سبب الربح والخسران ودخلت الفاء لتضمن الكلام معنى الشرط تقديره واذا اشتروا فما ربحوا كما فى الكواشى والتجارة صناعة التجار وهو التصدى بالبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال { وما كانوا مهتدين } اى الى طريق التجارة فان المقصد منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح فى صفقة فربما يتدارك فى صفقة اخرى لبقاء الاصل واما اتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعا وهؤلاء قد اضاعوا الطلبتين لان رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوسلون به الى درك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين من الربح فاقدين الاصل نائين عن طريق التجارة بالف منزل. واعلم ان المهتدى هو الذى ترك الدنيا والعادة ثم اشتغل بوظائف الطاعة والعباداة لا من اتبع كل ما يهواه وخلط هواه بهداه - حكى - انه كان للشيخ الاستاذ ابى على الدقاق رضى اللّه عنه مريد تاجر متمول فمرض يوما فعاده الشيخ وسأل منه سبب علته فقال التاجر قمت هذه الليلة لمصلحة التهجد فلما اردت الوضوء بدالى من ظهرى حرارة فاشتد امرى حتى صرت محموما فقال الشيخ لا تفعل فلا فضوليا ولا ينفك التهجد ما دمت لم تهجر دنياك وتخرج محبتها من قلبك فاللائق لك اولا هوذا ثم الاشتغال بوظائف انوافل فمن كان به اذى من رأسه من صداع لا يسكن ألمه باطلاء على الرجل ومن تنجست يده لا يجد الطهارة بغسل ذيله وكمه. قال بعض المشايخ من علامة اتباع الهوى المسارعة الى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بحقوق الواجبات وهذا غالب فى الخلق الا من عصمه اللّه ترى الواحد منهم يقوم بالاوراد الكثيرة والنوافل العديدة الثقيلة ولا يقوم بغرض واحد على وجهه * فعلى العاقل تحصيل رأس المال ثم تحصيل الربح المترتب عليه وذلك بالاختيار لا بالاضطرار وقد اوجب اللّه على العباد وجود طاعته لما علم من قلة نهوضهم الى معاملته اذ ليس لهم ما يردهم اليه بلا علة وهذا حال اكثر الخلق بخلاف اهل المروءة والصفاء. قال فى المثنوى اختيار آمد عبادت رانمك ... ورنه ميكردد بناخواه اين فلك كردس اورا نه اجرونه عقاب ... كاختيار آمد هنر وقت حساب ائتيا كرها مهار عاقلان ... ائتيا طوعا مهار بيدلان اين محب دايه ليك از بهر شير ... وان دكر دل داده بهر آن ستر فاوجب اللّه عليك وجود طاعته وما اوجب عليك بالحقيقة الا دخول جنته اذا لامر فى كل دنى وحقير فاعلم ان من استغرب ان ينقذه اللّه من شهوته التى اعتقلته عن الخيرات وان يخرجه من وجود غفلته التى شملته فى جميع الحالات فقد استعجز القدرة الالهية وقد قال اللّه تعالى { وكان اللّه على كل شيء مقتدرا } فابان سبحانه ان قدرته شاملة صالحة لكل شئ وهذا من الاشياء وان اردت الاستعانة على تقوية رجائك فى ذلك فانظر لحال من كان مثلك ثم انقذه اللّه وخصه بعنايته كابراهيم بن ادهم وفضيل بن عياض وابن المبارك وذى النون المصرى ومالك بن دينار وغيرهم من مجرمى البداية كذا فى شرح الحكم العطائية : قال الحافظ قدس سره. عاشق كه شد كه يار بحالش نظرنكرد ... اى خواجه درد نسيت وكرنه طبيب هست قال القاشانى فى تأويل الآية الهدى النور الثانى فى قوله تعالى { نور على نور } وهو النور النشأة الحاجبة له بسلوك طريق المطالب الطبيعية الفاسدة والمقاصد الهيولانية الفاسقة بهوى النفس وتتبع خطوات الشيطان والربح هو النور الاول المقدس الكمالى المكتسب بالتوجه الى الحق والاتصال بعالم القصد والانقطاع والتبتل الى اللّه من الغير والتبرى بحوله وقوته من كل حول وقوة حتى يخلص روح المشاهدة من اعباء المكابدة بطولع الوجه الباقى واحراق سبحانه كل ما فى بقعة الامكان من الرسم الفانى وخسرانهم باضاعة الامرين هو الحجاب الكلى عن الحق بالرين كما قال تعالى { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } وفى التأويلات النجميةالاشارة فى الآية ان من نتيجة طغيانهم وعمههم ان رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وأشربوا فى قلوبهم الضلالة وتمكنت فكانت هذه الحال من نتيجة معاملتهم فلهذا اضاف الفعل اليهم وقال { اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وانما قال بلفظ الاشتراء لانهم اخرجوا استعداد قبول الهداية عن قدرتهم وتصرفهم فلا يملكون الرجوع اليه { فما ربحت تجارتهم } لان خسران من رضى بالدنيا من العقبى ظاهر ومن أثر الدنيا والعقبى على المولى فهو اشد خسرانا واعظم حرمانا فاذا كان المصاب بفوات النعيم ممتحنا بنار الجحيم فما ظنك بالمصاب بفقد المطلوب وبعد المحبوب ضاعت منه الاوقات وبقى فى أسر الشهوات لا الى قلبه رسول ولا لروحه وصول لا من الحبيب اليه وفود ولا لسره معه شهود فهذا هو المصاب الحقيقى { وما كانوا مهتدين } لابطالهم حسن استعداد قبول الهداية. ١٧ { مثلهم } المثل فى الاصل بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده اى المضروب كما ورد من غير تغيير ولا يضرب الا بما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال او قصة او صفة لها شأن عجيب وفيها غرابة كقوله تعالى { مثل الجنة التى وعد المتقون } وقوله تعالى { وللّه المثل الاعلى } اى الوصف الذى له شأن من العظمة والجلال ولما جاء اللّه بحقيقة حال المنافقين عقبها بضر المثل زيادة فى التوضيح والتقرير فان التمثيل ألطف ذريعة الى تسخير الوهم للعقل واقوى وسيلة الى تفهم الجاهل الغبى وقمع سورة الجامح الابى كيف لا يلطف وهو ابداء للمنكر فى صورة المعروف واظهار للوحشى فى هيئة المألوف واراءة للخيل محققا والمحقول محسوسا وتصير للمعانى بصورة الاشخاص ومن ثمة كان الغرض من المثل تشبيه الخفى بالجلى والغائب بالشاهد ولامر ما اكثر اللّه فى كتبه الامثال وفى الانجيل سورة تسمى سورة الامثال وفى القرآن الف آية من الامثال والعبر وهى فى كلام الانبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى ذكر السيوطى فى الاتقان من اعظم علم القرآن امثاله والناس فى غفلة عنه والمعنى حالهم العجيبة الشان { كثمل الذى } اى كحال الذين من باب وضع واحد الموصول موضع الجمع منه تخفيفا لكونه مستطالا بصلته كقوله { وخضتم كالذى خاضوا } والقرينة ما قبله وما بعده خلا انه وحد الضمير فى قوله تعالى { استوقد نارا } نظرا الى الصورة وجمع فى الافعال الآتية نظرا الى المعنى. والاستيقاه طلب الوقود والسعى فى تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. والنار جوهر لطيف مضئ محرق حار والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة اى او قد فى مفازة فى ليلة مظلمة نار عظيمة خوفا من السباع وغيرها { فلما اضاءت } الاضاءة فرط الانارة كما يعرب عنه قوله تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } اى انارت النار { ما حوله } اى ما حول المستوقد من الاماكن والاشياء على ان ما مفعول اضاءت ان جعلته متعديا وحول نصب على الظرفية وان جعلته لازما مسند الى ما والتأنيث لان ما حوله اشياء واماكن واصل الحول الدوران ومنه الحول للعالم لانه يدور وجواب لما قوله تعالى { ذهب الل بنوره } اى اذهبه بالكلية واطفأ نارهم التى هى مدار نورهم وانما علق الاذهاب النور دون نفس النار لانه المقصود بالاستيقاد واسناد الاذهاب الى اللّه تعالى اما لان الكل بخلقه تعالى واما لان الانطفاء حصل بسبب خفى اوامر سماوى كريح او مطر واما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والامساك يقال ذهب السلطان بماله اذا اخذه وما اخذه اللّه تعلى فامسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذى هو مقتضى الظاهر الى النور لان ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور فى الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد ازالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى { وتركهم فى ظلمات لا يبصرون } فان الظلمة هى عدم النور والطامسة بالمرة لا سيما اذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمى وما بعده من قوله { لا يبصرون } لا يتحقق الا بعد ان لا يبقى من النور عين ولا اثر وترك فى الاصل بمعنى طرح وخلى وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى افعال القلوب اى صيرهم { فى ظلمات لا يبصرون } ما حولهم فعلى هذا يكون قوله { فى ظلمات } وقوله { لا يبصرون } مفعولين لصير بعد المفعول الاول على سنن الاخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد وان حمل معناه على الاصل يكونان حالين من المفعول مترادفين او متداخلين والمعنى ان حالهم العجيبة التى هى اشتراؤهم الضلالة التى هى عبارة عن ظلمتى الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط اللّه تعالى وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبايمانهم } وظلمة العقاب السرمدى بالهدى الذى هو الفطرى النورى المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها فاطفأها اللّه تعالى وتركه فى ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الابصار * وفى التيسير والعيون ان المنافقين اظهروا كلمة الايمان فاستتاروا بنورها واستعزوا بعزها وأمنوا بسببها فناحكوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على اموالهم واولادهم فاذا بلغوا الى آخر العمر كل لسانهم عنها وبقوا فى ظلمة كفرهم ابدا لا بد وعادوا الى الخوف والظلمة ١٨ { صم } اى هم صم عن الحق لا يقبلونه واذا لم يقبلوا فكانهم لم يسمعوا والصم انسداد خروق المسامع بحيث لا يكاد يصل اليها هواء يحصل الصوت بتموجه { بكم } خرس عن الحق لا يقولونه لما ابطنوا خلاف ما اظهروا فكانهم لم ينطقوا وهو آفة فى اللسان لا يتمكن بها ان يعتمد مواضع الحروف { عمى } اى فاقدون الابصار عن النظر الموصل الى العبرة التى تؤديهم الى الهدى وفاقدوا البصيرة ايضا لان من لا بصيرة له كمن لا بصر له فالعمى مستعمل ههنا فى عدم البصر والبصيرة جميعا وهذه صفاتهم فى الدنيا ولذلك عوقبوا فى الآخرة بجنسها قال تعالى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما } فلا يسمعون سلام اللّه ولا يخاطبون اللّه ولا يرونه والمسلمون كانوا سامعين للحق قائلين بالحق ناظرين الى الحق فيكرمون يوم القيامة ولقائه وسلامه { فهم لا يرجعون } اى هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون عن الضلالة الى الهدى الذى تركوه والآية فذلك التمثيل ونتيجته وافادت انهم كانوا يستطيعون الرجوع باستطاعة سلامة الآلات حيث استحقوا لاذم بتركه وان قوله تعالى { صم بكم عمى } ليس بنفى الآلات بل هو نفى تركهم استعمالها : قال السعدى قدس سره. زبان آمد ازبهر شكر وسباس ... بغيبت نكرد اندش حق شناس كذركاه قرآن وبندست كوش ... به بهتان باطل شنيدن مكوش دوجشم از بى صنع بارى نكوست ... زعيب بر دار فرو كير ودوست ثم ان اللّه تعالى ندب الخلق الى الرجوع بالائتمار بامره والانتهاء بنهيه بقوله تعالى { وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون } فمن لم يرجع اليه اختيار رجعوا اليه بالموت والبعث كما قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت ثم الينا ترجعون } ومن رجع اليه فى الدنيا بفعله وحقق ذلك بقوله { انا للّه وانا اليه راجعون } كان رجوعه اليه بالكرامة ويخاطب بقوله { يا ايتها النفس المطمئة ارجعى الى ربك راضية مرضية } - حكى - ان جبارا عاتيا فى الزمن الاول بنى قصرا وشيده وزخرفه ثم آلى بيمنه ان لا يدنو من قصره هذا احد فمن وقع بصره عليه قتله فكان يفعل ذلك ويقتل حتى جاءه رجل من اهل قريته فوعظه فى ذلك فلم يلتفت الى تحذيره ولم يعبأ بقوله فخرج ذلك الرجل الصالح من قريته وبنى كوخا وهو بيت من قصب بلا كوة وجعل يعبد اللّه فيه فبينما هذا الجبال فى قصره واصحابه قيام بين يديه اذ تمثل له ملك الموت على صورة رجل شاب حسن الهيئة فجعل يطوف حول هذا القصر ويرفع رأسه اليه فقال بعض ندمائه ايها الملك انا نرى رجلا يطوف حول القصر وينظر اليه فتعالى الملك على منظر له فابصره فقال هذا مجنون او غريب عابر سبيل ولكن انزل اليه فأرحه من نفسه فنزل اليه الرجل فلما اراد ان يرفع اليه السيف قبض روحه فخر ميتا فقيل للملك ان هذا قد قتل صاحبك فقال للآخر انزل اليه فاقتله فلما نزل واراد ان يقتله قبض روحه فخر ميتا فرفع ذلك الى الملك فامتلأ غضا وأخذ السيف ونزل اليه بنفسه فقال من انت اما رضيت ان دنوت من قصرى حتى قتلت رجلين من اصحابى فقال أو ما تعرفنى انا ملك الموت فارتعد الملك من هيبته حتى سقط السيف من يده قال فعرفتك الآن وأراد ان ينصرف فقال له ملك الموت الى اين انى امرت بقبض روحك فقال حتى اوصى اهلى واودعهم فقال له لم لم تفعل فى طول عمرك قبل هذا فقبض روحه فخر الملك ميتا ثم جاملك الموت الى ذلك الرجل الصالح فى كوخه فقال له ايها الرجل الصالح ابشر فانى ملك الموت وقد قبضت روح الملك الجبار فاعلم ذلك واراد ان يرجع فاوحى اللّه تعالى الى ملك الموت ان اقبض روح الرجل الصالح فقال له ملك الموت انى امرت بقبض روحك قال فهل لك يا ملك الموت ان ادخل القرية فاحدث باهلى عهدا واودعهم فاوحى اللّه تعالى اليه ان امهله يا ملك الموت فقال ان شئت فرفع الرجل الصالح قدميه ليدخل القرية فتفكر ثم ندم فقال يا ملك الموت انى اخاف ان رأيت اهلى ان يتغير قلبى فاقبض روحى فاللّه خير لهم منى فقبض روحه على المكان. قال بعض العارفين والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه وهو مولاه الذى من عليه بكل خير واولاه ويطلب مالا بقاء له معه وهو ما يوافق النفس من شهوته وهواه وآخرته ودنياه فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور. واسباب عمى البصيرة ثلاثة ارساله الجوارح فى معاصى اللّه والتصنع بطاعة اللّه والطمع فى خلق اللّه فعند عماها يتوجه العبد للخلق ويعرض عن الحق وفى التأويلات النجمية الاشارة فى تحقيق الآيتين ان مثل المريد الذى له بداية جميلة يسلك طريق الارادة مدة ويتعنى بمقاساة شدائد الصحبة برهة حتى تنور بنور الارادة فاستوقد نار الطلب فاضاءت ما حوله فرأى اسباب السعادة والشقاوة فتمسك بحبل الصحبة فلازم الخدمة والخلوة وعزفت نفسه عن الدنيا واقبل على قمع الهوى فشرقت له من صفاء القلب شوارق الشوق وبرقت له من انوار الروح بوارق الذوق فامن مكر اللّه وانخدع بخداع النفس فطرقته الهواجس وازعجته الوساوس ثم رجع القهقرى الى ما اكن من حضيض الدنيا فغابت شمسه واظلمت نفسه وانقطع حبل وصاله قبل وصوله واخرج من جنة نواله بعد دخوله فبقدمى سأمه وملاله عاد الى اسوأ حاله كما قال تعالى وبدالهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون. { صم } يعنى بآذان قلوبهم التى سمعوا بها خطاب اللّه تعالى يوم الميثاق { بكم } بتلك الالسنة التى اجابوا ربهم بها بقولهم بلى { عمى } بالابصار التى شاهدوا بها جمال ربوبيته فعرفوه { فهم لا يرجعون } الى منازل حظائر القدس بل الى ما كانوا فيه من رياض الانس وذلك لانهم سدوا روزنة قلوبهم التى كانت مفتوحة الى عالم الغيب يوم الميثاق بتتبع الشهوات واستيفاء اللذات والخدعة والنفاق فما هبت عليهم من جناب القدس الرياح وما تنسموا نفحات الارواح فمرضت قلوبهم ثم ارسل اليهم الطبيب الذى انزل الداء فانزل معه الدواء كما قال تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } الذين يصدقون الاطباء ويقبلون الدواء فلم يصدقوهم ولم يقبلوا الدواء ظلما على انفسهم فصار الدواء داء والشفاء وباء كما قال تعالى { ولا يزيد الظالمين الا خسارا } فلما لم يكونوا اهل الرحمة ادركتهم اللعنة الموجبة للصمم والعمى لقوله تعالى { أولئك الذين لعنهم اللّه فأصمهم واعمى ابصارهم } { او } مثل المنافقين { كصيب } اى كحال اصحاب صيب اى مطر يصوب اى ينزل ويقع من الصوب وهو النزول اصله صيوب والكاف مرفوع المحل عطف على الكاف فى قوله { كمثل الذى } وأو للتخيير والتساوى اى كيفية قصة المنافقين شبيهة بكيفية هاتين القصتين والقصتان سواء فى استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل فبأيتهما مثلتها فانت مصيب وان مثلتها بهما جميعا فذلك { من السماء } متعلق بصيب. والسماء سقف الدنيا وتعريفها للايذان بان انبعاث الصيب ليس من افق واحد فان كل افق من آفاقها اى كل ما يحيط به كل افق منها سماء على حدة والمعنى انه صيب عام نازل من غمام مطبق آخذ بآفاق السماء وفيه ان السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه لا كزعم من يزعم انه يأخذه من البحر. قال الامام من الناس من قال المطر انما يتحصل من ارتفاع ابخرة رطبة من الارض الى الهواء فينعقد هناك من شدة برد الهواء ثم ينزل مرة اخرى وابطل اللّه ذلك المذهب هنا بان بين ان ذلك الصيب نزل من السماء. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان تحت العرض بحرا ينزل منه ارزاق الحيوانات يوحى فيمطر ما شاء من سماء الى سماء حتى ينتهى الى سماء الدنا ويوحى الى السحاب ان غربله فيغربله فيغربله فليس من قطرة تقطر الا ومعها ملك يضعها موضعها ولا ينزل من السماء قطرة الا بكيل معلوم ووزن معلوم الا ما كان من يوم الطوفان من ماء فانه نزل بلا كيل ولا وزن كذا فى تفسير التيسير { فيه } اى فى الصيب { ظلمات } انواع منها وهى ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة اظلال ما يلزمه من الغمام المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وليس فى الآية ما يدل على ظلمة الليل لكن يمكن ان يؤخذ ظلمة الليل من سياق الآية حيث قال تعالى بعد هذه الآية. { يكاد البرق يخطف ابصارهم } وبعده { واذا اظلم عليهم قاموا } فان خطف البرق البصر انما يكون غالبا فى ظلمة الليالى وكذا وقوف الماشى عن المشى انما يكون اذا اشتد ظلمة الليل بحيث يحجب الابصار عن ابصار ما هو امام الماشى من الطريق وغيره وظلمة سحمة السحاب وتكاثفه فى النهار لا يوجب وقوف الماشى عن المشى كذا فى حواشى ابن التمجيد. وجعل المطر محلا للظلمات مع ان بعضها لغيره كظلمة الغمام والليل لما انهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة فى شدته وتهويلا لامره وايذانا بانه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام ورفع ظلمات بالظرف على الاتفاق لاعتماده على موصوف لان الجملة فى محل الجر صفة لصيب على وجه { ورعد } هو صوت فاصف يسمع من السحاب { وبرق } هو ما يلمع من السحاب اذا تحاكت اجزاؤه وكونهما فى الصيب مع ان مكانهما السحاب باعتبار كونها فى اعلاه ومنصبه وملتبسين فى الجملة به ووصول أثرهما اليه فهما فيه والمشهور بين الحكماء ان الرعد يحدث من اصطكاك اجرام السحاب بعضها ببعض او من اقلاع بعضها عن بعض عن اضطرابها بسوق الرياح اياها سوقا عنيفا. والصحيح الذى عليه التعويل ما روى عن الترمذى عن ابن عباس رضى اللّه عنه تعالى عنهما قال اقبلت يهود الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا اخبرنا عن الرعد ما هو قال عليه السلام ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوقه بها حيث شاء اللّه ) فقالوا فما هذا الصور الذى يسمع قال ( زجره حتى ينتهى الى حيث امر ) فقالوا صدقت فالمراد بالرعد فى الآية صوت ذلك الملك لاعنيه كما فى بعض الروايات من ( الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه الى حيث يؤمر وانه يجوز الماء فى نقرة ابهامه وانه يسبح اللّه فاذا سبح اللّه لا يبقى ملك فى السماء الارفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل القطر ) انتهى والمراد بالبرق ضربه السحاب بتلك المخاريق وهى جميع مخراق وهو فى الاصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضا اريد انها آلة تزجر بها الملائكة السحاب. قال مرجع الطريقة الجلوتية بالجيم الشيخ الشهير بافتاده افندى البروسوى التوفيق بين قول الحكماء وبين قوله صلى اللّه عليه وسلم ( ان الرعد صوت ملك على شكل النحل ) هو انه يصيح من خارج هذ العالم ولكن يدخل فيه ويؤثر فى داخله فنحن نسمع من داخله كما ان واحدا اذا كل شيأ نفاخا يحصل فى داخله رياح ذات اصوات فمنشأها من الخارج وظهورها فى الداخل فكلام النبى صلى اللّه عليه وسلم ناظر الى مبدئها وكلام الحكماء ناظر الى مظهرها { يجعلون اصابعهم فى اذانهم } الضمائر للمضاف المحذوف لان التقدير او كاصحاب صيب كما سبق ولا محل لقوله يجعلون لكونه مستأنفا لانه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلا قال كيف حالهم مع مثل ذلك الرعد فقيل يجعلون اصابعهم فى آذانهم والمراد اناملهم وفيه من المبالغة ما ليس فى ذكر الانامل كأنهم يدخلون من شدة الحيرة اصابعهم كلها فى آذانهم لا اناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز ان يكون هذا ايماء الى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم الى حيث لا يهتدون الى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال فى عدم تعيين الاصبع المعتاد اعنى السبابة وقيل لرعاية الادب لانها فعالة من السب فكان اجتنابها اولى بآداب القرآن الا ترى انهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والمهللة وغيرها ولم يذكر من امثال هذه الكنايات لانها الفاظ مستحثة لم يتارفها الناس فى ذلك العهد { من الصواعق } متعلق بيجعلون اى من اجل خوف الصواعق المقارنة للرعد وهى جمع صاعقة وهى قصفة رعد هائل تنقض معها شعلة نار لا تمر بشئ الا اتت عليه لكنها مع حدتها سريعة الخمود للطافتها - حكى - انها سقطت على نخلة فاحرقت نحو النصف ثم طفئت. قالوا بين السماء وبين الكلة الرقيقة التى لا يرى اديم السماء الا من ورائها نار منها تكون الصواعق تخرج النار فتفتق الكلة ويكون الصوت منها كما فى روضة العلماء. وقيل تنقدح من السحاب اذا اصطكت اجرامه او جرم ثقيل مذاب مفرغ من الجزاء اللطيفة الارضية الصاعدة المسماة دخانا والمائية المسماة بخارا حار حاد فى غاية الحدة والحرارة لا يقع على شئ الاثقب واحرق ونفذ فى الارض حتى بلغ الماء فانطفأ ووقف. قالوا اذا اشرقت الشمس على ارض يابسة تحللت منها اجزاء نارية يخالطها اجزاء ارضية يسمى المركب منهما دخانا ويخلط بالبخار ويتصاعدان معا الى الطبقة الباردة فينعقد البخار سحابا وينحبس الدخان فيه ويطلب الصعود ان بقى على طبيعته والنزول ان ثقل وكيف كان يمزق السحاب تمزيقا عنيفا فيحدث منه الرعد ثم قد يحث شدرة حركة ومحاكة فيحدث منه البرق ان كان لطيفا والصعاقة ان كان غليظا قال ابن عباس رضى اللّه عنهما من سمع صوت الرعد فقال { سبحان الذى يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شئ قدير } فان اصابته صاعقة فعلى ديته وكان صلىللّه عليه وسلم يقول اذا سمع الرعد وصواعقه ( اللّهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) كذا فى تفسير الشيخ وشرح الشرعة { حذر الموت } منصوب بيجعلون على العلة اى لاجل مخافة الهلاك والموت فساد بنية الحيوان { واللّه محيط } اصل الاحاطة الاحداق بالشئ من جميع جهاته وهو مجاز فى حقه تعالى اى محدق بعلمه وقدرته { بالكافرين } اى لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة فيحشرهم يوم القيامة ويعذبهم والجملة اعتراضية منبهة على ان ما صنعوا من سدا لآذان بالاصابع لا يغنى عنهم شيأ فان القدر لا يدافعه الحذر والحيل لا ترد بأس اللّه عز وجل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع الى اصحاب الصيب الايذان بان ما دهمهم من الامور الهائلة المحكية بسبب كفرهم. { يكاد البرق } اى يقرب استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدر كانه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد ذلك { يخطف ابصارهم } اى يختلسها ويستلبها بسرعة من شدة ضوئه { كلما اضاء لهم } كلما ظرف والعامل فبه جوابها وهو مشوا واضاء متعد اى انار البرق الطريق فى الليلة المظلمة وهو استئناف ثالث كانه قيل كيف يصنعون فى تارتى خفوق البرق وخفيته أيفعلون بابصارهم ما يفعلون بآذانهم ام لا فقيل كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكا { مشوا فيه } اى فى ذلك المسلك اى فى مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف ان يخطف ابصارهم وايثار المشى على ما فوقه من السعى والعدو للاشعار بعدم استطاعتهم لهما لكمال دهشتهم { واذا ظلم عليهم } اى خفى البرق واستتر فصار الطريق مظلما { قاموا } اى وقفوا فى اماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لحظة اخرى عسى يتسنى لهم الوصول الى المقصد او الالتجاء الى ملجأ يعصهم { ولو شاء اللّه } مفعوله محذوف اى لو اراد ان يذهب الاسماع التى فى الرأس والابصار التى فى العين كما ذهب بسمع قلوبهم وابصارهم { لذهب بسمعهم وابصارهم } بصوت الرعد ونور البرق عقوبة لهم لانه لا يعجز عن ذلك { ان اللّه على كل شئ } اى على كل موجود بالامكان واللّه تعالى بالوجوب دون الامكان فلا يشك العاقل ان المراد من الشئ فى امثال هذا ما سواه تعالى فاللّه تعالى مستثنى فى الآية مما يتناوله لفظ الشئبدلالة العقل فالمعنى على كل شئ سواه قدير كما يقال فلان امين على معنى امين على من سواه من الناس ولا يدخل فيه نفسه وان كان من جملتهم كما فى حواشى ابن التمجيد { قَدِير } اى فاعل له على قدر ما تقتضيه حكمته لا ناقصا ولا زائدا ثم ان هذا التثيل كشف بعد كشف وايضاح بعد ايضاح ابلغ من الاول شبه اللّه حال المنافقين فى حيرتهم وما خبطوا فيه من الضلالة وشدة الامر عليهم وخزيهم وافتضاحهم بحال من اخذته السماء فى ليلة مظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق والموت هذا اذا كان التمثيل مركبا وهو الذى يقتضيه جزالة التنزيل فانك تتصور فى المركب الهيئة الحاصلة من تفاوت تلك الصور وكيفاتها المتضامة فيحصل فى النفس منه ما لا يحصل من المفردات كما اذا تصورت من مجموع الآية مكابدة من أدركه الوبل الهطل مع تكاثف ظلمة الليل وهيئة انتساج السحاب بتتابع القطر وصوت الرعد الهائل والبرق الخاطف والصاعقة المحرقة ولهم من خوف هذه الشدائد حركات من تحذر الموت حصل لك منه امر عجيب وخطب هائل بخلاف ما اذا تكلفت لواحد واحد مشبها به يعنى ان حمل التمثيل على التشبيه المفرق فشبه القرآن وما فيه من العلوم والمعارف التى هى مدار الحياة الابدية بالصيب الذى هو سبب الحياة الارضية وما عرض لهم بنزوله من الغموم والاحزان وانكساف البال بالظمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وتصاممهم عما يقرع اسماعهم من الوعد بحال من يهوله الرعد والبرق فيخاف صواعقه فيسد اذنه ولا خلاص له منها واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه او رفد يحرزونه بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كل. فعلى العاقل ان يتمسك بحبل الشرع القويم والصراط المستقيم كى يتخلص من الغوائل والقيود ومهالك الوجود وغاية الامر خفية لا يدرى بما يختتم. قال رجل للحسن البصرى كيف اصبحت قال بخير قال كيف حالك فتبسم الحسن ثم قال لا تسأل عن حالى ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتلعق كل اناسن منهم بخشبة على اى حال هم قال الرجل على حال شديد قال الحسن حالى اشد من حالهم فالموت بحرى والحياة سفينتى والذنوب خشبتى فكيف يكون حال من وصفه هذا يا بنى فلا بد من ترك الذنوب والفرار الى علام الغيوب وفى الحديث ( من كانت هجرته الى اللّه ورسوله فهجرته الى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه ) تأمل كيف كان جزاء كل مؤمل ما امل واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا اشعارا بعدم اعتبارها لخساستها ولان وجودها لعب ولهو فكانه كلا وجود كما قيل. بر مرد هشياء دنيا خسست ... كه هر مدتى جاى ديكر كسست وانظر الى قوله عليه السلام ( فهجرته الى ما هاجر اليه ) وما تضمن من ابعاد ما سواه تعالى وتدبر ذكر الدنيا والمرآ مع انها منها اذ يشعر بان المراد كل شئ فى الدنيا نم شهوة او مال واليه يرجع الاكوان وان المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شئ للّه تعالى : قال الحافظ. غلام همت آنم كه زير جرخ كبود ... زهرجه رنك تعلق بذيرد آزادست يعنى عن كل شئ يقبل التعلق من المال والمنال والاولاد والعيال فلا بد من التعلق بمحبة الملك المتعال وفى التأويلات النجمية ١٩ { او كصيب من السماء } الاشارة فى تحقيق الآيتين ان اللّه تعالى شبه حال متمنى هذا الحديث واشتغالهم بالذكر وتتبع القرآن فى البداية وتجلدهم فى الطلب وما يفتح لهم نم الغيب الى ان تظهر النفس املالة وتقع فى آفة الفترة والوقفة بحالة من يكون فى المفازة سائرا فى ظلمة الليل والمطر وشبه الذكر والقرآن بالمطر لانه ينبت الايمان والحكمة فى القلب كما ينبت الماء البقلة { فيه ظلمات } اى مشكلات ومتشابهات تطهر لسالك الذكر فى اثناء السلوم ومعان دقيقة لا يمكن حلها وفهمها والخروج عن عهدة آفاتها الا لمن كان له عقل منور بنور الايمان مؤيد بتأييد الرحمن كما قال تعالى { الرحمن علم القرآن } فكما ان السير لا يمكن فى الظلمات الا بنور السراج كذلك لا يمكن السير فى حقائق القرآن ودقائقه ولا فى ظلمات البشرية الا بنور هداية الربوبية ولهذا قال تعالى { كلما اشاء لهم مشوا فيه } يعنى نور الهداية القلوب من هيبة جلال الذكر والقرآن كما قال تعالى { لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه } هو تلألؤ انوار الذكر والقرآن يهتدى الى القلوب فتلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر اللّه فيظهر فيه حقيقة القرآن والدين فيعرفها القلوب لقوله تعالى { واذا سمعوا ما انزل الرسول } لآية ولما لاح لهم انوار السعادة خرجوا من ظلمات الطبيعة وتمسكوا بحبل الارادة لينالوا درجات الفائزين ولكن يجعلون اصابعهم اى اصابع آمالهم الفاسدة وامانيهم الباطلة { فى آذانهم } الواعية { من الصواعق } ودواعى الحق { حذر } من { الموت } موت النفس لان النفس سمكة حياتها بحر الدنيا وماء الهوى لو اخرجت لماتت فى الحال وهذا تحقيق قوله عليه السلام ( موتوا من قبل ان تموتوا ) { واللّه محيط بالكافرين } فيه اشارة الى ان الكافر الذى له حياة طبيعية حيوانية لو مات بالارادة من مألوفات الطبيعة لكان احياء اللّه تعالى بانوار الشريعة كما قال تعالى { أومن كان ميتا فاحييناه } فلما لم يمت بالارداة فاللّه محيط بالكافرين اى مهلكهم ومميتهم فى الدنيا بموت الصورة وموت القلب وفى الآخرة بموت العذاب فلا يموت فيها ولا يحيى ٢٠ { يكاد البرق } اى نور الذكر والقرآن { يخطف ابصارهم } اى ابصار نفوسهم الامارة بالسوء { كلما اضاء لهم } نور الهدى { مشوا فيه } سلكوا طريق الحق بقدم الصدق { واذا اظلم عليهم } ظلمات صفات النفس وغلب عليهم الهوى ومالوا الى الدنيا { قاموا } اى وقفوا عن السير وتحيروا وترددوا وتطرقت اليهم الآفات واعرترتهم الفترات واستولى عليهم الشيطان وسولت لهم انفسهم الشهوات حتى وقعوا فى ورطة الهلاك { ولو شاء اللّه } اى لو كانت ارادته ان يهديهم { لذهب بسمعهم } اى بسمع نفوسم التى تصغى الى وساوس الشيطان وغروره { وابصارهم } اى ابصار نفوسهم التى بها تنظر الى زينة الدنيا وزخارفها كقوله تعالى { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { ان اللّه على كل شئ قدير } اى قادر على سلب اسماعهم وابصارهم حتى لا يسمعوا الوساوس الشيطانية والهواجس النفاسنية ولا يبصروا المزخرفات الدنيوية والمستلذات الحيوانية لكيلا يغتروا بها ويبعوا الدين بالدنيا ولكن اللّه يفعل بحكمته ما يشاء ويحكم بعزته ما يريد انتهى. ٢١ { يا ايها الناس } الآية مسوقة لاثبات التوحيد وتحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام اللذين هما اصل الايمان. والناس يصلح اسماء للمؤمنين والكافرين والمنافقين. والنداء تنبيه الغافلين او احضار الغائبين وتحريك الساكنين وتعريف الجاهلين وتفريغ المشغولين وتوجيه المعرضين وتهييج المحبين وتشويف المريدين. قال بعض العارفين اقبل عليهم بالخطاب جبرا فما فى العبادة من الكلفة بلذة الخطاب اى يا مؤنس لا تنس انسك بى قبل الولادة او يا ابن النسيان تنبيه ولا تنس حيث كنت نسايا منسيا ولم تك شيأ مذكورا فخلقتك وخمرتك طينا ثم نطفة ثم دما ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ولحوما وعروقا وجلودا واعصابا ثم جنبنا ثم طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا وانت فيما بين ذلك تتمرغ فى نعمتى وتسعى فى خدمة يرى تعبد النفس والهوى وتبيع الدين بالدنيا لا تنس من خلقك وجعلك من لا شئ شيأ مذكورا كريما مشكورا علمك وقواك واكرمك واعطاك ما اعطاك فهذا خطاب للنفس والبدن. قال فى التيسير واذا كان الانسان من النسيان ففيه عتاب وتلقين اما العتاب فكانه يقول ايها الناس قابلتم نعمنا بالكفران واوامرنا بالعصيان واما التلقين للعدل فكانه يقول ايها المخالف لنا ناسيا لا عامدا وساهيا لا قاصدا ذرناك لنسيانك وعفونا عنك لايمانك { اعبدوا ربكم } يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعاصعين اطيعوا ربكم ويقول للمنافقين اخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم ويقول للمطيعين اثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل لهذا الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم كما فى تفسير ابى الليث. والعبادة استفراغ الطاقة فى استكمال الطاعة واستشعار الخشية فى استبعاد المعصية { الذى خلقكم } صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه أطيعوا ربكم الذى خلقكم لخلقكم ولم تكونوا شيأ. والحلق اختراع الشئ على غير مثال سبق { و } خلق { الذين من قبلكم } اى من زمن قبل زمانكم من الامم فمن ابتدائية متعلقة بمحذوف وفى الوصف به ايماء الى سبب وجوب عبادته تعالى فان خلق اصولهم من موجبات العبادة كخلق انفسهم وفيه دلالة على شمول القدرة وتنبيه من سنة الغفلة اى انهم كانوا فمضوا وجاءوا وانقضوا فلا تنسوا مصيركم ولا تستجيزوا تقصيركم { لعلكم تتقون } حال من ضمير اعبدوا اى راجين ان تدخلوا فى سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار اللّه تعالى. ولعل للرجى والاطماع وهى من اللّه تعالى واجب لان الكريم لا يطمع الا فيما يفعل والاولون والآخرون مخاطبون بالامر بالتقوى وخص المخاطبين بالذكر تغليبا لهم على الغائبين كما فى الكواشى. وفيه تنبيه على ان التقوى وخص المخاطبين بالذكر تغليبا لهم على الغائبين كما فى الكواشى. وفيه تنبيه على ان التقوى منتهى درجة الساكلين وهو التبرى من كل شئ سوى اللّه تعالى وان العابد ينبغى ان لا يغتر بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء كما قال تعالى { يدعون ربهم خوفا وطمعا } { ويرجون رحمته } قال السعدى قدس سره. اكر مردى از مردئ خود مكوى ... نه هر شهسوارى بدر برد كوى يعنى ليس كل عابد يخلص ايمانه بسبب عبادته. ٢٢ { الذى جعل لكم الارض } صفة ثانية لربكم. قال اهل اللغة الارض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذى هو البحر المحيط اربعة وعشرون الف فرسخ كل فرسخ ثلاثة اميال وهو اثنا عشر الف ذراع بالذرع المرسلة وكل ذراع ست وثلاثون اصبعا كل اصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها الى بعض فللسودان اثنا عشر الف فرسخ وللبيضان ثمانية وللفرس ثلاثة وللعرب الف كذا فى كتاب الملكوت وسمت وسط الارض المسكونة حضرة الكعبة واما وسط الارض كلها عامرها وخرابها فهو الموضع الذى يسمى قبة الارض وهو مكان يعتدل فيه الازمان فى الحر والبرد ويستوى الليل والنهار ابدا لا يزيد احدهما على الآخر كما فى الملكوت على كرم اللّه وجهه انه قال انما سميت الارض ارضا لانها تتأرض ما فى ما فيها وقال بعضهم لانها تتأرض بالحوافر والاقدام { فراشا } ومعنى جعلها فراشا جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاءطبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا وهو الذى له طول وعرض فان كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها { و } جعل { السماء } وهو ما علاك واظلك { بناء } قبة مضروبة عليكم وكل سماء مطبقة على الاخرى مثل القبة والسماء الدنيا ملتزقة اطرافها على الارض كما فى تفسير ابى الليث { وانزل من السماء ماء } اى مطرا ينحدر منها على السحاب ومنه على الارض وهو رد لزعم انه يأخذه من البحر { فاخرج به } اى انبت اللّه بسبب الماء الذى انزل من السماء { من الثمرات } هى ههنا المأكولات كلها من الحبوب والفواكه وغيرها مما يخرج من الارض والشجر كما فى التيسير { رزقا لكم } وذلك بان اودع فى الماء وقة فاعلية وفى الارض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما اصناف الثمار فبين المظلة والمقلة شبه عقد النكاح بانزال الماء منها عليها والاخراج به من بطنها اشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبنى آدم ومن للبيان ورزقا اى طعاما وعلفا لكم ولدوابكم والمعنى ان اللّه تعالى انعم عليكم بذلك كله لتعرفوه بالخالقية والرازقية فتوحدوه { فلا تجعلوا للّه اندادا } جمع ند وهو المثل اى امثالا تعبدونهم كعبادة اللّه يعنى لا تقولوا له شركاء تعبد معه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما لا تقولوا لولا فلان لاصابنى كذا ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا. وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم انه قال ( اياكم ولو فانه من كلام المنافقين قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) قال السعدى اكر عزو جاهست اكر ذل وقيد ... من ازحق شناسم نه از عمرو وزيد { وانتم تعلمون } ان اللّه هو الذى خلقكم ومن قبلكم وخلق السماء والارض وخلق الارزاق دون الاصنام فانها لا تضر ولا تنفع والوعظ الكلى انه قال فى الآية { جعل لكم } وقال { رزقا لكم } فلو قال لك فى القيامة فعلت كذا كله لكم فما فعلتم لى فما تقول. وعن الشبلى رحمه اللّه انه وعظ يوما الناس فابكاهم لما ذكر من القيامة واهوالها فمر بهم ابو الحسين النورى قال لا تفزعهم فان حساب يومئذ ليس بهذا الطول انما هو كلمتان ( من ترا بودم تو كرا بودى ) وافادت الآية انه ينبغى الاخلاص فى العبادة بترك ملاحظة الاغيار وبشهود خالق الليل والنهار : قال السعدى كرت بيخ اخلاص در بوم نسيت ... درين در كسى جون تو محروم نسيت وفى توصية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ ( يا معاذ انى محدثك بحديث ان انت حفظته تفعك وانت انت ضيعته انقطعت حجتك عند اللّه تعالى يا معاذ ان اللّه تبارك وتعالى خلق سبع املاك قبل ان يخلق السماوات والارض فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا فيصعد عليه الحفظة بعمل العبد من حين اصبح الى حين امسى له نور كنور الشمس حتى اذا طلعت به الملائكة الى السماء الدنيا زكته وكثرته فيقول الملك الموكل للحفظة قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا صاحب الغيبة امرنى ربى ان لا ادع عمل من اغتاب الناس يتجاوزنى انه كان يغتاب الناس ). زبان آمد از بهر شكر وساس ... بغيبت نكرداندش حق شناس قال عليه السلام ( م يأتى الحفظة بعمل صالح من اعمال العبد فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به الى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بالسماء الثانية قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الفخر انه اراد بعمله هذا عرض الدنيا امرنى ربى ان ادع عمله يتجاوز الى غيرى انه كان يفتخر على الناس فى مجالسهم ) جه زنار مغ درميانت جه دلق ... كه در بوشى از بعهر بندار خلق قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة بعمل عبد يبتهج نورا من صدقة وصيام وصلاة قد اعجب الحفظة فيتجاوزون به الى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الكبر امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى انه كان يتكبر على الناس فى مجالسهم ) فروتن بود هوشمند كزين ... نهد شاخ برميوه سربر زمين قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة بعمل عبد يزهو كما يزهو الكوكب الدرى من صلاة وتسبيح وحج وعمرة حتى يجاوزون به الى الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا صاحب العجب امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى انه كان اذا عمل عملا ادخل العجب فيه ) جو رويى بخدمت نهى بر زمين ... خدارا ثنا كوى خودرا مبين قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة بعمل عبد حتى يجاوزون به الى السماء الخامسة كانه العروس المزفوفة الى اهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الحسد انه كان يحسد من يتعلم العلم ويعمل اللّه وكل من يأخذ بنصيب من العبادة كان يحسدهم ويعيبهم امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى ) عقبه زين صعبتر درراه نسيت ... اى خنك آنكس حسد همراه نسيت قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة بعمل عبد من صيام وصلاة وزكاة وحج وعمرة فيجاوزون به الى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انه كان لا يرحم انسانا من عباد اللّه قط واذا أصابهم بلاء وضر كان يشمت فيهم انا ملك موكل بالرحمة امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى ) اشك خواهى رحم كن براشك بار ... رحم خواهى بر ضعيفان رحم آر قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة الى السماء السابعة بعمل عبد من صلاة وصوم وفقه واجتهاد وورع لها دوىّ كدوىّ النحل وضوء كضوء الشمس معها ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون بها الى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واقفلوا على قلبه انا احجب عن ربى كل عمل لم يرد به ربى انه كان يعمل لغير اللّه ان اراد به رفعه عند الفقهاء وذكرا عند العلماء وصيتا فى المدائن امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى الى غيرى وكل عمل لم يكن للّه تعالى خالصا فهو رياء ) بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت قال عليه السلام ( ويصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة وصوم وصلاة وحج وعمرة وخلق حسن وذكر للّه ويشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلها الى اللّه عز وجل فيقفون بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص للّه فيقول اللّه عز وجل انتم الحفظة على عمل عبدى وانا الرقيب على قلبه انه لم يردنى بهذا العمل واراد به غيرى فعليه لغنى فتقول الملائكة كلهم عليه لغنتك ولعنتنا فتلعنه السموات السبع ومن فيهن ) قال معاذ قلت يا رسول اللّه كيف لى بالنجاة والخلوص قال ( اقتد بى وعليك باليقين وان كان فى عملك تقصير وحافظ على لسانك من الوقيعة ) اى الغيبة ( فى اخوانك من حملة القرآن ولا تزك نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا بعمل الآخرة ولا تمزق الناس فيمزقك كلاب النار يوم القيامه فى النار ولا تراء بعملك الناس ) قال السعدى اى هنرها نهاده بر كف دست ... عيبها بر كرفته زير بغل تاجه خواهى خريدن اى مغرور ... روز درماندكى بسيم دغل وعن ابى يزيد البسطامى قدس سره قال كابدت العبادة اى اتعبت نفسى فيها ثلاثين سنة فرأيت قائلا يقول يا ابا يزيد خزائنه مملوة بالعبادة ان اردت الوصول اليه فعليك بالذلة والاحتقار والاخلاص فى العمل : قال ابو زيد قدس سره جارجيز آورده ام شاها كه در كنج تونيست ... نيستى وحاجت وجرم وكناه آورده ام قاله لما طلب منه الهدية حين طلع مبشرات الحقيقة فلما عرض تلك الهدية قيل ادخل جئت بهدية عظمى وحصل الاستحقاق للدخول وفى التأويلات النجمية { يا ايها الناس } الاشارة فى تحقيق الآيتين انه تعالى خاطب ناسى عهود يوم الميثاق والاقرار بربوبيته ومعاهدته ان لا تعبدوا الا ياه فخالفوه ونقضوا عهده وعبدوا الطواغيت من الاصنام والدنيا والنفس والهوى والشيطان فزل قدمهم عن جادة التوحيد ووقعوا فى ورطة الشرك والهلاك فبعث اليهم الرسول وكتب اليه الكتاب وأخبرهم عن النسيان والشرك ودعاهم الى التوحيد والعبودية وقال { اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم } يعنى ذراتكم وذرات من قبلكم يوم الميثاق واخذ مواثيقكم بالربوبية والتوحيد والعبادة فاوفوا بعهد العبودية بتوحيد اللسان وتجريد القلب وتفريد السر وتزكية النفس بترك المحظورات واقامة الطاعات المأمورات { لعلكم تتقون } عن شرك عبادة غير اللّه فيوفى اللّه بعهد الربوبية بالنجاة من الدركات ورفع الدرجات بالجنان والاكرام بالقربات والكرامات فى الآخرة كما اكرمكم فى الدنيا { الذى جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء } فيه اشارة الى تعريفه بالقدرة الكاملة ومنته على عباده وفضيلتهم عنده على جميع المخلوقات اما تعريف نفسه بالقدرة الكاملة فقوله تعالى { الذى جعل } واما منته على عباده فقوله تعالى { لكم الارض فراشا والسماء بناء } اى خلق هذه الاشياء لكم خاصة واما فضيلتهم على جميع المخلوقات بان خلق السموات والارض وما فيهما لاجلهم وسخره لهم لقوله تعالى { وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض جميعا منه } فكان وجود السموات والارض تبعا لوجودهم وما كان وجوده تبعا لوجود شيئ لا يكون مقصودا وجوده لذاته ولهذا السر امر اللّه تعالى ملائكته بسجود آدم عليه السلام وحرم على آدم واولاده سجود غير اللّه ليظهر ان الملائكة وان كانوا قبل وجود آدم افضل الموجودات فلما خلق آدم وجعله مسجودا لهم كان هو افضل الملخوقات واكرمهم على اللّه تعالى ومتبوع كل شئ والكل تابع له { وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم } تحقيقه ان الماء هو القرآن وثمراته الهدى والتقى والنور والرحمة والشفاء والبركة واليمن والسعادة والقربة والحق اليقين والنجاة والرفعة والصلاح والفلاح والحكمة والحلم والعلم والآداب والاخلاق والعزة والغنى والتمسك بالعروة الوثقى والاعتصام بحبل اللّه المتين وجماع كل خير وختام كل سعادة وزهوق باطل الوجود الانسانى عند مجيئ تجليات حقيقة الصفات الربانية كقوله تعالى { قل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا } فاخرج بماء القرآن هذه الثمرات من ارض قلوب عباده فكما ان اللّه تعالى من على عباده باخراج الثمرات رزقا لكم وكان للحيوانات فيها رزق ولكن بتبعية الانسان وهذا مما لا تدركه العقول المشوبة بالوهم والخيال بل تدركه العقول المؤيدة بتأييد الفضل والنوال { فلا تجعلوا للّه اندادا } فيه ثلاثة معان. او لها ان هذا الذى جعلت لكم من خلق انفسكم وخلق السموات والارض وما فيها لكم ليس من شأن احد غيرى { وانتم تعلمون } فلا تجعلو لى اندادا فى العبودية وثانيها انى جعلت السموات والارض والشمس والقمر كلها واسطة ارزاقكم واسبابها وانا الرزاق فلا تجعلوا الوسائط اندادا لى فلا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية. وثالثها انى خلقت الموجودات وجعلت لك شئ حظا فى شىء حظا فى شئ آخر وجعلت حظ الانسان فى محبتى ومعرفتى وكل محظوظ لو انقطع عنه حظه لهلك فلا تنقطعوا عن حظوظكم من محبتى ومعرفتى بان تجعلوا لى اندادا تحبونهم كحبى فتهلكوا فى اودية الشرك يدل عليه قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه اندادا يحبونهم كحب اللّه } فالانداد هى الاحباب غير اللّه ثم وصف الذين لم ينقطعوا عن حظ محبته بالايمان وقال { والذين آمنوا اشد حبا للّه } يعنى الذين اتخذوا من دون اللّه آلهة فى المحبة ما آمنوا حقيقة وان زعموا انا آمنا فافهم جدا ولا تغتر بالايمان التقليدى الموروث حتى يصح على هذا المحل. ٢٣ { وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا } اى فى ذك من القرآن الذى نزلناه على محمد صلى اللّه عليه وسلم فى كونه وحيا منزلا من عند اللّه تعالى. والتنزيل النزول على سبيل التدريج وانزل القرآن جملة واحدة الى السماء الدنيا الى بيت العزة ثم منه على النبى صلى اللّه عليه وسلم مفرقا منجما فى ثلاث وعشرين سنة ليحفظ فانه عليه الصلاة والسلام كان اميا لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الانبياء فانه كان كاتبا قارئا فيمكنه حفظ الجميع من الكتاب ولذا قالوا ان سائر الكتب الآلهية انزلت جملة { فاتوا } جواب الشرط وهو امر تعجيز { بسورة } وحد السورة قطعة من القرآن معلومة الاول والآخر اقلها ثلاث آيات. وانما سميت سورة لكونها اقوى من الآية من سورة الاسد والشراب اى قوته هذا ان كانت واوها اصلية وان كانت منقلبة عن همزة فهى مأخوذة من السؤر الذى هى البقية من الشئ فالسورة قطعة من القرآن مفرزة باقية من غيرها { من مثله } اى سورة كائنة من مثل ما اتى هو ان كان الامر كما زعمتم من كونه كلام البشر اذا انتم وهو سواء فى الجوهر والخلقة واللسان وليس هو اولى بالاختلاق منكم ثم القرآن وان كان لامثل له لانه صفة اللّه وكلام اللّه ووحى اللّه ولا مثل لصفاته كما لا مثل لذاته لكن معناه من مثله على زعمكم فقد كانوا يقولون لو شئنا لقلنا مثل هذا كما فى التيسير { من دون اللّه } اما متعلقة بادعوا فالمعنى ادعوا متجاوزين اللّه من حضركم كائنا من كان للاستظهار فى معارضة القرآن او الحاضرين فى مشاهدكم ومحاضركم من رؤوسائكم واشرافكم الذين تفرزعون اليهم فى الملمات وتعولون عليهم فى المهمات او القائمين بشهادتكم الجارية فيما بينكم من امنائكم المتولين لاستخلص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة او القائمين بنصركم حقيقة او زعما من الانس والجن ليعينوكم واما متعلقة بشهداءكم والمراد بهم الاصنام. ودون بمعنى التجاوز على انها ظرف مستقر وقع حالا من ضمير المخاطبين والعامل ما دل عليه شهداءكم اى ادعوا اصنامكم الذين اتخذتموهم آلهة وزعمتم انهم يشهدون لكم يوم القيامة انكم على الحق متجاوزين اللّه فى اتخاذها كذلك. ودلت الآية على ان الاستعانة بالخلق لا تغنى شيأ وما يغنى رجوع العاجز عن العاجز فلا ترفع حوائجك الا الى من لا يشق عليه قضاؤها ولا تسأل الا من لا تفنى خزائنه ولا تعتمد الا على من لا يعجز عن شئ ينصرك من غير معين ويحفظ من كل جانب ومن غير صاحب ويغنيك من غير مال فيقل اعداد الاعداء الكثيرة اذا حماك ويكثر عدد المال القليل اذا كفاك { ان كنتم صادقين } فى ان محمدا تقوله من تلقاء نفسه وان آلهتكم شهداؤكم وهو شرط جوابه محذوف تقديره فافعلوا اى فائتوا بسورة من مثله. ٢٤ { فان لم تفعلوا } اى ما امرتم من الاتيان بالمثل بعد ما بذلتم فى السعى غاية المجهود { ولن تفعلوا } فيما يستقبل ابدا وذلك لظهور اعجاز القرآن فانه معجزة النبى عليه السلام اعتراض بين الشرط وجوابه وهذه معجزة باهرة حيث اخبر بالغيب الخاص علمه به عز وجل وقد وَقع الامر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشئ بداية فى الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف { فاتقوا النار } اى ولما عجزتم عن معارضة القرآن ومثله لزمتكم الحجة ان محمدا رسولى والقرآن كتابى ولزمكم تصديقه والايمان به ولما لم تؤمنوا صرتم من اهل النار فاتقوها. وفى الكشاف لصيق اتقاء النار وضميمه ترك العناد من حيث انه من نتائجه لان من اتقى النار ترك المعاندة فوضع فاتقوا النار موضع فارتكوا العناد { التى وقودها } اى حطبها وهو ما يوقد به النار { الناس } اى العصاة { والحجارة } اى حجارة الكبريت وانما جعل حطبها منها لسرعة وقودها اى التهابها وبطئ خمودها وشدة حرها وقبح رائحتها لوصوقها بالبدن او الحجارة هى الاصنام التى عبدوها وانما جعل التعذيب بها ليتحققوا انهم عذبوا بعبادتها وليروا ذلها ومهانتها بعد اعتقادهم عزها وعظمتها والكافر عبد الصنم واعتمده ورجاه فعذب به اظهارا لجهله وقطعا لامله كأتباع الكبراء خدموهم ورجوهم وفى النار يسحبون معهم ليكون اشق عليهم واقطع لرجائهم. فان قلت أنار الجحيم كلها توقد بالناس والحجارة ام هى نيران شتى منها نار بهذه الصفة * قلت بل هى نار شتى منها نار توقد بالناس والحجارة يدل على ذلك تنكيرها فى قوله تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } { فانذرتكم نارا تلظى } ولعل لكفار الجن ولشياطينهم نارا وقودها الشياطين كما ان لكفرة الانس نارا وقودهاهم جزاء لكل جنس بما يشاء كله من العذاب { اعدت للكافرين } اى هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم. وفيه دلالة على ان النار مخلوقة موجودة الآن خلافا للمعتزلة وفى الآية اشارة الى ان ثمرة الاخذ بالقرآن والاقرار به وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم هو النجاة من النار التى وقودها الناس والحجارة وفيه زيادة فضل القرآن واهله * قال البغوى عند قوله تعالى { فائتوا بسورة } قيل السورة اسم للمنزلة الرفية وسميت سورة لان القرئ ينال بقراءتها منزلة رفيعه حتى يستكمل المنازل باستكمال سورة القرآن. وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه انه قال يرجع أتباع بليس كل عشية الى سيدهم فيقول كل واحد منهم بين يديه فعلت كذا وغررت فلانا الزاهد حتى يقول اصغرهم انا منعت صبيا من الكتاب فيقوم ابليس بين يديه ويعقهد الى جنبه فرحا بما فعل وقالت الحكماء حق الولد على ابويه ثلاثة ان يسمياه باسم حسن عند الولادة وان يعلماه القرآن والادب والعلم وان يختناه ثم ان المقصد الاصلى هو العمل بالقرآن والتخلق بآدابه كما قيل ( مراد ار نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست ) * نه ترتيل سوره مكتوب وللقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن الى سبعة ابطن قال فى المثنوى تو ز قرآن اى بسر ظاهر مبين ... ديو آدم را نبيند جزكه طين ظاهر قران جو شخص آدميست ... كه نقوشش ظاهر وجانس خفيست قال الشيخ نجم دايه فظاهره يدل على ما فسره العلماء وباطنه يدل على ما حققه اهل التحقيق بشرط ان يكون موافقا للكتاب والسنة ويشهدا عليه بالحق فان كل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنة فهى الحاد وزندقة لقوله تعالى { ولا رطب ولا يابس الا فى كتاب مبين } وقال ايضا فى تأويل الآية { وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا } جعل اللّه اعراض المعرضين قباب غيرته لحبيبه المرسل لئلا يشاهدوا من اللّه حبيبه وجعل اعتراض المعترضين سرادقات عزته لئلا يطلعوا على اللّه وكتابه وسماه عليه السلام بالعبد المطلق ولم يسم غيره الا بالعبد المقيد باسمه كما قال { واذكر عبدنا ايوب } { واذكر عبدنا داود } وغيرهما وذلك لان كمال العبودية ما تهيأ لاحد من العالمين الا لحبيبه عليه السلام وكمال العبودية فى كمال الحرية عما سوى اللّه وهو مختص بهذه الكرامة كما اثنى عليه بقوله { ما زاغ البصر وما طغى } { فائتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون اللّه } اى الحاضرين معكم يوم الميثاق لانكم وانهم ومحمدا كنتم جميعا مستمعين خطاب ألست بربكم مجتمعين فى جواب بلى فلو كان محمد قادرا على اتيان القرآن من تلقاء نفسه فهو وانتم فى الاستعداد الانسانى الفطرى سواء فائتوا باللقرآن من تلقاء انفسكم ايضا { ان كنتم صادقين فان لم تفعلوا فاتقوا النار التى } هى القهر وصورة غضب الحق كما قال اللّه للنار ( انما انت عذابى اعذب بك من اشاء من عبادى ) { وقودها الناس } انانية الانسان التى نسيان اللّه من خصوصيتها { والحجارة } اى الذهب لانه به يحصل مرادات النفس وشهواتها وما يميل اليه الهوى فعبر عما يعبده انانية الانسان بالحجارة لان اكثر الاصنام كان من الحجارة وعن انانية الانسان بالناس لانها انما طلبت غير اللّه وعبدته لنسيان الحق ومعاهدة يوم الميثاق ثم جعلها وقود النار لقوله تعالى { انكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم } { اعدت للكافرين } خاصة ولكن يطهر المذنوبن بها بتبعية الكافرين كما ان الجنة خلقت عليها بتبعية المتقين يدل عليه قول النبى صلى اللّه عليه وسلم حكاية عن اللّه تعالى ( خلقت الجنة وخلقت لها اهلها وبعمل اهل الجنة يعملون وخلقت النار وخلقت لها اهلها وبعمل اهل النار يعمُلون ) ٢٥ { وبشر الذين آمنوا } البشارة الخبر السار الذى يظهر به اثر السرور فى البشرة اى فرح يا محمد قلوب الذين آمنوا بان القرآن منزل من عند اللّه تعالى فالخطاب للنبى عليه وقيل لك من يتأتى منه التبشير كما فى قوله عليه الصلاة والسلام ( بشر المشائين الى المساجد فى ظلم الليالى بالنور التام يوم القيامة ) فانه عليه السلام لم يأمر بذلك واحدا بعينه بل كل احد مما يتأتى منه ذلك { وعملوا الصالحات } اى فعلوا الفعلات الصالحات وهى كل ما كان للّه تعالى وفى عطف العمل على الايمان دلالة على تغايرهما واشعار بان مدار استحقاق البشارة مجموع الامرين فان الايمان اساس والعمل الصالح كالبناء عليه ولا غناء باساس لابناء عليه وطلب الجنة بلا عمل حال السفهاء لان اللّه تعالى جعل العمل سببا لدخول الجنة والعبد وان كان يدخله اللّه الجنة بمجرد الايمان لكن العمل يزيد نور الايمان وبه يتنور قلب المؤمن وكم من عقبة كؤود تستقبل العبد الى ان يصل الى الجنة واول تلك العقابات عقبة الايمان انه هل يسلم من السلب ام لا فلز العمل لتسهيل العقبات { ان لهم } اى بان لهم { جنات } بساتين فيها اشجار مثمرة. والجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم كذا قال الفراء ولفط التفاف اغصان اشجارها وتسترها بالاشجار سميت جنة كانها سترة واحدة لان الجنة بناء مرة وانما سميت دار الثواب بها مع ان فيها ما لا يوصف من الغرفات والقصور لما انها مناط نعيمها ومعظم ملاذها. فان قلت ما معنى جمع الجنة وتنكيرها. قلت الجنة اسم لدار الثواب كلها وهى مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على استحقاقات العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. ثم الجنان ثمان دار الجلال كلها من نور مدائنها وقصورها وبيوتها واونيها وشرفها وابوابها ودرجها وغرفها واعاليها واسافلها وخيامها وحليها وكل ما فيها ودار القرار كلها من المرجان ودار السلام كلها من الياقوت الاحمر وجنة عدن من الزبرجد كلها وهى قصبة الجنة وهى مشرفة على الجنان كلها وباب جنة عدن مصراعان من زمرد وياقوت ما بين المصراعين كما بين المشرق والمغرب وجنة المأوى من الذهب الاحمر كلها وجنة الخلد من الفضلة كلها وجنة الفردوس من اللؤلؤ كلها وحيطانها لبنة من ذهب ولبنة من فضة ولبنة من ياقوت ولبنة من زبرجد وملاطها وما يجعل بين اللبنتين مكان الطين المسك وقصورها الياقوت وغرفها اللؤلؤ ومصاريعها الذهب وارضها الفضة وحصباؤها المرجان وترابها المسك ونباتها الزغفران والعنبر وجنة النعيم من الزمرد كلها وفى الخبر ( ان المؤمن اذا دخل الجنة رأى سبعين الف حديقة فى كل حديقة سبعون الف شجرة على كل شجرة سبعون الف ورقة وعلى كل ورقة لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه امة مذنبة ورب غفور كل ورقة عرضها من مشرق الشمس الى مغربها ) { تجرى من تحتها الانهار } الجملة صفة لجنات والانهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كانيل نهر مصر والمراد بها ماؤها. فان قلت كيف جرى الانهار من تحتها. قلت كما ترى الاشجار النابتة على شواطئ الانهار الجارية وعن مسروق ان انهار الجنة تجرى فى غير اخدود وهو الشق من الارض بالاستطالة وأنزه البساتين واكرمها منظرا ما كانت اشجاره مظللة والانهار فى خلالها مطردة ولولا ان الماء الجارى من النعمة العظمى وان الرياض وان كانت احسن شئ لا تجلب النشاط حتى يجرى فيها الماء والا كان السرور الاوفر مفقودا وكانت كتماثيل لا ارواح لها وصور لا حياة لها لما جاء اللّه يذكر الجنات البتة مشفوعا بذكر الانهار الجارية من تحتها والانهار هى الخمر واللبن والعسل والماء فاذا شربوا من نهر الماء يجدون حياة ثم انهم لا يموتون واذا شربوا من اللبن يحصل فى ابدانهم تربية ثم انهم لا ينقصون واذا شربوا من نهر العسل يجدون شفاء وصحة ثم انهم لا يسقمون واذا شربوا من نهر الخمر يجدون طربا وفرحا ثم انهم لا يحزنون : قال فى المثنوى آب صبرت جوى آب خلد شد ... جوى شير خلد مهر تست وود ذوق طاعت كشت جوى انكبين ... متسى وشوقى توجوى خمر بين اين سببها جون بفرمان تو بود ... جار جوهم مرترا فرمان نمود وروى انه كتب عرضا بسم اللّه الرحمن الرحيم على ساق العرش فعين الماء تنبع من ميم بسم وعين اللبن تنبع من هاء اللّه وعين الخمر تنبيع من ميم الرحمن وعين العسل تنبع من ميم الرحيم هذا منبعها واما مصبها فكلها تنصب فى الكوثر وهو حوض النبى عليه السلام وهو فى الجنة اليوم وينتقل يوم القيامة الى العرصات لسقى المؤمنين ثم ينقل الى الجنة ويسقى اهل الجنة ايضا من عين الكافور وعين الزنجبيل وعين السلسبيل وعين الرحيق ومزاجه من تسنيم بواسطة الملائكة ويسقيهم اللّه الشراب الطهور بلا واسطة كما قال تعالى { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } { كلما } او الرمانة الفذة وانما المراد نوع من انواع الثمار ومن الاولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لان الرزق قد ابتدئ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدئ من ثمرة { رزقا } مفعول رزقوا وهو ما ينتفع به الحيوان طعاما { قالوا هذا الذى رزقنا من قبل } اى هذا مثل الذى رزقنا من قبل هذا فى الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وانما جعل ثمر الجنة كثمر الدنيا لتميل النفس اليه حين تراه فان الطباع مائلة الى المألوف متنفرة عن غير المعروف وليتبين لها مزية اذلو كان جنسا غر معهود لظن انه لا يكون الا كذلك وان كان فائقا فحين ابصروا الرمانة من رمان الدنيا ومبلغها فى الحجم وان الكبرى لا تفضل عن حدا البطيخة الصغيرة ثم يبصرون رمانة الجنة وهى تشبع السكن اى اهل الدار كان ذلك ابين للفضل واجلب للسرور وازيد فى التعجب من ان يفاجئوا ذلك الرمان من غير عهد سابق بجنسه وعموم كلما يدل على ترديهم هذه المقالة كل مرة رزقوا فيما عدا المرة الاولى يظهرون بذلك التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذه مع اتحادهما فى الشكل واللون كانهم قالوا هذا عين ما رزقناه فى الدنيا فمن اين له هذه الرتبة من اللذة والطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه ليس فى الجنة من اطعمة الدنيا الا الاسم فان ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن والهيئة لا لبيان ان لا تشابه بينهما اصلا كيف لا واطلاق الاسماء منوط بالاتحاد النوعى قطعا { واتوا به } اى جيئوا بذلك الرزق او المرزوق فى الدنيا والآخرة جميعا فالضمير الى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا فى الدارين ونظيره قوله تعالى { ان يكن غنيا او فقير فاللّه اولى بهما } اى بجنيس الغنى والفقير { متشابها } فى اللون والجودة فاذا اكلوا وجدوا طعمه غير ذلك اجود وألذ يعنى لا يكون فيها رديئ. وعن مسروق نخل الجنة نضيد من اصلها الى فرعها اى منضود بعضها على بعض اى متراكب ومجتمع ليس كاشجار الدنيا متفرقة اغصانها وثمرتها امثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها اخرى والعنقود اثنا عشر ذراعا ولو اجتمع الخلائق على عنقود لاشبعهم وجاء رجل من اهل الكتاب الى النبى صلى اللّه عليه وسلم فقال يا ابا القاسم تزعم ان اهل الجنة يأكلون ويشربون فقال ( نعم والذى نفس محمد بيده ان احدهم ليعطى قوة مائة رجل فى الاكل والشرب والجماع ) قال فان الذى يأكل له حاجة والجنة طيبة ليس فيها اذى قال عليه السلام ( حاجة احدهم عرق كريح المسك ) { ولهم فيها } اى فى الجنة { ازواج } اى نساء وحور { مطهرة } مهذبة من الاحوال المستقذرة كالحيض والنفاس والبول والغائط والمنى والمخاط والبلغم والورم والدرن والصداع وسائر الاوجاع والولادة ودنس الطبع وسوء الخلق وميل الطبع الى غير الازواج وغير ذلك. ومطهرة ابلغ من طاهرة ومتطهرة للاشعار بان مطهرا طهرن وما هو الا اللّه سبحانه وتعالى * قال الحسن هن عجائزكم العمص العمش طهرن من قاذورات الدنيا وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما خلق الحور العين من اصابع رجليها الى ركبتيها من الزعفران ومن ركبتيها الى ثدييها من المسك الاذفر ومن ثدييها الى عنقها من العنبر الاشهب اى الابيض ومن عنقها الى رأسها من الكافور اذا اقلبت يتلألأ نور وجهها كما يتلألأ نور الشمس لاهل الدنيا { وهم فيها خالدون } اى دائمون احياء لا يموتون ولا يخرجون منها. قال عكرمة اهل الجمنة ولد ثلاث وثلاثين سنة رجالهم ونساؤهم وقامتهم ستون ذراعا على قامة ابيهم آدم شباب جرد مرد مكحلون عليهم سبعون حلة تتلون كل حلة فى كل ساعة سبعين لوا لا يترقون ولا يمتخطون وما كان فوق ذلك من الاذى فهو ابعد يزدادون كل يوم جمالا وحسنا كما يزداد اهل الدنيا هرما وضعفا لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم. واعلم ان معظم اللذات الحسية لما كان مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقضى به الاستقراء وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات اذ كل نعمة وان جلت حيث كانت فى شرف الزوال ومعرض الاضمحلال فانها منغصة غير صافية من شوائب الالم بشر المؤمنون بها وبدوا مهما تكميلا للبهجة والسرور وفى التأويلات النجمية { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ان لهم جنات تجرى من تحتها الانهار } اى يحصل لهم جنات القربة معجلة من بذر الايمان الحقيقى واعمالهم القلبية الصالحة والروحية والسرية بالتوحيد والتجريد والتفريد من اشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والاخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوة والمجاهدة والمكابدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والخوف والخشية والرجاء والصفاء والوفاء والطلب والارادة والمحبة والحياء والكرم والسخاوة والشجاعة والعلم والمعرفة والعزة والرفعة والقدرة والحلم والعفو والرحمة والهمة العالية وغيرها من المقامات والاخلاق تجرى من تحتها مياه العناية والتوفيق والرأفة والعطفة والفضل { كلما رزقوا منها } من هذه الاشجار { من ثمرة } من ثمرات المشاهدات والمكاشفات والمعاينات { رزقا } اى عطفا وصحة وعطية { قالوا هذا الذى رزقنا من قبل } وذلك لان اصحاب المشاهدات يشاهدون احوالا شتى فى صورة واحدة من ثمرات مجاهداتهم فيظن بعضهم من المتوسطين ان هذا المشاهد هو الذى يشاهده قبل هذا فتكون الصورة تلك الصورة ولكن المعنى هو حقيقة اخرى مثاله يشاهد السالك نورا فى صورة نار كما شاهد موسى عليه السلام نور الهداية فى صورة نار كما قال انى آنتس نارا فتكون تارة تلك النار صفة غضب كما كان لموسى عليه السلام اذا اشتد غضبه اشتعلت قلنسوته نارا وتارة يشاهد النار وهى صفة الشيطنة وتارة تكون نار المحبة تقع فى محبوبات النفس فتحرقها وتارة تكون نار اللّه الموقدة التى تطلع على الافئدة فتحرق عليهم بيت وجودهم فالصورة لانارية المشاهدة متشابه بعضها ببعض كما قال تعالى { واتوا به متشابها } ولكن السالك الواصل يجد من كل نار منها ذوقا وصفة اخرى { ولهم فيها ازواج } اى لارباب الشهود فى جنات القربات ازواج من ابكار الغيب { مطهرة } من ملابسة الاغيار { وهم فيها } فى افتضاضها { خالدون } كما قال عليه السلام ( ان من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها الا العلماء باللّه فاذا نطقوا بها لا ينكرها الا اهل الغرة باللّه ) واعلم ان كل شئ يشاهد فى الشهادة كما ان له صورة فى الدنيا له معنى حقيقى فى الغيب ولهذا كان النبى عليه السلام يسأل اللّه تعالى بقوله ( اللّهم ارنا الاشياء كما هى ) فيكون فى الآخرة صورة الاشياء وحقائقها حاصلة ولكن الحقائق والمعانى على الصور غالبة فيرى فى الآخرة صورة شئ يعنيه فيعرفه فيقول هذا الذى رزقنا من قبل فيكون الاسم والصورة كما كانت ولكنها فى ذوق آخر غير ما كنت تعرفه ولهذا قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ليس شئ فى الجنة مما فى الدنيا غير الاسماء وهذا كما قال رسول اللّه عليه السلام ( كل كلمة يكلمها المسلم فى سبيل اللّه تكون يوم القيامة كهيئتها يوم طعنت انفجرت دما اللون لون الدم والعرف عرف المسك ) فالآن لون ذلك الدم حاصل فى الشهادة ولكن عرفه فى الغيب لا يشاهد ههنا ففى الآخرة يشاهد الصورة الدنيوية والمعانى الغيبية فافهم جدا واغتنم. ٢٦ { ان اللّه لا يستحى ان يضرب مثلا ما بعوضة } عن الحسن وقتادة لما ذكر اللّه الذباب والعنكبوت فى كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام اللّه فانزل اللّه هذه الآية. والحياء تغير وانكسار يعترى الانسان من تخوف ما ياب به ويذم وهو جار على سبيل التمثيل لا يترك ضرب المئل بالبعوضة ترك من يستحيى ان يمثل بها لحقارتها فمحل ان يضرب اى يذكر النصب على المفعولية وما اسمية ابهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر ابهاما وشياعا كانه قيل مثلا ما من الامثال اى مثل كان فهى صفة لما قبلها وبعوضة بدل من مثلا والبعوضة صغار البق سميت بعوضة لانها كانها بعض البق { فما فوقها } اى فيذكر الذى هو ازيد منها كالذباب والعنكبوت او فما دونها فى الصغر قيل انه من الاضداد ويطلق على الاعلى والادنى وهو دابة يسرتها السكون ويظهرها التحرك يعنى لا تلوح للبصر الحاد الا بتحركها. فان قلت مثل اللّه آلهتهم ببيت العنكبوت وبالذباب فاين تمثيلها بالبعوضة فما دونها. قلت فى هذه الآية كأنه قال ان اللّه لا يستحيى ان يضرب مثل آلهتكم بالبعوضة فما دونها فما ظنكم بالعنكبوت والذباب. قال الربيع بن انس ضرب المثل بالبعوضة عبرة لاهل الدنيا فان البعوضة تحيى ما جاعت وتموت اذا شبعت فكذا صاحب الدنيا اذا استغنى طغى واحاط به الردى. وقال الامام ابو منصور الاعجوبة فى الدلالة على وحدانية اللّه تعالى فى الخلق الصغير الجثة والجسم اكثر منها فى الكبار العظام لان الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب وتركيب ما يحتاج من الفم والانف والعين والرجل واليدو المدخل والمخرج ما قدروا عليه ولعلهم يقدرون على تصوير العظام من الاجسام الكبار منها فالبعوضة اعطيت على قدر حجمها الحقير كل آلة وعضو أعطيه الفيل الكبير القوى. وفيه اشارة الى حال الانسان وكمال استعداده كما قال عليه السلام ( ان اللّه خلق آم على صورته ) اى على صفته فعلى قدر ضعف الانسان اعطاه اللّه تعالى من كل صفة من صفات جماله وجلاله نموذجا ليشاهد فى مرآة صفات نفسه كمال صفات ربه كما قال ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وليس لشئ من المخلوقات هذه الكرامة المختصة بالانسان كما قال تعالى { ولقد كرمنا بنى آدم } قال فى المثنوى ى زحق آموخت علم ... ابهفتم آسمان افروخت علم نام وناموس ملك را در شكست ... ورئ آنكس كه باحق درشكست قطره دلر يكى كوهر فتاد ... ان بكردونها ودرباها نداد جند صورت آخر اى صورت برست ... ان بى معنيت از صورت نرست كر بصورت آدمى انسان بدى ... وبو جهل خود يكسان بدى قاب بعضهم ان اللّه تعالى قوى قلوب ضعفاء الناس بذكر ضعفاء الاجناس وعرف الخلق قدرته فى خلق الضعفاء على هيآت الاقوياء فان البعوض على صغره بهيئة الفيل على كبره وفى البعوض زيادة جناحين فلا يستبعد من كرمه ان يعطى على قليل العمل ما يعطى على كثير العمل من الخلق كما اعطى صغير الجثة مع اعطى كبير الجثة من الخلقة ومن العجيب ان هذا الصغير يؤذى هذا الكبير فلا يمتنع منه ومن لطف اللّه تعالى انه خلق الاسد بغاية القوة والبعوض والذباب بغاية الضعف ثم اعطى البعوض والذباب جراءة اظهرها فى طيرانهما فى وجوه الناس وتماديهما فى ذلك مع مبالغة الناس فى ذبهما بالمذبة وركب الجبن فى الاسد واظهر ذلك تتباعده عن مساكن الناس وطرقهم ولو تجاسر الاسد تجاسر الذباب والبعوض لهلك الناس فمن اللّه تعالى وجل فى الضعيف - وحكى - انه خطب المأمون فوقع ذباب على عينه فطرده فعاد مرارا حتى قطع عليه الخطبة فلما صلى احضر ابا هذيل شيخ البصريين فى الاعتزال فقال له لم خلق اللّه الذباب قال ليذل به الجبابرة قال صدقت واجازه بمال كذا فى روضة الاخيار ففى خلق مثل الذباب حكم ومصالح. قال وكيع لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا وفن الاعاجيب ان هذا الضعيف اذا طار فى وجهك ضاق به قلبك ونغص به عيشك وفسد عليك بستانك وكرمك واعجب منه جراءتك مع ضعفك على ما يورثك العار ويوردك النار فاذا كان جزعك هذا من العبوض فى الدنيا فكيف حالك اذا تسلطت عليك الحيات والعقارب فى لظى. قال القشيرى رحمه اللّه الخلق فى التحقيق بالاضافة الى قدرة الخالق اقل من ذرة من الهباء فى الهواء وسيان فى قدرته العشر والبعوضة فلا خلق العرش عليه اعسر ولا خلق البعوضة عليه ايسر سبحانه وتقدس عن لحوق العسر واليسر. واعلم انه يمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وان كان الممثل اعظم من كل عظيم كما مثل فى الانجيل غل الصدر بالنخالة قال لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك انتم تخرج الحكمة من افواهكم وتبقون الغل فى صدوركم ومثل مخاطبة السفهاء باثارة الزنابير قال لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم وقال فيه ايضا لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والارضة فتفسدها ولا فى البرية حيث اللصوص والسموم فيسرقها اللصوص ويحرقها السموم ولكن ذخائركم عند اللّه تعالى. وجاء فى الانجيل ايضا مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع فى قريته حنطة جيدة نقية فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان وهو بفتح الزاى وضمها حب مر يخالط البر فقال عبيد الزراع يا سيدنا أليس حنطة جيدة زرعت فى قريتك قال بلى قالوا فمن اين هذا الزوان قال لعلكم ان ذهبتم لتلقطوا الزوان تقلعوا معه حنطة دعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد فامر الحصادين ان يلقطوا الزوان من الحنطة وان يربطوه حزما ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة الى الجرين. والتفسير الزراع ابو البشر والقرية العالم والحطنة الطاعة وزراع الزوان ابليس والزوان المعاصى والحصادون الملائكة يتوفون بنى آدم. وللعرب امثال مثل قولهم هو اجمع من ذرة يزعمون انها تدخر قوت سبع سنين واجرأ من الذباب لانه يقع على أنف الملك وجفن الاسد فاذا ذب اى منع آب اى رجع واسمع من قراد تزعم العرب ان القراد يسمع الهمس الخفى من من اسم الابل اى اخفافها على مسيرة سبع ليال او سبعة اميال وفلان اعمر من القراد وذلك انها تعيش سبعمائة سنة وقيل اعمر من حية لانها لا تموت الاقتلا ويقال اعمر من النسر لانه يعيش ثلاثمائة سنة وفلان أصرد من جرادة اى ابرد لانها لا تظهر فى الشتاء ابدا لقلة صبرها على البرد وأطيش من فراشة اى اخف منها وهى بالفارسية ( بروانه ) وأعز من مخ البعوض يقال لما لا يجود ويقال كلفتنى مخ البعوض فى تكليف ما لا يطاق وأضعف من بعوضة وآكل من السوس وهو القمل الذى يأكل الحنطة والشعير والدويبة التى تقع على الصوف والجوخ وغيرهما فتأكلها. وبالجملة ان اللّه تعالى يضرب الامثال للناس ولا يستحيى من الحق وله فى امثاله مطلقا حكم ومصالح وما يتذكر اولوا الالباب : قال المولى جلال الدين قدس سره بيت من بيت نسيت اقليمست ... هزل من هزل نيست تعليمست { فاما الذين آمنوا } بالقرآن محمد صلىللّه عليه وسلم والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضربه فاما الذين آمنوا { فيعلمون انه } اى المثل بالبعوضة والذباب { الحق } اى الثابت الذى لا يسوغ انكاره { من ربهم } حال من الضمير المستكن فى الحق او من الضمير العائد الى المثل اى كائنا منه تعالى فيتفكرون فى هذا المثل الحق ويوقنون ان اللّه هو خالق الكبير والصغير وكل ذلك فى قدرته سواء فيؤمنون به { واما الذين كفروا } وهم اليهود والمشركون { فيقولون ماذا } اى ما الذى او اى شئ { اراد اللّه بهذا } اى بالمثل الخسيس وفى كلمة هذا تحقير للمشار اليه واسترذال له { مثلا } اى بهذا المثل فلما حذف الالف واللام نصب على الحال اى ممثلا او على التمييز فاجابهم اللّه تعالى بقوله { يضل } اى يخذل بهذا المثل والاضلال هو الصرف عن الحق الى الباطل واسناد الاضلال اى خلق الضلال اليه سبحانه مبنى على ان جميع الاشياء مخلوقة له تعالى وان كانت افعال العباد من حيث الكسب مستندة اليهم { كثير } من الكفار وذلك انهم يكذبونه فيزدادون ضلالة { ويهدى به } اى يوفق بهذا المثل { كثير } من المؤمنين لتصديقهم به فيزدادون هداية يعنى يضل به من علم منهم انه يختار الضلالة ويهدى به من علم انه يختار الهدى. فان قلت لم وصف المهديون بالكثرة والقلة صفتهم. قلت اهل الهدى كثر فى انفسهم وحين يوصفون بالقلة انما يوصفون بها بالقياس الى اهل الضلال وايضا فان القليل من المهديين كثير فى الحقيقة وان قلوا فى الصورة لان هؤلاء على الحق وهم على الباطل. وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه الواد الاعظم هو الواحد على الحق { وما يضل به } اى لا يخذل بالمثل وتكذيبه { الا الفاسقين } اى الكافرين باللّه الخارجين عن امره. والفسق فى اللغة الخروج وفى الشريعة الخروج عن طاعة اللّه بارتكاب الكبيرة التى من جملتها الاصرار على الصغير وله طبقات ثلاث الاولى التغابى وهو ارتكابها احيانا مستقبحا لها والثانية الانهماك فى تعاطيها والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذى عليه يدور الايمان. { الذين ينقضون عهد اللّه } اى يخالفون ويتركون امر اللّه تعالى. والنقض الفسخ وفك التركيب فان قلت من اين ساغ استعمال النقض فى ابطال العهد. قلت من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين قيل عهد اللّه ثلاثة الاول ما اخذه على ذرية آدم عليه السلام بان يقروا بربوبيته تعالى والثانى بان يبنوا الحق ولا يتكموه { من بعد ميثاقهم } اى بعد توثيق ذلك العهد وتوكيده بالقبول فالضمير للعهدا وبعد توثيق اللّه ذلك بانزال الكتب وارسال الرسل فالضمير الى اللّه فالمراد بالميثاق هنا نفس المصدر النفس العهد - يحكى - عن مالك بن دينار رحمه اللّه انه كان له ابن عم عامل سلطان فى زمانهم وكان ظالما جائرا فمرض ذلك الرجل ونذر وعهد على نفسه وقال لو عافانى اللّه تعالى مما انا فيه لا ادخل فى عمل السلطان ابدا قال فأبرأه اللّه من ذلك المرض فدخل فى عمل السلطان ثانيا فظلم الناس اكثر مما ظلمهم فى المرة الاولى فمرض ثانيا فنذر ثانيا ان لا يرجع الى عمل السلطان فبرئ ونقض العهد ودخل فيه ولظم اكثر مما ظلم فى المرتين فظهرت به علة شديدة فاخبر بذلك مالك بن دينار فراره وقال يا بنى اوجب على نفسك شيأ وعاهد مع اللّه عهدا لعلك تنجو من هذه العلة فقال المريض عاهدت اللّه ان لو قمت من فراشى ان لا اعود الى عمل السلطان ابدا فهتف هاتف يا مالك انا قد جربناه مرار فوجدناه كذوبا فلا ينفعه نذره اى جربناه بنفسه فاكذب نفسه فمات الفتى على هذه الحالة كذا فى روضة العلماء : قال فى المثنوى نقض ميثاق وشكست توبها موجب لعنت شود درانتها. { ويقطعون ما امر به اللّه ان يوصل } محل ان يوصل النصب على أنه بدل من ضمير الموصول اى ما امر اللّه به ان يوصل وهو يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها اللّه سبحانه كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الانبياء عليهم السلام والكتب فى التصديق وترك الجماعات المفروضة وساسر ما فيه رفض خير او تعاطى شر فانه يقطع ما بين اللّه تعالى وبين العبد من الوصلة التى هى المقصودة بالذات من كل وصل وفصل وفى الحديث ( اذا اظهر الناس العلم ويضعوا العمل به وتحابوا بالالسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا الارحام لعنهم اللّه عند ذلك فاصمهم واعمى ابصارهم ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( ثلاثة فى ظل عرش اللّه يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغارا فخطبت فلم تتزوج وقالت اقوم على ايتامى حتى يغنيهم اللّه او يميت ) يعنى اليتيم او ( هى ورجل له مال صنع طعاما فاطاب صنعته واحسن ثفقته فدعا عليه اليتيم والمسكين ورجل وصل الرحم يوسف له فى رزقه ويمد له فى اجله ويكون تحت ظل عرش ربه ) { ويفسدون فى الارض } بالمنع عن الايمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التى عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه { اولئك هم الخاسرون } اى المغبونون بالعقوبة فى الآخرة مكان المثوبة فى الجنة لانهم استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح وعقابها بثوابها. قيل ليس من مؤمن ولا كافر الا وله منزل واهل وخدم فى الجنة فان اطاعة تعالى اتى اهله وخدمه ومنزلة فى الجنة وان عصاه ورثه اللّه المؤمن فقد غبن عن اهله وخدمه ومنزله وفى التأويلات النجمية { ان اللّه لا يستحى ان يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فاما الذين آمنوا } بنور الايمان يشاهدون الحقائق والمعانى فى صورة الامثلة { فيعلمون انه الحق من ربهم واما الذين كفروا فيقولون } حيث انكروا الحق فجعل ظلمة انكارهم غشاوة فى ابصارهم فما شاهدوا الحقائق فى كسوة الامثلة كما ان العجم لا يشاهدون المعانى فى كسوة اللغة العربية فكذلك الكفار والجهار عند تحيرهم فىدراك حقائق الامثال قالوا { ما اذا اراد اللّه بهذا مثلا } فبجهلهم زادوا انكارا على انكار فتاهوا فى اودية الضلالة بقدم الجهالة { يضل به كثيرا } ممن اخطأه رشاش النور فى بدء الخلق كما قال عليه السلام ( ان اللّه خلق الخلق فى ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن اخطأه فقد ضل ) فمن اخطأه ذلك النور فى عالم الارواح فقد اخطأه نور الايمان ههنا ومن اخطأه نور الايمان فقد اخطأه نور القرآن فلا يهتدى ومن اصابه ذلك هنالك اصابه ههنا نور الايمان ومن اصابه نور الايمان فقد اصابه نور القرآن ومن اصابه نور القرآن فهو ممن قال { ويهدى به كثيرا } وكان القرآن لقوم شفاء ورحمة ولقوم شقاء ونقمة لانه كلامه وصفته شاملة اللطف والقهر فبلطفه هدى الصادقين وبقهره اضل الافسقين لقوله { وما يضل به الا الفاسقين } الخاجرين من اصابه رشاش النور فى بدء الخلقة ثم اخبر عن نتائج ذكر الخروج ونقض العهود كما قال اللّه تعالى. ٢٧ { الذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه } اى الذين ينقضون عهد اللّه الذى عاهدوه يوم الميثاق على التوحيد والعبودية بالاخلاص من بعد ميثاقه { ويقطعون ما امر اللّه به ان يوصل } من اسباب السلوك الموصل الى الحق واسباب التبتل والانقطاع عن الخلق كما قال تعالى { وتبتل اليه تبتيلا } اى انقطع اليه انقطاعا كليا عن غيره { ويفسدون فى الارض } اى بفسدون بذر التوحيد الفطرى فى ارض طينتهم بالشرك والاعراض عن قبول دعوة الانبياء وسقى بذر التوحيد بالايمان والعمل الصالح { اولئك هم الخاسرون } خسروا استعداد كمالية الانسان المودعة فيهم كما تخسر النواة فى الارض استعداد النخلية المودعة فيها عند عدم الماء لقوله تعالى { والعصر ان الانسان لفى خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. } ٢٨ { كيف تكفرون } كيف نصب حالا من الضمير فى تكفرون اى معاندين تكفرون وتجحدون { باللّه } اى بوحدانيته ومعكم ما يصرفكم عن الكفر الى الايمان من الدلائل الانفسية والآفاقية والاستفهام انكارى لا بمعنى انكار الوقوع بل بمعنى انكار الواقع واستبعاده والتعجيب وكانه يقول ألا تتعجبون انهم يكفرون باللّه كما فى تفسير ابى الليث. وقال القاضى هو استخبار والمعنى اخبرونى على اى حال تكفرون { وكنتم امواتا } جمع ميت كاقوال جمع قيل اى والحال انكم كنتم امواتا اى اجساما لا حياة لها عناصر واغذية ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة. قال فى الكشاف فان قلت كيف قيل لهم اموات حال كونهم جمادا وانما يقال ميت فيما نصح منه الحياة من البنى قلت بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى { بلدة ميتا } { فاحياكم } بخلق الارواح ونفخها فيكم فى ارحام امهاتكم ثم فى دنياكم وهذا الزام لهم بالبعث والفاء للدلالة على العقيب فان الاحياء حاصل اثر كونهم امواتا وان توارد عليهم فى تلك الحالة اطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما اشير اليه آنفا ثم لما كان المقام فى الدنيا قد يطول جاء بثم حرف التراخى فقال { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم وكون الامانة من دلائل القدرة ظاهر واما كونها من النعم فلكونها وسيلة الى الحياة الثانية التى هى الحيوان الابدى والنعمة العظمى { ثم يحييكم } للسؤال فى القبور فيحيى حتى يسمع خفق لعالهم اذا ولوا مدبرين ويقال من ربك ومن نييك وما دينك ودل ثم التى للتعقيل على سبيل التراخى على انه لم يرد به حياة البعث فان الحياة يومئذ يقارنها الرجوع الى اللّه بالحساب والجزاء وتتصل به من غير تراخ فلا يناسب ثم اليه ترجعون ودلت الآية على اثبات عذاب القبر وراحة القبر كما فى التيسير { ثم اليه ترجعون } بعد الحشر لا الى غيره فيجازيكم باعمالكم ان خيرا فخير وان شرا فشر واليه تنشرون من قبوركم للحساب فما اعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فان قيل ان علموا انهم كانوا امواتا فاحياهم ثم يميتهم لم يعلموا انه يحييهم ثم اليه يرجعون. قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم فى ازاحة العذر سيما وفى الآية تنبيه على ما يدل به على صحتها { هو الذى خلق لكم } هذا بيان نعمة اخرى اى قدر خلقها لاجلكم ولا نتفاعكم بها فى دنياكم ودينكم لان الاشياء كلها لم تخلق فى ذلك الوقت { ما فى الارض } اى الذى فيها من الاشياء { جميعا } نصب حالا من الموصول الثانى وقد يستدل بهذا على ان الاصل فى الاشياء الاباحة كما فى الكواشى. وقال فى التيسير اهل الاباحة من المتصوفة الجهلة حملوا اللام فى لكم فى قوله تعالى ٢٩ { هو الذي خلق لكم } على الاطلاق والاباحة على الاطلاق والاباحة على الاطلاق وقالوا لا حظر ولا نهى ولا امر فاذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه ولا يمنعه ما يريده ويطلبه وهذا منهم كفر صريح وقد نهى اللّه تعالى وامر وأباح وحظر ووعد واوعد وبشر وهدد والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة فمن حمل هذه الآية على الاباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية انتهى كلام التيسير { ثم استوى الى السماء } قصد اليها اى الى خلقها بارادته ومشيئته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من ارادة شئ آخر فى تضاعيف خلقها او غير ذلك ولا تناقض بين هذا وبين قوله { والارض بعد ذلك داها } لان الدحو البسط. وعن الحسن خلق اللّه الارض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر اى الحجر ملئ الكف عليها دخان يلتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السموات وامسك الفهر فى موضعه ثم بسط منه الارض كذا فى الكواشى. وقال ابن عباس رضى اللّه عنهما اول ما خلق اللّه جوهرة طولها وعرضها مسيرة الف سنة فى مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر اليها بالهيبة فذابت واضطربت ثم ثار منها دخان فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد ارضا والدخان سماء قالوا فالسماء من دخان خلقت وبريح ارتفعت وباشارة تفرقت وبلا عماد قامت وبنفخة تكسرت { فسواهن } اى اتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج وال. قال سلمان هى سبع اسم الاولى رقيع وهى من زمردة خضراء واسم الثانية ارفلون وهى من فضة بيضاء والثالثة قيدوم وهى من ياقوته حمراء والرابعة ما عون وهى من درة بيضاء والخامسة دبقاء وهى من ذهب احمر والسادسة وفناء وهى من ياقوته صفراء والسابعة عروباء وهى من نور يتلألأ { وهو بكل شئ عليم } فيه تعليل كانه قال ولكنونه عالما بكنه الاشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الا كمل والوجه الا نفع واستدلال بان من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الانيق كان علميا فان اتقان الافعال واحكامها وتخصيصها بالوجه الاحسن الانفع لا يتصور الا من عالم حكيم رحيم وازاحة لما يختلج فى صدورهم من ان الابدان بعد ما تفتت وتكسرت وتبددت اجزاؤها واتصلت بما يشا كلها كيف يجمع اجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شئ منها ولا ينضم اليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان. وفى هذه الآية اشارة الى مراتب الروحانيات فالاول عالم الملكوت الارضية والقوى النفسانية والثانى عالم النفس والثالث عالمالقلب والرابع عالم العقل والخامس عالم السر والسادس عالم الروح والسابع عالمالخفاء الذى هو السر الروحى والى هذا اشار امير المؤمنين على رضى اللّه عنه بقوله سلونى عن طرق السماء فانى اعلم بها من طرق الارض وطرقها الاحوال والمقامات كالزهد والتقوى والتوكل والرضى وامثالها. واعلم ان المراتب اثنتا عشرة على عدد السموات والعروش الخمسة. وكان الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره يقول للتوحيد اثناء عشر بابا فالجلوتية يقطعونها بالتوحيد لان سرهم فى اليقين والخلوتية يقطعونها بالاسماء لان سرهم فى البرزخ وهم يقولون جنة الافعال وجنة الصفات وجنة الذات وذلك لان الجنات على ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما سبع فاذا كان اربع منها لاهل اليقين اعنى الجلوتية فالثلاث لاهل البرزخ اعنى الخلوتية وهى الافعال والصفات والذات وفى التأويلات النجمية { كيف تكفرون باللّه } اما خطاب توحيد للمؤمنين اى أتكفرون باللّه وبانبيائه لانكم { كنتم امواتا } ذرات فى صلب آدم { فاحياكم } باخراجكم من صلته وأسمعكم لذيد خطاب ألست بربكم وأذاقكم لذات الخطاب ووفقكم للجواب بالصواب حتى قلتم بلى رغبة لا رهبة { ثم يميتكم } بالرجعة الى اصلاب آبائكم والى عالم الطبيعة الانسانية { ثم يحييكم } ببعثة الانبياء وقبول دعوتهم { ثم اليه ترجعون } بدلالة الانبياء وقدم التوحيد على جادة الشريعة الى درجات الجنات واما خطاب تشريف للانبياء والاولياء اى أتكفرون وكنتم امواتا فى كنتم العدم فاحياكم بالتكوين فى عالم الارواح ورشاش النور فخمر طينة ارواحكم بماء نور العناية وتخمير يد المحبة باربعى صباح الوصال ثم يميتكم بالمفارقة عن شهود الجمال الى مقبرة الحس والخيال ثم يجيبكم اما الانبياء فينور نور الوحى واما الاولياء فبروح روح نور الايمان ثم اليه ترجعون اما الانبياء فبالعروج واما الاولياء فبالرجوع بجذبات الحق كما قال تعالى { ارجعى الى ربك } فلما اثبت ان الرجوع اليه امر ضرورى اما بالاختيار كقراءة يعقوب ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم واما بالاضطرار كقراءة الباقين اشار الى ان الذى ترجعون اليه { هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا } اى ما خلقكم لشئ وخلق كل شئ لكم بل خلقكم لنفسه كما قال تعالى { واصطنعتك لنفسى } معناه لا تكن لشئ غيرى فانى لست لشئ غيرك فبقدر ما تكون لى اكون لك كما قال عليه السلام ( من كان للّه كان اللّه له ) وليس لشئ من الموجودات هذا الاستعداد اى ان يكون هو للّه على التحقيق وان يكون اللّه له وفى هذا سر عظيم وافشاء سر الربوبية كفر فلا تشتغل بمالك عمن انت له فتبقى بلا هو { ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات } فيه اشارة الى ان وجود السموات والارض كان تبعا لوجود الانسان { وهو بكل شئ عليم } اى عالم بخلق كل شئ خلقه ولاى شئ خلقه فكل ذرة من مخلوقاته تسبح بحمد ذاته وصفاته وتشهد على احديته وصمديته وتقول ربنا ما خلت هذا باطلا سبحانك : قال المولى الجامى قدس سره. دوجهان جلوكاه وحدت تو ... شهد اللّه كواه وحدت ت ٣٠ { واذا } مفعول اذكر مقدرة اى اذكر لهم واخبر وقت { قال ربك } وتوجيه الامر بالذكر الى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع انها المقصودة بالذات للمباغلة فى اجاب ذكرها لما ان ايجاب ذكر الوقت ايجاب الذكر ما وقع فيه بالطريق اللبرهانى ولان الوقت مشتمل عليها فاذا استحضر كانت حاضرة بتفصيلها كانها مشاهدة عيانا { للملائكة } اللام للتبليغ وتقديم الجار والمجرور فى هذا الباب مطرد لما فى المقول من الطول غالبا مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق الى ما اخر. والملائكة جمع ملك والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة وسموا بها فانهم وسائط بين اللّه وبين الناس فهم رسله لان اصل ملك ملأك مقلوب مألك من الألوكة وهى الرسالة. والملائكة عند اكثر المسلمين اجسام لطيفة قادرة على التشكل باشكال مختلفة والدليل ان الرسل كانوا يرونهم كذلك. وروى فى شرح كثرتهم ان بنى آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا الى السماء السابعة ثم كل اولئك فى مقابلة الكرسى نزر قليل ثم جمع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التى عدددها ستمائة الف طول كل سرادق وعرضه وسمكه اذا قوبلت به السموات والارض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر الا وفيه ملك ساجد او راكع او قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء فى مقابلة الذين يحومون حول العرش كالقطرة فى البحر ثم ملائكة اللوح الذين هم اشياع اسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام لا يحصى اجناسهم ولا مدة اعمارهم ولا كيفيات عباداتهم الا باريهم العليم الخبير على ما قال تعالى { وما يعلم جنود ربك الا هو } وروى انه صلى اللّه عليه وسلم حين عرج به الى السماء رأى ملائكة فى موضع بمنزلة شرف يمشى بعضهم تجاه بعض فسأل رسول اللّه جبريل عليهما السلام الى اين يذهبون فقال جبريل عليه السلم لا ادرى الا انى اراهم منذ خلقت ولا ارى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحدا منهم منذ كم خلقت فقال لا ادرى غير ان اللّه تعالى يخلق فى كل اربعة آلاف سنة كوكبا وقد خلق منذ ما خلقنى اربعمائة الف كوكب فسبحانه من اله ما اعظم قدره وما اوسع ملكوته واراد بهم الملائكة الذين كانوا فى الارض وذلك ان اللّه خلق السماء والارض وخلق الملائكة والجن فاسكن الملائكة السماء واسكن الجن الارض والجن هم بنوا الجان والجان ابو الجن كآدم ابو البشر وخلق اللّه الجان من لهب من نار الدخان لها بين السماء والارض والصواعق تنزل منها ثم لما سكنوا فيها كثر نسلهم وذلك قبل آدم بستين الف سنة فعمروا دهرا طويلا فى الارض مقدار سبعة آلاف سنة ثم ظهر فيهم الحسد والبغى فافسدوا وقتلوا فبعث اللّه اليهم ملائكة سماء الدنيا وامر عليهم ابليس وكان اسمه عزازيل وكان اكثرهم علما فهبطوا الى الارض حتى هزموا الجن واخرجوهم من الارض الىجزائر البحور وشعوب الجبال وسكنوا الارض وصار امر العبادة عليهم اخف لان كل صنف من الملائكة يكون ارفع فى السموات يكون خوفهم اشد وملائكة السماء الدنيا يكون امرهم ايس من الذين فوقهم واعطى اللّه ابليس ملك الارض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان له جناحان من زمرد أخضر وكان يعبد اللّه تارة فى الارض وتارة فى السماء وتارة فى الجنة فدخله العجب فقال فى نفسه ما اعطانى اللّه هذا الملك الا لانى اكرم الملائكة عليه وايضا كل من اطمأن الى الدنيا امر بالتحول عنها فقال اللّه تعالى له ولجنوده { انى جاعل } اى صير { فى الارض } دون السماء لان التباغى والتظالم كان فى الارض { خليفة } وهو آدم عليه السلام لانه خلف الجن و. واعلم ان اللّه تعالى يحفظ العالم بالخليفة كما يحفظ الخزائن بالختم وهو القطب الذى لا يكون فى كل عصر الا واحدا فالبدء كان بآدم عليه السلام والختام يكون بعيسى عليه السلام والحكمة فى الاستخلاف قصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقى امره بغيروا واسطة لان المفيض تعالى فى غاية التنزه والتقدس والمستفيض منغمس غالبا فى العلائق الدنيئة كالاكل والشرب وغيرهما والعوائق الطبيعية كالاوصاف الذميمة فالاستفاضة منه انما تحصل بواسطة ذى جهتين اى ذى جهة التجرد وجه التعلق وهو الخليفة ايا كان ولذا يستنبئ اللّه ملكا فان البشر لا يقدر على الاستفادة منه لكونه خلاف جنسه ألا يرى ان العظم لما عجز عنه اخذ الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد جعل اللّه تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من اللحم ويعطى العظم وجعل السلطان الوزير بينه وبين رعيته اذ هم اقرب الى قبولهم منه وجعل المستوقد الحطب اليابس بين النار وبين الحطب الرطب. وفائدة قوله تعالى { للملائكة انى جاعل فى الارض خليفة } اربعة امور. الاول تعليم المشاورة فى امورهم قبل ان يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم وان كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة : قال في المثنوى مشورت ادراك وهشيارى دهد ... عقلها مر عقل را يارى دهد كفت بيغمبر بكن اى رأى زن ... مشورت كه المستشار مؤتمن ويقال اعقل الرجال لا يستغنى عن مشاورة اولى الالباب وأفره الدواب لا يستغنى عن السوط واورع النساء لا تستغنى عن الزوج. والثانى تعظيم شأن المجعول بان بشر بوجوده سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه. والثالث اظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وهو قوله { أتجعل } الخ وجوابه وهو قوله { انى اعلم ما لا تعلمون } الخ. والرابع بيان ان الحكمة تقتضى ما يغلب خيره فان ترك الخير الكثير لاجل الشر القليل شر كثير كقطع العضو الذي فيه آكلة شر قليل وسلامة جميع البدن خير كثير فلو لم يقطع ذلك العضو سرت تلك الآلفة الى جميع البدن وأدت الى الهلاك الذى هو شر كثير { قَالوا } استئناف كانه قيل فما ذا قالت الملائكة حينئذ فقيل قالوا { اتجعل فيها } اى الارض { من يفسد فيها } كما افسدت الجن وفائدة تكرار الظرف تأكيد الاستبعاد { ويسفك الدماء } اى يصبها ظلما كما يسفك بنو الجان والتعبير عن القتل بسفك الدماء لما انه اقبح انواع القتل قال بعض العارفين الملائكة الذين نازعوا فى آدم ليسوا من اهل الجبروت ولا من اهل الملكوت السماوية فانهم لغلبة النورية عليهم واحاطتهم بالمراتب يعرفون شرف الانسان الكامل ورتبته عند اللّه وان لم يعرفوا حقيقته كما هى بل نازعت ملائكة الارض والجن والشياطين الذين غلبت عليهم الظلمة والنشأة الموجبة للحجاب وفى قوله تعالى { انى جاعل فى الارض خليفة } بتخصيص الارض بالذكر وان كان خليفة فى العالم كله فى الحقيقة هو ايماء ايضا بان ملائكة الارض هم الطاعنون اذا الظن لا يصدر الا ممن هو فى معرض ذلك المنصب واهل السموات مدبرات للعالم العلوى فما قالت الملائكة الارضية الا بمقضتى نشأتهم التى هم عليها من غبطة منصب الخلافة فى الارض والغيرة على منصب ملكهم وتعبدهم بما هم عليه من التسبيح والتقديس فكل اناء يترشح بما فيه واما الاعتراض على فعل الحكيم والنزاع فى صنعه عند حضرته فمعفو عنه لكمال حكمته واتقان صنعته : قال فى المثنوى. زانكه اين دمها اكر نالا يقست ... رحمت من بر غضب هم سابقست ازبى اظهار اين سبق اى ملك ... درتو بنهم داعيه اشكال وشك تابكويى ونكير م بر تومن ... منكر حلمم نيارد دم زدن صد بدر صد مادر اندر حلم ما ... هر نفس زايد درافتد درفنا حلم ايشان كف بحر حلم ماست ... كف رود آيد ولى دريا بجاست وفى الفتوحات ان هاروت وماروت من الملائكة الذين نازعوا آدم ولاجل هذا ابتلاهما اللّه تعالى باظهار الفساد وسفك الدماء فافهم سر قوله عليه السلام ( دع الشماتة عن اخيك فيعافيه اللّه تعالى ويبتليك ) وايضا من تلك الملائكة الطاعنين بسفك الدماء الملائكة التى ارسلها اللّه تعالى نصرة للمجاهدين وسفك الدماء غيرة على دين اللّه وشرعه كذا فى حل الرموز وكشف الكنوز { ونحن } اى والحال انا { نسبح } اى ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين { بحمدك } على ما انعمت علينا من فنون النعم التى من جملتها توفيقنا لهذه العبادة فالتسبيح لاظهار صفات الجلال والحمد لتذكير صفات الانعام { ونقدس } تقديسا { لك } اى نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وننزهك عما لا يليق بك فاللام للبيان كما فى سقيا لك متعلقة بمصدر محذوف ويجوز ان تكون مزيدة اى نقدسك. قال فى التيسير التسبيح نفى ما لا يليق به والتقديس اثبات ما يليق به. وقال الشيخ داود القيصرى قدس سره التسبيح اعم من التقديس لانه تنزيه الحق عن نقائص الامكان والحدوث والتقديس تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للاكوان لانها من حيث اضافتها الى الاكوان تخرج عن اطلاقها وتقع فى نقائص التقييد انتهى وكانه قيل أتستخلف من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شانه ذلك اصلا والمقصود عرض احقيتهم منهم بالخلافة والاستفسار عما رجح بنى آدم عليهم ما هو متوقع منهم من الفساد وكأنه قيل فماذا قال اللّه تعالى حينئذ فقيل { قال } اللّه { انى اعلم ما لا تعلمون } من الحكمة والمصلحة باستخلاف آدم عليه السلام وان من ذريته الطائع والعاصى فيظهر الفضل والعدل فلا تعترضوا على حكمى وتقديرى ولا تستكشفوا عن غيبة تدبيرى فليس كل مخلوق يطلع على غيب الخالق ولا كل احد من الرعية يقف على سر الملك * وفى الآية تنبيه للسالك بان يتأدب بين يدى الحق تعالى وخلفائه والمشايخ والعلماء لئلا يظهر بالانانية واظهار العلم عندهم لانه سالك لطريق الفناء والفانى لا يكون كطاووس تعشق بنفسه واعجب بذاته بل لا يرى وجوده اصلا فقد وعظنا اللّه تعالى بزجر للملائكة بقوله { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } : قال السعدى. نرود مرغ سوى دانه فرز ... جون دكرمرغ بيند اندربند بند كير ازمصائب ديكران ... تانكيرند ديكران زتوبند وفى التأويلات النجمية { واذ قال ربك للملائكة انى جاعل فى الارض خليفة } انما قال جاعل وما قال خالق لمعنيين. احدهما ان الجاعلية اعم من الخالقية فان الجاعلية هى الخالقية وشئ آخر وهو ان يخلقه موصوفا بصفة الخلافة اذ ليس لكل احد هذا الاختصاص كما قال تعالى { يا داود انا جعلناك خليفة فى الارض } اى خلقناك مستعدا للخلافة فاعطيناكها. والثانى ان للجعلية اختصاصا بعالم الامور وهو للملوكت وهو ضد عالم الخلق لانه هو عالم الاجسام والمحسوسات كما قال تعالى { ألاله الخلق والامر } اى الملك والملكوت فانه تعالى حيث ذكر ما هو مخصوص بعالم الامر ذكره بالجعلية لامتياز الامر عن الخلق كما قال تعالى { الحمد للّه الذى خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور } فالمسوات والارض لما كانتا من الاجسام المحسوسات ذكرهما بالخلقية والنور من الملكوتيات لقوله تعالى { اللّه ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور } فيفيد انها من الملكوتيات لا من المحسوسات واما الظلمات والنور التى من المحسوسات فانها داخلة فى السموات والارض فافهم جدا فكذلك لما اخبر اللّه تعالى عن آدم بما يتعلق بجسمانيته ذكره بالخلقية كما قال { انى خالق بشرا من طين } ولما اخبر عما يتعلق بروحانيته ذكره بالجعلية وقال { انى جاعل فى الارض خليفة } وفى انى جاعل اشارة اخرى وهو اظهار عزة آدم عليه السلام على الملائكة لينظروا اليه بنظر التعظيم ولا ينكروا عليه بما يظهر منه ومن اولاده من اوصاف البشرية فانه تعالى يقول ولذلك خلقهم وسماه خليفة وما شرف شيأ من الموجودات بهذه الخلقة والكرامة وانما سمى خليفة المعنيين. احدهما انه يخلف عن جميع المخلوقات ولا يخلفه المكونات باسرها وذلك لان اللّه جمع فيه ما فى العوالم كلها من الروحانيات والجسمانية والسماويات والارضيات والدنيويات والاخرويات والجماديات والنباتيات والحيوانيات والملكوتيات فهو بالحقيقة خليفة كل واكرمه باختصاص كرامة ونخفت فيه من روحى وما اكرم بها احدا من العالمين واشار الى هذا المعنى بقوله تعالى { ولقد كرمنا بنى آدم } فلهذا الاختصاص ما صلح الموجودات كلها ان تكون خليفة لآدم ولا للحق تعالى. الثانى انه يخلف وينوب عن اللّه صورة ومعنى اما صورة فوجوده فى الظاهر يخلف عن وجود الحق فى الحقيقة لان وجود الانسان يدل على وجود موجده كالبناء يدل على وجود البانى ويخلف وحدانية الانسان عن وحدانية الحق وذاته عن ذاته وصفاته عن صفاته فيخلف حياته عن حياته وقدرته عن قدرته وارادته وسمعه عن سمعه وبصره عن بصره وكلامه عن كلامه وعلمه عن علمه ولا مكانية روحه عن لا مكانيته ولا جهتيه عن لا جهتيه فافهم ان شاء اللّه تعالى وليس لنوع من الملخوقات ان يخلف عنه كما يخلف آدم وان كان فيهم بعض هذه لانه لا يجتمع صفات الحق فى احد كما يجتمع فى الانسان ولا يتجلى صفة من صفاته لشئ كما يتجلى لمرآة قلب الانسان صفاته واما الحيوانات فانها وان كان لها بعض هذه الصفات ولكن ليس لها علم بوجود موجدها واما الملائكة فانهم وان كانوا عالمين بوجود موجدهم ولكن لا يبلغ حد علمهم الى ان يعرفوا انفسهم بجميع صفاتها ولا الحق بجميع صفاته ولذا قالوا { سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا } وكان الانسان مخصوصا بمعرفة نفسه بالخلافة وبمعرفة جميع اسماء اللّه تعالى واما معنى فليس فى العالم مصباح يستضئ بنار نور اللّه فيظهر انوار صفاته فى الارض خلافة عنه الامصباح الانسان فانه مستعد لقبول فيض نور اللّه لانه اعطى مصباح السر فى زجاجة القلب والزجاجة فى مشكاة الجسد وفى زجاجة القلب زيت الروح يكاد زيتها يضئ من صفات العقل ولو لم تمسسه نار النور وفى مصباح السر فتيلة الخفاء فاذا اراد اللّه ان يجعل فى الارض خليفة يتجلى بنور جماله لمصباح السر الانسانى فيهدى لنوره فتيلة خفا من يشاء فيستتر مصباحه بنار نور اللّه فهو على نور من ربه فيكون خليفة اللّه فى ارضه فيظهر انوار صفاته فى ذها العالم بالعدل والاحسان والرأفة والرحمة لمستحقيها وبالعزة والقهر والغضب والانتقام لمستحقيها كما قال تعالى ( يا داود انا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه ) وقال لحبيبه عليه السلام { بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال فى حقه وحق المؤمنين { محمد رسول اللّه والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم } ولم يظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك وناهيك بحال هاروت وماروت لما انكر على ذرية آدم من اتباع الهوى القتل والظلم والفساد وقالا لو كنا بدلا منهم خلفاء الارض ما كنا نفعل مثل ما يفعلون فاللّه تعالى انزلهما الى الارض والبسهما لباس البشرية وامرهما ان يحكما بين الناس بالحق ونهاهما عن الشرك والقتل بغير حق والزنى وشر الخمر. قال قتادة فما مر عليهما شهر حتى افتتنا فشربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فثبت ان الانسان مخصوص بالخلافة وقبول فيضان نور اللّه فلو كان للملائكة هذه الخصوصية لما افتتنا بهذه الاوصاف المذمومة الحيوانية والسبعية كما كان الانبياء عليهم السلام معصومين من مثل هذه الآفات والاخلاق وان كانت لازمة لصفاتهم البشرية ولكن بنور التجلى تنور مصباح قلوبهم واستتار بنور قلوبهم جميع مشكاة جسدهم ظاهرا وباطنا واشرقت الارض بنور ربها فلم يبق لظلمات هذه الصفات مجال الظهور مع استعلاء النور فالاملائكة من بدو الامر لما نظروا الى الجسد آدم شاهدوا ظلمات البشرية والحيوانية والسبعية فى ملكوت الجسد بالنظر الملكوتى الملكى ولم تكن تلك الصفات غائبة عن نظرهم { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فقولهم هذا يدل على معان مختلفة. منها ان اللّه انطقهم بهذا القول ليتحقق لنا ان هذه الصفات الذميمة فى طينتنا مودعة وجبلتنا مركبة فلأنأ من من مكر أنفسنا الأمارة بالسوء ولا تعتمد عليها ولا نبرئها كما قال تعالى حكاية عن قول يوسف عليه السلام { وما ابرئ نفى ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى } ومنها لنعلم ان كل عمل صالح نعمله هو بتوفيق اللّه ايانا وفضله ورحمته وكل فساد وظلم تعمله هو من شؤم طبيعتنا وخاصية طينتنا كما قال تعالى { فما اصابك من حسنة فمن اللّه وما اصابك من سيئة فمن نفسك } وكل فساد وظلم لا يجرى علينا ولا يصدر منافذ لك من حفظ الحق وعصمة الرب لقوله { الا ما رحم ربى } ومنها لنعلم ان اللّه تعالى من كمال فضله وكرمه قد قبلنا بالعبودية والخلافة وقال من حسن عنايته فى حقنا للملائكة المقربين { انى اعلم ما لا تعلمون } لكيلا نقنط من رحمته وننقطع عن خدمته. ومنها لنعلم ان فساد الاستعداد امر عظيم وبناء جسيم ومبنى الخلافة على الاستعداد والقابلية وليس للملائكة هذا الاستعداد والقابلية فلا نتغافل عن هذه السعادة ونسعى فى طلبها حق السعاية. ومنها ان الملائكة انما قالوا { أتجعل فيها } الخ لانهم نظروا الى جسد آدم قبل نفخ الروح فشاهدوا بالنظر الملكى فى ملكوت جسده المخلوق من العناصر الاربعة المتضادة صفات البشرية والبهيمية والسبعية التى تتولد فى تركيب اضداد العناصر كما شاهدوها فى اجساد الحيوانات والسباع الضاريات بل عاينوها فانها خلقت قبل آدم فقاسوا عليها احواله بعد ان شاهدوها وحققوها وهذا لا يكون غيبا فى حقهم وانما يكون غيبا لنا لانا ننظر بالحس والملكوت يكون لاهل الحس غيبا ومنا من ينظر بالنظر الملكوتى فيشاهد الملائكة والملكوتيات بالنظر الروحانى كما قال تعالى { وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض } وقال { أو لم ينظروا فى ملكوت السموات والارض } فحينئذ لا يكون غيبا فالغيب ما غاب عنك وما شاهدته فهو شهادة فالملكوت للملائكة شهادة والحضرة الالهية لهم غيب وليس لهم الترقى الى تلك الحضرة وان فى الانسان صورة من عالم الشهادة والمحسوسة وروحا من عالم الغيب الملكوتى غير المحسوس وسرا مستعدا لقول فيض الانوار الالهية فبالتربية يترقى من عالم الشهادة الى عالم الغيب وهو الملكوت وبسر المتابعة وخصوصيتها يترقى من عالم الملكوت الى عالم الجبروت والعظموت وهو غيب الغيب ويشاهد بنور اللّه المستفاد من سر المتابعة انوار الجمال والجلال فيكون فى خلافة الحق عالما للغيب والشهادة كما ان اللّه تعالى { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه } اى الغيب المخصوص به وهو غيب الغيب { احدا } يعنى من الملائكة { الا من ارتضى من رسول } يعنى من الانسان فهذا هو السر المكنون المركوز فى استعداد الانسان الذى كان اللّه يعلم منه والملائكة لا يعلمونه كما قال تعالى { انى اعلم ما لا تعلمون } * ومنها ان الملائكة لما نظروا الى كثرة طاعتهم واستعداد عصمتهم ونظروا الى نتائج الصفات النفسانية استعظموا انفسهم واستصغروا آدم وذريته فقالوا { أتجعل فيها } يعنى فى الارض { خليفة } مع انه { يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } يعنى نحن لهذه الاوصاف احق بالخلافة منه كما قال بنو اسرائيل حين بعث اللّه لهم { طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن احق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } فاجابهم اللّه تعالى بان استحقاق الملك ليس بالمال انما هو بالاصطفاء والبسطة فى العلم والجسم فقال { ان اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم واللّه يؤتى ملكه من يشاء } فكذلك هنا اجابهم اللّه تعالى بقوله { انى اعلم ما لا تعلمون } اجمالا ثم فصله بقوله { ان اللّه اصطفى آدم } وبقوله و ٣١ { وعلم آدم الاسماء كلها } وبقوله { ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى } ليعلموا ان استعداد ملك الخلافة واستحقاقها ليس بكثرة الطاعات ةلكنه مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فلما تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم من اللّه تعالى على آدم بعلم الاسماء ليعلموا انهم ولو كانوا اهل الطاعة والخدمة فانه اهل العقل والمنة واين اهل الخدمة من اهل المنة فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ليعلموا ان الحق تعالى مستغن عن طاعتهم وبمنته على آدم صار مسجودا لهم ليعلموا ان الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء وفى قوله { انى اعلم ما لا تعلمون } اشارة اخرى الى انه كما يدل عى ان لآدم فضائل لا يعلمها الملائكة فكذلك له رذائل واوصاف مذمومة لا يعلمها الملائكة لانهم لا يعلمون منه اوصافا مذمومة هى من نتائج قالبه مشتركة مع الحيوانات مودعة فى ملكوته غير اوصاف مذومة تكون من نتائج النفس الامارة عند تتتابع نظر الروح الى النفس حالة عدم استعمال الشرع من العجب والرياء والسمعة والحسد واشتراء الحياة الدنيا بالآخرة والابتداع والزيغوغة واعتقاد السوء وغير ذلك مما لا يشاركه الحيوانات فيه انتهى ما فى التأويلات { وعلم آدم الاسماء كلها } وبقوله { ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى } ليعلموا ان استعداد ملك الخلافة واستحقاقها ليس بكثرة الطاعات ولكنهمالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فلما تفاخر الملائكة بطاعتهم على آدم من اللّه تعالى على آدم بعلم الاسماء ليعلموا انهم ولو كانوا اهل الطاعة والخدمة فانه اهل العقل والمنة واين اهل الخدمة من اهل المنة فبتفاخرهم على آدم صاروا ساجدين له ليعلموا ان الحق تعالى مستغن عن طاعتهم وبمنته على آدم صار مسجودا لهم ليعلموا ان الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء وفى قوله { انى اعلم ما لا تعلمون } اشارة اخرى الى انه كما يدل على ان لآدم فضائل لا يعلمها الملائكة فكذلك له رذائيل واوصاف مذومة لا يعلمها الملائكة لانهم لا يعلمون منه اوصافا مذومة هى من نتائج قالبه مشتركة مع الحيوانات مودعة فى ملكوته غير اوصاف مذومة تكون من نتائج النفس الامارة عند تتابع نظر الروح الى النفس حالة عدم استعمال الشرع من العجب والرياء والسمعة والحسد واشتراء الحياة الدنيا بالآخرة والابتداع والزيغوغة واعتقاد السوء وغير ذلك ما لا يشاركه الحيوانات فيه انتهى ما فى التأويلات { وعلم آدم الاسماء كلها } قال وهب بن منبه لما اراد اللّه ان يخلق آدم اوحى الى الارض اى افهمها وألهمها انى جاعل منك خليفة فمنهم من يطيعنى فادخله الجنة ومنهم من يعصينى فادخله النار فقالت الارض منى تخلق خلقا يكون للنار قال نعم فبكت فانفجرت منها العيون الى يوم القيامة وبعث اليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة من زواياها الاربع من اسودها وابيضها واحمرها واطيبها واخبثها وسهلها وصعبها وجبلها فلما اتاها جبريل ليقبض منها قالت الارض باللّه الذى ارسلك لا تأخذ منى شيأ فان منافع التقرب الى السلطان كثيرة ولكن فيه خطر عظيم كما قيل. بدريا در منافع بيشمارست ... اكرخواهى سلامت دركنارست فرجع جبريل عليه السلام الى مكانه ولم يأخذ منها شيأ فقال يا رب حلفتنى الارض باسمك العظيم فكرهت ان اقدم عليها فارسل اللّه ميكائيل عليه السلام فلما انتهى اليها قالت الارض له كما قالت لجريل فرجع ميكائيل فقال كما قال جبريل فارسل اللّه اسرافيل عليه السلام وجاء ولم يأخذ منها شيأ وقال مثل ما قال جبريل وميكائيل فارسل اللّه ملك الموت فلما انتهى قالت الارض اعوذ بعزة اللّه الذى ارسلك ان تقبض منى اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غدا فقال ملك الموت وانا اعوذ بعزته ان اعصى له امرا فقبض قبضة من وجه الارض مقدار اربعين ذراعا من زواياها الاربع فلذلك يأتى بنوه اخيافا اى مختلفين على حسب اختلاف ألوان الارض واوصافها فمنهم الابيض والاسود والاحمر واللبن والغليظ فصار كل ذرة من تلك القبضة اصل بدن للانسان فاذا مات يدفن فى الموضع الذى اخذت منه ثم صعد الى السماء فقال اللّه له أما رحمت الارض حين تضرعت اليك فقال رأيت امرك اوجب من قولها فقال انت تصلح لقبض ارواح ولذة. قال فى روضة العلماء فشكت الارض الى اللّه تعالى وقالت يا رب نقص منى قال اللّه على ان ارد اليك احسن واطيب مما كان فمن ثمه يحنط الميت بالمسك والغالية انتهى. فامر اللّه تعالى عزرائيل فوضع ما اخذ من الارض فى وادى نعمان بين مكة والطائف بعدما جعل نصف تلك القبضة فى النار ونصفها فى الجنة فتركها الى ما شاء اللّه ثم اخرجها ثم امطر عليها من سحاب الكرم فجعلها طينا لازبا وصور منه جسد آدم. واختلفوا فى خلقة آدم عليه السلام فقيل خلق فى سماء الدنيا وقيل فى جنة من جنات الارض بغر بيتها كالجنة التى يخرج منها النيل وغيره من الانهار واكثر المفسرين انه خلق فى جنة عدن ومنها اخرج كما فى كشف الكنوز وفى الحديث القدسى ( خمرت طينة آدم بيدى اربعين صباحا ) يعنى اربعين يوما كل يوم منه الف عام من اعوام الدنيا فتركه اربعين سنة حتى يبس وصار صلصالا وهو الطين المصوت من غاية يبسه كالفخار فامطرعليه مطر الحزن تسعا وثلاثين سنة ثم امطر عليه مطر السرور سنة واحدة فلذلك كثرت الهموم فى بنى آدم ولكن يصير عاقبتها الى الفرح كما قيل ان لكل بداية نهاءة وان مع العسر يسرا. ان مع العسر جو يسرش قفاست ... شاد برانم كه كلام خداست وكانت الملائكة يمرون عليه ويتعجبون من حسن صورته وطول قامته لان طوله كان خمسمائة ذراع اللّه اعلم بأى ذراع وكان رأسه يمس السماء ولم كونوا رأوا قبل ذلك صورة تشابهها فمر به ابليس فرآه ثم قال لامر ما خلقت ثم ضربه بيده فاذا هو اجوف فدخل فيه وخرج من دبره وقال لاصحابه الذي معه من الملائكة هذا خلق اجوف لا يثبت ولا يتماسك ثم قال لهم ارأيتم ان فضل هذا عليكم ما انتهم فاعلون قالوا نطيع ربنا فقال ابليس فى نفسه واللّه لا اطيعه ان فضل على ولئن فضلت عليه لأهلكنه. عاقبت كرك زاده كرك شنود ... وجمع بزاقه فى فمه وألقاه عليه فوقع بزاق الِلعين على موضع سرة آدم عليه السلام فامر اللّه جبريل فقور بزاق اللعين من بطن آدم فخفرة السرة من ثقوير جبريل وخلق اللّه من تلك القوارة كلبا ولكلب ثلاث خصال فانسه بآدم لكونه من طينه وطول سهره فى الليالى من أثر مس جبريل عليه السلام وعضه الانسان وغيره وأذاه من غير خيانة من اثر بزاق اللعين وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة وسمى بآدم لكونه من أديم الارض لانه مؤلف من أنواع ترابها ولما أراد اللّه ان ينفخ فيه الروح امره ان يدخل فيه فقال الروح موضع بعيد القعر مظلم المدخل فقال له ثانيا ادخل فقال كذلك فقال له ثالثا فقال كذلك فقال ادخلن كرها اى بلا رضى واخرج كرها ولذا لا يخرج الروح من البدن الا كرها فلما نفخه فيه مار فى رأس آدم وجبينه واذنيه ولسانه ثم مار فى جسده كله حتى بلغ قدميه فلم يجد منفذا فرجع منخريه فعطس فقال له ربه قل الحمد للّه رب العالمين فقالها آدم فقال يرحمك اللّه ولذا خلقتك يا آدم فلما انتهى الى ركبيته اراد الوثوب فلم يقدر فلما بلغ قدميه وثبت فقال تعالى وخلق الانسان عجولا فصار بشر لحما ودما وعظاما وعصبا واحشاء ثم كساه لباسا من ظفر يزداد جسده فى كل يوم وهو فى ذلك منتطق متوج وجعل فى جسده تسعة ابواب سبعة فى رأسه اذنين يسمع بهما وعينين يبصر بهما ومنخرين يجد بهما كل رائحة وفما فيه لسان يتكلم به وحنك يجد به طعم كل شئ وبابين فى جسده وهما قبله ودبره يخرج منهما ثقل طعامه وشرابه وجعل عقله فى دماغه وشرهه فى كليتيه وغضبه فى كبده وشجاعته فى قلبه ورغبته فى رئته وضحكه فى طحاله وفرحه وحزنه فى وجهه فسبحان من جعله يسمع بعظم ويبصر بشحم وينطق بلحم ويعرف بدم فلما سواه ونفخ فيه من روحه علمه اسماء الاشياء كلها اى ألهمه فوقع فى قلبه فجرى على لسانه فما فى قلبه بتسمية الاشياء من عنده فعلمه جميع اسماء المسميات بكل اللغات بان اراد الاجناس التى خلقها وعلمه ان هذه اسمه فرص وهذا اسمه بعز وهذا اسمه كذا وعلمه احوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية وعلمه اسماء الملائكة واسماء ذريته كلهم واسماء الحيوانات والجمادات وصنعه كل شئ واماء المدن والقرى واسماء الطير والشجر وما يكون وكل نسمة يخلقها الى يوم القيامة واسماء المطعومات والمشروبات وكل نعيم فى الجنة واسماء كل شئ حتى القصعة والقصيعة وحتى الجنة والمحلب. قال فى كشف الكنوز انفق جم غفير من اهل العلم على ان الاسماء كلها توقيفية من اللّه تعالى بمعنى ان اللّه تعالى خلق لآدم علما ضروريا بمعرفة الالفاظ والمعانى وان هذه الاللاظ موضوعة لتلك المعنى. وفى الخبر لما خلق اللّه آدم بث فيه اسرار بالاحرف ولم يبث فى احد من الملائكة فخرجت الاحرف على لسان آدم بفنون اللغات فجعلها اللّه صورا له ومثلت له بانواع الاشكال. وفى الخبرعلمه سبعمائة الف لغة فلما وقع فى اكل الشجرة سلب اللغات الا العربية فلما اصطفاه بالنبوة رد اللّه عليه جميع اللغات فكان من معجزاته تكلمه بجميع اللغات المختلفة التى يتكلم بها اولاده الى يوم القيامة من العربية والفارسية والرومية والسريانية واليونانية والعبرانية والزنجية وغيرها. قال بعض المفسرين علم اللّه آدم آألف حرفة من المكاسب ثم قال قل لاولادك ان اردتم الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف ولا تطلبوها بالدين واحكام الشرائع وكان آدم حرائثا اى زرعا ونوح نجارا وادريس خياطا وصالح تاجرا وداود زرادا وسليمان كان يعمل الزنبيل فى سلطنته ويأكل من ثمنه ولا يأكل من بيت المال وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة وكان اكثر عمله صلى اللّه تعالى عليه وسلم فى البيت الخياطة. وفى الحديث ( عمل الابرار من الرجال الخياطة وعمل الابرار من النساء الغزل ) كذا فى روضة الاخيار. وقال العلماء الاسماء فى قوله تعالى { وعلم آدم الاسماء } تقتضى الاستغراق واقتران قوله كلها يوجب الشمول فكما علمه اسماء المخلوقات علمه اسماء الحق تعالى فاذا كان تخصيصه بمعرفة اسماء المخلوقات يقتضى ان يصح سجود الملائكة له فما الظن بتخصيصه بمعرفة اسماء الحق وما الذى يوجب له { ثم عرضهم على الملائكة } اى عرضها اى المسميات وانما ذكر الضمير لان فى المسميات العقلاء فغلبهم والعرض اظهار الشئ للغير ليعرف العارض منه حاله. وفى الحديث ( انه عرضهم امثال الذر ) ولعله عز وجل عرض عليهم من افراد كل نوع ما يصلح ان يكون انموذجا يتعرف منه احوال البقية واحكامها والحكمة فى التعليم والعرض تشريف آدم واصطفاؤه واظهاره الاسرار والعلوم المكنونة فى غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده وهو المعلم المكرم آدم الصفى كيلا يحتج الملك وغيره بعلمه ومعرفته وذلك رحمة اللّه التى وسعت كل شئ { فقال } اللّه عز وجل تبكيتا وتعجيزا للملائكة وخطاب التعجيز جائز وهو الامر باتيان الشئ ولم يكن اتيانه مرادا ليظهر عجز المخاطب وان كان ذيب محالا كالامر باحياء الصورة التى يفعلها المصورون يوم القيامة ليظهر عجزهم ويحصل لهم الندم ولا ينفعهم الندم { انبئونى } اى اخبرونى { باسماء هؤلاء } الموجودات { ان كنتم صادقين } فى زعمكم انكم احقاء بالخلافة ممن استخلفته كما ينبئ عنه مقالكم. ويقال هذه الآية دليل عى ان اولى الاشياء بعد علم التوحيد تعلم علم اللغة لانه تعالى أراهم فضل آدم بعلم اللغ. ودلت ايضا ان المدعى يطالب بالحجة فان الملائكة ادعوا الفضل فطولبوا بالبرهان وبحثوا عن الغيب فقرعوا بالعيان اى لا تعلمون اسماء ما تعاينون فكيف تتكلمون فى فساد من لا تعاينون فيا ارباب الدعاوى اين المعانى ويا ارباب المعرفة اين المحبة ويا ارباب المحبة اين الطاعة. قال ابو بكر الواسطى من المحال ان يعرفه العبد ثم لا يحبه ومن المحال ان يحبه ثم لا يذكره ومن المحال ان يذكره ثم لا يجد حلاوة ذكره ومن المحال ان يجد حلاوة ذكره ثم يشتغل بغيره. ٣٢ { قالوا } استئناف واقع موقع الجواب كانه قيل فماذا قالوا حينئذ هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه اولا فقيل قالوا { سبحانك } اى نسبحك عما لا يليق بشأنك الاقدس من الامور التى من جملتها خلو افعالك من الحكم والمصالح وهى كلمة تقدم على التوبة قال موسى عليه السلام { سبحانك تبت اليك } وقال يونس { سبحانك انى كنت من الظالمين } وسبحان اسم واقع موضع المصدر لا يكاد يستعمل الا مضافا فاذا افرد عن الاضافة كان اسما علما للتسبيح لا ينصرف للتعريف والالف والنون فى آخره { لا علم لنا الا ما علمتنا } اعتراف منهم بالعجز عما كلفوه واشعار بان سؤالهم كان استفسارا ولم يكن اعتراضا اذ معناه لا علم لنا الا ما علمتنا بحسب قابليتنا من العلوم المناسب لعالمنا ولا قدرة لنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا حتى لو كنا مستعدين لذلك لأفضته علينا وما مصدرية اى الا علما علمتناه ومحله رفع بدل من موضع لاعلم كقولك لا اله الا اللّه { انك انت } ضمير فضل لا محل له من الاعراب { العليم } الذى لا يخفى عليه خافية وهذه اشارة الى تحقيقهم لقوله تعالى { انى اعلم ما لا تعلمون } { الحكيم } المحكم لمبتدعاته والذى لا يفعل الا ما فيه حكمة بالغة. وافادت الآية ان العبد ينبغى له ان لا يغفل عن نقصانه وعن فضل اللّه واحسانه ولا يأنف ان يقول لا اعلم فيما لا يعلم ولا يكتم فيما يعلم. وقالوا لا ادرى نصف العلم وسئل ابو يوسف القاضى عن مسئلة فقال لا ادرى فقالوا له ترتزق من بيت المال كل يوم كذا كذا ثم تقول لا ادرى فقال انما ارتزق بقدر علمى ولو اعطيت بقدر جهلى لم يسعنى مال الدنيا - وحكى - ان عالما سئل عن مسئلة وهو فوق المنبر فقال لا ادرى فقيل له ليس المنبر موضع الجهال فقال انما علوت بقدر علمى ولو علوت بقدر جهلى لبلغت السماء. ٣٣ { قَال } استئناف ايضا { يا آدم انبئهم } اى أعلمهم { باسمآئهم } التى عجزوا عن علمها واعترفوا بتقاصير هممهم عن بلوغ مرتبتها { لما انبئهم بأسمائهم } روى انه رفع على منبر وامر ان ينبئ الملائكة بالاسماء فلما انبأهم بها وهم جلوس بين يديه وذكر منفعة كل شئ { قَال } اله تعالى { الم اقل لكم انى اعلم غيب السموات والارض } والاستفهام للتقري اى قد قلت لكم انى اعلم ما غاب فيهما ولا دليل عليه ولا طريق اليه { واعلم ما تبدون } تظهرون من قولكم { اتجعل فيها من يفسد فيها } الآية { وما كنتم تكتمون } تسرون من قولكم لن يخلق اللّه خلقا اكرم عليه منا وهو استحضار لقوله تعالى { انى اعلم ما لا تعلمون } لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه فانه تعالى كما علم ما خفى عليهم من امور السموات والارض وما ظهر لهم من احوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون. وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الاولى من السؤال وهو ان يتوقفوا مترصدين لان يبين لهم وهذه الآيات تدل على شرف الانسان ومزية العلم وفضله على العبادة لان الملائكة اكثر عبادة من آدم ومع ذلك لم يستحقوا الخلافة وتدل على ان العلم شرط فى الخلافة بل العمدة فيها وان آدم افضل من هؤلاء الملائكة لانه اعلم منهم والاعلم افضل لقوله تعالى { قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون } فالعلم اشرف جوهرا ولكن لا بد للعبادة مع العلم فان العلم بمنزلة الشجرة والعبادة بمنزلة الثمرة فالشرف للشجرة وهو الاصل لكن الانتفاع بثمرتها. وفى حديث ابى ذر رضى اللّه عنه ( حضور مجلس علم افضل من صلاة ألف ركعة وعياد ألف مريض وشهود ألف جنازة ) فقيل يا رسول اللّه أو من قراءة القرآن قال ( وهل ينفع القرآن الا بالعلم ) قال فى المثنى خاتم ملك سليمانست علم ... جمله عالم صورت وجانست علم وفى الحديث ( النظر الى وجه الوالد عبادة والنظر الى الكعبة المكرمة عبادة ولنظر فى المصحف عبادة والنظر فى وجه العالم عبادة من زار عالما فكانما زارانى ومن صافح عالما فكانما صافحنى ومن جالس عالمافكانما جالسنى ومن جالسنى فى الدنيا اجلسه اللّه معى يوم القيامة ) وفى الحديث ( اراد ان ينظر الى عتقاء اللّه من النار فلينظر الى المتعلمين فوالذى نفس محمد بيده ما من متعلم يختلف اى يذهب ويجئ الى باب العالم الا يكتب اللّه له بكل قدم عبادة سنة ويبنى بكل قدم مدينة فى الجنة ويمشى على الارض والارض تستغفر له ويسمى ويصبح مغفور له ) وفى التأويلات النجمية { وعلم آدم الاسماء كلها } الاسماء على ثلاثة اقسام. قسم مناه اسماء الروحانيات والملكوتيات وهى مقام الملائكة ومرتبتهم فلهم علم ببعضها واستعدادا ايضا لان ينبوأ بما لا علم لهم به فان الحانيات والملكوتيات لهم شهادة كالجسمانيات لنا. والسم الثانى منها اسماء الجسمانيات وهى مرتبة دون مرتبتهم فيمكن انباؤهم لان الجسمانيات لهم كالحيوانات بالنسبة الينا فانها مرتبة دون مرتبة الانسان فيمكن للانسان الابناء باحوالها. والقسم الثالث منها الآلهيات وهى مرتبة فوق مرتبة الملائكة كما قال تعالى { يخافون ربهم من فوقهم } فلا يمكن للانسان ان ينبئهم بها ولا يمكن لهم الانباء فوق ما علمهم اللّه منها لانها غيب وليس لهم الترقى الى عالم الغيب وهو عالم الجبروت وهم اهل الملكوت ولهم مقام معلوم لا يتجاوزون عنه كما قال جبريل عند سدرة المنتهى ( لو دنوت انملة لاحترقت ) وانما كأن آدم مخصوصا بعلم الاسماء لانه خلاصة العالم وكان روجه بذر شجرة العالم وشخصه ثمرة شجرة العالم ولهذا خلق شخصه بعد تمام ما فيه كخلق الثمرة بعدم تمام الشجرة كما ان الثمرة تغبر على اجزاء الشجرة كلها حتى تظهر على اعلى الشجرة كذلك آدم عبر على اجزاء شجرة الموجودات علوها وسفلها وكان فى كل جزء من اجزائها له منفعة ومضرة ومصلحة ومفسدة فسمى كل شئ منها باسم يلائم تلك المنفعة والمضرة بعلم علمه اللّه تعالى وهذا من جملة ما كان اللّه يعلم من آدم والملائكة لا يعلمون وكان من كمال حال آدم أن اسماء اللّه تعالى جاءت على منفعته ومضرته فضلا عن اسماء غيره وذلك انه لما كان مخلوقا كان اللّه خالقا ولما كان مرزوقا كان اللّه رازقا ولما كان عبدا كان تائبا كان اللّه توابا ولما كان منتفعا كان اللّه نافعا ولما كان متضررا كان اللّه ضارا ولما كان ظالما كان اللّه عدلا ولما كان مظلوما كان اللّه منتقما فعلى هذا قس الباقى. ٣٤ { واذ قلنا } اى اذكر يا محمد وقت قولنا { للملائكة } اى لجميعهم لقوله تعالى { فسجد الملائكة كلهم اجمعو } { اسجدوا لآدم } اى خروا له والسجود فى الاصل تذلل مع تطامن وفى الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة والمأمور به اما المعنى الشرعى فالمسجود له فى الحقيقة هو اللّه تعالى وجعل آدم قبلة سجودهم تفخيما لشأنه واما معنى اللغوى وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما كسجود اخوة يوسف له ( لا ينبغى لمخلوق ان يسجد لاحد الا اللّه تعالى ولو امرت احدا ان يسجد لاحد لامرت المرأة ان تسجد لزوجها ) فتحية هذه الامة هى السلام لكن يكره الانحناء لانه يشبه فعل اليهود كما فى الدرر وكان هذا القول الكريم بعد انبائهم بالاسماء قيل لما خلق آدم اشكل عليهم ان آدم اعلم ام هم فلما سألهم عن الاسماء فلم يعرفوا وسأل آدم فاخبر بها ظهر لهم ان آدم اعلم منهم ثم اشكل عليهم انه افضل ام هم فلما امرهم بالسجود ظهر لهم فضله ومن لطف اللّه تعالى بنا ان امر الملائكة بالسجود لا بينا ونهانا عن السجود لغيره فقال { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدو للّه الذى خلقهن } نقل الملائكة المقربين الى آدم وسجدته ونقلنا الى سجدته وخدمته وفى التأويلات النجمية فى قوله { اسجدوا } ثلاثة معان. احدها انكم تسجدون للّه بالطبيعة الملكية والروحانية فاسجدوا لآدم خلافا للطبيعة بل اعبدوا وارقوا انقيادا للامر وامتثالا للحكم. والثانى اسجدوا لآدم تعظيما لشأن خلافته وتكريما لفضيلته المخصوصة به وذلك لان اللّه تعالى يتجلى فيه فمن سجد له فقد سجد للّه كما قال تعالىفى حق حبيبه عليه السلام { ان الذين يبايعونك انما يبايعون اللّه } والثالث اسجدوا لآدم اى لاجل آدم وذلك لان طاعتهم وعبادتهم ليست بموجبة لثوابهم وترقى درجاتهم وفائدتها راجعة الى الانسان لمعنيين. احدهما ان الانسان يقتدى بهم فى الطاعة ويتأدب بآدابهم فى امتثال الاوامر وينزجر عن الاباء والاستكبار كيلا يلحق به اللعن والطرد كما لحق بابليس ويكون مقبولا ممدوحا مكرما كما كان الملائكة فى امتثال الامر لقوله تعالى { لا يعصون اللّه ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون } والثانى ان اللّه تعالى من كمال فضله ورحمته مع الانسان جعل همة الملائكة فى الطاعة والتسبيح والتحميد مقصورة على استعداد المغفرة للانسان كما قال تعالى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الارض } فلذلك امرهم بالسجود لاجلهم وليستغفرا لهم { فسجدوا } اى سجد الملائكة لانهم خلقوا من نور كما قال عليه السلام { خلقت الملائكة من نور } والنور من شانه الانقياد والطاعة واول من سجد جبرائيل فاكرم بانزال الوحى على النبيين وخصوصا على سيد المرسلين ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة وقيل اول من سجد اسرافيل فرفع رأسه وقد ظهر كل القرآن مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقه الى الائتمار. والفاء فى قوله فسجدوا لافادة مسارعتهم الى الامتثال وعدم تلعثمهم فى ذلك { الا ابليس } اى ما سجد لانه خلق من النار والنار من شأنها الاستكبار وطلب العلو طبعا وللعلماء فى هذا الاستثناء قولان. الاول انه استثناء متصل لان ابليس كان جنيا واحدا بين وللعلماء فى هذا الاستثناء قولان. الاول انه استثناء متصل لان ابليس كان جنيا واحدا بين اظهر الالوف من الملائكة مغمورا بهم تصفا بصفاتهم فغلبوا عليه فى قوله فسجدوا فم استثنى منهم استثناء واحد منهم واكثر المفسرين على ان ابليس من الملائكة لان خطاب السجود كان مع الملائكة قال البغوى وهو الاصح. قال فى التيسير اما وصف الملائكة بانهم لا يعصون ولا يستكبرون فذلك دليل تصور العصيان منهم ولولا التصور لما مدحوا به لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف وطاعة البشر تكلف ومتابعة الهوى منهم طبع ولا يستنكر من الملائكة تصور العصيان فقد ذكر من هاروت وماروت ما ذكر : قال فى المثنوى. امتحان مى كرد شان زير وزبر ... كى بود سرمست را زاينها خبر والقول الثانى انه منقطع لانه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص قال تعالى { كان من الجن ففسق عن امر ربه } وعن الحافظ ان الجن والملائكة جنس واحد فمن طهر منهم فهو ملك ومن خبث فهو شيطان ومن كان بين بين فهو جن { ابى } اى امتنع عما امره به من السجود والاباء امتناع باختيار { واستكبر } اى تعظيم واظهر كبره ولم يتخذه وصلة فى عبادة ربه او تعظيمه وتلقيه بالتحية والتكبر ان يرى الرجل نفسه اكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع اى بالتزين بالباطل وبما ليس له وتقديم الاباء على الاستكبار مع كونه مسببا عنه لظهوره ووضوح اثره : قال المثنوى اين تكبر جيست غفلت ازلباب ... منجمد جون غفلت يخ ز آفتاب جون خبر شد ز آفتابش يخ نماند ... نرم كشت وكرم كشت وتيز راند قالوا لما سجد الملائكة امتنع ابليس ولم يتوجه الى آدم بل ولاه ظهره وانتصب هكذا الى ان سجدوا وبقوا فى السجود مائة سنة وقيل خمسمائة سنة ورفعوا رؤوسهم وهو قائم معرض لم يندم من الامتناع ولم يعزم على الاتباع فلما رأوه عدل ولم يسجدوهم وفقوا للسجود سجدوا للّه تعالى ثانيا فصار لهم سجدتان سجدة لآدم وسجدة للّه تعالى وابليس يرى ما فعلوه وهذا اباؤه فغير اللّه تعالى صفته وحالته وصورته وهيئته ونعمته فصار اقبح من كل قبيح قال اله تعالى { ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } قال بعضهم جعل ممسوخا على مثال جسد الخنازير ووجهه كالقردة وللشيطان نسل وذرية والممسوخ وان كان لا يكون له نسل لكن لما سأل النظرة والنظر صار له نسل. وفى الخبر قيل له من قبل الحق اسجد لقبر آدم أقبل توبتك واغفر معصيتك فقال ما سجدت لقالبه وجئته فكيف اسجد لقبره وميتته. فى الخبر ان اللّه تعالى يخرجه على رأس مائة الف سنة من النار ويخرج آدم من الجنة ويأمره بالسجود لآدم فيأبى ثم يرد الى النار { وكان من الكافرين } اى فى علم اللّه تعالى او صار منهم باستقباحه امر اللّه اياه بالسجود لآدم اعتقادا بانه افضل منه والافضل لا يحسن ان يؤمر بالتخضع للمفضول والتوصل به كما اشعر به قوله { انا خير منه } جوابا لقوله تعالى { ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى استكبرت ام كنت من العالمين } لا بترك الواجب وحده ومذهب اهل السنة ان الشقى قد يسعد والسعيد قد يشقى فالكافر اذا اسلم كان كافرا الى وقت اسلامه وانما صار مسلما باسلامه الا انه غفر له ما سلف والمسلم اذا كفر والعياذ باللّه كان مسلما الى ذلك الوقت الا انه حبط عمله ثم انما قال من الكافرين ولم يكن حينئذ كافر غيره لانه كان فى علم اللّه ان يكن بعده كفار فذكر انه كان من الكافرين اى من الذين يكفرون بعده وهذا كما فى قوله { فتكونا من الظالمين } ومن فوائد الآية استقباح الاستكبار وانه قد يفضى بصاحبه الى الكفر والحث على الائتمار لامره وترك الخوض فى سره وان الامر للوجوب وان الذى علم اللّه من حاله انه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة اذا لعبرة باخواتم وان كان بحكم الحال مؤمنا وهى مسئلة الموافاة اى اعتبار تمام العمر الذى هو وقت الوفاة فاذا كان العبرة باخاتمة فليسارع العبد الى الطاعات فكل ميسر لما خلق له خصوصا فى آخر السنة وخاتمتها كى يختم له الدفتر بالعمل الصالح. قالت رابعة العدوية لسفيان الثورى رحمهما اللّه انما انت ايام معدودة فاذا ذهب يوم ذهب بعضك ويوشك اذا ذهب البعض ان يذهب الكل وانت تعلم فاعمل واعتبر ولا تقل ذهب لى درهم ودينار وسقط لى مال وجاه بل قل ذهب يومى ماذا عملت فيه فان باليوم ينقضى العمر. واحتضر عابد فقال ما تأسفى على دار الاحزان وانما تأسفى على ليلة نمتها ويوم افطرته وساعة غفلت فيها عن ذكر اللّه تعالى. وعن العلاء بن ذياد قال ليس يوم يأتى من ايام الدنيا الا يتكلم ويقول ايها الناس انى يوم جديد وانا على ما يعمل فى شهيد وانى لو غربت شمسى لم ارجع اليكم الى يوم القيامة. قيل يا رسول اللّه من خير الناس قال { من طال عمره وحسن عمله } قيل قاى الناس شر قال ( من طال عمره وساء عمله وخيف شره ولم يرج خيره ) قال الحسن لجلسائه يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع اذا بلغ قالوا الحصاد قال يا معشر الشباب فان الزرع قد تدركه الآفة قبل ان يبلغ وانشد بعضهم ألا مهد لنفسك قبل موت ... فان الشيب تمهيد الحمام وقد جد الرحيل فكن مجدا ... لحط الرحل فى دار المقام وعن الحسن قال ابنآدم لا تحمل هم سنة على يوم كفى يومك بما فيه فان تكن السنة من عمرك بأنك اللّه فيها برزقك والاتكن من عمرك فاراك تطلب ما ليس لك. وعن ابى الدرداء رضى اللّه عنه قال ما طلعت شمس الا وبجنبتيها ملكان يناديان وانهما ليسمعان من على ظهر الارض غير الثقلين يا ايها الناس هلموا الى ربكم ان ما قل وكفى خير ما كثر وألهى وما غربت. شمس قط الاوبجنبتيها ملكان يناديان وانهما ليسمعان من على ظهر الارض غير الثقلين اللّهم عجل المنفق خلفا وعجل لممسك تلفا : قال فى المثنوى نان دهى ازبهر حق نانت دهند ... جان دهى ازبهر حق جانت دهند ٣٥ { وقلنا اسكن انت } قال القرطبى فى تفسيره لاخلاف ان اللّه تعالى اخرج ابليس عند كفره وابعده عن الجنة وبعد اخراجه قال يا آدم اسكن اى لازم الاقامة واتخذها مسكنا وهو محل السكون وليس المراد به ضد الحركة بل اللبث والاستقرار { وزوجك } حواء يقال للمرأة الزوج والزوجة والزوج افصح كما فى تفسير ابى الليث وانما لم يخاطبهما او لا تنبيها على انه المقصود بالحكم والمعطوف عيله تبع له { الجنة } هى دار الثواب باجماع المفسرين خلافا لبعض المعتزلة والقدرية حيث قالوا المراد بالجنة بستان كان فى ارض فلسطين او بين فارس وكرمان خلقه اللّه تعالى امتحانا لآدم واولوا الهبوط بالانتقال منه الى ارض الهند كما فى قوله تعالى { اهبطوا مصرا } وفيه نظر لان الهبوط قد يستعار للانتقال اذا ظهر امتناع حقيقته واستبعادها وهناك ليس كذلك. واختلفوا فى خلقة حواء هل كانت قبل دخول الجنة أو بعده ويدل على الاول ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه بعض اللّه جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من الذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ والزمرد وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى ادخلوهما الجنة ويدل على الثانى ملاوى عن ابن مسعود رضى اللّه عنه انه لما خلق اللّه الجنة واسكن فيها آدم بقى فيها وحده فألقى اللّه عليه النوم ثم اخذ ضلعا من اضلاعه من الجانب الايسر ووضع مكانه لحما فخلق منه حواء ومن الناس من قال لا يجوز ان يقال خلقت حواء من ضلع آدم لانه يكون نقصانا منه ولا يجوز القول بنقص الانبياء قلنا هذا نقص منه صورة تكميل له معنى لانه جعلها سكنه وازال بها وحشته وحزنه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من انت فقالت انى امرأة فقال ولم خلقت قالت لتسكن الى واسكن اليك فقالت الملائكة يا آدم ما اسمها قال حواء قالوا ولم قال لانها خلقت من حى اولانها اصل كل حى اولانها كانت فى ذقنها حوة اى حمرة مائلة الى السواد وقيل فى شفتها وسميت مرأة لأنها خلقت من المرء كما ان آدم سمى بآدم لانه خلق من اديم الارض وعاشت بعد آدم سبع سنين وسبعة اشهر وعمرها تسعمائة سنة وسبع وتسعون سنة. واعلم ان اللّه تعالى خلق واحدا من اب دون اموهو حواء وآخر من ام دون اب وهو عيسى وآخر من اب وام اى اولاد آدم وآخر من غير اب وام اى آدم فسبحان من اظهرَ من عجائب صنعه ما يتحير فيه العقول. ثم اعلم ان اللّه تعالى خلق حواء لامر تقتضيه الحكمة ليدفع آدم وحشته بها لكونها من جنسه وليبقى الذرية على ممر الازمان والايام الى ساعة القيام فان بقاءها سبب لبعثة الانبياء وتشريع الشرائع والاحكام ونتيجة لامر معرفة اللّه فان اللّه تعالى خلق الخلق لاجلها. وفى الزوجية منافع كثيرة دينية ودنيوية واخروية ولم يذكر اللّه تعالى فى كتابه من الانبياء الا المتزوجين وقالوا ان يحيى عليه السلام قد تزوج لنيل الفضل واقامة السنة ولكن لم يجامع لكون ذلك عزيمة فى تلك الشريعة ولذلك مدحه اللّه بكونه حصورا. وفى الاشباه ليس لنا عبادة شرعت من عهد آدم الى الآن ثم تلك العبادة لا تستمر فى الجنة الا الايمان والنكاح. قيل فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعدة وركعة من المتأهل افضل من سبعين ركعة من عزب هذا كله لكون التزوج سببا لبقاء النسل وحفظا من الزنى والتغريب فى النكاح يجرى الى ما يجاوز المائة الاولى من الالف الثانى كما قال عليه السلام ( اذا اتى على امتى مائة وثمانون سنة بعد الالف فقد حلت العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال ) وذلك لان الخلق فى المائتين اهل الحرب والقتل فتربية جرو حينئذ خير من تربية ولد وان تلد المرأة حية خير من ان تلد الولد : كما قال السعدى. زنان بار دار اى مرد هشيار ... اكر وقت ولادت مار زايند ازان بهتر بنزديك خردمند ... كه فرزندان ناهموار زايند { وكلا منها } اى من ثمار الجنة وجه الخطاب اليهما ايذانا بتساويهما فى مباشرة المأمور به فان حواء اسوة له فى الاكل بخلاف السكنى فانها تابعة له فيها ثم معنى الامر بهذا والشغل به مع انه اختصه واصطفاه للخلافة ابداه انه مخلوق والذى يليق بالخلق هو السكون بالخلق والقيام باستجلاب الحظ { رغدا } اى اكلا واسعار افها بلا تقدير وتقتير من حيث شئتما اى مكان من الجنة شئتما وسع الامر عليما ازاحة للعلة ولعذر فى التناول من الشجرة المنهى عنها من بين اشجارها الفائتة للحصر { ولا تقربا } بالاكل ولو كان النهى عن الدنو لضمت الراء { هذه الشجرة } الشجرة نصب على انه بدل من اسم الاشارة او نعت له بتأويلها بمشتق اى هذه الحاضرة من الشجر اى لا تأكلا منها وانما علق النهى بالقربان منها مبالغة فى تحريم الاكل ووجوب الاجتناب عنه والمراد بها البر والسنبلة وهو الاشهر والاجمع والانسب عند الصوفية لان النوع الانسانى ظهر فى درو السنبلة وعليها من كل لون وحمرها احلى من العسل وألين من الزبد واشد بياضا من الثلج كل حبة من حنطتها مثل كلية البقرة وقد جعلها اللّه رزق اولاده فى الدنيا ولذلك قيل تناول سنبلة فابتلى بحرث السنبلة او المراد الكروم ولذلك حرت علينا او التين ولهذا ابتلاه الحق بلباس ورقها كما ابتلاه بثمرها وهو البلاء الحسن وقيل غير ذلك والاولى عدم تعيينها لعدم النص القاطع { فتكونا من الظالمين } مجزوم على انه معطوف على تقربا او منصوب على انه جواب للنهى والمعنى على الاول لا يكن منكما قربان الشجرة وكونكما من الظالمين وعلى الثانى ان تقربا هذه الشجرة تكونا من الظالمين واياما كان فالقرب اى الاكل منها سبب لكونهما من الظالمين اى الذين ظلموا انفسهم بارتكاب المعصية او نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم او تعدوا حدود اللّه. قال القرطبى قال بعض ارباب المعانى فى قوله ولا تقربا اشعار بالوقوع فى الخطيئة والخروج من الجنة وان سكناهما فيها لا يدوم لان المخلد لا يحظر عليه شئ ولا يؤمر ولا ينهى والدليل على هذا قوله تعالى { انى جاعل فى الارض خليفة } فدل على خروجه منها. قال الشيخ نجم الدين قدس سره ان آدم خاطبه مولاه خطاب الابتلاء والامتحان والنهى نهى تعزز ودلال كأنه قال يا آدم ابحت لك الجنة ومافيها الا هذه الشجرة فان الانسان حريص على ما منع فسكنت نفس آدم على حواء والى الجنة وما فيها الا الى الشجرة المنهى عنها لانها كانت مشتهى القلب وكان للنفس فيها حظ ولا يزال يزداد توقانه اليها فيقصدها حتى تناول منها فظر سر الخلافة والمحبة والمحنة والتحقق بمظاهر الجمال والجلال كالتواب والغفور والعفو والقهار والستار. والحاصل انه لما علم اللّه تعالى انه يأكل من الشجرة نهاه ليكون أكله عصاينا يوجب توبة ومحبة وطهارة من تلوث الذنب كما قال تعالى { ان اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين } فاورثه ذلك النهى عن اكل الشجرة عصيانا بسبب النسيان ثم توبة بسبب العصيان ثم محبة بسبب التوبة ثم طهارة بسبب المحبة كما ورد فى الخبر ( اذا احب اللّه عبدا لم يضره الذنب ) اى حفظه من الذنب واذا وقع فيه وفقه للتوبة والندامة وكل زلة عاقبتها التوبة والتشريف والاجتباء فقيل هى زلة تنزيه واستحقاق آدم اللوم بالنهى التنزيهى من قبيل حسنات الابرار سيآت المقربين. قال مرجع طريقتنا الجالوتية الشيخ الشهير بالهدائى قدس سره المراد بالدعوة الى الجنة الدعوة الى مقام الروح فى وجود بنى آدم كأنه قال لقلب الانسان يا آدم القلب اسكن انت وزجك وفى النفس الانسانية فى الروح بالطاعات والعبادات { وكلا منها رغدا } اى كلا من المعارف الالهية لان الروح مقام المعرفة التى تحصل بسبب الطاعات والعبادات { حيث شئتما } اى عمل احببتما من الخيرات والصالحات { ولا تقربا هذه الشجرة } اى شجرة المخالفة فان هذا الخطاب لما كان يشمل عامة العباد الى يوم القيايمة لم ينحصر فى آدم وحواء عليهما السلام فينبغى للمؤمن ان يترقى الى اللّه تعالى بسبب الطاعات والعبادات ويجتنب عن المخالفات حتى لا يقع فى ألمهالك والدركات : قال فى المثنوى. داروى مردى بخور اندر عمل ... تاشوى خورشيد كرم اندر حمل جهدكن تانور تو رخشان شود ... تا سلوك وخدمتت آسان شود تا جلا باشد مران آيينه را ... كه صفازايد ز طاعت سينه را ٣٦ { فازلهما الشيطان عنها } اى اذهب آدم وحواء وابعدهما عن الجنة يقال زل عنى كذا اذا ذهب والازلال الازلاق والزلة بالفتح الخطأ وهو الزوال عن الصواب من غير قصد والمقصود حملهما على الزلة بطريق التسبب وهو بالوسوسة وبالغرور والدعاء. فان قلت ابليس كافر والكافر لا يدخل الجنة فكيف دخل هو. قلت منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة ولم يمنع من الدخول للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء { فاخرجهما مما كان فيه } من النعيم والكرامة ولم يقصد ابليس اخراج آدم من الجنة وانما قصد اسقاطه من مرتبته وابعادهكما ابعد فلم يبلغ مقصده قال اللّه تعالى { فتاب عليه وهدى } قال الشيخ صدر الدين قدس سره فى الفكوك لما سمع آدم قول ابليس { ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة الا تكونا ملكين او تكونا من الخالدين } صدقه هو وزوجته. وهذه القضية تشتمل على امرين مشكلين لم ارى احدا تنبيه لهما ولا اجابنى احد من اهل العلم الظاهر والباطن عنهما وهو انه عليه السلام بعد سجود الملائكة له باجمعهم ومشاهدة رجحانه عليهم بذلك وبعلم الاسماء والخلافة ووصية الحق له كيف اقدم على المخالفة وتسوف بقول ابليس الا ان تكونا ملكين وكيف لم يعلم ايضا من دخل الجنة المعرفة بلسان الشريعة لم يخرج منها وان النشأة الجنانية لا تقبل الكون والفساد فهى لذاتها تقتضى الخلود وكان هذه الحال تدل دلالة واضحة على ان الجنة التى كان فيا ليست الجنة التى عرضها السموات والارض والتى ارضها الكرسى الذى هو الفلك الثامن وسقفها عرش الرحمن فان تلك الجنة لا يخفى على من دخلاه انها ليست محل الكون والفساد ولا ان يكون نعيمها موقتا ممكن الانقطاع فان ذلك المقام يعطى بذاته معرفة ما تقتضيه حقيقته وهو عدم انقطاع نعيمها بموت او غيره كما قال اللّه تعالى { عطاء غير مجذوذ } اى غير منقطع والمتناه فافهم فحال آدم وحواء فى هذه القضية كحال بنى اسرائيل الذين قال اللّه فى حقهم { أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم } لآية ولهذا المناسبة والمشاركة اردف الحق قصة آدم فى سورة البقرة بقصة موسى وبنى اسرائيل مع ما بينهما من طول المدة فراعى سبحانه فى ذلك المضاهاة فى الفعل والحال دون الزمان فهذا من اسرار القرآن انتهى كلام الشيخ * فان قلت ما الحكمة فى ان اللّه تعلاى لم يخلق الانسان فى الجنة ابتداء ولم ابتلاء بالخروج الى الدنيا. قلت تعظيم النعم على العباد واجب فلو لم يخلقوا فى الدنيا ابتداء ما عرفوا قدر الجنة وقيل ليكونوا فى الجنة على الجزاء لا على الابتداء وليأمنوا الزوال وقيل خلقنا فى الدنيا ليميز اللّه الخبيث من الطيب والمطيع من المخالف لاقتضاء الصفات الجلالية لان الجنان ليست من مظاهر الجلال ولو خلقنا وبقينا فى الجنة لما ظهر فينا صفات الجلال كما لم تظهر فى الملك فالحكمة الآلهية اقتضت خلق الانسان فى الدنيا وظهور المخالفة منه ليظهر فيه الرحمة والغفران فلو بقى آدم فى الجنة لفاته نصف الكمال الذى هو التجليات القهرية فخرج ليتحقق بمظاهر اسماء الجمال والجلال ثم يرد على عالم الجنان قدر اللّه تعالى ان يخرج من صلبه سيد المرسلين صلى اللّه تعالى عليه وسلم واخوانه من الانبياء والاولياء والمؤمنين وخمر طينته بتراب كل مؤمن وعدو فاخرجه الى الدنيا ليخرج من ظهره الذين لا نصيب لهم فى الجنة. قال الشيخ الكامل المكمل على رده فى هامش كشف الكنوز وحل الرموز وهو كتاب فريد فى فنه وجدت تذكرة السؤال من بعض الملاحدة على كرسى سيدى ابن نور الدين فى مجلس وعظ بجامع ايا صوفيه ممن كلام خواجه حافظ شيرازى. من ملك بودم وفردوس برين جايم بود ... آدم آورد درين دير خراب آبادم فاجاب الشيخ بديهة وفهم مراد الملحد عن السؤال فقال انت اخرجت آدم من الجنة حيث هجت فى صلبه باستعداد الفساد والالحاد ولو لم يخرج ابونا آدم لبقيت الملاحدة والفجرة فى الجنة فاقتضت غيره الحق خروجه. وسئل ابو مدين قدس سره عن خروج آدم من الجنة على وجه الارض ولم تعدى فى اكل الشجرة بعد النهى فقال لو كان ابونا يعلم انه يخرج من صلبه مثل محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم لصار يأكل عرق الشجرة فكيف ثمرها ليسارع فى الخروج على وجه الارض ليظهر الكمال المحمدى والجمال الاحمدى. وسأل خليل الرحمن صلوات اللّه على نبينا وعليه فقال يا رب لم اخرجت آدم فقال اما علمت ان جفاء الحبيب شديد. وقال مرجع طريقتنا الجلوتية الشيخ الشهير بافتاده افندى سر خروج آدم من الجنة انه رأى مرتبة من مراتب التوحيد اعلى من مرتبته التى هو فيها فسألها من اللّه تعالى فقيل له لا تصل اليها الا بالبكاء فاحب آدم ان يبكى فقيل ان الجنة ليست موضع البكاء بل هى موضع السرور فطلب ان ينزل الى الدنيا فكون ما صدر عنه ذنبا بالنسبة اليه باعتبار قصور مرتبته عن المراتبة المطلوبة على نهج احسنات الابرار سيآت المقربين كذا فى واقعات الهدائى قال الشيخ نجم الدين قدس سره والاشارة ان آدم عليه السلام اصبح محمود العناية مسجود الملائكة متوجا بتاج الكرامة ملبسا بلباس السعاده فى وسطه نطاق القربة وفى جيده طوق الزلفة لاحد فوقه فى الرتبة ولا شخص معه فى الرتبة يتوالى عليه النداء كل لحظة يا آدم فلما جاء القضاء ضاق الفضاء : قال فى المثنى. جون قضا آيد شد انش بخواب ... مه سيه كردد بكير آفتاب فلم يمس حتى نزع لباسه وسلب استئناسه تدفعه الملائكة بعنف ان اخرج بغير مكث ولا بحث { فازلهما } يد التقدير بحسن التدبير { الشيطان عنها } اى عن تلك العزة والقرابة وكان الشيطان المسكين فى هذا الامر كذئب يوسف لما اخذ بالجناية ولطخ فمه بدم كذب واخوته قد ألقوه فى غيابة الجب فاخذ الشيطان لعدم العناية ولطخ خرطومه بدم نصح كذب { فاخرجهما مما كانا فيه } من السلامة الى الملامة ومن الفرح الى الترح ومن النعمة الى النقمة ومن المحبة الى المحنة ومن القربة الى غربة ومن الالفة الى الكلفة ومن الوصلة الى الفرقة وكان قبل اكر الشجرة مستأنسا بكل شئ ومؤانسا مع كل احد ولذلك سمى انسانا فلما ذاق شجرة المحبة استوحش من كل شئ واتخذ كل احد عدوا وهكذا شرط صحة المبحة عداوة ما سوى المحبوب فكما أن ذات المحبوب لا يقبل الشركة فى التعبد كذا لا يقبل الشركة فى المحبة ولهذا قال { اهبطوا بعضهم لبعض عدو } وكذا كان حال الخليل فى البداية يتعلق بالكوكب والقمر والشمس ويقول { هذا ربى } فلما ذاق شجرة الخلة قال { لا احب الآفلين } { انى برئ مما تشركون } { فانهم عدو لى الارب العالمين } { وقلنا اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وجمع الضمير لانما اصلا الجنس فكانهما الجنس كله. وقيل هو لخمسة وخامسهم الطاووس وهذا الامر وان انتظمهم فى كلمة فما كان هبوطهم جملة بل هبط ابليس حين لعن وهبوط آدم وحواء كان بعده بكثير الا ان يحمل على ان ابليس اخرج منها ثانيا بعدما كان يدخلها للوسوسة ودلت كلمة اهبطوا على انهما كانا فى جنة الخلد حيث امرا بالانحدار وهو النزول من علو الى سفل وقد سبق فى الآيات السابقة ما سبق. قال القرطبى فى تفسيره ان الصحيح فى اهباطه وسكناه فى الارض ما قد ظهر من الحكمة الازلية فى ذلك وهى نثر نسلة فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الاخروى اذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الاكلة سبب اهباطهما من الجنة فاخرجهما لانهما خلقا منهما وليكون آدم خليفة اللّه فى الارض وللّه أن يفعل ما يشاء وقد قال { انى جاعل فى الارض خليفة } وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة انتهى كلام القرطبى * فهبوطه من الجنة هبوط التشريف والامتحان والتمييز بين قبضتى السعادة والشقاوة لان ذلك من مقتضيات الخلافة الالهية على ما فى كشف الكنوز * واكثر المفسرين على ان المعنى انزلوا استخفافا بكم لكن القول ما قالت حذام. قال المولى الشهير بابن الكمال فى رسالة القضاء والقدر عتاب آدم عليه السلام فى قوله تعالى { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين } عتاب تلطيف لا عتاب تعنيف وتعذيب وتنزيله من السماء الى الارض بقوله اهبطوا { منها جميعا } تكميل وتبعيد تقريب كما فى قول الشاعر. سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... { بعضكم لبعض عدو } حال استغنى فيها عن الواو بالضمير اى متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله والعدو يصلح للواحد والجمع ولهذا لم يقل اعداء فابليس عدو لهما وهما عدو لابليس والحية عدو لبنى آدم وهم عدوهما وهى تلسعهم وهم يدمغونها وابليس يفتنهم وهم يلعنونه وكذا العداوة بين ذرية آدم وحواء بالتحاسد فى الدنيا والاختلاف فى الدين والعداوة مع ابليس دينية فلا ترتفع ما بقى الدين والعداوة مع الحية طبيعية فلا ترتفع ما بقى الطبع ثم هذه عداوة تأكدت بيننا وبينهم لكن حزبا يكون اللّه معهم كان الظفر لهم ثم قوله بعضكم لبعض عدو اخبار عن كونه اى التعادى لا امر بتحصيله ولما قال بعضكم لبعض عدو قال آدم الحمد للّه حيث لم يقل أنا لكم عدو والعدو هو المجاوز حده فى مكروه صاحبه { ولكم فى الارض مستقر } اى موضع قرار على وجها او فى القبور. ثم المستقر ثلاثة رحم الام قال تعالى { فمستقر ومستودع } اودع فى صلب الاب واستقر فى رحم الام والثانى الدنيا قال تعالى { ولكم فى الارض مستقر } والثالث العقبى اما فى الجنة قال تعالى { اصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } واما فى النار قال تعالى { انها ساءت مستقرا ومقاما } الآية { ومتاع } اى تمتع بالعيس وانتفاع به { الى حين } الى آخر اعماركم وهو حين الموت او الى القيامة. قال بعض العلماء فى قوله تعالى { الى حين } فائدة لآدم عليه السلام ليعلم إنه غير باق فيها ومنتقل الى الجنة التى وعد بالرجوع اليها وهى لغير آدم دالة على المعاد تلك الاودية لما معه من ريح الجنة وكان السحاب يمسح رأسه فاصلع فاورث اولاد الصلع ووقعت حواء بجدة وبينهما سبعمائة فرسخ والطاووس بمرج الهند والحية بسجستان او باصفهان وابليس بسد يأجود ومأجود وسجستان اكثر بلاد اللّه حيات ولولا العربد تأكلها وتفنى كثير منه لاخليت سجستان من اجل الحيات وكانوا فى احسن حال فابتلى آدم بالحرث والكسب وحواء بالحيض والحبل والطلق ونقصان العقل والميراث وجعل اللّه قوائم الحية فى جوفها وجعل قوتها التراب وقبح رجلى الطاووس وجعل ابليس باقبح صورة وافضح حالة وكان مكث آدم وحواء فى الجنة من وقت الظهر الى وقت العصر من يوم من ايام الآخرة وكل يوم من ايامها كالف سنة من ايام الدنيا. يذكر ان الحية كانت خادم آدم عليه السلام فى الجنة فخانته بان مكنت عدوه من نفسها وظهرت العداوة له هناك فلما اهبطوا تأكدت العداوة فقيل لها انت عدو بنى آدم وهم اعداؤك وحيث لقيك منهم احد شدخ رأسك قال عليه السلام ( اقتلوا الحيات واقتلوا ذات الطفيتين والابتر فانهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل ) فخصهما بالذكر مع انهما داخلان فى العموم ونبه على ذلك لسبب عظيم ضررهما وما لم يتحقق ضرره فما كان منها فى غير البيوت قتل ايضا لظاهر الامر العام وما كان فى البيوت لا يقتل حتى يؤذن لثلاثة ايام لقوله صلى اللّه عليه وسلم ( ان بالمدينة جنا قد اسملوا فاذا رأيتم منها شيأ فآذنوه ثلاثة ايام ) قال ابن الملك فى شرح المشارق والجن لكونه جسما لطيفا يتشكل بشكل الحيات والجان من الحيات التى نهى عن قتلها وهى حية بيضاء صغيرة تمشى ولا تلتوى. والصحيح ان النهى عن قتل الحيات ليس مختصا بالمدينة بل ينهى عن قتل حيات البيويت فى جميع البلاد لان اللّه تعالى قال { واذا صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } الآية والابتر وذات الطفيتين تقتلان من غير ايذان سواء كانتا من حيات المدينة ام لا واذا رأى احد شيأ من الحيات فى المساكن يقول انشدكم بالعهد الذى اخذه عليكم نوح عليه السلام وانشدكم بالعهد الذى اخذه عليكم سليمان عليه السلام ان لا تؤذونا فاذا رأى منها شيأ بعد فليقتله ومن خاف من مضرة الحية والعقرب فليقرأ { سلام على نوح فى العالمين انا كذلك نجزى المحسنين } فانه يسلم باذن اللّه تعالى. واعلم ان ما كان من الحيوان اصله الاذية فانه يقتل ابتداء لاجل اذيته من غير خلاف كالحية والعقرب والفار والوزغ وشبهها. وفى حواشى الخبازى على الهداية قتل الحيوان اما لدفع المضرة او لجلب المنفعة. قال الفقير جامع هذه المجالس الانيقة يدخل فيها قتل نحلة العسل ودود القز ونحوهما اذا لم يمكن جلب منفتها بدون القتل فالحية ابدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بان ادخلت ابليس بين فكيها ولو كان تنذره ما تركها تدخل به وقال ابليس انت فى ذمتى فامر صلى اللّه عليه وسلم بقتلها وقال ( اقتلوها وان كنتم فى الصلاة ) يعنى الحية والعقرب. والوزغة نفخت على نار ابراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلغت وفى الحديث ( من قتل وزغة فكانما قتل كافرا ) والوزغة من ذوات السموم وتفسد الطعام خصوصا الملح واذا لم تجد طريقا الى افساده ارتقت السقف وألقت خرءها فيه من موضع يحاذيه فجبلتها على الخبث والافساد. والفارة ابدت جوهرها بان عمدت الى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها. والغراب ابدى جوهره حيث بعثه نبى اللّه نوح عليه السلم من السفينة ليأتيه بخبر الارض فاقبل على جيفة ونزل وكذا الحدأة والسبع العادى والكلب العقول كله فى معنى الحية والامر بقتل المضر من باب الارشاد الى دفع المضرة قال السعدى قدس سره سنك بردست ومار بر سر سنك ... خيره رأيى بود قياس ودرنك وقال ايضا تر حم بر بلنك تيز دندان ... ستمكارى بود بر كو سفندان وفى التأويلات النجمية انه لما ساتقرت حبة المحبة كالبذر فى قلب آدم جعل اللّه شخص آدم مستقر قلبه وجعل الارض مستقر شخصه وقال { ولكم فى الارض مستقر ومتاع الى حين } اى التمتع والانتفاع لبذر المبحة بماء الطاعة والعبودية الى حين ادراك ثمرة المعرفة كقوله تعالى { تؤتى اكلها كل حين باذن ربها } وعلى التحقيق ما كانت ثمرة شجرة المخلوقات الا المعرفة لقوله تعالى { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } اى ليعرفون وثمرة المعرفة وان ظهرت على اغصان العبادة ولكن لا تنبت الا من حبة المحبة كما اخبر النبى عليه السلام ( أن داود عليه السلام قال يا رب لماذا خلقت الخلق قال كنت كنزا مخفيا فاحببت ان اعرف فخلقت الخلق لاعرف ) فثبت ان بذر المعرفة هو المحبة : قال فى المثنوى. أفتاب معرفت را نقل نيست ... مشرق او غير جان وعقل نيست ٣٧ { فتلقى آدم كلمات ربه } الفاء للدلالة على ان التوبة حصلت عقيب الامر بالهبوط قبل تحقق المأمور به ومن ثمة قال القرطبى ان آدم تاب ثم هبط واليه الاشارة بقوله تعالى اهبطوا ثانيا ومنه يعرف ان الامر بالهبوط ليس للاستخفاف ومشوبا بنوع سخط اذ لا سخط بعد التوبة فآدم اهبط بعد ان تاب اللّه عليه ومعنى تلقى الكلمات استقبالها بالاخذ والقبول والعمل بها حين علمها فان قلت ما هن قلت قوله تعالى { ربنا ظلمنا انفسنا } الآية : قال الحافظ. زاهد غرور داشت سلامت نبردراه ... رندا زره نياز بدار السلام رفت وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه ان احب الكلام الى اللّه تعالى ما قال ابونا آدم حين اقترف الخطيئة سبحانه اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا اله الا انت ظلمت نفى فاغفر لى انه لا يغفر الذنوب الا انت. وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( ان آدم قال بحق محمد ان تغفر لى قال وكيف عرفت محمدا قال لما خلقتنى ونفخت فى الروح فتحت عينى فرأيت على ساق العرش لا اللّه الا اللّه محمد رسول اللّه فعلمت انه اكرم الخلق عليك حتى قرنت اسمه باسمك فقال نعم وغفر له بشفاعته ) او الكلمات هى قول آدم عند هبوطه من الجنه يا رب ألم تخلقنى بيدك من غير واسطة قال بلى قال يا رب ألم تسكنى جنتك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال يا ربا أرأيت ان اصلحت ورجعت وتبت اراجعى انت الى الجنة قال نعم فالكلمات هى العهود الانساينة والمواثيق الآدمية والمناجاة الربانية من الخليفة الى حضرة الحق تعالى فتاب آدم على اللّه بالرجوع عن المعصية والاعتراف بذنبه والاعتذار لخطاه وسهوه { فتاب عليه } اى فرجع الرب عليه بالرحمة وقبول التوبة واصل التوب الرجوع فاذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية الى الطاعة واذا وصف به البارى تعالى اريد به الرجوع عن العقوبة الى المغفرة والفاء للدلالة على ترتبه على تلقى الكلمات المتضمن لمعنى التوبة. وتمام التوبة من العبد بالندم على ما كان وبترك الذنب الآن وبالعزم على ان لا يعود اليه فى مستأنف الزمان وبرد مظالم العباد وبارضاء الخصم بايصال حقه اليه باليد والاعتذار منه باللسان واكتفى بذكر آدم عليه السلام لان حواء كانت تابعة له فى الحكم ولذلك طوى ذكر النساء فى اكثر القرآن والسنن { انه هو التواب } الرجاع على عباده بالمغفرة او الذى يكثر اعانتهم على التوبة { الرحيم } المبالغ فى الرحمة وفى الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالاحسان مع العفو والغفران والجملة تعليل لقوله تعالى { فتاب عليه } قال فى المثنوى. مركب توبه عجائب مر كبست ... بر فلك تازد بيك لحظه زبست جون برارند از بشمانى حنين ... عرض لرزد ازانين المذنبين قال ابن عباس رض. وقال شهر بن حوشب بلغنى ان آدم لما هبط الى الارض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من اللّه تعالى قالوا لو أن دموع اهل الارض جمعت لكانت دموع داود اكثر حيث اصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع اهل الارض جمعت لكانت دموع آدم اكثر حيث اخرجه اللّه من الجنة قال فى المثنوى. جون خدا خواهد كه مان يارى كند ... ميل مارا جانب زارى كند اى خنك جشمى كه آن كريان اوست ... وى همايون دل كه آن بريان اوست آخر هر كريه آخر خنده ايست ... مرد آخر بين مبارك بنده ايست ابش جون دولاب نالان جشم تر ... تا زصحن جان بر رويد خضر فاذا كان حال من اقترف خطيئة دون صغيرة هذا فكيف حال من انغمس فى بحر العصيان والتوبة بمنزلة الصابون فكما ان الصابون يزيل الاوساخ الظاهرة فكذا التوبة تزيل الاوساخ الباطنة والعبد اذا رجع عن السيئة واصلح عمله اصلح اللّه شأنه واعاد عليه نعمته الفائتة. عن ابن ادهم بلغنى ان رجلا من بنى اسرائيل ذبح عجلا بين يديى امه فيبست يده فبينما هو جالس اذ سقط فرح من وكره وهو بتبصبص فاذخه ورده الى وكره فرحمه اللّه لذلك ورد عليه يده بما صنع ولا ريب أن العمل الصالح يمحو الخطيآت وفى التأويلات النجمية ان اول نبت انبتته امطار الالهامات الربانية من حبة المحبة فى قلب آدم وطينة الانسانية كان نبات { ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } لانه ابصر بنور الايمان انه ظالم لنفسه اذا أكل حبة المحبة ووقع فى شبكة المحنة والمذلة وان لم يعنه ربه بمغفرته ويقه برحمته لم يتخلص من حضيض بشريته الذى اهبط اليه ويخسر رأس مال استعداد السادة الازلية ولم يمكنه الرجوع الى ذروة مقام القربة فاستغاث الى ربه وقال ربنا مضطرا وكانت الحكمة فى ابعاده بالهبوط هذا الاضطرار والدعاء فانه يجب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء فبسابقه العناية اخذ بيده وافاض عليه سجال رحمته { فتاب عليه انه هو التواب الرحيم } للتائبين فاخرج من نبات الكلمات شجرة الاجتباء واظهر على دوحتها زهرة التوبة وأثمر منها ثمرة الهداية وهى المعرفة كما قال { ثم اجتبيه ربه فتاب عليه وهدى. } ٣٨ { قلنا } استئناف مبنى على سؤال ينسحب عليه الكلام كانه قيل فما ذا وقع بعد قبول توبته فقيل قلنا { اهبطوا منها } اى من الجنة { جميعا } نصب على الحال من ضمير الجمع تأكيد فى المعنى للجماعة من آدم وحواء وابليس والحية والطاووس كأنه قيل اهبطوا انتم اجمعون ولذلك لا يستدعى اجتماعهم على الهبوط فى زمان واحد وكرر الامر بالهبوط ايذانا تبحتم مقتضاه وتحققه لا محالة ودفعا لما عسى يقع فى امنتيه عليه السلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك ولان الاول دل على ان هبوطهم الى دار بلية يتعادون فيها ولا يخدلون والثانى اشعر بانهم اهبطوا للتكليف فاختلف المقصود وكان يصح لو قرن المعنيان بذكر الهبوط مرة لكن اعترض بينهما كلام وهو تلقيه الكلمات ونيله قبول التوبة فاعاد الاول ليتصل المعنى الثانى به وهو الابتلاء بالعبادة والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال فى الارشاد والثانى مقرون بوعد ايتاء الهدى المؤدى الى النجاة والنجاح وما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصدا اوليا بل انما هو دائر على سوء اختيار المكلفين. ثم ان فى الآية دليلا على ان المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لان آدم قد اخرج من الجنة بمعصية واحدة وهذا كما قال القائل. اذا تم امر دنا نقصه ... توقع زولا اذا قيل تم اذا كنت فى نعمة فارعها ... فان المعاصى تزيل النعم قال اللّه تعالى { ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } { فاما يأتينكم منى } اى ان يأتينكم والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الامر به { هدى } اى رشد وبيان شريعة برسول ابعثه اليكم وكتاب انزله عليكم والخطاب فى قوله يأتينكم لآدم والمراد ذريته وابليس وذريته لم يأتهم كتاب ولا رسول ولا يكون منهم اتباع وجواب الشرط هو الشرط الثانى مع جوابه وهو قوله تعالى { فمن اتبع هدى } اى اقتدى بشريعتى وكرر لفظ الهدى ولم يضمر بان يقال فمن تبعه لانه اراد بالثانى اعم من الاول وهوما اتى به الرسل من الاعتقاديات والعمليات واقتضاه العقل اى فمن تبع ما أتاء من قبل الشرع مراعيا فيه ما يشهد به العقل من الادلة الآفاقية والانفسية { فلا خوف عليهم } فى الدارين من لحوق مكروه { ولا هم يحزنون } من فوات مطلوب فالخوف على المتوقع والحزن على الواقع اى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا انه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن اصلا بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال اللّه وهيبته واستقصارا للجد والسعى فى اقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين. ٣٩ { والذين كفرو } عطف على من تبع الخ قسيم له كانه قيل ومن لم يتبعه الخ وانما اوثر عليه ما ذكر تفظيعا لحال الضلالة واظهارا لكمال قبحها وايراد الموصول بصيغة الجمع للاشعار بكثرة الكفرة اى والذين كفروا برسلنا المرسلة اليهم { وكذبوا بآياتنا } المنزلة عليهم او كفروا بالآيات جنانا وكذبوا بها لسانا { اولئك } اشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة من الكفر والتكذيب { اصحاب النار } ملازموها ولمابسوها بحيث لا يفارقونها. وفى الصحبة معنى الوصلة فسموا اصحابها لاتصالهم بها وبقائهم فيها فكأنهم ملكوها فصاروا اصحابها { هم فيها } اى فى النار { خالدون } دائمون والجملة فى حيز النصب على الحالية ففى هايتن الآيتين دلالة على ان الجنة فى جهة عالية دل عليه قوله تعالى { اهبطوا منها } وان متبع الهدى مأمون العاقبة لقوله تعالى { فلا خوف } الخ وان عذاب النار دائم والكافر فيه مخلد وان غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى { هم فيها خالدون } فانه يفيد الحصر. واعلم ان الشرف فى اتباع الهدى كما قيل سك اسحاب كهف روزى جند ... بى نيكان كرفت مردم شد فالمؤمن بين ان يطيع اللّه فيثيبه بالنعيم وبين ان يعصيه فيعاقبه بالجحيم ومن العجب ان الجمادات وغير المكلفين من العباد يخافون عذاب اللّه ويقومون بحقوق اللّه ولا يخافه المكلفون كما روى عن مالك بن دينار رحمه اللّه انه مر يوما على صبى وهو يلعب بالتراب يضحك تارة ويبكى اخرى قال فهممت ان اسلم عيله فامتنعت نفسى تكبرا فقلت يا نفس كان النبى صلى اللّه عليه وسلم يسلم على الصغار والكبار فسلمت عليه فقال وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته يا مالك ابن دينار فقلت من اين عرفتنى ولم تكن رأيتنى فقال حيث التقت روحى بروحك فى عالم الملكوت عرف بينى وبينك الحى الذى لا يموت فقلت ما الفرق بين العقل والنفس قال نفسك التى منعتك عن السلام وعقلك الذى بعثك عليه فقلت ما بالك تلعب بهذا التراب فقال لانا منه خلقنا واليه نعود فقلت اراك تضحك تارة وتبكى اخرى قال نعم اذا ذكرت عذاب ربى بكيت واذا ذكرت رحمته ضحكت فقلت يا ولدى اى ذنب لك حتى تبكى فقال يا مالك لا تقل هذا فانى رأيت امى لا توقد الحطب الكبار الا ومعه الحطب الصغار : قال فى المثنوى طفل يك روزه همى داند طريق ... كه بكيرم تارسد دايه شفيق تو نمى دانى كه دايه دايكان ... كم دهد بى كريه شير او رايكان كفت فليبكوا كثيرا كوش دار ... تار بريزد شير فضل كردكار والاشارة فى تحقيق الآيتين ان اللّه تعالى لما ابتلى آدم بالهبوط الى الارض بشره بان الهامه وويحه لا ينقطع عنه ولا ينقطع عن ذريته هداه بواسطة انبيائه ووحيه وانزال كتبه فاما يأتينكم منى هدى فمن اناه منهم هدى من الهامى ووحيى ورسولى وكتابى فمن تبع هدى كما تبعه آدم بالتوبة والنوح والبكاء والاستغفار وتربية بذر المحبة بالطاعة والعبودية حتى تثمر التوحيد والمعرفة فلا خوف عليهم فى المستقبل من وبال افساد بذر المحبة من طينة الصفات الحيوانية والسبعية وابطال استعداد السعادة الابدية باستيفاء التمتعات الدنيوية ولا هم يحزنون على هبوطهم الى الارض لترية بذر المحبة اذهم رجعوا بتبع الهداية وجذبات العناية الى اعلى ذروة حظائر القدس كما قال تعالى { وان الى ربك الرجعى } ثم ذكر من كفر بهداه وجعل النار مثواه فقال { والذين كفروا } اى ستروا بذر المحبة بتعلقات الشهوات النفسانية وظلموا على انفسهم بتكذيب الآيات البينات من الجهالة الانسانية حتى افسدوا الاستعداد الفطرى وكذبوا بآياتنا اى معجزات انبيائنا وكتبنا وما انزلنا على الانبياء بالوحى والالهام والرشد فى تربية بذر المبحة وتثمير الشجرة الانسانية بثمار التوحيد والمعرفة والبلوغ الى درجات القربات ونعيم الجنات والغرفات اولئك اصحاب نار جهنم ونار القطيعة { هم فيها خالدون } لانهم خلدوا فى ارض الطبيعة واتبعوا اهواءهم فما نبت بذر محبتهم بماء الشريعة فبقوا بافساد استعدادهم فى دركات الجحيم وخسران النعيم خالدين مخلدين ٤٠ { يا بنى اسرائيل } البنون اسم للذكور والاناث اذا اجتمعوا واسرائيل اسم يعقوب عليه السلام ومعناه عبد اللّه لان اسرا بلغة العبرانية وهى لغة اليهود بمعنى العبد وايل هو اللّه اى يا اولاد يعقوب والخطاب لليهود المعاصرين للنبى صلى اللّه عليه وسلم الذين كانوا حوالى المدينة من بنى قريظة والنضير وكانوا من اولاد يعقوب وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما انهم اوفر الناس نعمة واكثرهم كفرا بها { اذكروا نعمى } الذكر بضم الذال بالقلب خاصة بمعنى الحفظ الذى يضاد النسيان والذكر بكسر الذال يقع على الذكر باللسان والذكر بالقلب يكون امرا بشكر النعمة باللسان وحفظها بالجنان اى احفظوا بالجنان واشكروا باللسان نعمتى لان النعمة اسم جنس بمعنى الجمع قال تعالى { وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها } { والتى انعمت } بها { عليكم } وفيه اشعار بانهم قد نسوها بالكلية ولم يخطروها بالبال لا انهم اهملوا شكرها فقط وتقييد النعمة بكونها عليهم لان الانسان غيور حسود بالطبع فاذا نظر الى ما انعم اللّه على غيره حمله الغيرة والحسد على الكفران والسخط ولذا قيل لا تنظر الى من هو فوقك فى الدنيا لئلا تزدرى بنعمة اللّه عليك فان من نظر الى ما انعم اللّه به عليه حمله حب النعمة على الرضى والشكر. قال ارباب المعانى ربط سبحانه وتعالى بنى اسرائيل بذكر النعمة واسقطه عن امة محمد صلى اللّه عليه وسلم ودعاهم الى ذكره فقال { اذكرونى اذكركم } ليكون نظر الامم من النعمة الى المنعم ونظر امة محمد من المنعم الى النعمة والنعمة ما لم يحجبك عن المنعم { واوفوا } اتموا ولا تتركوا { بِعَهْدِى } الذى قبلتم يوم الميثاق وهو عام فى جميع اوامره من الايمان والطاعة ونواهيه ووصاياه فيدخل فى ذلك ما عهده تعالى اليهم في التوراة من اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم والعهد حفظ الشئ ومراعاته حالا فحالا والمراد منه الموثق والوصية والعهد هنا مضاف الى الفاعل { اوف بعهدكم } اتمم جزاءكم بحسن الاثابة والقبول ودخول الجنة والعهد يضاف الى المعاهد والمعاهد وهو هنا مضاف الى المفعول فان اللّه عهد اليهم بالايمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وارسال الرسل وانزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم واول مراتب الوفاء منا هو الاتيان بكلمتى الشهادة ومن اللّه حقن المال والدم وآخرها منا الاستغراق فى بحر التوحيد بحيث تغفل عن انفسنا فضلا عن غيرنا ومن اللّه الفوز باللقاء الدائم كما قال القشيرى { اوفوا بعهدى } فى دار الحجبة { اوف بعهدكم } فى دار القربة على بساط الوصلة بادامة الانس والرؤية واوفوا بعهدى بقولكم ابدا ربى ربى اوف بعهدكم بجوابكم ابدا عبدى عبدى { اياى } نصب بمحذوف تقديره واياى ارهبوا { فرهبون } فيما تأتون وتذرون وخصوصا فى نقض العهد لا بارهبون لان ارهبون قد أخذ مفعوله والاصل ارهبونىلكن حذفت الياء تخفيفا لموافقة رؤس الآى والفاء الجزائية دالة على تضمن الكلام معنى الشرط كانه قيل ان كنتم راهبين شيأ فارهبون والرهبة خوف معه تحرز والآية متضمنة للوعد لقوله { اوف } والوعيد لقوله { واياى فارهبون } دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وان المؤمن ينبغى ان لا يخاف احدا الا اللّه للحصر المستفاد من تقديم اياى. ٤١ { وامنوا } يا بنى اسرائيل { بما انزلت } افراد الايمان بالقرآن بالامر به بعد اندراجه تحت العهد لما انه العمدة القصوى فى شأن الوفاء بالعهد اى صدقوا بهذا القرآن الذى انزلته على محمد { مصدقا لما معكم } اى حال كون القرآن مصدقا للتوراة لانه نازل حسبما نعت فيها وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال بالامر فان ايمانهم بما معهم مما يقتضى الايمان بما يصدقه قطعا { ولا تكونوا اول } فريق { كافر به } اى بالقرآن فان وزر المقتدى يكون على المبتدى كما يكون على المقتدى : قال فى المثنوى هر كه بنهد سنت بد اى فتا ... تادر افتد بعد او خلق ازعما جمع كردد بروى آن جمله بزه ... كوسرى بودست وايشان دم غزه اى لا تسارعوا الى الكفر به فان وظيفتكم ان تكونوا اول من آمن به لما انكم تعرفون شأنه وحقيقته بطريقة التلقى مما معكم من الكتب الالهية كما تعرفون ابنائكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون بزمانه فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم ويجب عليكم ما لا يتوهم صدوره عنكم من كونكم اول كافر به. ودلت الآية على انه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة فكذبه يهود المدينة ثم بنوا قريظة وبنوا النضير ثم خيبر ثم تتابعت على ذلك سائر اليهود { ولا تشتروا بآيتى } اى لا تأخذوا لانفسكم بدلا منها { ثمنا قيليلا } هى الحظوظ الدنيوية فانها وان جلت قليلة مسترذلة بالنسبة الى ما فات عنهم من حظوظ الآخرة بترك الايمان. قيل كانت عامتهم يعطون احبارهم من زروعهم وثمارهم ويهدون اليهم الهداية ويعطونهم الرشى على تحريفهم الكلم وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع وكان ملوكهم يجرون عليهم الاموال ليكتموا ويحرفوا فلما كان لهم رياسة عندهم ومآكل منهم خافوا ان يذهب ذلك منهم اى من الاحبار لو آمنوا بمحمد واتبعوه وهم عارفون صفته وصدقه فلم يزالوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويغيرون نعت محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم كما حكى ان كعب بن الاشرف قال لاحبار اليهود ما تقولون فى محمد قالوا انه نبى قال لهم كان لكم عندى صلة وعطية لو قلتم غير هذا قالوا اجبناك من غير تفكر فامهلنا نتفكر وننظر فى التوراة فخرجوا وبدلوا نعت المصطفى بنعت الدجال ثم رجعوا وقالوا ذلك فاعطى كل واحد منهم صاعا من شعير واربعة اذرع من الكرباس فهو القليل الذى ذكره اللّه فى هذه الآية الكريمة : قال فى المثنوى برد در انجيل نام مصطفا ... آن سر بيغمبران بحر صفا بود ذكر حليها وشكل او ... بود ذكر غزو وصوم واكل او { واياى فتقون } بالايمان واتباع الحق والاعراض عن حطام الدنيا واعاده لان معنى الاول اخشوا فى نقض العهد وهذا معناه فى كتمان نعت محمد او لان الخطاب بالآية الاولى لما خص اهل العلم امرهم بالتقوى الذى هو منتهاه ٤٢ { ولا تلبسوا الحق بالباطل } عطف على ما قبله واللبس بالفتح الخلط اى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذى تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما اولا تجعلوا الحق المنزل بالباطل الذى تخترعونه وتكتبونه حتى لا يميز بينهما اولا تجعلون الحق ملتبسا بسبب خلط الباطل الذى تكتبونه فى خلاله او تذكرونه فى تأويله { و } لا { تكتموا الحق } باضمار لا او نصب باضمار ان على ان الواو للجمع اى لاتجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه فقوله ولا تلبسوا الحق بالباطل هو نهى عن التغيير وقوله وتكتموا الحق هو نهى عن الكتمان { وانتم تعلمون } اى حال كونكم عالمين بانكم لابسون كاتمون او وانتم تعلمون انه حق نبى مرسل وليس ايراد الحال لتقييد المنتهى به بل لزيادة تقبيح حالهم اذ الجاهل قد يعذر. وفى التيسير يجوز صرف الخطاب الى المسلمين والى كل صنف منهم وبيانه ايها السلاطين لا تخلطوا العدل بالجور وايها القضاة لا تخلطوا الحكم بالرشوة وكذا كل فريق. فهذه الآية وان كانت خاصة ببنى اسرائيل فهى تتناول من فعل فعلهم فمن اخذ رشوة على تغيير حق وابطاله او امتنع من تعليم ما وجب عليه او اداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه اجرا فقد دخل فى مقتضى الآية قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( من تعلم علما لا يبتغى به وجه اللّه لا يتعلمه الا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) اى ريحها فمن رهب وصاحب التقوى لا يأخذ على علمه عوضا ولا على وصيته ونصيحته صفدا بل يبين الحق ويصدع به ولا يلحقه فى ذلك خوف ولا فزع قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( لا يمنعن احدكم هيبة احد ان يقول او يقوم بالحق حيث كان ) وفى التنزيل { يجاهدون فى سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم } - حكى - ان سليمان بن عبد الملك مر بالمدينة وهو يريد مكة فاقام بها اياما فقال له بالمدينة احد أدرك احدا من اصحاب النبى صلى اللّه عليه وسلم قالوا له ابو حازم فارسل اليه فلما دخل عليه قال له يا ابا حازم ما هذا الجفاء قال له ابو حازم يا امير المؤمنين واى جفاء رأيت منى قال اتانى وجوه اهل المدينة ولم تأتنى قال يا امير المؤمنين اعيذك باللّه ان تقول ما لم يكن ما عرفتنى قبل هذا اليوم ولا انار رأيتك قال فالتفت الى محمد بن شهاب الزهرى فقال اصاب الشيخ واخطأت قال سليمان يا ابا حازم مالنا نكرة الموت فقال لانكم خربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم ان تنقلوا من العمران الى الخراب قال اصبت يا ابا حازم فكيف القدوم غدا على اللّه تعالى قال اما المحسن فكالغائب يقدم على اهله واما المسيئ فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعرى ما لنا عند اللّه قال اعرض عملك على كتاب اللّه قال واى مكان اجده قال { ان الابرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم } قال سليمان فاين رحمة اللّه يا ابا حازم قال { ان رحمة اللّه قريب من المحسنين } قال له سليمان يا ابا حازم فاى عباد اللّه اكرم قال اولوا المروة والنهى قال له سليمان فاى الاعمال افضل قال اداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال سليمان فاى الدعاء اسمع قال دعاء المحسن اليه للمحسن فقال اى الصدقة افضل قال على السائل البائس وجهد المقل ليس فيها من ولا اذى قال فأى القول اعدل قال قول الحق عند من تخافه او ترجوه قال فأى المؤمنين اكيس قال رجل عمل بطاعة اللّه ودل الناس عليها قال فأى المؤمنين احمق قال رجل انحط فى هوى اخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال سليمان اصبت فما تقول فيما نحن فيه قال يا امير المؤمنين اعفنى قال له سليمان لا ولكن نصيحة تلقيها الى قال يا امير المؤمنين ان آباءك قهروا الناس بالسيف واخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولارضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم فقال رجل من جلسائه بئس ما قلت يا ابا حازم قال ابو حازم كذبت ان اللّه اخذ ميثاق العلماء لتبينه للناس ولا تكتمونه قال سليمان فكيف لنا ان نصلح قال تدعون الصلف وتتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان كيف لنا بالمأخذ قال تأخذه من حله وتضعه فى اهله قال له سليمان هل لك يا ابا حازم ان تصحبنا ونصيب منك قال اعوذ باللّه قال ولم ذاك قال اخشى ان اركن اليكم شيأ قليلا فيذيقنى اللّه ضعف الحياة وضعف الممات قال له ارفع الينا حواثجك قال تنجينى من النار وتدخلنى الجنة قال له سليمان ليس ذاك الى قال ابو حازم فما لى ليك حاجة غيرها قال فادع لى قال ابو حازم اللّهم ان كان سليمان وليك فيسره لخيرى الدنيا والآخرة وان كان عدوك فخذ بناصيته الى ما تحب وترضى قال له سليمان عظنى قال ابو حازم قد اوجزت واكثرت ان كنت من اهله وان لم تكن من اهله فما ينبغى ان ارمى عن قويس ليس لها وتر قال له سليمان اوص قال سأوصيك واوجز عظم ربك ونزهه ان يراك حيث نهاك او يفقدك من حيث امرك فلما خرج من عنده بعث اليه بمائة دينار وكتب أن انفقها ولك عندى مثلها قال فردها عليه وكتب اليه يا امير المؤمنين اعيذك باللّه ان يكون سؤالك ايى هزلا اوردى عليك بذلا ما ارضاها لك فكيف لنفسى ان موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عيله رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسقى لهما فقالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وابونا شيخ كبير فسقى لهما فلما تولى الى الظل قال رب انى لما انزلت الى من خير فقير وذلك انه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا الى ابيهما اخبرتاه بالقصة وبقوله فقال ابوهما وهو شعيب عليه السلام هذا رجل جائع قال لاحداهما اذهبى فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت ان ابى يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت اجر ما سقيت لنا فلم يجد بدا من ان يتبعها لانه كان بين الجبال جائعا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تسفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجزها وكانت ذات عجز وجعل موسى يعرض مرة ويغض اخرى فلما عيل صبره ناداها يا امة اللّه كونى خلفى وارينى بقولك فلما دخل على شعيب اذا هو بالعشاء مهيئا فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعش فقال له موسى اعوذ باللّه فقال شعيب لم أما انت جائع قال بلى ولكنى اخاف ان يكون هذا عوضا لما سقبت لهما وانا من اهل بيت لا نبيع شيأ من ديننا بملئ الارض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب ولكنها عادتى وعادة آبائى نقرى الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فاكل فان كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت ونصحت فالميتة والدم ولحم الخنزير فى حال الاضطرار احل من هذه وان كانت لحق لى فى بيت المال فلى فيها نظراء. وقد اختلف العلماء فى اخذ الاجر على تعليم القرآن والعلم لهذه الآية { ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا } والفتوى فى هذا الزمان على جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه وغيره لئلا يضيع قال صلى اللّه عليه وسلم ( ان احق ما اخذتم عيله اجرا كتاب اللّه ) والآية فى حق من تعين عليه التعليم فابى حتى يأخذ عليه اجرا فاما اذا لم يتعين فيجوز له اخذ الاجرة بدليل السنة فى ذلك كما اذا كان الغسال فى موضع لا يوجد من يغسل الميت غيره كما فى القرى والنواحى فلا اجر له لتعينه لذلك واما اذا كان ثمة ناس غيره كما فى الامصار والمدن فله الاجر حيث لم يتعين عليه فلا يأثم بالترك وقد يتعين عليه الا انه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله ان يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الامام ان يعين له شيأ والا فعلى المسلمين لان الصديق رضى اللّه عنه لما ولى الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به اهله فاخذ ثيابا وخرج الى السوق فقيل له فى ذلك فقال ومن اين انفق على عيالى فردوه وفرضوا له كفايته وكذا يجوز للامام والمؤذن وامثالهما اخذ الاجرة وبيع المصحف ليس بيع القرآن بل هو بيع الورق وعمل ايدى الكاتب. وقالوا فى زماننا تغير الجواب فى بعض مسائل لتغير الزمان وخوف اندراس العلم والدين منها ملازمة العلماء ابواب السلاطين ومنها خروجهم الى القرى لطلب المعيشة ومنها اخذ الاجرة لتعليم القرآن والاذان والامامة ومنها العزل عن الحرة بغير اذنها ومنها اسلام على شربة الخمور ونحوها فافتى بالجواز فيها خشية الوقوع فيما هو اشد منها واضر كذلا فى نصاب الاحساب وغيره : قال فى المثنوى عاشقانرا شادمانى وغم اوست ... دست مزد واجرت خدمت هم اوست غير معشوق ازتماشايى بود ... عشق نبود هرزه سودايى بود عشق آن شعله است كوجون برفروخت ... هر كه جز معشوق باقى جمله سوخت ٤٣ { واقيموا الصلاة } خطاب لبنى اسرائيل اى اقبلوها واعتقدوا فرضيتها وأدوها بشرائطها وحدوها كصلاة المسلمين فان غيرها كلا صلاة { وآتوا الزكاة } كزكاة المؤمنين فان غيرها كلا زكاة. والزكاة من زكى الزرع اذا نما فان اخراجها يتسجلب بركة فى المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم او من الزكاء بمعنى الطهارة فانها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واعلم ان الكفار لا يخاطبون باداء ما يحتمل السقوط من العبادات كالصلاة والصوم ولا يعاقبون بتركها عند الحنفية فالتكليف عندهم راجع الى الاعتقاد والقبور { واركعوا مع الراكعين } اى فى جماعاتهم فان صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها مت تظاهر النفوس فان الصلاة كالغزو والمحراب كمحل الحرب ولا بد للقتال من صفوف الجماعة فالجماعة قوة قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ما اجتمع من المسلمين فى جماعة اربعون رجلا الا وفيهم رجل مغفور له ) فاللّه تعالى اكرم من ان يغفر له ويرد الباقى خائبين خاسرين. وانما فضلت صلاة الجماعة على الفذ بسبع وعشرين لان الجماعة مأخوذة من الجمع والجمع اقله ثلاثة وصلاة الانسان. قال القرطبى فى تفسيره وتجب على من أدمن التخلف عن الجماعة من غير عذر العقوبة. قال ابو سليمان الدارانى اقمت عشرين سنة لم احتمل فدخلت مكة فاحدثت بها حدثا فما اصبحت الا احتلمت وكان الحدث ان فاتته صلاة العشاء بجماعة. وفى الحديث ( ما افترض اللّه على خلقه بعد التوحيد فرضا احب اليه من الصلاة ولو كان شئ احب اليه من الصلاة لتعبد به ملائكته فمنهم راكع وساجد وقائم وقاعد ) وينبغى للمصلى ان يبالغ فى الحضور فكان السلف لو شغلهم ذكر مال يتضقدون به تكفيرا فالاصل عمل الباطن قال الى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه فلا بد من دفع الخواطر : قال فى المثنوى اول اى جان دفع شر موش كن ... وانكه اندر جمع كندم كوش كن بشنو از اخبار آن صدر صدور ... لا صلاة تم الا بالحضور قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى فى وصاياه للعارف الهدائى قدس اللّه سرهما اذا شرعت فى الصلاة لا تتفكر فى غير اظهار العبودية وتتميمها فانه اذا تم العبودية يحصل المقصود واما فى غير الصلاة فليكن فكرك ولامحظتك نفى نفسك واثبات وحدانيته تعالى فانه المقصود لتوحيد ولا شئ افضل من التوحيد ولذلك كان اول التكاليف فبعد قبول العبد التوحيد كلف بالصلاة ثم كلف بالصوم لان فيهما اصلاح الطبيعة وبعدهما بالزكاة وفيها اصلاح النفس بازالة شحها ثم بالحج وفيه نفع للطبيعة من جهة وللنفس من جهة بذل المال وقدم الثلاث الاول لعمومها للاغنياء والفقراء واما الاخير ان فالفقراء سالمون منهما ثم قال اذا كان بيت الاغنياء من الجواهر يكون بيت الفقراء من النور حتى يتمنوا ان يكونوا فقراء : قال فى المثنوى مكرها دركسب دنيا باردست ... مكرها در ترك دنيا واردست جيست دنيا ازخدا غافل شدن ... نى قماش ونقره فرزند وزن كوه سربسته اندر آب زفت ... از دل باباد فوق آب رفت باد درويشى جودر باطن بود ... بر سر آب جهان ساكن بود وفى التأويلات النجمية { واقيموا الصلوة } بمراقبة القلوب وملازمة الخصوع والخشوع { وآتوا الزكوة } اى بالغوا فى تزكية النفس عن الحرص على الامور الدنيوية والاخلاق الذميمة وتطهير القلب عن رؤية الاعمال السيئة وترك مطالبة ما سوى اللّه فانه مع طلب الحق وزيادة والزيادة على الكمال نقصان { واركعوا مع الراكعين } اى اقتدوا فى الانكسار ونفى الوجود بالمنكسرين الباذلين الوجود لنيل الموجود. ٤٤ { أتأمرون الناس } الخطاب لليهود والأمر القول لمن دونك والمراد بالناس سفلتهم { بالبر } أي الاعتراف بالنبي واتباع الأدلة وهو التوسع في الخير من البر الذي هو الفضاء الواسع والهمزة تقرير مع توبيخ وتعجيب { وتنسون أنفسكم } وتتركونها من البر كالمنسيات لان اصل السهو والنسيان الترك الا ان السهو يكون لما علمه الانسان ولما لم يعلمه والنسيان لما عزب بعد حضوره كانوا يقولون لفقرائهم الذين لا مطمع لهم فيهم بالسر آمنوا بمحمد فانه حق وكانوا يقولون للاغنياء ترى فيه بعض علامات نبي آخر الزمان دون بعض فانتظروا الاستيفاء لما ينالون منهم ويؤخرون امور انفسهم فلا يتبعونه في الحال مع عزيمتهم ان يتبعوه يوما وكذا حال من تمادى في العصيان وهو يقول اتوب عند الكبر والشيب وربما يفجأه الموت فيبقى في حسرة الفوت : قال الحافظ ديدى آن قهقهه كبك خرامان حافظ ... كه زسر نجه شاهين قضا غافل بود { وأنتم تتلون الكتاب } اى والحال انكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى اللّه تعالى عليه وسلم الآمرة بالايمان به { أفلا تعقلون } اي ليس لكم عقل تعرفون به انه قبيح منكم عدم اصلاح انفسكم والاشتغال بغيركم والعقل في الاصل المنع والامساك ومنه العقال الذي يشد به وظيف البعير الى ذراعيه لحبسه عن الحراك سمى به النور الروحانى الذى به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لانه يحبس عن تعاطى ما يقبح ويعقل على ما يحسن ومحله الدماغ لان الدماغ محل الحس وعند البعض محله القلب لان القلب معدن الحياة ومادة الحواس وعند البعض هو نور في بدن الآدمى ثم هذا التوبيخ ليس على امر الناس بالبر بل لشرك العمل به فمدار الانكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة وهى جملة تنسون انفسكم دون ما عطفت هي عليه وهي اتأمرون الناس بالبر ولا يستقيم قول من لا يجوز الامر بالمعروف لمن لا يعمل به لهذه الآية بل يجب العمل به ويجب الامر به وقد قال عليه السلام ( مروا بالمعروف وان لم تعملوا به وانهوا عن المنكر وان لم تنتهوا عنه ) وهذا لانه اذا امر به مع انه لا يعمل به فقد ترك واجبا واذا لم يأمر به قد ترك واجبين فالامر بالحسن حسن وان لم يعمل به ولكن قلما نفعت موعظة من لم يعظ نفسه ومن امر بخير فليكن اشد الناس مسارعة اليه ومن نهى عن شيء فليكن اشد الناس انتهاء عنه وهذه الآية كما ترى ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوء صنيعه وعدم تأثره وان فعله فعل الجاهل بالشرع او الاحمق الخالى عن العقل والمراد به حث الواعظ على تزكية النفس والاقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق وتقيم غيرها لامنع الفاسق من الوعظ فان الاخلال باحد الامرين المأمور بهما لا يوجب الاخلال بالآخر يروى انه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوى التصرف فى القلوب وكان كثيرا ما يموت من اهل مجلسه واحدا واثنان من شدة تأثير وعظه وكان في بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الانفال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوما على حين غفلة منها فوقع من امر اللّه تعالى ما وقع ثم ان العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت أتهدى الانام ولا تهتدى ... الا ان ذلك لا ينفع فيا حجر الشحذ حتى متى ... تسن الحديد ولا تقطع فلما سمعها الواعظ شهق شهقة فخر من فرسه مغشيا عليه فحملوه الى بيته فتوفى الى رحمة اللّه تعالى : قال الحافظ واعظان كين جلوه در محراب ومنبر ميكنند ... جون بخلوت ميروند آن كار ديكر ميكنند مشكلى دارم زدانشمند مجلس باز برس ... توبه فرمايان جراخود توبه كمتر ميكنند قال رسول اللّه تعالى عليه وسلم ( ليلة أسرى بى مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الخطباء من امتك يأمرون الناس بالبر وينسون انفسهم يجزون نصيبهم في نار جهنم فيقال لهم من انتم فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى انفسنا ) قال الاوزاعى شكت النواويس الى اللّه تعالى ما نجده من جيف الكفار فاوحى اللّه اليها بطون العلماء السوء أنتن مما انتم فيه وفي الحديث ( ما من عبد يخطب خطبة الا واللّه تعالى سائله عنها يوم القيامة مارادبها ) قال الشيخ افتاده افندى لو ان واعظا يرى نفسه خيرا من المستمعين يشكل الامر كذا اذا لم يكن من يصغى الى كلامه مساويا لمن يلطم على قفاه يشكل الامر فلذلك قال عليه السلام ( كم من واعظ يلعب به الشيطان ) اللّهم الا ان يقول ينتفع منى المسلمون وان كنت معذبا في النار فهو نوع فناء لكن يخالف ان يجد حظه في ضمنه وقال ايضا من كان يعظ الناس اما ان يعتقد انهم يعرفون ما يعرفه اويعتقد انهم لا يعرفون ما يعرفه فعلى الاول لا يحتاج الى وعظه وعلى الثانى قد اثبت لهم جهلا ولنفسه فضلا عليهم فهو محض كبر وبالجملة حيل النفس كثيرة لا تتيسر النجاة منها الا بمحض لطف اللّه تعالى وادنى الحال ان يلاحظ قوله عليه السلام ( ان اللّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاسق ) فما دام لم يصل السالك الى الحقيقة لا يتخلص من الورطة قال عليه الصلاة والسلام ( الناس كلهم سكارى الا العالمون ) الحديث والمخلصون على خطر عظيم وانما الامن للمخلص بالفتح وهو الواصل الى التوحيد الحقيقى الفانى عن القهر والكرم الخارج عن حد الوجود والعدم وهو الفناء الكلى وهم الذين اريدوا بقوله تعالى { ان عبادى ليس لك عليهم سلطان } ولا بد من رعاية الشريعة في جميع المراتب فان الكمال فيها والافهو ناقص ولذلك ان المجاذيب لايخلون عن النقصان ألايرى ان الانبياء عليهم السلام لم يسمع عن واحد منهم عروض السفه والجنون فالكامل في مرتبة الكمال يكون كامل العقل حتى يحس بصرير الباب في حال استغراقه اللّهم اوصلنا الى الكمال ٤٥ { واستعينوا } يا بنى اسرائيل على قضاء حوائجكم { بالصبر } اى بانتظار الظفر والفرج توكلا على اللّه تعالى او بالصوم الذى هو صبر عن المفطرات لمافيه من كسر الشهوة وتصفية النفس { والصلوة } اى التوسل بالصلاة والالتجاء اليها حتى تجابوا غلى تحصيل المآرب وجبر المصائب كانهم اى بنى اسرائيل لمامروا بماشق عليهم لما فيه من ترك الكلفة وترك الرياسة والاعراض عن المال عولجوا بذلك روى انه عليه السلام كان اذا حزبه امر فرع الى الصلاة وروى ان ابن عباس رضى اللّه عنهما نعى له بنت وهو في سفر فاسترجع وقال عورة سترها اللّه ومؤونة كفاها اللّه واجر ساقه اللّه ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف الى راحتله وهو يقرأ واستعينوا بالصبر والصلاة { وانها } اى الاستعانة بهما { لكبيرة } لثقيلة ساقه كقوله تعالى { كبر على المشركين ما تدعوهم اليه } { الا على الخاشعين } اى المخبتين الخائفين والخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب او الخشوع بالبصر والخضوع بسائر الاعضاء وانمالم يثقل عليهم لانهم يستغرقون في مناجاة ربهم فلا يدركون ما يجرى عليهم من المشاق والمتاعب لذلك قال صلى اللّه عليه وسلم ( وقرة عينى في الصلاة ) ان اشتغاله عليه السلام بالصلاة كان راحة له وكان يعد غيرها من الاعمال الدنيوية تعبا ٤٦ { الذين يظنون } اى يوقنون لان الظن يكون يقينا ويكون شكا فهو من الاضداد كالرجاء يكون امنا وخوفا كما في تفسير الكواشى { انهم ملاقوا ربهم } معاينوه وهو كناية عن شهود مشهد العرض والسؤال يوم القيامة وهو الوجه فيما يروى في الاخبار لقى اللّه وهو عليه غضبان وما يجرى مجراه وقيل اى يعلمون انهم يموتون قال النبى عليه الصلاة والسلام ( من احب لقاء اللّه احب اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه ) واراد به الموت { وانهم اليه راجعون } اى ويعلمون انهم راجعون يوم القيامة الى اللّه تعالى اى الى جزائه اياهم على اعمالهم وامالذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجون الثواب ولا يخافون العقاب كانت عليهم مشقة خالصة فتثقل عليهم كالمنافقين والمرائين فالصبر على الاذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من اخلاق الانبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ان لاتتمنى حالة سوى مارزقك اللّه والرضى بما قضى اللّه من امر ديناك وآخرتك وهو بمنزلة الرأس من الجسد : قال الحافظ كويندسنك لعل شود در مقام صبر ... آرى شود وليك بخون جكر شود ثم ان اللّه تعالى وصف جزاء الاعمال وجعل لها نهاية واحدا فقال { من جاء بالحسنة فله عشر امثالها } وجعل جزاء الصدقة في سبيل اللّه فوق هذا فقال { مثل الذين ينفقون اموالهم فى سبيل اللّه كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة } الآية وجعل اجر الصابرين بغير حساب ومدح اهله فقال { انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب } وقد وصف اللّه نفسه بالصبر كما في الحديث ( ليس شيء اصبر على اذى سمعه من اللّه تعالى انهم ليدعون له ولدا وانه ليعافيهم ويرزقهم ) ووصف اللّه بالصبر انما هو بمعنى الحلم وهو تأخير العقوبة عن المستحقين لها والفرق بين الحليم والصبور ان المذنب لايأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم وقيل فى الخشوع أتريد ان تكون اماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع باكل الخشن ولبس الخشن لكن الخشوع ان ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع للّه في كل فرض افترض عليك فمن اظهر خشوعا فوق ما في قلبه فانما اظهر نفاقا على نفاق قال سهل بن عبد اللّه لا تكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة ع لى جسدك وهذا هو الخشوع المحمود لان الخوف اذا سكن القلب اوجب خشوع الظاهر فلا يمك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك واما المذموم فتكلفه والتباكى ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والاجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الانسان وكان عمر رضى اللّه عنه اذا تكلم اسمع واذا مشى اسرع واذا ضرب اوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا كما في تفسير القرطبي وقال في التأويلات النجمية وقال فى التأويلات النجمية { واستعينوا بالصبر } عن شهوات النفس ومتابعة هواها { والصلوة } اى دوام الوقوف والتزام العكوف على باب الغيب وحضرة الرب { وانها } اى الاستعانة بهما { لكبيرة } امر عظيم وشأن صعب { الا على الخاشعين } وهم الذين تجلى الحق لاسرارهم فخشعت له انفسهم كما قال عليه الصلاة والسلام ( اذا تجلى اللّه لشىء خضع له ) وقال { وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا } فالتجلى يورث الالفة مع الحق ويسقط الكلفة عن الخلق { الذين يظنون } اى يوقنون بنور التجلى { انهم ملاقوا ربهم } انهم يشاهدون جمال الحق { وانهم اليه راجعون } بجذبات الحق التى كل جذبة منها توازى عمل الثقلين ٤٧ { يا بنى اسرائيل اذكروا } اشكروا { نعمتى التى انعمت } بها { عليكم } بانزال المن والسلوى وتظليل الغمام وتفجير الماء من الحجر وغيرها وذكر النعم على الآباء الزام الشكر على الابناء فانهم يشرفون بشرفهم ولذلك خاطبهم فقال تعالى فضلتكم ولم يقل فضلت آبائكم لان في فضل آبائهم فضلهم { و } اذكروا { انى فضلتكم على العالمين } من عطف الخاص على العام للتشريف اى فضلت آباءكم على عالمى زمانهم بما منحتهم من العلم والايمان والعمل الصلاح وجعلتهم انبياء وملوكا مقسطين وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل ان يغيروا وهذا كما قال في حق مريم { واصطفاك على نساء العالمين } اى نساء زمانك فان خديجة وعائشة وفاطمة افضل منها فلم يكن لهم فضل على امة محمد صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى في حقهم { كنتم خير امة اخرجت للناس } كما في التيسير * فالاستغراق في العالمين عرفى لا حقيقى قال بعضهم من آمن من اهل الكتاب بمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم كانت له فضيلة على غيره وكان له اجران اجر ايمانه بنبيه واجر اتباعه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقد روى عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ثلاثة يعطيهم اللّه الاجر مرتين من اشترى جارية فاحسن تأديبها فاعتقها وتزوجها وعبد اطاع سيده واطاع اللّه ورجل من اهل الكتاب ادرك النبى صلى اللّه عليه وسلم فآمن به ) قال القشيرى اشهد اللّه بنى اسرائيل فضل انفسهم فقال فضلتكم على العالمين واشهد محمدا صلى اللّه عليه وسلم فضل ربه فقال قل بفضل اللّه وبرحمته وشتان بين مشهوده فضل نفسه وبين من مشهوده فضل ربه وشهوده فضل نفسه قد يورث الاعجاب وشهوده فضل ربه يورث الايجاب ثم ان اليهود كانوا يقولون نحن من اولاد ابراهيم خليل الرحمن ومن اولاد اسحق ذبيح اللّه واللّه تعالى يقبل شفاعتهما فينا فرد اللّه عليهم فانزل هذه الآية وقال ٤٨ { واتقوا } اى واخشوا يا بنى اسرائيل { يوما } يوم القيامة اى حساب يوم او عذاب يوم فهو من ذكر المحل وارادة الحال { لا تجزى } اى لا تقتضى فيه ولا تؤدى ولا تغنى فالعائد محذوف والجملة صفة يوم { نفس } مؤمنة { عن نفس } كافرة { شيأ } ما من الحقوق التى لزمت عليها وهو نصب على المفعول به وايراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والاقناط الكلى قال تعالى { لن تنفعكم ارحامكم ولا اولادكم } وكيف تنفع وقد قال { يوم يفر المرء من اخيه } الآية : قال في المثنوى جون يفر المرء آيد من اخيه ... يهرب المولود يوما من ابيه زان شود هر دوست آن ساعت عدو ... كه بت توبود وازره مانع او وهذا في حق الكفار فاما المؤمن فقد استثناه فقال { يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم } اى خال عن الشرك { ولا يقبل منها } اى من النفس الاولى المؤمنة { شفاعة } ان شفعت للنفس الثانية الكافرة عند اللّه لتخليصها من عذابه والشفاعة مصدر الشافع والشفيع وهو طالب قضاء حاجة غيره مأخوذ من الشفع لانه يشفع نفسه بمن يشفع له في طلب مراده ولا شفاعة في حق الكافر بخلاف المؤمن قال النبي عليه السلام ( شفاعتى لاهل الكبائر من امتى ) فمن كذب بها لم ينلها والآيات الواردة في نفى الشفاعة خاصة بالكفار { ولا يؤخذ منها } اى من المشفوع لها وهى النفس الثانية العاصية { عدل } اى فداء من مال او رجل مكانها او توبة تنجو بها من النار والعدل بالفتح مثل الشىء من خلاف جنسه وبالكسر مثله من جنسه وسمى به الفدية لانها تساويه وتماثله وتجرى مجراه { ولا هم ينصرون } اى يمنعون من عذاب اللّه تعالى ومن ايدى المعذبين فلا نافع ولا شافع ولا دافع لهم والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفى من النفوس الكثيرة والتذكير لكونها عبارة عن العباد والاناسى والنصرة ههنا اخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر ثم هذه الآية في غاية البلاغة فانها جمعت ذكر الوجوه التى بها يتخلص المرء من النكبة التى اصابته في الدنيا وهى اربع ينوب عنه غيره في تحمل ما عليه او يفتدى بمال فيخلص منها او يشفع له شافع فيوهب له او ينصره ناصر فيمنعه فقطعها اللّه عنهم جميعا وعن عكرمة انه قال ان الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بنى انى اب لك في الدنيا وقد احتجت الى مثقال حبة من حسناتك لعلى انجو بها مما ترى فيقول له ولده انى اتخوف مثل الذي تخوفت انت فلا اطبيق ان اعطيك شيأ ثم يتعلق بزوجته فيقول لها فلانة انى زوج لك في الدنيا فتثنى عليه خيرا فيقول لها انى اطلب منك حسنة واحدة تهبينها لى لعلى انجو مما ترين فتقول لا اطيق ذلك انى تخوفت مثل الذي تخوفت منه فيقول اللّه { وان تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى } يعنى من اثقلته الذنوب لا يحمل احد من ذنبه شيأ : قال السعدى برفتند هر كس درود آنجه كشت ... نماند بجز نام نيكو وزشت بر آن خورد سعدى كه بينحى نشاند ... كسى بردخر من كه تخمى فشاند وفي التأويلات النجمية { يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمت عليكم } ظاهره عام وباطنه خاص مع قوم منهم قد علم اللّه فيهم خيرا فاسمعهم خطابه في لاسر فذكروا نعمته التى انعم بها عليهم وهى استعداد قبول رشاش نوره يوم خلق اللّه الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فآمنوا بمحمد عليه السلام من خاصية قبول ذلك الرشاش كما قال عليه السلام ( فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل ) { وانى فضتلكم على العالمين } اى بهذه النعمة اى فضلتكم مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بهذه النعمة عند رش النور على من لم يصبهم ذلك النور من العالمين { واتقوا يوما } اى عذاب يوم يخوف اللّه العام بافعاله كما قال واتقوا النار الخ ويخوف الخاص بصفاته كقوله { انا نعلم ما يسرون وما يعلنون } وقوله { ليسأل الصادقين عن صدقهم } ويخوف خاص الخاص بذاته ويحذركم اللّه نفسه وقوله { واتقوا اللّه حق تقاته } { لا تجزى نفس عن نفس شيأ } { والامر يومئذ للّه } { ولا يقبل منها شفاعة } في حق نفسها ولا فى حق غيرها بغير الاذن كقوله تعالى { من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه } { ولا يؤخذ منها عدل } اى فداء لانه { ليس للانسان الا ما سعى وان سعيه سوف يرى } والسعى المشكور ما يكون ههنا { ولا هم ينصرون } لانهم ما نصروا الحق ههنا وقد قال اللّه تعالى { ان تنصروا اللّه ينصركم } ٤٩ { واذ نجيناكم } خطاب لبنى اسرائيل اى اذكروا وقت تنجيتنا اياكم اى آباءكم فان تنجيتهم لا عقابهم ومن عادة العرب يقولون قتلنا كم يوم عكاظ اى قتل آباؤنا آباؤكم والنجو المكان العالى من الارض لان من صار اليه يخلص ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من ضيق الى سعة اى جعلنا آباءكم بمكان حريز ورفعناكم عن الاذى { من آل فرعون } واتباعه واهل دينه وفرعون لقب من ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك والنجاشى للحبشة وتبع لاهل اليمن والعمالقة الجبابرة وهم اولاد عمليق بن لاود بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام سكان الشام منهم سموا بالجبابرة وملوك مصر منهم سموا بالفراعنة ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل اذا عتا وتمرد فليس المراد الاستغراق بل الذين كانوا بمصر وفرعون موسى هو الوليد بن مصعب ابن الريان وكان من القبط وعمر اكثر من اربعمائة سنة وقيل انه كان عطارا اصفهانيا ركبته الديون فافلس فاضطر الى الخروج فلحق بالشام فلم يتيسر له المقام فدخل مصر فرأى في ظاهرها حملا من البطيخ بدرهم وفي سوقها بطيخة بدرهم فقال في نفسه ان تيسر لى اداء الديون فهذا طريقه فخرج الى السواد فاشترى حملا بدرهم فتوجه به الى السوق فكل من لقيه من المكاسين اى العشارين اخذ بطيخة فدخل البلد وما معه الا بطيخة فباعها بدرهم ومضى بوجهه ورأى اهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى احد سياستهم وكان قد وقع بها وباء عظيم فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لاوليائه فقال انا امين المقابر فلا ادعكم تدفنونه حتى تعطونى خمسة دراهم فدفعوها اليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع في مقدار ثلاثة اشهر مالا عظيما ولم يتعرض له احد قط الى ان تعرض يوما لاولياء ميت فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فابوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب فذهبوا به الى فرعون اى الى ملك المدينة فقال من انت ومن اقامك بهذا المقام قال لم يقمنى احد وانما فعلت ما فعلت ليحضرنى احد الى مجلسك فانبهك على اختلال حال قومك وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال فاحضره ودفعه الى فرعون فقال ولنى امورك ترنى امينا كافيا فولاه اياها فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت احوال الرعية ولبث فيهم دهرا طويلا وترامى امره في العدل والصلاح فلما مات فرعون اقاموه مقامه فكان من امره ما كان وكان فرعون يوسف عليه السلام ريان وبينهما اكثر من اربعمائة سنة { يسومونكم } اى يبغونكم { سوء العذاب } واقبحه بالنسبة الى سائره ويريدونكم عليه ويكلفونكم الاعمال الشاقة ويذيقونكم ويديمون عليكم ذلك من سام السلعة اذا طلبها والسوم بمعنى البغاء وبغى يتعدى الى مفعولين بلا واسطة فلذلك كان سوء العذاب منصوبا على المفعولية ليسومونكم والجملة حال من ضمير المفعول في نجيناكم والمعنى نجيناكم مسومين منهم اقبح العذاب كقولك رأيت زيدا يضربه عمرو اى رأيته حال كونه مضروبا لعمرو وذلك ان فرعون جعل بنى اسرائيل خدما وخولا وصنفهم فى الاعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يخدمونه ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليهم الجزية وقال وهب كانوا اصنافا في اعمال فرعون فذووا القوة ينحتون السوارى من الجبال حتى قرحت اعناقهم وايديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وطائفة نجارون وحدادون والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة ويؤدونها كل يوم فمن غربت عليه الشمس قبل ان يؤدى ضريبته غلت يمينه الى عنقه شهرا والنساء يغزلن الكتان وينسجن وقيل تفسير قوله يسومونكم سوء العذاب ما بعده وهو قوله تعالى { يذبحون ابناءكم } كانه قيل ما حقيقة سوء العذاب الذي يبغونه لنا فاجيب بانهم يذبحون ابناءكم اى يقتلونهم والتشديد للتكثير كما يقال فتحت الابواب والمراد من الابناء هم الذكور خاصة وان كان الاسم يقع على الذكور والاناث في غير هذا الموضع كالبنين في قوله تعالى يا بنى اسرائيل فانهم كانوا يذبحون الغلمان لا غير وكذا اريد به الصغار دون الكبار لانهم كانوا يذبحون الصغار { ويستحيون نساءكم } اى يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات وذكر النساء وان كانوا يفعلون هذا الصغار لانه سماهن باسم المآل لانهن اذا استبقوهن صرن نساء بعد البلوغ ولانهم كانوا يستبقون البنات مع امهاتهن والاسم يقع على الكبيرات والصغيرات عند الاختلاط وذلك ان فرعون رأى في منامه كأن نارا اقبلت من بيت المقدس فاحاطت بمصر واخرجت كل قبطى بها ولم تتعرض لبنى اسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه فقالوا يولد في بنى اسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فامر فرعون بقتل كل غلام يولد في بنى اسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يسقط على ايديكن غلام يولد فى بنى اسرائيل الا قتل ولا جارية الا تركت ووكل القوابل فكن يفعلن ذلك حتى قيل انه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنى عشر الف صبى وتسعين الف وليد وقد اعطى اللّه نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه اولئك المقتولين لو كانوا احياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة ثم اسرع الموت في مشيخة بنى اسرائيل فدخل رؤس القبط على فرعون وقالوا ان الموت وقع في بنى اسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك ان يقع العمل علينا فامر فرعون ان يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون عليه السلام في السنة التى لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التى يذبحون فيها فلم يرد اجتهادهم من قضاء اللّه شيأ وشمر فرعون عن ساق الاجتهاد وحسر عن ذراع العناد فاراد ان يسبق القضاء ظهوره ويأبى اللّه الا ان يتم نوره { وفي ذلكم } اشارة الى ما ذكر من التذبيح والاستيحاء { بلاء } اى محنة وبلية وكون استحياء نسائهم اى استبقائهن على الحياة محنة مع انه عفو وترك للعذاب لما ان ذلك كان للاسترقاق والاستعمال في الاعمال الشاقة ولان بقاء البنات مما يشق على الآباء ولا سيما بعد ذبح البنين { من ربكم } من جهته تعالى بتسليطهم عليكم { عظيم } صفة للبلاء وتنكيرهما للتفخيم ويجوز ان يشار بذلكم الى الانجاء من فرعون ومعنى البلاء حينئذ النعمة لان اصل البلاء الاختيار واللّه تعالى يختبر عباده تارة بالمنافع ليشكروا فيكون ذلك الاختبار منحة اى عطاء ونعمة واخرى بالمضار ليصبروا فيكون محنة فلفظ الاختبار يستعمل فى الخير والشر قال تعالى { ونبلوكم بالشر والخير } ومعنى من ربكم اى يبعث موسى وبتوفيقه لتخليصكم منهم والاشارة ان النجاة من آل فرعون النفس الامارة وهى صفاتها الذميمة واخلاقها الرديئة في يوم سوء العذاب للروح الشريف بذبح ابناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في اعمال القدرة الحيوانية لا يمكن الا بتنجية اللّه كما قال عليه الصلاة والسلام ( لن ينجى احدكم عمله ) قيل ولا انت يا رسول اللّه قال ( ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه بفضله ) وفي ذلك اى في استيلاء صفات النفس على القلب والروح بلاء عظيم وامتحان عظيم بالخير والشر فمن يهده اللّه ويصلح باله يرجع اليه اللّه في طلب النجاة فينجيه اللّه ويهلك عدوه ومن يضللّه ويخذله اخلد الى الارض واتبع هواه وكان امره فرطا ثم في الآية الكريمة تنبيه على ان ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر في المسار والصبر على المضار : كما قال الحافظ اكر بلطف بخوانى مزيد الطافست ... وكر بقهر برانى درون ما صافست وسنته تعالى استدعاء العباء لعبادته بسعة الارزاق ودوام المعافاة ليرجعوا اليه بنعمته فان لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون لان مراده تعالى رجوع العباد اليه طوعا وكرها فالاول حال الاحرار والثانى حال الاغيار قال داود بن رشيد من اصحاب محمد بن الحسن قمت ليلة فاخذنى البرد فبكيت من العرى فنمت فرأيت قائلا يقول يا داود انمناهم واقمناك علينا فما نام داود بعد تلك الليلة كذا فى روضة الاخيار : قال في المثنوى درد بشتم داد حق تا من زخواب ... بر جهم هرنيم شب لابد شتاب تانخسبم جمله شب جون كاوميش ... دردها بخشيد حق ازلطف خويش روى ان اللّه تعالى اوحى الى بعض انبيائه انزلت بعبدى بلائى فدعانى فماطلته بالاجابة فشكانى فقلت عبدى كيف ارحمك من شىء به ارحمك ومن ظن انفكاك لطفه تعالى فذلك لقصور نظرة في العقليات والعاديات والشرعيات اما العقليات فما من بلاء الا والعقل قاض بامكان اعظم منه حتى لو قدرنا اجتماع بلايا الدنيا كلها على كافر وعوقب فى الآخرة باعظم عذاب اهل النار لكان ملطوفا به اذ اللّه قادر على ان يعذبه باكثر من ذلك واما العاديات فما وجدت قط بلية الا وفى طيها خير وحفها لطف باعتبار قصرها على نوعها اذ المبتلى مثلا بالجذام والعياذ باللّه ليس كالاعمى وهما مع الغنى ليسا كهما مع الفقر واجتماع كل ذلك مع سلامة الدين امر يسير واما الشرعيات فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اذا احب اللّه عبدا ابتلاه فان صبر اجتباه وان رضى اصطفاه ) وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن اللّه هو المبتلى اما عتبارا بان كل افعاله جميل او لانه عودك بالفعل الجميل والعطاء الجزيل ٥٠ { و } اذكروا يا بنى اسرائيل { اذ فرقنا } فصلنا { بكم } اى بسبب انجائكم فالباء للسببية وهو اولى لان الكلام مسوق لتعداد النعم والامتنان وفى السببية دلالة على تعظيمهم وهو ايضا من النعم وقيل الباء بمعنى اللام كقوله تعالى { ذلك بان اللّه هو الحق } اى لان اللّه { البحر } وهو بحر القلزم بحر من بحار فارس او بحر من ورائهم يقال له اساف حتى حصل اثنا عشر مسلكا بعدد اسباط بنى اسرائيل والسبط ولد الولد والاسباط من بنى اسرائيل كالقبائل من العرب وهم اولاد يعقوب { فأنجيناكم } اى من الغرق باخراجكم الى الساحل { واغرقنا } الغرق الرسوب فى الشىء المائع ورسب الشىء فى الماء رسوبا اى سفل فيه والاغراق الاهلاك فى الماء { آل فرعون } يريد فرعون وقومه للعلم بدخوله فيهم وكونه اولى به منهم { وانتم تنظرون } بابصاركم انفراق البحر حين سلكتم فيه وانطباقه على آل فرعون بعد سلامتكم منه وايضا تنظرون اليهم غرقى موتى حين رماهم البحر الى الساحل قال القرطبى ان اللّه تعالى لما انجاهم واغرق فرعون قالوا يا موسى ان قلوبنا لا تطمئن ان فرعون قد غرق حتى امر اللّه البحر فلفظه فنظروا اليه روى انه لما دنا هلاك فرعون امر اللّه موسى عليه السلام ان يسرى ببنى اسرائيل من مصر ليلا فامرهم ان يخرجوا وان يستعيروا الحلى من القبط وامر ان لا ينادى احد منهم صاحبه وان يسرجوا في بيوتهم الى الصبح ومن خرج لطخ بابه بكف من دم ليعلم انه قد خرج فخرجوا ليلا وهم ستمائة الف وعشرون الف مقاتل لا يعدون فيهم ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره والقبط لا يعلمون ووقع فى القبط موت فجعلوا يدفنونهم وشغلوا عن طلبهم فلما ارادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا اين يذهبون فدعا موسى مشيخة بنى اسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا ان يوسف لما حضره الموت اخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد عليهم الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلمه احد غير عجوز قالت لو دللت على قبره أتعطينى كل ما سألتك فابى عليها وقال حتى اسأل ربى فامره اللّه بايتاء سؤلها فقالت انى عجوز كبيرة لا استطيع المشى فاحملنى واخرجنى من مصر هذا فى الدنيا واما فى الآخرة فاسألك ان لا تنزل في غرفة الا نزلتها معك قال نعم قالت انه في جوف الماء فى النيل فادع اللّه ان يحسر عنه الماء فدعا اللّه ان يؤخر طلوع الفجر الى ان يرغ من امر يوسف فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه فى صندوق من صنوبر قالوا ان موسى استخرج تابوت يوسف من قعر النيل ثم انه حمله حتى دفنه بالشام ففتح لهم الطريق فساروا فكان هارون امام بنى اسرائيل وموسى على ساقتهم فلما علم بذلك فرعون جمع قومه فخرج فى طلب بنى اسرائيل وعلى مقدمته هامان فى الف الف وسبعمائة الف جواد ذكر ليس فيها رمكة على رأس كل واحد منهم بيضة وفى يده حربة فسارت بنوا اسرائيل حتى وصلوا الى البحر والماء فى غاية الزيادة فادركهم فرعون حين اشرقت الشمس فقال فرعون فى اصحاب موسى ان هؤلاء لشرذمة قليلون فلما نظر اصحاب موسى اليهم بقوا متحيرين فقالوا لموسى انا لمدركون يا موسى اوذينا من قبل ان تأتينا ومن بعد ما جئتنا اليوم نهلك فان البحر امامنا ان دخلناه غرقنا وفرعون خلفنا ان ادركنا قتلنا يا موسى كيف نصنع واين ما وعدتنا قال موسى كلا ان معى ربى سيهدين فاوحى اللّه الى موسى ان اضرب بعضاك البحر فضربه فلم يطعه فاوحى اللّه اليه ان كنه فضربه وقال انفلق يا ابا خالد فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا كل طريق كالجبل العظيم فكان لكل سبط طريق يأخذون فيه وارسل اللّه الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا فخاضت بنوا اسرائيل البحر وعن جانبيهم الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضا فقالوا ما لنا لا نرى اخواننا وقال كل سبط قد قتل اخواننا قال سيروا فانهم على طريق مثل طريقكم قالوا لا نرضى حتى نراهم فقال موسى اللّهم اعنى على اخلاقهم السيئة فاوحى اللّه اليه ان قل بعصاك هكذا وهكذا يمنة ويسرة فصار فيها كوى ينظر بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض فساروا حتى خرجوا من البحر فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر فرآه منفلقا قال لقومه انظروا الى البحر انفلق من هيبتى حتى ادرك عبيدى الذين ابقوا فهاب قومه ان يدخلون وقيل له ان كنت ربا فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان ادهم اى ذكر اسود من الخيل ولم يكن فى قوم فرعون فرس انثى فجاء جبريل على انثى وديق وهى التى تشتهى الفحل وتقدمه الى البحر فشم ادهم فرعون ريحها فاقتحم خلفها البحر اى هجم على البحر بالدخول وهم لا يرونه ولم يملك فرعون من امره شيأ وهو لا يرى فرس جبريل وتبعته الخيول وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يعجلهم ويسوقهم حتى لا يشذ رجل منهم حتى خاضوا كلهم البحر ودخل آخر قوم قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى وهم اولهم بالخروج فامر اللّه البحر ان يأخذهم فانطبق على فرعون وقومه فاغرقوا فنادى فرعون لا اله الا الذي آمنت به بنوا اسرائيل وانا من المسلمين القصة وقالت بنوا اسرائيل الآن يدركنا فيقتلنا فلفظ البحر ستمائة وعشرين الفا عليهم الحديد فذلك قوله تعالى { فاليوم ننجيك ببدنك } فلفظ فرعون وهو كانه ثور أحمر فلم يقبل البحر بعد ذلك غريقا الا لفظه على وجه الماء واعلم ان هذه الوقعة كما انها لموسى عليه الصلاة والسلام معجزة عظيمة لاوائل بنى اسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقتصاصها على ما هى عليه من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الابية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لاعقابهم ان يتلقوها بالاذعان لانه عليه السلام اخبرهم بذلك مع انه كان اميا لم يقرأ كتابا وهذا غيب لم يكن له علم عند العرب فاخباره به دل على انه اوحى اليه ذلك وذلك علامة لنبوته فما تأثرت اوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها حيث اتخذوا العجل الها بعد الانجاء ثم صار امرهم الى ان قتلوا انبياءهم ورسلهم فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم فى دينهم وسوء اخلاقهم ولا تذكرت اواخرهم بتذكيرها وروايتها حيث بدلوا التوراة وافتروا على اللّه وكتبوا بايديهم واشتروا به عرضا وكفروا بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم الى غير ذلك فيا لها من عصابة ما اعصاها وطائفة ما اطغاها * وفى الآية تهديد للكافرين ليؤمنوا وتنبيه للمؤمنين ليتعظوا وينتهوا عن المعاصى فى جميع الاوقات خصوصا فى الزمان الذى انجى اللّه فيه موسى مع بنى اسرائيل من الغرق وهو اليوم العاشر من المحرم وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم ( ما هذا اليوم الذي تصومونه ) فقالوا هذا يوم عظيم انجى اللّه فيه موسى وقومه واغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنخن نصومه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( نحن احق واولى بموسى منكم ) فصامه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وامر بصيامه رواه مسلم وهذا يدل بظاهره على ان النبى عليه السلام انما صام عاشوراء وامر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما اخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضى اللّه عنها قالت كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش فى الجاهلية وكان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يصومه فى الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه يحكى انه هرب اسير من الكفار يوم عاشوراء فركبوا فى طلبه فلما رأى الفرسان خلفه وعلم انه مأخوذ رفع رأسه الى السماء وقاله اللّهم بحق هذا اليوم المبارك اسألك ان تنجينى منهم فنام فاطعم وسقى فى المنام فعاش بعد ذلك عشرين سنة لم يكن له حاجة الى الطعام والشراب قال النبى عليه السلام ( التمسوا فضله فانه يوم مبارك اختاره اللّه من الايام من صام ذلك اليوم جعل اللّه له نصيبا من عبادة جميع من عبده من الملائكة والانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين ) هذا فى الصوم * واما الصلاة الواردة فى يوم عاشوراء فقد ذكرها الشيخ عبد القادر قدس سره عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى حديث طويل فيه ( ومن صلى اربع ركعات فى يوم عاشوراء يقرأ فى كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وخمسين مرة قل هو اللّه احد غفر اللّه له ذنوب خمسين عاما مستقبلا وبنى له فى الملأ الأعلى الف منبر من نور ) ويستحب احياء ليلة عاشوراء ففى الحديث ( من احيى ليلة عاشوراء فكأنما عبد اللّه بعبادة ملائكته المقربين ) والاشارة ان البحر هو الدنيا وماؤه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب وفرعون هو النفس الامارة وقومه صفات النفس وهم اعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم وهم سائرون الى اللّه تعالى والعدو من خلفهم وبحر الدنيا امامهم ولا بدلهم فى السير الى اللّه من العبور على البحر ولا يخوضون البحر بلا ضرب عصا لا اله الا اللّه على البحر بيد موسى القلب فان له يدا بيضاء فى هذا الشأن والا لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا فى يد فرعون النفس لم يكن لها معجزة انفلاق البحر فاذا ضرب يد موسى القلب بعصا الذكر ينفلق بحر الدنيا وماء شهواتها يمينا وشمالا ويرسل اللّه ريح العناية وشمس الهداية على قعر بحر الدنيا فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخوض موسى القلب وصفاته فيجاورونه وتنجيهم عناية اللّه الى الساحل وأن الى ربك المنتهى وقيل لفرعون النفس وقومه اغرقوا فادخلوا نارا كذا لصاحب التأويلات النجمية قدس اللّه تعالى نفسه الزكية ٥١ { و } اذكروا يا بنى اسرائيل { اذ واعدنا } وقت وعدنا وصيغة المفاعلة بمعنى الثانى او على اصلها فان الوعد وان كان من اللّه فقبوله كان من موسى وقبول الوعد شبه الوعد او ان اللّه تعالى وعده الوحى وهو وعده المجيىء للميقات الى الطور { موسى } مفعول اول لواعدنا ( مو ) بالعبرانية الماء و ( شى ) بمعنى الشجر فقلبت الشين المعجمة سينا فى العربية وانما سمى به لان امه جعلته فى التابوت حين خافت عليه من فرعون وألقته فى البحر فدفعته امواج البحر حتى أدخلته بين اشجار عند بيت فرعون فخرجت جوارى آسية امرأة فرعون يغسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمى عليه السلام باسم المكان الذي اصيب به وهو الماء والشجر ونسبه عليه الصلاة والسلام موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب اسرائيل اللّه بن اسحق بن ابراهيم عليه السلام { اربعين ليلة } اى تمام اربعين ليلة على حذف المضاف مفعول ثان امره اللّه تعالى بصوم ثلاثين وهو ذو القعدة ثم زاد عليه عشرا من ذى الحجة وعبر عنها بالليالى لانها غرر الشهور وشهور العرب وضعت على سير القمر ولذلك وقع بها التاريخ فالليالى اولى الشهور والايام تبع لها او لان الظلمة اقدم من الضوء { ثم اتخذتم العجل } وهو ولد البقرة بتسويل السامرى آلها ومعبودا { من بعده } اى من بعد مضيه الى الميقات وانما ذكر لفظة ثم لانه تعالى لما وعد موسى حضور الميقات لانزال التوراة عليه وفضيلة بنى اسرائيل ليكون ذلك تنبيها للحاضرين على علو درجتهم وتعريفا للغائبين وتكملة للدين كان ذلك من اعظم النعم فلما أتوا عقب ذلك باقبح انواع الكفر والجهل كان ذلك فى محل التعجب فهو كمن يقول اننى احسنت اليك وفعلت كذا وكذا ثم انك تقصدنى بالسوء والاذى { وانتم ظالمون } باشراككم ووضعكم للشىء فى غير موضعه اى وضع عبادة اللّه تعالى فى غير موضعها بعبادة العجل وهو حال من ضمير اتخذتم ٥٢ { ثم عفونا عنكم } اى محونا جريمتكم حين تبتم { من بعد ذلك } اى من بعد الاتخاذ الذى هو متناه فى القبح فلم نعاجلكم بالاهلاك بل امهلناكم الى مجيىء موسى فنبهكم واخبركم بكفارة ذنوبكم { لعلكم تشكرون } لكى تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة فان الانعام يوجب الشكر واصل الشكر تصور النعمة واظهارها وحقيقته العجز عن الشكر : قال السعدى خردمند طبعان منت شناس ... بد وزند نعمت بميخ سباس ٥٣ { واذ آتينا } اعطينا { موسى الكتاب والفرقان } اى التوراة الجامعة بين كونها كتابا وحجة تفرق بين الحق والباطل كقولك لقيت الغيث والليث تريد الجامع بين الجود والجراءة فالمراد بالفرقان والكتاب واحد { لعلكم تهتدون } لكى تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه وهذا بيان الحكمة دون العلة اى الحكمة فى انزاله ان يتدبروا فيه فيعلموا ان اللّه تعالى لم يفعل ذلك به الا للدلالة على صحة نبوته فيجتهدوا بذلك فى اتباع الرشد واذا فعلتم ذلك آمنتم بمحمد لانه قد اتى من المعجزات بما يدلكم اذا تدبرتم على صحة دعواه النبوة روى ان بنى اسرائيل لما أمنوا من عدوهم باغراق اللّه آل فرعون ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون اليها فوعد اللّه موسى ان ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه انى ذاهب لميقات ربى آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وتذرون ووعدهم اربعين ليلة واستخلف عليهم اخاه هارون فلما اتى الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له فرس الحياة لا يصيب شيأ الا حي ليذهب بموسى الى ربه فلما رآه السامرى وكان رجلا صائغا من اهل باجرمى واسمه ميحا ورأى مواضع الفرس تخضر من ذلك وكان منافقا اظهر الاسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس قال ان لهذا شأنا واخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل وقيل انه عرف جبريل لان امه حين خافت عليه ان يذبح سنة ذبح فرعون ابناء بنى اسرائيل خلفته فى غابة وكان جبريل يأتيه فيغذيه باصابعه فكان السامرى يمص من ابهام يمينه عسلا ومن ابهام شماله سمنا فلما ره حين عبر البحر عرفه فقبض قبضة من اثر فرسه فلم تزل القبضة فى يده حتى انطلق موسى الى الطور وكان السامرى سمعهم حين خرجوا من البحر واتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة ووقع فى نفسه ان يفتنهم من هذا الوجه وكان بنوا اسرائيل استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين ارادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فاهلك اللّه تعالى فرعون وبقيت تلك الحلى فى ايدى بنى اسرائيل فلما ذهب موسى الى المناجاة عد بنوا اسرائيل اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوما قالوا قد تم اربعون ولم يرجع موسى الينا فخالفنا فقال السامرى هاتوا الحلى التى استعرتموها او ان موسى امرهم ان يلقوها فى حفرة حتى يرجع ويفعل ما يرى فيها فلما اجتمعت الحلى صاغها السامرى عجلا فى ثلاثة ايام ثم ألقى فيها القبضة التى اخذها من تراب سنبك فرس جبريل فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون فصار جسدا له حوار اى صوت كصوت العجل وله لحم ودم وشعر وقيل دخل الريح فى جوفه من خلفه وخرج من فيه كهيئة الخوار فقال للقوم هذا الهكم وآله موسى فنسى اى اخطأ موسى الطريق وربه هنا وهو ذهب يطلبه فاقبلوا كلهم على عبادة العجل الا هارون مع انثى عشر الفا اتبعوا هارون ولم يتبعه غيرهم وهارون قد نصحهم ونهاهم وقال يا قوم يرجع الينا موسى وقيل كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشر وكانت فتنتهم فى تلك العشر فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى وظنوا انه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامرى عكفوا على العجل يعبدونه قال ابو الليث فى تفسيره وهذا الطريق اصح فلما رجع موسى ووجدهم على ذلك القى الالواح فرفع من جملتها ستة اجزاء وبقى جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون واحرق العجل وذراه فى البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة ورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون ان يقتلوا انفسهم هذه حالهم واما هذه الامة فلا يحتاجون الى قتل النفس فى الصورة وتوبتهم الحقيقية انما هى الرجوع الى اللّه بقتل النفس الامارة التى تعبد عجل الهوى : قال فى المثنوى اى شهان كشتيم ماخصم برون ... ماند خصمى زوبتر در اندرون كشتن اين كار عقل وهوش نيست ... شيرباطن سخره خركوش نيست نفس ازدرها ست اوكى مرده است ... ازغم بى آلتى افسرده است كربيابد آلت فرعون او ... كه بامر اوهمى رفت آب جو آنكه اوبنياد فرعونى كند ... راه صد موسى وصد هارون زند واعلم ان تعيين عدد الاربعين فى الميعاد لاختصاصه فى الكمالية وذلك لان مراتب الاعداد اربع الآحاد والعشرات والمآت والالوف والعشرة عدد فى نفسها كاملة كقوله تعالى { تلك عشرة كاملة } واذا ضعفت العشرة اربع مرات وهو كمال مراتب الاعداد تكون اربعين وهو كمال الكمال وهو اعداد ايام تخمير طينة آدم عليه السلام كقوله تعالى ( خمرت طينة آدم بيدى اربعين صباحا ) فللاربعين خاصية وتأثير لم توجد فى غيره من الاعداد كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( ان خلق احدكم يجمع فى بطن امه اربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ) الحديث كما ان انعقاد الطلسم الجسمانى على وجه الكنز الروحانى كان مخصوصا بالاربعين كذلك انحلاله يكون باختصاص الاربعين سنة اللّه التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلا واما اختصاص الليل بالذكر فى قوله اربعين ليلة فلمعنيين احدهما ان لليل خصوصية في التعبد والتقرب كقوله عليه السلام ( ان اقرب ما يكون العبد من الرب فى جوف الليل ) وهكذا قوله عليه السلام ( ينزل اللّه كل ليلة الى السماء الدنيا ) الحديث ولهذا المعنى قال تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } الآية وقال تعالى { سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } والآخر انه لو ذكر اليوم دون الليل يظن انه موعود بالتعبد فى النهار دون الليل وانما الليل جعل للاستراحة والسكون كقوله تعالى { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا } فلما خص الليل بالذكر علم موسى عليه السلام ان التعبد فى الليل واليوم جميعا كذا فى التأويلات النجمية * قال الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ان النبى عليه السلام لم يعين الاربعين بل اعتكف فى العشر الاخير نعم فعل موسى عليه الصلاة والسلام قال اللّه تعالى { وواعدنا موسى ثلثين ليلة واتممناها بعشر } والخلوتية أخذوا من ذلك كذا فى واقعات الشيخ الهدائى قدس اللّه نفسه الزاكية قال فى التأويلات النجمية ايضا الشكر على ثلاثة اوجه شكر بالاقوال وشكر بالاعمال وشكر بالاحوال فشكر الاقوال ان يتحدث بالنعم مع نفسه اسرارا ومع غيره اظهارا ومع ربه افتقارا كما قال تعالى { واما بنعمة ربك فحدث } وقوله صلى اللّه عليه وسلم ( التحدث بالنعم شكر ) وشكر الاعمال ان يصرف نعمة اللّه فى طاعته ولا يعصيه بها ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادره من المعاصى كقوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا } وشكر الاحوال ان يتجلى المنعم بصفة الشكورية على سر العبد فلا يرى الا المنعم فى النعمة والشكور فى الشكر ويرى المنعم فى النعم والنعمة من المنعم والشكور فى الشكر والشكر من الشكور ويرى وجوده وشكره نعمتين من نعم المنعم ورؤية المنعم والنعمة نعمة اخرى الى غير نهاية فيعلم ان لا يقوم باداء شكره ولا يشكره الا الشكور وَمن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان اللّه غفور شكور ٥٤ { و } اذكروا يا بنى اسرائيل هذا هو الانعام الخامس { اذ قال موسى } وقت قوله { لقومه } الذين عبدوا العجل { يا قوم } اى يا قومى والاضافة للشفقة { انكم ظلمتم انفسكم } اى ضررتم انفسكم بايجاب العقوبة عليها ونقصتم الثواب الواجب بالاقامة على عهد موسى { باتخاذكم العجل } اى معبودا قالوا اي شىء نصنع قال { فتوبوا } اى فاعزموا على التوبة والفاء للسببية لان الظلم سبب للتوبة { الى بارئكم } اى من خلقكم بريئا من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيآت مختلفة والتعرض لعنوان البارئية للارشاد بانهم بلغوا من الجهالة اقصاها ومن الغباوة منتهاها حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذى خلقهم بلطيف حمته بريئا من التفاوت والتنافر الى عبادة البقر الذى هو مثل فى الغباوة وان من لم يعرف حقوق منعمه حقيق بان تسترد هى منه ولذلك امروا بالقتل وفك التركيب وقالوا كيف نتوب قال { فاقتلوا انفسكم } اى ليقتل البريىء منكم المجرم وانما قال انفسكم لان المؤمنين اخوة واخو الرجل كانه نفسه قال تعالى { ولا تلمزوا انفسكم } يعنى ذكر قتل الانفس واراد به قتل الاخوان وهذا كما قال ولا تلمزوا انفسكم اى ولا تغتابوا اخوانكم من المسلمين كذا فى التيسير وتفسير ابى الليث * والفاء للتعقيب وتوبتهم هي قتلهم اى فاعزموا على التوبة فاقتلوا انفكسم كذا فى الكشاف وقال فى التفسير الكبير وليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان ان توبتهم لا تتم ولا تحصل الا بقتل النفس وانما كان كذلك لان اللّه تعالى اوحى الى موسى عليه السلام ان توبة المرتد لا تتم الا بالقتل { ذلكم } اى التوبة والقتل { خير لكم عند بارئكم } انفع لكم عند اللّه من الامتناع الذى هو اصرار وفيه عذاب لما ان القتل طهرة من الشرك ووصلة الى الحياة الابدية والبهجة السرمدية { فتاب عليكم } خطاب منه تعالى اى ففعلتم ما امرتم به فتاب عليكم بارئكم اى قبل توبتكم وتجاوز عنكم وانما لم يقل فتاب عليهم على ان الضمير للقوم لما ان ذلك نعمة اريد التذكير بها للمخاطبين لا لاسلافهم * فان قلت انه تعالى امر بالقتل والقتل لا يكون نعمة قلت ان اللّه نبههم على عظيم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون من ذلك العظيم وذلك من النعم فى الدين { انه } اللّه تعالى { هو التواب } اى الذى يكثر توفيق المذنبين للتوبة ويبالغ فى قبولها منهم { الرحيم } كثير الرحمة للمطيعين امره حيث جعل القتل كفارة لذنوبهم : قال السعدى فروماندكانرا برحمت قريب ... تضرع كنانرا بدعوت مجيب روى انهم لما امرهم موسى بالقتل قالوا نصبر لامر اللّه فجلسوا بالافنية محتبين مذعنين وقيل لهم من حل حبوته اومد طرفه الى قاتله او اتقاه بيد او رجل فهو ملعون مردود توبته واصلت القوم عليهم الحناجر اى حملوا عليهم الخناجر ورفعوا وضربوهم بها وكان الرجل يرى ابنه واباه واخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضى لامر اللّه قالوا يا موسى كيف نفعل فارسل اللّه ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا فكانوا يقتلونهم الى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا يا رب هلكت بنوا اسرائيل البقية البقية فكشف اللّه السحابة ونزلت التوبة وامرهم ان يكفوا عن القتل فقتل منهم سبعون الفا فكان من قتل شهيدا ومن بقى مغفورة ذنوبه واوحى الى موسى عليه السلام انى ادخل القاتل والمقتول الجنة هذا على رواية ان القاتل من المجرمين على ان معنى قوله فاقتلوا انفسكم ليقتل بعض المجرمين بعضا فالقاتل هو الذى بقى من المجرمين بعد نزول امر الكف عن القتل والا فالقاتل على الرواية الاخرى هو البريىء كما سبق في تفسير الآية روى ان الامر بالقتل من الاغلال التى كانت عليهم وهى المواثيق اللازمة لزوم الغل ومن الاصر وهو الاعمال الشاقة كقطع الاعضاء الخاطئة وعدم جواز صلاتهم فى غير المسجد وعدم التطهير بغير الماء وحرمة اكل الصائم بعد النوم ومنع الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وكما روى ان بنى اسرائيل اذا قاموا يصلون لبسوا المسوح وغلوا ايديهم الى اعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها الى السارية وحبس نفسه على العبادة فهذه الامور رفعت عن هذه الامة تكريما للنبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم فالتوبة نعمة من اللّه انعم بها على هذه الامة دون غيرها ولها اربع مراتب فالاولى مختصة باسم التوبة وهى اول منزل من منازل السالكين وهى للنفس الامارة وهذه مرتبة عوام المؤمنين وهى ترك المنهيات والقيام بالمأمورات وقضاء الفوائت ورد الحقوق والاستحلال من المظالم والندم على ما جرى والعزم على ان لا يعود والمرتبة الثانية الانابة وهى للنفس اللوامة وهذه مرتبة خواص المؤمنين من الاولياء والانابة الى اللّه بترك الدنيا والزهد فى ملاذها وتهذيب الاخلاق وتطهير النفس بمخالفة هواها والمداومة على جهادها فالنفس اذا تحلت بالانابة دخلت فى مقام القلب واتصفت بصفته لان الانابة من صفات القلب قال تعالى { وجاء ربه بقلب منيب } والمرتبة الثالثة الاوبة وهى للنفس الملهمة وهذه مرتبة خواص الاولياء والاوبة الى اللّه من آثار الشوق الى لقائه فالنفس اذا تحلت بالاوبة دخلت فى مقام الروح ومن امارات الاواب المشتاق ان يستبدل المخالطة بالعزلة ومنادمة الاخدان بالخلوة ويستوحش عن الخلق ويستأنس بالحق ويجاهد نفسه فى اللّه حق جهاده ساعيا فى قطع تعلقاتها عن الكونين والمرتبة الرابعة وهى للنفس المطمئنة وهذه مرتبة الانبياء واخص الاولياء قال تعالى { ارجعي الى ربك } وهى صورة جذبة العناية الربوبية نفوس الانبياء والاولياء تجذبها من انانيتها الى هوية ربوبيته راضية اى طائعة تلك النفوس شوقا الى لقاء ربها مرضية اى على طريقة مرضية فى السير لربها باذلة نفسها فى مشاهدة اللقاء طامعة لرفع الاثنينية ودوام الالتقاء قيل لما قدم الحلاج لتقطع يده قطعت اليد اليمنى اولا فضحك ثم قطعت اليد اليسرى فضحك ضحكا بليغا فخاف ان يصفر وجهه من نزف الدم فكب وجهه على الدم السائل ولطخ وجهه بدمه وانشأ يقول اللّه يعلم ان الروح قد تلفت ... شوقا اليك ولكنى امنيها ونظرة منك يا سؤلى ويا املى ... اشهى الى من الدنيا وما فيها يا قوم انى غريب فى ديار كمو ... سلمت روحى اليكم فاحكموا فيها ما اسلم النفس للاسقام تتلفها ... الا لعلمى بان الوصل يحييها نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل مسقمها يوما يداويها ثم رفع رأسه الى السماء وقال يا مولاى انى غريب فى عبادك وذكرك اغرب منى والغريب يألف الغريب ثم ناداه رجل وقال يا شيخ ما العشق قال ظاهره ما ترى وباطنه دق عن الورى وفى التأويلات النجمية ان لكل قوم عجلا يعبدونه من دون اللّه قوم يعبدون عجل الدراهم والدنانير وقوم يعبدون عجل الشهوات وقوم يعبدون عجل الجاه وقوم يعبدون عجل الهوى وهذا ابغضها على اللّه فاللّه تعالى يلهم موسى قلب كل سعيد ليقول يا قوم { انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم } اى ارجعوا الى اللّه بالخروج عما سواه ولا يمكنكم الا بقتل النفس { فاقتلوا انفسكم } بقمع الهوى لان الهوى هو حياة النفس وبالهوى ادعى فرعون الربوبية وعبد بنوا اسرائيل العجل وبالهوى أبى واستكبر ابليس اوارجعوا بالاستنصار على قتل النفس بنهيها عن هواها فاقتلوا النفس فى الباطن وقهرها فامر صعب لا يتيسر الا لخواص الحق بسيف الصدق وبنصر الحق ولهذا حعل مرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء وكان النبى صلى اللّه عليه وسلم اذا رجع من غزو يقول ( رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر ) وذلك لان المجاهد اذا قتل بسيف الكفار يستريح من التعب بمرة واحدة واذا قتل بسيف الصدق فى يوم الف مرة تحيى كل مرة نفس على بصيرة اخرى وتزداد فى مكرها فلا يستريح المجاهد طرفة عين من جهادها ولا يأمن مكرها وبالحقيقة النفس هى صورة مكرالحق ولا يأمن مكر اللّه الا القوم الخاسرون { ذلكم خير لكم عند بارئكم } يعنى قتل النفس بسيف الصدق خير لكم لان بكل قتلة رفعة ودرجة لكم عند بارئكم فانتم تتقربون الى اللّه بقتل النفس وقمع الهوى وهو يتقرب اليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم كما قال ( من تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا ) وذلك قوله { فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم } : قال فى المثنوى عمرا كربكذشت بينحش اين دم است ... آب توبش ده اكر اوبى نم است بيخ عمرت را بده آب حيات ... تادرخت عمر كردد باثبات ٥٥ { واذ قلتم } هذا هو الانعام السادس اى واذكروا يا بنى اسرائيل وقت قول السبعين من اسلافكم الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه الى الطور للاعتذار عن عبادة العجل وهم غير السبعين الذين اختارهم موسى اول مرة حين اراد الانطلاق الى الطور بعد غرق فرعون لاتيان التوراة { يا موسى لن نؤمن لك } لن نصدقك لاجل قولك ودعوتك على ان هذا كتاب اللّه وانك سمعت كلامه وان اللّه تعالى امرنا بقبوله والعمل به { حتى نرى اللّه جهرة } اى عيانا لا ساتر بيننا وبينه كالجهر فى الوضوح والانكشاف لان الجهر فى المسموعات والمعاينة فى المبصرات ونصبها على المصدرية لانها نوع من الرؤية فكأنها مصدر الفعل الناصب او حال من الفاعل والمعنى حتى نرى اللّه مجاهرين او من المفعول والمعنى حتى نرى اللّه مجاهرا بفتح الهاء { فأخذتكم الصاعقة } هى نار محرقة فيها صوت نازلة من السماء وهى كل امر مهول مميت او مزيل للعقل والفهم وتكون صوتا وتكون نارا وتكون غير ذلك وانما احرقتهم الصاعقة لسؤالهم ما هو مستحيل على اللّه فى الدينا ولفرط العناد والتعنت وانما الممكن ان يرى رؤية منزهة عن الكيفية وذلك للمؤمنين فى الآخرة وللافراد من الانبياء فى بعض الاحوال فى الدنيا { وانتم تنظرون } الى الصاعقة النازلة فان كانت نارا فقد عاينوها وان كانت صوتا هائلا فقد مات بعضهم اولا ورأى الباقون انهم ماتوا ويسمى هذا رؤية الموت مجازا ٥٦ { ثم بعثناكم } اى احييناكم { من بعد موتكم } بتلك الصاعقة وقيد البعث بقوله من بعد موتكم مع انه يكون بعد الموت لما انه قد يكون من الاغماء او من النوم * قال قتادة احياهم ليستوفوا بقية آجالهم وارزاقهم وكان ذلك الموت بلا اجل وكانت تلك الموتة لهم كالسكتة لغيرهم قبل انقضاء آجالهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا الى يوم القيامة فان قلت كيف يجوز ان يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز ان يكلف اهل الآخرة اذا بعثوا بعد الموت قلنا الذى يمنع من تكليفهم فى الآخرة هو الاماتة ثم الاحياء وانما يمنع من ذلك لانه قد اضطرهم يوم القيامة الى معرفته والى معرفة ما فى الجنة من اللذات وما فى النار من الآلام وبعد العلم الضرورى لا تكليف فاذا كان المانع هو هذا لم يمتنع فى هؤلاء الذين اماتهم اللّه بالصعقة ان لا يكون قد اضطرهم لا تكليف فاذا كان المانع هو هذ لم يمتنع فى هؤلاء الذين اماتهم اللّه بالصعقة ان لا يكون قد اضطرهم واذا كان كذلك صح ان يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الاحياء بمنزلة النوم او بمنزلة الاغماء { لعلكم تشكرون } نعمة الحياة بالتوحيد والطاعة او لعلكم تشكرون وقت مشاهدتكم بأس اللّه بالصاعقة نعمة الايمان التى كفرتموها بقولكم لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فان ترك النعمة لاجل طلب الزيادة كفران لها اى لعلكم تشكرون نعمة الايمان فلا تعودون الى اقتراح شىء بعد ظهور المعجزة واصل القصة ان موسى عليه السلام لما رجع من الطور الى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لاخيه والسامرى ما قال وأحرق العجل والقاه فى البحر وندم القوم على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين امر اللّه موسى ان يأتيه فى ناس من بنى اسرائيل يعتذرون اليه من عبادة العجل فاختار موسى سبعين من قومه من خيارهم فلما خرجوا الى الطور قالوا لموسى سل ربنا حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فاجابه اللّه ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه وقال للقوم ادخلوا فكلم اللّه موسى يأمره وينهاه وكلما كلمه اللّه تعالى اوقع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع احد من السبعين النظر اليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى افعل لا تفعل فعند ذلك طمعوا فى الرؤية وقالوا ما قالوا فاخذتهم الصاعقة فخروا صعقين ميتين يوما وليلة فلما ماتوا جميعا جعل موسى يبكى ويتضرع رافعا يديه الى السماء يدعو ويقول يا آلهى اختر من بنى اسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودى بقبول توبتهم وماذا اقول لهم اذا اتيتهم وقد اهلكت خيارهم لو شتئ اهلكتهم قبل هذا اليوم مع اصحاب العجل أتهلكنا بما فعل السفهاء منا فلم يزل يناشد ربه حتى احياهم اللّه ورد اليهم ارواحهم وطلب توبة بنى اسرائيل من عبادة العجل فقال لا الا ان يقتلوا انفسهم قالوا ان موسى عليه السلام سأل الرؤية فى المرة الاولى فى الطور ولم يمت لان صعقته لم تكن موتا ولكن غشية بدليل قوله تعالى { فلما افاق } وسأل قومه فى المرة الثانية حين خرجوا للاعتذار وماتوا وذلك لان سؤال موسى كان اشتياقا وافتقارا وسؤال قومه كان تكذيبا واجتراء ولم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت فانهم ظنوا انه تعالى يشبه الاجسام وطلبوا رؤيته رؤية الاجسام فى الجهات والاحياز المقابلة للرائى وهى محال وليس فى الآية دليل على نفى الرؤية بل فيها اثباتها وذلك ان موسى عليه السلام لما سأله السبعون لم ينههم عن ذلك وكذلك سأل هو ربه الرؤية فلم ينهه عن ذلك بل قال { فان استقر مكانه فسوف ترانى } وهذا تعليق بما يتصوره قال بعض العلماء الحكماء الحكمة فى ان اللّه تعالى لا يرى فى الدنيا وجوه الاول ان الدنيا دار اعدائه لان الدنيا جنة الكافر الثانى لو رآه المؤمن لقال الكافر لو رأيته لعبدته ولو رأوه جميعا لم يكن لاحدهما مزية على الآخر الثالث ان المحبة على غيب ليست كالمحبة على عين الرابع ان الدنيا محل المعيشة ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معائشهم فتعطلت الخامس انه جعلها بالبصيرة دون البصر ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين السادس ليقدر قدرها اذ كل ممنوع عزيز السابع انما منعها رحمة بالعباد لما جبلوا عليه فى هذه الدار من الغيرة اذ لو رآه احد تصدع قلبه من رؤية غيره اياه كما تصدع الجبل غيرة من ان يرآه موسى والاشارة فى الآية ان مطالبة الرؤية جهرة هى تعرض مطالبة الذات غفلة فيوجب سوء الادب وترك الحرمة وذلك من امارات البعد والشقاوة فمن سطوات العظمة والعزة اخذتهم الرجفة والصعقة اظهارا لعدل ثم افاض عليهم سجال النعم اسبالا للسر على هيآت العبيد والخدم وقال { ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } اظهارا للفضل ومن علامات الوصلة ودلالات السعادة التولى بمكاشفاث العزة مقرونا بملاطفات القربة فمن اصلح حاله لم يطلق لسان الجهل بل اتى البيت من بابه ويتأدب في سؤاله وجوابه : قال فى المثنوى ييش بينايان كنى ترك ادب ... نار شهوت را ازان كشتى حطب جون ندارى فطنت ونور هدا ... بهر كوران روى را ميزن جلا ولا بد من قتل النفس الامارة حتى تحكم فى عالم الحقيقة بما شئت قال القشيرى التوبة بقتل النفوس غير منسوخة فى هذه الامة الا ان بنى اسرائيل كان لهم قتل انفسهم جهرا وهذه الامة توبتهم بقتل انفسهم فى انفسهم سرا واول قدم هو القصد الى اللّه والخروج من النفس للّه قال ولقد توهم الناس ان توبة بنى اسرائيل كانت اشق وليس كما توهموا فان ذلك كان مرة واحدة واهل الخصوص من هذه الامة قتلهم انفسهم فى كل لحظة كما قيل ليس من مات فاستراح بميت ... انما الميت ميت الاحياء وفى المثنوى قوت ازحق خواهم وتوفيق ولاف ... تابسوزن بر كنم اين كوه قاف سهل شيرى دانكه صفها بشكند ... شير آنست آنكه خودرابشكند ٥٧ { وظللنا عليكم الغمام } هذا هو الانعام السابع اى جعلنا الغمام ظلة عليكم يا بنى اسرائيل وهذا جرى فى التيه بين مصر والشام فانهم حين خرجوا من مصر وجاوزوا البحر وقعوا فى صحراء لا ابنية فيها امرهم اللّه تعالى بدخول مدينة الجبارين وقتالهم فقلوا فلما قربوا منها سمعوا بان اهلها جبارون اشداء قامة احدهم سبعمائة ذراع ونحوها فامتنعوا وقالوا لموسى اذهب انت وربك فقاتلان انا ههنا قاعدون فعاقبهم اللّه بان يتيهوا فى الارض اربعين سنة وكانت المفازة يعنى التيه اثنى عشر فرسخا فاصابهم حر شديد وجوع مفرط فشكوا الى موسى فرحمهم اللّه فانزل عليهم عمودا من نور يدلى لهم من السماء فيسير معهم بالليل يضيىء لهم مكان القمر اذا لم يكن قمر وارسل غماما ابيض رقيقا اطيب من غمام المطر يظللّهم من حر الشمس فى النهار وسمى السحاب غماما لانه يغم السماء اى يسترها والغم حزن يستر القلب ثم سألوا موسى الطعام فدعا ربه فاستجاب له وهو قوله تعالى { وانزلنا عليكم المن } اى الترنجبين بفتح الراء وتسكين النون كان ابيض مثل الثلج كالشهد المعجون بالسمن او المن جميع ما من اللّه به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ) اى مما من اللّه على عباده والظاهر ان مجرد مائه شفاء لانه عليه السلام اطلق ولم يذكر الخلط ولما روى عن ابى هريرة انه قال عصرت ثلاثة اكمؤ وجعلت ماءها فى قارورة فكحلت منه جارية لى فبرئت باذن اللّه تعالى وقال النووى رأينا فى زماننا اعمى كحل عينه بمائها مجردا فشفى وعاده اليه بصره ثم لما ملوا من اكله قالوا يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك ان يطعمنا اللحم فانزل اللّه عليهم السلوى وذلك قوله { والسلوى } هو السمانى كانت تحشره عليهم الريح الجنوب وكانت الريح تقطع حلوقها وتشق بطونها وتمعط شعورها وكانت الشمس تنضجها فكانوا يأكلونها مع المن واكثر المفسرين على انهم يأخذونها فيذبحونها فكان ينزل عليهم المن نزول الثلج من طلوع الفجر الى طلوع الشمس وتأتيهم السلوى فيأخذ كل انسان منهم كفايته الى الغد الا يوم الجمعة يأخذ ليومين لانه لم يكن ينزل يوم السبت لانه كان يوم عبادة فان اخذ اكثر من ذلك دود وفسد { كلوا } اى قلنا لهم كلوا { من طيبات } حلالات { ما رزقناكم } من المن والسلوى ولا ترفعوا منه شيأ ادخارا ولا تعصوا امرى فرفعوا وجعلوا اللحم قديدا مخافة ان ينفد ولو لم يرفعوا لدام عليهم ذلك والطيب ما لا تعافه طبعا ولا تكرهه شرعا { وما ظلمونا } اى فظلموا بان كفروا تلك النعمة الجليلة وادخروا بعدما نهوا عنه وما ظلمونا اى ما بخسوا بحقنا { ولكن كانوا انفسهم يظلمون } باستيجابهم عذابى وقطع مادة الرزق الذى كان ينزل عليهم بلا مؤونة فى الدنيا ولا حساب فى العقبى فرفعنا ذلك عنهم لعدم توكلهم علينا : قال فى المثنوى سالها خوردى وكم نامد زخور ... ترك مستقبل كن وماضى نكر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لولا بنوا اسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا خيانة حواء لم تخن انثى زوجها الدهر ) واستمر النتن من ذلك الوقت لان البادئ للشىء كالحامل للغير على الاتيان به وكذلك استمرت الخيانة من النساء لان ام النساء خانت بان أغواها ابليس قبل آدم حتى اكلت من الشجرة ثم أتت آدم فزينت له ذلك حتى حملته على ان اكل منها فاستمرت تلك الخيانة من بناتها لازواجها * قال السعدى كراخانة آباد وهمخوا به دوست ... خدارا برحمت نظر سوى اوست قال فى الاشباه والنظائر الطعام اذا تغير واشتد تغيره تنجس وحرم واللبن والزيت والسمن اذا انتن لا يحرم اكله انتهى والاشارة فى الآية انه تعالى لما ادبهم بسوط الغربة ادركهم بالرحمة فى وسط الكربة فاكرمهم بالانعام وظللّهم بالغمام ومن عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى فلا شعورهم كانت تطول ولا اظفارهم كانت تنبت ولا ثيابهم كانت تخلق او تنسخ وتدرن بل كانت تنمو صغارها حسب نمو الصغار والصبيان ولا شعاع الشمس كان ينبسط وكذلك سنته بمن حال بينه وبين اختياره يكون ما اختاره خيرا له مما يختاره العبد لنفسه فما ازدادوا بشؤم الطبيعة الا الوقوع فى البلوى كما قيل كلوا من طيبات ما رزقناكم بامر الشرع وما ظلمونا اذ تصرفوا فيها بالطبع ولكن كانوا انفسهم يظلمون بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى قال فى التنوير وما ادخلك اللّه فيه تولى اعانتك عليه وما دخلت فيه بنفسك وكلك اليه فلا تكفر نعمة اللّه عليك فيما تولاك به من ذلك كان بعضهم يسير فى البادية وقد اصابه العطش فانتهى الى بئر فارتفع الماء الى رأس البئر فرفع رأسه الى السماء وقال اعلم انك قادر ولكن لا اطيق هذا فلو قيضت لى بعض الاعراب يصفعنى صفعات ويسقينى شربة ماء كان خيرا لى ثم انى أعلم ان ذلك الرفق من جهته فقد عرفت ان مكر اللّه خفى فلا تغرنك النعم الظاهرة والباطنة وليكن عزمك على الشكر والاقامة فى حد اقامك اللّه فيه والا فتضل وتشقى وقد قال الشيخ ابو عبد اللّه القرشى من لم يكن كارها لظهور الآيات وخوارق العادات منه كراهية الخلق لظهور المعاصى فهى حجاب فى حقه وسترها عنه رحمة فالنعمة كما انها سبب للسعادة كذلك هى سبب للشقاوة استدراحا : قال فى المثنوى بنده مى نالد بحق ازدرد ونيش ... صد شكايت ميكند ازرنج خويش حق همى كويدكه آخررنج ودرد ... مرترا لابه كنان وراست كرد اين كله زان نعمتى كن كت زند ... ازدرما دور ومطرودت كند فلا بد للمؤمن السالك من الفناء عن الذات والصفات والافعال والدور مع الامر الالهى فى كل حال حتى يكون من الصديقين واهل اليقين اللّهم لا تؤمنا مكرك ولا تنسنا ذكرك واجعلنا من الذين معك فى تقلباتهم وكل معاملاتهم آمين آمين آمين بجاه النبى الامين ٥٨ { واذ قلنا } هذا هو الانعام الثامن لانه تعالى أباح لهم دخول البلدة وازال عنهم التيه اى اذكروا يا بنى اسرائيل وقت قولنا لآبائكم اثر ما انقذتم من التيه { ادخلوا هذه القرية } منصوب على الظرفية اى مدينة بيت المقدس والقرية بفتح القاف وكسرها ما يجتمع فيه الناس اخذا من القرى { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } اى اكلا واسعا هنيئا على ان النصب على المصدرية او هو حال من الواو فى كلوا اى راغدين متوسعين وفيه دلالة على ان المأمور به الدخول على وجه الاقامة والسكنى قال فى التيسير اى ابحنا لكم ووسعنا عليكم فتعيشوا فيها أنى شئتم بلا تضيق ولا منع وهو تمليك لهم بطريق الغنيمة وذكر الاكل لانه معظم المقصود { وادخلوا الباب } اى بابا من ابواب القرية وكان لها سبعة ابواب والمراد الباب الثانى من بيت المقدس ويعرف اليوم ببا حطة او باب القبة التى كان يتعبد فيها موسى وهارون ويصليان مع بنى اسرائيل اليها { سجدا } اي ركعا منحنين ناكسى رؤسكم بالتواضع على ان يكون المراد به معناه الحقيقي او ساجدين للّه تعالى شكرا على اخراجكم من التيه على ان يكون المراد به معناه الشرعى { وقولوا حطة } رفع بخبرية المبتدأ المحذوف اى مسألتنا من اللّه ان يحط عنا ذنوبنا او نصب اي حط عنا ذنوبنا حطة وقيل اريد بها كلمة الشهادة اى قولوا كلمة الشهادة الحاطة للذنوب { نغفر لكم } مجزوم على انه جواب الامر من الغفر وهو الستر اى تستر عليكم { خطاياكم } جمع خطيئة ضد الصواب اى ذنوبكم فلا نجازيكم بها لما تفعلون من السجود والدعاء وهم الذين عبدوا العجل ثم تابوا { وسنزيد المحسنين } ثوابا من فضلنا وهم الذين لم يعبدوا العجل والمحسن من احسن فى فعله والى نفسه وغيره وقيل المحسن من صحح عقد توحيده واحسن سياسة نفسه واقبل على اداء فرائضه وكف شره وقيل هو الفاعل ما يجمل طبعا ويحمد شرعا واخرج ذلك عن صورة الجواب الى الوعد ايذانا بان المحسن بصدد زيادة الثواب وان لم يقل حطة فكيف اذا قالها واستغفر وانه يقول ويستغفر لا محالة امرهم بشيئين بعمل يسير وقول صغير فالعمل الانحناء عند الدخول والقول التكلم بالمقول ثم وعد عليهما غفران السيآت والزيادة فى الحسنات ٥٩ { فبدل الذين ظلموا } اى غير الذين ظلموا انفسهم بالمعصية ما قيل لهم من التوبة والاستغفار { قولا } آخر مما لا خير فيه فاحد مفعولى بدل محذوف { غير الذى قيل لهم } غير نعت لقولا وانما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على المغايرة من كل وجه روى انهم قالوا مكان حطة حنطة وقيل قالوا بالنبطية وهى لغتهم حطا سمقانا يعنون حنطة حمراء استخفافا بامر اللّه تعالى وقال مجاهد طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤسهم فابوا ان يدخلون سجدا فدخلوا يزحفون على استاههم مخالفة فى الفعل كما بدلوا القول واما المحسنون ففعلوا ما امروا به ولذا لم يقل فبدلوا بل قال فبدل الذين ظلموا وظاهره انهم بدلوا القول وحده دون العمل وبه قال جماعة وقيل بل بدلوا العمل والقول جميعا ومعنى قوله قولا غير الذى قيل لهم اى امرا غير الذى امروا به فان امر اللّه قول وهو تغيير جميع ما امروا به { فانزلنا } اى عقيب ذلك { على الذين ظلموا } اى غيروا ما امروا به ولم يقل عليهم على الاختصار وقد سبق ذكر الذين ظلموا فى الآية لانه سبق ذكر المحسنين ايضا فلو اطلق لوقع احتمال دخول الكل فيه ثم هذا ليس بتكرار لان الظلم اعم من الصغائر والكبائر والفسق لا بد وان يكون من الكبائر فالمراد بالظلم ههنا الكبائر بقرينة الفسق والمراد بالظلم المتقدم هو ما كان من الصغائر { رجزا من السماء } اى عذابا مقدرا والتنوين للتهويل والتفخيم { بما } مصدرية { كانوا يفسقون } بسبب خروجهم عن الطاعة والرجز فى الاصل ما يعاف ويستكره وكذلك الرجس والمراد به الطاعون روى انه مات فى ساعة واحدة اربعة وعشرون الفا ودام فيهم حتى بلغ سبعين الفا وفى الحديث ( الطاعون رجز ارسل على بنى اسرائيل او على من كان قبلكم فاذا سمعتم ان الطاعون بارض فلا تدخلوها واذا وقع بارض وانتم بها فلا تخرجوا منها ) وفى الحديث ايضا ( اتانى جبريل بالحمى والطاعون فامسكت الحمى بالمدينة وارسلت الطاعون الى الشأم فالطاعون شهادة لامتى ورحمة لهم ورجس على الكافر ) واعلم ان من مات من الطاعون مات شهيدا ويأمن فتنة القبر وكذا الصابر فى الطاعون اذا مات بغير الطاعون يوقى فتنة القبر لانه نظير المرابط فى سبيل اللّه تعالى فالمطعون شهيد وهو من مات من الطاعون والصابر المحتسب فى حكمه وكذا المبطون وهو الميت من داء البطن وصاحب الاسهال والاستسقاء داخل فى المبطون لان عقله لا يزال حاضرا وذهنه باقيا الى حين موته ومثل ذلك صاحب السل وكذا الغرق شهيد وهو بكسر الراء من يموت غريقا فى الماء وكذا صاحب المهدم بفتح الدال ما يهدم وصاحبه من يموت تحته وكذا المقتول فى سبيل اللّه وكذا صاحب ذات الجنب والحرق والمرأة الجمعاء وهى من تموت حاملا جامعا ولدها وليس موت هؤلاء كموت من يموت فجأة او من يموت بالسام او البرسام والحميات المطبقة او القولنج او الحصاة فتغيب عقولهم لشدة الالم ولورم ادمغتهم وافساد امزجتها * واعلم ان الطاعون مرض يكثر فى الناس ويكون نوعا واحدا والوباء وهو المرض العام قد يكون بطاعون وقد لا يكون وفى الحديث ( فناء امتى بالطعن والطاعون ) قيل يا رسول اللّه هذا الطعن قد عرفنا فما الطاعون قال ( وخز اعدائكم من الجن وفى كل شهادة ) قال ابن الاثير الطعن القتل بالرمح والوخز طعن بلا نفاذ وهذا لا ينفى قوله عليه الصلاة والسلام فى حديث آخر ( غدة كغدة البعير تخرج فى مراق البطن ) وذلك ان الجنى اذا وخز العرق من مراق البطن خرج من وخزه الغدة فيكون وخز الجنى سبب الغدة الخارجة والغدة هى التى تخرج فى اللحم والمراق اسفل البطن وفى الحديث ( اذا بخس المكيال حبس القطر واذا كثر الزنى كثر القتل واذا كثر الكذب كثر الهرج ) والحكمة ان الزنى اهلاك النفس لان ولد الزنى هالك حكما فلذلك وقع الجزاء بالموت الذريع اى السريع لان الجزاء من جنس العمل ألا يرى ان بخس المكيال يجازى بمنع القطر الذى هو سبب لنقص ارزاقهم وكذا الكذب سبب للتفرق والعداوة بين الناس ولهذا يجازى بالهرج الذى هو الفتنة والاختلاط وانما عمت البلية اينما وقعت لتكون عقوبة على اخوان الشياطين وشهادة ورحمة لعباد اللّه الصالحين اذالموت تحفة للمؤمن وحسرة للفاسق ثم يبعثهم اللّه على قدر اعمالهم ونياتهم فيجازيهم والفرار من الطاعون حرام اذالفرار نسيان الفاعل المختار كما قال ابن مسعود رضى اللّه عنه الطاعون فتنة على الفار والمقيم اما الفار فيقول بفراره نجوت واما المقيم فيقول اقمت فمت وفى الحديث ( الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر فى الزحف ) والزحف الجيش الذى يرى لكثرته كانه يزحف اى يدب دبيبا والمراد هنا الفرار من الجيش فى الغزو ولكن يجب ان يقيد بالمثل او الضعف فهذا الخبر يدل على ان النهى عن الخروج للتحريم وانه من الكبائر وليس بعيدا ان يجعل اللّه الفرار منه سببا لقصر العمر كما جعل اللّه تعالى الفرار من الجهاد سببا لقصر العمر قال تعالى { قل لن ينفعكم الفرار ان فررتم من الموت او القتل واذا لا تمتعون الا قليلا } واما الخروج بغير طريق الفرار فمرخص فيه لكن الرخصة مشروطة بشرائط صعبة لا يقدر عليها الا الافراد منها حفظ امر الاعتقاد والتحرز من الاسباب العادية للمرض كالهواء الفاسد وغيره فهو رخصة لكن مباشرة الحمية لاجل الخلاص من الموت سفه وعبث لا يشك فى حرمتها عوام المسلمين فضلا عن خواصهم قالوا فى بعض الامراض سراية الى ما يجاوره باذن اللّه تعالى كما قال صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ان من القرف التلف ) والقرف بالتحريك مداناة المرضى واما قوله عليه السلام ( لا عدوى ) فانما هو نفى للتعدى طبعا كما هو اعتقاد اهل الجاهلية حيث كانوا يرون التأثير من طبيعة المرض لا نفى للسراية مطلقا والتسبب واجب للعوام والمبتدئين فى السلوك والتوكل افضل للمتوسطين واما الكاملون فليس يمكن حصر احوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان : قال فى المنثوى درحذر شوريدن شوروشر ست ... روتو كل كن توكل بهترست باقضا نبجه مزن اى تند وتيز ... تانكيردهم قضا باتوستيز مرده بايد بود بيش حكم حق ... تانيايد زحم از رب الفلق روى ان جالينوس دفع الى اصحابه قرصين مثل البنادق وقال اجعلوا احدهما بعد موتى فوق الحديد الذى يعمل عليه الحدادون والآخر فى حب مملوء من الماء ثم اكسروا الحب ففعلوا كما اوصى فذاب الحديد فى الارض ولم يجدوا منه شيأ وانجمد الماء وقام بلا وعاء قال الحكماء اراد بذلك انى وان قدرت الى اذابة اصلب الاجساد واقامة الماء الذى من طبعه السيلان ما وجدت للموت دواء ولذا قال بعضهم ألا يا ايها المغرور تب من غير تأخير ... فان الموت قد يأتى ولو صيرتقارونا بسل مات ارسطاليس بقراط بافلاج ... وافلاطون ببرسام وجالينوس مبطونا قال الشافعى رحمه اللّه انفس ما يداوى به الطاعون التسبيح ووجهه بان الذكر يرفع العقوبة والعذاب قال تعالى { فلولا انه كان من المسبحين } وكذا كثرة الصلاة على النبى المحترم صلى اللّه تعالى عليه وسلم لكن مثل هذا انما يكون مؤثرا اذا اقترن بالشرائط الظاهرة والباطنة اذ ليس كل ذكر وصلاة شفيعا عند الحضرة الآلهية : قال المنثوى كرندارى تودم خوش دردعا ... رودعا ميخواه از اخوان صفا هركرا دل باك ازاعتدال ... آن دعايش ازونيست كفت داورست آن دعا بينحودان خودديكرست ... آن دعا ازونيست كفت داورست آن دعا حق ميكند جون اوفناست ... آن دعا وآن اجابت ازخداست هين بجواين قوم را اى مبتلا ... هين غنيمت دارشان بيش ازبلا ٦٠ { واذ استسقى موسى لقومه } نعمة اخرى كفروها اى اذكروا ايضا يا بنى اسرائيل اذ سأل موسى السقيا { لقومه } لاجل قومه وكان ذلك فى التيه حين استولى عليهم العطش الشديد فاستغاثوا بموسى فدعا ربه ان يسقيهم { فقلنا } له بالوحى ان { اضرب بعصاك } وكانت من آس الجنة طولها عشرة اذرع على طور موسى ولها شعبتان تتقدان فى الظلمة نورا حملها آدم من الجنة فتوارثها الانبياء حتى وصلت الى شعيب فاعطاها موسى { الحجر } اللام اما للعهد والاشارة الى معلوم فقد روى انه كان حجرا طوريا حمله معه وكان خفيفا مربعا كرأس الرجل له اربعة اوجه فى كل وجه ثلاث اعين او هو الحجر الذى فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبرأه اللّه تعالى مما رموه به من الادرة فاشار اليه جبريل ان ارفعه فان للّه قيه قدرة ولك فيه معجزة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( كان بنوا اسرائيل ينظر بعضهم الى سوءة بعض وكان موسى يغتسل وحده فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فجمع موسى باثره يقول ثوبى يا حجر حتى نظرت بنو اسرائيل الى سوءة موسى فقالوا واللّه ما بموسى ادرة ) وهى بالضم نفخة بالخصية واما للجنس اى اضرب اضرب الشىء الذى يقال له الحجر وهو الاظهر فى الحجة اى ابين على القدرة فان اخراج الماء بضرب العصا من جنس الحجر اى حجر كان ادل على ثبوت نبوة موسى عليه السلام من اخراجه من حجر معهود معين لاحتمال ان يذهب الوهم الى تلك الخاصية فى ذلك الحجر المعين كخاصية جذب الحديد فى حجر المغناطيس { فانفجرت } اى فضرب فالفاء متعلقة بمحذوف والانفجار الانسكاب والانبجاس الترشح والرش فالرش اول ثم الانسكاب { منه } اى من ذلك الحجر { اثنتا عشرة عينا } ماء عذبا على عدد الاسباط لكل سبط عين وكان يضربه بعصاه اذا نزل فيتفجر ويضربه اذا ارتحل فييبس { قد علم كل اناس } اي كل سبط من الاسباط الاثنى عشر { مشربهم } اى عينهم الخاصة بهم او موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره فى شربه والمشرب المصدر والمكان والحكمة فى ذلك ان الاسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر وكل سبط اراد تكثير نفسه فجعل اللّه لكل سبط منهم نهرا على حدة ليستقوا منها ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة وكان ينبع من كل وجه من الحجر ثلاث اعين تسيل كل عين فى جدول الى سبط وكانوا ستمائة الف وسعة المعسكر اثنى عشر ميلا ثم ان اللّه تعالى قد كان قادرا على تفجير الماء وفلق البحر من غير ضرب لكن اراد ان يربط المسببات بالاسباب حكمة منه للعباد فى وصولهم الى المراد وليترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم فى المعاد ومن انكر امثال هذه المعجزات فلغاية جهله باللّه وقلة تدبره فى عجائب صنعه فانه لما امكن ان يكون من الاحجار ما يحلق الشعر ويمقر الخل ويجذب الحديد لم يمتنع ان يخلق اللّه حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الارض او لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك قال القرطبى فى تفسيره ما ورد من انفجار الماء ونبعه من يد نبينا صلى اللّه عليه وسلم وبين اصابعه اعظم فى المعجزة فانا نشاهد الماء يتفجر من الاحجار آناء الليل واطراف النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبى قبل اذ لم يخرج الماء من لحم ودم { كلوا } علىرادة القول اى قلنا لهم او قيل لهم كلوا { واشربوا من رزق اللّه } هو ما رزقهم من المن والسلوى والماء فالاكل يتعلق بالاولين والشرب بالثالث وانما لم يقل من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى فقلنا ايذنا بان الامر بالاكل والشرب لم يكن بطريق الخطاب بل بواسطة موسى عليه السلام { ولا تعثوا فى الارض } العثى اشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا فى الفساد حال كونهم { مفسدين } فالمراد بهذه الحال تعريفهم بانهم على الفساد لا تقييد العامل والا لكان مفهومه مفيدا معنى تمادوا فى الفساد فيكون التقييد للعامل بالخاص ودلت الآية على فضيلة امة محمد صلى اللّه عليه وسلم فان بنى اسرائيل احتاجوا الى الماء فرجعوا الى موسى ليسأل واحتاجوا الى البقل والقثاء وسائر المأكولات ففعلوا ذلك وهذه الامة اطلق لهم ان يسألوا اللّه كلما احتاجوه قال تعالى { واسألوا اللّه من فضله } وقال { ادعوني استجب لكم } وفيها بشارة عظيمة وسأل موسى ربه الماء لقومه بقولهم وسأل عيسى ربه المائدة بقولهم وسأل نبينا عليه الصلاة والسلام المغفرة لنا بامر اللّه تعالى قال { واستغفر لذنبك وللمؤمنين } فلما اجاب اللّه لهما فيما سألاه بطلب القوم فلأن يجيب نبينا فيما سأله بامره اولى وافادت الآية ايضا اباحة الخروج الى الاستسقاء وهو انما يكون اذا دام انقطاع المطر مع الحاجة اليه فالحكم حينئذ اظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة وقد استسقى نبينا محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم فخرج الى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وروى عن جندبة ان اعرابيا دخل عليه صلى اللّه عليه وسلم يوم الجمعة وقال يا رسول اللّه هلكت الكراع والمواشى واجدبت الارض فادع اللّه ان يسقينا فرفع يديه ودعا قال انس رضى اللّه عنه والسماء كانها زجاجة ليس بها قزعة فنشأت سحابة ومطرت الى الجمعة القابلة : قال فى المثنوى تافرود آيد بلا بى دافعى ... جون نباشد ازتضرع شافعى تاسقاهم ربهم آيد خطاب ... تشنه باش اللّه اعلم بالصواب وعدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند اهل الطريقة لانه كالمقاومة مع اللّه ودعوى التحمل لمشاقه كما قال الشيخ المحقق ابن الفارض قدس سره ويحسن اظهار التجلد للعدى ... ويقبح غير العجز عند الاحبة وفي الحديث ( لن تخلوا الارض من اربعين رجلا مثل خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام فبهم تسقون وبهم تنصرون ما مات منهم احد الا ابدل اللّه مكانه آخر ) كرندارى تودم خوش دردعا ... رودعا ميخواه ازاخوان صفا وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه عن النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم انه قال ( ما عام بامطر من عام ولكنه اذا عمل قوم بالمعاصى حول اللّه ذلك الى غيرهم فاذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك الى الفيافى ) قال الشيخ الشهير بافتاده ترقى الطالب برعاية السنن وذكر انه استسقى الناس مرارا فى زمن الحجاج فلم ينزل لهم قطرة فقيل لهم لودعا شخص لم يترك سنة العصر وسنة الاولى من العشاء لحصل المقصود والا لا يحصل وان دعوتم اربعين مرة فتفقدوا لم يجدوا شخصا على الصفة المذكورة فرجع الحجاج الى نفسه فوجدها على ما ذكر فدعا فنزل مطر عظيم فى هذا الحين وحصل المقصود وهذا ببركة رعاية سنة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم مع انه مشهور بالظلم ولا بد فى الاستسقاء من تقديم التوبة والصدقة والصوم وان يجعل صلحاء الناس وسيلة وشفيعا فى ذلك ويستسقى للدواب العطاش والانعام السائمة والاطفال الضعيفة فلعلهم يسقون ببركتها وليكن الداعى ربه على يقين الاجابة لان رد الدعاء اما لعجز فى اجابته او لعدم كرم فى المدعو او لعدم علم المدعو بدعاء الداعى وهذه الاشياء منتفية عن اللّه تعالى فانه كريم عالم قادر لا مانع له من الاجابة وهو اقرب الى المؤمنين منهم يسمع دعاءهم ويقبل تضرعهم والدعاء مهما كان اعم كان الى الاجابة اقرب فانه لا بد ان يكون فى المسلمين من يستحق الاجابة فاذا اجاب اللّه دعاء البعض فهوا كرم من ان يرد الباقى وفى الحديث ( ادعوا اللّه بألسنة ما عصيتموه بها ) قالوا يا رسول اللّه ومن لنا بتلك الالسنة قال ( يدعو بعضكم لبعض لانك ماعصيت بلسانه وهو ماعصى بلسانك ) وفى تفسير الفاتحة للفنارى ان استقامة التوجه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوى فى الاجابة فمن زعم انه يقصد مناداة زيد وهو يستحضر غيره ثم لم يجد الاجابة فلا يلومن الا نفسه اذ لم يناد القادر على الاجابة وانما توجه الى ما انشأه من صفات تصوراته بالحالة الغالبة عليه اذ ذاك روى ان فرعون قبل دعوى الآلهية امر ان يكتب على باب داره بسم اللّه فلما لم يؤمن بموسى قال آلهى انى ادعوه ولا ارى فيه خيرا قال لعلك تريد اهلاكه انت تنظر الى كفره وانا الى ما كتبه على بابه فمن كتبه على سويداء قلبه ستين سنة اولى بالرحمة فاذا كان حال من كتبه على باب داره هكذا فكيف حال من نقشه على باب قلبه يستجاب دعاؤه لا محالة واول شرائط الاجابة اصلاح الباطن باللقمة الطيبة وآخرها الاخلاص وحضور القلب يعنى التوجه الاحدى والاشارة فى تحقيق الآية ان الروح الانسانى وصفاته فى عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو يستسقى ربه ليرويها من ماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا لا اله الا اللّه ولها شعبتان من النفى والاثبات تتقدان نورا عند الاستيلاء ظلمات صفات النفس وقد حملت من جنة حضرة العزة على حجر القلب الذى كالحجارة او اشد قسوة فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا من ماء الحكمة لان كلمة لا اله الا اللّه اثنا عشر حرفا من كل حرف عين قد علك كل سبط من اسباط الصفات الانسانية وهم اثنا عشر سبطا من الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة والقلب والنفس ولكل واحد منهم مشرب من عين حرف من حروف الكلمة قد علم مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمشرب عذب فرات ومشرب ملح اجاج فالنفوس ترد مناهل المنى والشهوات والقلوب تشرب من مشارب التقى والطاعات والارواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات والاسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلى الصفات عن ساقى وسقاهم ربهم شراب الاضمحلال فى حقيقة الذات كلوا واشربوا كل واحد من رزق اللّه بامره ورضاه ولا تعثوا فى الارض مفسدين بترك الامر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وايثار الآخرة على الاولى واختيارهما على المولى كذا فى التأويلات النجمية ٦١ { واذ قلتم } تذكير لجناية اخرى لاسلاف بنى اسرائيل وكفرانهم لنعمة اللّه عز وجل خاطبهم تنزيلا لهم مكان آبائهم لما بينهم من الاتحاد وكان هذا القول منهم فى التيه حين سئموا من اكل المن والسلوى لكونهما غير مبدلين والانسان اذا داوم شيأ واحدا سئمه وتذكروا عيشهم الاول بمصر لانهم كانوا اهل فلاحة فنزعوا الى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم الى ما جرت عليه عادتهم فقالوا { يا موسى لن نصبر على طعام واحد } الطعام ما يتغذى به وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لانهم كانوا يأكلون احدهما بالآخر فيصيران طعاما واحدا او اريد بالواحد نفى التبدل والاختلاف ولو كان على مائدة الرجل الوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل لا يأكل فلان الا طعاما واحدا وفى تفسير البغوى والعرب تعبر عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وانما يخرج من الملح دون العذب وقيل لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا اغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد بنفسه وكان فيهم اول من اتخذ العبيد والخدم { فادع لنا ربك } اى سله لاجلنا بدعائك اياه والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء { يخرج لنا } اى يظهر لنا ويوجد شيأ فالمفعول محذوف والجزم لجواب الامر فان دعوته سبب الاجابة اى ان تدع لنا ربك يخرج لنا { مما تنبت الارض } اسناد مجازى باقامة القابل وهو الارض مقام الفاعل وهو اللّه تعالى ومن تبعيضية وما موصولة { من بقلها } من بيانية واقعة موقع الحال من الضمير اى ما تنبته كائنا من بقلها والبقل ما تنبت الارض من الخضر والمراد اصناف البقول التى تأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث واشباهها { وقثائها } اخو القثد وهى شيء يشبه الخيار { وفومها } وهو الحنطة لان ذكر العدس يدل على انه المراد لانه من جنسه وقيل هو الثوم لان ذكر البصل يدل على انه هو المراد فانه من جنسه * قال ابن التمجيد فى حواشيه وحمله على الثوم اوفق من الحنطة لاقتران ذكره بالبصل والعدس فان العدس يطبخ بالثوم والبصل { وعدسها } حب معروف يستوى كيله ووزنه { وبصلها } بقل معروف تطيب به القدور { قال } استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال اللّه لهم او موسى عليه السلام فقيل قال انكارا عليهم { أتستبدلون } اى أتأخذون لانفسكم وتختارون { الذى هو ادنى } اى اقرب منزلة وأدون قدرا { بالذى هو خير } اى بمقابلة ما هو خير فان الباء تصحب الزائل دون الآتى الحاصل وخيرية المن والسلوى فى اللذاذة وسقوط المشقة وغير ذلك ولا كذلك الفوم والعدس والبصل وامثالها قال بعضهم الحنطة وان كانت اعلى من المن والسلوى لكن خساستها ههنا بالنسبة الى قيمتها وليس فى الآية ما يدل قطعها على انهم ارادوا بقولهم لن نصبر على طعام واحد ان يكون هذا تارة وذاك اخرى { اهبطوا } اى انحدروا وانزلوا من التيه ان كنتم تريدون هذه الاشياء { مصرا } من الامصار لانكم فى البرية فلا يوجد فيها ما تطلبون وانما يوجد ذلك فى الامصار فالمراد ليس مصر فرعون لقوله تعالى { يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب اللّه لكم } واذا وجب عليهم دخول تلك الارض فكيف يجوز دخول مصر فرعون وهو الاظهر والمصر البلد العظيم من مصر الشىء يمصره اى قطعه سمى به لانقطاعه عن الفضاء بالعمارة وقد تسمى القرية مصرا كما تسمى المصر قرية وهو ينصرف ولا ينصرف فصرف ههنا لان المراد غير معين وقيل اريد به مصر فرعون وانما صرف لسكون وسطه كهند ودعد ونوح او لتأويله بالبلد دون المدينة فلم يوجد فيه غير العلمية { فان لكم ما سألتم } تعليل للامر بالهبوط اى فان لكم فيه ما سألتموه من بقول الارض { وضربت عليهم الذلة } اى الذل والهوان { والمسكنة } اى الفقر يسمى الفقير مسكينا لان الفقر اسكنه واقعده عن الحركة اى جعلتا محيطتين بهم احاطة القبة بمن ضربت عليه او الصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم كما يضرب الطين على الحائط فهو استعارة بالكناية فترى اليهود وان كانوا مياسير كأنهم فقراء { وباؤوا } اى رجعوا { بغضب } عظيم كائن { من اللّه } اى استحقوه ولزمهم ذلك ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم ( ابوء بنعمتك على ) اى اقر بها والزمها نفسى وغضب اللّه تعالى ذمه اياهم فى الدنيا وعقوبتهم فى الآخرة { ذلك } اى ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم { بانهم } اى بسبب ان اليهود { كانوا يكفرون } على الاستمرار { بآيات اللّه } الباهرة التى هى المعجزات الساطعة الظاهرة على يدى موسى عليه السلام مما عد او لم يعد وكذبوا بالقرآن ومحمد عليه السلام وانكروا صفته فى التوراة وكفروا بعيسى والانجيل { ويقتلون النبيين بغير الحق } كشعيب وزكريا ويحيى عليهم السلام وفائدة التقييد مع ان قتل الانبياء يستحيل ان يكون بحق الايذان بان ذلك عندهم ايضا بغير الحق اذ لم يكن احد معتقدا بحقية قتل احدهم عليهم السلام * فان قيل كيف جاز ان يخلى بين الكافرين وقتل الانبياء قيل ذلك كرامة لهم وزيادة فى منازلهم كمثل من يقتل فى سبيل اللّه من المؤمنين وليس ذلك بخذلان لهم قال ابن عباس والحسن رضى اللّه عنهم لم يقتل قط من الانبياء الا من لم يؤمر بقتال وكل من امر بقتال نصر فظهر ان لا تعارض بين قوله تعالى { ويقتلون النبيين بغير الحق } وقوله { انا لننصر رسلنا } وقوله تعالى { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون } مع انه يجوز ان يراد به النصرة بالحجة وبيان الحق وكل منهم بهذا المعنى منصور روى انهم قتلوا فى يوم واحد سبعين نبيا : قال فى المثنوى جون سفيهانراست اين كار وكيا ... لازم آمد يقتلون الانبيا انبيارا كفته قوم راه كم ... از سفه انا نطيرنا بكم { ذلك } اى ما ذكر من الكفر بالآيات العظام وقتل الانبياء عليهم السلام { بما عصوا وكانوا يعتدون } يتجاوزون امرى ويرتكبون محارمى اى جربهم العصيان والتمادى فى العدوان الى المشار اليه فان صغار الذنوب اذا دووم عليها ادت الى كبارها كما ان مداومة صغار الطاعات مؤدية الى تحرى كبارها وسقم القلب بالغفلة عن اللّه تعالى منعهم عن ادراك لذاذة الايمان وحلاوته لان المحموم ربما وجد طعم السكر مرا فالغفلة سم للقلوب مهلك فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة اللّه نفرتك عن الطعام المسموم واعلم ان للّه مرادا وللعبد مرادا وما اراد اللّه خير فقوله اهبطوا اى عن سماء التفويض وحسن التدبير منالكم الى ارض التدبير والاختيار منكم لانفسكم موصوفين بالذلة والمسكنة لاختياركم مع اللّه وتدبيركم لانفسكم مع تدبير اللّه ولو ان هذه الامة هى الكائنة فى التيه لما قالت مقال بنى اسرائيل لشفوف انوارهم ونفوذ اسرارهم قال تعالى { وكذلك جعلناكم امة وسطا } اى عدلا خيارا وفى التأويلات كما ان بنى اسرائيل لم يصبروا على طعام واحد كان ينزل عليهم من السماء وقالوا لموسى من خساسة طبعهم ما قالوا كذلك نفس الانسان من دناءة همتها لم تصبر على طعام واحد يطعمها ربها الواحد من واردات الغيب كما كان يصبر نفس النبى عليه السلام ويقول ( لست كأحدكم فانى ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى ) بل يقول لموسى القلب فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض البشرية من بقل الشهوات الحيوانية وقثاء اللذات الجسمانية قال أتستبدلون الفانى بالباقى اهبطوا مصر القالب السفلى من مقامات الروح العلوى فان لكم ما سألتم من المطالب الدنيئة وضربت عليهم الذلة والمسكنة كالبهائم والانعام بل هم اضل لانهم باؤوا بغضب مناللّه ذلك بانهم كانوا يكفرون بالواردات الغيبية والمكاشفات الروحانية بآيات اللّه ويقتلون النبيين بغير الحق اى يبطلون ما يفتح اللّه لهم من انباء الغيب فى مقام الانبياء وينكرون اسرارهم ذلك يعنى حصول هذه المقامات منهم بما عصوا ربهم فى نقض العهود ببذل المجهود فى طاعة المعبود وكانوا يعتدون من طلب الحق فى مطالبة ما سواه انتهى باختصار ثم ان فى الآية الكريمة دليلا على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات وكان النبى عليه السلام يحب الحلوى والعسل ويشرب الماء البارد العذب والعدس والزيت طعام الصالحين وفى الحديث ( عليكم بالعدس فانه مبارك مقدس وانه يرقق القلب ويكثر الدمعة فانه بارك فيه سبعون نبيا اخرهم عيسى ابن مريم ) وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت ويوما بعدس ويوما بلحم ولو لم يكن فيه فضيلة الا ان ضيافة ابراهيم عليه السلام فى مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية وهو مما يجفف البدن فيخف للعبادة ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم والحنطة واكل البصل والثوم وماله رائحة كريهة مباح وفى الحديث ( من اكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا ادم ) والمراد بالملائكة الحاضرون مواضع العبادات لا الملازمون للانسان فى جميع الاوقات ومعنى تأذيهم من هذه الروائح وانه مخصوص بها او عام لكل الروائح الخبيثة مما يفوض علمه الى الشارع وهذا التعليل يدل على انه لا يدخل المسجد وان كان خاليا من الانسان لانه محل الملائكة قال عليه السلام ( ان كنتم لا بد لكم من اكلها فاميتوها طبخا ) وقاس قوم على المساجد سائر مجامع الناس وعلى اكل الثوم ما معه رائحة كريهة كالبخر وغيره وانما كره النبى عليه صلى اللّه عليه وسلم اكل البصل ونحوه لما انه يأتيه الوحى ويناجى اللّه تعالى ولكن رخص للسائر ويقال كان اخر ما اكله النبى صلى اللّه عليه وسلم البصل ايذانا لامته باباحته والعزيمة ان يقتدى الرجل فى اقواله وافعاله واحواله برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قال المولى الجامى يا نبى اللّه السلام عليك ... انما الفوز والفلاح لديك كر نرفتم طريق سنت تو ... هستم از عاصيان امت تو مانده ام زير بار عصيان بست ... افتم از باى اكرنكيرى دست ٦٢ { ان الذين آمنوا } بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون بقرينة انتظامهم فى سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بان تلك المرتبة وان عبر عنها بالايمان لا تجديهم نفعا اصلا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا { والذين هادوا } اى تهودوا من هاد اذا دخل فى اليهودية ويهود اما عربى من هاد اذا تاب سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخصوا به لما كانت توبتهم توبة هائلة واما معرب يهودا كأنهم سموا باسم اكبر اولاد يعقود عليه السلام ويقال انما سمى اليهود يهودا لانهم اذا جاءهم رسول او نبى هادوا الى ملكهم فدلوه عليه فيقتلونه { والنصارى } جمع نصران كندامى جمع ندمان سمى بذلك لانهم نصروا المسيح عليه السلام او لانهم كانوا معه فى قرية يقال لها ناصرة فسموا باسمها او لاعتزائهم الى نصرة وهى قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام { والصابئين } من صبأ اذا خرج من الدين وهم قوم عدلو عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الكواكب والملائكة فكانوا كعبدة الاصنام وان كانوا يقرأون الزبور لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نسائهم وجاء اعرابى الى النبى صلى اللّه عليه وسلم فقال لم يسمى الصابئون صابئين فقال عليه السلام ( لانهم اذا جاءهم رسول او نبى اخذوه وعمدوا الى قدر عظيم فأغلوه حتى اذا كان محمى صبوه على رأسه حتى يتفسخ ) كذا فى روضة العلماء { من } مبتدأ خبره فلهم اجر عظيم والجملة خبران { آمن } من هؤلاء الكفرة { باللّه } وبما انزل على جميع النبيين { واليوم الآخر } وهو يوم البعث اى من احدث منهم ايمانا خالصا بالمبدأ والمبدأ والمعاد على الوجه اللائق ودخل فى ملة الاسلام دخولا اصيلا { وعمل } عملا { صالحا } مرضيا عند اللّه { فلهم } بمقابلة تلك والفاء للسببية { اجرهم } الموعود لهم { عند ربهم } اى مالك امرهم ومبلغهم الى كمالهم اللائق وعند متعلق بما تعلق به لهم من معنى الثبوت اخبر ان هؤلاء اذا آمنوا وعملوا الصالحات لم يؤاخذوا بتقديم فعلهم ولا بفعل آبائهم ولا ينقصون من ثوابهم { ولا خوف عليهم } عطف على جملة فلهم اجرهم اى لا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب { ولا هم يحزنون } حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما وتلخيصه من اخلص ايمانه واصلح عمله دخل الجنة واعلم ان هذا الدين الحق حسنه موجود فى النفوس وانما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية والتقليد فكل مولود انما يولد فى مبدأ الخلقة واصل الجبلة على الفطرة السليمة والطبع المتهئ لقبول الدين فلو ترك عليها استمر على لزومها ولم يفارقها الى غيرها كما قال عليه السلام ( ما من مولود الا وقد يولد على فطرة الاسلام ثم ابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) قال ابن الملك فى شرح المشارق المراد بالفطرة قولهم بلى حين قال اللّه تعالى ألست بربكم فلا مخالفة بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام ( ان الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ) والتحقيق ان اللّه تعالى لما اخرج ذرية آدم من ظهره وقال ألست بربكم آمنوا كلهم لمشاهدتهم الحق بالمعاينة لكن لم ينفع ايمان الاشقياء لكونهم لم يؤمنوا من قبل فاختلط السعيد والشقي ولم يفرق بينهما فى هذا العالم ثم انهم اذا نزلوا فى بطون الامهات تميز السعيد من الشقى لان الكاتب لا ينظر الى عالم الاقرار بل ينظر الى ما فى علم اللّه تعالى من احوال الممكن من السعادة والشقاوة وغيرهما واذا ولدوا يولدون على فطرة الاسلام وهى فطرة بلى فههنا اربعة مقامات * الاول علم اللّه وهو البطن المعنوى ويقال له فى اصطلاح الصوفية بطن الام وام الكتاب والثانى مقام بلى ويقال له مولود معنوى والثالث بطن الام الصورى والرابع مولود صورى وهو صورة المولود المعنوى لذلك لا يتميز السعيد من الشقى فيه كما لا يتميز فى عالم ألست والبطن الصورى صورة علم اللّه لذلك يتميز السعيد من الشقى فيها فظهر لك معنى حديث النبى عليه السلام ( السعيد سعيد فى بطن امه والشقى شقى فى بطن امه ) ومعنى الخبر الآخر ( السعيد قد يشقى والشقى قد يسعد ) ومعنى الحديث ( كل مولود يولد على فطرة الاسلام ) كذا حققه الشيخ بالى الصوفيوى قدس سره يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة قال شيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة فى كتابه المسمى باللائحات البرقيات لاح ببالى ان المراد ببطن الام على مشرب اهل التحقيق هو باطن الغيب المطلب الذاتى الاحدى يعنى السعيد سعيد فى باطن الغيب المطلق ازلا وفى ظاهر الشهادة المطلقة ابدا ولم تتداخل الشقاوة فى واحد منهما اصلا الا ان السعيد قد تتداخله الشقاوة والشقى قد تتداخله السعادة فى البرزخ الجامع بينهما فيكون السعيد الشقى سعيدا بالسعادة الذاتية وشقيا بالشقاوة العارضية والشقى السعيد شقيا بالشقاوة الذاتية وسعيدا بالسعادة العارضية والسبق فى الغاية للذاتى دون العارضى ويغلب حكم الذاتى على حكم العارضى ويختم به كما بدئ به ويختم آخر نفس الشقى بالشقاوة العارضية بالسعادة الذاتية وتزول شقاوته العارضية ويدخل فى زمرة السعداء ابدا ويختم آخر نفس السعيد بالسعادة العارضية بالشقاوة الذاتية وتزول سعادته العارضية ويدخل فى زمرة الاشقياء ابدا والى هذا التداخل والعروض البرزخى اشار بقوله السعيد قد يشقى والشقى قد يسعد والتبدل فى العارضى لا فى الذاتى والاعتبار بالذاتى لا العارضى انتهى فمن انشرح قلبه بنور اللّه فقد آمن باللّه لا بالتقليد والرسم والعادة والاقتداء بالآباء واهل البلد فلا خوف عليهم من حجب الانانية ولا هم يحزنون بالاثنينية لانهم الواصلون الى نون الوحدة والهوية ٦٣ { واذ اخذنا ميثاقكم } تذكير لجناية اخرى لاسلاف بنى اسرائيل اى اذكروا يا بنى اسرائيل وقت اخذنا لعهد آبائكم بالعمل على ما فى التوراة وذلك قبل التيه حين خرجوا مع موسى من مصر ونجوا من الغرق { ورفعنا فوقكم الطور } كانه ظلة حتى قبلتم واعطيتم الميثاق والطور الجبل بالسريانية وذلك ان موسى عليه السلام جاءهم بالالواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وابوا قبولها فامر جبريل فقلع الطور من اصله ورفعه وظللّه فوقهم وقال لهم موسى ان قبلتم والا القى عليكم فلما رأوا ان لا مهرب لهم منها قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود لئلا ينزل عليهم فصارت عادة فى اليهود لا يسجدون الا على انصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع عنا العذاب ثم رفع الجبل ليقبلوا التوراة لم يكن جبرا على الاسلام لان الجبر ما يسلب الاختيار وهو جائز كالمحاربة مع الكفار واما قوله تعالى { لا اكراه فى الدين } وامثاله فمنسوخ بالقتال قال ابن عطية والذى لا يصح سواه ان اللّه جبرهم وقت سجودهم على الايمان لانهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك { خذوا } على ارادة القول اى فقلنا لهم خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } بجد وعزيمة ومواظبة { واذكروا ما فيه } اى احفظوا ما فى الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لعلكم تتقون } رجاء منكم ان يكونوا متقين ٦٤ { ثم توليتم من بعد ذلك } اى اعرضتم عن الميثاق والوفاء به والدوام عليه { من بعد ذلك } الميثاق المؤكد { فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته } عطفه بالامهال وتأخير العذاب { لكنتم من الخاسرين } اى من الهالكين ولكن تفضل عليكم حيث رفع الطور فوقكم حتى تبتم فزال الجبل عنكم ولولا ذلك لسقط عليكم والخسران فى الاصل ذهاب رأس المال وهو ههنا هلاك النفس لانها الاصل وقد من اللّه تعالى على امة محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث فرض عليهم الفرائض واحدة بعد واحدة ولم يفرض عليهم جملة فاذا استقرت الواحدة فى قلوبهم فرض عليهم الاخرى واما بنوا اسرائيل فقد فرض عليهم بدفعة واحدة فشق عليهم ذلك ولذا لم يقبلوا حتى رأوا العذاب ثم ان اللّه تعالى امر بحفظ الاوامر والعمل وبعدم النسيان والتضييع وقال واذكروا ما فيه وهو المقصود من الكتب الآلهية لان العمدة العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيبها فان ذلك نبذ لها مثاله ان السلطان اذا ارسل منشورا الى واحد من امرائه فى ممالكه وامره فيه ان يبنى له قصرا فى تلك الديار فوصل الكتاب اليه وهو لا يبنى ما امر به لكنه يقرأ المنشور كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد القصر حاضرا فالظاهر انه يستحق العتاب بل العقاب فالقرآن انما هو مثل ذلك المنشور قد امر اللّه فيه عبيده ان يعمروا اركان الدين من الصوم والصلاة وغيرهما فمجرد قراءة القرآن بغير عمل لا يفيد قال فى المثنوى هست قرآن حالهاى انبيا ... ماهيان بحرباك كبريا وربخوانى ونه قرآن بذير ... انبيا واوليارا ديده كير روى انه عليه السلام شخص ببصره الى السماء يوما ثم قال ( هذا اوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شىء ) فقال زياد بن لبيد الانصارى كيف يختلس منه وقد قرأنا القران فواللّه لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وابناءنا فقال صلى اللّه عليه وسلم ( ثكلتك امك يا زياد هذه التوراة والانجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغنى عنهم ) وفى الموطأ عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه قال لانسان انك فى زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه يحفظ فيه حدود القرآن ويضيع حروفه قليل من يسأل كثير من يعطى يطولون الصلاة ويقصرون الخطبة يبدون فيه اعمالهم قبل اهوائهم وسيأتى على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده كثير من يسأل قليل من يعطى يطولون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة يبدون فيه اهواءهم قبل اعمالهم والاشارة فى الآية ان اخذ الميثاق كان عاما كما كان فى عهد ألست بربكم ولكن قوما اجابوه شوقا وقوما اجابوه خوفا ليتحقق ان الامر بيد اللّه فى كلتا الحالتين يسمع خطابه من يشاء موجبا للّهداية ويسمع من يشاء موجبا للضلالة فانه لا برهان اظهر من رفع الطور فوقهم عيانا فلما اوبقهم الخذلان لم ينفعهم اظهار البرهان وفى قوله { خذوا ما آتيناكم بقوة } اشارة الى ان اخذ ما يؤتى اللّه من الاوامر والنواهى والطاعات والعلوم وغير ذلك لا يمكن للقوة الانسانية الا بقوة ربانية وتأييد الهى { واذكروا ما فيه } من الرموز والاشارات والدقائق والحقائق { لعلكم تتقون } باللّه عما سواه { ثم توليتم من بعد ذلك } اى اعرضتم عن طريق الحق واتباع الشريعة باستيلاء قوة الطبيعة بعد اخذ الميثاق وسلوك طريق الوفاق ابتلاء من اللّه { فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته } وهو سبق العناية فى البداية وتوفيق اخذ الميثاق بالقوة فى الوسط وقبول التوبة وتوفيقها والثبات عليها فى النهاية { لكنتم من الخاسرين } المصرين على العصيان المغبوتين بالعقوبة والخسران والمبتلين بذهاب الدنيا والعقبى ونكال الآخرة والاولى كما كان حال المصرين منكم والمعتدين ٦٥ { ولقد علمتم } خطاب لمعاصرى النبى صلى اللّه عليه وسلم من اليهود اى وباللّه قد عرفتم يا بنى اسرائيل { الذين اعتدوا } اى تجاوزوا الحد ظلما { منكم } من اسلافكم محله نصب على انه حال { فى } يوم { السبت } اى جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد واصل السبت القطع لان اليهود امروا بان يسبتوا فيه اى يقطعوا الاعمال ويشتغلوا بعبادة اللّه ويسمى النوم سباتا لانه يقطع الحركات الاختيارية وفيه تحذير وتهديد فكانه يقول انكم تعلمون ما اصابهم من العقوبة فاحذروا كيلا يصبكم مثل ما اصابهم والقصة فيه انهم كانوا فى زمن داود عليه السلام بارض يقال لها ايلة بين المدينة والشام على ساحل بحر القلزم حرم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت فكان اذا دخل السبت لم يبق حوت فى البحر الا اجتمع هناك اما ابتلاء لاولئك القوم واما لزيارة السمكة التى كان فى بطنها يونس ففى كل سبت يجتمعن لزيارتها ويخرجن خراطيمهن من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها واذا مضى السبت تفرقن ولزمن مقل البحر فلا يرى شىء منها ثم ان الشيطان وسوس اليهم وقال انما نهيتم عن اخذها يوم السبت فعمد رجال من اهل تلك القرية فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه اليها الانهار فاذا كانت عشية الجمعة فتحوا تلك الانهار فاقبل الموج بالحيتان الى الحياض فلا يقدرن على الخروج لبعد عمقها وقلة مائها فاذا كان يوم الاحد يصطادونها فاخذوا واكلوا وملحوا وباعوا فكثرت اموالهم ففعلوا ذلك زمانا اربعين سنة او سبعين لم تنزل عليهم عقوبة وكانوا يتخوفون العقوبة فلما لم يعاقبوا استبشروا وتجرأوا على الذنب وقالوا ما نرى السبت الا قد احل لنا ثم استن الابناء سنة الآباء فلو انهم فعلوا ذلك مرة او مرتين لم يضرهم فلما فعلوا ذلك صار اهل القرية وكانوا نحوا من سبعين الفا ثلاثة اصناف صنف امسك ونهى وصنف امسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة وكان الناهون اثنى عشر الفا فنهوهم عن ذلك وقالوا يا قوم انكم عصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم فانتهوا عن هذا العمل قبل ان ينزل بكم البلاء فلم يتعظوا وابوا قبول نصحهم فعاقبهم اللّه بالمسخ وذلك قوله تعالى { فقلنا لهم } قهرا { كونوا قردة } جمع قرد كالديكة جمع ديك بالفارسية ( بوزينه ) وهذا امر تحويل لانهم لم يكن لهم قدرة على التحول من صورة الى صورة وهو اشارة الى قوله { انما قولنا لشىء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون } اى لما اردنا ذلك صاروا كما اردنا من غير امتناع ولا لبث { خاسئين } هو وقردة خبران اى كونوا جامعين بين القردية والخسىء وهو الصغار والطرد وذلك ان المجرمين لما ابوا قبول النصح قال الناهون واللّه لا نساكنكم فى قرية واحدة فقسموا القرية بجدار وصيروها بذلك ثنتين فلعنهم داود وغضب اللّه عليهم لاصرارهم على المعصية فمسخوا ليلا فلما اصبح الناهون اتوا ابوابها فاذا هى مغلقة لا يسمع منها صوت ولا يعلو منها دخان فتسوروا الحيطان ودخلوا فرأوهم قد صار الشبان قردة والشيوخ خنازير لها اذناب يتعاوون فعرفت القردة انسابهم من الانس ولم يعرف الانس انسابهم من القردة فجعلت القردة تأتى نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتبكى فيقول ألم ننهكم عن ذلك فكانوا يشيرون برؤسهم اى نعم والدموع تفيض من اعينهم ودل ذلك على انهم لما مسخوا بقى فيهم الفهم والعقل ثم لم يكن ابتداء القردة من هؤلاء بل كانت قبلهم قردة وهؤلاء حولوا الى صورتها لقبحها جزاء على قبح اعمالهم وافعالهم وماتوا بعد ثلاثة ايام ولم يتوالدوا والقردة التى فى الدنيا هى نسل قردة كانت قبلهم ٦٦ { فجعلناها } اى صيرنا مسخة تلك الامة وعقوبتها { نكالا } اى عبرة تنكل من اعتبر بها اى تمنعه من ان يقدم على مثل صنيعهم { لما بين يديها وما خلفها } اى لما قبلها وما بعدها من الامم والقرون لان مسختهم ذكرت فى كتب الاولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين فاستعير ما بين يديها للزمام الماضى وما خلفها للمستقبل { وموعظة } اى تذكرة { للمتقين } الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحى قومهم او لكل متق سمعها فاللام للاستغراق العرفى على التقديرين : قال السعدى نرود مرغ سوى دانه فراز ... جون دكر مرغ بينداندر بند بند كيراز مصائب دكران ... تانكيرند ديكران زتو بند واعلم ان هذا البلاء والخسران جزاء من لم يعرف قدر الاحسان ومن يكافى المنعم بالكفران يرد من عزة الوصال الى ذل الهجران وكان عقوبة الامم بالخسف والمسخ على الاجساد وعقوبة هذه الامة على القلوب وعقوبات القلوب اشد من عقوبات النفوس قال اللّه تعالى { ونقلب افئدتهم وابصارهم } الآية هكذا حال من لم يتأدب فى خدمة الملوك وينخرط فى اثناء السلوك ومن لم يتخط بساط القربة بقدم الحرمة يستوجب الحرمان ويستجلب الخسران ويبتلى بسياسة السلطان ثم علامة المسخ مثل الخنزير ان يأكل العذرات ومن اكل الحرام فقلبه ممسوخ ويقال علامة مسخ القلب ثلاثة اشياء لا يجد حلاوة الطاعة ولا يخاف من المعصية ولا يعتبر بموت احد بل يصير ارغب فى الدنيا كل يوم كذا فى زهرة الرياض وروى عن عوف بن عبد اللّه انه قال كان اهل الخير يكتب بعضهم بثلاث كلمات من عمل لآخرته كفاه اللّه امر دنياه ومن اصلح ما بينه وبين اللّه اصلح اللّه ما بينه وبين الناس ومن اصلح سريرته اصلح اللّه علانيته قال محمد بن على الترمذى صلاح اربعة اصناف فى اربعة مواطن صلاح الصبيان فى الكتاب وصلاح القطاع فى السجن وصلاح النساء فى البيوت وصلاح الكهول فى المساجد ٦٧ { واذ قال موسى لقومه } توبيخ آخر لاخلاف بنى اسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت من اسلافهم اى واذكروا قول موسى عليه السلام لاجدادكم { ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة } هى الانثى من نوع الثور او واحد البقر ذكرا كان او انثى من البقر وهو الشق سميت به لانها تبقر الارض اى تشقها للحراثة وسببه انه كان فى بنى اسرائيل شيخ موسر فقتله بنوا عمه طمعا في ميراثه فطرحوه على باب المدينة او حملوه الى قرية اخرى والقوه بفنائها ثم جاؤا يطالبون بديته وجاؤا بناس يدعون عليهم القتل فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه امر القتيل على موسى وكان ذلك قبل نزول القسامة فى التوراة فسألوا موسى ان يدعو اللّه ليبين لهم بدعائه فامرهم اللّه ان يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيى فيخبرهم بقاتله { قالوا } كأنه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا الى الامتثال او لا فقيل قالوا { أتتخذنا هزوا } اى أتجعلنا مكان هزء وسخرية وتستهزئ بنا نسألك عن امر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ولا جامع بينهما قال بعض العلماء كان ذلك هفوة منهم وجهالة فما انقادوا للطاعة وذبحها { قال } موسى وهو استئناف كما سبق { اعوذ باللّه ان اكون من الجاهلين } لان الهزؤ فى اثناء تبليغ امر اللّه جهل وسفه ودل ان الاستهزاء بامر الدين كبيرة وكذلك بالمسلمين ومن يجب تعظيمه وان ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد وليس المزاح من الاستهزاء قال امير المؤمنين على رضى اللّه تعالى عنه لا بأس بفكاهة يخرج بها الانسان من حد العبوس روى انه قدم رجل الى عبيداللّه بن الحسين وهو قاضى الكوفة فمازحه عبيداللّه فقال جبتك هذه من صوف نعجة او من صوف كبش فقال أتجهل ايها القاضى فقال له عبيداللّه واين وجدت المزاح جهلا فتلا هذه الآية فاعرض عنه عبيداللّه لانه رأه جاهلا لا يعرف المزاح من الاستهزاء ثم ان القوم علموا ان ذبح البقرة عزم من اللّه وجد فاستوصفوها كما يأتى ولو أنهم عمدوا الى ادنى بقرة فذبحوها لاجزأت عنهم ولكنهم شددوا على انفسهم فشدد اللّه عليهم وكانت تحته حكمة والقصة انه كان فى بنى اسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة اتى بها الى غيضة وقال اللّهم انى استودعك هذه العجلة لابنى حتى يكبر ومات الرجل فصارت العجلة فى الغيضة عوانا اى نصفا بين المسنة والشابة وكانت تهرب من كل من رأها فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان يقسم الليل ثلاثة اثلاث يصلى ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس امه ثلثا فاذا اصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتى به الى السوق فيبيعه بما شاء اللّه ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطى والدته ثلثه فقالت له امه يوما ان اباك قد ورثك عجلة استودعها اللّه فى غيضة كذا فانطلق وادع آله ابراهيم واسماعيل واسحق ان يردها عليك وعلامتها انك اذا نظرت اليها يخيل اليك ان شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها لان صفرتها كانت صفرة زين لا صفرة شين فاتى الفتى الغيضة فرأها ترعى فصاح بها وقال اعزم عليك باله ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب فاقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة باذن اللّه وقالت ايها الفتى البار لوالدته اركبنى فان ذلك اهون عليك فقال الفتى ان امى لم تأمرنى بذلك ولكن قالت خذ بعنقها فقالت البقرة بآله بنى اسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر على ابدا فانطلق فانك ان امرت الجبل ان ينقلع من اصله وينطلق معك لفعل لبرك بامك فسار الفتى بها الى امه فقالت له انك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة قال بكم ابيعها قالت بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتى وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الى السوق فبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بامه وكان اللّه به خبيرا فقال له الملك بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضى والدتى فقال الملك لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك فقال الفتى لو اعطيتنى وزنها ذهبا لم آخذه الا برضى امى فردها الى امه واخبرها بالثمن فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى منى فانطلق بها الى السوق فاتى الملك فقال استأمرت امك فقال الفتى انها امرتنى ان لا انقصها من ستة على ان استأمرها فقال الملك انى اعطيك اثنى عشرة على ان لا تستأمرها فابى الفتى ورجع الى امه واخبرها بذلك فقالت ان الذي يأتيك ملك فى صورة آدمى ليختبرك فاذا اتى فقل له أتأمر ان نبيع هذه البقرة ام لا ففعل فقال له الملك اذهب الى امك وقل لها امسكى هذه البقرة فان موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل فى بنى اسرائيل فلا تبيعوها الا بملئ مسكها دنانير فامسكوها وقدر اللّه تعالى على بنى اسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها مكافاة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة والوجه فى تعيين البقرة دون غيرها من البهائم انهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب اليهم ذلك كما قال تعالى { واشربوا فى قلوبهم العجل } ثم تابوا وعادوا الى طاعة اللّه وعبادته فاراد اللّه تعالى ان يمتحنهم بذبح ما حبب اليهم ليظهر منهم حقيقة التوبة وانقلاع ما كان منهم فى قلوبهم وقيل كان افضل قرابينهم حينئذ البقر فامروا بذبح البقرة ليجعل التقرب لهم بما هو افضل عندهم ٦٨ { قالوا } كأنه قيل فماذا قال قوم موسى بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا يا موسى { ادع لنا } سل لاجلنا { ربك يبين لنا } اى يوضح ويعرف { ما هى } ما مبتدأ وهى خبره والجملة فى حيز النصب بيبين اى يبين لنا جواب هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لما قرع اسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى فما ههنا سؤال عن الحال والصفة تقول ما زيد فيقال طبيب او عالم اى ما ما سنها وما صفتها من الصغر والكبر { قال } اى موسى عليه السلام بعد ما دعا ربه بالبيان واتاه الوحى { انه } اى اللّه تعالى { يقول انها } اى البقرة المأمور بذبحها { بقرة لا } هى { فارض } اى مسنة من الفرض وهو القطع كانها قطعت سنها وبلغت آخره { ولا بكر } اى فتية صغيرة ولم يؤنث البكر والفارض لانهما كالحائض فى الاختصاص بالانثى { عوان } اى نصف { بين ذلك } المذكور من الفارض والبكر { فافعلوا } امر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به { ما تؤمرون } اى ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به من ذبح البقرة وحذف الجار قد شاع فى هذا الفعل حتى لحق بالافعال المتعدية الى مفعولين ٦٩ { قالوا } كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الثانى والامر المكرر فقيل قالوا { ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } من الالوان حتى تتبين لنا البقرة المأمور بها واللون عرض مشاهد يتعاقب على بعض الجواهر { قال } موسى عليه السلام بعد المناجاة الى اللّه تعالى ومجيىء البيان { انه } اللّه تعالى { يقول انها بقرة صفراء } والصفرة لون بين البياض والسواد وهى الصفرة المعروفة وليس المراد بها هنا السواد كما فى قوله تعالى { كأنه جمالة صفر } اى سود والتعبير عن السواد بالصفرة لما انها من مقدماته واما لان سواد الابل يعلوه صفرة { فاقع لونها } مبتدأ وخبر والجملة صفة البقرة والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها يقال فى التأكيد اصفر فاقع كما يقال اسود حالك وفى اسناده الى اللون مع كونه من احوال الملون لملابسته به ما لا يخفى من فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديدة الصفرة صفرتها كما فى جد جده قيل كانت صفراء الكل حتى القرن والظلف { تسر الناظرين } اليها يعجبهم حسنها وصفاء لونها ويفرح قلوبهم لتمام خلقتها ولطافة قرونها واظلافها والسرور لذة فى القلب عند حصول نفع او توقعه وعن على رضى اللّه تعالى عنه من لبس نعلا صفراء قل همه لان اللّه تعالى يقول تسر الناظرين ونهى ابن الزبير ومحمد بن كثير عن لباس النعال السود لانها تهم وذكر ان الخف الاحمر خف فرعون والخف الابيض خف وزيره هامان والخف الاسود خف العلماء وروى ان خف النبى عليه السلام كان اسود ٧٠ { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى } أسائمة هى ام عاملة وفى الكشاف هذا تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بيانا لوصفها والاستقصاء شؤم وعن عمر بن عبد العزيز اذا امرتك ان تعطى فلانا شاة سألتنى أضائن ام ماعز فان بينت لك قلت أذكر ام انثى فان اخبرتك قلت اسوداء ام بيضاء فاذا امرتك بشىء فلا تراجعنى وفى الحديث ( اعظم الناس جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لاجل مسألته ) { ان البقر تشابه علينا } اى جنس البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا ايها نذحب فذكر البقر لارادة الجنس او لان كل جمع حروفه اقل من واحده جاز تذكيره وتأنيثه { وانا انشاء اللّه لمهتدون } الى البقرة المراد ذبحها وفى الحديث ( لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الابد ) ٧١ { قال } موسى { انه } تعالى { يقول انها بقرة لا ذلول } بمعنى غير ذلول ولم يقل ذلولة لان فعولا اذا كان وصفا لم تدخله الهاء كصبور { تثير الارض } اى تقلبها للزراعة وهى صفة ذلول كانه قيل لا ذلول مثيرة { ولا تسقى الحرث } اى ليست بسانية يسقى عليها بالسواقى ولا الاولى للنفى والثانية مزيدة لتوكيد الاولى لان المعنى لا ذلول تثير وتسقى على ان الفعلين صفتان لذلول كانه قيل لا ذلول مثيرة وساقية كذا فى الكشاف قال الامام ابو منصور رحمه اللّه دلت الآية على ان البقرة كانت ذكرا لان اثارة الارض وسقى الحرث من عمل الثيران واما الكنايات الراجعة اليها على التأنيث فللفظها كما فى قوله وقالت طائفة فالتاء للتوحيد لا للتأنيث خلاف لابى يوسف الا ان يكون اهل ذلك الزمان يحرثون بالانثى كما يحرث اهل هذا الزمان بالذكر { مسلمة } اى سلمها اللّه من العيوب او معفاة من العمل سلمها اهلها منه او مخلصة اللون من سلم له كذا اذا خلص له لم يشب صفرتها شىء من الالوان ويؤيده قوله تعالى { لا شية فيها } يخالف لون جلدها فهى صفراء كلها حتى قرنها وظلفها والاصل وشية كالعدة والصفة والزنة اصلها وعد ووصف ووزن واشتقاقها من وشى الثوب وهو استعمال الوان الغزل فى نسجه { قالوا } عند ما سمعوا هذه النعوت { لآن } اى هذا الوقت بنى لتضمنه معنى الاشارة { جئت بالحق } اى بحقيقة وصف البقرة وما بقى اشكال فى امرها { فذبحوها } الفاء فصيحة اى فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الاوصاف كلها بان وجدوها مع الفتى فاشتروها بملئ مسكها ذهبا فذبحوها { وما كادوا } اى وما قربوا { يفعلون } والجملة حال من ضمير ذبحوا اى فذبحوها والحال انهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه تلخيصه ذبحوها بعد توقف وبطئ قيل مضى من اول الامر الى الامتثال اربعون سنة فعلى العاقل ان يسارع الى الامتثال وترك التفحص عن حقيقة الحال فان قضية التوحيد تستدعى ذلك : قال فى المثنوى تاخيال دوست دراسرار ماست ... جاكرى وجان سبارى كار ماست وفى الحكم العطائية اخرج من اوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيبا ومن حضرته قريبا بالاستسلام لقهره وذلك يقتضى وجود الحفظ من اللّه تعالى حتى لا يلم العبد بمعصية وان ألم بها فلا تصدر منه واذا صدرت منه فلا يصر عليها اذ الحفظ الامتناع من الذنب مع جواز الوقوع فيه والعصمة الامتناع من الذنب مع استحالة الوقوع فيه فالعصمة للانبياء والحفظ للاولياء فقوله { الآن جئت بالحق } يدل على الرجوع من الهفوة وعدم الاصرار وهذا ايمان محض وفى التأويلات النجمية { ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة } اشارة الى ذبح بقرة النفس البهيمية فان فى ذبحها حياة القلب الروحانى وهذا هو الجهاد الاكبر الذى كان النبى عليه السلام يشير اليه بقوله ( رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر ) وبقوله ( المجاهد من جاهد نفسه ) وقوله عليه السلام ( موتوا قبل ان تموتوا ) اشار الى هذا المعنى { قالوا أتتخذنا هزوا } اى أتستهزئ بنا فى ذبح النفس وليس هذا من شأن كل ذى همة سنية { قال اعوذ باللّه ان اكون من الجاهلين } الذين يظنون ان ذبح النفس امر هين ويستعدله كل تابع الهوى او عابد الدنيا { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى } اى يعين اى بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق فاشار الى بقرة نفس { لا فارض } فى سن الشيخوخة تعجز عن سلوك الطريق لضعف المشيب وخلل القوى النفسانية كما قال بعض المشايخ الصوفى بعد الاربعين فارض { ولا بكر } فى سن شرح الشباب فانه يستهويه سكره { عوان بين ذلك } اى عند كمال العقل قال تعالى { حتى اذا بلغ اشده وبلغ اربعينسنة } { فافعلوا ما تؤمرون } فانكم ان تقربتم الى اللّه بما امرتم فان اللّه يتقرب اليكم بما وعدتم { وانه لا يضيع اجر من احسن عملا } فى الشيب والشباب { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } يعنى ما لون بقرة نفس تصلح للذبح فى الجهاد { قال انه يقول انها بقرة صفراء } اشارة الى صفرة وجوه ارباب الرياضات وسيما اصحاب المجاهدات فى طلب المشاهدات { فاقع لونها } يعنى صفرة زين لا صفرة شين كما هى سيما الصالحين { تسر الناظرين } من نظر اليهم يشاهد فى غرتهم بهاء قد ألبس من اثر الطاعات ويطالع من طلعتهم آثار شواهد الغيب من خمود الشهوات حتى امن من احوال البشرية بوجدان آثار الربوية كقوله تعالى { سيماهم فى وجوههم من اثر السجود } { ان البقر تشابه علينا } اشارة الى كثرة تشبه البطالين بزى الطالبين وكسوتهم وهيئتهم { وانا انشاء اللّه لمهتدون } الى الصادق منهم فالاهتداء اليهم يتعلق بمشيئة اللّه وبدلالته كما كان حال موسى والخضر عليهما السلام فلو لم يدل اللّه موسى لما وجده وقوله { انها بقرة لا ذلول تثير الارض } اشارة الى نفس الطالب الصادق وهى التى لا تحمل الذلة تثير بآلة الحرص علو ارض الدنيا لطلب زخارفها وتتبع هوى النفس وشهواتها كما قال عليه الصلاة والسلام ( عز من قنع ذل من طمع ) وقال ( ليس للمؤمن ان يذل نفسه ) { ولا تسقى الحرث } اى حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الحق فيصرف فى حرث الدنيا فيذهب ماؤه عند الخلق وعند الحق لقوله تعالى { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } { مسلمة لا شية فيها } اى نفس مسلمة من آفات صفاتها مستسلمة لاحكام ربها ليس منها طلب غير اللّه ولا مقصد لها الا اللّه كما وصفهم اللّه تعالى بقوله { للفقراء الذين احصروا فى سبيل اللّه } الى قوله { الحافا } { فذبحوها وما كادوا يفعلون } يشير الى ان ذبح النفس ليس من الطبيعة الانسانية فمن ذبحها من الصادقين بسيف الصدق كان ذلك من فضل اللّه تعالى وحسن توفيقه فاما من حيث الطبيعة فما كادوا يفعلون ٧٢ { واذ قتلتم نفسا } هذا مؤخر لفظا مقدم معنى لانه اول القصة اى واذ قتلتم نفسا وأتيتم موسى وسألتموه ان يدعو اللّه تعالى فقال موسى ان اللّه يأمركم الآيات ولم يقدم لفظا لان الغرض انما هو ذبح البقرة للكشف عن القاتل واضيف القتل الى اليهود المعاصرين لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لرضاهم بفعل اولئك وخوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم والقتل نقض البنية الذى بوجوده تنتفى الحياة والمعنى واذكروا يا بنى اسرائيل وقت قتل اسلافكم نفسا محرمة وهى عاميل بن شراحيل { فادارأتم فيها } اصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع اى تدافعتم وتخاصمتم فى شأنها اذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر اى يدفع الفعل عن نفسه ويحيل على غيره { واللّه مخرج ما كنتم تكتمون } اى مظهر لا محالة ما كنتم وسترتم من امر القتل لا يتركه مكتوما مستورا فان قلت كيف اعمل مخرج وهو فى معنى المضى قلت قد حكى ما كان مستقبلا فى وقت التدارئ كما حكى الحاضر فى قوله { باسط ذراعيه } ٧٣ { فقلنا } عطف على فادارأتم وما بينهما اعتراض { اضربوه } اى النفس والتذكير على تأويل الشخص والانسان { ببعضها } اى ببعض البقرة اى بعض كان او بلسانها لانه آلة الكلام او بعجب الذنب لانه اول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق او بغير ذلك من الاعضاء والبعض اقل من النصف والمعنى فضربوه فحيى فحذف ذلك لدلالة قوله { كذلك يحيى اللّه الموتى } روى انه لما ضربوه قام باذن اللّه وأوداجه تشخب دما وقال قتلنى فلان وفلان لابنى عمه ثم سقط ميتا فاخذا وقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك ثم ان موسى عليه السلام امرهم بضربه ببعضها وما ضربه بنفسه نفيا للتهمة كيلا ينسب الى السحر او الحيلة { كذلك } على ارادة القول اى فضربوه فحيى وقلنا كذلك فالخطاب فى كذلك للحاضرين عند حياة القتيل اى مثل ذلك الاحياء العجيب { يحيى اللّه الموتى } قلت كانوا مقرين قولا وتقليدا فثبته عيانا وايقانا وهو كقول ابراهيم عليه السلام والحاضرين عند نزول الآية الكريمة فلا حاجة حينئذ الى تقدير القول بل تنتهى الحكاية عند قوله تعالى ببعضها { ويريكم آياته } دلائله الدالة على انه تعالى على كل شىء قدير { لعلكم تعقلون } يقال عقلت نفسى عن كذا اى منعتها منه اى لكى تكمل عقولكم وتعلموا ان من قدر على احياء نفس واحدة قدر على احياء الانفس كلها وتمنعوا نفوسكم من هواها وتطيعوا اللّه فيما يأمركم به ولعل الحكمة فى اشتراط ما اشترط فى الاحياء من ذبح البقرة وضربه ببعضها مع ظهور كمال قدرته على احيائه ابتداء بلا واسطة اصلا لاشتماله على التقرب الى اللّه تعالى واداء الواجب ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة والتنبيه على بركة التوكل على اللّه تعالى والشفقة على الاولاد ونفع بر الوالد وان من حق الطالب ان يقدم قربة ومن حق المتقرب ان يتحرى الاحسن ويغالى بثمنه كما يروى عن عمر رضى اللّه عنه انه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار وان المؤثر هو اللّه تعالى وانما الاسباب امارات لا تأثير لها لان الموتين الحاصلين فى الجسمين لا يعقل ان يولد منهما حياة وان من رام ان يعرف اعدى عدوه الساعى فى اماتته الموت الحقيقى فطريقه ان يذبح بقرة نفسه التى هى قوته الشهوية حين زال عنها شره الصبى ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة فى طلب الدنيا مسلمة من دنسها لا شية بها من قبائحها بحيث يتصل اثره الى نفسه فيحيى به حياة طيبة ويعرف ما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارئ والجدال قال بعض اهل المعرفة فى قوله { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيى اللّه الموتى } انما جعل اللّه احياء المقتول فى ذبح البقرة تنبيها لعبيده ان من اراد منهم احياء قلبه لم يتأت له الا باماتة نفسه فمن اماتها بانواع الرياضات احيى اللّه قلبه بانوار المشاهدات فمن مات بالطبيعة يحيى بالحقيقة وكما ان لسان البقرة بعد ذبحها ضرب على القتيل وقام باذن اللّه وقال قتلنى فلان فكذلك من ضرب لسان النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر يحيى اللّه قلبه بنوره فيقول وما ابرئ نفسى ان النفس لامارة بالسوء : قال السعدى نميتارد اين نفس سركش جنان ... كه عقلش تواند كرفتن عنان تو بر كره توسنى در كمر ... نكر تانبيجد زحكم توسر اكربالهنك از كفت در كسيخت ... تن خويشتن كشت وخون توريخت فيجب علينا غاية الوجود ان نتقيد باحياء نفوسنا بالحياة الحقيقية واصلاح قلوبنا بالاصلاح الحقيقي واخلاص اعمالنا بالاخلاص الحقيقي فان المنظر الآلهى انما هو القلوب والاعمال لا القصور والاموال كما ورد فى الحديث ( ان اللّه لا ينظر الى صوركم واحوالكم بل الى قلوبكم واعمالكم ) فالمعتبر هو الباطن والسرائر دون السير والظواهر * والعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والجاهل من نسى نفسه واتبع هواه وما يعقل ذلك الا العالمون وما يعلمه الا الكاملون : قال السعدى شخصم بجشم عالميان خوب منظرست ... وزخبث باطنم سر حجلت فتاده ييش طاوس را بنقش ونكارى كه هست خلق ... تحسين كننداوحجل ازباى زشت خوسش وقد سئل بعض المشايخ عن الاسلام فقال ذبح النفس بسيوف المخالفة ومخالفتها ترك شهواتها قال السرى السقطى ان نفسى تطالبنى مدة ثلاثين سنة او اربعين سنة ان اغمس جوزة فى دبس فما اطعمتها ورئيى رجل جالس فى الهواء فقيل له بم نلت هذا قال تركت الهوى فسخر لى الهواء وقيل بعضهم انى اريد ان احج على التجريد فقال جرد اولا قلبك من السهو ونفسك عن اللّهو ولسانك عن اللغو ثم اسلك حيث شئت ٧٤ { ثم قست قلوبكم } خطاب لاهل عصر النبى عليه السلام من الاحبار وثم لاستبعاد القسوة من بعد ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه ثم انتم تمترون والقسوة والقساوة عبارة عن الغلظ والصلابة كما فى الحجر وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوها عن الاعتبار وان المواعظ لا تؤثر فيها { من بعد ذلك } اى من بعد سماع ما ذكر من احياء القتيل ومسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وغيرها من الآيات والقوارع التى تميع منها الجبال وتلين بها الصخور { فهي } اى القلوب { كالحجارة } اى مثل الحجارة فى شدتها وقسوتها والفاء لتفريع مشابهتها لها على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه كقولك احمر خده فهو كالورد { او اشد } منها { قسوة } تمييز وأو بمعنى بل او للتخيير اى ان شئتم فاجعلوها اشد منها كالحديد فانتم مصيبون وانما لم تحمل على اصلها وهو الشك والتردد لما ان ذلك محال على علام الغيوب فان قلت لم قيل اشد قسوة وفعل القسوة مما يخرج منه افعل التفضيل وفعل التعجب قلت لكونه ابين وادل على فرط القسوة من لفظ اقسى لان دلالته على الشدة بجوهر اللفظ الموضوع لها مع هيئة موضوعة للزيادة فى معنى الشدة بخلاف لفظ الاقسى فان دلالته على الشدة والزيادة فى القسوة بالهيئة فقط ووجه حكمة ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة وتشبيهها بها دون غيرها من الاشياء الصلبة من الحديد والصفر وغيرهما لان الحديد تلينه النار وهو قابل للتليين كما لان لداود عليه السلام وكذا الصفر حتى يضرب منها الاوانى والحجر لا يلينه نار ولا شىء فلذلك شبه قلب الكافر بها وهذا واللّه اعلم فى حق قوم علم اللّه انهم لا يؤمنون { وان من الحجارة } بيان لفضل قلوبهم على الحجارة من شدة القسوة وتقرير لقوله او اشد قسوة ومن الحجارة خبران والاسم قوله { لما } واللام للتأكيد اى الحجر { يتفجر } اى يتفتح بكثرة وسعة { منه } راجع الى ما { الانهار } جمع نهر وهو المجرى الواسع من مجارى الماء والمعنى وان من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير اى يتصبب { وان منها } اى من الحجارة { لما يشقق } اصله يتشقق اى يتصدع والصدع جعل الشىء ذا نواحى { فيخرج منه الماء } اى ينشق انشقاق بالطول او بالعرض ينبع منه الماء ايضا يعنى العيون دون الانهار { وان منها لما يهبط } اى يتردى وينزل من اعلى الجبل الى اسفله { من خشية اللّه } وهى الحوف عن العلم وهنا مجاز عن انقيادها لامر اللّه وانها لا تمتنع على ما يريد فيها وقلوب هؤلاء اليهود لا تنقاد ولا تلين ولا تخشع ولا تفعل ما امرت به { وما اللّه بغافل } بساه { عما تعملون } اى الذى تعملونه وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الاعمال السيئة فقلب الكافر اشد فى القساوة من الحجارة وانها مع فقد اسباب الفهم والعقل منها وزوال الخطاب عنها تخضع له وتتصدع قال تعالى { لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه } وقلب الكافر مع وجود اسباب الفهم والعقل وسعة هيئة القبول لا يخضع ولا يلين قالت المعتزلة خشية الحجر على وجه المثل يعنى لو كان له عقل لفعل ذلك ومذهب اهل السنة ان الحجر وان كان جمادا لكن اللّه يفهمه ويلهمه فيخشى بالهامه فان للّه تعالى علما فى الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره { وان من شىء الا يسبح بحمده } وقال { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } فيجب على المرء الايمان به ويحيل علمه الى اللّه تعالى روى ان النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عنى فانى اخاف ان تؤخذ على فيعاقبني اللّه بذلك فقال له جبل حراء الىّ الىّ يا رسول اللّه وكان النبى صلى اللّه عليه وسلم اذا خطب استند الى جذع نخلة من سوارى المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية من فراق رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وحنت كحنين الناقة حتى سمعها اهل المسجد ونزل رسول اللّه عليه السلام فاعتنقها فسكنت : قال فى المثنوى آنكه اوراد نبود ازاسرار داد ... كى كند تصديق اوناله جماد وبينما راع فى غنمه عدا عليه الذئب فاخذ منها شاة فطلبه الراعى حتى استنقذها منه اى استخلصها فالتفت اليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيرى فقال الناس سبحان اللّه ذئب تكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنا أومن به وابو بكر وعمر وعلى هذا انطاق اللّه جلود الكفار يوم القيامة ذكر الشيخ قطب وقته الهدائى الاسكدارى فى واقعاته انه كان يسمع فى اثناء سلوكه من الماء الجارى ذكر يا دائم يا دائم : وفى المثنوى نطق آب ونطق خاك ونطق كل ... هست محسوس حواس اهل دل فلسفى كومنكر حنانه است ... از حواس اوليا بيكانه است هر كرا دردل شك وبيجانيست ... درجهان او فلسفى بنهانيست قال بعض الحكماء معنى قوله { ثم قست قلوبكم } يبست ويبس القلب ان ييبس عن ماءين احدهما ماء خشية اللّه تعالى والثانى ماء شفقة الخلق وكل قلب لا يكون فيه خشية اللّه ولا شفقة الخلق فهو كالحجارة او اشد قسوة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فان كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة للقلب وان ابعد الناس من اللّه القلب القاسى ) وقال ايضا ( اربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الامل والحرص على الدنيا ) * والاشارة فى تحقيق الآية ان اليهود وان شاهدوا عظيم الآيات فحين لم تساعدهم العناية لم يزدهم كثرة الآيات الا قسوة فان اللّه اراهم الآيات الظاهرة فرأوها بنظر الحسن ولم يرهم البرهان الذي يراه القلب فيحجزهم عن التكذيب والانكار يدل عليه قوله تعالى { وهم بها لولا ان رأى برهان ربه } وهكذا حال بعض الممكورين حين يشرعون فى الرياضات يلوح لهم من صفاء الروحانية ظهور بعض الآيات وخرق العادات فاذا لم يكن مقارنا برؤية البرهان ليكون مؤيدا بالتأييدات الالهية لم يزدهم الا العجب والغرور واكثر ما يقع هذا للرهابين والمتفلسفة الذين استدرجهم الحق بالخذلان من حيث لا يعلمون وانما تشبه قلوبهم بالحجارة لعدم اللين الى الذكر الحقيقى وهو ما يتداركه الحق بذكره كقوله { فاذكروني اذكركم } ومراتب القلوب فى القسوة متفاوتة فبعضها بمرتبة الحجارة التى يتفجر منها الانهار وهو قلب يظهر عليه بغلبات انوار الروح لصفائه بعض الاشياء المشبهة لخرق العادات كما يكون لبعض الرهابين والكهنة وبعضها بمرتبة { وان منها لما يشقق فيخرج منه الماء } وهو قلب يظهر عليه فى بعض الاوقات عند انخراق حجب البشرية انوار الروح فيريه بعض الآيات والمعانى المعقولة كما يكون لبعض الفلاسفة والشعراء وبعضها بمرتبة { وان منها لما يهبط من خشية اللّه } وهو قلب فيه بعض الصفاء فيكون بقدر صفائه قابل عكس انوار الروح من وراء الحجب فيقع فيه الخوف والخشية كما يكون لبعض اهل الاديان والملل وهذه المراتب مشتركة بين قلوب المسلمين وغيرهم والفرق بينهم ان احوال هذه المراتب للمسلمين مؤيدة بنور الايمان فيزيدهم فى قربهم بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلى انوار الحق كما قال { أفمن شرح اللّه صدره للاسلام فهو على نور من ربه } وبعض القلوب بمرتبة الحجر القاسى الذى لا يؤثر فيه القرآن والاخبار والحكمة والموعظة وهذا القلب مخصوص بالكافر والمنافق فانه قلب مختوم عليه { وما اللّه بغافل عما تعملون } فيجازيكم عاجلا وآجلا فاما عاجلا بان يجعل انكاركم سبب مزيد قسوة قلوبكم فيقسيها باعمالكم الفاسدة ويطبع عليها بطابع انكاركم قال عليه السلام ( ما من قلب الا وهو بين اصبعين من اصابع الرحمن فان شاء اقامه وان شاء ازاغه ) واما آجلا فيعاقبكم يوم القيامة على قدر سيآت اعمالكم كذا فى التأويلات النجمية ٧٥ { أفتطمعون } كان عليه السلام شديد الحرص على الدعاء الى الحق وقبولهم الايمان منه وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم فقص اللّه عليه اخبار بنى اسرائيل فى العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من اهل الكتاب فى زمانه من قلة القبول والاستجابة والخطاب للنبى عليه الصلاة والسلام واصحابه والهمزة لانكار الواقع واستبعاده كما فى قولك أتضرب اباك لا لانكار الوقوع كما فى قوله ءاضرب ابى والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام اى أتسمعون اخبارهم وتعلمون احوالهم فتطمعون ومآل المعنى أبعد ان علمتم تفاصيل شؤونهم المؤيسة منهم فتطمعون فى { ان يؤمنوا } جميع اليهود او علماؤهم فانهم متماثلون فى شدة الشكيمة والاخلاق الذميمة لا يتأتى من اخلاقهم الا مثل ما أتى من اسلافهم فلا تحزنوا على تكذيبهم واللام فى { لكم } لتضمين معنى الاستجابة اى فى ايمانهم مستحيبين لكم او للتعليل اى فى ان يحدثوا الايمان لأجل دعوتكم { و } الحال { قد كان فريق } كائن { منهم } اى طائفة ممن سلف منهم والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط { يسمعون كلام اللّه } وهو ما يتلونه من التوراة { ثم يحرفونه } اى يغيرون ما فيها من الاحكام كتغييرهم صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وآية الرجم وقيل كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلام اللّه حين كلم موسى بالطور وما امر به ونهى ثم قالوا سمعنا اللّه يقول فى آخره ان استطعتم ان تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وان شئتم ان لا تفعلوا فلا بأس قال فى التيسير الصحيح انهم لم يسمعوا كلام اللّه بلا واسطة فان ذلك كان لموسى على الخصوص لم تشركه فيه غيره فى الدنيا ومعنى يسمعون كلام اللّه اى التوراة من موسى بقراءته { من بعد ما عقلوه } اى من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم يبق لهم شبهة فى صحته يقول كيف يؤمن هؤلاء وهم يقلدون اولئك الآباء فهم من اهل السوء الذين مضوا بالعناد فلا تطمعوا فى الايمان منهم { وهم يعلمون } اى يحرفونه والحال انهم يعلمون انهم كاذبون مفترون ٧٦ { واذا لقوا } اى اليهود { الذين آمنوا } من اصحاب النبى عليه السلام { قالوا } اى منافقوهم { آمنا } كايمانكم وان محمدا هو الرسول المبشر به { واذا خلا } مضى ورجع { بعضهم } الذين لم ينافقوا اى اذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجهين ومنضمين { الى بعض } اى الى الذين نافقوا بحيث لم يبق معهم غيرهم { قالوا } اى الساكتون عاتبين لمنافقيهم على ما صنعوا { أتحدثونهم } تخبرونهم والاستفهام بمعنى النهى اى لا تحدثوهم يعنون المؤمنين { بما فتح اللّه عليكم } اى بينه اللّه لكم خاصة فى التوراة من نعت النبى عليه السلام والتعبير عنه بالفتح للايذان بانه سر مكنون وباب مغلق لا يقف عليه احد { ليحاجوكم به } اللام متعلقة بالتحديث دون الفتح والضمير فى به لما فتح اللّه اى ليحتجوا عليكم به فيقطعوكم بالحجة ويبكتوكم { عند ربكم } اى فى حكمه وكتابه كما يقال هو عند اللّه كذا اى فى كتابه وشرعه والمحدثون به وان لم يحوموا حول ذلك الغرض وهو المحاجة لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا فاعلين للغرض المذكور اظهارا لكمال سخافة عقلهم وركاكة آرائهم { أفلا تعقلون } متصل بكلامهم من التوبيخ والعتاب اى ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش وهو ان ذلك حجة لهم عليكم فالمنكر عدم التعقل ابتداء او أتفعلون ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحه حتى تحتاجون الى التنبيه عليه فالمنكر حينئذ عدم التعقل بعد الفعل ٧٧ { أولا يعلمون } الهمزة للانكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر ينساق اليه الذهن والضمير للموبخين اى أيلومونهم على التحديث مخافة المحاجة ولا يعلمون { ان اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون } اى جميع ما يسرونه وما يعلنونه ومن ذلك اسرارهم الكفر واعلانهم الايمان فحينئذ يظهر اللّه للمؤمنين ما ارادوا اخفاءه بواسطة الوحى الى النبى عليه السلام فتحصل المحاجة والتبكيت كما وقع فى آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم فأى فائدة فى اللوم والعتاب { ومنهم } اى من اليهود { اميون } لا يحسنون الكتب ولا يقدرون على القراءة والامى منسوب الى امة العرب وهى الامة الخالية عن العلم والقراءة فاستعير لمن لا يعرف الكتابة والقراءة { لا يعلمون الكتاب } اى لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة فيؤمنوا { الا امانى } جمع امنية من التمنى والاستثناء منقطع لانها ليست من جنس الكتب اى لكن الشهوات الباطلة ثابتة عندهم وهى المفتريات من تغيير صفة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وانهم لا يعذبون فى النار الا اياما معدودة وان آباءهم الانبياء يشفعون لهم وان اللّه لا يؤاخذهم بخطاياهم ويرحمهم ولا حجة لهم فى صحة ذلك { وان هم } اى ما هم { الا يظنون } ظنا من غير تيقن بها اى ما هم الا قوم قصارى امرهم الظن والتقليد من غير ان يصلوا الى مرتبة العلم فانى يرجى منهم الايمان المؤسس على قواعد اليقين ٧٨ { ومنهم } اى من اليهود { اميون } لا يحسنون الكتب ولا يقدرون على القراءة والامى منسوب الى امة العرب وهى الامة الخالية عن العلم والقراءة فاستعير لمن لا يعرف الكتابة والقراءة { لا يعلمون الكتاب } اى لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما فيها من دلائل النبوة فيؤمنوا { الا امانى } جمع امنية من التمنى والاستثناء منقطع لانها ليست من جنس الكتب اى لكن الشهوات الباطلة ثابتة عندهم وهى المفتريات من تغيير صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وانهم لا يعذبون فى النار الا اياما معدودة وان آباءهم الانبياء يشفعون لهم وان اللّه لا يؤاخذهم بخطاياهم ويرحمهم ولا حجة لهم فى صحة ذلك { وان هم } اى ما هم { الا يظنون } ظنا من غير تيقن بها اى ما هم الا قوم قصارى امرهم الظن والتقليد من غير ان يصلوا الى مرتبة العلم فانى يرجى منهم الايمان المؤسس على قواعد اليقين ٧٩ { فويل } كلمة يقولها كل واقع فى هلكة بمعنى الدعاء على النفس بالعذاب اى عقوبة عظيمة وهو مبتدأ خبره ما بعده قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( الويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر اربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره ) وقال سعيد بن المسيب رضى اللّه تعالى عنه انه واد فى جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره اى ذابت { للذين يكتبون الكتاب } المحرف { بايديهم } تأكيد لدفع توهم المجاز فقد يقول انسان كتبت الى فلان اذا امر غيره ان يكتب عنه اليه { ثم يقولون } لعوامهم { هذا } اى المحرف { من عند اللّه } فى التوراة روى ان احبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبى عليه السلام المدينة فاحتالوا فى تعويق اسافل اليهود عن الايمان فعمدوا الى صفة النبى عليه السلام فى التوراة وكانت هى فيها حسن الوجه جعد الشعر اكحل العين ربعة اى متوسط القامة فغيروها وكتبوا مكانه طوال ازرق سبط الشعر وهو خلاف الجعد فاذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفته عليه السلام فيكذبونه { ليشتروا به } اى يأخذوا لانفسهم بمقابلة المحرف { ثمنا } هو ما اخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل الزائغ وانما عبر عن المشترى الذى هو المقصود بالذات فى عقد المعاوضة بالثمن الذى هو وسيلة فيه ايذانا بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة مقصودة بالذات { قليلا } لا يعبأ به انما وصفه بالقلة اما لفنائه وعدم ثوابه واما لكونه حراما لان الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند اللّه كذا فى تفسير القرطبى { فويل لهم } اى العقوبة العظيمة ثابتة لهم { مما كتب ايديهم } من اجل كتابتهم اياه { وويل لهم مما يكسبون } من اخذهم الرشوة وعملهم المعاصى واصل الكسب الفعل لجر نفع او دفع ضر ولهذا لا يوصف به سبحانه وفى الآيات اشارات الاولى ان علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع اللّه لا يفيده الايمان الحقيقى الا ان يتداركه اللّه بفضله ورحمته قال اللّه تعالى { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد ابدا } وان اللّه تعالى كلم ابليس وخاطبه بقوله { يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدى } وما افاده الايمان الحقيقيى اذا لم يكن مؤيدا من اللّه بفضله ورحمته ولم يبق على الايمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان : قال فى المثنوى جز عنايت كه كشايد جشم را ... جز محبت كه تشاند خشم را جهدبى توفيق خود كس را مباد ... درجهان واللّه اعلم بالسداد جهد فرعونى جوبى توفيق بود ... هرجه او مىدوخت آن تفتيق بود والثانية ان العالم المعاند والعامى المقلد سواء فى الضلال لان العالم عليه ان يعمل بعلمه وعلى العامى ان لا يرضى بالتقليد والظن وهو متمكن من العلم وان الدين ليس بالتمنى فالذين ركنوا الى التقليد المحض واغتروا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة فهم الذين لا نصيب لهم من كتبهم الا قراءتها دون معرفة معانيها وادراك اسرارها وحقائقها وهذا حال اكثر اهل زماننا من مدعى الاسلام فالمدعى والمتمنى عاقبتهما خسران وضلال وحسرة وندامة ووبال : وفى المثنوى تشنه را كر ذوق آيد از سراب ... جون رسد دروى كريزد جويد آب مفلسان كرخوش شوند اززرقلب ... ليك ان رسوا شود دردار ضرب والثالثة ان من بدل أو غير أو ابتدع فى دين اللّه ما ليس منه فهو داخل فى الوعيد المذكور وقد حذر رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم امته لما علم ما يكون فى آخر الزمان فقال ( ألا ان من قبلكم من اهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وان هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين كلها فى النار الا واحدة ) فحذرهم ان يحدثوا من تلقاء انفسهم فى الدين خلاف كتاب اللّه او سنته او سنة اصحابه فيضلوا به الناس وقد وقع ما حذره وشاع وكثر وذاع فانا للّه وانا اليه راجعون : قال السعدى نخواهى كه نفرين كنندازبست ... نكوباش تابد نكويد كست ته هر آدمى زاده ازددبهست ... كه ددز آدمى زاده بدبهست والرابعة ان بعض المتسمين بالصوفية ينضم الى الاولياء وارباب القلوب ظاهرا ثم لا يصدق الارادة ويميل الى اهل الغفلة ويصغى الى اقوالهم ويشتهى ارتكاب افعالهم وكلما دعته هواتف الحظوظ سارع الى الاجابة طوعا واذا قادته دواعى الحق تكلف كرها ليس له اخلاص فى الصحبة فى طريق الحق فويل لهم مما كتب ايديهم وويل لهم مما يكسبون من الالحاد عن الحق واعتقاد السوء واغراء الخلق واضلالهم فهم الذين ضلوا واضلوا كثيرا : وفى المثنوى صدهزاران دام ودانه است اى خدا ... ماجو مرغان حريض بى نوا دمبدم ما بتسه دام نويم ... هريكى كرباز وسميرغى شويم فعلى السالك ان يجتهد فى الوصول الى الموجود الحق ويتخلص من الموهوم المطلق ولا يغتر بظواهر الحالات غافلا عن بطون الاعتبارات فان طريق الحق ادق من كل دقيق وماء عميق وفج سحيق واجهل الناس من يترك يقين ما عنده من صفات نفسه التى لا شك فيها الظن ما عند الناس من صلاحية حاله قال حارث بن اسد المحاسبى رضى اللّه عنه الراضى بالمدح بالباطل كمن يهزؤ به ويقال ان العذرة التى تخرج من جوفك لها رائحة كرائحة المسك وهو يفرح ويرضى بالسخرية به فالعاقل لا يغتر بمثله بل يجتهد الى ان يصل الى الحقيقة فويل لواعظ تكبر وافتخر بتقبيل الناس يده ورأى نفسه خيرا من السامعين ويتقيد بالمدح والذم اللّهم الا ان يخرج ذلك من قلبه والمعيار مساواة المقبل واللاطم عنده بل رجحان اللاطم والضارب قال فى مجلس وعظه جنيد البغدادى لو لم اسمع قوله صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) لما اجترات على الوعظ فانا ذلك الرجل الفاجر ٨٠ { وقالوا } اى اليهود زعما منهم { لن تمسنا النار } اى لا تصل الينا النار فى الآخرة { الا اياما معدودة } قليلة محصورة سبعة ايام فانهم يقولون ان ايام الدنيا سبعة آلاف سنة فنعذب مكان كل الف سنة يوما او يراد اربعين يوما مقدار عبادة آبائهم العجل قال ابو منصور رحمه اللّه تصرف الايام المعدودة الى العمر الذى عصوا فيه وهم لم يروا التعذيب الا على قدر وقت العصيان او كانوا لا يرون التخليد فى النار كالجهمى او لانهم كانوا يقولون نحن ابناء اللّه واحباؤه فلا نعذب ابدا بل نعذب تعذيب الاب ابنه والحبيب حبيبه فى وقت قليل ثم يرضى وهذا منهم باطل وعقوبة الكفر ابدا وثواب الايمان كذلك لان من اعتقد دينا انما يعتقده للابد فعلى ذلك جزاؤه للابد { قل } يا محمد تبكيتا لهم وتوبيخا { أتخذتم } بقطع الهمزة لانه الف استفهام بمعنى التوبيخ والالف المجتلبة ذهبت بالادراج اى ءاتخذتم { عند اللّه عهدا } خبرا او وعدا بما تزعمون فان ما تدعون لا يكون الا بناء على وعد قوى ولذلك عبر عنه بالعهد { فلن } الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف اى ان اتخذتم عند اللّه عهدا وامانا فلن { يخلف اللّه } الاخلاف نقض العهد { عهده } الذى عهده اليكم يعنى ينجز وعده البتة قال الامام ابو منصور لهذان وجهان احدهما هل عندكم خبر عن اللّه تعالى انكم لا تعذبون ابدا لكن اياما معدودة فان كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده ووعده والثانى ألكم عند اللّه اعمال صالحة ووعدكم بها الجنة فهو لا يخلف وعده { أم تقولون } مفترين { على اللّه ما لا تعلمون } وقوعه وام معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى اى الامرين المتساويين كائن على سبيل التقرير لان العلم واقع بكون احدهما تلخيصه ان كان لكم عنده عهد فلا ينقض ولكنكم تخرصون وتكذبون روى انهم اذا مضت تلك المدة عليهم فى النار يقول لهم خزنة جهنم يا اعداء اللّه ذهب الاجل وبقى الابد فايقنوا بالخلود ٨١ { بلى } اثبات لما بعد النفى فهو جواب النفى ونعم جواب الايجاب اى قلتم لن تمسنا النار سوى الايام المعدودة بلى تمسكم ابدا بدليل قوله { هم فيها خالدون } وبين ذلك بالشرط والجزاء وهما { من } فهو رفع مبتدأ بمعنى الشرط ولذلك دخلت الفاء فى خبره وان كان جوابا للشرط { كسب } الكسب استجلاب النفع واستعماله فى استجلاب الضر كالسيئة على سبيل التهكم { سيئة } من السيآت يعنى كبيرة من الكبائر { واحاطت به خطيئته } تلك واستولت عليه من جميع جوانبه من قلبه ولسانه ويده كما يحيط العدو وهذا انما يتحقق فى الكافر ولذلك فسر السلف السيئة بالكفر { فاولئك } الموصوفون بما ذكر من كسب السيآت واحاطة خطاياهم بهم اشير اليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى فى كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ فى الضمائر الثلاثة { اصحاب النار } اى ملازموها فى الآخرة حسب ملازمتهم فى الدنيا لما يستوجبها من الاسباب التى من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات اللّه وتحريف كلامه والافتراء عليه وغير ذلك وهو خبر اولئك والجملة خبر للمبتدأ { هم فيها خالدون } دائمون فأنى لهم التفضى منها بعد سبعة ايام او اربعين كما زعموا والجملة في حيز النصب على الحالية لورود التصريح به فى قوله { اصحاب النار خالدين فيها } ولا حجة فى الآية على خلود صاحب الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ٨٢ { والذين آمنوا } اى صدقوا باللّه تعالى ومحمد عليه السلام بقلوبهم { وعملوا الصالحات } اى ادوا الفرائض وانتهوا عن المعاصى { اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون } لا يموتون ولا يخرجون منها ابدا جرت السنة الآلهية على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة فى ارشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب اخرى والتبشير مرة والانذار اخرى فان باللطف والقهر يترقى الانسان الى الكمال ويفوز بجنة الجمال والجلال حكى انه كان لشيخ مريد فقال له يوما لو رأيت ابا يزيد كان خيرا لك من شغلك فقال كيف يكون هو خيرا وهو مخلوق ويتجلى الخالق كل يوم سبعين مرة ثم بالآخرة ذهب مع شيخ الى ابى يزيد البسطامى فقالت امرأته لا تطلبوه فهو امرؤ ذهب للحطب فوقفا فى طريقه فاذا هو حمل الحطب على اسد عظيم وبيده حية يضرب الاسد بها فى بعض الاوقات فلما رآه المريد مات وقال ابو يزيد لشيخه قد ربيت مريدك باللطف ولم ترشده الى طريق القهر فلم يتحمل لما رآنى فلا تفعل بعد اليوم وأرهم القهر ايضا قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى ان ابا يزيد برؤية القهر واللطف من الطريق كان مظهرا لتجلى الذات بخلاف المريد فلما رآه فيه لم يتحمل : قال فى المثنوى عاشقم بر قهر وبر لطفش بجد ... بو العجب من عاشق اين هردوضد واللّه ارزين خاردر بستان شوم ... همجو بلبل زين سبب نالان شوم اين عجب بلبل كه بكشايد دِهان ... تاخورد اوخار را يا كلستان اين جه بلبل اين نهنك آتشيست ... جملة ناخوشهازعشقاوراخوشيست والاشارة فى الآيات الى ان بعض المغرورين بالعقل من الفلاسفة والطبايعية وغيرهم لفرط غفلتهم ظنوا ان قبائح اعمالهم وافعالهم واقوالهم لا تؤثر فى صفاء ارواحهم والارواح فاذا فارقت الارواح الاجساد يرجع كل شىء الى اصله فالاجساد ترجع الى العناصر والارواح الى حظائر القدس ولا يزاحمها شىء من نتائج الاعمال الا اياما معدودة وهذا فاسد لان العاقل يشاهد حسا وعقلا ان تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية يورث الاخلاق الذميمة من الحرص والامل والحقد والحسد والبغض والغضب والبخل والكبر والكذب وغير ذلك وهذه من صفات النفس الامارة بالسوء فتصير بالمجاورة والتعود اخلاق الروح فيتكدر صفاؤه ويتبدل اخلاقه الروحانية من الحلم والكرم والمرؤة والصدق والحياء والعفة والصبر والشكر وغير ذلك من مكارم الاخلاق وصفاء القلب وتحننه الى وطنه الاصلى وغير ذلك فلا يساوى الروح المتبع للنفس الامارة كما للعوام بعد المفارقة مع الروح المتبع لالهامات الحق كما يكون للخواص وبعضهم قالوا وان تدنست الارواح بقدر تعلقها بمحبوبات طباعها فبعد المفارقة بقيت فى العذاب اياما معدودة على قدر انقطاع التعلقات عنها وزوال الكدروات ثم تخلص وهذا ايضا خيال فاسد وكذبهم اللّه بقوله بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته تظهر على مرآة قلبه بقدرها رينا فان تاب محى عنه وان اصر على السيآت حتى اذا احاط بمرآة قلبه رين السيآت بحيث لا يبقى فيه الصفاء الفطرى وخرج منه نور الايمان وضوء الطاعات فاحاطت به الخطيئات { فاولئك اصحاب النار هم فيها خالدون } وفيه اشارة ايضا الى بعض ارباب الطلب ممن يركن الى شهوات الدنيا فى اثناء الطلب فيتظفر عليه الشيطان ويغره بزهده فيوقعه في ورطة العجب فينظر الى نفسه بنظر التعظيم والى الخلق بنظر التحقير فيهلك او يغتر بما يظهر فى اثناء السلوك من بعض الوقائع الصادقة والرؤيا الصالحة وشىء من المشاهدات والمكاشفات الروحانية لا الرحمانية فيظن المغرور ان ليس وراء عبادته قربة وانه بلغ مبلغ الرجال فيسكت عن الطلب وتعتريه الآفات حتى احاطب به خطيئته فرجع القهقرى الى اسفل الطبيعة واما الذين آمنوا من اهل الطلب { وعملوا } على قانون الشريعة باشارة شيخ الطريقة الصالحات المبلغات الى الحقيقة اولئك اصحاب الوصول الى جنات الاصول خالدين فيها بالسير الى ابد الآباد فان المنازل والمقاصد وان كانت متناهية لكن السير فى المقصد غير متناه بخلاف الذين احاطت بهم خطيئتهم فانهم خالدون فى نار القطيعة ولن تنفعهم المجاهدات والنظر فى المعقولات والاستدلال بالشبهات ٨٣ { واذ اخذنا ميثاق بنى اسرائيل } فى التوراة والميثاق العهد الشديد وهو على وجهين عهد خلقة وفطرة وعهد نبوة ورسالة واذ نصب باضمار فعل خوطب به النبى عليه السلام والمؤمنون ليؤديهم التأمل فى احوالهم الى قطع الطمع عن ايمان اخلافهم لان قبائح اسلافهم مما تؤدى الى عدم ايمانهم ولا يلد الحية الا الحية ومن ههنا قيل اذا طاب اصل المرء طابت فروعه او اليهود الموجودون فى عصر النبوة توبيخا لهم بسوء صنيع اسلافهم اى اذكروا اذ اخذنا ميثاقهم بان { لا تعبدون الا اللّه } اى ان لا تعبدوا فلما اسقط ان رفع تعبدون لزوال الناصب او على ان يكون اخبارا فى معنى النهى كما تقول تذهب الى فلان تقول له كذا تريد به الامر اى اذهب وهو ابلغ من صريح الامر والنهى لما فيه من ايهام ان المنهى حقه ان يسارع الى الانتهاء عما نهى عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهى اى لا توحدوا الا اللّه ولا تجعلوا الالوهية الا للّه وقيل انه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل واحلفناهم وقلنا باللّه لا تعبدون الا اللّه { وبالوالدين احسانا } اى وتحسنون احسانا على لفظ تعبدون لانه اخبار او واحسنوا على معناه لانه انشاء اى برا كثيرا وعطفا عليهما ونزولا عند امرهما فيما لا يخالف امر اللّه { وذى القربى } اى وتحسنون الى ذى القرابة ايضا مصدر كالحسنى { واليتامى } جمع يتيم وهو الصغير الذى مات ابوه قبل البلوغ ومن الحيوانات الصغير الذى ماتت امه والاحسان بهم بحسن التربية وحفظ حقوقهم عن الضياع { والمساكين } بحسن القول وايصال الصدقة اليهم جمع مسكين من السكون كأن الفقر اسكنه عن الحراك اى الحركة واثقله عن التقلب { و } قلنا { قولوا للناس } قولا { حسنا } سماه حسنا مبالغة لفرط حسنه امر بالاحسان بالمال فى حق اقوام مخصوصين وهم الوالدان والاقرباء واليتامى والمساكين ولما كان المال لا يسع الكل امر بمعاملة الناس كلهم بالقول الجميل الذى لا يعجز عنه العاقل يعنى وألينوا لهم القول بحسن المعاشرة وحسن الخلق وائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر اى وقولوا للناس صدقا وحقا فى شأن محمد عليه السلام فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولا تكتموا امره { واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } كما فرضا عليهم فى شريعتهم ذكرهما تنصيصا مع دخولهما فى العبادة المذكورة تعميما وتخصيصا تلخيصه اخذنا عهدكم يا بنى اسرائيل بجميع المذكور فقبلتم واقبلتم عليه { ثم توليتم } على طريقة الالتفات اي اعرضتم عن المضى على مقتضى الميثاق ورفضتموه { الا قليلا منكم } وهم من الاسلاف من اقام اليهودية على وجهها ومن الاخلاف من اسلم كعبداللّه بن سلام واضرابه { وانتم معرضون } جملة تذييلية اى وانتم قوم عادتكم الاعراض عن الطاعة ومراعاة حققو الميثاق وليس الواو للحال لاتحاد التولى والاعراض فالجملة اعتراض للتأكيد فى التوبيخ واصل الاعراض الذهاب عن المواجهة والاقبال الى جانب العرض واعلم ان فى الآية عدة اشياء منها العبادة فمن شرط العبودية تفرد العبد لعبادة المعبود وتجرده عن كل مقصود فمن لا حظ خلقا او استحلى ثناء او استجلب بطاعته الى نفسه حظا من حظوظ الدنيا والآخرة او داخله بوجه من الوجوه مزج او شوب فهو ساقط عن مرتبة الاخلاص برؤية نفسه حجاب راه توبي حافظ از ميان برخيز ... خوشا كسى كه ازين راه بى حجاب رود ومنها الاحسان الى الوالدين وقد عظم اللّه حق الوالدين حيث قرن حقه بحقهما فى آيات من القرآن لان النشأة الاولى من عند اللّه والنشأة الثانية وهى التربية من جهة الوالدين ويقال ثلاث آيات انزلت مقرونة بثلاث آيات ولا تقبل احديها بغير قرينتها احديها قوله تعالى { اطيعوا اللّه واطيعوا الرسول } والثانية { ان اشكر لى ولوالديك } والثالثة { اقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } والاحسان الى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما والامتثال الى امرهما وصلة اهل ودّهما والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما : قال السعدى سالها برتو بكذردكه كذر ... نكنى سوى تربت بدرت توبجاى بدرجه كردى خير ... تاهمان جشم دارى ازبسرت وفى التأويلات النجمية ان فى قوله { وبالوالدين احسانا } اشارة الى ان اعز الخلق على الولد والداه لاجل انهما سببا وجوده فى الظاهر ولكن ينبغى ان يحسن اليهما بعد خروجه من عهدة عبودية ربه اذ هو موجد وجوده ووجود والديه فى الحقيقة ولا يختار على اداء عبوديته احسان والديه فكيف الالتفات لغيرهما ومنها البر الى اليتامى برحمت بكن آبش از ديده باك ... بشفقت بيفشانش ازجهره خاك وفى الحديث ( ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فلا يقرب قصعتهم الشيطان ) وفى الحديث ايضا ( من ضم يتيما من بين مسلمين الى طعامه وشرابه حتى يغنيه اللّه عز وجل غفرت له ذنوبه البتة الا ان يعمل عملا لا يغفر ومن اذهب اللّه كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه ) قالوا وما كريمتاه قال ( عيناه ومن كان له ثلاث بنات او ثلاث اخوات فانفق عليهن واحسن اليهن حتى يكبرون او يمتن غفرت له ذنوبه البتة الا ان يعمل عملا لا يغفر ) فناداه رجل من الاعراب ممن هاجر فقال يا رسول اللّه او اثنتان فقال صلى اللّه عليه وسلم ( او اثنتان ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( كافل اليتيم انا وهو كهاتين فى الجنة ) واشار بالسبابة والوسطى والسبابة من الاصابع هى التى تلى الابهام وكانت فى الجاهلية تدعى بالسبابة لانهم كانوا يسبون بها فلما جاء اللّه بالاسلام كرهوا هذا الاسم فسموها بالمشيرة لانهم كانوا يشيرون بها الى اللّه بالتوحيد والمشيرة من اصابع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانت اطول من الوسطى ثم الوسطى اقصر منها ثم البنصر اقصر من الوسطى فقوله عليه السلام ( انا وهو كهاتين فى الجنة ) وقوله فى الحديث الآخر ( احشر انا وابو بكر وعمر يوم القيامة هكذا ) واشار باصابعه الثلاث فانما اراد ذكر المنازل والاشراف على الخلق فقال نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلة رفيعة فمن لم يعرف شأن اصابع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام واقتراب بعضهم من بعض فى محل القربة وهذا معنى بعيد لان منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ومنازل مختلفة كذا فى تفسير القرطبى ومنها البر الى المساكين وهم الذين اسكنتهم الحاجة وذللتهم وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد احوال المساكين والضعفاء وفى الحديث ( الساعى على الارملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل اللّه ) وكان طاووس يرى السعى على الخوات افضل من الجهاد فى سبيل اللّه نخواهى كه باشى براكنده دل ... براكندكانرا ز خاطر مهل بريشان كن امروز كنجينه جست ... كه فردا كليدش نه دردست تس ومنها القول الحسن ولما خرج الطالب من عهدة حق العبودية وعمت رحمته وشفقته الوالدين وغيرهما لزم له ان يقول للناس حسنا يأمرهم بالمعروف ويناههم عن المنكر ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة الى اللّه ويهديهم الى طريق الحق ويخالقهم بحسن الخلق وان يكون قوله لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر والسنى والمبتدع من غير مداهنة ومن غير ان يتكلم معه بكلام يظن انه يرضى مذهب لان اللّه تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام { فقولا له قولا لينا } فليس بافضل من موسى وهارون والفاجر ليس باخس من فرعون وقد امرهما اللّه باللين معه فدخل فى هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفى : قال الحافظ آسايش دوكيتى تفسير اين دو حرفست ... بادوستان تلطف با دشمنان مدارا وقال السعدى درشتى نكيرد خردمند بيش ... نه سستى كه ناقص كند قدر خويش ٨٤ { واذ اخذنا ميثاقكم } اى واذكروا ايها اليهود وقت اخذنا اقراركم وعهدكم فى التوراة وقلنا لكم { لا تسفكون دماءكم } لا يريق بعضكم دم بعض جعل غير الرجل نفسه اذا اتصل به اصلا او دينا فلما بينهم من الاتصال القوى نسبا ودينا اجرى كل واحد منهم مجرى انفسهم وقيل اذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لانه يقتص منه وهو اخبار فى معنى النهى كانه سورع الى الانتهاء فهو يخبر عنه { ولا تخرجون انفسكم من دياركم } اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره او لا تسبوا جيرانكم فتلجئوهم الى الخروج وفى اقتران الاخراج من الديار بالقتل ايذان بانه بمنزلة القتل { ثم اقررتم } اى بالميثاق واعترفتم على انفسكم بلزومه وبوجوب المحافظة عليه { وانتم تشهدون } عليها توكيد للاقرار كقولك فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها او انتم اليوم ايها اليهود تشهدون على اقرار اسلافكم بهذا الميثاق ٨٥ { ثم انتم } مبتدأ { هؤلاء } خبر ومناط الافادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات كما تقول رجعت بغير الوجه الذى خرجت به والمعنى انتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون والناقضون المتناقضون يعنى انكم قوم آخرون غير اولئك المقرين كأنهم قالوا كيف نحن فقيل { تقتلون انفسكم } اى الجارين مجرى انفسكم فهو بيان لقوله ثم انتم هؤلاء { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } الضمير للفريق وهو الطائفة { تظاهرون عليهم } بحذف احدى التاءين حال من فاعل تخرجون او من مفعوله مبينة لكيفية الاخراج رافعة لتوهم اختصاص الحرمة بالاخراج بطريق الاصالة والاستقلال دون المظاهرة والمعنى تقوون ظهوركم للغلبة عليهم { بالاثم } حال من فاعل تظاهرون اى ملتبسين بالاثم وهو الفعل الذى يستحق فاعله الذم واللوم { والعدوان } اى التجاوز فى الظلم ودلت الآية على ان الظلم كما هو محرم فكذا اعانة الظالم على ظلمه كذا فى التفسير الكبير { وان يأتوكم اسارى } اى جاؤكم حال كونهم مأسورين اى ظهروا لكم على هذه الحالة ولم يرد به الاتيان الاختيارى والاسارى والاسرى جمع اسير وهو من يؤخذ قهرا فعيل بمعنى المفعول من الاسر بمعنى الشد والايثاق والفرق انهم اذا قيدوا فهم اسارى واذا حصلوا فى اليد من غير قيد فهم اسرى { تفادوهم } اى تخرجوهم من الاسر باعطاء الفداء والمفاداة تجرى بين الفادى وبين قابل الفداء { وهو } مبتدأ اى الشان { محرم عليكم اخراجهم } محرم فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرا عن اخراجهم والجملة خبر لضمير الشان وذلك ان اللّه تعالى اخذ على بنى اسرائيل فى التوراة ان لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وايما عبد او امة وجدتموه من بنى اسرائيل فاشتروه واعتقوه وكان قريظة والنضير من اليهود اخوين وكذا الاوس والخزرج وهم اهل شرك يعبدون الاصنام ولا يعرفون القيامة والجنة والنار والحلال والحرام فافترقوا فى حرب شمر ووقعت بينهم عداوة فكانت بنو قريظة معينة للاوس وحلفاءهم اى ناصريهم والنضير معينة للخزرج وحلفاءهم فكانوا اذا كانت بين الاوس والخزرج حرب خرجت بنو قريظة مع الاوس والنضير مع الخزرج يظاهر كل قوم حلفاءهم على اخوانهم حتى يتسافكوا الدماء واذا غلبوا خربوا ديارهم واخرجوهم منها وبايديهم التوراة يعرفون ما فيها مما عليهم وما لهم فاذا وضعت الحرب اوزارها افتدى قريظة ما كان فى ايدى الخزرج منهم وافتدى النضير ما كان فى ايديى الاوس منهم من الاسارى فعيرتهم العرب بذلك وقالوا كيف تقاتلونهم وتفدونهم فقالوا امرنا ان نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا فلم تقاتلونهم قالوا انا نستحيى ان يستذل حلفاؤنا فذمهم على المناقضة وتلخيصه اعرضتم عن الكل الا الفداء لان اللّه تعالى اخذ عليهم اربعة عهود ترك القتل وترك الاخراج وترك المظاهرة عليهم مع اعداهم وفداء اساراهم فاعرضوا عن الكل الا الفداء { أفتؤمنون ببعض الكتاب } وهو الفداء والهمزة للانكار التوبيخيى والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام اى أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب { وتكفرون ببعض } هو حرمة القتال والاخراج مع ان قضية الايمان ببعضه الايمان بالباقى لكون الكل من عند اللّه داخلا فى الميثاق فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع ايمانهم بالبعض { فما جزاء } نفى اى ليس جزاء { من يفعل ذلك } اى الكفر ببعض الكتاب مع الايمان بالبعض { منكم } يا معشر اليهود حال من فاعل يفعل { الا خزى } استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ اى ذل وهو ان مع الفضيحة وهو قتل بنى قريظة واسرهم واجلاء بنى النضير الى اذرعات واريحا من الشام وقيل هو اخذ الجزية { فى الحيوة الدنيا } صفة خزى ولعل بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع اطماعهم الفارغة من ثمرات ايمانهم ببعض الكتاب واظهار انه لا اثر له اصلا مع الكفر بالبعض { ويوم القيامة } يوم تقام فيه الاجزية { يردون } اى يرجعون والرد الرجع بعد الاخذ { الى اشد العذاب } هو التعذيب فى جهنم وهو اشد من خزيهم فى الدنيا واشد من كل عذاب كان قبله فانه ينقطع وهذا لا ينقطع وفى الحديث ( فضوح الدنيا اهون من فضوح الآخرة ) وانما كان اشد لما ان معصيتهم كانت اشد المعاصى : وفى المثنوى هركه ظالم تر جهش باهول تر ... عدل فرموده است بدتررا بتر { وما اللّه بغافل } بساه { عما تعملون } من القبائح التى من جملتها هذا المنكر اى لا يخفى عليه شىء من اعمالهم فيجازيهم بها يوم البعث تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة لان الغفلة اذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع انه اقدر القادرين وصلت الحقوق الى مستحقيها ٨٦ { اولئك } الموصوفون بما ذكر من الاوصاف القبيحة { الذين اشتروا الحيوة الدنيا } واستبدلوها { بالآخرة } واعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فان ما ذكر ما الكفر ببعض احكام الكتاب انما كان مراعاة لجانب حلفائهم لما يعود اليهم منهم من بعض المنافع الدينية والدنيوية { فلا يخفف عنهم العذاب } دنيويا كان او اخرويا { ولا هم ينصرون } يمنعون من العذاب بدفعه عنهم بشفاعة او جبر اعلم ان الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن واللّه سبحانه مكن المكلف من تحصيل ايتهما شاء واراد فاذا اشتغل بتحصيل احديهما فقد فوت الاخرى على نفسه فجعل اللّه ما اعرض اليهود عنه من الايمان بما فى كتابهم وما حصل فى ايديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء وذلك من اللّه نهاية الذم لهم لان المغبون فى البيع والشراء فى الدنيا مذموم فان يذم مشترى الدنيا بالآخرة اولى فعلى العاقل ان يرغب فى تجارة الآخرة ولا يركن الى الدنيا ولا يسفك دمه بامتثال اوامر الشطيان فى استجلاب حظوظ النفس ولا يخرج من ديار دينه التى كان عليها فى اصل الفطرة فانه اذا يضل ويشقى وفى قوله { لا تسفكون دماءكم } اشارة اخرى الى ان العبد ولا يجوز له ان يقتل نفسه من جهد او بلاء يصيبه او يهيم فى الصحراء ولا يأتى البيوت جهلا فى ديانته وسفها فى حلمه فهو عام فى جميع ذلك وقد روى ان بعض الصحابة رضى اللّه عنهم عزموا ان يلبسوا المسوح وان يهيموا فى الصحراء ولا يأووا الى البيوت ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء فقال عليه السلام ( انى اصلى وانام واصوم وافطر واغشى النساء وآوى الى البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتى فليس منى ) فرجعوا عما عزموا قال تعالى { وآت كل ذى حق حقه } فالكمال فى التجاوز عن القيود والوصول الى عالم الشهود وعين العارف لا ترى غير اللّه فى المرايا والمظاهر فمن اى شىء يهرب والى اين يهرب فاينما تولوا فثم وجه اللّه ولذا قيل الذى يطلب العلم للّه اذا قيل له غدا تموت لا يضيع الكتاب من يده لكونه وفى الحقوق مشتغلا به للّه مخلصا له النية فلم ير افضل مما هو فيه فيحب ان يأتيه الموت على ذلك واعلم ايضا ان الاسارى اصناف شتى فمن اسير فى قيد الهوى فانقاذه بالدلالة على الهدى ومن اسير فى قيد حب الدنيا فخلاصة باخلاص ذكر الموت : وفى المثنوى ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز ومن اسير بقى فى قيد الوسواس فقد استهوته الشياطين ففداؤه برشده الى اليقين بلوائح البراهين لينقذه من الشكوك والظنون والتخمين ويخرجه من ظلمات التقليد وما تعود بالتلقين ومن اسير تجده فى اسر هواجس نفسه ربيط زلاته ففك اسره فى ارشاده الى اقلاعها ومن اسير تجده فى قبضة الحق فليس لاسيرهم فداء ولا لقتيلهم وقود ولا لربيطهم خلاص ولا منهم بدل ولا معهم جدل ولا اليهم لغيرهم سبيل ولا لديهم الا بهم دليل ولا بهم فرار ولا معهم قرار فهذا مقام الاولياء الكمل فمن اتخذ هذه الطريقة سبيلا نال مراده ووصل الى مقام فؤاده وتخلص من الخزى الذى هو عمى القلب عن مشاهدة الحق والعمه فى تيه الباطل فى الدنيا والآخرة : قال فى المثنوى اصل صد يوسف جمال ذوالجلال ... اى كم اززن شو فداى آن جمال اصل بيند ديده جون اكمل بود ... فرع بيند جونكه مرداحول بود سرمه توحيد از كحال حال ... يافته رسته زعلت واعتلال ولا بد من العشق فى طريق الحق وحكى ان عجوزا احضرت السوق قطعة غزل وقالت اكتبونى من مشترى يوسف حتى يوجد اسمى فى دفتر العشاق اللّهم لا تحجبنا عن جمالك وعنك واجعلنا من الفائزين بنوال وصالك منك ٨٧ { ولقد آتينا } اى باللّه لقد اعطينا يا بنى اسرائيل { موسى } لغة عبرانية قد سبق تفصيله عند قوله تعالى { واذ واعدنا موسى } الآية { الكتاب } اى التوراة جملة واحدة { وقفينا من بعده بالرسل } يقال قفاه به اذا اتبعه اياه اى اتبعنا من بعد موسى رسولا بعد رسول مقتفين اثره وهم يوشع وشمويل وداود وسليمان وشمعون وشعيا وارميا وعزيز وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم السلام { وآتينا عيسى } بالسريانية اليسوع ومعناه المبارك والاصح انه لا اشتقاق له ولأمثاله فى العربية { ابن } باثبات الالف وان كان واقعا بين العلمين لندرة الاضافة الى الام { مريم } بالسريانية بمعنى الخادمة والعابدة قد جعلتها امها محررة لخدمة المسجد ولكمال عبادتها لربها سماها الحق تعالى فى كتابه الكريم مع الانبياء عليهم السلام سبع مرات وخاطبها كما خوطب الانبياء كما قال تعالى { يا مريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين } فشاركها مع الرجال { البينات } المعجزات الواضحات من احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص والاخبار بالمغيبات والانجيل { وايدناه } اى قويناه { بروح القدس } من اضافة الموصوف الى الصفة اى بالروح المقدسة المطهرة وهى روح عيسى عليه السلام وصفت بالقدس للكرامة لان القدس هو اللّه تعالى او الروح جبريل ووصف بالطهارة لانه لم يقترف ذنبا وسمى روحا لانه كان يأتى الانبياء بما فيه حياة القلوب ومعنى تقويته به انه عصمه من اول حاله الى كبره فلم يدن منه الشيطان عند الولادة ورفعه الى السماء حين قصد اليهود قتله وتخصيص عيسى من بين الرسل ووصفه بايتاء البينات والتأييد بروح القدس لما ان بعثتهم كانت لتنفيذ احكام التوراة وتقريرها واما عيسى فقد نسخ بشرعه كثير من احكامها وحسم مادة اعتقادهم الباطل فى حقه ببيان حقيقته واظهار كمال قبح ما فعلوا به وما بين موسى وعيسى اربعة آلاف نبى وقيل سبعون الف نبى { أفكلما جاءكم } خاطب اهل عصر النبى عليه السلام بهذا وقد فعله اسلافهم يعنى لم يوجد منهم القتل ان وجد الاستكبار لانهم يتولونهم ويرضون بفعلهم والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام اى ألم تطيعوهم فكلما جاءكم { رسول بما لا تهوى } اى لا تريد { انفسكم } ولا يوافق هواكم من الحق الذى لا انحراف عنه { استكبرتم } اى تعظمتم عن الاتباع له والايمان بما جاء به من عند اللّه { ففريقا } منهم { كذبتم } كعيسى ومحمد عليهما السلام { وفريقا تقتلون } كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام وقدم فريقا فى الموضعين للاهتمام وتشويق السامع الى ما فعلوا بهم لا للقصر ولم يقل قتلتم وان اريد الماضى تفظيعا لهذه الحالة فكأنها وان مضت حاضرة لشناعتها ولثبوت عارها عليهم وعلى ذريتهم بعدهم او يراد وفريقا تقتلونهم بعد وانكم على هذه النية لانكم حاولتم قتل محمد عليه الصلاة والسلام لولا انى اعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة حتى قال عليه السلام عند موته ( ما زالت اكلة خيبر تعاودنى ) اى يراجعنى اثر سمها فى اوقات معدودة ( فهذا او ان قطعت ابهرى ) وهو عرق منبسط فى القلب اذا انقطع مات صاحبه وقصته انه لما فتحت خيبر وهو موضع بالحجاز اهديت لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول اللّه ( انى سائلكم عن شىء فهل انتم صادقى فيه ) قالوا نعم يا ابا القاسم قال ( هل جعلتم فى هذه الشاة سما ) قالوا نعم قال ( فما حملكم على ذلك ) قالوا اردنا ان كنت كاذبا ان نستريح منك وان كنت صادقا لم يضرك واعلم ان اليهود انفوا من ان يكونوا اتباعا وكانت لهم رياسة وكانوا متبوعين فلم يؤمنوا مخافة ان تذهب عنهم الرياسة فما دام لم يخرج حب الرياسة من القلب لا تكون النفس مؤمنة بالايمان الكامل وللنفس صفات سبع مذمومة العجب والكبر والرياء والغضب والحسد وحب المال وحب الجاه ولجهنم ايضا ابواب سبعة فمن زكى نفسه عن هذه السبع فقد اغلق سبعة ابواب جهنم ودخل الجنة واوصى ابراهيم بن ادهم بعض اصحابه فقال كن ذنبا ولا تكن رأسا فان الرأس يهلك والذنب يسلم : قال فى المثنوى تاتوانى بنده شو سلطان مباش ... زخم كش جون كوى شوجوكان مباش اشتهار خلق بند محكمست ... در ره اين از بند آهن كى كم است وعن بعض المشايخ النقشبندية انه قال دخلت على الشيخ المعروف بدده عمر الروشنى لعيادة فوجدته متغير الحال بسبب انه داخله شىء من حب الرياسة لانه كان مشهورا فى بلدة تبريز مرجعا للاكابر والاصاغر فنعوذ باللّه من الحور بعد الكور وفى شرح الحكم ادفن وجودك اى ما يكون سبب ظهور اختصاصك بين الخلق من علم او عمل او حال فى ارض الحمول التى هى احد ثلاثة امور احدها ان ترى ما جبلت عليه من النقص فلا تعتد بشىء يظهر منك لعلمك بدسائسك وخباثة نفسك الثانى ان تنظر اليك من حيث انت فلا ترى لائقا بك الا النقص وتنظر الى مولاك فتراه اهلا لكل كمال فكل ما يصدر لك من احسان نسبته اليه اعتبارا بما انت عليه من خمول الوصف الثالث ان تظهر لنفسك ما يوجب نفى دعواها من مباح مستبشع او مكروه لم يمنع دواء لعلة العجب لا محرما متفقا عليه اذ كما لا يصح دفن الزرع فى ارض رديئة لا يجوز الخمول فى حالة غير مرضية ٨٨ { وقالوا } اى اليهود الموجودون فى عصر النبى عليه السلام { قلوبنا غلف } جمع اغلف مستعار من الاغلف الذى لم يختن اى هى مغشاة باغشية جبلية لا يكاد يصل اليها ما جاء به محمد ولا تفقهه ثم رد اللّه ان تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لانها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق واضرب وقال { بل لعنهم اللّه بكفرهم } اى خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وابطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة { فقليلا ما يؤمنون } ما مزيدة للمبالغة اى فايمانا قليلا يؤمنون وهو ايمانهم ببعض الكتاب والفاء لسببية اللعن لعدم الايمان ٨٩ { ولما جاءهم كتاب } كائن { من عند اللّه } وهو القرآن ووصفه بقوله من عند اللّه للتشريف { مصدق لما معهم } اى موافق للتوراة فى التوحيد وبعض الشرائع قال ابن التمجيد المصدق به ما يختص ببعثة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم وما يدل عليها من العلامات والصفات لا الشرائع والاحكام لان القرآن نسخ اكثرها { وكانوا من قبل } اى قبل مجىء محمد صلى اللّه عليه وسلم { يستفتحون على الذين كفروا } اى يستنصرون به على مشركى العرب وكفار مكة ويقولون لاعدائهم قد اظل زمان نبى يخرج بتصدياق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عد وارم { فلما جاءهم ما عرفوا } من الكتاب لان معرفة من انزل هو عليه معرفة له والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير ان يتخلل بينهما مدة منسية { كفروا به } حسدا وحرصا على الرياسة وغيروا صفته وهو جواب لما الاولى والثانية تكرير للاولى { فلعنة اللّه على الكافرين } اى عليهم وضعا للظاهر موضع الضمير للدلالة على ان اللعنة لحقتهم لكفرهم والفاء للدلالة على ترتيب اللعنة على الكفر واللعنة فى حق الكفار الطرد والابعاد من الرحمة والكرامة والجنة على الاطلاق وفى حق المذنبين من المؤمنين الابعاد عن الكرامة التى وعد بها من لا يكون فى ذلك الذنب ومنه قوله عليه السلام ( من احتكر فهو ملعون ) اى من ادخر ما يشتريه وقت الغلاء ليبيعه وقت زيادة الغلاء فهو مطرود من درجة الابرار لا من رحمة الغفار واعلم ان الصفات المقتضية للعن ثلاث الكفر والبدعة والفسق وله فى كل واحدة ثلاث مراتب الاولى اللعن بالوصف الاعم كقولك لعنة اللّه على الكافرين او المبتدعة او الفسقة والثانية اللعن باوصاف اخص منه كقولك لعنة اللّه على اليهود والنصارى او على القدرية والخوارج والروافض او على الزناة والظلمة واكل الربا وكل ذلك جائز والثالثة اللعن على الشخص فان كان ممن ثبت كفرهم شرعا يجوز لعنه ان لم يكن فيه اذى على مسلم كقولك لعنة اللّه على فرعون وابى جهل لانه ثبت ان هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعا وان كان ممن لم يثبت شرعا كلعنة زيد او عمرو او غيرهما بعينه فهذا فيه خطر لان حال خاتمته غير معلوم وربما يسلم الكافر او يتوب فيموت مقربا عند اللّه فكيف يحكم بكونه ملعونا ألا يرى ان وحشيا قتل عم النبى عليه السلام اعنى حمزة رضى اللّه عنه ثم اسلم على يد النبى عليه السلام وبشره اللّه بالجنة وهذه حجة من لم يلعن يزيد لانه يحتمل ان يتوب ويرجع عنه فمع هذا الاحتمال لا يلعن قال بعضهم لعن يزيد على اشتهار كفره وتواتر فظاعة شره لما انه كفر حين امر بقتل الحسين رضى اللّه عنه ولما قال فى الخمر فان حرمت يوما على دين احمد ... فخذها على دين المسيح ابن مريم واتفقوا على جواز اللعن على من قتل الحسين رضى اللّه عنه او امر به او اجازه او رضى به كما قال سعد الملة والدين التفتازانى الحق ان رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره واهانته اهل بيت النبى عليه السلام مما تواتر معناه وان كان تفاصيله آحادا فنحن لا نتوقف فى شأنه بل فى ايمانه لعنة اللّه عليه وعلى انصاره واعوانه انتهى وكان الصاحب بن عباد يقول اذا شرب ماء بثلج قعقعة الثلج بماء عذب ... تستخرج الحمد من اقصى القلب ثم يقول اللّهم جدد اللعن على يزيد ويكف اللسان عن معاوية تعظيما لمتبوعه وصاحبه عليه السلام لانه كاتب الوحى وذو السابقة والفتوحات الكثيرة وعامل الفاروق وذى النورين لكنه اخطأ فى اجتهاده فتجاوز اللّه عنه ببركة صحبة سيدنا محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال الخياط المتكلم ما قطعنى الا غلام قال ما تقول فى معاوية قلت انا اقف فيه قال فما تقول فى ابنه يزيد قلت العنه قال فما تقول فيمن يحبه قلت العنه قال افترى ان معاوية كان لا يحب ابنه كذا فى روضة الاخبار ثم اعلم ان اللعنة ترتد على اللاعن ان لم يكن الملعون اهلا لذلك ولعن المؤمن كقتله فى الاسم وربما يلعن شيأ من ماله فتنزع منه البركة فلا يلعن شيأ من خلق اللّه لا للجماد ولا للحيوان ولا للانسان قال عليه السلام ( اذا قال العبد لعن اللّه الدنيا قالت الدنيا لعن اللّه اعصانا لربه ) فالاولى ان يترك ويشتغل بدله بالذكر والتسبيح اذ فيه ثواب ولا ثواب فى اللعن وان كان يستحق اللعن قال عليه السلام ( رايت النار واكثر اهلها النساء فانهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير فلو احسنت الى احديهن الدهر كله ثم اذا رأت منك شيأ قالت ما رأيت منك خيرا قط ) قال على كرم اللّه وجهه من افتى الناس بغير علم لعنته السماء والارض وسألت بنت على البلخى اباها عن القيىء اذا خرج الى الحلق فقال يجب اعادة الوضوء فرأى رسول اللّه عليه السلام يقول لا يا على حتى يكون ملئ الفم فقال علمت ان الفتوى تعرض على رسول اللّه فآليت على نفسى ان لا افتى ابدا كذا فى الروضة ٩٠ { بئسما } ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس اى بئس شيأ { اشتروا } صفة واشترى بمعنى باع وابتاع والمراد هنا الاول { به } اى بذلك الشىء { انفسهم } المراد الايمان وانما وضع الانفس موضع الايمان ايذانا بانها انما خلقت للعلم والعمل به المعبر عنه بالايمان ولما بدلوا الايمان بالكفر كانوا كأنهم بدلوا الانفس به والمخصوص بالذم قوله تعالى { ان يكفروا بما انزل اللّه } اى بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته { بغيا } علة لان يكفروا اى حسدا وطلبا لما ليس لهم كما ان الحاسد يطلب ما ليس له لنفسه مما للمحسود من جاه او منزلة او خصلة حميدة والباغى هو الظالم الذى يفعل ذلك عن حسده والمعنى بئس شيأ باعوا به ايمانهم كفرهم المعلل بالبغى الكائن لاجل { ان ينزل اللّه } او حسدا على ان فان الحسد يستعمل بعلى { من فضله } الذى هو الوحى { على من يشاء } اى يشاؤه ويصطفيه { من عباده } المستأهلين لتحمل اعباء الرسالة والمراد ههنا محمد صلى اللّه عليه وسلم كانت اليهود يعتقدون نبى آخر الزمان ويتمنون خروجه وهم يظنون انه من ولد اسحق فلما ظهر انه من ولد اسماعيل حسدوه وكرهوا ان يخرج الامر من بنى اسرائيل فيكون لغيرهم { فباؤا } اى رجعوا ملتبسين { بغضب } كائن { على غضب } اى صاروا مستحقين لغضب مترادف ولعنة اثر لعنة حسبما اقترفوا من كفر على كفر فانهم كفروا بنبى الحق وبغوا عليه { وللكافرين } اى لهم والاظهار فى موضع الاضمار للاشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم { عذاب مهين } يراد به اهانتهم واذلالهم لما ان كفرهم بما انزل اللّه كان مبنيا على الحسد المبنى على طمع النزول عليهم وادعاء الفضل على الناس والاستهانة بمن انزل اللّه عليه صلى اللّه عليه وسلم ودل ان عذاب المؤمنين تأديب وتطهير وعذاب الكفار اهانة وتشديد وان المراتب الدنيوية والاخروية كلها من فيض اللّه تعالى وفضله فليس لاحد ان يعترض عليه ويحسده على الالطاف الآلهية فان الكمالات مثل النبوة والولاية ليست من الامور الاكتسابية التى يصل اليها العبد بجهد كثير وكمال اهتمام اما النبوة اى البعثة فاختصاص آلهى حاصل لعينه الثابتة من التجلى الموجب للاعيان فى العلم وهو الفيض الاقدس واما الولاية فهو ايضا اختصاص آلهى غير كسبى بل جميع المقامات كذلك اختصاصية عطائية غير كسبية حاصلة للعين الثابتة من الفيض الاقدس وظهوره بالتدريج بحصول شرائطه واسبابه يوهم المحجوب فيطن انه كسبى بالتعمل وليس كذلك فى الحقيقة فلا معنى للحسد لكن الجاهلين بحقيقة الحال يطيلون ألسنتهم بالقيل والقال ولا ضير فانه رفع لدرجات العبد واقتضت سنة اللّه ان يشفع اهل الجمال باهل الجلال ليظهر الكمال : قال الحافظ درين جمن كل بيخار نجيد آرى ... جراغ مصطفوى باشرار بولهبيست وحكى ان المولى جلال الدين لما فقد الشمس التبريزى طاف البلاد بالحرارة فى طلبه فمر يوما امام حانوت ذهبى للشيخ صلاح الدين زركوب فقال له تعالى يا مولانا فدخل فى حانوته فقال لاى شىء تجزع وتدور قال الفلك اذا فقد شمسه يدور لاجله ليتخلص من ظلمه الفراق فقال الشيخ انا شمسك قال مولانا من اين اعرف انك شمسى فاخبره عن المراتب التى اوصله اليها الشيخ شمس الدين فقبل يده واعتذر فقال كان شمى ارانى اولا بطانته فالآن ارانى وجهه فاشتغل عنده فوصل الى ما وصل ثم لما سمعه بعض اتباع مولانا ارادوا قتله وحسدوا عليه فارسل اليهم مولانا ابنه سلطان ولد فقال الشيخ ان اللّه تعالى اعطانى قدرة على قلب السماء الى الارض فلو اردت لاهلكتهم بقدرة اللّه لكن الاولى ان نتحمل وندعو لاصلاح حالهم فدعا الشيخ فأمن سلطان ولد فلانت قلوبهم واستغفروا : قال فى المثنوى جون كنى بربى حسد مكر وحسد ... زان حسد دل را سياهيها رسد خاك شو مردان حق را زير با ... خاك برسر كن حسدرا همجوما وهكذا احوال الانبياء والاولياء ألا يرى الى قوله عليه الصلاة والسلام ( اللّهم اهد قومى فانهم لا يعلمون ) وكان الاصحاب رضى اللّه عنهم يبكون دما من اخلاق النفس ولا يزالون يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما به يتخلصون من الاوصاف الذميمة ويتطهرون ظاهرا وباطنا طلبا للنجاة من العذاب المهين واشده الفراق ٩١ { واذا قيل لهم } اى واذا قال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليهود اهل المدينة ومن حولها ومعنى اللام الانهاء والتبليغ { آمنوا بما انزل اللّه } من الكتب الآلهية جميعا { قالوا نؤمن } اى نستمر على الايمان { بما انزل علينا } يعنون به التوراة وما انزل على انبياء بنى اسرائيل لتقرير حكمها ويدسون فيه ان ما عدا ذلك غير منزل عليهم واسندوا الانزال على انفسهم لان المنزل على نبى منزل على امته معنى لانه يلزمهم { و } هم { يكفرون بما وراءه } اى سوى ما انزل { وهو } اى والحال ان ما وراء التوراة { الحق } اى المعروف بالحقية الحقيق بان يخص به اسم الحق على الاطلاق { مصدقا لما معهم } من التوراة غير مخالف له حال مؤكدة من الحق والعامل فيها ما فى الحق من معنى الفعل وصاحب الحال ضمير دل عليه الكلام اى احقه مصدقا اى حال كونه موافقا لما معهم وفيه رد لمقالتهم لانهم اذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ثم اعترض عليهم بقتلهم الانبياء مع ادعائهم الايمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل نبى بقوله تعالى { قل } يا محمد تبكيتا لهم من جهة اللّه تعالى ببيان التناقض بين اقوالهم وافعالهم { فلم } اصله لما لامه للتعليل دخلت على ما التى للاستفهام وسقطت الالف فرقا بين الاستفهامية والخبرية { تقتلون انبياء اللّه من قبل } صيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وهو جواب شرط محذوف اى قل لهم ان كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون فلاى شىء تقتلون انبياء اللّه من قبل وهو فيها حرام واسند فعل الآباء وهو القتل الى الابناء للملابسة بين الآباء والابناء قال ابو الليث فى تفسيره وفى الآية دليل على ان من رضى بالمعصية فكانه فاعل لها لان اليهود كانوا راضين بقتل آبائهم فسماهم اللّه قاتلين حيث قال فلم تقتلون الآية { ان كنتم مؤمنين } جواب الشرط محذوف لدلالة ما سبق عليه اى ان كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وهو تكرير للاعتراض لتأكيد الالزام وتشديد التهديد ٩٢ { ولقد جاءكم موسى بالبينات } من تمام التبكيت والتوبيخ داخل تحت الامر واللام للقسم اى باللّه قد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرة من العصا واليد وفلق البحر ونحو ذلك { ثم اتخذتم العجل } اى آلها { من بعده } اى من بعد مجيئه بها وثم للتراخى فى الرتبة والدلالة على نهاية قبح ما فعلوا { وانتم ظالمون } حال من ضمير اتخذتم اى عبدتم العجل وانتم واضعون العبادة فى غير موضعها ٩٣ { واذ اخذنا ميثاقكم } اى العهد منكم { ورفعنا فوقكم الطور } اى الجبل قائلين لكم { خذوا ما اتيناكم بقوة } اى بجد واجتهاد { واسمعوا } ما فى التوراة سماع قبول وطاعة { قالوا } كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا { سمعنا } قولك ولكن لا سماع طاعة { وعصينا } امرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا فى الظاهر فاذا كان حال اسلافهم هكذا فكيف يتصور من اخلافهم الايمان : قال الفردوسى زبد كوهران بدنباشد عجب ... سياهى نباشد بريدن زشب زبداصل جشم بهى داشتن ... بود خاك درديده انباشتن { واشربوا } اى والحال انهم قد اشربوا { فى قلوبهم } بيان لمكان الاشراب كقوله انما يأكلون فى بطونهم نارا { العجل } اى حب العجل على حذف المضاف واشرب قلبه كذا اى حل محل الشراب او اختلط كما خلط الصبغ بالثوب وحقيقة اشربه كذا جعله شاربا لذلك فالمعنى جعلوا شاربين حب العجل نافذا فيهم نفوذ الماء فيما تغلغل فيه قال الراغب من عاداتهم اذا ارادوا محاصرة حب او بغض فى القلب ان يستعيروا لها اسم الشراب اذ هو ابلغ مساغا فى البدن ولذلك قالت الاطباء الماء مطية الاغذية والادوية { بكفرهم } اى بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة او حلولية ولم يروا جسما اعجب منه فتمكن فى قلوبهم ما سول لهم السامرى وجعل حلاوة عبادة العجل فى قلوبهم مجازاة لكفرهم وفى القصص ان موسى عليه السلام لماخرج الى قومه امر ان يبرد العجل بالمبرد ثم يذرى فى النهر فلم يبق نهر يجرى يومئذ الا وقع فيه منه شىء ثم قال لهم اشربوا منه فمن بقى فى قلبه شىء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه { قل } توبيخا لحاضرى اليهود اثر ما بين احوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون فى كل ما يأتون ويذرون { بئسما } بئس شيأ { يأمركم به } اى بذلك الشىء { ايمانكم } بما انزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف اى ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفى اسناد الامر الى الايمان تهكم بهم واضافة الايماء اليهم للايذان بانه ليس بايمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى { ان كنتم مؤمنين } بالتوراة واذ لا يسوغ الايمان بها مثل تلك القباح فلستم بمؤمنين بها قطعا فقد علم ان من ادعى انه مؤمن ينبغى ان يكون فعله مصدقا لقوله والا لم يكن مؤمنا قال الجنيد قدس سره التوحيد الذى تفرد به الصوفية هو افراد القدم عن الحدوث والخروج عن الاوطان وقطع المحارب وترك ما علم وما جهل وان يكون الحق سبحانه مكان الجميع طالب توحيدرا بايد قدم برلازدن ... بعد ازان درعالم وحدت دم الا زدن قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما دخل على يعقوب النبى عليه السلام مبشر يوسف عليه السلام وبشره بحياته قال له يعقوب على اى دين تركته قال على دين الاسلام قال يعقوب عليه السلام الآن قد تمت النعمة على يعقوب واعلم ان التوحيد اصل الاصول ومناط القبول ومكفر الخطايا ومستجلب العطايا حكى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يحب اسلام دحية الكلبى لانه كان تحت يده سبعمائة من اهل بيته وكانوا يسلمون باسلامه وكان يقول ( اللّهم ارزق دحية الكلبى الاسلام ) فلما اراد دحية الاسلام اوحى اللّه الى النبى عليه السلام بعد صلاة الفجر ان يا محمد ان اللّه يقرؤك السلام ويقول ان دحية يدخل عليك الآن وكان فى قلوب الاصحاب شىء من دحية من وقت الجاهلية فلما سمعوا ذلك كرهوا ان يمكنوا دحية فيما بينهم فلما علم ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كره ان يقول لهم مكنوا دحية وكره ان يدخل دحية فيوحشوه فيبرد قلبه عن الاسلام فلما دخل دحية المسجد رفع النبى صلى اللّه عليه وسلم رداءه عن ظهره وبسطه على الارض بين يديه فقال دحية ههنا واشار الى ردائه فبكى دحية من كرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورفع رداء وقبله ووضعه على رأسه وعينيه وقال ما شرائط الاسلام اعرضها على فقال ( ان تقول اولا لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه ) فقال دحية ذلك ثم وقع البكاء على دحية فقال عليه السلام ( ما هذا البكاء وقد رزقت الاسلام ) فقال انى ارتكبت خطيئة وفاحشة فقل لربك ما كفارته ان امرنى ان اقتل نفسى قتلتها وان امر ان اخرج من جميع مالى خرجت فقال عليه السلام ( وما ذلك يا دحية ) قال كنت رجلا من ملوك العرب واستنكفت ان تكون لى بنات لهن ازواج فقتلت سبعين من بناتى كلهن بيدى فتحير النبى عليه السلام فى ذلك حتى نزل جبريل فقال ( يا محمد ان اللّه يقرؤك السلام ويقول قل لدحية وعزتى وجلالى انك لما قلت لا اله الا اللّه غفرت لك كفر ستين سنة وسيآتك ستين سنة فكيف لا اغفر لك قتل البنات ) فبكى عليه السلام واصحابه فقال عليه السلام ( الهى غفرت لدحية قتل بناته بشهادة ان لا اله الا اللّه مرة واحدة فكيف لا تغفر للمؤمنين بشهادات كثيرة وبقول صادق وبفعل خالص ) وفى المثنوى اذكروا اللّه كاره اوباش نيست ... ارجعى برباى هرقلاش نيست قال السعدى : كر بمحشر خطاب قهر كند ... انبيارا جه جاى معذرتست برده ازروى لطف كوبردار ... كاشقيارا اميد مغفر تست ٩٤ { قل ان كانت لكم الدار الآخرة } اى الجنة { عند اللّه } ظرف للاستقرار فى الخبر اعنى لكم { خالصة } على الحالية من الدار اى سالمة لكم خاصة بكم { من دون الناس } فى محل النصب بخالصة اى من دون محمد واصحابه فاللام للعهد وتستعمل هذه اللفظة للاختصاص يقال هذا لى من دون الناس اى انا مختص به والمعنى ان صح قولكم لن يدخل الجنة الا من كان هودا { فتمنوا الموت } اى احبوه واسألوه بالقلب واللسان وقولوا اللّهم امتنا فان من ايقن بدخول الجنة اشتاق اليها وتمنى سرعة الوصول الى النعيم والتخلص من دار البوار وقرارة الاكدار ولا سبيل الى دخولها الا بعد الموت فاستعجلوه بالتمنى { ان كنتم صادقين } فى قولكن ان الجنة خاصة لكم فتمنوه واصل التمنى تقدير شىء فى النفس واكثر ما يستعمل فيما لا حقيقة له ٩٥ { ولن يتمنوه } اى الموت { ابدا } اى فى جميع الزمان المستقبل لان ابدا اسم لجميع مستقبل الزمان كقط لماضيه وفيه دليل على ان لن ليس للتأبيد لانهم يتمنون الموت فى الآخرة ولا يتمنونه فى الدنيا { بما قدمت ايديهم } بسبب ما عملوا من المعاصى الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبى عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة وخص الايدى بالذكر لان الاعمال غالبا تكون بها وهى من بين جوارح الانسان مناط عامة صنائعه ومدار اكثر منافعه ولذا عبر بها تارة عن النفس واخرى عن القدرة { واللّه عليم بالظالمين } بهم وبما صدر عنهم وهو تهديد لهم روى ان اليهود لو تمنوا الموت لغص كل واحد منهم بريقه اى لامتلأ فمه بريقه فمات من ساعته ولما بقى على الارض يهودى الا مات فقوله ولن يتمنوه ابدا من المعجزات لانه اخبار بالغيب وكان كما اخبر به كقوله ولن تفعلوا ولو وقع من احد منهم تمنى موته لنقل واشتهر فان قلت ان التمنى يكون بالقلب فلا يظهر لنا انهم تمنوه اولا قلت ليس التمنى من اعمال القلوب انما هو قول الانسان بلسانه ليت لى كذا وعن نافع جلس الينا يهودى يخاصمنا فقال ان فى كتابكم فتمنوا الموت وانا اتمنى فمالى لا اموت فسمع ابن عمر رضى اللّه عنهما هذا فدخل بيته واخذ السيف ثم خرج ففر اليهودى حين رآه فقال ابن عمر اما واللّه لو ادركته لضربت عنقه توهم هذا الجاهل انه لليهود فى كل وقت انما هو لاولئك الذين كانوا يعاندونه ويجحدون نبوته بعد ان عرفوه فان قلت ان المؤمنين اجمعوا على انّ الجنة للمؤمنين دون غيرهم ثم ليس احد منهم يتمنى الموت فكيف وجه الاحتجاج على اليهود بذلك قلت ان المؤمنين لم يجعلوا لانفسهم من الفضل والشرف والمرتبة عند اللّه ما جعلت اليهود ذلك لانفسهم لانهم ادعوا انهم ابناء اللّه واحباؤه وان الجنة خالصة لهم والانسان لا يكره القدوم على حبيبه ولا يخاف انتقامه بالمصير اليه بل يرجو وصوله الى محابه فقيل لهم تمنوا ذلك فلما لم يتمنوه ظهر كذبهم فى دعاويهم ولان النبى عليه الصلاة والسلام نهى عن تمنى الموت قال ( لا يتمنى احدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللّهم احينى ما كانت الحياة خيرا لى وتوفنى ما كانت الوفاة خيرا لى ) قال مقاتل لولا بناتى وسيآتي ... لذبت شوقا الى الممات فلا يلزمهم ما يلزم اليهود قال سهل بن عبد اللّه التسترى قدس سره لا يتمنى الموت الا ثلاثة رجل جاهل بما بعد الموت او رجل يفر من اقدار اللّه عليه او مشتاق يحب لقاء اللّه : قال فى المثنوى شد هواى مرك طوق صادقان ... كه جهودانرا بد ان دم امتحان روى عن صاحب المثنوى انه لما دنت وفاته تمثل له ملك الموت وقام عند الباب ولما رآه المولى قدس سره قال ييشترآ ييشترآ جان من ... بيك در حضرت سلطان من قال بعض الملوك لابى حازم كيف القدوم على اللّه عز وجل فقال ابو حازم اما قدوم الطائع على اللّه فكقدوم الغائب على اهله المشتاقين اليه واما قدوم العاصى فكقدوم الآبق على سيده الغضبان : قال فى المثنوى انبيارا تنك آمد اين جهان ... جون شهان رفتند اندر لامكان جون مراسوى اجل عشق وهواست ... نهى لا تلقوا بايديكم مراست زانكه نهى ازدانه شيرين بود ... تلخ را خود نهى حاجت كى شو واعلم ان الموت هو المصيبة العظمى والبلية الكبرى واعظم منه الغفلة عنه والاعراض عن ذكره وقلة الفكر فيه وترك العمل له وان فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر كما قيل كفى بالموت واعظا ومن ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ومنعه عن تمنيها فى المستقبل وزهده فيما كان منها يؤمل ولكن القلوب الغافلة تحتاج الى تطويل الوعاظ وتزيين الالفاظ والا ففى قوله عليه السلام ( اكثرو ذكر هاذم اللذات ) وقوله تعالى { كل نفس ذائقة الموت } ما يكفى السامع له ويشغل الناظر فيه فعلى العاقل ان يسعى للموت بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق : قال السعدى قدس سره اى برادر جوعاقبت خاكست ... خاك شوبيش ازانكه خاك شوى اللّهم يسر لنا الطريق ٩٦ { ولتجدنهم احرص الناس } من الوجدان العقلى وهو جار مجرى العلم خلا انه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوها واللام لام القسم اى واللّه لتجدن اليهود يا محمد احرص من الناس { على حيوة } لا يتمنون الموت والتنكير للنوع وهى الحياة المخصوصة المتطاولة وهى حياتهم التى هم فيها لانها نوع من مطلق الحياة { ومن الذين اشركوا } عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل احرص من الناس وافرد المشركون بالذكر وان كانوا من الناس لشدة حرصهم على الحياة وفيه توبيخ عظيم لان الذين اشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون الا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لانها جنتهم فاذا زاد عليهم فى الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقا بأعظم التوبيخ فان قلت لم زاد حرصهم على حرص المشركين قلت لانهم علموا لعلمهم بحالهم انهم صائرون الى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك { يود احدهم } بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف اى يريد ويتمنى ويحب احد هؤلاء المشركين { لو يعمر الف سنة } حكاية لودادهم ولو فيه معنى التمنى كأنه قيل ليتنى اعمر وكان القياس لو اعمر الا انه جرى على لفظ الغيبة لقوله تعالى يود احدهم كقولك حلف باللّه ليفعلن ومحله النصب على انه معمول يود اجراء له مجرى القول لانه فعل قلبى والمعنى تمنى احدهم ان يعطى البقاء والعمر الف سنة وهى للمجوس وخص هذا العدد لانهم يقولون ذلك فيما بينهم عند العطاس والتحية عش الف سنة والف نوروز والف مهرجان وهى بالعجمية ( زى هزارسال ) وصح اطلاق المشركين على المجوس لانهم يقولون بالنور والظلمة { وما } حجازية { هو } اى احدهم اسم ما { بمزحزحه } خبر ما والباء زائدة والزحزحة التبعيد والانجاء { من العذاب } من النار { ان يعمر } فاعل مزحزحه اى تعميره { واللّه بصير بما يعملون } البصير فى كلام العرب العالم بكنه الشىء الخبير به اى عليم بخفيات اعمالهم من الكفر والمعاصى لا يخفى عليه فهو مجازيهم بها لا محالة بالخزى والذل فى الدنيا والعقوبة فى العقبى وهذه الحياة العاجلة تنقضى سريعة وان عاش المرء الف سنة او ازيد عليها فمن احب طول العمر للصلاح فقد فاز قال عليه السلام ( طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ) ومن احبه للفساد فقد ضل ولا ينجو مما يخاف فان الموت يجيئ البتة واجتمعت الامة على ان الموت ليس له سن معلوم ولا اجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك وكان مستعدا لذلك بعض الصالحين ينادى بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفى فقد صوته امير تلك المدينة فسأل عنه فقيل انه مات فقال لهج بالرحيل وذكره ... حتى اناخ ببابه الجمال فأصابه متيقظا متشمرا ... ذا اهبة لم تلهه الآمال بانك طبلت نمى كند بيدار ... تومكر مرده نه درخوابى توجراغى نهاده درردباد ... خانه در مر سيلابى فاصابة الموت حق وان كان العيش طويلا والعمر مديدا وهو ينزل بكل نفس راضية كانت او كارهة روى شارح الخطب عن وهب بن منبه انه قال مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع يا دانيال قف تر عجبا فلم ير شيأ ثم نودى الثانية قال فوقفت فاذا بيت يدعونى الى نفسه فدخلت فاذا سرير مرصع بالدر والياقوت فاذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجبا فارتقيت السرير فاذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فاذا عليه شاب ميت كأنه نائم واذا عليه من الحلى والحلل ما لا يوصف وفى يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف اشد خضرة من البقل فاذا النداء من السرير ان احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال فاذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عام بن ارم وانى عشت الف عام وسبعمائة سنة وافتضضت اثنى عشر الف جارية وبنيت اربعين الف مدينة وخرجت بالجور والعنف والحمق عن حد الانصاف وكان يحمل مفاتح الخزائن اربعمائة بغل وكان يحمل الى خراج الدنيا فلم ينازعنى احد من اهل الدنيا فادعيت الربوبية فاصابنى الجوع حتى طلبت كفا من ذرة بالف قفيز من در فلم اقدر عليه فمت جوعا يا اهل الدنيا اذكروا امواتكم ذكرا كثيرا واعتبروا بى ولا تغرنكم الدنيا كما غرتنى فان اهلى لم يحملوا من وزرى شيأ انتهى : قال السعدى جون همه نيك و بد ببايد مرد ... خنك آنكس كه كوى نيكى برد برك عيشى بكور خويش فرست ... كس نيارد زبس زبيش فرست عمر برفست آفتاب تموز ... اند كى ماند وخواجه غره هنوز فعلى اهل القلوب القاسية ان يعالجوا قلوبهم بامور احدها الاقلاع عما هى عليه بحضور مجالس العلم والوعظ والتذكير والتخفيف والترغيب واخبار الصالحين فان ذلك مما يلين القلوب وينجح فيها والثانى ذكر الموت فيكثر من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات والثالث مشاهدة المحتضرين فان فى النظر الى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الاجفان من النوم والراحة من الابدان ويبعث على العمل فيزيد فى الاجتهاد والتعب ويستعد للموت قبل النزول فانه اشد الشدائد قيل لكعب الاحبار يا كعب حدثنا عن الموت قال هو كشجرة الشوك ادخلت فى جوف ابن آدم فاخذت كل شوكة بعرق ثم اجتذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع وابقى ما ابقى وفى الحديث ( لو ان شعرة من وجع الميت وضعت على اهل السموات والارضين لماتوا اجمعين وان فى يوم القيامة لسبعين هولا وان ادنى هول ليضعف على الموت سبعين ضعفا ) ٩٧ { قل من كان عدوا لجبريل } لما قدم النبى صلى اللّه عليه وسلم المدينة اتاه عبد اللّه بن صوريا من اليهود بسكن فدك فقال يا محمد كيف نومك فانا اخبرنا عن نوم النبى الذى يجىء فى آخر الزمان فقال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( تنام عيناى وقلبى يقظان ) قال صدقت فاخبرنى عن الولد أمن الرجل يكون أو من المرأة قال ( اما العظم والعصب والعروق فمن الرجل واما الدم واللحم والظفر والشعر فمن المرأة ) قال صدقت يا محمد قال فما بال الولد يشبه اعمامه ليس فيه من شبه اخواله شىء او يشبه اخواله ليس فيه من شبه اعمامه شىء قال ( ايهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له ) قال صدقت يا محمد وسأله عن الطعام الذى حرم اسرائيل على نفسه قال ( ان يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر ان شفاه اللّه حرم على نفسه احب الطعام اليه وهو لحم الابل واحب الشراب اليه وهو ألبانها ) قال صدقت يا محمد وسأله عن اول نزل الجنة قال ( الحوت ) قال صدقت يا محمد ثم قال بقيت خصلة ان قلتها آمنت بك واتبعتك اى ملك يأتيك بما تقول من اللّه تعالى فقال ( جبريل ) قال ذاك عدونا لانه ملك العذاب ينزل بالقتال والعذاب وكسر السفن والشدائد ورسولنا ميكائيل لانه ملك الرحمة ينزل بالغيث والبشر والرخاء فقال له عمر ما بدء عداوتكم له فقال عادانا مرارا كثيرة وكان من اشد عداوته لنا ان اللّه تعالى انزل على نبينا موسى عليه السلام ان البيت المقدس سيخرب فى زمان رجل يقال له بخت نصر واخبرنا بالحين الذى يخرب فيه فلما كان الحين الذى يخرب فيه بعثنا رجلا من اقوياء بنى اسرائيل فى طلبه فانطلق حتى لقيه غلاما مسكينا ببابل ليست له قوة فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال لصاحبنا ان هو امره بهلاككم لا يسلطكم عليه وان لم يكن هذا فعلى اى حق تقتلونه فصدقه صاحبنا فتركه وكبر بخت نصر وقوى فملك ثم غزانا فخرب بيت المقدس وقتلنا وامر جبريل بوضع النبوة فينا فوضعها فى غيرنا فلهذا اتخذناه عدوا وميكائيل عدو جبريل فقال عمر رضى اللّه عنه لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم اكفر من الحمير ومن كان عدوا لاحدهما كان عدوا للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا للّه تعالى وجواب من محذوف اى من عادى جبريل من اهل الكتاب فلا وجه لمعاداته بل يجب عليه محبته { فانه } يعنى جبريل { نزله } اى القرآن اضمره لكمال شهرته { على قلبك } زيادة تقرير للتنزيل ببيان محل الوحى فانه القابل الاول له ومدار الفهم والحفظ اى حفظه اياك ففهمكه وحق الكلام ان يقال على قلبى لكنه جاء على حكاية كلام اللّه كما تكلم به لما فى النقل بالعبارة من زيادة تقرير لمضمون المقالة يعنى قل كما تكلمت به من قولى انه نزله على قلبك { باذن اللّه } بامره وتيسيره { مصدقا لما بين يديه } اى موافقا لما قبله من الكتب الآلهية فى التوحيد وبعض الشرائع حال من مفعول نزله { وهدى } اى هاديا الى دين الحق { وبشرى } اى مبشر بالجنة { للمؤمنين } فلا وجه لمعاداته فلو انصفوا لاحبوه وشكروا له صنيعه فى انزاله ما ينفعهم ويصح المنزل عليهم ثم عمم الشرط والجزاء ردا عليهم بقوله ٩٨ { من كان عدوا للّه } اى مخالفا لامره عنادا وخارجا عن طاعته مكابرة { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } افردهما بالذكر لاظهار فضلهما كأنهما من جنس آخر اشرف مما ذكر تنزيلا للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى الجنس قال عكرمة جبروميك واسراف هى العبد بالسريانية وايل وآئيل هو اللّه ومعناها عبداللّه او عبد الرحمن { فان اللّه } جواب الشرط ولم يقل فانه لاحتمال ان يعود الى جبريل وميكائيل { عدو للكافرين } اى لهم جاء بالظاهر ليدل على ان اللّه انما عاداهم لكفرهم والمعنى من عاداهم عاداه اللّه وعاقبه اشد العقاب فقال ابن صوريا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما جئتنا بشىء نعرفه وما انزل عليك من آية فنتبعك لها فانزل اللّه ٩٩ { ولقد انزلنا اليك آيات بينات } واضحات الدلالة على معانيها وعلى كونها من عند اللّه { وما يكفر بها } اى بالآيات التى توضح الحلال والحرام وتفصل الحدود والاحكام { الا الفاسقون } المتمردون فى الكفر الخارجون عن حدوده فان من ليس على تلك الصفة لا يجترئ على الكفر بمثل هاتيك البينات والاحسن ان يكون اللام اشارة الى اهل الكتاب قال الحسن اذا استعمل الفسق فى نوع من المعاصى وقع على عظم ذلك النوع من كفر او غيره واعلم ان القرآن هو النور الآلهي الذى كشف اللّه به الظلمات واليهود ارادوا ان يطفئوا نور اللّه واللّه متم نوره وليس لهم فى ذلك الا الفضاحة والخزى كما اذا دخل الحمام ناس فى ليل مظلم وفيهم الاصحاء واهل العيوب فجاء واحد بسراج مضىء لا يسارع الى اطفائه الا اهل العيوب مخافة ان يظهر عيوبهم للاصحاء ويلحق بهم مذمة شمع رخشنده دران جمع نخواهندكه تا ... عيب شان درشب تاريك بماند مستور واى آن وقت روشن شوداين رازجوروز ... برده برخيزد واين حال بيايد بظهور ١٠٠ { او } الهمزة للانكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام اى أكفروا بآيات البينات وهى فى غاية الوضوح { كلما عاهدوا عهدا } مصدر مؤكد لعاهدوا من غير لفظه { نبذه فريق منهم } اى رموا بالذمام اى العهد ورفضوه والفريق الطائفة ويكون للقليل والكثير واسناد النبذ الى فريق منهم لان منهم من لم ينبذه { بل اكثرهم لا يؤمنون } بالتوارة وليسوا من الدين فى شىء فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا ولا يبالون به وهذا رد لما يتوهم من ان النابذين هم الاقلون ١٠١ { ولما جاءهم رسول } هو النبى صلى اللّه عليه وسلم { من عند اللّه } متعلق بجاء { مصدق لما معهم } من التوراة { نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب } اى التوراة { كتاب اللّه } مفعول نبذ اى الذى اوتوه وهو التوراة لانهم لما كفروا بالرسول المصدق لما معهم فقد نبذوا التوراة التى فيها ان محمدا رسول اللّه وقد علموا انها من اللّه { وراء ظهورهم } يعنى رموا بالعناد كتاب اللّه وراء ظهورهم ولم يعملوا به مثل لتركهم واعراضهم عنه بالكلية بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات اليه { كأنهم لا يعلمون } جملة حالية اى نبذوه وراء ظهورهم متشبهين بمن لا يعلمه انه كتاب اللّه قيل اصل اليهود اربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمنى اهل الكتاب وهم الاقلون المشار اليهم بقوله عز وجل { بل اكثرهم لا يؤمنون } وفرقة جاهروا بنبذ العهود تمردا وفسوقا وهم المعنيون بقوله سبحانه { نبذه فريق منهم } وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الاكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية وهم المتجاهلون وفيه اشارة الى ان من فعل فعل الجاهل وتعمد الخلاف مع علمه يلتحق بالجهال وهو والجاهل سواء فكمال ان الجاهل لا يجيئ منه خير فكذا العالم الذى لا يعمل ولذا قال النبى عليه الصلاة والسلام ( واعظ اللسان ضائع كلامه وواعظ القلب نافذ سهامه ) فالاول هو العالم الغير العامل والثانى هو العالم العامل الذى يؤثر كلامه فى القلوب وتنتج كلمته ثمرات الحكمة والعبرة والفكرة * فعلى العاقل ان يسارع الامتثال خوفا من بطش يد ذى الجلال ويقال الندامة اربع ندامة يوم وهى ان يخرج الرجل من منزله قبل ان يتغدى وندامة سنة وهى ترك الزراعة فى وقتها وندامة عمر وهو ان يتزوج امرأة غير موافقة وندامة الابد وهو ان يترك امر اللّه ومجرد قراءة الكتاب بترياق الظاهر لا يدفع سم الباطن فلا بد من العمل كما ان من كان ينظر الى كتب الطب وكان مريضا فما دام لم يباشر العلاج لا يفيد نظره بالادوية وكان خلقه صلى اللّه تعالى عليه وسلم القرآن يعنى يعمل باوامره وينتهى عن نواهيه واعلم ان العمل بالعلوم الظاهرة لا يمكن الا بعد معرفة المراتب الاربع مثلا يعرف بالعلم الظاهر ان حكم الزنى الرجم والجلد ولكن فى الوجود الانسانى محل يقتضى الوقاع والسفاح فاهل الارشاد يقمعون المقتضى المذكور عن ذلك المحل وكذا الحال فى الاكل والشرب وغيرهما والمرء وان كان متبحرا فى العلوم ومتفننا فى القوانين والرسوم فان كان لم يصلح حاله بالعمل فى تزكية النفس وتصفية القلب فانه لا يعتبر بل جهله اغلب ونعم ما قيل حفظت شيأ وغابت عنك اشياء حكى ان نصير الدين الطوسى دخل على ولى من اولياء اللّه تعالى لاجل الزيارة فقيل له هذا عالم الدنيا نصير الدين الطوسى قال الولى ما كماله قيل ليس له عديل فى علم النجوم قال الولى الحمار الابيض اعلم منه فانحرف الطوسى وقام من مجلسه فاتفق انه نزل تلك الليلة على باب بيت طاحونة فقال الطحان ادخل البيت فانه سيكون الليلة مطر عظيم حتى لو لم يغلق الباب لاخذه السيل فسأل الطحان عن وجهه فقال لى حمار ابيض اذا حرك ذنبه الى جانب السماء ثلاثا لم تمطر السماء واذا حركه الى جانب الارض يقع المطر فلما سمعه اعترف بعجزه وصدق الولى وزال غيظه وحكى ان وليا قال لابن سينا افنيت عمرك فى العلوم العقلية فالى اى مرتبة وصلت قال وجدت ساعة من ساعات الايام يكون الحديد فيها كالخمير فقال الولى اخبرنى عن تلك الساعة فلما جاءت الساعة اخبره واخذ بيده حديدا فنفذ فيه اصبعه فبعد مضى الساعة قال الولى هل تقدر على تنفيذ اصبعك ايضا قال لا فانه من خصائص تلك الساعة ولا يمكن فاخذه الولى ونفذ اصبعه فيه وقال ينبغى للعاقل ان لا يصرف عمره الى الزائل الفانى فكما ان ابن سينا ادعى استقلال العقل فى طريق الوصول فالقى فى جهنم كذلك اليهود خذلهم اللّه انفوا من اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم والعمل بما جاء به من عند اللّه وادعوا الاستقلال فخابوا وخسروا بوقا فى ظلمة الجهل والكفر : قال فى المثنوى اى كه اندر جشمه شوراست جات ... توجه دانى شط وجيحون وفرات واى آن زنده كه بارمرده نشست ... مرده كشت وزنده كى ازوى بجست ١٠٢ { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } اى نبذ اليهود كتاب اللّه وراء ظهورهم واتبعوا كتب السحرة التى تقرأها وتعمل بها الشياطين وهم المتمردون من الجن وتتلو حكاية حال ماضية والمراد بالاتباع التوغل والتمحض فيه والاقبال عليه بالكلية { على ملك سليمان } اى على عهد مكله وفى زمانه فحذف المضاف وعلى بمعنى فى قال السدى كانت الشياطين تصعد الى السماء فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون فى الارض من موت وغيره ويأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا فى كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فاكتتب الناس ذلك وفشا فى بنى اسرائيل ان الجن تعلم الغيب وبعث سليمان فى الناس وجمع تلك الكتب وجعلها فى صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال لا اسمع احدا يقول ان الشيطان يعلم الغيب الا ضربت عنقه فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون امر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة انسان فاتى نفرا من بنى اسرائيل فقال هل ادلكم على كنز لا تأكلونه ابدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسى وذهب معهم فاراهم المكان وقام ناحية فقالوا ادن قال لا ولكنى ههنا فان لم تجدوه فاقتلونى وذلك انه لم يكن احد من الشياطين يدنو من الكرسى الا احترق فحفروا واخرجوا تلك الكتب قال الشيطان ان سليمان كان يضبط الجن والانس والشياطين والطير بهذه ثم طار الشيطان وفشا فى الناس ان سليمان كان ساحرا واخذ بنوا اسرائيل تلك الكتب فلذلك اكثر ما يوجد السحر فى اليهود فلما جاء محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم برأ اللّه سليمان عليه السلام من ذلك وانزل فى عذر سليمان واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان { وما كفر سليمان } بالسحر وعلمه يعنى لم يكن ساحرا لان الساحر كافر والتعرض لكونه كفرا للمبالغة فى اظهار نزاهته عليه السلام وكذبه باهتيه بذلك { ولكن الشياطين كفروا } باستعمال السحر وتعليمه وتدوينه { يعلمون الناس السحر } اى كفروا والحال انهم يعلمونه اغواء واضلالا روى ان السحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة افهامهم { وما } اى ويعلمون الناس اذى { انزل على الملكين } اى ما الهما وعلما وهو علم السحر انزلا لتعليم السحر ابتلاء من اللّه للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا ومن تجنبه او تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمنا كما قيل عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه وهذا كما اذا اتى عرافا فسأله عن شىء ليمتحن حاله ويختبر باطن امره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز قال الامام فخر الدين كان الحكمة فى انزالهما ان السحرة كانوا يسترقون السمع من الشياطين ويلقون ما سمعوا بين الخلق وكان بسبب ذلك يشتبه الوحى النازل على الانبياء فانزلهما اللّه الى الارض ليعلما الناس كيفية السحر ليظهر بذلك الفرق بين كلام اللّه وكلام السحرة { ببابل } الباء بمعنى فى وهى متعلقة بانزل او بمحذوف وقع حالا من الملكين وهى بابل العراق او بابل ارض الكوفة ومنع الصرف للعجمة والعلمية واحسن ما قيل فى تسميتها ببابل ان نوحا عليه السلام لما هبط الى اسفل الجودى بنى قرية وسماها ثمانين فاصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة احديها اللسان العربى وكان لا يفهم بعضهم من بعض كذا فى تفسير القرطبى { هاروت وماروت } كف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفها للعجمة والعلمية وما روى فى قصتهما من انهما شربا الخمر وسفكا الدم وزنيا وقتلا وسجدا للصنم فمما لا تعويل عليه لان مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لادلة العقل والنقل ولعله من مقولة الامثال والرموز التى قصد بها ارشاد اللبيب الاريب وبالترغيب وذلك لان المراد بالملكين العقل النظرى والعقل العملى والمرأة المسماة بالزهرة هي النفس الناطقة الطاهرة فى اصل نشأتها وتعرضهما لها تعليمهما لها ما تسعد به فى النشأة الآخرة وحملها اياهما على المعاصى تحريضها اياهما بحكم الطبيعة المزاجية الى السفليات المدنسة لجوهرهما وصعودها الى السماء بما تعلمت منهما هو عروجها الى الملأ الاعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصافها ونصحها كذا ذكره وجوه القوم من المفسرين يقول الفقير جامع هذه المجالس الشريفة قد تصفحت كتب ارباب الخبر والبيان واصحاب الشهود والعيان فوجدت عامتها مشحونة بذكر ما جرى من قصتهما وكيف يجوز الاتفاق من الجم الغفير على ما مداره رواية اليهود خصوصا فى مثل هذا الامر الهائل فاقول وصف الملائكة بانهم لا يعصون ولا يستكبرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ويفعلون ما يؤمرون دليل تصور العصيان منهم ولولا ذلك لما مدحوا به اذ لا يمدح احد على الممتنع لكن طاعتهم طبع وعصيانهم تكلف على عكس حال البشر كما فى التيسير فهذا يقتضى جواز الوقوع مع ان فيما روى فى سبب نزولهما ما يزيل الاشكال قطعا وهو انهم لما عيروا بنى آدم بقلة الاعمال وكثرة الذنوب فى زمن ادريس عليه السلام قال اللّه تعالى لو انزلتكم الى الارض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لفعلتم مثل ما فعلوا فقالوا سبحانك ربنا ما كان ينبغى لنا ان نعصيك قال اللّه تعالى فاختاروا ملكين من خياركم اهبطهما الى الارض فاختاروا هاروت وماروت وكانا من اصلح الملائكة واعبدهم فاهبطا بالتركيب البشرى ففعلا ما فعلا وهذا ليس ببعيد اذ ليس مجرد هبوط الملك مما يقتضى العصيان وذلك ظاهر والا لظهر من جبريل وغيره ألا ترى ان ابليس له الشهوة والذرية مع انه كان من الملائكة على احد القولين لانها مما حدثت بعد ان محى من ديوانهم فيجوز ان تحدث الشهوة فى هاروت وماروت بعد ان اهبطا الارض لاستلزام التركيب البشرى ذلك وقد قال فى آكام المرجان ان اللّه تعالى باين بين الملائكة والجن والانس في الصورة والاشكال فان قلب اللّه الملك الى صورة الانسان ظاهرا وباطنا خرج عن كونه ملكا وكذلك لو قلب الشيطان الى بنية الانسان خرج بذلك عن كونه شيطانا روى انه لما استشفع لهما ادريس عليه السلام خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا لكونه ايسر من عذاب الآخرة فهما فى بئر بابل معلقان فيه بشعورهما الى يوم القيامة قال مجاهد ملئ الجب نارا فجعلا فيه وقيل معلقان بارجلهما ليس بين ألسنتهما وبين المار الا اربع اصابع فهما يعذبان بالعطش قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره رائحة الشمع الذى يعمل من الشحم كريهة تتألم منها الملائكة حتى يقال ان هاروت وماروت يعذبان برائحته واما الشمع العسلى فرائحته طيبة كذا فى واقعات الهدائى قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( اتقوا الدنيا فوالذي نفسى بيده انها لاسحر من هاروت وماروت ) قال العلماء انما كانت الدنيا اسحر منهما لانها تدعوك الى التحارص عليها والتنافس فيها والجمع لها والمنع حتى تفرق بينك وبين طاعة اللّه وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها وتمنيك بامانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( حبك الشئ يعمى ويصم ) اراد النبى عليه الصلاة والسلام ان من الحب ما يعمى عن طريق الحق والرشد ويصمك عن استماع الحق وان الرجل اذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل او دين اصمه حبه عن العذل واعماه عن الرشد او يعمى العين عن النظر الى مساويه ويصم الاذن عن استماع العذل فيه او يعمى ويصم عن الآخرة وفائدته النهى عن حب ما لا ينبغى الاغراق فى حبه : قال خسرو الدهلوى بهراين مردار جندت ... كاه زارى كاه زور جون غليواجى كه شش مه ... مادة وشش مه نراست ثم فى هذه القصة اشارة الى انه لا يجوز الاعتماد الا على فضل اللّه ورحمته فان العصمة من آثار حفظ اللّه تعالى كمال : قال فى المثنوى همجو هاروت وجو ماروت شهير ... ازبطر خوردند زهر آلوده تير اعتمادى بودشان برقدس خويش ... جيست بر شير اعتماد كاوميش كرجه او باشاخ صد جاره كند ... شاخ شاخش شير نرباره كند كرشود بر شاخ همجون خاربشت ... شير خواهد كاورا ناجار كشت { وما يعلمان من احد } من مزيدة فى المفعول به لافادة تأكيد الاستغراق الذى يفيده احد والمعنى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس ما انزل على الملكين ويحملونهم على العمل به أغواء واضلالا والحال ان الملكين ما يعلمان ما انزل عليهما من السحر احدا من طالبيه { حتى } ينصحاه اولا وينهياه عن العمل به والكفر بسببه و { يقولا انما نحن فتنة } وابتلاء من اللّه تعالى فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ومن توقى عن العمل به او اتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقى على الايمان والفتنة الاختبار والامتحان يقال فتنت الذهب بالنار اذا جربته بها لتعلم انه خالص او مشوب وهى من الافعال التى تكون من اللّه ومن العبد كالبلية والمعصية والقتل والعذاب وغير ذلك من الافعال الكريهة وقد تكون الفتنة فى الدين مثل الارتداد والمعاصى واكراه الغير على المعاصى وافردت الفتنة مع تعدد الملكين لكونها مصدرا وحملها عليهما مواطأة للمبالغة كأنهما نفس الفتنة والقصر لبيان انه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه { فلا تكفر } باعتقاد حقيته بمعنى انه ليس بباطل شرعا وجواز العمل به ويقولان ذلك سبع مرات فان ابى الا التعليم علماه { فيتعلمون } عطف على الجملة المنفية فانها فى قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولهما انما نحن الخ والضمير لاحد حملا على المعنى اى فالناس يتعلمون { منهما } اى من الملكين { ما يفرقون به } اى بسببه واستعماله { بين المرء وزوجه } بان يحدث اللّه تعالى بينهما التباغض والفرك والنشوز عند ما فعلوا من السحر على حسب جرى العادة الآلهية من خلق المسببات عقيب حصول الاسباب العادية ابتلاء لا ان السحر هو المؤثر فى ذلك قال السدى كانا يقولان لمن جاءهما انما نحن فتنة فلا تكفر فان ابى ان يرجع قالا له ائت هذا الرماد فبل فيه فاذا بال فيه خرج ثور يسطع الى السماء وهو الايمان والمعرفة وينزل شىء اسود شبه الدخان فيدخل فى اذنيه ومسامعه وهو الكفر وغضب اللّه فاذا اخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرق به بين المرء وزوجه ويقدر الساحر على اكثر مما اخبر اللّه عنه من التفريق لان ذلك خرج على الاغلب قيل يؤخذ الرجل على المرأة بالسحر حتى لا يقدر على الجماع قال فى نصاب الاحتساب ان الرجل اذا لم يقدر على مجامعة اهله واطاق ما سواها فان المبتلى بذلك يأخذ حزمة قصبات ويطلب فأسا ذا فقارين ويضعه فى وسط تلك الحزمة ثم يؤجج نارا فى تلك الحزمة حتى اذا احمى الفأس استخرجه من النار وبال على حده يبرأ باذن اللّه تعالى { وما هم } اى ليس الساحرون { بضارين به } اى بما تعلموه واستعملوه من السحر { من احد } اى احدا { الا باذن اللّه } الاستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير ضارين او من مفعوله وان كان نكرة لاعتمادها على النفى او الضمير المجرور فى به اى ما يضرون به احدا الا مقرونا بعلم اللّه وارادته وقضائه لا بامره لانه لا يأمر بالكفر والاضرار والفحشاء ويقضى على الخلق بها فالساحر يسحر واللّه يكوّن فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلا من افعاله ابتلاء وقد لا يحدثه وكل ذلك بارادته ولا ينكر ان السحر له تأثير فى القلوب بالحب والبغض وبالقاء الشرور حتى يحول بين المرء وقلبه وذلك بادخال الآلام وعظيم الاسقام وكل ذلك مدرك بالحس والمشاهدة وانكاره معاندة وان اردت التفصيل وحقيقة الحال فاستمع لما نتلو عليك من المقال وهو ان السحر اظهار امر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة اعمال مخصوصة يجرى فيه التعلم والتعليم وبهذين الاعتبارين يفارق المعجزة والكرامة واختلف العلماء فى حقيقة السحر بمعنى ثبوته فى الخارج فذهب الجمهور الى ثبوته فيه وقالت المعتزلة لا ثبوت له ولا وجود له فى الخارج بل هو تمويه وتخييل ومجرد اراءة مالا حقيقة له يرى الحبال حيات بمنزلة الشعوذة التى سببها خفة حركات اليد او اخفاء وجه الحيلة وتمسكوا بقوله تعالى { يخيل اليه من سحرهم انها تسعى } ولنا وجهان الاول يدل على الجواز والثانى يدل على الوقوع اما الاول فهو امكان الامر فى نفسه وشمول قدرة اللّه فانه الخالق وانما الساحر فاعل وكاسب واما الثانى فهو قوله تعالى { ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من احد الا باذن اللّه } وفيه اشعار بانه ثابت حقيقة ليس مجرد اراءة وتمويه وبان المؤثر والخالق هو اللّه تعالى وحده واما الشعوذة وما يجرى مجراها من اظهار الامور العجيبة بواسطة ترتيب آلات الهندسة وخفة اليد والاستعانة بخواص الادوية والاحجار فاطلاق السحر عليها مجاز او لما فيها من الدقة لانه فى الاصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفى سببه ولذا يقال سحر حلال واكثر من يتعاطى السحر من الانس النساء وخاصة فى حال حيضهم والارواح الخبيثة ترى غالبا للطبائع المغلوبة والنفوس الرذيلة وان لم يكن لهم رياضة كالنساء والصبيان والمخنثين والانسان اذا فسد نفسه او مزاجه يشتهى ما يضره ويتلذذ به بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان خبيث فاذا تقرب صاحب العزائم والاقسام وكتب الروحانيات السحرية وامثال ذلك اليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض اغراضهم كمن يعطى رجلا مالا ليقتل من يريد قتله او يعينه على فاحشة او ينال منه فاحشة ولذلك يكتب السحرة والمعزمون فى كثير من الامور كلام اللّه تعالى بالنجاسة والدماء ويتقربون بالقرابين من حيوان ناطق وغير ناطق والبخور وترك الصلاة والصوم واباحات الدماء ونكاح ذوات المحارم والقاء المصحف فى القاذورات وغير ذلك مما ليس للّه فيه رضى فاذا قالوا كفرا او كتبوه او فعلوه اعانتهم الشياطين لاغراضهم او بعضها اما بتغوير ماء واما بان يحمل فى الهواء الى بعض الامكنة واما ان يأتيه بمال من اموال الناس كما يسرقه الشياطين من اموال الخائنين ومن لم يذكر اسم اللّه عليه ويأتى به واما غير ذلك من قتل اعدائهم او امراضهم او جلب من يهوونه وكثيرا ما يتصور الشيطان بصورة الساحر ويقف بعرفات ليظن من يحسن به الظن انه وقف بعرفات وقد زين لهم الشيطان ان هذا كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فان اللّه تعالى لا يعبد الا بما هو واجب او مستحب وما فعلوه ليس بواجب ولا مستحب شرعا بل هو منهى حرام ونعوذ باللّه من اعتقاد ما هو حرام عبادة ولاهل الضلال الذين لهم عبادة على غير الوجه الشرعى مكاشفات احيانا وتأثيرات يأوون كثيرا الى مواضع الشياطين التى نهى عن الصلاة فيها كالحمام والمزبلة واعطان الابل وغير ذلك مما هو من مواضع النجاسات لان الشياطين تنزل عليهم فيها وتخاطبهم ببعض الامور كما يخاطبون الكفار وكما كانت تدخل فى الاصنام وتكلم عابدى الاصنام قال العلماء ان كان فى السحر ما يخل شرطا من شرائط الايمان من قول وفعل كان كفرا والا لم يكن كفرا وعامة ما بايدى الناس من العزائم والطلاسم والرقى التى لا تفهم بالعربية فيها ما هو شرك وتعظيم للجن ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التى لا يفهم بالعربية معناها لانها مظنة الشرك وان لم يعرف الراقى انها شرك وفى الصحيح عن النبى عليه السلام انه رخص فى الرقى ما لم تكن شركا وقال ( من استطاع ان ينفع اخاه فليفعل ) ولذا نقول انه يجوز ان يكتب للمصاب وغيره من المرضى شئ من كتاب اللّه وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى او يعلق عليه وفى اسماء اللّه تعالى وذكره خاصية قمع الشياطين واذلالهم ولأنفاس اهل الحق تأثيرات عجيبة لانهم تركوا الشهوات ولزموا العبادات على الوجه الشرعى وظهر لهم حكم قوله تعالى { وسخر لكم ما فى السموات وما فى الارض } ولذا يطيعهم الجن والشياطين ويستعبدونهم كما استعبدها سليمان عليه السلام بتسخير اللّه تعالى واقداره حكى حضرة الهدائى قدس سره فى واقعاته عن شيخه حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى انه ارسل ورقة الى سلطان الجن لاجل مصروع فامتثل امره وعظمه وضرب عنق الصارع فخلص المصروع : قال فى المنثوى هر بيمبر فرد آمد درجهان ... فرد بود وصد جهانش درنهان عالم كبرى بقدرت سحره كرد ... كرد خودرا دركهين نقشى نورد ابلهانش فرد ديدند وضعيف ... كى ضعيفست آنكه باشد شد حريف واعلم ان حكم الساحر القتل ذكرا كان او انثى اذا كان سعيه بالافساد والاهلاك فى الارض واذا كان سعيه بالكفر فيقتل الذكر دون الانثى فتضرب وتحبس لان الساحرة كافرة والكافرة ليست من اهل الحرب فاذا كان الكفر الاصلى يدفع عنها القتل فكيف الكفر العارضى والساحر ان تاب قبل ان يؤخذ تقبل توتبه وان اخذ ثم تاب لا تقبل كما فى الاشباه كل كافر تاب فتوبته مقبولة فى الدنيا والآخرة الا الكافر بسب نبى وبسب الشيخين او احدهما وبالسحر ولو امرأة وبالزندقة اذا اخذ قبل توبته والزنديق هو الذى قال بقدم الدهر واسناد الحوادث اليه مع اعتراف النبوة واظهار الشرع هذا واكثر المنقول الى هنا من كتاب آكام المرجان وهو الذى ينبغى ان يكتب على الاحداق لا على القراطيس والاوراق { ويتعلمون ما يضرهم } لانهم يقصدون به العمل او لان العلم يجر الى العمل غالبا { ولا ينفعهم } صرح بذلك ايذانا بانه ليس من الامور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شر بحت وضرر محض لانهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار باكاذيب من يدعى النبوة مثلا من السحرة او تخليص الناس منه حتى يكون فيه نفع فى الجملة وفيه ان الاجتناب عما لا يؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التى لا يؤمن ان تجر الى الغواية وان قال من قال عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وذكر فى التجنيس ان تعلم النجوم حرام الا ما يحتاج اليه للقبلة وفيء الزوال ومن احاديث المصابيح ( من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر ) واذا لم يكن فى تعلم مثل هذه العلوم خير فكذا امساك الكتب التى اشتملت عليها من كتب الفلاسفة وغيرها بل لا يجوز النظر اليها كما فى نصاب الاحتساب { ولقد علموا } اى هؤلاء اليهود فى التوراة { لمن اشتراه } اى من اختار السحر واستبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب اللّه واللام الاولى جواب قسم محذوف والثانية لام ابتداء { ما له فى الآخرة من خلاق } اى نصيب { ولبئس ما شروا به انفسهم } اى باعوها لان الشراء من الاضداد واللام جواب قسم محذوف والمخصوص بالذم محذوف اى واللّه لبئس ما باعوا به انفسهم السحر او الكفر وعبر عن ايمانهم بانفسهم لان النفس خلقت للعلم والعمل والايمان { لو كانوا يعلمون } جواب لو محذوف اى لما فعلوا ما فعلوا من تعلم السحر وعمله اثبت لهم العلم اولا بقوله ولقد علموا ثم نفى عنهم لانهم لما لم يعملوا بعلمهم فكأنهم لم يعلموا فهذا فى الحقيقة نفى الانتفاع بالعلم لا نفى العلم ١٠٣ { ولو انهم } اى اليهود { آمنوا } بالقرآن والنبى { واتقوا } السحر والشرك { لمثوبة } مفعلة من الثواب وثاب يثوب اى رجع وسمى الجزاء ثوابا لانه عوض عمل المحسن يرجع اليه وهو مبتدأ جواب لو والتنكير للتقليل اى شئ قليل من الثواب كائن { من عند اللّه خير } خبر المبتدأ واصله لأثيبوا مثوبة من عند اللّه خير مما شروا به انفسهم فحذف الفعل وغير السبك الى ما عليه النظم الكريم دلالة على اثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه اجلالا للمفضل من ان ينسب اليه { لو كانوا يعلمون } ان ثواب اللّه خير ومجرد العلم باللسان لا ينفع بدون ان يصل التأثير الى القلب ويظهر ذلك التأثير بالمسارعة الى الاعمال الصالحة والاتباع للكتاب والسنة فمن امر السنة على نفسه اخذا وتركا حبا وبغضا نطق بالحكمة ومن امر الهوى على نفسه نطق بالبدعة قال الشيخ ابو الحسن كل علم يسبق لك فيه الخواطر وتتبعها الصور وتميل اليه النفوس وتلذ به الطبيعة فارم به وان كان حقا وخذ بعلم اللّه الذى انزله على رسوله واقتد به وبالخلفاء والصحابة والتابعين من بعده والائمة المبرئين من الهوى ومتابعته تسلم من الظنون والشكوك والاوهام والدعاوى الكاذبة المضلة عن الهدى وحقائقه وماذا عليك ان تكون عبد اللّه ولا علم ولا عمل بلا اقتداء وحسبك من العلم العلم بالوحدانية ومن العمل محبة اللّه ومحبة رسوله ومحبة الصحابة واعتقاد الحق للجماعة قال بعض العلماء زيادة العلم فى الرجل السوء كزيادة الماء فى اصول الحنظل كلما ازداد ريا ازداد مرارة ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا وتحصيل الرفعة فيها كمثل من رفع العذرة بملعقة من الياقوت فما اشرف الوسيلة وما اخس المتوسل اليه والذى يحمل العبد على تعليم ما لا يليق به وذكر ما يجب صونه انما هو ايثار الدنيا على الآخرة لكن اللّه تعالى يقول { وما عند اللّه خير وابقى } فان اردت ان تعرف قدرك عند اللّه فانظر فيماذا يقيمك وذلك لان الاعمال علامات والاحوال كرامات والكرامات دليل والعلوم وسائل وقد جاء ( من سره ان يعرف منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه فى قلبه فان اللّه ينزل العبد عنده حيث انزله العبد من نفسه ) والانسان نسخة آلهية قابلة للواردات الآلهية فالنصف الاسفل منه بمنزلة الملك والنصف الاعلى بمنزلة الملكوت وبعبارة اخرى الطبيعة والنفس بمنزلة الملك والروح والسر بمنزلة الملكوت فاذا قطع العلائق بالعبادة الحقانية يتصرف فى عالم الملك والملكوت اللذين فى ملك وجوده وهو باب الملك والملكوت اللذين فى الخارج واعلم ان وصلة العلماء على قدر علمهم واستدلالهم ووصلة الكمل على قدر مشاهدتهم وعيانهم لكن لاعلى وجه مشاهدة سائر الاشياء فانه تعالى منزه عن الكيف والاين بل هى عبارة عن ظهور الوجود الحقيقى عند اضمحلال وجود الرائى وفنائه واول ما يتجلى للسالك الافعال ثم الصفات واما تجلى الذات فلا يتيسر الا للآحاد فهو لا يكون الا بمحو الوجود وافنائه لكن ذلك الفناء عين البقاء وعن ابى يزيد البسطامى قدس سره كنت اعلم الاخلاص لبعض الفقراء وهو يعلمنا الفناء : قال السعدى تراكى بود جون جراغ التهاب ... كه ازخود برى همجو قنديل ازآب ١٠٤ { يا ايها الذين آمنوا لا تقولوا } لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ارشاد للمؤمنين الى الخير { راعنا } المراعاة المبالغة فى الرعى وهو حفظ الغير وتدبير اموره وتدارك مصالحه كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذا القى عليهم شيأ من العلم راعنا يا رسول اللّه اى راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك وكانت لليهود كلمة عبرانية او سريانية يتسابون بها فيما بينهم وهى راعنا فلما سمعوا بقول المؤمنين راعنا افترصوه وخاطبو به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها قطعا لألسنة اليهود عن التلبيس وامروا بما هو فى معناها ولا يقبل التلبيس فقيل { وقولوا انظرنا } اى انتظرنا من نظره اذا انتظره { واسمعوا } واحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويلقى عليكم من المسائل باذان واعية واذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا الى الاستعادة وطلب المراعاة { وللكافرين } اى ولليهود الذين تهاونوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسبوه { عذاب اليم } وجيع لما اجترؤا عليه من المسبة العظيمة وفى هذه الآية دليلان احدهما على تجنب الالفاظ المحتملة التى فيها التعريض واما قولهم لا بأس بالمعاريض وهو ان يتكلم لرجل بكلمة يظهر من نفسه شيأ ومراده شىء آخر فانما ارادوا ذلك اذا اضطر الانسان الى الكذب فاما اذا لم يكن حاجة ولا ضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعا قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده بان لا يتعرض لهم بما حرم من دمائهم واعراضهم ) وقدم اللسان فى الذكر لان التعرض به اسرع وقوعا واكثر وخص اليد بالذكر لان معظم الافعال يكون بها : قال فى المثنوى اين زبان جون سنك وهم آهن وشيست ... وانجه بجهد از زبان جون آنشيست سنك وآهن رامزن برهم كزاف ... كه زروى نقل وكه ازروى لاف زانكه تاريكست وهر سوبنبه زار ... درميان ينبه جون باشد شرار علامى رايك سخن ويران كند ... روبهان مرده را شيران كند والثانى التمسك بسد الذرائع وحمايتها والذريعة عبارة عن امر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع فى ممنوع ووجه التمسك بها ان اليهود كانوا يقولون ذلك وهى سب بلغتهم فلما علم اللّه تعالى ذلك منهم منع من اطلاق ذلك اللفظ لانه ذريعة للسب قال تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه فيسبوا اللّه عدوا بغير علم } فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك وقال تعالى { واسئلهم عن القرية التى كانت حاضرة البحر } الآية فحرم اللّه عليهم الصيد فى يوم السبت فكان الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا اى ظاهرة فسدوا عليها يوم السبت واخذوها يوم الاحد وكان السد ذريعة للاصطياد فمسخهم اللّه قردة وخنازير وعن عائشة رضى اللّه عنها ان ام حبيبة وام سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه عليه السلام ( ان اولئك اذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور اولئك شرار الخلق عند اللّه ) قال العلماء ففعل ذلك اوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا احوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا اللّه عند قبورهم فمضت لهم بذلك ازمان ثم انهم خلف من بعدهم خلف جهلوا اغراضهم ووسوس لهم الشيطان ان آباءكم واجدادكم كانوا يعبدون هذه الصور فعبدوها فحذر النبى عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك وسد الذرائع المؤدية الى ذلك فقال عليه السلام ( اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد ) وقال ( اللّهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( لا يبلغ العبد ان يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس ) وقال عليه السلام ( ان من الكبائر شتم الرجل والديه ) قالوا يا رسول اللّه وهل يشتم الرجل والديه قال ( نعم يسب ابا الرجل فيسب اباه ويسب امه فيسب امه ) فجعل التعرض لسب الآباء والامهات كسب الآباء والامهات وقال صلى اللّه عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه ) فمنع عليه السلام من الاقدام على الشبهات مخافة الوقوع فى المحرمات وفى الحديث ( اذا تبايعتم بالعينة واخذتم اذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط اللّه عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا الى دينكم ) والعينة هو ان يبيع رجل من رجل سلعة بثمن معلوم الى اجل مسمى ثم يشتريها منه باقل من الثمن الذى باعها به وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة وذلك ان العينة هو الحال الحاضر والمشترى انما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل اليه من فوره وفى هذا الحديث ذم للزراع اذا كان زراعتهم ذريعة لترك الجهاد قال عليه الصلاة والسلام حين رأى آلة الحراثة فى دار قوم ( ما دخل هذا بيت قوم الا ذلوا ) وذلك لان الزراعة عمارة الدنيا واعراض عن الجهاد فيستحق به الذل وعمارة الدنيا اصل فى حق الكفار عارض فى حق المسلمين فان المسلمين يجعلونها وسيلة الى الآخرة واما الكفار فيعلمون ظاهر من الحياة الدنيا وهم عن آخرتهم غافلون وقد قال عليه السلام ( الدنيا سجن المؤمن ) اى بالنسبة الى ما اعدله من ثواب النعيم ( وجنة الكافر ) اي بالاضافة الى ما هيئ له من عذاب الآخرة والقطعية والهجران ١٠٥ { ما يود الذين كفروا } كان فريق من اليهود يظهرون للمؤمنين محبة ويزعمون انهم يودون لهم الخير فنزل تكذيبا لهم والود حب الشئ مع تمنيه ونفى الود كناية عن الكراهة اى ما يحب الذين كفروا { من اهل الكتاب ولا المشركين } من للتبيين لان الذين كفروا جنس تحته نوعان اهل الكتاب والمشركون فكأنه قيل ما يود الذين كفروا وهم اهل الكتاب والمشركون فبين ان الذين كفروا باق على عمومه وان المراد كلا نوعيه جميعا والمعنى ان الكفار جميعا لم يحبوا { ان ينزل عليكم } اى على نبيكم لان المنزل عليه منزل على امته { من خير } هو قائم مقام فاعله ومن مزيدة لاستغراق الخير والخير الوحى والقرآن والنصرة { من ربكم } من لابتداء الغاية والمعنى انهم يرون انفسهم احق بان يوحى اليهم فيحسدونكم ويكرهون ان ينزل عليكم شئ من الوحى اما اليهود فبناء على انهم اهل الكتاب وابناء الانبياء الناشئون فى مهابط الوحى وانتم اميون واما المشركون فادلالا بما كان لهم من الجاه والمال زعما منهم ان رياسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيوية منوطة بالاسباب الظاهرة ولذا قالوا { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وهم كانوا يتمنون ان تكون النبوة فى احد الرجلين نعيم بن مسعود الثقفى بالطائف والوليد بن المغيرة بمكة ثم اجاب عن قول من يقول لم لم ينزل عليهم بقوله { واللّه يختص برحمته من يشاء } يقال خصه بالشئ واختصه به اذا افرده به دون غيره ومفعول من يشاء محذوف والرحمة النبوة والوحى والحكمة والنصرة والمعنى يفرد برحمته من يشاء افراده بها ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتى الفائض عليه بحسب ارادته عز وجل لا تتعداه الى غيره لا يجب عليه شئ وليس لاحد عليه حق وما وقع فى عبارة مشايخنا فى حق بعض الاشياء انه واجب فى الحكمة يعنون به انه ثابت متحقق لا محالة فى الوجود لا يتصور ان لا يكون لا انه يجب ذلك بإيجاب موجب { واللّه ذو الفضل العظيم } اى على من يختاره بالنبوة والوحى لابتدائه بالاحسان بلا علة وهو حجة لنا على المعتزلة فان المفضل عند الخلق هو الذى يعطى ويبذل ما ليس عليه لان الذى يعطى ما عليه يكون قاضيا لا مفضلا ولو كان يجب عليه فعل الاصلح لكان المناسب ان يكون ذو العدل بدل قوله ذو الفضل ثم فيه اشعار بان ايتاء النبوة من الفضل وان حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته فمن تعرض لرد ما من اللّه به على عباده المؤمنين فقد جهل بحقيقة الامر وعباد اللّه المخلصون قسمان قوم اقامهم الحق لخدمته وهم العباد والزهاد واهل الاعمال والاوراد وقوم اختصهم بمحبته وهم اهل المحبة والوداد وكل فى خدمته وتحت طاعته اذ كلهم قاصد وجهه ومتوجه اليه والعبودية صفة العبد لا تفارقه ما دام حيا ومن حقائق العبودية اخراج الحسد من القلب قال بعض الحكماء بارز الحاسد ربه من خمسة اوجه اولها انه ابغض كل نعمة ظهرت على غيره والثانى انه يتسخط قسمته تعالى ويقول لربه لو قسمت هكذا والثالث ان فضل اللّه يؤتيه من يشاء وهو يبخل بفضله والرابع انه خذل ولى اللّه لانه يريد خذلانه وزوال النعمة عنه والخامس انه اعان عدوه يعنى ابليس واعلم ان حسدك لا ينفذ على عدوك بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك فى يقظة او منام لرأيت نفسك ايها الحاسد فى صورة من يرمى حجرا الى عدوه ليصيب به مقلته فلا يصيبه بل يرجع الى حدقته اليمنى فيقلعها فيزيد غضبه ثانيا فيعود ويرميه اشد من الاولى فيرجع على عينه اليسرى فيعميها فيزداد غضبه ثالثا فيعود ويرميه فيرجع الحجر على رأسه فيشجه وعدوه سالم فى كل حال وهو اليه راجع كرة بعد اخرى واعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون وهذا حال الحسود وسخرية الشياطين وقال بكر بن بن عبد اللّه كان رجل يأتى بعض الملوك فيقوم بحذائه ويقول احسن الى المحسن باحسانه فان المسيئ سيكفيه اساءته فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به الى الملك وقال ان هذا الرجل يزعم ان الملك ابخر فقال الملك وكيف يصح ذلك عندى قال ندعو به اليك فانظر فانه اذا دنا منك وضع يده على انفه ان لا يشم ريح البخر فخرج من عند الملك فدعا الرجل الى منزله فاطعمه طعاما فيه ثؤم فخرج الرجل من عنده فقام بحذاء الملك فقال على عادته مثل ما قال فقال له الملك ادن منى فدنا منه واضعا يده على فيه مخافة ان يشم الملك منه ريح الثؤم فصدق الملك فى نفسه قول الساعى قال وكان الملك لا يكتب بخطه الا لجائزة فكتب له كتابا بخطه الى عامل له اذا اتاك الرجل فاذبحه واسلخه واحش جلده تبنا وابعث به الى فاخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذى سعى به فاستوهب منه ذلك الكتاب فاخذه منه بانواع التضرع والامتنان ومضى الى العامل فقال له العامل ان فى كتابك ان اذبحك واسلخك قال ان الكتاب ليس هو لى اللّه اللّه فى امرى حتى اراجع الملك قال ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشا جلده تبنا وبعث به ثم عاد الرجل كعادته فتعجب منه الملك فقال ما فعلت بالكتاب قال لقينى فلان فاستوهبه منى فوهبته قال الملك انه ذكر لى انك تزعم انى ابخر فقال كلا قال فلم وضعت يدك على انفك قال كان اطعمنى طعاما فيه ثؤم فكرهت ان تشمه قال ارجع الى مكانك فقد كفى المسيئ اساءته ونعم ما قيل هركه او نيك ميكند يابد ... نيك وبد هرجه ميكند يابد اللّهم احفظنا من مساوى الاخلاق ١٠٦ { ما } شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية اى اى شئ { ننسخ } ومحل قوله { من آية } نصب تمييز لما والنسخ فى اللغة الازالة والنقل يقال نسخت الريح الاثر اى ازالته ونسخت الكتاب اى نقلته من نسخة الى نسخة ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها او بالحكم المستفاد منها او بهما جميعا اما الاول فكآية الرجم كما روى ان مما يتلى عليكم فى كتاب اللّه [ الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة ] فهو منسوخ التلاوة دون الحكم ومعنى النسخ فى مثلها انتهاء التكليف بقراءتها عند نسخ تلاوتها واما الثانى فكآية عدة الوفاة بالحول قال تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون ازوجاجا وصية لازواجهم متاعا الى الحول غير اخراج } نسخت باربعة اشهر وعشرا لقوله تعالى { يتربصن بانفسهن اربعة اشهر وعشرا } وكمصابرة الواحد لعشرة فى القتال نسخت بمصابرة الواحد للاثنين فهو منسوخ الحكم دون التلاوة وهو المعروف من النسخ فى القرآن فتكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين فى التلاوة الا ان المنسوخة لا يعمل بها ومعنى النسخ فى مثلها بيان انتهاء التكليف بالحكم المستفاد منها عند نزول الآية المتأخرة عنها وحسن بقاء التلاوة مع نسخ الحكم ورفعه ليبقى حصول الثواب بقراءتها فان القرآن كما يتلى لحفظ حكمه لتيسير العمل به يتلى ايضا لكونه كلام اللّه تعالى فيثاب عليه واما الثالث فكما روى عن عائشة رضى اللّه عنها انها قالت كان مما يتلى فى كتاب اللّه [ عشر رضعات يحرمن ] ثم نسخ [ بخمس رضعات يحرمن ] فهو منسوخ الحكم والتلاوة جميعا ومعنى النسخ فى مثلها بيان انتهاء التكليف بقراءتها وبالحكم المستفاد منها عند نسخها قال القرطبى الجمهور على ان النسخ انما هو مختص بالاوامر والنواهى والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على اللّه تعالى { او ننسها } انساء الآية اذهابها من القلوب كما روى ان قوما من الصحابة قاموا ليلة ليقرؤا سورة فلم يذكروا منها الا البسملة فغدوا الى النبى عليه السلام واخبروه فقال صلى اللّه عليه وسلم { تلك سورة رفعت بتلاوتها واحكامها } روى ان المشركين او اليهود قالوا ألا ترون الى محمد يأمر اصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ما يقول الا من تلقاء نفسه يقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا كما امر فى حد الزنى بايذائهما باللسان حيث قال { فآذوهما } ثم جعله منسوخا وامر بامساكهن فى البيوت { حتى يتوفاهن الموت } ثم جعله منسوخا بقوله { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } يريدون بذلك الطعن فى الاسلام ليضعفوا عزيمة من اراد الدخول فيه فبين اللّه الحكمة فى النسخ بهذه الآية والمعنى ان كل آية تذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من ازالة لفظها او حكمها او كليهما معا الى بدل او الى غير بدل { نأت بخير } اى بآية هى خير { منها } للعباد بحسب الحال فى النفع والثواب من الذاهبة وليس المقصود ان آية خير من آية لان كلام اللّه واحد وكله خير فلا يتفاضل بعض الآيات على بعض فى انفسها من حيث انه كلام اللّه ووحيه وكتابه بل التفاضل فيها انما هو بحسب ما يحصل منها للعباد { او مثلها } فى المنفعة والثواب فكل ما نسخ الى الايسر فهو اسهل فى العمل وما نسخ الى الاشق فهو فى الثواب اكثر اما الاول فكنسخ الاعتداد بحول ونقله الى الاعتداد باربعة اشهر وعشرا واما الثانى فكنسخ ترك القتال بايجابه وقد يكون النسخ بمثل الاول لا اخف ولا اشق كنسخ التوجه الى بيت المقدس بالتوجه الى الكعبة وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها ايضا وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب واعلم ان الناسخ على الحقيقة هو اللّه تعالى ويسمى الخطاب الشرعى ناسخا تجوزا فى الاسناد بناء على ان النسخ يقع به والمنسوخ هو الحكم المزال والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة وهو المكلف والحكمة فى النسخ ان الطبيب المباشر لاصلاح البدن يغير الاغذية والادوية بحسب اختلاف الامزجة والازمنة كذلك الانبياء المباشرون لاصلاح النفوس يغيرون الاعمال الشرعية والاحكام الخلقية التى هي للنفوس بمنزلة العقاقير والاغذية للابدان فان اغذية النفوس وادويتها هى الاعمال الشرعية والاخلاق المرضية فيغيرها الشارع على حسب تغير مصالحها فكما ان الشئ يكون دواء للبدن فى وقت ثم قد يكون داء فى وقت آخر كذلك الاعمال قد تكون مصلحة فى وقت ومفسدة فى وقت وقس عليه حال المرشد والمسترشد فان التربية على القاعدة التسليكية بحسب احوال المشارب ولا يلقاها من المرشدين الا ذو حظ عظيم : قال فى المثنوى رمز ننسخ آية او ننسها ... نأت خيرا درعقب مى دان مها هرشريعت راكه حق منسوخ كرد ... او كيا برد وعوض آورده ورد اندرين شهر حوادث ميراوست ... در ممالك مالك تدبير او ست آنكه داند دوخت اوداند دريد ... هرجه رابفروخت نيكوتر خريد { ألم تعلم } الخطاب للنبى عليه السلام ومعنى الاستفهام تقرير اى انك تعلم { ان اللّه على كل شئ قدير } فيقدر على النسخ والاتيان بمثل المنسوخ وبما هو خير ١٠٧ { ألم تعلم } وخصه عليه السلام بالخطاب مع ان غيره داخل فى الخطاب ايضا حقيقة بناء على ان المقصود من الخطاب تقرير علم المخاطب بما ذكر ولا احد من البشر اعلم بذلك منه عليه السلام اذ قد وقف من اسرار ملكوت السموات والارض على ما لا يطلع عليه غيره وعلم غيره بالنسبة الى علمه عليه السلام ملحق بالعدم لان علم الاولياء من علم الانبياء بمنزلة قطرة من سبعة ابحر وعلم الانبياء من علم نبينا محمد عليه السلام بهذه المنزلة علم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة { ان اللّه له ملك السموات والاراض } فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو كالدليل على قوله { ان اللّه على كل شئ قدير } والملك تمام القدرة واستحكامها وتخصيص السموات والارض بالذكر وان كان اللّه تعالى له ملك الدنيا والآخرة جميعا لكونهما اعظم المصنوعة واعجبها شأنا { وما لكم } ايها المؤمنون { من دون اللّه } اى سوى اللّه وهو فى حيز النصب على الحالية من الولى لانه فى الاصل صفة له فلما قدم انتصب حالا { من } زائدة للاستغراق { ولى } قريب وصديق وقيل وال وهو القيم بالامور { ولا نصير } اى معين ومانع والفرق بين الولى والنصير ان الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون اجنبيا عن المنصور والمقصود التسكين لقلوب المؤمنين بان اللّه وليهم وناصرهم دون غيره فلا يجوز الاعتماد الا عليه ولا يصح الالتجاء الا اليه والمعنى ان قضية العلم بما ذكر من الامور الثلاثة وهو العلم { بان اللّه على كل شيء قدير } والعلم ب { ان اللّه له ملك السموات والارض } والعلم بان ليس لهم { من دون اللّه من ولى ولا نصير } هو الجزم والايقان بانه تعالى لا يفعل بهم فى امر من امور دينهم او دنياهم الا ما هو خير لهم والعمل بموجبه شئ من الثقة والتوكل عليه وتفويض الامر اليه من غير اصغاء الى اقاويل الكفرة وتشكيكاتهم التى هى من جملتها ما قالوا فى امر النسخ ١٠٨ { ام تريدون } ام معادلة للّهمزة فى ألم تعلم اى ألم تعلموا انه مالك الامور وقادر على الاشياء كلها يأمر وينهى كما اراد ام تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السلام والمراد توصية المسلمين بالثقة به وترك الاقتراح عليه وهو المفاجأة بالسؤال من غير روية وفكر { ان تسئلوا } وانتم مؤمنون { رسولكم } وهو فى تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ما تشتهون غير واثقين باموركم بفضل اللّه تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشؤونه تعالى قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه السلام بيان تفاصيل الحكم الداعية الى النسخ { كما سئل موسى } مصدر تشبيهى اى نعت لمصدر مؤكد محذوف وما مصدرية اى سؤالا مشبها بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له اجعل لنا الها وارنا اللّه جهرة وغير ذلك { من قبل } اى من قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم متعلق بسئل جيئ به للتأكيد { ومن يتبدل الكفر } اى يختره ويأخذه لنفسه { بالايمان } بمقابتله بدلا منه وحاصله ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التى من جملتها الآيات الناسخة التى هى خير محض وحق بحت واقترح غيرها { فقد ضل } اى عدل وحار من حيث لا يدرى { سواء السبيل } عن الطريق المستقيم الموصل الى معالم الحق والهدى وتاه فى تيه الهوى وتردى فى مهاوى الردى وسواء السبيل وسط الطريق السوى الذى هو بين الغلو والتقصير وهو الحق واكثر المفسرين على ان سبب نزول الآية ان اليهود قالوا يا محمد ائتنا بكتاب اللّه جملة كما جاء موسى بالتوراة جملة فنزلت كما قال { يسألك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء } الى قوله { جهرة } فالمخاطبون بقوله ام تريدون هم اليهود واضافة الرسول اليهم فى قوله رسولكم باعتبار انهم من امة الدعوة ومعنى تبدل الكفر بالايمان ترك صرف قدرتهم اليه مع تمكنه من ذلك وايثارهم للكفر عليه قال الامام وهذا اصح لان الآية مدنية ولان هذه السورة من اول قوله { يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى } حكاية عنهم ومحاجة معهم وفى الآية اشارة الى حفظ الآداب فمن لم يتأدب بين يدى مولاه ورسوله وخلفائه فقد تعرض للكفر وحقيقة الادب اجتماع خصال الخير وعن النبى عليه السلام قال ( حق الولد على والده ان يحسن اسمه ويحسن مرضعه ويحسن ادبه فانه مسؤل عنه يوم القيامة ومؤاخذ بالتقصير فيه ) قال فى بستان العارفين مثل الايمان مثل بلدة لها خمسة من الحصون الاول من ذهب والثانى من فضة والثالث من حديد والرابع من حبوكل والخامس من لبن فما دام اهل الحصن يتعاهدون الحصن الذى من اللبن فالعدو لا يبلغ فيهم فاذا تركوا التعاهد حتى خرب الحصن الاول طمع فى الثانى ثم فى الثالث حتى خرب الحصون كلها فكذلك الايمان فى خمسة من الحصون اولها اليقين ثم الاخلاص ثم اداء الفرائض ثم اتمام السنن ثم حفظ الادب فما دام يحفظ الادب ويتعهده فان الشيطان لا يطمع فيه فاذا ترك الادب طمع فى السنن ثم فى الفرائض ثم فى الاخلاص ثم فى اليقين وينبغى ان يحفظ الادب فى جميع اموره من امر الوضوء والصلاة والبيع والشراء والصحبة وغير ذلك واعلم ان الشريعة هى الاحكام والطريقة هى الادب وانما رد من رد لعدم رعاية الادب كابليس وغيره من المردودين كما قيل بى ادب مرد كى مهتر ... كرجه اورا جلالت نسبست با ادب باش تابزرك شِوى ... كه بزركى نتيجه ادبست وسئل ابن سيرين اى الادب اقرب الى اللّه فقال معرفة ربوبيته والعمل بطاعته والحمد على السراء والصبر على الضراء انتهى كلامه ١٠٩ { ود كثير من اهل الكتاب } هم رهط من احبار اليهود وروى ان فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى اللّه عنهما بعد وقعة احد ألم تروا ما اصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا الى ديننا فهو خير لكم وافضل ونحن اهدى منكم سبيلا فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فانى قد عاهدت ان لا اكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود اما عمار فقد صبا اى خرج عن ديننا بحيث لا يرجى منه الرجوع اليه ابدا فكيف انت يا حذيفة ألا تبايعنا قال حذيفة رضيت باللّه ربا وبمحمد نبيا وبالاسلام دينا وبالقرآن اماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين اخوانا فقالوا واله موسى لقد اشرب فى قلوبكما حب محمد ثم اتيا رسول اللّه عليه السلام واخبراه فقال ( اصبتما خيرا وافلحتما ) والمعنى احب واراد كثير من اليهود { لو يردونكم } اى ان يردوكم فان لو من الحروف المصدرية اذا جاءت بعد فعل يفهم منه معنى التمنى نحو قوله تعالى { ودوا لو تدهن } اى ان يصرفوكم عن التوحيد { من بعد ايمانكم } يا معشر المؤمنين { كفارا } اى مرتدين حال من ضمير المخاطبين فى يردونكم ويحتمل ان يكون مفعولا ثانيا ليردونكم على تضمينه معنى يصيرونكم { حسدا } علة لقوله ود كانه قيل ود كثير ذلك من اجل الحسد { من عند انفسهم } يجوز ان يتعلق بود على معنى انهم تمنوا ارتدادكم من عند انفسهم وقبل شهوتهم واهوائهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم لانهم ودوا ذلك فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق ويجوز ان يتعلق بحسدا اى حسدا منبعثا من اصل نفوسهم بالغا اقصى مراتبه { من بعد ما تبين لهم الحق } اى من بعد ما ظهر لهم ان محمدا رسول اللّه وقوله حق ودينه حق بالمعجزات والنعوت المذكورة فى التوراة { فاعفوا } العفو ترك عقوبة المذنب يقال عفت الريح المنزل درسته وعفا المنزل يعفو درس يتعدى ولا يتعدى ومن ترك المذنب فكأنه درس ذنبه من حيث انه ترك المكافاة والمجازاة وذلك لا يستلزم الصفح ولذا قال تعالى { واصفحوا } فانه قد يعفو الانسان ولا يصفح والصفح ترك التقريع باللسان والاستقصاء فى اللوم يقال صفحت عن فلان اذا اعرضت عن ذنبه بالكلية وقد ضربت عنه صفحا اذا اعرضت عنه وتركته وليس المراد بالعفو والصفح المأمور بهما الرضى بما فعلوا لان ذلك كفر واللّه تعالى لا يأمر به بل المراد بهما ترك المقاتلة والاعراض عن الجواب عن مساوى كلامهم { حتى يأتى اللّه بامره } اى يحكم اللّه بحكمه الذى هو الاذن فى قتالهم وضرب الجزية عليهم او قتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير روى ان الصحابة رضى اللّه عنهم استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ان يقتلوا هؤلاء اليهود الذين كفروا بانفسهم ودعوا المسلمين الى الكفر فنزلت الآية بترك القتال والاعراض عن المكافاة الى ان يجيئ الاذن من اللّه تعالى { ان اللّه على كل شئ قدير } فيقدر على الانتقام منهم وينتقم اذا جاء اوانه ١١٠ { واقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } عطف على فاعفوا كأنه امرهم بالصبر والمخالفة واللجأ الى اللّه تعالى بالعبادة والبر فالمراد الامر بملازمة طاعة اللّه تعالى من الفرائض والواجبات والتطوعات بقرينة قوله { وما تقدموا لانفسكم من خير } فان الخير يتناول اعمال البر كلها الا انه تعالى خص من بينها اقام الصلاة وايتاء الزكاة بالذكر تنبيها على عظم شأنهما وعلو قدرهما عند اللّه تعالى فان الصلاة قربة بدنية ليكون عمل كل عضو شكرا لما انعم اللّه عليه فى ذلك والزكاة قربة مالية ليكون شكرا للاغنياء الذين فضلهم اللّه فى الدنيا بالاستمتاع بلذيذ العيش بسبب سعتهم فى صنوف الاعمال وما تقدموا شرطية اى اى شئ من الخيرات صلاة او صدقة او غيرهما تقدموه وتسلفوه لمصلحة انفسكم { تجدوه } اى ثوابه وجزاءه لا عينه لان عين تلك الاعمال لا تبقى ولان وجدان عينها لا يرغب فيه { عند اللّه } اى محفوظا عنده فى الآخرة فتجدوا الثمرة واللقمة فيها مثل احد ولفظ التقديم اشارة الى ان المقصود الاصلى والحكمة الكلية فى جميع ما انعم اللّه تعالى به على المكلفين فى الدنيا ان يقدموه الى معادهم ويدخروه ليومهم الآجل كما جاء فى الحديث ( ان العبد اذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم ) { ان اللّه بما تعملون بصير } اى عالم لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الاعمال والعمل غير مقيد بالخير او الشر فهو عام شامل للترغيب والترهيب فالترغيب من حيث انه يدل على انه تعالى يجازى على القليل من الخير كما يجازى على الكثير والترهيب من حيث انه يجازى على القليل والكثير من الشر ايضا فلا يضيع عنده عمل عامل وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه انه مر ببقيع الغرقد فقال السلام عليكم اهل القبور اخبار ما عندنا ان نساءكم قد تزوجن ودوركم قد سكنت واموالكم قد قسمت فأجابه هاتف يا ابن الخطاب اخبار ما عندنا ان ما قدمناه وجدناه وما انفقناه فقد ربحناه وما خلفناه فقد خسرناه ولقد احسن القائل قدم لنفسك قبل موتك صالحا ... واعمل فليس الى الخلود سبيل قال السعدى توغافل درانديشه سود ومال ... كه سرمايه عمر شد بايمال غبار هوا جشم عقلت بدوخت ... سموم هوا كشت عمرت بسوخت بكن سرمه غفلت از جشم باك ... كه فرداشوى سرمه درجشم خاك اعلم ان الانسان اذا مات انقطع عمله الا ان يبقى بعده واحد من الاولاد الاربعة التى لا ينقطع اجرها الاول ما يتولد من مال الانسان كبناء المساجد والجسور والرباط والاوقاف وغير ذلك من الخيرات : كما قال السعدى فى البستان ازان كس كه خيرى بماندروان ... دمادم رسد رحمتش برروان نمرد آنكه ماند بس ازوى بجاى ... بل ومسجد وخان ومهمان سراى هران كونماند از بسش ياد كار ... درخت وجودش نياورد بار وكر رفت وآثار خيرش نماند ... تشايد بس مرك الحمد خواند والى هذا اشار عليه السلام بقوله ( من صدقة جارية ) فى حديث ( اذا مات الانسان انقطع عمله الا من ثلاث ) والثانى ما يتولد من العقل الراجح كالعلم المنتفع به واليه الاشارة بقوله عليه السلام ( او علم ينتفع به ) قيل هو الاحكام المستنبطة من النصوص والظاهر انه عام متناول ما خلفه من تصنيف او تعليم فى العلوم الشرعية وما يحتاج اليه فى تعلمها قيد العلم بالمنتفع به لان ما لا ينتفع به لا يثمر اجرا كما ان كتم ما ينتفع به لا يثمر اجرا بل اثما وعذابا كما ورد فى الحديث ( من كتم علما يعلمه الجم يوم القيامة بلجام من النار ) قال الامام السخاوى يشمل هذا الوعيد حبس الكتب عمن يطلبها للانتفاع بها والثالث ما يتولد من النفس كالبنين والبنات واليه الاشارة بقوله عليه السلام ( او ولد صالح يدعو له ) قيد عليه الصلاة والسلام بالصالح لان الاجر لا يحصل من غيره واما الوزر فلا يلحق بالاب من سيئة ولده اذا كانت نيته فى تحصيله الخير وانما ذكر الدعاء له تحريضا للولد على الدعاء لابيه لا لانه قيد لان الاجر يحصل للوالد من ولده الصالح كلما عمل عملا صالحا سواء دعا لابيه ام لا كمن غرس شجرة يحصل له من اكل ثمرتها ثواب سواء دعا له من اكلها أم لم يدع وكذلك الام فان قلت ما التوفيق بين هذا الحديث وبين قوله عليه السلام ( من سن فى الاسلام سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة ) وقوله عليه السلام ( من مات يختم على عمله الا المرابط فى سبيل اللّه فانه ينمو له عمله الى يوم القيامة ) قلنا السنة المسنونة من جملة العلم المنتفع به ومعنى الحديث المرابط ان ثواب عمله الذى قدمه فى حياته ينمو له الى يوم القيامة اما الثلاث المذكورة فى الحديث فانها اعمال تحدث بعد وفاته لا تنقطع عنه لانه سبب لها فيلحقه منها ثواب والرابع ما يتولد من الروح وهى الاولاد المعنوية التى تولدت من التربية كاولاد المشايخ الكاملين من الصوفية المتشرعين المحققين وهذا القسم يمكن ان يندرج فيما قبله فافهم ١١١ { وقالوا } نزلت فى وفد نجران وكانوا نصارى اجتمعوا فى مجلس رسول اللّه عليه السلام مع اليهود فكذب بعضهم بعضا فقالت اليهود لبنى نجران لن يدخل الجنة الا اليهود وقال بنوا نجران لليهود لن يدخلها الا النصارى فقال اللّه قال اهل الكتاب من اليهود والنصارى { لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى } لم يقل كانوا حملا للاسم على لفظ من وجمع الخبر حملا على معناه والهود جمع هائد اى تائب نحو انا هدنا اليك وكأنه كان فى الاصل اسم مدح لمن تاب منهم من عبادة العجل ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازما لجماعتهم كالعلم لهم والنصارى جمع نصران كسكران { تلك } اى ما قالوا بان الجنة لا يدخلها الا من كان هودا او نصارى { امانيهم } اى شهواتهم الفاسدة التى تمنوها على اللّه بغير الحق لا حقيقة لها جمع امنية وهى ما يتمنى افعولة كالاعجوبة والمنى التشهى والعرب تسمى الكلام العارى عن الحجة تمنيا وغرورا وضلالا واحلاما مجازا وجمع الامانى باعتبار صدورها عن الجميع من اليهود والنصارى ثم اومأ اللّه الى بطلان اقوالهم بقوله لنبيه عليه السلام { قل هاتوا } اصله اتوا قلبت الهمزة هاء وهو أمر تعجبى اى احضروا { برهانكم } حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة ولم يقل براهينكم لان الدعوى كانت واحدة وهى نفى دخول غيرهم الجنة والحجة على تلك الدعوى واحدة { ان كنتم صادقين } فى دعواكم فان كل قول لا دليل عليه غير ثابت ١١٢ { بلى } اعلم ان قولهم لن يدخل الجنة الخ مشتمل على ايجاب ونفى اما الايجاب فهو ان يدخل الجنة اليهود والنصارى واما النفى فهو ان لا يدخل الجنة غيرهم فقوله بلى اثبات لما نفوه فى كلامهم فكأنهم قالوا لا يدخل الجنة غيرنا فاجيبوا بقوله بلى يدخل الجنة غيركم وليس الامر كما تزعمون { من اسلم وجهه للّه } اى اخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيأ فان اسلام شئ لشئ جعله سالما له بان لا يكون لاحد حق فيه لا من حيث التخليق والمالكية ولا من حيث استحقاق العبادة والتعظيم عبر عنها بالوجه لكونه اشرف الاعضاء من حيث انه معدن الحواس والفكر والتخيل فهو مجاز من باب ذكر الجزء وارادة الكل ومنه قولهم كرم اللّه وجهك ويحتمل ان يكون اخلاص الوجه كناية عن اخلاص الذات لان من جاد بوجهه لا يبخل بشئ من جوارحه ويكون الوجه بمعنى العضو المخصوص { وهو محسن } حال من ضمير اسلم اى وهو مع اخلاصه وتسليم النفس الى اللّه بالكلية بالخضوع والانقياد محسن فى جميع اعماله بان يعملها على وجهة يستصوبها فان اخلاصها للّه لا يستلزم كونها مستحسنة بحسب الشرع وحقيقة الاحسان والاتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفى التابع لحسنه الذاتى وقد فسره صلى اللّه عليه وسلم بقوله ( ان تعبد اللّه كأنك تراه وان لم تكن تراه فانه يراك ) وهذا المعنى حقيقة الايمان وظاهره الاحسان واما باطنه فمرتبة كنت سمعه وبصره التى هى نتيجة قرب النوافل وهو كون ذات الحق ووجوده مرآة لصفات العبد ومظهرا لاحواله واما قرب الفرائض فهو المصرح فى قوله قال اللّه تعالى على لسان عبده ( سمع اللّه لمن حمده ) وهو كون صفات العبد واحواله مرآة لذات الحق ومظهرا لوجوده وباعتبار قرب النوافل كان الظاهر والمرئى والمشهود هو العبد وباعتبار قرب الفرائض هو الحق { فله اجره } ثوابه الذى وعد له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة وتصويره ذلك الاجر ثابتا عند مالكه ومدبر اموره ومبلغه الى كماله لا يضيع ولا ينقص والعندية للتشريف والجملة جواب من ان كانت شرطية وخبرها ان كانت موصولة والفاء لتضمنها معنى الشرط { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فى الآخرة عند دخول الجنة كما قال تعالى خبرا عن اهل الجنة { الحمد للّه الذى اذهب عنا الحزن } واما فى الدنيا فانهم يخافون من ان يصيبوا الشدائد والاهوال العظام قدامهم ويحزنون على ما فاتهم من الاعمال الصالحة والطاعات المؤدية الى الفوز بانواع السعادات فان المؤمن كما لا يقنط من رحمة اللّه لا يأمن من غضبه وعقابه كما قيل لا يجتمع خوفان ولا امنان فمن خاف فى الدنيا امن فى الآخرة حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب فان الخوف انما يكون مما يتوقع فى المستقبل كما ان الحزن انما يكون على ما وقع سابقا ومن أمن فى الدنيا خاف فى الآخرة قال فى المثنوى لا تخافوا هست نزل خائفان ... هست درخور از براى خائف آن هركه ترسد مرورا ايمن كنند ... مردل ترسنده را ساكن كنند آنكه خوفش نيست جون كويى مترس ... درس جه دهى نيست اومحتاج درس ١١٣ { وقالت اليهود } بيان لتضليل كل فريق من اليهود والنصارى صاحبه بخصوصه اثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم { ليست النصارى على شئ } اى على امر يصح ويعتد به { وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم } اى قالوا ما قالوا والحال ان كل فريق منهم { يتلون الكتاب } اللام للجنس اى انهم من اهل العلم والكتاب والتلاوة للكتب وحق من تلا كتابا من كتب اللّه تعالى وآمن به ان لا يكفر بالباقى لان كل واحد من كتب اللّه يصدق ما عداه { كذلك } اى مثل ذلك القول الذى سمعت به من هؤلاء العلماء الضالة على ان الكاف فى موضع النصب على انه مفعول قال { قال الذين لا يعلمون } من عبدة الاصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلة اى قالوا لاهل كل دين ليسوا على شئ { مثل قولهم } بدل من محل الكاف وفيه توبيخ عظيم حيث نظموا انفسهم مع علمهم فى سلك من لا يعلم اصلا { فاللّه يحكم بينهم } بين الفريقين { يوم القيمة فيما كانوا فيه } متعلق بيختلفون قدم للمحافظة على رؤس الآى { يختلفون } من امر الدين فان قلت بم يحكم قلت بما يقسم لكل فريق مما يليق به من العقاب وفعل الحكم يتعدى بجارين الباء وفى كما يقال حكم الحاكم فى هذه القضية بكذا وفى الآية قد ذكر المحكوم فيه دون المحكوم به واعلم ان كل حزب بما لديهم فرحون وليس ذلك فى الفرق الضالة خاصة بل ذلك يجرى بين صوفى وصوفى وشيخ وشيخ وعالم وعالم فتخطئة كل فريق صاحبه مستمرة والاولى ان يتبع الهدى قال بعض المشايخ من ادعى انه صاحب قلب وارشاد بدون تزكية النفس ومعرفة المبدأ والمعاد لاجل الدنيا الدنيئة كان عذابه اضعاف عذاب النساء اللاتى رآهن النبى عليه السلام ليلة المعراج يقطعن صدورهن بمقاريض فسال جبريل فقال انهن الزوانى من النساء اللاتى جئن بأولاد من الزنى فالدعوى باطلة بدون الدليل وصاحبها ضال مضل والمدعى كالزانية والتابع له على هواه كولد الزنى فان ولد الزنى هالك حكما لعدم المربى والاتباع لمبتدع لا ينتج الا البدعة والالحاد وحكى عن الشيخ صدر الدين التبريزى انه قال كان رجل مشهور فى تبريز يقال له عارف قدم يوما الى مجلس بعض العارفين فقال له ما اسمك قال محمود لكن يقال لى عارف قال له هل عرفت ذاتك حتى قيل لك عارف فقال قرأت كتبا كثيرة من مقالات المشايخ والصوفية قال له ذلك كلامهم فمالك بيرخويش بايد كرد برواز ... ببال ديكران نتوان بريدن فمجرد النسخة لا يفيد بدون العمل بما فيها والتحقق بحقائقها وهذا كما ان تاجرا اذا وصل له كتاب من عبده المأذون فى التجارة انى اشتريت كذا وكذا واخبر سيده بما وقع تفصيلا فبمجرد هذا الكتاب لا يقدر السيد ان يتجر بدون ان يصل اليه ما اشتراه العبد من السلعة فلو ادخل جماعة من المشترين فى داره ليبيع متاعه لا يجد الا خجالة لان المحل الذى يعرض السلعة فيه على المشترين لا يفيده مجرد النسخة وقراءتها : قال فى المنثوى مرغ بر بالا بران وسايه اش ... مى دود بر خاك بران مرغ وش ابهلى صياد آن سايه شود ... مى دود جندانكه بى مايه شود بى خبر كان عكس آن مرغ هواست ... بى خبركه اصل آن سايه كجاست تير اندازد بسوى سايه او ... تركشش خالى شود ازجست وجو سايه يزدان جوباشد دايه اش ... وارهاند ازخيال وسايه اش ١١٤ { ومن اظلم } سبب النزول ان ططيوس الرومى ملك النصارى واصحابه عزوا بنى اسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم واحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ولم يزل خرابا حتى بناه اهل الاسلام فى ايام عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه وذلك لما استولى عمر رضى اللّه عنه على ولاية كسرى وغنم اموالهم عمر بها بيت المقدس ثم صار فى ايدى النصارى من الافرنج اكثر من مائة سنة حتى فتحه واستخلصه الملك الناصر صلاح الدين من آل ايوب سنة خمسمائة وخمس وثمانين بعد الهجرة ومن فى الاصل كلمة استفهام وهى ههنا بمعنى النفى اى لا احد اظلم { ممن منع مساجد اللّه } المراد بيت المقدس وصيغة الجمع لكون حكم الآية عاما لكل من فعل ذلك فى اى مسجد كان كما تقول لمن آذى صالحا واحدا ومن اظلم ممن آذى الصالحين لانه لا عبرة لخصوص السبب { ان يذكر فيها اسمه } ثانى مفعولى منع فانه يقتضى ممنوعا وممنوعا عنه فتارة يتعدى اليهما بنفسه كما فى قولك منعته الامر وتارة يتعدى الى الاول بنفسه والى الثانى بحرف الجر وهو كلمة عن او من مذكورة كانت كما فى قولك منعته من الامر او محذوفة كما فى الآية اى من ان يسبح ويقدس ويصلى له فيها { وسعى } اى عمل { فى خرابها } بالهدم والخراب اسم للتخريب كالسلام اسم للتسليم واصله الثلم والتفريق { اولئك } المانعون { ما كان لهم ان يدخلوها الا خائفين } اى ما كان ينبغى لهم ان يدخلوها الا بخشية وخضوع فضلا عن الاجتراء على تخريبها { لهم فى الدنيا خزى } اى خزى فظيع لا يوصف كالقتل والسبى فى حق اهل الحرب والاذلال بضرب الجزية فى حق اهل الذمة او هو فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية { ولهم فى الآخرة عذاب عظيم } وهو عذاب النار الذى لا ينقطع لما ان سببه ايضا وهو ما حكى من ظلمهم كذلك فى العظم وقيل نزلت الآية فى مشركى العرب الذين منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الدعاء الى اللّه تعالى بمكة والجأوه الى الهجرة فصاروا بذلك مانعين له عليه السلام ولاصحابه ان يذكروا اللّه فى المسجد الحرام وايضا انهم صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واصحابه عن المسجد الحرام حين ذهب اليه من المدينة عام الحديبية وهى السنة السادسة من الهجرة والحديبية موضع على طريق مكة فعلى هذا يكون المسجد الذى نزلت الآية فيه المسجد الحرام فالمراد بالخراب فى قوله وسعى فى خرابها تعطيلهم المسجد الحرام عن الذكر والعبادة دون تخريبه وهدمه حقيقة وجعل تعطيل المسجد عنهما تخريبا له لان المقصود من بنائه انما هو الذكر والعبادة فيه فما دام لم يترتب عليه هذا المقصود من بنائه صار كأنه هدم وخرب او لم يبن من اصله فان عمارة المسجد كما تكون ببنائه واصلاحه تكون ايضا بحضوره ولزومه يقال فلان يعمر مسجد فلان اذا كان يحضره ويلزمه ويقال لسكان السموات من الملائكة عمارها قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( اذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالايمان ) وذلك لقوله تعالى { انما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه } فجعل حضور المساجد عمارة لها قال على رضى اللّه عنه ست من المروءة ثلاث فى الحضر وثلاث فى السفر * فاما اللاتى فى السفر فبذل الزاد وحسن الخلق والمزاح فى غير معاصى اللّه وعد من علامات الساعة تطويل المنارات وتنقيش المساجد وتزيينها وتخريبها عن ذكر اللّه تعالى فتعطيل المساجد عن الصلاة والتلاوة واظهار شعائر الاسلام اقبح سيئة لا سيما اذا اقترن بفتح ابواب بيوت الخمر واغلاق ابواب المكاتب وغير ذلك ولقد شوهد هذا فى اكثر البلاد الرومية فى هذا الزمان فلنبك على غربة الدين ايها الاخوان قال القشيرى رحمه اللّه ومن اظلم ممن خرب بالشهوات اوطان العبادات وهى نفوس العابدين وخرب بالمنى والعلاقات اوطان المعرفة وهى قلوب العارفين وخرب بالحظوظ والمساكنات اوطان المحبة وهى ارواح الواجدين وخرب بالتفات الى القربات اوطان المشاهدات وهى اوطان الموحدين ثم فى الآية اشارة الى شرف بيت المقدس والمسجد الحرام وفى الحديث ( من زار بيت المقدس محتسبا اعطاه اللّه ثواب الف شهيد وحرم اللّه جسده على النار ومن زار عالما فكأنما زار بيت المقدس ) كذا فى مشكاة الانوار وذكر فى القنية ان اعظم المساجد حرمة المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم مسجد بيت المقدس ثم الجوامع ثم مساجد المحال ثم مساجد الشوارع فانها اخف مرتبة حتى لا يعتكف فيها اذا لم يكن لها امام معلوم ومؤذن ثم مساجد البيوت فانه لا يجوز الاعتكاف فيها الا للنساء انتهى قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى لا مقام اشرف من الجامع الكبير ببروسة بعد الكعبة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف وقال كان هو موضع بيت عجوز آمنت بنوح النبى عليه السلام فحفظها اللّه من الطوفان فى ذلك البيت حين لم تدرك السفينة هكذا ظهر لبعض اهل اللّه بطريق الكشف ومن اشتغل فيه صانه اللّه من طوفان الغفلة وقال ايضا الاشغال فى مكة يوما يقوم مقام الاشتغال فى سائر البلاد سنة بشرط رعاية آدابها قال وفى بلادنا للشغل موضعان احدهما جامع السيد البخارى ببلدة بروسة والآخر مقام ابى ايوب الانصارى بقسطنينية عابدان اندر نماز وعارفان اندر نياز ... عاشقان ازشوق وصل يار در سوز وكداز اللّهم اجعلنا من المشغولين بك ١١٥ { وللّه المشرق والمغرب } يريد بهما ناحيتى الارض اذ لا وجه لارادة موضعى الشروق والغروب بخصوصهما اى له الارض كلها لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فان منعتم ان تصلوا فى المسجد الحرام او الاقصى فقد جعلت لكم الارض مسجدا { فأينما تولوا } اى ففى اى مكان فعلتم تولية وجوهكم القبلة قال الامام ولى اذا اقبل وولى اذا ادبر وهو من الاضداد والمراد ههنا الاقبال { فثم وجه اللّه } اى هناك جهته التى امر بها ورضيها قبلة فان امكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد او مكان دون آخر او فثمة ذاته بمعنى الحضور العلمى فيكون الوجه مجازا من قبيل اطلاق اسم الجزء على الكل والمعنى ففى اى مكان فعلتم التولية فهو موجود فيه يمكنكم الوصول اليه اذ ليس هو جوهرا او عرضا حتى يكون بكونه فى جانب مفرغا جانبا ولما امتنع عليه ان يكون فى مكان اريد ان علمه محيط بما يكون فى جميع الاماكن والنواحى اى فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وفى الحديث ( لو انكم دليتم بحبل الى الارض السفلى لهبط على اللّه ) معناه ان علم اللّه شمل جميع الاقطار فالتقدير لهبط على علم اللّه واللّه تعالى منزه عن الحلول فى الاماكن لانه كان قبل ان يحدث الاماكن كذا فى المقاصد الحسنة واعلم ان اين شرط فى الامكنة وهو ههنا منصوب بتولوا وما مزيدة للتأكيد وثم ظرف مكان بمنزلة هناك تقول لما قرب من المكان هنا ولما بعد ثم وهناك وهو خبر مقدم ووجه اللّه مبتدأ والجملة فى محل الجزم على انها جواب الشرط { ان اللّه واسع } باحاطته بالاشياء ملكا وخلقا فيكون تذييلا لقوله وللّه المشرق والمغرب وكذا ان فسرت السعة بسعة الرحمة فان قوله وللّه المشرق والمغرب لما اشتمل على معنى قولنا لا تختص العبادة والصلاة ببعض المساجد بل الارض كلها مسجد لكم فصلوا فى اي بقعة شئتم من بقاعها فهم منه انه واسع الشريعة بالترخيص والتوسعة على عباده فى دينهم لا يضطرهم الى ما يعجزون عن ادائه والمقصود التوسعة على عباده والتيسير عليهم فى كل ما يحتاجون اليه فيدخل فيه التوسعة فى امر القبلة دخولا اولويا وهذا التعميم مستفاد من اطلاق واسع حيث لم يقيد بشئ دون شئ قال الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى الواسع مشتق من السعة والسعة تضاف مرة الى العلم اذا اتسع واحاط بالمعلومات الكثيرة وتضاف اخرى الى الاحسان وبسط النعم وكيفما قدر وعلى اى شئ نزل فالواسع المطلق هو اللّه تعالى لانه ان نظر الى علم فلا ساحل لبحر معلوماته بل تنفد البحار لو كانت مداداً لكلماته وان نظر الى احسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وان عظمت فتنتهى الى طرف والذى لا يتناهى الى طرف فهو أحق باسم السعة واللّه تعالى هو الواسع المطلق لان كل واسع بالاضافة الى ما هو أوسع منه ضيق وكل سعة تنتهى الى طرف فالزيادة عليها متصورة وما لا نهاية له ولا طرف فلا يتصور عليه زيادة وسعة العبد فى معارفه واخلاقه فان كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه وان اتسعت اخلاقه حتى لم يضيقها خوف الفقر وغيظ الحسود وغلبة الحرص وسائر الصفات المذمومة فهو واسع وكل ذلك فهو الى نهاية وانما الواسع المطلق هو اللّه تعالى : قال فى المنثوى اى سك كركين زشت از حرص وجوش ... بوستين شير را بر خود مبوش غره شيرت بخواهد امتحان ... نقش شير وانكه اخلاق سكان { عليم } بمصالحهم واعمالهم كلها وهذا لا يخلو عن افادة التهديد ليكون المصلى على حذر من التفريط والتساهل كما انه يتضمن الوعد بتوفية ثواب المصلين فى جميع الاماكن فقد ظهر ان هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه } الآية وان المعنى ان بلاد اللّه ايها المؤمنون تسعكم فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد اللّه ان تولوا وجوهكم نحو قبلة اللّه اينما كنتم من ارضه وقال مجاهد والحسن لما نزل { وقال ربكم ادعونى استجب لكم } قالوا اين ندعوه فأنزل اللّه { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فيم وجه اللّه } بلا جهة وتحيز ان قيل ما معنى رفع الايدى الى السماء عند الدعاء مع انه تعالى منزه عن الجهة والمكان قلنا ان الانبياء والاولياء قاطبة فعلوا كذلك لا بمعنى ان اللّه فى كل مكان بل بمعنى ان خزائنه تعالى فى السماء كما قال تعالى { وفى السماء رزقكم وما توعدون } وقال تعالى { وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم } فالعرش مظهر لاستواء الصفة الرحمانية فرفع الايدى اذا الى السماء والنظر اليها وقت الدعاء بمنزلة ان يشير سائل الى الخزينة السلطانية ثم يطلب من السلطان ان يعطى له عطاء من تلك الخزينة يروى ان امام الحرمين رفع اللّه درجته فى الدارين نزل ببعض الاكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء والاكابر فقام واحد من اهل المجلس فقال ما الدليل على تنزهه تعالى عن المكان وهو قال { الرحمن على العرش استوى } فقال الدليل عليه قول يونس عليه السلام فى بطن الحوت { ا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الامام ههنا فقير مديون بالف درهم اد عنه دينه حتى ابينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما ذهب فى المعراج الى ما شاء من العلى قال ( لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك ) ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات فى قعر البحر ببطن الحوت قال { لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فكل منهما خاطبه بقوله انت وهو خطاب الحضور فلو كان هو فى مكان لما صح ذلك فدل ذلك على انه ليس فى مكان وفى الحديث ( لا تفضلونى على يونس بن متى فانه رأى فى بطن الحوت ما رأيته فى اعلى العرش ) يشير عليه السلام بذلك الى ما وقع له وليونس عليه السلام من تجلى الذات وقيل نزلت الآية لما طعن اليهود فى نسخ القبلة روى انه عليه السلام كان يصلى بمكة مع اصحابه الى الكعبة فلما هاجر الى المدينة امره اللّه ان يصلى نحو بيت المقدس ليكون أقرب الى تصديق اليهود فصلى نحوه ستة عشر شهرا وكان يقع فى روعه ويتوقع من ربه ان يحوله الى الكعبة لانها قبلة ابيه ابراهيم واقدم القبلتين وادعى للقرب الى الايمان كما قال اللّه تعالى { قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها } وذلك فى مسجد بنى سلمة فصلى الظهر ولما صلى الركعتين نزل قوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } فتحول فى الصلاة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين فلما تحولت القبلة انكر من أنكر فكان هذا ابتلاء من اللّه تعالى كما قال تعالى { وما جعلنا القبلة التى كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة الا على الذين هدى اللّه } اللّهم اهدنا وسددنا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فللمؤمن حقا ان يعتصم باللّه ويدور مع الامر الالهى حيث يدور ويتبع الرسل ولا يتبع عقله العاجز وفهمه القاصر ويتعلم الادب من معدن الرسالة حيث لم يسأل تحويل القبلة بل انتظر الى امر اللّه فاكرمه اللّه باعطاء مرامه وفضله على سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام اعلم ان الذين شقت عليهم التحويلة طائفتان محجوبتان بالخلق عن الحق اما الطائفة الاولى فقد عرفت ان التحويلة من الكعبة الى بيت المقدس كانت صورة العروج من مقام المكاشفة اعنى مقام القلب الى مقام المشاهدة اعنى مقام الروح فحسبوا التحويلة من بيت المقدس الى الكعبة بعد ابعد القرب ونزولا بعد العروج وظنوا ضياع السعى الى المقام الاشرف والسقوط عن الرتبة فشق عليهم ولم يعلموا انه صورة الرجوع الى مقام القلب حالة التمكين للدعوة ومشاهدة الجمع فى عين التفصيل والتفصيل فى عين اجمع حتى لا يحتجب العبد بالوحدة عن الكثرة ولا بالكثرة عن الوحدة واما الطائفة الثانية فتقيدوا بصورة عملهم ولم يعرفوا حكمة التحويلة فحسبوا صحة العبادة الثانية دون الاولى فشق عليهم ضياعها على ما توهموا واما الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى فلم يحتجبوا بحجاب واهتدوا الى ما هو الصواب فوصلوا الى التوحيد الذاتى المحمدى اللّهم اجعلنا من المهتدين واحشرنا مع الانبياء والمرسلين وقال اهل التأويل { وللّه المشرق والمغرب } اى عالم النور والظهور الذى هو جهة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه وعالم الظلمة والاختفاء الذى هو جهة اليهود وقبلتهم بالحقيقة ظاهره { فأينما تولوا } اى اى جهة توجهوا من الظاهر والباطن { فثم وجه اللّه } اى ذاته المتجلية بجميع صفاته الجمالية والجلالية اذ بعد الاشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلى لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم فيه والقروب فيها بتستره واحجابه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأى جهة توجهوا حينئذ فثم وجهه ليس الا هو وحده : قال الحافظ ميان كعبه وتبخانه هيج فرقى نيست ... بهر طرف كه نظر ميكنى برابر اوست واعلم ان شهود الحق بالخلق وشهود الخلق بالحق من غير احتجاب باحدهما عن الآخر هو مقام جمع الجمع والبقاء وذلك لا يحصل الا بالتجلى العينى بعد العلمى قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره واذا امر بالارشاد يعود لخدمة الحق ألا يرى ان موسى عليه السلام لما وصل الى الطور لاقتباس النار لاهله { نودى يا موسى انى انا ربك } فتجلى الربوبية اولا ثم قيل { فاخلع نعليك } وهما الطبيعة والنفس امر بتركهما ثم قيل { وانا اخترتك فاستمع لما يوحى اننى انا اللّه لا اله الا انا فاعبدنى } فتجلى الالوهية ثم بعدهما تجلى الذات وامر بارشاد فرعون فترك اهله هناك ولم يلتفت وجاء الى فرعون وكان دخوله بمصر فى نصف الليل فدق باب فرعون بعصاه امتثالا لامر اللّه تعالى قيل انه شابت لحية فرعون فى ذلك الوقت بمهابة دقه فقال أكنت وليدا مربى عندنا قال موسى نعم ولذلك دعوتك قبل الكل لسبق حقك على رعاية له فأرادوا قتله فألقى عصاه فصارت ثعبانا مبينا فبينا عزم على ابتلاعهم فاستأمنوا فأعطاهم الامان وكان يريد ان يؤمن ولكنه منعه هامان فبعد دعوة فرعون جاء الى اهله فوجدها قد وضعت الحمل فاحاطتها ذئاب من اطرافها لمحافظتها فلم يقدر ان يمر من هنا مار فانظر الى قدرة اللّه تعالى روى ان الامام الاعظم والهمام الاقدم رحمه اللّه لم يشتغل بالدعوة الى مذهبه الا بالاشارة النبوية فى المنام بعد ما قصد الانزواء فهذا اعدل دليل الى وصوله الى الحقيقة وكان يقوم كل الليل وسمع رحمه اللّه هاتفا فى الكعبة ان يا أبا حنيفة اخلصت خدمتى واحسنت معرفتى فقد غفرت لك ولمن تبعك الى قيام الساعة كذا فى عين العلم للشيخ محمد البلخى رحمه اللّه وعن بعض العارفين قبلة البشر الكعبة وقبلة اهل السماء البيت المعمور وقبلة الكروبيين الكرسى وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه اللّه سبحانه وتعالى ١١٦ { وقالوا } نزلت لما قالت اليهود عزير ابن اللّه والنصارى المسيح ابن اللّه ومشركوا العرب الملائكة بنات اللّه فضمير قالوا راجع الى الفرق الثلاث المذكورة سابقا اما اليهود والنصارى فقد ذكروا صريحا واما المشركون فقد ذكروا بقوله تعالى { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } اى قال اليهود والنصارى وما شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون { اتخذ اللّه ولدا } الاتخاذ بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى الا الى واحد واما بمعنى التصيير والمفعول الاول محذوف اى صير بعض مخلوقاته ولدا وادعى انه ولده لا انه ولده حقيقة وكما يستحيل عليه تعالى ان يلد حقيقة كذا يستحيل عليه تعالى التبنى واتخاذ الولد فنزه اللّه تعالى نفسه عما قالوا فى حقه فقال { سبحانه } تنزيهه والاصل سبحه سبحانا على انه مصدر بمعنى التسبيح وهو التنزيه اى منزه عن السبب المقتضى للولد وهو الاحتياج الى من يعينه فى حياته ويقوم مقامه بعد مماته وعما يقتضيه الولد وهو التشبيه فان الولد لا يكون الا من جنس والده فكيف يكون للحق سبحانه ولد وهو لا يشبهه شئ : قال فى المثنوى لم يلد لم يولداست او از قدم ... نى بدر دارد نه فرزند و نه عمم { بل له ما فى السموات والارض } رد لما قالوه واستدلال على فساده فان الاضراب عن قول المبطلين معناه الرد والانكار وفى الوسيط بل اى ليس الامر كما زعموا والمعنى انه خالق ما فى السموات والارض جميعا الذى يدخل فيه الملائكة وعزير والمسيح دخولا اوليا فكان المستفاد من الدليل امتناع ان يكون شئ ما مما فى السموات والارض ولدا سواء كان ذلك ما زعموا انه ولد له ام لا { كل } اى كل ما فيهما كائنا ما كان من اولى العلم وغيرهم { له } اى للّه سبحانه وتعالى { قانتون } منقادون لا يمتنع شئ منهم على مشيئته وتكوينه وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكونه الواجب لذاته فلا يكون له ولد لانه من حق الولد ان يجانس والده وانما عبر عن جميع الموجودات اولا بما يعبر به عن غير ذوى العلم وعبر عنه آخر بما يختص بالعقلاء وهو لفظ قانتون تحقيرا لشأن العقلاء الذين جعلوه ولدا للّه سبحانه ١١٧ { بديع السموات والارض } اى هو مبدعهما على ان البديع بمعنى المبدع وهو الذى يبدع الاشياء اى يحدثها او ينشئها على غير مثال سبق والابداع اختراع الشئ لا عن شئ دفعة اى من غير مادة ومدة وسمى صاحب الهوى مبتدعا لما لم يسبقه احد من ارباب الشرع فى انشاء مثل ما فعله او المعنى بديع سمواته وارضه فعلى الاول من ابدع والاضافة معنوية وعلى الثانى من بدع اذا كان على شكل فائق وحسن رائق والاضافة لفظية وهو حجة اخرى لابطال مقالتهم الشنعاء تقريرها ان الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه واللّه تعالى مبدع الاشياء كلها على الاطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والدا ومن قدر على خلق السموات والارض من غير شئ كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير اب { واذا قضى امرا } اى اراد شيأ واصل القضاء الاحكام اطلق على ارادة الآلهية المتعلقة بوجود الشئ لايجابها اياه البتة { فانما يقول له كن فيكون } اى يحصل فى الوجود سريعا من غير توقف ولا اباء كلاهما من كان التامة اى احدث فيحدث واعلم ان اهل السنة لا يرون تعلق وجود الاشياء بهذا المر وهو كن بل وجودها متعلق بخلقه وايجاده وتكوينه وهو صفة ازلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المخلوق بايجاده وكمال قدرته على ذلك لكن لا يتعلق علم احد بكيفية تعلق القدرة بالمعدومات فيجب الامساك عن بحثها وكذا عن بحث كيفية وجود البارى وكيفية العذاب بعد الموت وامثالها فانها من الغوامض ثم اعلم ان السبب فى هذه الضلالة وهى نسبة الولد الى اللّه والقول بانه اتخذ ولدا ان ارباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارى تعالى اسم الاب وعلى الكبير منهم اسم الاله حتى قالوا ان الاب هو الرب الاصغر وان اللّه تعالى هو الاب الاكبر وكانوا يريدون بذلك انه تعالى هو السبب الاول فى وجود الانسان وان الاب هو السبب الاخير فى وجوده فان الاب هو معبود الابن من وجه اى مخدومه ثم ظنت الجهلة منهم ان المراد به معنى الولادة الطبيعية فاعتقدوا ذلك تقليدا ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقا اى سواء قصد به معنى السببية او معنى الولادة الطبيعية حسما لمادة الفساد واتخاذ الحبيب او الخليل جائز من اللّه تعالى لان المحبة تقع على غير جوهر المحب قالوا اوحى اللّه تعالى الى عيسى عليه السلام ولدتك وانت نبى فخفف النصارى التشديد الذى فى ولدتك لانه من التوليد وصحفوا بعض اعجام النبى بتقديم الباء على النون فقالوا ولدتك وانت بنيي تعالى اللّه عما يقول الظالمون وقال تعالى يا احبارى ويا ابناء رسلى فغيره اليهود وقالوا يا احبائى ويا ابنائى فكذبهم اللّه بقوله { وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء اللّه واحباؤه قل فلم يعذبك بذنوبكم } فاللّه سبحانه منزه عن الحدود والجهات ومتعال عن الازواج والبنين والبنات ليس كمثله شئ فى الارض ولا فى السموات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى ( كذبنى ابن آدم ) اى نسبنى الى الكذب ( ولم يكن له ذلك ) اى لم يكن التكذيب لائقا به بل كان خطأ ( وشتمنى ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه اياى فزعم ان لا اقدر ان اعيده كما كان واما شتمه اياى فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة اوولدا ) وانما كان هذا شتما لان التولد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو وهذا انما يكون فى المركب وكل مركب محتاج فان قلت قولهم اتخذ اللّه تكذيب ايضا لانه تعالى اخبر انه لا ولد له وقولهم لن يعيدنا شتم ايضا لانه نسبة له الى العجز فلم خص احدهما بالشتم والآخر بالتكذيب قلت نفى الاعادة نفى صفة كمال واتخاذ الولد اثبات صفة نقصان له والشتم افحش من التكذيب والكذب على اللّه فوق الكذب على النبى عليه السلام وفى الحديث ( ان كذبا على ليس ككذب على احد ) يعنى الكذب على النبى اعظم انواع الكذب سوى الكذب على اللّه لان الكذب على النبى يؤدى الى هدم قواعد الاسلام وافساد الشريعة والاحكام ( من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) فعلى المؤمن ان يجتنب عن الزيغ والضلال واشنع الفعال واسوأ المقال وان يداوم على التوحيد فى الاسحار والآصال الى ان لا يبقى للشرك الخفى ايضا مجال وفى الحديث ( لو يعلم الامير ماله فى ذكر اللّه لترك امارته ولو يعلم التاجر ماله فى ذكر اللّه لترك تجارته ولو ان ثواب تسبيحة قسم على اهل الارض لأصاب كل واحد منهم عشرة اضعاف الدنيا ) وفى الحديث ( للمؤمن حصون ثلاثة ذكر اللّه وقراءة القرآن والمسجد ) والمراد بالمسجد مصلاه سواء كان فى بيته او فى الخارج ولا بد من الصدق والاخلاصحتى يظهر اثر التوحيد فى الملك والملكوت : قال فى المثنوى هست تسبيحت بخار آب وكل ... مرغ جنت شد زنفخ صدق دل اللّهم اوصلنا الى اليقين وهيئ لنا مقاما من مقامات التمكين آمين ١١٨ { وقال الذين لا يعلمون } اى مشركوا العرب الجاهلون حقيقة او اهل الكتاب المتجاهلون ونفى عنهم العلم لعدم انتفاعهم بعلمهم لان المقصود هو العمل { لولا يكلمنا اللّه } لولا هنا للتحضيض وحروف التحضيض اذا دخلت على المضى كان معناها التوبيخ واللوم على ترك الفعل بمعنى لم لم يفعله ومعناها فى المضارع تحضيض الفاعل على الفعل والطلب له فى المضارع بمعنى الامر والمعنى هلا يكلمنا اللّه عيانا بانك رسوله كما يكلم الملائكة بلا واسطة او يرسل الينا ملكا ويكلمنا بواسطة ذلك الملك انك رسوله كما كلم الانبياء عليهم الصلاة والسلام على هذا الوجه وهذا القول من الجهلة استكبار يعنون به نحن عظماء كالملائكة والنبيين فلم اختصوا به دوننا { او } للتخيير { تأتينا آية } حجة تدل على صدقك وهذا جحود منهم لان يكون ما أتاهم من القرآن وسائر المعجزات آيات والجحود هو الانكار مع العلم والعجب انهم عظموا انفسهم وهى احقر الاشياء واستهانوا بآيات اللّه وهى اعظمها { كذلك قال الذين من قبلهم } من الامم الماضية { مثل قولهم } فقال اليهود لموسى عليه السلام ارنا اللّه جهرة ولن نصبر على طعام واحد ونحوه وقال النصارى لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء ونحوه وقوله كذلك قال مع قوله مثل قولهم على تشبيهين تشبيه المقول بالمقول فى المؤدى والمحصول وتشبيه القول بالقول فى الصدور بلا رؤية بل بمجرد التشهى واتباع الهوى والاقتراح على سبيل التعنت والعناد لا على سبيل الارشاد وقصد الجدوى والكاف فى كذلك منصوب المحل على انه مفعول قال وقوله مثل قولهم مفعول مطلق اى قال كفار الامم الماضية مثل ذلك القول الذى قالوه قولا مثل قولهم فيما ذكر فظهر ان احد التشبيهين لا يغنى عن الآخر { تشابهت قلوبهم } اى تماثلت قلوب هؤلاء ومن قبلهم فى العمى والقسوة والعناد وهو استئناف على وجه تعليل تشابه مقالتهم بمقالة من قبلهم فان الالسنة ترجمان القلوب والقلب ان استحكم فيه الكفر والقسوة والعمى والسفه والعناد لا يجرى على اللسان الا ما ينبئ عن التعلل والتباعد عن الايمان كما قيل مرد بنهان بود بزير زبان ... جون بكويد سخن بدانندش خوب كويد لبيب كويندش ... زشت كويد سفيه خوانندش { قد بينا الآيات } اى نزلناها بينة بان جعلناها كذلك فى انفسها كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لا انا بيناها بعد ان لم تكن بينة { لقوم يوقنون } اى يطلبون اليقين واليقين ابلغ العلم واوكده بان يكون جازما اى غير محتمل للنقيض وثابتا اى غير زائل بالتشكيك بعد ان يكون مطابقا للواقع فالايقان هنا مجاز عن طلب اليقين على طريق ذكرالمسبب وارادة السبب ولا بعد فى نصب الدلائل لطلاب اليقين ليحصلوه بها وانما حمل على المجاز لان الموقن بالمعنى المذكور لا يحتاج الى نصب الدلائل وبيان الآيات فبيان الآيات له طلب لتحصيل الحاصل ١١٩ { انا ارسلناك } حال كونك ملتبسا { بالحق } مؤيدا به والمراد الحجج والآيات وسميت به لتأديتها الى الحق { بشيرا } حال كونك مبشرا لمن تبعك بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب احد { ونذيرا } اى منذرا ومخوفا لمن كفر بك وعصاك والمعنى ان شأنك بعد اظهار صدقك فى دعوى الرسالة بالدلائل والمعجزات ليس الا الدعوة والابلاغ بالتبشير والانذار لا ان تجبرهم على القبول والايمان فلا عليك ان أصروا على الكفر والعناد فان الاحوال اوصاف لذى الحال والاوصاف مقيدة للموصوف { ولا تسئل عن اصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعد ان بلغت والجحيم المكان الشديد الحر وقرئ ولا تسأل فتح التاء وجزم اللام على انه نهى لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم عن السؤال عن حال ابويه على ما روى انه عليه السلام قال ( ليت شعرى ما فعل ابواى ) اى ما فعل بهما والى اى حال انتهى امرهما فنزلت واعلم ان السلف اختلفوا فى ان ابوى النبى صلى اللّه عليه وسلم هل ماتا على الكفر او لا ذهب الى الثانى جماعة متمسكين بالادلة على طهارة نسبه عليه الصلاة والسلام من دنس الشرك وشين الكفر وعبادة قريش صما وان كانت مشهورة بين الناس لكن الصواب خلافه لقول ابراهيم عليه السلام { واجنبني وبنى ان نعبد الاصنام } وقوله تعالى فى حق ابراهيم { وجعلها كلمة باقية فى عقبه } وذهب الى الاول جمع منهم صاحب التيسير حيث قال ولما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتبشير المؤمنين وانذار الكافرين كان يذكر عقوبات الكفار فقام رجل فقال يا رسول اللّه اين والدى فقال فى النار فحزن الرجل فقال عليه السلام ( ان والديك ووالدى ووالدى ابراهيم فى النار ) فنزل قوله تعالى { ولا تسئل عن اصحاب الجحيم } فلم يسألوه شيأ بعد ذلك وهو كقوله { لا تسألوه عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم } وذهب نفر من هذا الجمع بنجاتهما من النار منهم الامام القرطبى حيث قال فى التذكرة ان عائشة رضى اللّه عنها قالت حج بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم انه ظفر فنزل فقال ( يا حميراء استمسكى ) اى زمام الناقة فاستندت الى جنب البعير فمكث عنى طويلا ثم انه عاد الى وهو فرح متبسم فقلت له بأبى انت وامى يا رسول اللّه نزلت من عندى وانت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول اللّه ثم انك عدت الى وانت فرح متبسم فعماذا يا رسول اللّه فقال ( ذهبت لقبر آمنة امى فسألت اللّه ربى ان يحييها فاحياها فآمنت ) وروى ان اللّه احيى له اباه وامه وعمه ابا طالب وجده عبد المطلب قال الحافظ شمس الدين الدمشقى حبا اللّه النبى مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤفا فاحيى امه وكذا اباه ... لايمان به فضلا لطيفا فسلم فالقديم به قدير ... وان كان الحديث به ضعيفا وفى الاشباه والنظائر من مات على الكفر ابيح لعنه الا والدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لثبوت ان اللّه تعالى احياهما له حتى آمنا كذا فى مناقب الكردرى * وذكر ان النبى عليه السلام بكى يوما بكاء شديدا عند قبر ابويه وغرس شجرة يابسة وقال ( ان خضرت فهو علامة امكان ايمانهما ) فاخضرت ثم خرجا من قبرهما ببركة دعاء النبى صلى اللّه عليه وسلم واسلما ثم ارتحلا قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ومما يدل على ذلك ان اسم ابيه كان عبد اللّه واللّه من الاعلام المختصة بذاته تعالى لم يسم به صنم فى الجاهلية فان اسم بعض اصنامهم اللات وبعضها العزى انتهى كلامه وليس احياهما وايمانهما به ممتنعا عقلا ولا شرعا وقد ورد فى الكتاب احياء قتيل بنى اسرائيل واخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى وكذلك نبينا عليه السلام احيى اللّه على يديه جماعة من الموتى واذا ثبت هذا فما يمنع من ايمانهما بعد احيائهما زيادة فى كرامته وفضيلته وما روى من انه عليه السلام زار قبر امه فبكى وابكى من حوله فقال ( استأذنت فى ان استغفر لها فلم يؤذن لى واستأذنت فى ان ازور قبرها فاذن لى فزوروا القبور فانها تذكركم الموت ) فهو متقدم على احيائهما لانه كان فى حجة الوداع ولم يزل عليه السلام راقبا فى المقامات السنية صاعدا فى الدركات العلية صاعدا فى الدرجات العلية الى ان قبض اللّه روحه الطاهرة فمن الجائز ان تكون هذه درجة حصلت له عليه السلام بعد ان لم تكن فان قلت الايمان لا يقبل عند المعاينة فكيف بعد الاعادة قلت الايمان عند المعاينة ايمان يأس فلا يقبل بخلاف الايمان بعد الاعادة وقد دل على هذا { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وورد ان اصحاب الكهف يبعثون فىآخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الامة تشريفا لهم بذلك وورد مرفوعا ( اصحاب الكهف اعوان المهدى فقد اعتد بما يفعله اصحاب الكهف بعد احيائهم من الموت ) ولابدع ان يكون اللّه تعالى كتب لابوى النبى عمرا ثم قبضهما قبل استيفائه ثم اعادهما لاستيفائه تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به وتكون تلك البقية بالمدة الفاصلة بينهما لاستدراك الايمان من جملة ما اكرم اللّه تعالى به نبيه صلى اللّه عليه وسلم كما ان تأخير اصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما اكرموا به ليجوزوا شرف الدخول فى هذه الامة وذهب خاتمة الحافظ والمحدثين الامام السخاوى فى هذه المسئلة الى التوقف حيث قال فى المقاصد الحسنة بعدما اورد الشعر المذكور للحافظ الدمشقى وقد كتبت فيه جزأ والذي اراه الكف عن التعرض لهذا اثباتا ونفيا انتهى وسئل القاضى ابو بكر ابن العربى احد الائمة المالكية عن رجل قال ان آباء النبى عليه السلام فى النار فأجاب بانه ملعون لان اللّه تعالى يقول { ان الذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه فى الدنيا والآخرة } وفى الحديث ( لا تؤذوا الاحياء بسبب الاموات ) وسئل الامام الرستغفى عن قول بعض الناس ان آدم عليه السلام لما بدت منه تلك الزلة اسود منه جميع جسده فلما هبط الى الارض امر بالصيام والصلاة فصام وصلى فابيض جسده أيصح هذا القول قال لا يجوز فى الجملة القول فى الانبياء عليهم السلام بشئ يؤدى الى العيب والنقصان فيهم وقد امرنا بحفظ اللسان عنهم لان مرتبتهم ارفع وهم على اللّه اكرم وقد قال عليه السلام ( اذا ذكرت اصحابى فأمسكوا ) فلما امرنا ان لا نذكر الصحابة رضى اللّه عنهم بشئ يرجع الى العيب والنقص فلأن نمسك ونكف عن الانبياء اولى واحق فحق المسلم ان يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام ليست من الاعتقاديات فلا حظ للقلب منها واما اللسان فحقه ان يصان عما يتبادر منه النقصان خصوصا الى وهم العامة لانهم لا يقدرون على دفعه وتداركه فهذا هو البيان الشافى فى هذا الباب بطرقه المختلفة التقطته من الكتب النفيسة وقرنت كل نظير الى مثله والحمد للّه تعالى وحده ١٢٠ { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } اقناط له عليه السلام من طمعه فى اسلامهم حيث علق رضاهم عنه بما لا سبيل اليه وما يستحيل وجوده واذا لم يرضوا عنه فكيف يتبعون ملته اى دينه اى لن ترضى عنك اليهود الا بالتهود والصلاة الى قبلتهم وهى المغرب ولا النصارى الا بالتنصر والصلاة الى قبلتهم وهى المشرق ووحد الملة لان الكفر ملة واحدة وهذه حكاية لمقالتهم بان قالوا لن نرضى عنك حتى تتبع ملتنا وادعوا بتلك المقالة ان ملتهم هى الهدى لا ما سواها فامره اللّه تعالى بقوله { قل } ان يرد عليهم بطريق قصر القلب ويقول { ان هدى اللّه } الذى هو الاسلام { هو الهدى } الى الحق لا ما تدعون اليه من الملة الزائغة فانها هوى كما يعرب عنه قوله تعالى { ولئن اتبعت اهواءهم } اى آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات انفسهم وهى التى عبر عنها فيما قبل بملتهم اذ هى التى ينتمون اليها واما ما شرعه اللّه من الشريعة على لسان الانبياء عليهم السلام وهو المعنى الحقيقى للملة فقد غيروها تغييرا والاهواء جمع هوى وهو رأى عن شهوة داع الى الضلال وسمى بذلك لانه يهوى بصاحبه فى الدنيا الى كل واهية وفى الآخرة الى الهاوية وانما قال اهواءهم بلفظ الجمع ولم يقل هواهم تنبيها على ان لكل واحد هوى غير هوى الآخر ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى فلذلك اخبر انه لا يرضى الكل الا باتباع اهواء الكل واعلم ان الطريقة المشروعة تسمى ملة باعتبار ان الانبياء الذين اظهروها قد املوها وكتبوها لامتهم كما انها تسمى دينا باعتبار طاعة العباد لمن سنها وانقيادهم لحكمه وتسمى ايضا شريعة باعتبار كونها موردا للمتعطشين الى زلال ثوابه ورحمته والخطاب فى قوله ولئن اتبعت متوجه الى النبى عليه السلام فى الحقيقة وما قيل من انه تعالى حكم بعضمة الانبياء وعلم منهم انهم لا يعصون له ولا يخالفون امره ولا يرتكبون ما نهى عنه فكانت عصمتهم واجبة فلا وجه لتحذيرهم عن اتباع هوى الكفرة فوجب ان يكون التحذير متوجها الى الامة لا الى انفسهم فالجواب عنه ان التكليف والتحذير انما يعتمد على كون المكلف به محتملا ومتصورا فى ذاته من حيث تحقق ما يتوقف عليه وجوده من الآلات والقوى والامتناع الحاصل من حكمه تعالى بعصمتهم وعلمه بها امتناع بالغير وهو لا ينافى الامكان الذاتى هو شرط التكليف والتحذير { بعد الذى جاءك من العلم } اى القرآن الموحى اليك وهو حال من ضمير جاءك { مالك من اللّه } اى من جهته العزيزة وهو جواب لئن { من ولى } اى قريب ينفعك من الولى وهو القرب { ولا نصير } يدفع عنك عقابه والفرق بين الولى والنصير العموم والخصوص من وجه لان الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون اجنبيا عن المنصور كما يكون من اقرباء المنصور وهو مادة اجتماعهما وقوله من ولى مرفوع على الابتداء ولك خبره ومن صلة وقوله من اللّه منصوب المحل على انه حال لانه لما كان متقدما على قوله من ولى امتنع ان يكون صفة له ونظيره قوله لعزة موحشا طلل قديم ولما ذكر قبائح المتعنتين الطالبين للرياسة من اليهود والنصارى اتبع ذلك بمدح من ترك طريق التعنت وخب الرياسة منهم وطلب مرضاة اللّه وحسن ثواب الآخرة وآثره على الحظوظ العاجلة الفانية فقال تعالى ١٢١ { الذين آتيناهم الكتاب } يريد مؤمنى اهل الكتاب كعبداللّه بن سلام واصحابه من الذين اسلموا من اليهود وانما خصهم بذكر الايتاء لانهم هم الذين عملوا به فخصوا به والكتاب التوراة { يتلونه حق تلاوته } بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر فى معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب فى آتيناهم او من الكتاب لانهم لم يكونوا تالين له وقت الاتيان وقوله حق تلاوته نعت لمصدر محذوف دل عليه الفعل المذكور اى يتلونه تلاوة حق تلاوته واختار الكواشى كونه منصوبا على المصدرية على تقدير تلاوة حقا فان نعت المصدر اذا قدم عليه واضيف اليه نصب نصب المصادر نحو ضربت اشد الضرب بنصب اشد على المصدرية { اولئك } الموصوفون بايتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وهو مبتدأ ثان خبره قوله تعالى { يؤمنون به } اى بكتابهم دون المحرفين فان بناء الفعل على المبتدأ وان كان اسما ظاهرا يفيد الحصر مثل اللّه يستهزئ بهم { ومن يكفر به } اى بالكتاب سواء كان كفره بنفس التحريف او بغيره كالكفر بالكتاب الذى يصدقه { فاولئك هم الخاسرون } اى الهالكون المغبونون حيث اشتروا الكفر بالايمان ١٢٢ { يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمت عليكم } ومن جملتها التوراة وذكر النعمة انما يكون بشكرها وشكرها الايمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ومن ضرورة الايمان بها الايمان به صلى اللّه عليه وسلم { و } اذكروا { انى فضلتكم على العالمين } اى عالمى زمانكم ١٢٣ { واتقوا } ان لم تؤمنو { يوما } اى عذاب يوم وهو يوم القيامة { لا تجزى } تقول جزى عنى هذا الامر يجزى كما تقول قضى عنى يقضى وزنا ومعنى اى لا تقضى فى ذلك اليوم { نفس } من النفوس { عن نفس } اخرى { شيأ } من الحقوق التى لزمتها اى لا تقضى نفس ليس عليها شئ من الحقوق التى وجبت على نفس اخرى اى لا تؤخذ نفس بذنب اخرى ولا تدفع عنها شيأ واما اذا كان عليها شئ فانها تجزى وتقضى بغير اختيارها بمالها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما جاء فى حديث ابى هريرة رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( من كانت له مظلمة لاخيه من عرض او غيره فليستحلل منه اليوم قبل ان لا يكون دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح اخذ منه بقدر مظلمته وان لم يكن له حسنات اخذ من سيآت صاحبه فحمل عليه ) { ولا يقبل منها } اى من النفس الاولى { عدل } اى فداء وهو بفتح العين الفدية وهى ما يماثل الشىء قيمة وان لم يكن من جنسه والعدل بالكسر ما يساوى الشىء فى الوزن والجرم من جنسه والمعنى لا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار ولا تجد ذلك لتفتدى به وسميت الفدية عدلا لانها تعادل ما يقصد انقاذه وتخليصه يقال فداه اذا اعطى فداءه فانقذ { ولا تنفعها شفاعة } ان شفعت للنفس الثانية { ولا هم ينصرون } اى يمنعون من عذاب اللّه تعالى واعلم ان المستوجب للعذاب يخلص منه فى الدنيا باحد اربعة امور اما بان ينصره ناصر قوى فيخلصه ويدفع العذاب عنه قهرا او بان يفديه اى بان يعطى احد اشياء غير ما عليه من الحق وذلك الشىء هو الفدية وهو الفداء فانقذه به فاللّه تعالى بين هول يوم القيامة بان نفى ان يدفع العذاب احد عن احد بشىء من هذه الوجوه المحتملة فى الدنيا قال السعدى قدس سره قيامت كه نيكان باعلى رسند ... ز قعر ثرى بر ثريا رسند ترا خود بماند سر ازننك بيش ... كه كردت بر آيد عملهاىخويش برادر ز كار بدان شرم دار ... كه در روى نيكان شوى شرمسار دران روز كزفعل برسند وقول ... اولو العزم را تن بلرزد زهول بجايى كه دهشت خورد انبيا ... تو عذر كنه را جه دارى بيا ثم اعلم ان اللّه تعالى بدأ قصة بنى اسرائيل بهاتين الآيتين ففى الآية الاولى تذكير النعمة وفى الاخرى تخويف العقوبة وبهما ختم القصة مبالغة فى النصح وايذانا بان المقصود من القصة ذلك ودل قوله تعالى { ولئن اتبعت اهوائهم } على قبح الصحبة باهل الهوى والبدع والاتباع لهم فى اقوالهم وافعالهم وفى الحديث ( من اتبع قوما على اعمالهم حشر فى زمرتهم ) اى فى جماعتهم ( وحوسب يوم القيامة بحسابهم وان لم يعمل باعمالهم ) وربما يكون للانسان شركة اى فى اثم القتل والزنى وغيرهما اذا رضى به من عامل واشتد حرصه على فعله وفى الحديث ( من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها ) وحضور مجلس المعصية اذا كان لحاجة او لاتفاق جريانها بين يديه ولا يمكن دفعها فغير ممنوع واما الحضور قصدا فممنوع ومن سنة السلف الصالحين الانقطاع عن مجالس اهل اللغو واللّهو والمجانبة عن اتباع اهل الهوى والبدع وروى ان ابن المبارك رؤى فى المنام فقيل له ما فعل ربك بك فقال عاتبنى وأوقفنى ثلاثين سنة بسبب انى نظرت باللطف يوما الى مبتدع فقال انك لم تعاد عدوى فى الدين فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين والمتمسك بسنة سيد المرسلين عند فساد الخلق واختلاف المذاهب والملل كان له اجر مائة شهيد وفى الحديث ( سيأتى على الناس زمان تخلق فيه سنتى وتتجدد فيه ابدعة فمن اتبع سنتى يومئذ صار غريبا وبقى وحيدا ومن اتبع بدع الناس وجد خمسين صاحبا او اكثر ) وللصحبة تأثير عظيم كما قيل عدوى البليد الى الجليد سريعة ... والجمر يوضع فى الرماد فيخمد قال الحافظ نخست موعظه بير مجلس اين حرفست ... كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد ١٢٤ { واذ ابتلى ابراهيم } قال القرطبى فى تفسيره تفسيره بالسريانية فيما ذكره المارودى وبالعربية فيما حكى ابن عطية اب رحيم قال السهيلى وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السريانى والعربى او تقاربه فى اللفظ ألا ترى ان ابراهيم تفسيره اب رحيم لمرحمته بالاطفال ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لاطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا الى يوم القيامة وقال فى تذكرة الموتى كان اسمه ابرم فزيد فى اسمه هاء والهاء فى السريانية التفخيم والتعظيم { ربه } الضمير لابراهيم وقدم المفعول لفظا وان كان مؤخرا رتبة ووجه التقديم الاهتمام فان الذهن يتشوق ويطلب معرفة المبتلى اى واذكر وقت اختبارى ابراهيم والمقصود من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث لان الوقت مشتمل عليها فاذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا والابتلاء فى الاصل الاختبار اى تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لامر يشق عليه غالبا فعله او تركه وذلك انما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الامور واما من العليم الخبير فلا يكون الا مجازا عن تمكينه للعبد من اختيار احد الامرين ما يريد اللّه تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه بما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك كما علم الكفر من ابليس ولم يلعنه بعلمه ما لم يختبره بما يستوجب اللعنة به { بكلمات } جمع كلمة وهى اللفظ الموضوع لمعنى مفرد فيكون الكلمات عبارة عن الالفاظ المنظومة لكنها قد تطلق على المعانى التى تحتها لما بين الدال والمدلول من التضايف والمتضايفان متكافئان فى الوجود التعقلى كما فى قوله تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } اى قضية وحكمة وقوله { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى } اى للمعانى التى تبرز بالكلمات { فاتمهن } اى قام بهن حق القيام واداهن احسن التأدية من غير تفريط وتوان ولذا قيل لم يبتل احذ بهذا الدين فاقامه كله الا ابراهيم فكتب اللّه له البراءة فقال { وابراهيم الذى وفى } وفسرت الكلمات بوجوه ذكرت فى التفاسير ومنها العشر التى هى من السنة كما قال ابن عباس رضى اللّه عنهما هى عشر خصال كانت فرضا فى شرعه وهى سنة فى شرعنا خمس منها فى الرأس وهى المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وخمس فى البدن وهى الختان وحلق العانة ونتف الابط وتقليم الاظفار والاستنجاء بالماء اى غسل مكان الغائط والبول بالماء ولنذكر منها بعض ما يحتاج الى البيان فنقول فرق شعر الرأس تفريقه وتقسيمه الى نصفين وكان المشركون يفرقون اشعار رؤسهم واهل الكتاب يسدلون اى يرسلون شعورهم على الجبين ويتخذونها كالقصة وهى شعر الناصية وكان النبى عليه الصلاة والسلام يحب موافقة اهل الكتاب فيما لم ينزل فيه حكم لاحتمال ان يعملوا بما ذكر فى كتابهم ثم نزل جبريل فامره بالفرق واعلم ان اكثر حال النبى عليه الصلاة والسلام كان الارسال وحلق الرأس منه معدود ولكن الامام الغزالى كره الارسال فى زماننا لانه صار شعار العلوية فاذا لم يكن علويا كان تلبيسا وذكر فى جنايات الذخيرة امساك الجعد فى الغلام حرام لانهم انما يمسكون الجعد فى الغلام للاطماع الفاسدة وذكر ان شخصا احضر ولده بمجلس ابى بكر رضى اللّه تعالى عنه وقد حلق بعض الشعر من رأسه وابقى البعض فامر ابو بكر رضى اللّه تعالى عنه بقتله فتاب واستغفر فعفا عنه قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ليس هذا امرا بقتله فى الحقيقة بل بيان ان من فعله يستحق القتل ومثله انه ذكر فى مجلس ابى يوسف ان النبى عليه السلام كان يحب القرع فقال رجل انا لا احبه فافتى ابو يوسف بقتله فتاب ورجع فعفا عنه واما قص الشارب فهو قطعه بالمقص اى المقراض وكان عليه السلام يقص شاربه كل جمعة قبل ان يخرج الى صلاة الجمعة قال النووى المختار فيه ان يقص حتى يبدو طرف الشفة ويكون مثل الحاجب وفى الاحياء ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر رضى اللّه تعالى عنه وغيره لان ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام وتوفير الشارب كتوفير الاظافير مندوب للمجاهد فى دار الحرب وان كان قطعهما من الفطرة وذلك ليكون اهيب فى عين العدو والسنة تقصير الشارب فحلقه بدعة كحلق اللحية وفى الحديث ( جزوا الشوارب واعفوا اللحى ) الجز القص والقطع والاعفاء التوفير والترك على حالها وحلق اللحية قبيح بل مثلة وحرام وكما ان حلق شعر الرأس فى حق المرأة مثلة منهى عنها وتشبه بالرجال وتفويت للزينة قال الفقهاء اللحية فى وقتها جمال وفى حلقها تفويته على الكمال ومن تسبيح الملائكة سبحان من زين الرجال باللحى وزين النساء بالذوائب وفى الكشاف فى مقام مدح الرجال عند قوله تعالى { الرجال قوامون على النساء } وهم اصحاب اللحى والعمائم قال فى نصاب الاحتساب ومن الاكساب التى يحتسب على اربابها حلق لحى الرجال ورأس النساء تشبها بالرجال ولا بأس بأخذ الزائد على القبضة من اللحية لانه عليه السلام كان يأخذ من لحيته طولا وعرضا اذا زاد على قدر القبضة فان الطول المفرط يشوه الحلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنسبة اليه فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية ويكره نتف الشيب كما يفعله البعض فى زماننا كرها للشيب واراءة للشباب : قال الحافظ سواد نامه موى سياه جون طى شد ... بياض كم نشود كر صد انتخاب رود يسود اعلاها ويبيض اصلها ... ولا خير فى الاعلى اذا فسد الاصل واما الختان فهو قطع الجلد الزائدة من الذكر وجمهور العلماء على ان ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الاسلام التى لا يسع تركها فى الرجال الا ان يولد الصبى مختونا وقد ولد الانبياء كلهم مختونين مسرورين اى مقطوعى السرة كرامة لهم الا ابراهيم خليل اللّه فانه ختن نفسه ببلدة قدوم بالتخفيف والتشديد وهو ابن مائة وعشرين او ثمانين ليست بسنته بعده واختلفوا فى الختان قيل لا يختن حتى يبلغ لانه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ وقيل اذا بلغ عشرا وقيل تسعا وقيل فيما بين سبع سنين الى عشر قال الحدادى المستحب فى وقت الختان من اليوم السابع من ولادته الى عشر سنين ويكره الترك الى وقت البلوغ وتوقف ابو حنيفة فى وقته واستحب العلماء فى الرجل الكبير يسلم ان يختتن وان بلغ ثمانين وعن الحسن انه كان يرخص للشيخ الذى يسلم ان لا يختتن ولا يرى به بأسا ولا يرد شهادته وذبيحته وحجه وصلاته قال ابن عبد البر وعامة اهل العلم على هذا واما تقليم الاظفار فهو قصها والقلامة بالضم ما يزال منها وندب قص الاظفار لانه ربما يجنب ولا يصل الماء الى البشرة من اجل الوسخ ولا يزال جنبا ومن اجنب فبقى موضع ابرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله وفى الحديث ( من قلم اظفاره يوم الجمعة اعاذه اللّه تعالى من البلايا الى الجمعة الاخرى وزيادة ثلاثة ايام ) وفى الحديث الآخر ( من اراد ان يأمن من الفقر وشكاية العين فليقلم اظفاره يوم الخميس بعد العصر ) قال فى المقاصد الحسنة قص الاظفار لم يثبت فى كيفيته ولا فى تعيين يوم له عن النبى عليه السلام شىء وما يعزى من النظم فى ذلك لعلى رضى اللّه تعالى عنه وهو تقليمك الاظفار فيه سنة وادب ... يمنيها خوابس يسارها اوخسب فباطل عنه وقال فى محل آخر حديث ( من قص اظفاره مخالفا لم ير فى عينيه رمدا ) هو فى كلام غير واحد من الائمة ولم اجده لكن كان الحافظ الشريف الدمياطى يأثر ذلك عن بعض مشايخه ونص الامام احمد على استحبابه انتهى كلامه وذكر الامام النووى ان المستحب منه ان يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبتدئ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الابهام ثم يعود الى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها الى آخرها ثم يعود الى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر الرجل اليسرى وهكذا قرره الامام فى الاحياء وفى الحديث ( نقوا براجمكم ) وهي مفاصل الاصابع والعقد التى على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها برجمة بضم الباء والجيم وسكون الراء بينهما وهو ظهر عقدة كل مفصل فظهر العقدة يسمى برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب وذلك مما يلى طهرها وهو قصبة الاصابع فلكل اصبع برجمتان وثلاث رواجب الا الابهام فان له برجمة وراجبتين فامر بالتنقية لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة كذا فى تفسير القرطبى وعن مجاهد قال ابطأ جبرائيل عليه السلام على النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال له النبى عليه السلام ( ما حبسك يا جبريل ) قال وكيف آتيكم وانتم لا تقصرون اظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ { وما نتنزل الا بامر ربك } قال كأنه قيل فماذا قال له ربه حين الكلمات فقيل { قال انى جاعلك للناس } اى لاجل الناس { اماما } يأتمون بك فى هذه الخصال ويقتدى بك الصالحون فهو نبى فى عصره ومقتدى لكافة الناس الى قيام الساعة وقد انجز اللّه وعده فقال لمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم { ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم } ونحو ذلك فلذلك اجتمعت اهل الاديان كلهم على تعظيمه وجميع امة محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقولون فى آخر صلاتهم اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد قيل فى سببه انا لما قلنا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد قيل لنا ان ابراهيم هو الذى طلب من اللّه تعالى ان يرسل اليكم مثل هذا الرسول الذى هو رحمة للعالمين حيث قال { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } فما هديتكم فحينئذ نقول كما صليت على ابراهيم الخ ثم نلاحظ ان هذه الخيرات كلها من اللّه تعالى فنقول شكرا لاحسانه ربنا انك حميد مجيد وفى الخبر ان ابراهيم عليه السلام رأى فى المنام جنة عريضة مكتوب على اشجارها لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فسأل جبريل عنها فاخبره بالقصة فقال يا رب اجر على لسان امة محمد ذكرى فاستجاب اللّه دعاءه وضمه فى الصلاة مع محمد صلى اللّه عليه وسلم قال كأنه قيل فماذا قال ابراهيم عليه السلام عنده فقيل { قال ومن ذريتى } عطف على الكاف فى جاعلك ومن تبعيضية متعلقة بجاعل اى وجاعل بعض ذريتى اماما يقتدى به اى اجعل لكنه راعى الادب بالاحتراز عن صورة الامر وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة امامة الكل وان كانوا على الحق والذرية نسل الرجل وقد تطلق على الآباء والابناء من الذكور والاناث والصغار والكبار ومنه قوله تعالى { وآية لهم انا حملنا ذريتهم } اراد آباءهم الذين حملوا فى السفينة وتقع الذرية على الواحد كما فى قوله تعالى { رب هب لى من لدنك ذرية طيبة } يعنى ولدا صالحا { قال } اللّه استئناف ايضا { لا ينال } لا يصيب { عهدى الظالمين } يعنى ان اولادك منهم مسلمون وكافرون فلا تصل الامامة والاستخلاف بالنبوة الذى عهدت اليك من كان ظالما من اولادك وغيرهم وانما ينال عهدى من كان بريئا من الظلم لان الامام انما هو لمنع الظلم فكيف يجوز ان يكون ظالما وان جاز فقد جاء المثل السائر ( من استرعى الذئب الغنم ظلم ) قال المعتزلة وفيه دليل على ان الفاسق لا يصلح للامامة ولا يقدم للصلاة قلنا الظالم اريد به الكافر والصبر على طاعة الامام الجائر اولى من الخروج عليه لان فى منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف واراقة الدماء واطلاق ايدى السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد فى الارض وفى الآية دليل على عصمة الانبياء عليهم الصلاة والسلام من الكبائر قبل البعثة وبعدها قال ابن الشيخ فى حواشيه فيه بحث لان مدلول الآية ان الظالم ما دام ظالما لا تناله الامامة لا ان من كان ظالما فى وقت ما من الاوقات ثم تاب منه لا ينال الامامة والفرق بينهما ان الظلم الحالى يخل بالمقصود من نصب الامام وهو اخلاء وجه الارض من الظلم والفساد وحماية اموال الناس واعراضهم من تعرض الظلمة المفسدين بخلاف الظلم القديم الذى تاب عنه الظالم فانه ليس بمخل للمقصود فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له قال حضرة الشيخ افتاده افندى قدس سره لا تعطى الولاية لولد الزنى قال واشكر اللّه تعالى على ان جعلنى اول ولد ولدته امى فانه ابعد من ان يصدر الفاظ الكفر من احد ابوى قال المولى الهدائى قدس سره قلت والفقير ايضا كذلك وقال السخاوى فى المقاصد الحسنة حديث ( لا يدخل الجنة ولد زنية ) ان صح فمعناه اذا حمل بمثل عمل ابويه واتفقوا على انه لا يحمل على ظاهره وقيل فى تأويله ايضا ان المراد به من يواظب الزنى كما يقال للشهود بنوا الصحف وللشجعان بنوا الحرب ولاولاد المسلمين بنوا الاسلام انتهى كلامه ثم فى الآية اشارة الى ان من اراد ان يبلغ درجة الاخيار ليقتدى به فليلازم التعب وجهد النفس فى طاعة اللّه تعالى : قال السعدى جويوسف كسى درصلاح وتميز ... بسى ساله بايد كه كردد عزيز ١٢٥ { واذ جعلنا البيت } اى واذكر يا محمد وقت تصييرنا الكعبة المعظمة { مثابة } كائنة { للناس } اى مباءة ومرجعا للحجاج والمعتمرين يتفرقون عنه ثم يثوبون اليه اى يرجع اليه اعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرة بعد اخرى او يرجع امثالهم واشباههم فى كونهم وفد اللّه وزوار بيته فانهم لما كانوا اشباها للزائرين اولا كان ما وقع منهم من الزيادة ابتداء بمنزلة عود الاولين فتعريف الناس للعهد الذهنى { وامنا } موضع امن فان المشركين كانوا لا يتعرضون لسكان الحرم ويقولون البيت بيت اللّه وسكانه اهل اللّه بمعنى اهل بيته وكان الرجل يرى قاتل ابيه فى الحرم لا يتعرض له ويتعرضون لمن حوله وهذا شئ توارثوه من دين اسماعيل عليه السلام فبقوا عليه الى ايام النبى عليه السلام او يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث ان الحج يجب ما قبله اى يقطع ويمحو ما وجب قبله من حقوق اللّه تعالى الغير المالية مثل كفارة اليمين واما حقوق العباد فلا يجبها الحج كذا فى حواشى ابن الشيخ ولكن روى ان اللّه تعالى استجاب دعاء النبى صلى اللّه عليه وسلم ليلة المزدلفة فى الدماء والمظالم كذا فى الكافى وتفسير الفاتحة للفنارى وغيرهما { واتخذوا } اى وقلنا اتخذوا على ارادة القول لئلا يلزم عطف الانشاء على الخبار { من مقام ابراهيم مصلى } اى موضع الصلاة ومن للتبعيض ومقام ابراهيم الحجر الذى فيه اثر قدميه او الموضع الذى كان فيه حين قام عليه ودعا الناس الى الحج او حين رفع بناء البيت والذى يسمى اليوم مقام ابراهيم هو موضع ذلك الحجر روى انه لما اتى ابرهيم باسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة واتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج اسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر استأذن ابراهيم سارة فى ان يأتى هاجر فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل فقدم ابراهيم وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت اسماعيل فقال لامرأته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وكان اسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها ابراهيم هل عندك ضيافة قالت ليست عندى وسألها عن عيشهم فقالت نحن فى ضيق وشدة فشكت اليه فقال لها اذا جاء زوجك فاقرأيه السلام وقولى له فليغير عتبة بابه والمراد ليطلقك فانك لا تصلحين له امرأة وذهب ابراهيم فجاء اسماعيل فوجد ريح ابيه قال لامرأته هل جاءك احد قالت جاءنى شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشانه وقال فما قال لك قالت قال أقرئى زوجك السلام وقولى له فليغير عتبة بابه قال ذلك ابى وقد وقد امرنى ان افارقك الحقى باهلك فطلقها وتزوج منهم اخرى فلبث ابراهيم ما شاء اللّه ان يلبث ثم استأذن سارة فى ان يزور اسماعيل فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل فجاء ابراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيل فقال لامرأته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وهو يجيئ الآن ان شاء اللّه فانزل رحمك اللّه قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن واللحم وسألها عن عيشهم قالت نحن فى خير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز برّ او شعير تمر لكانت اكثر ارض اللّه برّا او شعيرا او تمرا وقالت له انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الايمن فوضع قدمه عليه وهو راكب فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولته الى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقى اثر قدميه عليه وقال لها اذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولى له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء اسماعيل وجد ريح ابيه فقال لامرأته هل جاءك احد قالت نعم جاء شيخ احسن الناس وجها واطيبهم ريحا فقال لى كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذاك ابراهيم وانت عتبة بابى امرنى ان امسكك ثم لبث عنهم ما شاء اللّه ثم جاء بعد ذلك واسماعيل يبرى نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما رآه قام اليه فصنع كما يصنع الولد بالوالد ثم قال يا اسماعيل ان اللّه امرنى بامر أتعيننىعليه قال اعينك عليه قال امرنى ان ابنى ههنا بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل اسماعيل يأتى بالحجارة وابراهيم يبنى فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام ابراهيم على حجر المقام وهو يبنى واسماعيل يناوله الحجر وهما يقولان { ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم } ثم لما فرغ من بناء الكعبة قيل له اذن فى الناس بالحج فقال كيف انادى وانا بين الجبال ولم يحضرنى احد فقال اللّه عليك النداء وعلىّ البلاغ فصعد ابا قبيس وصعد هذا الحجر وكان قد خبئ فى ابى قبيس ايام الطوفان فارتفع هذا الحجر حتى علا كل حجر فى الدنيا وجمع اللّه له الارض كالسفرة فنادى يا معشر المسلمين ان ربكم بنى لكم بيتا وامركم ان تحجوه فأجابه الناس من اصلاب الآباء وارحام الامهات فمن اجابه مرة حج مرة ومن اجابه عشرا حج عشرا وفى الحديث ( ان الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولوا مماسة ايدى المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ) والمراد منهما الحجر الاسود والحجر الذى قام عليه ابراهيم عند بناء البيت { وعهدنا الى ابراهيم واسمعيل } اى امرناهما امرا مؤكدا ووصينا اليهما فان العهد قد يكون بمعنى الامر والوصية يقال عهد اليه اى امره ووصاه ومنه قوله تعالى { ألم اعهد اليكم } وانما سمى اسماعيل لان ابراهيم كان يدعو الى اللّه ان يرزقه ولدا ويقول اسمع يا ايل وايل هو اللّه فلما رزق سماه به { ان طهرا بيتى } اى بان طهراه من الاوثان والانجاس وما يليق به والمراد احفظاه من ان ينصب حوله شئ منها واقراه على طهارته كما فى قوله تعالى { ولهم فيها ازواج مطهرة } فانهن لم يطهرن من نجس بل خلقهن طاهرات كقولك للخياط وسع كم القميص فانك لا تريد ان تقول ازل ما فيه من الضيق بل المراد اصنعه ابتداء واسع الكم { للطائفين } الزائرين حوله { والعاكفين } المجاورين الذين عكفوا عنده اى اقاموا لا يرجعون وهذا فى اهل الحرم والاول فى الغرباء القادمين الى مكة للزيارة والطواف وان كان لا يختص بهم الا ان له مزيد اختصاص بهم من حيث ان مجاوزة الميقات لا تصح لهم الا بالاحرام { والركع السجود } اى المصلين جمع راكع وساجد لان القيام والركوع والسجود من هيآت المصلى ولتقارب الركوع والسجود ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما والجلوس فى المسجد الحرام ناظرا الى الكعبة من جملة العبادات الشريفة المرضية كما قال عليه السلام ( ان للّه تعالى فى كل يوم عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين واربعون للمصلين وعشرون للناظرين ) واعلم انه تعالى لما قال { ان طهرا بيتى } دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى فيكون حكمها حكمه فى التطهير والنظافة وانما خص الكعبة بالذكر لانه لم يكن هناك غيرها وروى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه انه سمع صوت رجل فى المسجد فقال ما هذا أتدرى اين انت وفى الحديث ( ان اللّه اوحى الى يا اخا المنذرين يا اخا المرسلين انذر قومك ان لا يدخلوا بيتا من بيوتى الا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وايدى نقية وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتا من بيوتى ما دام لاحد عندهم مظلمة فانى ألعنه ما دام قائما بين يدى حتى يرد تلك الظلامة الى اهلها فأكون سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويكون من اوليائى واصفيائى ويكون جارى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) انتهى ثم اعلم ان البيت الذى شرفه اللّه باضافته الى نفسه وهو بيت القلب فى الحقيقة يأمر اللّه تعالى بتطهيره من دنس الالتفات الى ما سواه فانه منظر للّه كما قيل دل بدست آور كه حج اكبرست ... از هزاران كعبه يك دل بهترست كعبه بنياد خليل آزرست ... دل نظر كاه جليل اكبرست فلا بد من تصفيته حتى تعكف عنده الانوار الآلهية والاسرار الرحمانية وتنزل السكينة والوقار فعند وصول العبد الى هذه الرتبة فقد سجد لربه حقيقة وركع وناجى مع اللّه بسره ١٢٦ { واذ قال ابراهيم } اى واذكر يا محمد اذ دعا ابراهيم فقال يا { رب اجعل هذا } المكان وهو الحرم { بلدا آمنا } ذا امن يأمن فيه اهله من القحط والجدب والخسف والمسخ والزلازل والجنون والجذام والبرص ونحو ذلك من المثلات التى تحل بالبلاد فهو من باب النسب اى بلدا منسوبا الى الامن كلابن وتامر فانهما لنسبة موصوفهما الى مأخوذهما كأنه قيل لبنىّ وتمرىّ فالاسناد حقيقى او المعنى بلدا آمنا اهله فيكون من قبيل الاسناد المجازى لان الامن الذى هو صفة لاهل البلد حقيقة قد اسند الى مكانهم للملابسة بينهما وكان هذا الدعاء فى اول ما قدم ابراهيم عليه السلام مكة لانه لاما اسكن اسماعيل وهاجر هناك وعاد متوجها الى الشام تبعته هاجر فجعلت تقول الى من تكلنا فى هذا البلقع اى المكان الخالى من الماء والنبات وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت اللّه امرك بهذا فقال نعم قالت اذا لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى اذا استوى على ثنية كداء اقبل على الوادى فقال { رب انى اسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع } الى آخر الآية { وارزق اهله من الثمرات } جمع ثمرة وهى المأكولات مما يخرج من الارض والشجر فهو سؤال الطعام والفواكه وقيل هى الفواكه وانما خص هذا بالسؤال لان الطعام المعهود مما يكون فى كل موضع واما الفواكه فقد تندر فسأل لاهله الامن والسعة مما يطيب العيش ويدوم فاستجاب له فى ذلك لما روى انه لما دعا هذا الدعاء امر اللّه جبريل بنقل قرية من قرى فلسطين كثيرة الثمار اليها فاتى فقلعها وجاء بها وطاف بها حول البيت سبعا ثم وضعها على ثلاث مراحل من مكة وهى الطائف ولذلك سميت به ومنها اكثر ثمرات مكة ويجئ اليه ايضا من الاقطار الشاسعة حتى انه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد { من آمن منهم باللّه واليوم الآخر } بدل من اهله والمعنى وارزق المؤمنين خاصة { قال } اللّه تعالى { ومن كفر } معطوف على محذوف اى ارزق من آمن ومن كفر قاس ابراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الامامة حيث سأل الرزق لاجل المؤمنين خاصة كما خص اللّه تعالى الامامة بهم فى قوله تعالى { ا ينال عهدى الظالمين } فلما رد سؤاله الامامة فى حق ذريته على الاطلاق حسب ان يرد سؤاله الرزق فى حق اهل مكة على الاطلاق فلذلك قيد بالايمان تأدبا بالسؤال الاول فنبه سبحانه على ان الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الامامة والتقدم { فامتعه } اى امد له ليتناول من لذات الدنيا اثباتا للحجة عليه { قليلا } اى تمتيعا قليلا فان الدنيا بكليتها قليلة وما يتمتع الكافر به منها قليل من القليل فان نعتمه تعالى فى الدنيا وان كانت كثيرة باضافة بعضها الى بعض فانها قليلة باضافتها الى نعمة الآخرة وكيف لا يقل ما يتناهى بالاضافة الى ما لا يتناهى فقليلا صفة مصدر محذوف ويجوز ان يكون صفة ظرف محذوف اى امتعه زمانا قليلا وهو مدة حياته { ثم اضطره الى عذاب النار } الاضطرار فى اللغة حمل الانسان على ما يضره وهو فى المتعارف حمل الانسان بكفره على ان يفعل ما اكره عليه باختياره ترجيحا لكونه اهون منه فلا يكون اضطرارهم الى عذاب النار مستعملا فى معناه العرفى فهو مستعار للزهم والصاقهم به بحيث يتعذر عليهم التخلص منه كما قال تعالى { يوم يسحبون فى النار على وجوههم } فانه صريح فى ان لا مدخل لهم فى لحوق عذاب الآخرة بهم ولا اختيار الا انهم سموا مضطرين اليه مختارين اياه على كره تشبيها لهم بالمضطر الذى لا يملك الامتناع عما اضطر اليه فالمعنى الزه اليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم بحيث لا يمكنه الامتناع منه { وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف اى بئس المرجع الذى يرجع اليه للاقامة فيه النار او عذابها فللعبد فى هذه الدنيا الفانية الامهال اياما دون الاهمال اذ كل نفس تجزى بما كسبت ولا تغرنك الزخارف الدنيوية فان للمطيع والعاصى نصيبا منها وليس ذلك من موجبات الرفعة فى الآخرة : قال الحافظ بمهلتى كه سبهرت دهد ز راه مرو ... تراكه كفت كه آن زال ترك دستان كفت قال تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قال سهل فى معنى هذه الآية نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فاذا ركنوا الى النعمة وحجبوا عن المنعم اخذوا وقال ابو العباس بن عطاء يعنى كلما احدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وانسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة فعلى العاقل ان لا يغتر بالزخارف الدنيوية بل لا يفرح بشئ سوى اللّه تعالى فان ما خلا اللّه باطل وزائل والاغترار بالزائل الفانى ليس من قضية كمال العقل والفهم والعرفان فان قلت ما الحكمة فى امهال اللّه العصاة فى الدنيا قيل ان اللّه تعالى امهل عباده ولم يأخذهم بغتة فى الدنيا ليرى العباد سبحانه وتعالى ان العفو والاحسان احب اليه من الاخذ والانتقام وليعلموا شفقته وبره وكرمه ولهذا خلق لانار كرجل يضيف الناس ويقول من جاء الى ضيافتى اكرمته ومن لم يجئ فليس عليه شئ ويقول مضيف آخر من جاء الى اكرمته ومن لم يجئ ضربته وحبسته ليتبين غاية كرمه وهو اكمل واتم من الكرم الاول واللّه تعالى دعا الخلق الى دعوته بقوله { واللّه يدعوا الى دار السلام } ثم دفع السيف الى رسوله فقال من لم يجب ضيافتى فاقتله فعلى العاقل ان يجيب دعوة اللّه ويرجع الى اللّه بحسن اختياره فانه هو المقصود والكعبة الحقيقية وكل القوافل سائرة اليه واعلم ان البلد هو الصورة الجسمانية والكعبة القلب والطواف الحقيقى هو طواف القلب بحضرة الربوبية وان البيت مثال ظاهر فى عالم الملك لتلك الحضرة التى لا تشاهد بالبصر وهو فى عالم الملكوت كما ان الهيكل الانسانى مثال ظاهر فى عالم الشهادة للقلب الذى لا يشاهد بالبصر وهو فى عالم الغيب والذى يقدر من العارفين على الطواف الحقيقى القلبى هو الذى يقال فى حقه ان الكعبة تزوره وفى الخبر ( ان للّه عبادا تطوف بهم الكعبة ) وفرق بين من يقصد صورة البيت وبين يقصد رب البيت وروى ان عارفا من اولياء اللّه تعالى قصد الحج وكان له ابن فقال ابنه الى اين تتقصد فقال الى بيت اللّه فظن الغلام ان من يرى البيت يرى رب البيت قال يا ابى لم لا تحملنى معك فقال انت لا تصلح لذلك فبكى الغلام فحمله معه فلما بلغا الميقات اجرما ولبيا ودخلا الحرم فلما شوهد البيت تحرم الغلام عند رؤيته فخر ميتا فدهش والده وقال اين ولدى وقطعة كبدى فنودى من زاوية البيت انت طلبت البيت فوجدته وهو طلب رب البيت فوجد رب البيت فرفع الغلام من بينهم فهتف هاتف انه ليس فى حيز ولا فى الارض ولا فى الجنة بل هو فى مقعد صدق عند مليك مقتدر فمن اعرض سره عن الجهة فى توجهه الى اللّه صار الحق قبلة له فيكون هو قبلة الجميع كآدم عليه السلام كان قبلة الملائكة لانه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه من كسوة جمالية وجلاله قال الشيخ العطار قدس سره فى منطق الطير حق تعالى كفت آدم غير نيست ... كور جشمى و ترا اين سير نيست شد نفخت فيه من روح آشكار ... سر جانان كشت بر خاك استوار وقال فى محل آخر از دم حق آمدى آدم تويى ... اصل كرمنا بنى آدم تويى قبله كل آفر ينش آمدى ... باى تا سر عين بينش آمدى اللّهم اوصلنا الى العين وخلصنا من البين ١٢٧ { واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية حيث عبر بلفظ المضارع عن الرفع الواقع فى الزمان المتقدم على زمان نزول الوحى بان يقدر ذلك الرفع السابق واقعا فى الحال كأنك تصوره للمخاطب وتريه على وجه المشاهدة والعيان والقواعد جمع قاعدة وهى فى الاصل صفة بمعنى الثابتة ثم صارت بالغلبة من قبيل الاسماء بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر ولعل لفظ القعود حقيقة فى الهيئة المقابلة للقيام ومستعار للثبات والاستقرار تشبيها له بها فى ان كلا منهما حالة مباينة للانتقال والنزول وقوله من البيت حال من القواعد وكلمة من ابتدائية لا بيانية لعدم صحة ان يقال التى هى البيت فان قلت رفع الشئ ان يفصل عن الارض ويجعل عاليا مرتفعا والاساس ابدا ثابت على الارض فما معنى رفعه قلت المراد برفع الاساس البناء عليه وعبر عن البناء على الاساس برفعه لان البناء ينقله من هيئة الانخفاض الى هيئة الارتفاع فيوجد الرفع حقيقة الا ان اساس البيت واحد وعبر عنه بلفظ القواعد باعتبار اجزائه كأن كل جزء من الاساس اساس لما فوقه والمعنى واذكر يا محمد وقت رفع ابراهيم اساس البيت اى الكبعة { واسمعيل } ولده وكان له اربعة بنين اسماعيل واسحق ومدين ومداين وهو عطف على ابراهيم وتأخيره عن المفعول مع ان حق ما عطف على الفاعل ان يقدم على المفعول للايذان بان الاصل فى الرفع هو ابراهيم واسماعيل تبع له قيل انه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها واعلم ان رفع الاساس الذي هو البناء عليه يدل على ان البيت كان مؤسسا قبل ابراهيم وانه انما بنى على الاساس واختلف الناس فيمن بنى البيت اولا وأسسه فقيل هو الملائكة وذلك ان اللّه تعالى لما قال { انى جاعل فى الارض خليفة } قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فغضب عليهم فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة اطواف يسترضون ربهم حتى رضى عنهم وقال لهم ابنوا لى بيتا فى الارض يتعوذ به من صخطت عليه من بنى آدم ويطوف حوله كما طفتم حول عرشى فأرضى عنهم فبنوا هذا البيت وقيل ان اللّه بنى فى السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضراحا وامر الملائكة ان يبنوا الكعبة فى الارض بحياله على قدره ومثاله وقيل اول من بنى الكعبة آدم واندرست زمن الطوفان ثم اظهرها اللّه لابراهيم عليه السلام روى عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما انه قال لما اهبط اللّه تعالى آدم من الجنة الى الارض قال له يا آدم اذهب فابن لى بيتا وطف به واذكرنى عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى فاقبل آدم يتخطى وطويت له الارض وقبضت له المفاوز فلا يقع قدمه على شئ من الارض الا صار عامرا حتى انتهى الى موضع البيت الحرام وان جبرائيل ضرب بجناحه الارض فأبرز عن الاس الثابت على الارض السابعة السفلى وقدمت اليه الملائكة بالصخر فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلا وانه بناه من خمسة اجبل طور سيناء وطور زيتاء ولبنان وهو جبل بالشام والجودى وهو جبل بالجزيرة وحراء وهو جبل بمكة وكان ربضه من حراء اى الاساس المستدير بالبيت من الصخر فهذا بناء آدم وروى ان اللّه خلق موضع البيت قبل الارض بالفى عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الارض من تحته فلما اهبط اللّه تعالى آدم الى الارض استوحش فشكا الى اللّه فانزل اللّه البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد اخضر باب شرقى وباب غربى فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم انى اهبطت لك بيتا فطف به كما يطاف حول عرشى وصل عنده كما يصلى عند عرشى وانزل الحجر وكانت ابيض فاسود من لمس الحيض فى الجاهلية فتوجه آدم من ارض الهند الى مكة ماشيا وقيض اللّه له ملكا يدله على البيت قيل لمجاهد لم لم يركب آدم من ارض الهند الى مكة قال وأى شئ كان يحمله ان خطوته مسيرة ثلاثة ايام فاتى مكة وحج البيت واقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بالفى عام قال ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما حج آدم اربعين حجة من الهند الى مكة على رجليه فبقى البيت يطوف به هو المؤمنون من ولده الى ايام الطوفان فرفعه اللّه فى تلك الايام الى السماء الرابعة يدخل كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون اليه وبعث اللّه جبرائيل حتى خبأ الحجر الاسود فى جبل ابى قبيس صيانة له من الغرق وكان موضع البيت خاليا الى زمن ابراهيم عليه السلام ثم ان اللّه امر ابراهيم ببناء بيت يذكر فيه فسأل اللّه تعالى ان يبين له موضعه فبعث اللّه السكينة لتدله على موضع البيت وهى ريح جوج لها رأسان شبه الحية وامر ابراهيم ان يبنى حيث استقر السكينة فتبعها ابراهيم حتى اتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت اى تحوت وتجمعت واستدارت كتطوى الحجفة ودورانها فقالت لابراهيم ابن على موضعى الاساس فرفع البيت هو واسماعيل حتى انتهى الى موضع الحجر الاسود فقال لابنه يا بنى ائتنى بحجر ابيض حسن يكون للناس علما فاتاه بحجر فقال ائتنى باحسن من هذا فمضى اسماعيل يطلبه فصاح ابو قبيس يا ابراهيم ان لك عندى وديعة فخذها فاذا هو بحجر ابيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة كما وجد فى بعض الروايات وانزله اللّه تعالى حين انزل البيت المعمور كما مر فاخذ ابراهيم ذلك الحجر فوضعه مكانه فلما رفع ابراهيم واسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت ان ارفعا على تربيعى فهذا بناء ابراهيم عليه السلام وروى ان ابراهيم واسماعيل لما فرغا من بناء البيت اعطاهما اللّه تعالى الخيل جزاء معجلا على رفع قواعد البيت وكانت الخيل وحشية كسائر الوحوش فلما اذن اللّه لابراهيم واسماعيل برفع القواعد قال اللّه انى معطيكما كنزا ادخرته لكما ثم اوحى الى اسماعيل ان اخرج الى اجياد فادع يأتك الكنز فخرج الى اجياد ولا يدرى ما الدعاء ولا الكنز فالهمه اللّه فدعا فلم يبق على وجه الارض فرس بارض العرب الا جاءته فامكنه من ناصيتها وذللّها له فاركبوها واعلفوها فانها ميامين وهى ميراث ابيكم اسماعيل وانما سمى الفرس عربيا لان اسماعيل هو الذى امر بدعائه وهو اتى اليه والعربى نسبة الى عربة بفتحتين وهى باحة العرب لان اباهم اسماعيل نشأ بها قيل كان ابراهيم يتكلم بالسريانية واسماعيل بالعربية وكل واحد منهما يفهم ما يقوله صاحبه ولا يمكنه التفوه به واما بنيان قريش اياه فمشهور وخبر الحية فى ذلك مذكور وكانت تمنعهم من هدمه الى ان اجتمعت قريش فعجوا الى اللّه تعالى اى رفعوا اصواتهم وقالوا لم نراع وقد اردنا تشريف بيتك وتزيينه فان كنت ترضى بذلك ولا فما بدا لك فافعل فاسمعوا خواتا فى السماء والخوات دوى جناح الطير الضخم اى صوته فاذا هم بطائر اعظم من النسر اسود الظهر ابيض البطن والرجلين فغمز مخالبه فى قفا الحية ثم انطلق بها تجر ذنبها اعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها الى اجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادى تحملها قريش على رقابها فرفعوها فى السماء عشرين ذراعا وذكر عن الزهرى انهم بنوها حتى اذا بلغوا موضع الركن اختصمت قريش فى الركن اى القبائل تلى رفعه حتى شجر بينهم فقالوا حتى نحكم اول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فاطلع عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحكموه فامر بالركن فوضع فى ثوب ثم امر سيد كل قبيلة فاعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو على البناء فرفعوا اليه الركن فاخذه من الثوب فوضعه فى مكانه قيل ان قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فاذا فيه انا اللّه ذو مكة خلقتها يوم خلقت السموات والارض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة املاك احتفاء لا تزول حتى يزول اخشباها مبارك لاهلها فى الماء واللبن وعن ابى جعفر كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وابراهيم بالارض حتى بنته قريش وعن عائشة رضى اللّه تعالى عنها سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو قال نعم قلت فلم لم يدخلوه قال ان قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك ولولا حدثانهم بالجاهلية لهدمت الكعبة فألزق بابها بالارض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة اذرع من الحجر فان قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة فهذا بناء قريش ثم لما غزا اهل الشام عبد اللّه بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم هدمها ابن الزبير وبناها على ما اخبرته عائشة فجعل لها بابين بابا يدخلون منه وبابا يخرجون منه وزاد فيه مما يلى الحجر ست اذرع وكان طولها قبل ذلك ثمانى عشرة ذراعا ولما زاد فى البناء مما يلى الحجر استقصر ما كان من طولها تسع اذرع فلما قتل ابن الزبير امر الحجاج ان يقرر ما زاده ابن الزبير فى طولها وان ينقص ما زاده من الحجر ويردها الى ما بناها قريش وان يسد الباب الذى فتحه الى جانب الغرب وروى ان هارون الرشيد ذكر لمالك بن انس انه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وان يردها الى بناء ابن الزبير لما جاء عن النبى وامتثله ابن الزبير فقال له مالك ناشدتك اللّه يا امير المؤمنين ان لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء احد منهم الا نقض البيت وبناءه فتذهب الهيبة من صدور الناس قالوا بنيت الكعبة عشر مرات بناء الملائكة وكان قبل خلق آدم عليه السلام وبناء آدم وبناء بنى آدم وبناء الخليل وبناء العمالقة وبناء جرهم وبناء قصى بن كلاب وبناء قريش وبناء عبد اللّه بن الزبير وبناء الحجاج بن يوسف وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلى ان بناءها لم يكن فى الدهر الا خمس مرات الاولى حين بناها شيث عليه الصلاة والسلام وروى فى الخبر النبوى هذا البيت خامس خمسة عشر سبعة منها فى السماء الى العرش وسبعة منها الى تخوم الارض السفلى واعلى الذى يلى العرش البيت المعمور لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت لو سقط منها بيت سقط بعضها على بعض الى تخوم الارض السابعة ولكل بيت من اهل السماء ومن اهل الارض من يعمره كما يعمر هذا البيت ذكره المحدث الكازرونى فى مناسكه وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما لما كان العرش على الماء قبل خلق السموات والارض بعث اللّه ريحا فصفقت الماء فابرزت خشبة فى موضع البيت كأنها قبة على قدر البيت اليوم فدحا اللّه سبحانه من تحتها الارض فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال فكان اول جبل وضع فيها ابو قبيس ولذلك سميت مكة بام القرى قال كعب بنى سليمان عليه السلام بيت المقدس على اساس قديم كما بنى ابراهيم الكعبة على اساس قديم وهو اساس الملائكة فى وجه الماء الى ان علا { ربنا } اى يرفعانها قائلين ربنا { تقبل منا } الدعاء وغيره من القرب والطاعات التى من جملتها ما هما بصدده من البناء وفرق بين القبول والتقبل بان التقبل لكونه على بناء التكلف انما يطلق حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق ان يقبل الا على طريق التفضل والكرم ولفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى فاختيار لفظ التقبل اعتراف منهما بالعجز والانكسار والقصور فى العمل { انك انت السميع } لجميع المسموعات التى من جملتها دعاؤنا وتضرعنا { العليم } بكل المعلومات التى من زمرتها نياتنا فى جميع اعمالنا ودل هذا القول على انه لم يقع منهما تقصير بوجه ما فى اتيان المأمور به بل بذلا فى ذلك غاية ما فى وسعهما فان المقصر المتساهل كيف يتجاسر على ان يقول بأطلق لسان وارق جنان انك انت السميع العليم * ودلت الآية ايضا على ان الواجب على مأمور بعبادة وقربة اذا فرغ منها واداها كما امر بها وبذل فى ذلك ما فى وسعه ان يتضرع الى اللّه ويبتهل ليتقبل منه وان لا يرد عليه فيضيع سعيه وان لا يقطع القول بأن من ادى عبادة وطاعة تقبل منه لا محالة اذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنى فالقبول والرد اليه تعالى ولا يجب عليه شئ ١٢٨ { ربنا واجعلنا مسلمين لك } اى مخلصين لك فالمراد بالمسلم من يجعل نفسه وذاته خالصا للّه تعالى بان يجعل التذلل والتعظيم الواقع منه للسان والاركان والجنان خالصا له تعالى ولا يعظم معه تعالى غيره ويعتقد بأن ذاته وصفاته وافعاله خالصة له تعالى خلقا وملكا لا مدخل فى شئ منها لاحد سواه او المعنى واجعلنا مستسلمين لك منقادين بالرضى بكل ما قدرت وبترك المنازعة فى احكامك فان الاسلام اذا وصل باللام الجارة يكون بمعنى الاستسلام والانقياد والرضى بالقضاء فان قلت لا شك انهما كانا مخلصين ومستسلمين فى زمان صدور هذا الدعاء منهما قلت المراد طلب الزيادة فى الاخلاص والاذعان او الثبات عليه فهذا تعليم منهما الناس الدعاء للتثبيت على الايمان فانهما لما سألا ذلك مع امنهما من زواله عنهما فكيف غيرهما مع خوفه وسألا ايضا الثبات على الانقياد فاجيبا الى ذلك حتى اسلم ابراهيم للالقاء فى النار واسماعيل للامر بالذبح { ومن ذريتنا امة مسلمة لك } اى واجعل بعض ذريتنا جماعة مخلصة لك بالعبادة والطاعة وانما خص الذرية بالدعاء مع ان الانسب بحال اصحاب الهمم لا سيما الانبياء ان لا يخصوا ذريتهم بالدعاء لكنهما خصاهم لوجهين الاول كونهم احق بالشفقة كما فى قوله تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } فدعوا لاولادهما ليكثر ثوابهما بهم وفى الحديث ( ما من رجل من المسلمين يخلف من بعده ذرية يعبدون اللّه تعالى الا جعل اللّه له مثل اجورهم ما عبد اللّه منهم عابد حتى تقوم الساعة ) والثانى انه وان كان تخصيصا صورة الا انه تعميم معنى لان صلاح اولاد الانبياء سبب وطريق لصلاح لعامة فكأنهما قالا واصلح عامة عبادك باصلاح بعض ذريتنا وخصا البعض من ذريتهما لما علما ان من ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين وطريق علمها بذلك امر ان تنصيص اللّه تعالى بذلك بقوله { لا ينال عهدى الظالمين } والاستدلال بان حكمة اللّه تعالى تقتضى ان لا يخلو العالم عن افاضل واوساط وارذال فالافاضل هم اهل اللّه الذين هم اخلصوا انفسهم للّه بالاقبال الكلى عليه والاوساط هم اهل الآخرة الذين يجتنبون المنكرات ويواظبون على الطاعات رغبة فى نيل المثوبات والارذال هم اهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون جل همتهم عمارة الدنيا وتهيئة اسبابها وقد قيل عمارة الدنيا بثلاثة اشياء احدها الزراعة والغرس والثانى الحماية والحرب والثالث جلب الاشياء من مصر الى مصر ومن اكب على هذه الاشياء ونسى الموت والبعث والحساب وسعى لعمارة الدنيا سعيا بليغا ودقق فى اعمال فكره تدقيقا عجيبا فهو متوغل فى الجهل والحماقة ولهذا قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا : وفى المثنوى اين جهان ويران شدى اندرزمان ... حرصها بيرون شدى ازمردمان استن اين عالم اى جان غفلتست ... هو شيارى اين جهان را آفتست هو شيارى زان جهانست وجو آن ... غالب آيدبست كردد اين جهان هو شيارى آفتاب وحرص يخ ... هو شيارى آب واين عالم وسخ { وارنا مناسكنا } جمع منسك بفتح السين وكسرها اى بصرنا مواضع نسكنا او عرفنا مقتدراتنا اى المواضع التى يتعلق بها النسك اى افعال الحج نحو المواقيت التى يحرم منها والموضع الذى يوقف فيه بعرفة وموضع الطواف والصفا والمروة وما بينهما من المسعى وموضع رمى الجمار ويحتمل ان يراد بالمناسك ههنا افعال الحج نفسها لا مواضعها على ان يكون المنسك مصدر لا اسم مكان ويكون جمعه لاختلاف انواعه ويكون ارنا بمعنى عرفنا لان نفس الافعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب والنسك كل ما يتعبد به الى اللّه وشاع فى اعمال الحج لكونها اشق الاعمال بحيث لا تتأتى الا بمزيد سعى واجتهاد { وتب علينا } عما فرط منا سهوا من الصغائر ومن ترك الاولى وتجاوز عن ذنوب ذريتنا من الكبائر ولعلهما قالاه هضما لانفسهما وارشادا لذريتهما فانهما لما بنيا البيت ارادا ان يسنا للناس ويعرفاهم ان ذلك البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف امكنة التفصى من الذنوب وطلب التوبة من علام الغيوب { انك انت التواب الرحيم } لمن تاب اصل التوبة الرجوع وتوبة اللّه على العبد قبوله توبته وان يخلق الانابة والرجوع فى قلب المسئ ويزين جوارحه الظاهرة بالطاعات بعد ما لوثها بالمعاصى والخطيآت وتواب من صيغ المبالغة اطلق عليه تعالى للمبالغة فى صدور الفعل منه وكثرة قبوله توبة المذنبين لكثرة من يتوب اليه ١٢٩ { ربنا وابعث فيهم } اى فى جماعة الامة المسلمة من اولادنا { رسولا منهم } اى من انفسهم فان البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبى صلى اللّه عليه وسلم فهو الذى اجيب به دعوتهما روى انه قيل له قد استجيب لك وهو فى آخر الزمان وفى الحديث ( انى عند اللّه مكتوب خاتم النبيين وان آدم لمجدل فى طينته وسأخبركم بأول امرى انى دعوة ابى ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا امى التى رأت حين وضعتنى وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام ) واراد بدعوة ابراهيم هذا فانه دعا اللّه ان يبعث فى بنى اسرائيل رسولا منهم { يتلو عليهم آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى اليه من دلائل التوحيد والنبوة { ويعلمهم } بسب قوتهم النظرية { الكتاب } اى القرآن { والحكمة } وما يكمل به نفوسهم من المعارف الحقة والاحكام الشرعية قال ابن دريد كل كلمة وعظتك او دعتك الى مكرمة او نهتك عن قبيح فهى حكمة { ويزكيهم } بحسب قوتهم العملية اى يطهرهم من دنس الشرك وفنون المعاصى سواء كانت بترك الواجبات او بفعل المنكرات ثم ان ابراهيم عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات الثلاث ختمها بالثناء على اللّه تعالى فقال { انك انت العزيز } الذى يقهر ويغلب على ما يريد { الحكيم } الذى لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو عزيز حكيم بذاته وكل ما سواه ذليل جاهل فى نفسه قال الامام الغزالى قدس سره فى شرح الاسماء الحسنى العزيز هو الخطير الذى يقل وجود مثله وتشتد الحاجة اليه ويصعب الوصول اليه فما لم تجتمع هذه المعانى الثلاثة لم يطلق العزيز فكم من شئ يقل وجوده ولكن اذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا وكم من شئ يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن اذا لم يصعب الوصول اليه لم يسم عزيزا كالشمس مثلا فانها لا نظير لها والارض كذلك والنفع عظيم فى كل واحدة منهما والحاجة شديدة اليهما ولكن لا توصفان بالعزة لانه لا يصعب الوصول الى مشاهدتهما فلا بد من اجتماع المعانى الثلاثة ثم فى كل من المعانى الثلاثة كمال ونقصان فالكمال فى قلة الوجود ان يرجع الى واحد اذ لا اقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا الا اللّه تعالى فان الشمس وان كانت واحدة فى الوجود فليست واحدة فى الامكان فيمكن وجود مثلها والكمال فى النفاسة وشدة الحاجة ان يحتاج اليه كل شئ فى كل شئ حتى فى وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك الكمال الا للّه تعالى فهو العزيز المطلق الحق الذى لا يوازيه فيه غيره والعزيز من العباد من يحتاج اليه عباد اللّه فى اهم امورهم وهى الحياة الاخروية والسعادة الابدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب ادراكه وهذه رتبة الانبياء عليهم السلام ويشاركهم فى العز من يتفرد بالقرب من درجتهم فى عصره كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد بقدر علو رتبته عن سواه فى النيل والمشاركة وبقدر عنائه فى ارشاد الخلق والحق ذو الحكمة والحكمة عبارة عن معرفة افضل الاشياء باجل العلوم واجل الاشياء هو اللّه تعالى ولا يعرف كنه معرفته غيره فهو الحكيم المطلق لانه يعلم اجل الاشياء باجل العلوم اذ اجل العلوم هو العلم الازلى الدائم الذى لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق اليها خفاء وشبهة ولا يتصف بذلك الا علم اللّه تعالى وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيما وكمال ذلك ايضا ليس الا للّه تعالى فهو الحكيم المطلق ومن عرف جميع الاشياء ولم يعرف اللّه تعالى لم يستحق ان يسمى حكيما لانه لم يعرف اجل الاشياء وافضلها والحكمة اجل العلوم وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم ولا اجل من اللّه ومن عرف اللّه فهو حكيم وان كان ضعيف المنة فى سائر العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها الا ان نسبة حكمة العبد الى حكمة اللّه تعالى كنسبة معرفته الى معرفته بذاته وشتان بين المعرفتين فشتان بين الحكمتين ولكنه مع بعده عنه فهو انفس المعارف واكثرها خيرا ومن اوتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وما يتذكر الا اولوا الالباب نعم من عرف اللّه كان كلامه مخالفا لكلام غيره فانه قلما يتعرض للجزئيات بل يكون كلامه جمليا ولا يتعرض لمصالح العاجلة بل يتعرض لما ينفع فى العاقبة ولما كانت الكلمات الكلية اظهر عند الناس من احوال الحكيم من معرفته باللّه ربما اطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك الكلمات الكلية ويقال للناطق بها حكيم وذلك مثل قول سيد الانبياء عليه السلام. رأس الحكمة مخافة اللّه. الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه. ما قل وكفى خير مما كثر والهى. السعيد من وعظ بغيره. القناعة مال ينفد. الصبر نصف الايمان. اليقين الايمان كله. فهذه الكلمات وامثالها تسمى حكمة وصاحبها يسمى حكيما انتهى كلام الغزالى ثم ان فى الآية اشارة الى ان فى ارسال الرسل حكمة اى مصلحة وعاقبة حميدة لان عمارة الظاهر وانارة الباطن ونظام العالم بهم لا بغيرهم ولورثتهم من الاولياء الكاملين حظ اوفى فى باب التزكية فلا بد للعبد من دليل ومرشد يهتدى به الى مقصوده ومن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان : قال الحافظ بكوى عشق منه بى دليل راه قدم ... كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد والمرشد الكامل يزكى نفس السالك باذن اللّه ويطهرها من دنس الالتفات الى ما سوى اللّه ويتلو عليه الآيات الانفسية والآفاقية ليكون من الموقنين ويغتنم النعيم الروحانى ويدخل فى زمرة الصديقين فقوله تعالى { ويزكيهم } يشير الى السلوك والتسليك فاحفظ هذا وليكن على ذكر منك اللّهم احفظنا من الموانع فى طريق الوصول اليك فان كل رجاء فى حيز القبول لديك ١٣٠ { ومن يرغب عن ملة ابراهيم } من استفهامية قصد بها الانكار والتقريع ورغب فى الشىء اذا اراده ورغب عنه اذا تركه اى لا يترك دين ابراهيم احد ولا يعرض عن شريعته وطريقته { الا من سفه نفسه } اى اذلها وجعلها مهينا حقيرا فانتصاب نفسه على انه مفعول به روى ان عبد اللّه ابن سلام دعا ابنى اخيه سلمة ومهاجرا الى الاسلام فقال لهما قد علمتما ان اللّه تعالى قال فى التوراة انى باعث من ولد اسماعيل نبيا اسمه احمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وابى مهاجر فانزل اللّه هذه الآية { ولقد اصطفيناه فى الدنيا } اى وباللّه لقد اخترنا ابراهيم فى الدنيا من بين سائر الخلق بالنبوة والحكمة { وانه فى الآخرة } متعلق بقوله { لمن الصالحين } اى من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح فمن كان صفوة العباد فى الدنيا مشهودا له فى الآخرة بالصلاح كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عن ملته الا سفيه اى فى اصل خلقته او متسفه يتكلف السفاهة بمباشرة افعال السفهاء باختيار فيذل نفسه بالجهل والاعراض عن النظر والتأمل فقوله { وانه فى الآخرة لمن الصالحين } بشارة له فى الدنيا بصلاح الخاتمة ووعد له بذلك وكم من صالح فى اول حاله ذهب صلاحه فى مآله وكان فى الآخرة لعذابه ونكاله كبلعم وبرصيصا وقارون وثعلبة ١٣١ { اذ قال له } ظرف لاصطفيناه وتعليل له اى اخترناه فى وقت قال له { ربه اسلم } اى اخلص دينك لربك واستقم على الاسلام واثبت عليه وذلك يحن خرج من الغار ونظر الى الكواكب والقمر والشمس فألهمه اللّه الاخلاص { قال اسلمت لرب العالمين } اى اخلصت دينى له كقوله { انى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض } الآية وقد امتثل ما امر به من الاخلاص والاستسلام واقام على ما قال فسلم القلب والنفس والولد والمال ولما قال له جبريل حين القى فى النار هل لك من حاجة فقال أما اليك فلا فقال ألا تسأل ربك فقال حبسى بسؤالى علمه بحالى قال اهل التفسير ان ابراهيم ولد فى زمن النمرود بن كنعان وكان النمرود اول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس الى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له انه يولد فى بلدك فى هذه السنة غلام يغير دين اهل الارض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه قالوا فامر بذبح كل غلام يولد فى ناحيته فى تلك السنة فلما دنت ولادة ام ابراهيم واخذها المخاض خرجت هاربة مخافة ان يطلع عليها فيقتل ولدها فولدته فى نهر يابس ثم لفته فى خرقة ووضعته فى حلفاء وهو نبت فى الماء يقال له بالتركى ( حصير قمشى ) ثم رجعت فأخبرت زوجها بانها ولدت وان الولد فى موضع كذا فانطلق ابوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا اى بيتا فى الارض كالمغارة فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت امه تختلف اليه فترضعه وكان اليوم على ابراهيم فى الشباب والقوة كالشهر فى حق سائر الصبيان والشهر كالسنة فلم يمكث فى المغارة الا خمسة عشر شهرا او سبع سنين او اكثر من ذلك فلما شب ابراهيم فى السرب قال لامه من ربى قالت انا قال فمن ربك قالت ابوك قال فمن رب ابى قالت اسكت ثم رجعت الى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذى كنا نحدث انه يغير دين اهل الارض فانه ابنك ثم اخبرته بما قال فاتى ابوه آزر قوال له ابراهيم يا أبتاه من ربى قال امك قال فمن رب امى قال انا قال فمن ربك قال النمرود قال فمن رب النمرود فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فرأى السماء وما فيها من الكواكب فتفكر فى خلق السموات والارض فقال ان الذين خلقنى ورزقنى واطعمنى وسقانى رب الذى مالى اله غيره ثم نظر فى السماء فرأى كوكبا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره ينظر اليه حتى غاب فلما افل قال لا احب الآفلين ثم رأى القمر ثم الشمس فقال فيهما كما قال فى حق الكواكب ثم انهم اختلفوا فى قوله ذلك فارجاه بعضهم على الظاهر وقالوا كان ابراهيم فى ذلك الوقت مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه اللّه اليه وارشده فلم يضره ذلك فى الاستدلال وايضا كان ذلك فى حال طفوليته قبل ان يجرى عليه القلم فلم يكن كفرا وانكر الآخرون هذا القول وقالوا كيف يتصور من مثله ان يرى كوكبا ويقول هذا ربى معتقدا فهذا لا يكون ابدا ثم اولوا قوله ذلك بوجوه مذكورة فى سورة الانعام للامام محيى السنة والحاصل ان ابراهيم مستسلم للرب الكريم وانه على الصراط المستقيم لا يرغب عن طريقته الا من سفه نفسه اى لم يتفكر فيها كما تفكر ابراهيم فى الانفس والآفاق قال تعالى { وفى انفسكم أفلا تبصرون } والسفاهة الجهل وضعف الرأى وكل سفيه جاهل وذلك ان من عبد غير اللّه فقد جهل نفسه لانه لم يعرف اللّه خالقها وقد جاء فى الحديث ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) وفى الاخبار ( ان اللّه تعالى اوحى الى داود اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفنى بالقوة والقدرة والبقاء ) وفى المثنوى جيست تعظيم خدا افراشتن ... خويشتن را خاك وخوارى داشتن جيست توحيد خدا آموختن ... خويشتن را بيش واحد سوختن هستيت درهست آن هستى نواز ... همجو مس در كيميا اندر كداز جملة معشوقست وعاشق برده ... زنده معشوقست وعاشق مرده ١٣٢ { ووصى } لما كمل ابراهيم عليه السلام فى نفسه كمل غيره بالتوصية وهو تقديم ما فيه خير وصلاح من قول او فعل الى الغير على وجه التفضل والاحسان سواء كان امرا دينيا او دنيويا { بها } اى بالملة المذكورة فى قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة ابراهيم } { ابراهيم بنيه } اى اولاده الذكور الثمانية عند البعض اسماعيل وامه هاجر القبطية واسحق وامه سارة وستة امهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها ابراهيم بعد وفاة سارة وهم مدين ومداين وزمران ويقشان ويشبق ونوح { ويعقوب } رفع عطف على ابراهيم اى وصى يعقوب ايضا وهو ابن اسحق بن ابراهيم بنيه الاثنى عشر روميل وشمعون ولاوى ويهودا ويستسوخور وزبولون وزوانا ونفتونا وكوزا واوشير وبنيامين ويوسف وسمى يعقوب لانه مع اخيه عيصو كانا توأمين فتقدم عيصو فى الخروج من بطن امه وخرج يعقوب على اثره آخذا بعقبه وذلك ان ام يعقوب حملت فى بطن واحد بولدين توأمين فلما تكامل عدة اشهر الحمل وجاء وقت الوضع تكلما فى بطنها وهى تسمع فقال احدهما للآخر طرق لى حتى اخرج قبلك وقال الآخر لئن خرجت قبلى لاشقن بطنها حتى اخرج من خصرها فقال الآخر اخرج قبلى ولا تقتل امى قال فخرج الاول فسمته عيصو لانه عصاها فى بطنها وخرج الثانى وقد امسك بعقبه فسمته يعقوب فنشأ عيصو بالغلظة والفظاظة صاحب صيد وقنص ويعقوب بالرحمة اللين صاحب زرع وماشية وروى انهما ماتا فى يوم واحد ودفنا فى قبر واحد قيل عاش يعقوب مائة وسبعا واربعين سنة ومات بمصر واوصى ان يحمل الى الارض المقدسة ويدفن عند ابيه اسحق فحمه يوسف فدفنه عنده { يا بنى } على اضمار القول عند البصريين تقديره وصى وقال يا بنى وذلك لان يا بنى جملة والجملة لا تقع مفعولا الا لافعال القلوب او فعل القول عندهم { ان اللّه اصطفى لكم الدين } اى دين الاسلام الذى هو صفوة الاديان ولا دين عنده غيره { فلا تموتن } اى لا يصادفكم الموت { الا وانتم مسلمون } اى مخلصون بالتوحيد محسنون بربكم الظن وهذا نهى عن الموت فى الظاهر وفى الحقيقة عن ترك الاسلام لان الموت ليس فى ايديهم وذلك حين دخل يعقوب مصر فرأى اهلها يعبدون الاصنام فاوصى بنيه بان يثبتوا على الاسلام فان موتهم لا على حال الثبات على الاسلام موت لا خير فيه وانه ليس بموت السعداء وان من حق هذا الموت ان لا يحل فيهم وتخصيص الابناء بهذه الوصية مع انه معلوم من حال ابراهيم انه كان يدعو الكل ابدا الى الاسلام والدين وللدلالة على ان امر الاسلام اولى الامور بالاهتمام حيث وصى به اقرب الناس اليه واحراهم بالشفقة والمحبة وارادة الخير مع ان صلاح ابنائه سبب لصلاح العامة لان المتبوع اذا صلح فى جميع احواله صلح التابع روى انه لما نزل قوله تعالى { وانذر عشيرتك الاقربين } جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقاربه وانذرهم فقال ( يا بنى كعب بن لوى انقذوا انفسكم من النار يا بنى مرة بن كعب انقذوا انفسكم من النار يا بنى عبد شمس انقذوا انفسكم من النار يا بنى هاشم انقذوا انفسكم من النار يا بنى عبد المطلب انقذوا انفسكم من النار يا فاطمة انقذى نفسك من النار فانى لا املك لكم من اللّه شيأ ) يعنى لا اقدر على دفع مكروه عنكم فى الآخرة ان اراد اللّه ان يعذبكم وانما اشفع لمن اذن اللّه لى فيه وانما يأذن لى اذا لم يرد تعذيبه انما قال عليه السلام فى حقهم هكذا لترغيبهم فى الايمان والعمل لئلا يعتمدوا على قرابته ويتهاونوا ولا بد من الوصية والتحذير فىباب الدين لان الانسان اذا انس باهل الشر يخاف ان يتخلق باخلاقهم ويعمل عملهم فيجره ذلك الهوى الى الهاوية كما قيل نفس از همنفس بكيرد خوى ... بر حذر باش از لقاى خبيث باد جون برفضاى بد كذرد ... بوى بد كيرد از هواى خبيث وكتب ابو عبيد الصورى الى بعض اخوانه اما بعد فانك قد اصبحت تأمل الدنيا بطول عمرك وتتمنى على اللّه الامانى بسوء فعلك وانما تضرب حديدا باردا والسلام وحسن الظن باللّه تعالى انما يعتبر بعد اصلاح الحال بالاخلاق والاعمال قال الحسن ان قوما ألهتهم الامانى حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة يقول احدهم انى احسن الظن بربى وكذب لو احسن الظن لاحسن العمل وتلا قوله تعالى { وذلكم ظنكم } الآية اللّهم وفقنا للعلم والعمل قبل الاجل ١٣٣ { ام كنتم شهداء } لاهل الكتاب الراغبين عن ملة ابراهيم عليه السلام وام منقطعة مقدرة ببل والهمزة قال فى التيسير ام اذا لم يتقدمها الف الاستفهام كانت بمنزلة مجرد الاستفهام ومعنى الهمزة فيها الانكار يعنى أكنتم شهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر يريد ما كنتم حاضرين ومعنى الهمزة فيها الانكار يعنى أكنتم شهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر يريد ما كنتم حاضرين { اذ حضر يعقوب الموت } اى اماراته واسبابه وقرب خروجه من الدنيا نزلت حين قالت اليهود للنبى عليه السلام ألست تعلم ان يعقوب اوصى بنيه باليهودية يوم مات فقال تعالى ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب وقال لبنيه ما قال والا لما ادعيتم عليه اليهودية ولكان حرضكم على ملة الاسلام { اذ قال لبنيه } بدل من اذ حضر والعامل فيها شهداء { ما تعبدون من بعدى } اى اى شىء تعبدونه بعد موتى اراد به تقريرهم على التوحيد والاسلام واخذ ميثاقهم على الثبات عليهما قال الراغب لم يعن بقوله ما تعبدون من بعدى العبادة المشروعة فقط وانما عنى ان يكون مقصودهم فى جميع الاعمال وجه اللّه تعالى ومرضاته وان يتباعدوا عما لا يتوسل به اليها وكأنه دعاهم الى ان لا يتحروا فى اعمالهم غير وجه اللّه تعالى ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الاصنام وانما خاف ان تشغلهم دنياهم ولهذا قيل ما قطعك عن اللّه فهو طاغوت ولهذا قال واجنبنى وبنى ان نعبد الاصنام اى ان نخدم ما دون اللّه قال فى المثنوى جيست دنيا از خدا غافل شدن ... نى قماش ونقره وفرزند و وزن قال التحرير التفتازائى وما عام اى يصح اطلاقه على ذى العقل وغيره عند الابهام سواء كان للاستفهام ام غيره واذا علم ان الشى من ذى العقل والعلم فرق بمن وما فيخص من بذى العلم وما بغيره وبهذا الاعتبار يقال ان ما لغير العقلاء انتهى كلامه وتم الانكار عليهم عند قوله ما تعبدون من بعدى ثم استأنف وبين ان الامر قد جرى على خلاف ما زعموا فقال { قالوا } كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا { نعبد آلهك واله آبائك ابراهيم واسمعيل واسحق } اى نعبد الآله المتفق على وجوده وآلهيته ووجوب عبادته وجعل اسماعيل وهو عمه من جملة الآباء تغليبا للاب والجد لان العم أب والخالة أم لانخراطهما فى سلك واحد وهو الاخوة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه السلام ( عم الرجل صنو أبيه ) اى لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوى النخلة { آلها واحدا } بدل من اله آبائك وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرر المضاف او نصب على الاختصاص كأنه قيل نريد ونعنى بآله آبائك آلها واحدا { ونحن له مسلمون } حال من فاعل نعبد ١٣٤ { تلك } اشارة الى الامة المذكورة التى هى ابراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون { امة } هى فى الاصل المقصود كالعهدة بمعنى المعهود وسمى بها الجماعة لان فرق الناس تؤمنها اى يقصدونها ويقتدون بها وهى خبر تلك { قد خلت } اى مضت بالموت وانفردت عمن عداها واصله صارت الى الخلاء وهى الارض التى لا انيس بها والجملة نعت لامة { لها ما كسبت } تقديم المسند لقصره على المسند اليه اى لها كسبها لا كسب غيرها { ولكم ما كسبتم } لا كسب غيركم { ولا تسئلون عما كانوا يعملون } اى لا تؤاخذون بسيآت الامة الماضية كما فى قوله ولا تسألون عما اجرمنا كما لا تثابون بحسناتهم فلكل اجر عمله وذلك لما ادعى اليهود ان يعقوب عليه السلام مات على اليهودية وانه عليه السلام وصى بها بنيه يوم مات وردوا بقوله تعالى { أم كنتم شهداء } الآية قالوا هب ان الامر كذلك أليسوا آباءنا واليهم ينتمى نسبنا فلا جرم ننتفع بصلاحهم ومنزلتهم عند اللّه تعالى قالوا ذلك مفتخرين باوآئلهم فردوا بانهم لا ينفعهم انتسابهم اليهم وانما ينفعهم اتباعهم فى الاعمال فان احدا لا ينفعه كسب غيره كما قال عليه السلام ( يا بنى هاشم لا يأتينى الناس باعمالهم وتأتونى بانسابكم ) وقال عليه السلام ( من ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) يعنى من اخره فى الآخرة عمله السيئ او تفريطه فى العمل الصالح لم ينفعه شرف نسبه ولم تنجبر نقيصته به قال الشاعر أتفخر باتصالك من على ... واصل البؤسة الماء القراح وليس بنافع نسب زكى ... يدنسه صنائعك القباح والابناء وان كانوا يتشرفون بشرف آبائهم الا انه اذا نفخ فى الصور فلا أنساب والافتخار بمثل هذا كالافتخار بمتاع غيره وانه من الجنون فلا بد من كسب العمل والاخلاص فيه فانه المنجى بفضل اللّه تعالى وجاء فى حديث طويل وهو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( انى رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من امتى جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره لوالديه فرده عنه ورأيت رجلا من امتى قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من امتى قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر اللّه فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من امتى قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من ايديهم ورأيت رجلا من امتى يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلا من امتى والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فاخذ بيده واقعده الى جنبى ورأيت رجلا من امتى بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فجاءته حجته وعمرته فاستخرجتاه من الظلمة وادخلتاه فى النورورأيت رجلا من امتى يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه كلموه ورأيت رجلا من امتى يتقى وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من امتى قد اخذته الزبانية من كل مكان فجاءه امره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من ايديهم وادخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من امتى جاثيا على ركبتيه بينه وبين اللّه حجار فجاءه حسن خلقه فاخذ بيده فادخله على اللّه ورأيت رجلا من امتى قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من اللّه فاخذ صحيفته فجعلها فى يمينه ورأيت رجلا من امتى قد خف ميزانه فجاءته افراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من امتى قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من اللّه فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من امتى اهوى فى النار فجاءته دموعه التى بكى بها من خشية اللّه فاستخرجته من النار ورأيت رجلا من امتى قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه باللّه فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من امتى على الصراط يزحف احيانا ويحبو احيانا ويتعلق احيانا فجاءته صلاته على فاخذت بيده واقامته ومضى على الصراط ورأيت رجلا من امتى انتهى الى ابواب الجنة فغلقت الابواب دونه فجاءته شهادة ان لا اله الا اللّه ففتحت له الابواب وادخلته الجنة ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من قال لا اله الا اللّه مخلصا دخل الجنة ) قيل يا رسول اللّه وما اخلاصها قال ( ان تحجزه عن محارم اللّه ) فعلم من هذا التفصيل ان الخلاص وان كان بفضل اللّه تعالى لكنه منوط بالاعمال الصالحة فالقرابة لا تغنى شيأ اذا فسد العمل واما قول من قال اذا طاب اصل المرء طابت فروعه فباعتبار الغالب فان من عادته تعالى ان يخرج الحى من الميت والميت من الحى ونعم ما قيل اصل را اعتبار جندان نيست ... روى تر كل زخار خندان نيست مى زغوره شود شكر ازنى ... عسل ازنحل حاصلست بقى والعود الذى تفوح رائحته وان كان فى الاصل شجرة كسائر الاشجار الا انه لما كان له استعداد لتلك المرتبة وحصل ذلك بالتربية فاق على الاقران وخرج من جنس الاصل وكذا المسك فان اصله دم وكم من نسيب يعود على اصله بالعكس فيظهر فيه اثر الصلاح الباطن فى ابيه ان كان اى ابوه فاسقا او الفساد الباطن فيه ان كان صالحا وكم من فرع يميل الى اصله على وجه فانظر حال آدم عليه السلام وولديه هابيل وقابيل ومن بعدهم الى قيام الساعة ١٣٥ { وقالوا كونوا هودا او نصارى } نزلت فى رؤس يهود المدينة وفى نصارى نجران اى قالت اليهود كونوا هودا فان نبينا موسى افضل الانبياء وكتابنا التوراة افضل الكتب وديننا افضل الاديان وكفروا بعيسى والانجيل وبمحمد والقرآن وقالت النصارى كونوا نصارى فان نبينا عيسى افضل الانبياء وكتابنا الانجيل افضل الكتب وديننا افضل الاديان وكفروا بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن { تهتدوا } جواب للامر اى ان تكونوا كذلك تجدوا الهداية من الضلالة { قل } يا محمد لهم على سبيل الرد وبيان ما هو الحق لا نكون ما تقولون { بل } نكون { ملة ابراهيم } اى اهل ملته ودينه على حذف المضاف اى بل نتبع ملته لان كونوا معناه اتبعوا اليهودية والنصرانية { حنيفا } اى مائلا عن كل دين باطل الى دين الحق ومنحرفا عن اليهودية والنصرانية وهو حال من المضاف اليه وهو ابراهيم كما فى رأيت وجه هند قائمة لان رؤية وجه هند يستلزم رؤيتها فالحال هنا تبين هيئة المفعول او من المضاف وهو الملة وتذكير حنيفا حينئذ بتأويل الملة بالدين لانهما متحدان ذاتا والتغاير بالاعتبار { وما كان من المشركين } تعريض بهم وايذان ببطلان دعواهم اتباع ابراهيم مع اشراكهم بقولهم عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه وفى الآية ارشاد الى اتباع دين ابراهيم وهو الدين الذى عليه نبينا عليه السلام واصحابه واتباعه ١٣٦ { قولوا } ايها المؤمنون { آمنا باللّه } وحده { وما انزل الينا } اى بالقرآن الذى انزل على نبينا والانزال اليه انزال الى امته لان حكم المنزل يلزم الكل { وما انزل على ابراهيم } من صحفه العشر { و } ما انزل الى { اسمعيل واسحق ويعقوب } الى { الاسباط } جمع سبط وهو فى اصل شجرة واحدة لها اغصان كثيرة والمراد هنا اولاد يعقوب وهم اثنا عشر سموا بذلك لانه ولد لكل منهم جماعة وسبط الرجل حافده اى ولد ولده والاسباط من بنى اسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم وهم جماعة من اب وام وكان فى الاسباط انبياء والصحف وان كانت نازلة الى ابراهيم لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت احكامها جعلت منزلة اليهم كما جعل القرآن منزلا الينا { وما اوتى موسى وعيسى } من التوراة والانجيل وتخصيصهما بالذكر لما ان الكلام مع اليهود والنصارى { وما اوتى النبيون } جملة المذكورين منهم وغير المذكورين { من ربهم } فى موضع الحال من العائد المحذوف والتقدير وبما اوتيه النبيون منزلا عليهم من ربهم { لا نفرق بين احد منهم } كاليهود فنؤمن ببعض ونكفر ببعض وكيف نفعل ذلك والدليل الذى اوجب علينا ان نؤمن ببعض الانبياء وهو تصديق اللّه اياه بخلق المعجزات على يديه يوجب الايمان بالباقين فلو آمنا ببعضهم وكفرنا بالبعض لناقضنا انفسنا والجملة حال من الضمير فى آمنا وانما اعتبر عدم التفريق بينهم مع ان الكلام فيما اوتوه لا يستلزم عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريق بين ما اوتوه واحد فى معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه { ونحن له مسلمون } اى والحال انا مخلصون للّه تعالى ومذعنون ١٣٧ { فان آمنوا } اى اليهود والنصارى { بمثل ما } اى بمثل الدين الذى { آمنتم به } هذا من باب التعجيز والتبكيت اى الزام الخصم والجائه الى الاعتراف بالحق بارخاء عنانه وسد طرق المجادلة عليه والمثل مقحم والمعنى فان آمنوا بما آمنتم به وهو اللّه فانه ليس للّه تعالى مثل وكذا لدين الاسلام { فقد اهتدوا } الى الحق واصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق { وان تولوا } اى ان اغضوا عن الايمان على الوجه المذكور بان اخلوا بشئ من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو ديدنهم ودينهم { فانما هم فى شقاق } اى مستقرون فى خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب ايمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون فقوله فى شقاق خبر لقوله هم وجعل الشقاق ظرفا لهم وهم مظروفون له مبالغة فى الاخبار باستيلائه عليهم فانه ابلغ من قولك هم مشاقون والشقاق مأخوذ من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين فى شق غير شق صاحبه بسبب العداوة ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وان ذلك مما يؤدى الى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفريح المؤمنين بوعد النصرة والغلبة وضمان التأييد والاعزاز بالسين للتأكيد الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل { فسيكفيكهم اللّه } الضميران منصوبا المحل على انهما مفعولان ليكفى يقال كفاه مؤنته كفاية وان كثر استعمالة معدى الى واحد نحو كفاك الشئ والظاهر ان المفعول الثانى حقيقة فى الآية هو المضاف المقدر اى فسيكفى اللّه اياك امر اليهود والنصارى ويدفع شرهم عنك وينصرك عليهم فان الكفاية لا تتعلق بالاعيان بل بالافعال وقد انجز اللّه وعده الكريم بالقتل والسبى فى بنى قريظة والجلاء والنفى الى الشام وغيره فى بنى النضير والجزية والذلة فى نصارى نجران { وهو السميع العليم } تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى انه تعالى يسمع ما تدعو به ويعلم ما فى نيتك من اظهار الدين فيستجيب لك ويوصلك الى مرادك ١٣٨ { صبغة اللّه } الصبغ ما يلون به الثياب والصبغ المصدر والصبغة الفعلة التى تبنى للنوع والحالة من صبغ كالجلسة من جلس وهى الحالة التى يقع الصبغ عليها وهى اى الصبغة فى الآية مستعارة لفطرة اللّه التى فطر الناس عليها شبهت الخلقة السليمة التى يستعد بها العبد للايمان وسائر انواع الطاعات بصبغ الثوب من حيث ان كل واحدة منهما حلية لما قامت هى به وزينة له والتقدير صبغنا اللّه صبغة اى فطرنا وخلقنا على استعداد قبول الحق والايمان فطرته فهذا المصدر مفعول مطلق مؤكد لنفسه لانه مع عامله المقدر بعينه وقع مؤكدا لمضمون الجملة المقدمة وهو قوله آمنا باللّه لا محتمل لها من المصادر الا ذلك المصدر لان ايمانهم باللّه يحصل بخلق اللّه اياهم على استعداد اتباع الحق والتحلى بحلية الايمان ويحتمل ان يكون التقدير طهرنا اللّه تطهيره لان الايمان يطهر النفوس من اوضار الكفر وسماه صبغة للمشاكلة وهى ذكر الشئ بلفظ غيره لوقوع ذلك الشئ فى صحبة الغير اما بحسب المقال المحقق او المقدر بان لا يكون ذلك الغير مذكورا حقيقة ويكون فى حكم المذكور لكونه مدلولا عليه بقرينة الحال فهى كما تجرى بين فعلين كما هنا تجرى بين قولين كما فى تعلم ما فى نفسى ولا اعلم ما فى نفسك فانه عبر عن ذات اللّه تعالى بلفظ النفس لوقوعه فى صحبة لفظ النفس وعبر عن لفظ الفطرة بلفظ الصبغة لوقوعه فى صحبة صبغة النصارى اذ كانوا يشتغلون بصبغ اولادهم فى سابع الولادة مكان الختان للمسلمين بغمسهم فى الماء الاصفر الذى يسمونه المعمودية على زعم ان ذلك الغمس وان لم يكن مذكورا حقيقة لكنه واقع فعلا من حيث انهم يشتغلون به فكان فى حكم المذكور بدلالة قرينة الحال عليه من حيث اشتغالهم به ومن حيث ان الآية نزلت ردا لزعمهم ببيان ان التطهير المعتبر هو تطهير اللّه عباده لا تطهير اولادكم بغمسهم فى المعمودية وهى اسم ماء غسل به عيسى عليه السلام فمزجوه بماء آخر وكلما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر { ومن احسن } مبتدأ وخبر والاستفهام فى معنى الجحد { من اللّه صبغة } نصب على التمييز من احسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته احسن من صبغة اللّه فانه يصبغ عباده بالايمان ويطهرهم به من اوضار الكفر وانجاس الشرك فلا صبغة احسن من صبغته { ونحن له } اى للّه الذى اولانا تلك النعمة الجليلة { عابدون } شكرا له ولسائر نعمه وتقدم الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل تحت الامر وهو قولوا فاذا كان حرفة العبد العبادة فقد زين نفسه بصبغ حسن يزينه ولا يشينه : وفى المثنوى كاورا رنك ازبرون مردرا ... ازدرون دان رنك سرخ ورردرا رنكهاى نيك ازخم صفاست ... رنك زشتان ازسياه آب جفاست صبغة اللّه نام آن رنك لطيف ... لعنة اللّه بوى اين رنك كثيف وفى قوله تعالى { ونحن له عابدون } اشارة الى ان العارفين يعبدون ربهم لا لشوق الجنة ولا لخوف النار قال اللّه تعالى فى الزبور ومن اظلم ممن عبدنى لجنة او نار فلو لم اخلق جنة ولا نارا لم اكن مستحقا لان اعبد واعلم ان العابد هو العامل بحق العبودية فى مرضاة اللّه تعالى والعبادة دون العبودية وهى دون العبودة لان من لم يبخل بروحه فهو صاحب عبودة فالعبادة ببذل الروح فوق العبادة ببذل النفس قال سهل بن عبد اللّه لا يصح التعبد لاحد حتى لا يجزع من اربعة اشياء من الجوع والعرى والفقر والذل قال الشيخ ابو العباس رحمه اللّه اوقات العبد اربعة لا خامس لها الطاعة والمعصية والنعمة والبلية ولكل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية فمن كان وقته النعمة فسبيله الشكر وهو فرح القلب باللّه تعالى ومن كان وقته البلية فسبيله الرضى والصبر فعليك ان تراقب الاوقات الى ان تصل اعلى الدرجات وغاية الغايات : وفى المثنوى كافرم من كر زيان كردست كس ... درره ايمان وطاعت يكنفس سرشكسته نيست اين سررا مبند ... يك دوروزه جهد كن باقى بخند تازه كن ايمان نه از كفت زبان ... اى هوارا تازه كرده درنهان تاهواتازه است ايمان تازه نيست ... كين هو اجز قفل آن دروازه نيست روى ان السرى قدس سره قال مكثت عشرين سنة اخرس خلق اللّه تعالى فلم يقع فى شبكتى الا واحد كنت اتكلم فى المسجد الجامع ببغداد يوم الجمعة وقلت عجبت من ضعيف عصى قويا فلما كان يوم السبت وصليت الغداة اذا انا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابته فنزل وقال أيكم السرى السقطى فأومأ جلسائى الى فسلم على وجلس وقال سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قويا فما اردت به فقلت ما ضعيف اضعف من ابن آدم ولا قوى اقوى من اللّه تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه الى معصية اللّه تعالى قال فبكى ثم قال يا سرى هل يقبل ربك غريقا مثلى قلت ومن ينقذ الغرقى الا اللّه تعالى قال يا سرى ان على مظالم كثيرة كيف اصنع قال اذا صححت الانقطاع الى اللّه تعالى ارضى عنك الخصوم بلغنا عن النبى عليه السلام انه قال ( اذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولى اللّه وكل لكل منهم ملكا يقول لا تروّعوا ولى اللّه فان حقكم اليوم على اللّه تعالى ) فبكى ثم قال صف لى الطريق الى اللّه فقلت ان كنت تريد المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وان كنت تريد طريق الاولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق فبكى حتى بل منديلا له ثم انصرف وكان من امره كيت وكيت من ترك الاهل والعيال والسكون عند المقابر وتغيير الحال حتى توفى ذلك الشاب على الاحالة التى اقبل عليها قال السرى فحلمت يوما عيناى فاذا به يرفل فى السندس والاستبرق ويقول لى جزاك اللّه خيرا فقلت ما فعل اللّه بك قال ادخلنى الجنة ولم يسألنى عن ذنب انتهى ١٣٩ { قل أتحاجوننا } المحاجة المجادلة ودعوى الحق واقامة الحجة على ذلك من كل واحد والهمزة للانكار والتوبيخ وسبب نزول هذه الآية ان اليهود والنصارى قالوا ان الانبياء كانوا منا وعلى ديننا وديننا اقدم فقال اللّه تعالى قل يا محمد لليهود والنصارى أتجادلوننا وتخاصموننا { فى اللّه } اى فى دينه وتدعون ان دينه الحق هو اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى وتارة كونوا هودا او نصارى تهتدوا { وهو ربنا وربكم } اى والحال انه لا وجه للمجادلة اصلا لانه تعالى مالك امرنا وامركم { ولنا اعمالنا } الحسنة الموافقة لامره { ولكم اعمالكم } السيئة المخالفة لحكمه فكيف تدعون انكم اولى باللّه { ونحن له } اى للّه تعالى { مخلصون } فى تلك الاعمال لا نبتغى بها الا وجهه فأنى لكم المحاجة وادعاء حقية ما انتم عليه والطمع فى دخول الجنة بسببه ودعوة الناس اليه وانتم به مشركون والاخلاص تصفية العمل عن الشرك والرياء وحقيقته تصفية الفعل عن ملاحظه المخلوقين ١٤٠ { ام تقولون } ام معادلة للّهمزة فى قوله تعالى أتحاجوننا داخلة فى حيز الامر على معنى اى الامرين تأتون اقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما انتم عليه والحال ما ذكر ام التشبث بذيل التقليد والافتراء على الانبياء وتقولون { ان ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط } وهى حفدة يعقوب وهم اولاد اولاده الاثنى عشر وعن الزجاج انه قال الاسباط فى ولد اسحق بمنزلة القبائل فى ولد اسماعيل فولد كل واحد من ولد اسحق سبط ومن ولد اسماعيل قبيلة { كانوا هودا أو نصارى } فنحن مقتدون بهم والمراد انكار كلا الامرين والتوبيخ عليهما اى كيف تحاجون وكيف تقولون فى حق الانبياء الذين بعثوا قبل نزول التوراة والانجيل انهم كانوا هودا او نصارى ومن المحال ان يقتدى المتقدم بالمتأخر ويستن بسنته { قل } يا محمد { ءانتم } الاستفهام للتقرير والتوبيخ { اعلم } بدينهم { ام اللّه } اعلم { ومن اظلم } انكار لان يكون احد اظلم فالاستفهام بمعنى النفى { ممن كتم } اى ستر واخفى عن الناس { شهادة } ثابتة { عنده } اى عند من كائنة { من اللّه } قوله عنده ومن اللّه صفتان لشهادة اى شهادة حاصلة عنده صادرة من اللّه تعالى يعنى يا اهل الكتاب قد علمتم بشهادة حصلت عندكم صادرة من اللّه تعالى بان ابراهيم وبنيه كانوا حنفاء مسلمين بان اخبركم اللّه بذلك فى كتابكم ثم انكم تكتمونها وتدعون خلاف ما شهد اللّه به فى حقهم فلا احد اظلم منكم حيث اجزأتم على تكذيب اللّه تعالى فيما اخبر به وتعليق الاظلمية بمطلق الكتمان للايماء الى ان مرتبة من يدريها ويشهد بخلافها فى الظلم خارجة عن دائرة البيان وعن ابن عباس اكبر الكبائر الاشراك باللّه وشهادة الزور وكتمان الشهادة قال تعالى { ومن يكتمها فانه آثم قلبه } والمراد مسخ القلب ونعوذ باللّه من ذلك { وما اللّه بغافل عما تعملون } ما موصولة عامة لجميع ما يكتسب بالجوارح بالظاهرة والقوى الباطنة ويدخل فيه كتمان شهادة اللّه دخولا اوليا اى هو محيط بجميع ما تأتون وما تدرون فيعاقبكم بذلك اشد عقاب ١٤١ { تلك امة } اى الانبياء جماعة { قد خلت } اى مضت بالموت { لها ما كسبت } من الاعمال { ولكم ما كسبتم } منها { ولا تسألون عما كانوا يعملون } اى لا يسأل احد عن عمل غيره بل يسأل عن عمله ويجزى به وهذا تكرير للآية السابقة بعينها للمبالغة فى الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء و الاتكال على اعمالهم قال اللّه تعالى { فاذا نفخ فى الصور فلا انساب } قيل لما انصرف هارون الرشيد من الحج اقام بالكوفة اياما فلما خرج وقف بهلول المجنون على طريقه وناداه بأعلى صوته يا هارون ثلاثا فقال هارون من الذى ينادينى تعجبا فقيل له بهلول المجنون فوقف هارون وامر برفع الستر وكان يكلم الناس وراء الستر فقال له ألم تعرفنى قال بلى اعرفك فقال من انا قال انت الذى لو ظلم احد فى المشرق وانت فى المغرب سألك اللّه عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون وقال كيف ترى حالى قال اعرضه على كتاب اللّه وهى الجزء الثانى ان الابرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم وقال اين اعمالنا قال انما يتقبل اللّه من المتقين قال واين قرابتنا من رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال فاذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم قال واين شفاعة رسول اللّه لنا قال يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمن ورضى له قولا فلا بد من الاعمال الصالحة والاخلاص فيها فان اللّه يتقبلها لا غيرها قال الجنيد الاخلاص سر بين العبد وبين اللّه تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله قال الفضيل ترك العمل من اجل الناس رياء والعمل من اجل الناس شرك والاخلاص ان يعافيك عنهما وفى التتارخانئية لو افتتح للصلاة خالصا للّه تعالى ثم دخل فى قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرياء على انه لو خلا عن الناس لا يصلى ولو كان مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب اصل الصلاة دون الاحسان قال بعض الحكماء مثل من يعمل الطاعة للرياء والسمعة كمثل رجل يخرج الى السوق وقد ملأ كيسه حصى فيقول الناس ما املأ كيس فلان ولا منفعة له سوى مقالة الناس وفى الحديث ( اخلصوا اعمالكم للّه تعالى فان اللّه لا يقبل الا ما خلص له ولا تقولوا هذا للّه وللرحم وليس للّه تعالى منه شىء ) ومن احاديث المشارق ( لعن اللّه من لعن والديه ولعن اللّه من ذبح لغير اللّه ) قال النووى المراد الذبح باسم غير اللّه كم ذبح للصنم او لموسى او غيرهما ذكر الشيخ ابراهيم المراودى ان ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا اليه افتى اهل بخارى بتحريمه لانه مما اهل به لغير اللّه وقال الرافعى هذا غير محرم لانهم انما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم انتهى كلامه وعليه تحمل افعال المسلمين صيانة لهم عن الكفر وضياع الاعمال فان الموحد مطمح نظره رضى مولاه والتعبد اليه بما تيسر له من القربات اللّهم اعصمنا من الزلات ١٤٢ { سيقول السفهاء } اى الذين ضعفت عقوهم حال كونهم { من الناس } اى الكفرة يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وانما كانوا سفهاء لانهم راغبون عن ملة ابراهيم وقد قال تعالى { ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه } اى اذلها بالجهل والاعراض عن النظر وفائدة تقديم الاخبار به قبل وقوعه ليوطئوا عليه انفسهم فلا يضطربوا عند وقوعه لان مفاجأة المكروه اشد على النفوس واشق وليعلمهم الجواب فان العتيد قبل الحاجة اليه ارد لشغب الخصم الالد وقبل الرمى يراش السهم وهو مثل يضرب فى تهيئة الآلة قبل الحاجة اليها { ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها } ما استفهامية انكارية مرفوعة المحل على الابتداء ووليهم خبره والجملة فى موضع النصب بالقول يقال تولى عن ذلك اى انصرف وولى غيره اى صرفه والقبلة فى الاصل الحالة التى عليها الانسان من الاستقبال فنقلت فى عرف الشرع الى الجهة التى يستقبلها الانسان للصلاة وهى من المقابلة وسميت قبلة لان المصلى يقابلها والمعنى اى شىء صرفهم وحولهم عن قبلتهم التى كانوا على التوجه اليها وهى بيت المقدس ولم انصرفوا منها الى الكعبة روى ان النبى عليه السلام صلى الى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا تأليفا لقلوب اليهود ثم صارت الكعبة قبلة المسلمين الى نفخ الصور { قل } كأنه قيل فماذا اقول عند ذلك فقيل قل { للّه المشرق والمغرب } اى الامكنة كلها والنواحى باسرها للّه تعالى ملكا وتصرفا فلا يستحق شىء منها لذاته ان يكون قبلة حتى يمتنع اقامة غيره مقامه والشىء من الجهات انما يصير قبلة بمجرد ان اللّه تعالى امر بالتوجه اليها فله ان يأمر فى كل وقت بالتوجه الى جهة من تلك الجهات على حسب الوهيته واستيلائه ونفاذ قدرته ومشيئته فانه لا يسأل عما يفعل بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاللائق بالمخلوق ان يطيع خالقه ويأتمر بامره من غير ان يتحرى خصوصية فى المأمور به زائدة على مجرد كونه مأمورا به فان الطاعة له ليس الا بارتسام امره اى امتثاله لا بتحرى العلل والاغراض الداعية له تعالى الا الامر لان احكام اللّه تعالى وافعاله ليست معللة بالدواهى والاغراض واليهود انما استقبلوا جهة المغرب فاكرمه اللّه تعالى بوحيه وكلامه كما قال اللّه تعالى { وما كنت بجانب الغربى اذ قضينا الى موسى الامر } والنصارى ايضا اتخذوا جهة المشرق قبلة اتباعا لهواهم حيث زعموا ان مريم عليها السلام حين خرجت من بلدها مالت الى جانب الشرق كما قال اللّه تعالى { واذكر فى الكتاب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا } والمؤمنون استقبلوا الكعبة طاعة للّه تعالى وامتثالا لامره لا ترجيحا لبعض الجهات المتساوية بمجرد رأيهم واجتهادهم مع انها قبلة خليل اللّه تعالى ومولد حبيبيه صلى اللّه تعالى عليه وسلم { يهدى من يشاء الى صراط مستقيم } وهو التوجه الى بيت المقدس تارة والكعبة اخرى ووجه استقامته كونه مشتملا على الحكمة والمصلحة موافقا لهما قال بعض ارباب لاحقيقة سمى الطاعنين من اليهود والمشركين والمنافقين سفهاء لاحتجاب عقولهم عن حقية دين الاسلام ولو ادركوا الحق مطلقا لاخلصوه كما اخلص المؤمنون فلم تبق محاجتهم معهم ولو كانت عقولهم رزينة لاستدلت بالآيات وانكروا التحويل لانهم كانوا معتدين بالجهة فلم يعرفوا التوحيد الوافى بالجهات كلها : قال المولى الجامى جهات مرآت حسن شاهد ماست ... فشاهد ودهه فى كل ذرات ١٤٣ { وكذلك } اشارة الى مفهوم الآية المتقدمة اى كما جعلناكم مهتدين الى الصراط المستقيم { جعلناكم } توحيد الخطاب فى كذلك مع القصد الى المؤمنين لما ان المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين { امة وسطا } اى خيارا لان الاوساط محمية محوطة والاطراف يتسارع اليها الخلل { لتكونوا شهداء على الناس } يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم { ويكون الرسول } اى محمد صلى اللّه عليه وسلم { عليكم شهيدا } ان قلت ان الشاهد اذا اضر بشهادته عديت الشهادة بكلمة على واذا نفع بها تعدى باللام فيقال شهد له والرسول عليه السلام لما زكى امته وعدلهم بشهادته انتفعوا بها فالظاهر ان يقال ويكون الرسول لكم شهيدا بخلاف شهادة الامة على الناس فانها شهادة عليهم حيث استضروا بها فكلمة على فيها واقعة فى موضعها قلت هذا مبنى على تضمين الشهيد معنى الرقيب والمطلع فعدى تعديته والوجه فى اعتبار تضمين الشهيد الاشارة الى ان التعديل والتزكية انما يكون عن خبرة ومراقبة بحال الشاهد فاذا شاهد منه الرشد والصلاح عدله وزكاه واثنى عليه ولا يسكت عنه وقدمت صلة الشهادة اى عليكم لاختصاصهم بشهادته صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التزكية والتعديل وهو لا ينافى شهادته صلى اللّه عليه وسلم للانبياء بالتبليغ وعلى منكرى التبليغ بالتكذيب روى ان اللّه تعالى يجمع الاولين والاخرين فى صعيد واحد ثم يقول لكفار الامم ألم يأتكم نذير فينكرون فيقولون البينة وهو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيشهدون لهم انهم قد بلغوا فتقول الامم الماضية من اين علموا وانهم اتوا بعدنا فيسأل هذه الامة فيقولون ارسلت الينا رسولا وانزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وانت صادق فيما اخبرت ثم يؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال امته فيزكيهم ويشهد بصدقهم فيؤمر بالكفار الى النار قال بعض ارباب الحقيقة معنى شهادتهم على الناس اطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الاديان ومعرفتهم لحق كل دين وحق كل ذى دين من دينه وباطلهم الذى ليس حقهم الذى هو مخترعات نفوسهم وطريق الحق واحد فمن تحقق بحق دين تحقق بحق سائر الاديان وخاصة دين الاسلام الذى هو الحق الاعظم ومعنى شهادة الرسول عليهم اطلاعه على رتبة كل متدين بدينه وحقيقة ايمانهم واعمالهم وحسناتهم وسيآتهم واخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق وامته يعرفون ذلك من سائر الامم بنوره عليه الصلاة والسلام قال بعضهم جعلنا سبحانه وتعالى آخر الامم تشريفا لحبيبه وامته لانه لو قدمنا لاحتجنا ان ننتظر فى قبورنا قدوم الامم الماضية فجعلهم سبحانه وتعالى فى انتظارنا تشريفا لنا وايضا جعلنا آخر الامم لنكون يوم القيامة شهداء على جميع الامم الماضية ويكفى شرفا لهذه الامة المرحومة ما قال صلى اللّه عليه وسلم فى حق علمائهم ( علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل ) وذكر الراغب الاصفهانى فى المحاضرات انه قال الامام الشاذلى صاحب حزب البحر اضطجعت فى المسجد الاقصى فرأيت فى المنام قد نصب تخت خارج الاقصى فى وسط الحرم فدخل خلق كثير أفواجا افواجا فقلت ما هذا الجمع فقالوا جمع الانبياء والرسل قد حضروا ليشفعوا فى حسين الحلاج عند محمد عليه افضل الصلاة والسلام لاساءة ادب وقعت منه فنظرت الى التخت فاذا نبينا محمد عليه السلام جالس عليه بانفراده وجميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام على الارض جالسون مثل ابراهيم وموسى وعيسى ونوح فوقفت انظر واسمع كلامهم فخاطب موسى نبينا عليه الصلاة والسلام وقال له انك قد قلت علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل فأرنا منهم واحدا فقال هذا واشار الى الامام الغزالى فسأله موسى سؤالا فاجابه بعشرة اجوبة فاعترض عليه موسى بان السؤال ينبغى ان يطابق الجواب والسؤال واحد والجواب عشرة فقال الامام هذا الاعتراض وارد عليك ايضا حين سئلت وما تلك بيمينك يا موسى وكان الجواب عصاى فعددت صفات كثيرة قال فبينما انا متفكر فى جلالة قدر محمد عليه السلام وكونه جالسا على التخت بانفراده والخليل والكليم والروح جالسون على الارض اذ رفسنى شخص برجله رفسة مزعجة فانتبهت فاذا بقيم ثم غاب عنى فلم اجده الى يومى هذا ومن هذا قال فانسب الى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب الى قدره ما شئت من عظم اللّه يسر لنا شفاعته { وما جعلنا القبلة } مفعول اول لجعلنا { التى كنت عليها } مفعول ثان له بتقدير موصوف اى الجهة التى كنت عليها وهى الكعبة لانه عليه السلام كان مأمورا بان يصلى الى الكعبة وهو بمكة ثم لما هاجر امر بالصلاة الى صخرة بيت المقدس التى منها يصعد الملائكة الى السماء ثم اعيد الى ما كان عليه اولا والمعنى ما رددناك الى ما كنت عليه اى على استقباله والتوجه اليه وما جعلنا ذلك لشئ من الاشياء { الا لنعلم من يتبع الرسول } فى التوجه الى ما امر به { ممن ينقلب } اى ينصرف ويرجع { على عقبيه } العقب مؤخر القدم والانقلاب على العقبين مستعار للارتداد والرجوع عن الدين الحق الى الباطل ومعنى لنعلم ليظهر علمنا على مظاهر الرسول والمؤمنين ويتميز عندهم الثابت على الاسلام الصادق فيه من المتردد الذي يرتد بادنى سبب لقلته وضعف ايمان لا انه لم يعلم حالهم فعلم لانه تعالى كان عالما فى الازل بهم وبكل حال من احوالهم التى تقع فى كل زمان من ازمنة وجودهم مقارنة للزمان الذى تقع فيه تلك الحال وكل من يعلم شيأ فانما يعلم بان يظهر ذلك العلم فيه ويقرب من هذا ما قيل المعنى ليعلم رسول اللّه والمؤمنون وانما اسند علمهم الى ذاته لانهم خواصه واهل الزلفى عنده هذا هو المعنى الذى اختاره القاشانى فى تأويلاته وزيف ما عداه والعلم فى قوله لنعلم بمعنى المعرفة اى لنعرف الذى يتبع الرسول فلا يحتاج الى مفعول ثان فان قيل ان اللّه لا يوصف بالمعرفة فلا يقال اللّه عارف فكيف يكون العلم بمعنى المعرفة هنا قلت انما لا يوصف بها اذا كانت بمعناها المشهور وهو الادراك المسبوق بالعدم واما اذا كانت بمعنى الادراك الذى لا يتعدى الى مفعولين فيجوز ان يوصف اللّه بها وقوله ممن ينقلب حال من فاعل يتبع اى متميزا منه { وان كانت } اى القبلة المحولة { لكبيرة } اى شاقة ثقيلة على من يألف التوجه الى القبلة المنسوخة فان الانسان ألوف لما يتعوده يثقل عليه الانتقال منه وان هى المخففة من المثقلة واسمها محذوف وهو القبلة واللام هى الفارقة بينها وبين النافية كما فى قوله تعالى { ان كان وعد ربنا لمفعولا } { الا على الذين هدى اللّه } اى هداهم الى حكمة الاحكام وارشدهم وعرفهم ان ما كلفه عباده متضمن لحكمة لا محالة وان لم يهتدوا الى خصوصية تلك الحكمة بعينها فتيقنوا بذلك ان السعيد الفائز من اطاع ربه الحكيم وان الشقى الخاسر من عصى ربه العليم ثم بين انهم مثابون على ذلك الثبات والاتباع وان ذلك غير ضائع منهم فقال { وما كان اللّه } مريدا { ليضيع ايمانكم } اى ثباتكم على التصديق بجميع ما جاء به النبى عليه السلام من غير ان ترتابوا فى شىء من ذلك { ان اللّه بالناس } متعلق برؤف { لرؤف } اى ذو مرحمة عظيمة لهم حيث نقلهم برحمته من ذلك الى هذا وهو اصح لهم { رحيم } يغفر ذنوبهم بالايمان وايصال الرزق : قال السعدى فروماند كانرا برحمت قريب ... تضرع كنانرا بدعوت مجيب روى انه اخذ بعض امراء الكفار وكان جائرا قاتلا فى زمن داود عليه السلام فصلب فوق الجبل عشاء ورجع الناس الى منازلهم وبقى هذا على الخشبة وحده وتضرع الى آلهته فلم يغنوا عنه شيأ ثم رجع الى اللّه وقال انت اللّه الحق اتيت اليك لتغيثنى برحمتك قال اللّه تعالى يا جبريل ان هذا عبد آلهته طويلا فلم ينتفع ففزع الى ودعانى فاستجبت له فاهبط الى الارض وضعه على الارض فى سلامة وعافية ففعل فلما اصبحوا رأوه وهو حى يصلى للّه تعالى فاخبروا داود بذلك فدعا اللّه فيه مستكشفا سره فاوحى اللّه يا داود انى ارحم من آمن بى ودعانى فان لم افعل فأى فرق بينى وبين آلهته واعلم ان جماعة قد ارتدوا عن الاسلام عند تحويل القبلة لتعلقهم بما سوى اللّه تعالى وعدم فنائهم فى اللّه ورضاهم بما يجيئ عليهم من القضاء فاخذتهم الكدرة كالسيل واما الذين سعدوا سعادة ازلية فلم يتعلقوا فى الحقيقة بيت المقدس ولا بالكعبة بل الرب الخالق لهما ولغيرهما وفنوا عن ارادتهم فجاءت ارادة اللّه لهم كالشهد المصفى فأخذهم السرور والصفا : قال الصائب مهياى فنارا ازعلايق نيست بروابى ... نيند يشد زخار آنكس كه دامان بركمردارد ذكر ان ابا القاسم الجنيد البغدادى لما رأوه فى وادى الوله ظنوا انه مرض او جن فجعلوه فى دار الشفاء فزاره بعض من يدعى حبه فقال لهم من انتم فقالوا نحن احباؤك فرماهم بالاحجار ففروا من عنده وقالوا قد غلب عليه الجنون فقال تدعون الحب باقوالكم وقد يكذبها افعالكم فالمحب من اسراه ما اصابه من الحبيب فلذلك قد عد اشد البلاء عند الانبياء والاولياء ألذ من الحلوى فاكتسوا حلل التسليم والاصطبار وغاصوا فى لجج المكاشفات والمشاهدات واشتغلوا مع الجنان واللسان بالتوحيد وذكر الملك المنان حتى عدوا الالتفات الى غيره ولو باكل لقمة من الموانع فلذلك ارتقوا فى الفناء والبقاء الى غاية المبتغى ولما قال موسى عليه السلام رب ارنى انظر اليك قال يا موسى لن ترانى فى البساط الفانى اصبر حتى اجعله باقيا حتى ترانى يا موسى رعيت غنم شعيب عشر سنين اتريد ان ترانى بعبادة اربعين يوما ثم اصطفاه واعطاه ما اعطاه فلما رجع الى قومه رأى فى الطريق الجبل الاعلى فسأل عنه متعجبا فقال الجبل يا موسى كنت ترعى الغنم فى وعلى رأسك قلنسوة وفى يدك عصا فاللّه الذى اصطفاك برسالاته وبكلامه لقد جعلنى الاعلى بفضله وانعامه اللّهم اجعلنا على صراطك المستقيم واتباع رسولك الكريم واهدنا التوجه الى كعبة ذاتك والانجذاب اليك والوصول الى مشاهدتك ١٤٤ { قد } لفظ قد فى المضارع للتقليل وقد استعمل ههنا للتكثير بطريق الاستعارة للمجانسة بين الضدين فى الضدية { نرى } مستقبل لفظا ماض معنى ومتأخر تلاوة متقدم معنى لانها رأس القصة والمعنى شاهدنا وعلمنا { تقلب وجهك } اى تردد وجهك فى تصرف نظرك { فى السماء } اى فى جهتها تطلعا للوحى وكان عليه السلام يقع فى روعه ويتوقع من ربه ان يحوله الى الكعبة لانها قبلة ابيه ابراهيم واقدم القبلتين وادعى للعرب الى الايمان من حيث انها كانت مفخرة لهم وامنا ومزارا ومطافا ولمخالفة اليهود فانهم كانوا يقولون انه يخالفنا فى ديننا ثم انه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره ان يتوجه الى قبلتهم حتى روى انه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل ( وددت ان اللّه صرفنى عن قبلة اليهود الى غيرها ) فقال له جبريل انا عبد مثلك وانت كريم على ربك فادع ربك وسله ثم ارتفع جبريل وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يديم النظر الى السماء رجاء ان يأتيه جبريل بالذى سأل ربه فانزل اللّه هذه الآية واول ما نسخ من المنسوخات هو خمسون صلاة نسخت الى خمس للتخفف ثم تحويل القبلة الى بيت المقدس بمكة امتحانا للمشركين بعد ان كان للمصلى ان يتوجه حيث شاء لقوله تعالى { فاينما تولوا فثم وجه اللّه } ثم تحويلها من بيت المقدس الى الكعبة بالمدينة امتحانا لليهود كذا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى { فلنولينك قبلة } اى فواللّه لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا اى صيرته واليا له وولى الرجل ولاية اى تمكن منه او فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس من وليه وليا اى قربه ودنا منه واوليته اياه ووليته اى ادنيته منه { ترضاها } مجاز عن المحبة والاشتياق لانه عليه السلام لم يكن ساخطا للتوجه الى بيت المقدس كارها له غير راض اى تحبها وتتشوق اليها لا لهوى النفس والشهوة الطبيعية بل لمقاصد دينية وافقت مشيئة اللّه تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اى اصرف وجهك اى اجعل وجهك بحيث يلى شطره ونحوه والمراد بالوجه ههنا جملة البدن لان الواجب على المكلف ان يستقبل القبلة بجملة بدنه لا بوجهه فقط ولعل تخصيص الوجه بالذكر التنبيه على انه الاصل المتبوع فى التوجه والاستقبال والمتبادر من لفظ المسجد الحرام هو المسجد الاكبر الذى فيه الكعبة والحرام المحرم اى المحرم فيه القتال او الممنوع من الظلمة ان يتعرضوا له وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة ايذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة باتفاق بين الحنفية والشافعية لان استقبال عينها للبعيد متعذر وفيه حرج عظيم بخلاف القريب { وحيثما كنتم } اى فى اى موضع كنتم من الارض من بحر او بر شرق او غرب واردتم الصلاة { فولوا وجوهكم شطره } فانه القبلة الى نفخ الصور امر لجميع المؤمنين بذلك بعدما امر به النبى عليه السلام تصريحا بعمومه لكافة العباد من كل حاضر وباد حثا للامة على المتابعة { وان الذين اوتوا الكتاب } من فريقى اليهود والنصارى { ليعلمون انه } اى التحويل الى الكعبة { الحق } اى الثابت كائنا { من ربهم } لما ان المسطور فى كتبهم انه عليه السلام يصلى الى القبلتين بتحويل القبلة الى الكعبة بعدما كان يصلى الى بيت المقدس ومعنى من ربهم اى من قبله تعالى لا شىء ابتدعه الرسول صلى اللّه عليه وسلم من قبل نفسه فانهم كانوا يزعمون انه من تلقاء نفسه { وما اللّه بغافل عما تعملون } خطاب للمسلمين واليهود جميعا على التغليب فيكون وعدا للمسلمين بالاثابة وجزيل الجزاء ووعيدا وتهديدا لليهود على عنادهم ١٤٥ { ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية } برهان قاطع على ان التوجه الى الكعبة هو الحق { ما تبعوا قبلتك } عنادا ومكابرة وهذا فى حق قوم معينين علم اللّه انهم لا يؤمنون فان منهم من آمن وتبع القبلة { وما انت بتابع قبلتهم } حسم لاطماعهم اذ كانوا تناجوا فى ذلك وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو ان يكون صاحبنا الذى ننتظره وطمعوا فى رجوعه الى قبلتهم { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فان اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه فالمحق منهم لا يزل عن مذهب لتمسكه بالبرهان والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته فى عناده { ولئن اتبعت اهوائهم } جمع هوى وهو الارادة والمحبة اى ولئن وافقتهم فى مراداتهم بان صليت الى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على ايمانهم { من بعد ما جاءك من العلم } اى من بعد ما علمت بالوحى القاطع ان قبلة اللّه هى الكعبة { انك اذا } حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم ان وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة { لمن الظالمين } اى المرتكبين الظلم الفاحش وهذه الجملة الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والالهاب للثبات على الحق وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن متابعة الهوى فان من ليس من شانه ذلك اذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام فى سلك الراسخين فى الظلم فما ظن من ليس كذلك : قال فى المثنوى كن ايمان نه از كفت زبان ... اى هوا را تازه كرده در نهان هوا تازهاست ايمان تازه نيست ... كين هوا جزقفل آن دروازه نيست ١٤٦ { الذين آتيناهم الكتاب } ايتاء فهم ودراسة وهم الاحبار { يعرفونه } اى الرسول صلى اللّه عليه وسلم { كما يعرفون ابناءهم } اى يعرفونه صلى اللّه عليه وسلم باوصافه الشريفة المكتوبة فى كتابهم لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه ابناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكون الذكور اشهر واعرف عندهم منهن وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق * فان قيل لم لم يقل كما يعرفون انفسهم مع ان معرفة الشخص نفسه اقرب اليه من معرفة سار الاشياء * فالجواب ما قال الراغب لان الانسان لا يعرف نفسه الا بعد انقضاء برهة من دهره ويعرف ولده من حين وجوده { وان فريقا منهم } هم الذين كابروا وعاندوا الحق { ليكتمون الحق وهم يعلمون } ان محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وان الكعبة قبلة اللّه والباقون هم الذين آمنوا منهم فانهم يظهرون الحق ولا يكتمونه واما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما فى تضاعيفه فما هم بصدد الاظهار ولا بصدد الكتم وانما كفرهم على وجه التقليد ١٤٧ { الحق } الذى انت عليه يا محمد { من ربك } خبر لقوله الحق { فلا تكونن من الممترين } اى الشاكين فى كون الحق من ربك هذا خطاب له صلى اللّه عليه وسلم والمقصود خطاب امته ونهيهم عن الامتراء ومعنى نهى الامة عن الامتراء امرهم بضده الذى هو اليقين وطمانينة القلب قال القشيرى حملهم مستكنات الحسد وسوء الاختيار على مكابرة ما علموا بالاضطرار وكذلك المغمور فى ظلمات نفسه يلقى جلباب الحياء فلا ينجع فيه ملام ولا يرده عن انهماكه كلام قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى عندنا ثلاث مراتب. احديها مرتبة التقليد وهى لعامة الناس. والثانية مرتبة التحقيق والايقان وهى للمجتهدين كالائمة الاربعة ومن يحذو حذوهم. والثالثة مرتبة المشاهدة والعيان فهى للكمل من اهل السلوك قال واذا لم تتطهر النفس من الاخلاق الرديئة لا تحصل المعارف الآلهية وان كان كاملا فى العقل والعلوم ألا يرى ان الشيطان مع عقله وعلمه كيف استكبر وعصى امر اللّه تعالى لما فى نفسه من الكبر والحسد وكذلك حال اهل الكتاب فى امر القبلة وشأن النبى صلى اللّه عليه وسلم حيث لم ينفع العلم والمعرفة لخبث باطنهم فلا بد من تزكية النفوس وتصفية القلوب والاستقامة فى باب الحق الى ان يأتى اليقين حكى ان يونس خدم شيخه طبق امره ثلاثين سنة بالصدق حتى تورم ظهره من نقل الحطب فلم يظهر وكان شيخه نظرا له فثقل ذلك على سائر الطالبين وقالوا انه يخدم الشيخ على محبة بنته حتى تكلموا فى ذلك الشيخ فلما اتى بالحطب قال شيخه نعم الحطب المستقيم يا يونس فقال ان غير المستقيم لا يليق بهذا الباب وما تكلموا فى حقه ليس على وجه النفاق بل لما رأوا انهم لا يتحملون ما يتحمل يونس اشكل عليهم الامر فحملوه على حب البنت وسؤال الشيخ ايضا وجواب يونس بهذا الوجه انما كان لارشادهم وازالة شبههم والا فالشيخ كان يعرف احوال يونس ولم يحصل له سوء ظن من كلامهم لان من كان مرشدا لا يعرف حال المريد بكلام الغير فى المدح والذم ثم زوج الشيخ بنته له وقال حتى لا يكون الاخوان كاذبين ولا يحصل لهم الخجالة وكانت البنت متى قرأت القرآن يقف الماء فلم يمسها يونس الى آخر عمره وقال انا لا أليق بها فللسالك فى مرتبة الطبيعة ان يترك مقتضاها ويقتصر على قدر الكفاية من الاكل والشرب ولا يتقيد بتدارك ما تشتهيه طبيعته فان الخير فى مخالفتها ومن تربية النفس ان يجتنب عن حب الاموال والاولاد فانهما فتنة ومعينان لها على كبرها بكثرتهما واكثر الانفس لا تحب صرفها بل تدخرها ليزداد استكبارها وقد قال تعالى { يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم } فما دام لم تصلح الطبيعة والنفس لا يصل الطالب الى مطلوبه ففى الحج اشارة الى ذلك فان قاصد البيت المكرم يترك استراحة بدنه ويبذل ماله الى ان يصل الى مشاهدته فكذلك قاصد رب البيت يفنى عن جميع ما سواه ويكون فى توجهه وحدانيا هيولانيا حتى يشاهد ببصيرته ما يشاهد فالصلاة مستقبلا الى شطر المسجد الحرام عين التوجه الى الذات الاحدية لان الكعبة مثال صورى لحضرته تعالى وان المراد من الاستقبال اليها الاقبال اليه تعالى مع انه لا يتقيد التوجه حقيقة لكن الاستقبال صورة رعاية للادب ودور مع الامر الآلهى فان للّه تعالى فى كل شىء حكمة ومصلحة ومن تخلص من القيود وانجذب الى الرب المعبود فقد تجلى له قوله { فأينما تولوا فثم وجه اللّه } وظهر له سر الظاهر والمظهر عاشقى ديد از دل بر تاب ... حضرت حق تعالى اندر خواب دامنش را كرفت آن غمخور ... كه ندارم من از تو دست دكر جون بر آمد زخواب خوش درويش ... ديد محكم كرفته دامن خويش فطوبى لمن دار مع الامر الآلهى وسلم من الاعتراض وتخلص من الانقباض وفنى عن اضافة الوجود الى نفسه وبقى بربه وبكمالاته اللّهم اجعلنا من المهديين الى هذه الرتبة العظمى والكعبة العليا واصرفنا فى مسالكنا عن الانحراف الى شىء من الآخرة والدنيا ١٤٨ { ولكل } اى لكل امة من الامم اعنى المسلمين واليهود والنصارى { وجهة } اى قبلة وجهة { هو } راجع الى كل { موليها } اى محول وموجه الى تلك الجهة وجهه فقبلة كل امة من اهل الاديان المختلفة مغايرة لقبلة الامة الاخرى { فاستبقوا الخيرات } اى الى الخيرات بنزع الجار والمراد جميع انواع الخيرات من امر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين والمعنى لكل امه قبلة يتصلبون فى التوجه اليها بحيث لا ينصرفون عنها الى القبلة الحق وان اتيتهم بكل آية دالة على ان القبلة هى الكعبة واذا كان الامر كذلك فاستبقوا انتم وبادروا الى الفعلات الخيرات وهى ما ثبت انه من اللّه تعالى ولا تقتفوا اثر المكابرين المستكبرين الذين يتبعون اهواءهم ويلقون الحق وراء ظهورهم فانهم يستبقون الى الشر والفساد اذ ليس بعد الحق الا الضلال قال بعض اهل الحقيقة معناه كل قوم اشتغلوا بغيرنا عنا واقبلوا على غيرنا فكونوا معاشر العارفين لنا واشتغلوا بنا عن غيرنا فان مرجعكم الينا كما قال تعالى { اينما } اى فى اى موضع { تكونوا } انتم واعداؤكم { يأت بكم اللّه جميعا } يحشركم اللّه الى المحشر للجزاء ويفصل بين المحق والمبطل فهو وعد لاهل الطاعة ووعيد لاهل المعصية { ان اللّه على كل شىء قدير } فيقدر على الامانة والاحياء والجمع ١٤٩ { ومن حيث خرجت } اى من اى مكان وبلد خرجت اليه للسفر { فول وجهك } عند صلاتك { شطر المسجد الحرام } تلقاءه فان وجوب التوجه الى الكعبة لا يتغير بالسفر والحضر حالة الاختيار بل الحكم بالاسفار مثله حالة الاقامة بالمدينة { وانه } اى هذا المأمور به وهو تحويل القبلة الى الكعبة { للحق من ربك } اى الثابت الموافق للحكمة { وما اللّه بغافل عما تعملون } فيجازيكم بذلك احسن جزاء فهو وعد للمؤمنين ١٥٠ { ومن حيث خرجت } اليه فى اسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم } ايها المؤمنون من اقطار الارض مقيمين او مسافرين وصليتم { فولوا وجوهكم } من محالكم { شطره } كرر هذا الحكم وهو التحويل وتولية الوجه شطر المسجد لما ان القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة وتسويل الشيطان فالبحرى ان يؤكد امرها مرة غب اخرى مع انه قد ذكر فى كل مرة حكمة مستقلة { لئلا يكون للناس عليكم حجة } متعلق بقوله فولوا والمعنى ان التولية عن الصخرة الى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بان المنعوت فى التوراة قبلته الكعبة واحتجاج العرب بانه يدعى ملة ابراهيم ويخالف قبلته وقوله عليكم فى الاصل صفة حجة فلما تقدم عليها امتنع الوصفية لامتناع تقدم الصفة على الموصوف فانتصب على الحالية { الا الذين ظلموا منهم } استثناء من الناس اى لئلا يكون حجة لاحد من اليهود الا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا الى الكعبة الا ميلا الى دين قومه وحبا لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الانبياء ولا لأحد من العرب من اهل مكة الا للمعاندين منهم الذين قالوا بدا له فرجع الى قبلة آبائه ويوشك ان يرجع الى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع انها افحش الاباطيل لانهم كانوا يسوقونها مساقها ويوردونها موقعها فسميت حجة مجازا تهكما بهم { فلا تخشوهم } فلا تخافوهم فى توجهكم الى الكعبة ومظاهرهم عليكم لسببه فان مطاعنهم لا تضركم شيأ { واخشونى } بامتثال امرى فلا تخالفوا امرى وما رأيته مصلحة لكم فانى ناصركم { ولأتم نعمتى عليكم } علة لمحذوف اى امرتكم بتولية الوجوه شطره لاتمامى النعمة عليكم لما انه نعمة جليلة وما وقع من اوامر اللّه تعالى وتكاليفه وائتمار المكلف بالتوجه الى حيث وجهه اللّه تعالى وان كان نعمة يتوصل به الى الثواب الجزيل الا ان امره تعالى بالتوجه الى قبلة ابراهيم تمام النعمة فى امر القبلة فان القوم كانوا يفتخرون باتباع ابراهيم فى جميع ما كانوا يفعلونه فلما وجهوا الى قبلته بعد ما صرفوا عنها لمصلحة حادثة فقد اصابوا تمام النعمة فى امر القبلة فان نعمة اللّه تعالى على عباده ضربان موهوب ومكتسب فالموهوب نحو صحة البدن وسلامة الاعضاء وغيرهما والمكتسب نحو الايمان والعمل الصالح بامتثال الاوامر والاجتناب عن المناهى فان ذلك كله يؤدى الى سعادة الدارين { ولعلكم تهتدون } اى ولارادتى اهتداءكم الى شعائر الملة الحنيفية وشرائع الدين القويم ١٥١ { كما ارسلنا فيكم رسولا منكم } متصل بما قبله اى ولاتم نعمتى عليكم فى امر القبلة اتماما كائنا كاتمامى لها بارسال رسول كائن منكم وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم فان ارسال الرسول لا سيما المجانس لهم نعمة لم تكافئها نعمة قط { يتلو عليكم آياتنا } وهو القرآن العظيم { ويزكيكم } اى يحملكم على ما تصيرون به ازكياء طاهرين من دنس الذنوب المكدرة لجوهر النفس لان شأن الرسل الدعوة والحث على اعمال يحصل بها طهارة نفوس الامة من الشرك والمعاصى لا تطهيرهم اياهم بمباشرتهم من اول الامر { ويعلمكم الكتاب } اى ما فى القرآن من المعانى والاسرار والشرائع والاحكام التى باعتبارها وصف القرآن بكونه هدى ونورا فانه عليه السلام كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه فيبقى على ألسنة اهل التواتر مصونا من التحريف والتصحيف ويكونمعجزة باقية الى يوم القيامة وتكون تلاوته فى الصلاة وخارجها نوعا من العبادة والقربة ومع ذلك كان يعلم ما فيه من الحقائق والاسرار ليهتدوا بهداه وانواره { والحكمة } هى الاصابة فى القول والعمل ولا يسمى حكيما الا من اجتمع له الامران كذا قال الامام من احكمت الشئ اى رددته غمالا يعنيه وكأن الحكمة هى التى ترد عن الجهل والخطأ واعلم ان العمل بالقرآن متفرع على معرفة معناه وهو متفرع على معرفة الفاظه والتزكية غاية اخيرة لانها متفرعة على العمل لكنها قدمت فى الذكر نظرا الى تقدمها فى التصور { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } قال الراغب ان قيل ما معنى ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون وهل ذلك الا الكتاب والحكمة قيل عنى بذلك العلوم التى لا طريق الى تحصيلها الا من جهة الوحى على ألسنة الانبياء ولا سبيل الى ادراك جزئياتها وكلياتها الا به وعنى بالحكمة والكتاب ما كان للعقل فيه مجال فى معرفة شىء منه واعاد ذكر ويعلمكم مع قوله ما لم تكونوا تعلمون تنبيها على انه مفرد عن العلم المتقدم ذكره ١٥٢ { فاذكرونى } بالطاعة لقوله عليه السلام ( من اطاع اللّه فقد ذكر اللّه وان قلت صلاته وصيامه وقراءته القرآن ومن عصى اللّه فقد نسى اللّه وان كثرت صلاته وقراءته القرآن ) { اذكركم } بالثواب واللطف والاحسان وافاضة الخير وفتح ابواب السعادات واطلق على هذا المعنى الذكر الذى هو ادراك مسبوق بالنسيان واللّه تعالى منزه عن النسيان بطريق المجاز والمشاكلة لوقوعه فى صحبة ذكر العبد { واشكروا لى } على ما انعمت عليكم من النعم والذكر بالطاعة هو الشكر فقوله واشكروا لى امر بتخصيص شكرهم به تعالى لاجل افضاله وانعامه عليهم وان لا يشكروا غيره وجعل صاحب التيسير قوله تعالى فاذكرونى امرا بالقول وقوله واشكروا لى امرا بالعمل قال الراغب ان قيل ما الفرق بين شكرت لزيد وشكرت زيدا قيل شكرت له هو ان تعتبر احسانه الصادر عنه فتثنى عليه بذلك وشكرته اذا لم تلتفت الى فعله بل تجاوزت الى ذكر ذاته دون اعتبار احواله وافعاله فهو ابلغ من شكرت له وانما قال واشكروا لى ولم يقل واشكرونى علما بقصورهم عن ادراكه بل عن ادراك آلائه كما قال تعالى { وان تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها } فأمرهم ان يعتبروا بعض افعاله فى الشكر للّه { ولا تكفرون } بجحد النعم وعصيان الامر فان قيل لم قال بعد واشكروا لى ولا تكفرون ولم يقتصر على قوله واشكروا لى قلنا لو اقتصر على قوله واشكروا لى لكان يجوز ان يتوهم ان من شكره مرة او على نعمة ما فقد امتثل ولو اقتصر على قوله ولا تكفرون لكان يجوز ان يتوهم ان ذلك نهى عن تعاطى فعل قبيح دون حث على الفعل الجميل فجمع بينهما لازالة هذا التوهم ولان فى قوله ولا تكفرون تنبيها على ان ترك الشكر كفران فان قيل لم قال ولا تكفرون ولم يقل ولا تكفروا لى قيل خص الكفر به تعالى بالنهى عنه للتنبيه على انه اعظم قباحة بالنسبة الى كفر نعمه فان كفران النعم قد يعفى عنه بخلاف الكفر به تعالى كذا فى تفسير الراغب الاصفهانى قال بعض العلماء لما خص اللّه هذه الامة بفضل قوة وكمال بصيرة بالنسبة الى بنى اسرائيل قال لهم { يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمت عليكم } فامرهم بذكر نعمة المنسية المغفول عنها لينظروا منها الى المنعم وقال لهذه الامة { فاذكرونى } فامرهم ان يذكروه بلا واسطة لقوة بصيرتهم : قال الصائب درسر هر خام طينت نشئه نيست ... هر سفالى را صداى كاسه فغفور نيست قال الامام الغزالى الذكر قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم اياه باللسان ان يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرأوا كتابه وذكرهم اياه بقلوبهم على ثلاثة انواع. احدها ان يتفكروا فى الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا فى الجواب عن الشبه العارضة فى ملك اللّه. وثانيها ان يتفكروا فى الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه واحكامه واوامره ونواهيه ووعده ووعيده فاذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما فى الفعل من الوعد وفى الترك من الوعيد سهل عليهم الفعل. وثالثها ان يتفكروا فى اسرار مخلوقات اللّه تعالى حتى يصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فاذا نظر العبد اليها انعكس شعاع بصره منها الى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له واما ذكرهم اياه تعالى بجوارحهم فهو ان تكون جوارحهم مستغرقة فى الاعمال التى امروا بها وخالية عن الاعمال التى نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى اللّه تعالى الصلاة ذكرا بقوله { فاسعوا الى ذكر اللّه } فصار الامر بقوله { اذكرونى } متضمنا لجميع الطاعات ولهذا ذكر عن سعيد بن جبير انه قال اذكرونى بطاعتى فاجمله حتى يدخل فيه جميع انواع الذكر واقسامه انتهى كلام الامام قال لقمان لابنه يا بنى اذا رأيت قوما يذكرون اللّه تعالى فاجلس معهم فانك ان تك عالما ينفعك علمك وان تك جاهلا علموك ولعل اللّه يطلع عليهم برحمته فيصيبك معهم واذا رأيت قوما لا يذكرون فلا تجلس معهم فانك ان تك عالما لا ينفعك علمك وان تك جاهلا يزيدوك جهلا او غيا ولعل اللّه يطلع عليهم بسخطه فيصيبك معهم اللّه اجعلنا من الذاكرين ١٥٣ { يا ايها الذين آمنوا استعينوا } فى كل ما تأتون وما تذرون { بالصبر } على الامور الشاقة على النفس كالصبر عن المعاصى وحظوظ النفس { والصلوة } التى هى ام العبادات ومعراج المؤمنين ومثاب رب العالمين روى انه صلى اللّه تعالىعليه وسلم كان اذا حزبه امر فزع الى الصلاة وتلا هذه الآية وانما خص الصبر والصلاة بالذكر لان الصبر اشد الاعمال الباطنة على البدن والصلاة اشد الاعمال الظاهرة عليه لانها مجمع انواع الطاعات من الاركان والسنن والآداب والحضور والخضوع والتوجه والسكون وغير ذلك مما لا يتيسر حفظه الا بتوفيق اللّه تعالى قال عصام الدين قدم الترك على الفعل لان التخلية قبل التحلية ولهذا قدم النفى فى كلمة التوحيد واكتفى بذكر الصلاة لان الخطاب لكل من المؤمنين والمشترك بين الجميع بعد الايمان الصبر عن المعاصى والصلاة واما الزكاة فمختصة باصحاب النصاب واما الحج فباصحاب الاستطاعة والصوم صبر عن معصية الاكل والشرب وغيرهما { ان اللّه مع الصابرين } بالنصرة واجابة الدعوة فمعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة لهما ودخول مع على الصابرين لما انهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية قال عصام الدين فى التفسير الاجل ان اللّه مع الصابرين لان الصابرين لا يذهلون عن ذكره بخلاف المجتنبين عن الصبر فان قلوبهم لاهية عن ذكر اللّه والقلب اللاهى عنه ممتلئ من هموم الدنيا وان كانت الدنيا بأسرها له انتهى كلامه ان قيل لم قال { ان اللّه مع الصابرين } ولم يقل مع المصلين وقال فى الآية الاخرى { واستعينوا بالصبر والصلوة وانها لكبيرة } فاعتبر الصلاة دون الصبر قيل لما كان فعل الصلاة اشرف واعلى من الصبر اذ قد ينفك الصبر عن الصلاة ولا تنفك الصلاة عن الصبر ذكر ههنا الصابرين فمعلوم انه تعالى اذا كان مع الصابرين فهو لا محالة يكون مع المصلين بطريق الاولى وقال هناك لكبيرة فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها على انها اشرف منزلة من الصبر واعلم ان الصبر الذى هو تحمل المشاق من غير جزع واضطراب ذريعة الى فعل كل خير ومبدأ كل فضل فان اول التوبة الصبر عن المعاصى واول الزهد الصبر عن المباحات واول الارادة الصبر وطلب ترك ما سوى اللّه تعالى ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم ( الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ) وقال ( الصبر خير كله ) فمن تحلى بحلية الصبر سهل عليه ملابسة الطاعات والاجتناب عن المنكرات وكذا الصلاة قال تعالى { ان الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر } صبر كن حافظ بسختى روز وشب ... عاقبت روزى بيابى كام را وفى الحديث ( اذا جمع اللّه الخلائق نادى مناد اين اهل الفضل قال فيقوم ناس وهم يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم سراعا الى الجنة فمن انتم قالوا نحن اهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم قالوا كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا اسيئ الينا عفونا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين ثم ينادى مناد اين اهل الصبر فيقوم ناس يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم سراعا الى الجنة فمن انتم فيقولون نحن اهل الصبر فيقولون ما كان صبركم قالوا كنا نصبر على طاعة اللّه ونصبر عن معاصى اللّه فيقال لهم ادخلوا الجنة ثم ينادى مناد اين المتحابون فى اللّه فيقوم ناس يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون من انتم فيقولون نحن المتحابون فى اللّه فيقولون وما كان تحابكم فى اللّه قالوا كنا نتحاب فى اللّه والجنة ) كذا فى نزهة القلوب ١٥٤ { ولا تقولوا } نزلت فى شهداء بدر وكانوا اربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار وكان الناس يقولون { لمن يقتل } فى سبيل اللّه مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فانزل اللّه تعالى ولا تقولوا لمن يقتل القتل نقض البنية الحيوانية { فى سبيل اللّه } وهو الجهاد لانه طريق الى ثواب اللّه ورحمته { اموات } اى هم اموات { بل احياء } اى كالاحياء فى الحكم لا ينقطع ثواب اعمالهم لانهم قتلوا لنصرة دين اللّه فما دام الدين ظاهرا فى الدنيا وأحد يقاتل فى سبيل اللّه فلهم ثواب ذلك لانهم سنوا هذه السنة { ولكن لا تشعرون } كيف حالهم فى حياتهم وفيه رمز الى انها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وانما هى امر روحانى لا يدرك بالعقل بل بالوحى وفى الآية دلالة على ان الارواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه الجمهور فان قلت الحياة الروحانية المستتبعة لادراك اللذة والالم مشتركة فى الجميع فما وجه تخصيص الشهداء بها قلت لاختصاصهم بالقرب من اللّه تعالى ومزيد البهجة والكرامة ومن لم يبلغ منزلتهم لا تكون حياته معتدا بها فكأنه ليس بحى قال تعالى فى حق اهل النار { لا يموت فيها ولا يحيى } واعلم ان نفس الانسان وذاته الذى هو مخاطب مكلف مأمور منهى بأوامر اللّه ونواهيه جسمانى لطيف سار فى هذا البدن المحسوس سريان النار فى الفحم وماء الورد فى الورد وهو الذى يشير اليه كل احد بقوله انا وهو الانسان حقيقة وهو الولى والنبى والمثاب والمعاقب على اعماله وهو كان فى صلب آدم حين سجد له الملائكة وهو الذى سأله اللّه بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } وهو الذى يتوفى فى المنام ويخرج ويسرح ويرى الرؤيا فيسر بما يرى او يحزن فان امسكه اللّه ولم يرجع الى جسده تبعه الروح والجسد الكثيف المعبر عنه بالبدن والروح السلطانى محل تعينه هو القلب الصنوبرى والروح الحيوانى محل تعينه هو الدماغ ويقال له القلب والعقل والنفس ايضا سرى فى جميع اعضاء البدن الا ان سلطانه قوى فى الدماغ فهو اقوى مظاهره وهو اى الروح الحيوانى انما حدث بعد تعلق الروح السلطانى بهذا الهيكل فهو من انعكاس انوار الروح السلطانى ليكون مبدأ الافعال لان الحياة امر مغيب مستور فى الحى لا يعلم الا بآثارها كالحس والحركة والعلم والارادة وغيرها وهذا يدور على الروح الحيوانى فما دام هذا البخار باقيا على الوجه الذى يصلح ان يكون علاقة بينهما فالحياة قائمة وعند انتفائه وخروجه عن الصلاحية له تزول الحياة ويخرج الروح من البدن خروجا اضطراريا وهو الموت الحقيقى وكما يخرج الروح من البدن خروجا اضطراريا كذلك قد يخرج منه خروجا اختياريا ويعود اليه متى شاء وهو الذى سماه الصوفية بالانسلاخ فقد عرفت من هذا ان مذهب اهل السنة والجماعة ان الروح جسم لطيف مغاير لهذا الهيكل المحسوس وانكشف لك حال الروح ووقف على اسرار البرزخ واحوال القبر وما فيه من الالم واللذة الجسمانيين وانحل عندك وجه كونه روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران فالشهداء احياء بالحياة البرزخية متنعمون لانهم اجسام لطيفة كالملائكة فانهم موجودون احياء قال المولى الفنارى فى تفسير الفاتحة كل نعيم يتنعم به الصديقون والشهداء والصالحون فى البرزخ خيالى وكذا كل عذاب يتألم به الجهنميون ومصداق ذلك انه اذا نفخ فى الصور وبعث الخلق ينسى كل واحد منهم حاله فى البرزخ ويتخيل ان ذلك الذى كان فيه منام كما تخليه المستيقظ وقد كان حين مات وانتقل الى البرزخ كالمستيقظ هناك وان الحياة الدنيا كانت له كالمنام وفى الآخرة يعتقد فى امر الدنيا والبرزخ انه منام فى منام وان اليقظة الصيححة هى التى هو عليها فى الدار الآخرة حيث لا نوم فيها ولا نوم بعدها انتهى كلامه قال فى اسئلة الحكم ان امور البرزخ والآخرة على النمط الغير المألوف فى الدنيا والارواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسى جسمانى لكن ذلك نعيم او عذاب معنوى حتى تبعث اجسادها فترد اليها فتتنعم عند ذلك حسا ومعنى ألا ترى الى بشر الحافى قدس سره لما رؤى فى المنام قيل له ما فعل اللّه بك قال غفر لى واباح لى نصف الجنة يعنى روحه متنعمة بالجنة بما يليق بها فى مقامه والنصف الآخر هو الجنة التى يدخلها ببدنه اذا حشر فيكمل النعيم بالنصف الآخر اذا حشر فيكمل النعيم بالنصف الآخر والاكل الذى راه الميت بعد موته فى البرزخ هو كالاكل الذى يراه النائم فى النوم والنعيم به مثل النعيم به سواء كما قال عليه السلام ( انى ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى ) وكذلك كل شخص غير ان الفرق بين الرسول وغيره فى هذه الصورة ان جسم النبى يبيت جائعا ويستيقظ وهو شبعان وغير النبى يأكل فى منامه وهو جيعان ويستيقظ وهو كذلك واذا رأى الولى الوارث ذلك وقد وجد أثر الشبع او الرى فذلك من اجزاء النبوة التى وردت فى الميراث اذ الرؤيا جزء من ستة واربعين جزأ من النبوة وقد رأى ذلك كثير من الاولياء واصبحوا وعليهم رائحة الطعام الذى اكلوه وشبعوه فهذه وراثة نبوبة فقوله عليه السلام ( انى لست كهيئتكم ) باعتبار الغالب لا باعتبار الكل فتنعم الشهداء فى البرزخ بمرتبة تنعم الولى الوارث فى المنام فافهم هذا المقام فان الجسم المبحوث عنه ههنا هو الجسم اللطيف وتنعم بما يليق بمرتبته فى البرزخ سواء عبرت عنه بالخيالى او بالمعنوى او بالجسمانى اى المنسوب الى الجسم اللطيف لا الكثيف فان اللذة الجسمانية المتعلقة بالجسد الكثيف حال الدنيا لا غير وفى التأويلات النجمية الاشارة لا تحسبوا من قتل من اهل الجهاد الاكبر بسيف جلال اللّه فى سبيل اللّه بالفناء فى اللّه امواتا وان فنيت اوصاف وجودهم فانهم احياء بشهود موجدهم ومن كان فناؤه فى اللّه كان بقاؤه باللّه فتارة يفنيهم بسطوات تجلى صفات الجلال وتارة يحييهم بنفحات ألطاف الجمال فانهم يسرحون فى رياض الجمال ولكن لا تشعرون باحوالهم ولا تطلعون عليها قال القشيرى لئن فنيت فى اللّه اشباحهم لقد بقيت باللّه اراواحهم وقال الجنيد من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فانه ينتقل من حياة الطبع الى حياة الاصل وهو الحياة الحقيقية : وفى المثنوى مى كند دندان بدرا آن ... طبيب تارهد ازدرد وبيمارى حبيب بس زيادتها درون نقصهاست ... مر شهيدا نراحيات اندرفناست كريكى سررا ببرد از بدن ... صد هزاران سربر آرد درزمن حلق ببريده خورد شربت ولى ... خلق ازلاسته مرده دربلى ١٥٥ { ولنبلونكم } اللام جواب قسم محذوف اى واللّه لنعاملنكم معاملة المبتلى هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء اولا اذ البلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر النفس وذلك لنظهر لكم منكم المطيع من العاصى لا لنعلم شيأ لم نكن عالمين به { بشئ من الخوف } اى بقليل من خوف الاعداء وانما قللّه لان ما واقاهم منه اكثر بالنسبة الى ما اصابهم بالف مرة { و } شىء من { الجوع } اى القحط والسنة وانما اخبرهم به قبل وقوعه ليوطئوا عليه نفوسهم ويسهل لهم الصبر عليه فان مفاجأة المكره اشد على النفس من اصابته مع ترقبه { ونقص من الاموال } عطف على شئ اى وبنقص شيء قليل من ذلك بالسرقة والاغارة واخذ السلطان والهلاك والخسران { والانفس } اى بالقتل والموت او بالمرض والشيب { والثمرات } اى وذهاب ثمرات الكروم والاشجار بالبرد والسموم والريح والجراد وغيرها من الآفات وقد يكون نقص الثمرات بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد وعن الشافعى رحمه اللّه الخوف خوف اللّه والجوع صوم رمضان والنقص من الاموال الزكاة والصدقات ومن الانفس الامراض ومن الثمرات موت الاولاد وفى الحديث ( اذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة قبضتم ولد عبدى فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول اللّه ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد ) قال بعض اهل المعرفة مطالبات الغيب اما ان تكون بالمال او بالنفس او بالاقارب او بالقلب او بالروح فمن اجاب بالمال فله النجاة ومن اجاب بالنفس فله الدرجات ومن صبر على فقد الاقارب فله الخلف والقربات ومن لم يؤخر عنه الروح فله دوام المواصلات { وبشر } الخطاب للرسول او لمن يتأتى منه البشارة لتعظيم الصبر وتفخيمه لانه فضيلة عظيمة الثواب وخصلة من خصال الانبياء والاولياء فيستحق صاحبه ان يبشره كل احد { الصابرين } على البلايا ١٥٦ { الذين اذا اصابتهم } الاصابة ضد الخطأ { مصيبة } هى ما يصيب الانسان من مكروه لقوله عليه السلام ( كل شىء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة ) واصلها الوصول من صاب السهم المرمى واصابه وصل اليه { قالوا انا للّه } اى نحن عبيد اللّه والعبد وما فى يده لمولاه فان شاء ابقاه فى ايدينا وان شاء استرده منا فلا نجزع بما هو ملكه بل نصبر فان عشنا فعليه رزقنا وان متنا فانا اليه راجعون واليه مردنا وعنده ثوابنا ونحن راضون بحكمه فما أعطانا ربنا كان فضلا منه ولا يليق بكرمه الارتجاع فى عطاياه وانما اخذه ليكون ذخيرة لنا عنده فقولنا انا للّه اقرار منا له تعالى بالملك { وانا اليه راجعون } اقرار على انفسنا بالهلك وقيل الرجوع اليه تعالى ليس عبارة عن الانتقال الى مكان وجهة فان ذلك على اللّه محال بل المراد منه ان يصير الى حيث لا يملك الحكم فيه سواه وذلك هو الدار الآخرة اذ لا حاكم فيها حقيقة وبحسب الظاهر الا اللّه تعالى بخلاف دار الدنيا فان غير اللّه قد يملك الحكم فيها بحسب الظاهر وقول المصاب عند مصيبته انا للّه وانا اليه راجعون له فوائد. منها الاشتغال بهذه الكلمة عن كلام لا يليق. ومنها انها تسلى قلب المصاب وتقلل حزنه. ومنها انها تقطع طمع الشيطان فى ان يوافقه فى كلام لا يليق. ومنها انه اذا سمعه غيره اقتدى به. ومنها انه اذا قال ذلك بلسانه يتذكر بقلبه الاعتقاد الحسن والتسليم لقضاء اللّه وقدره فان المصاب يدهش عند المصيبة فيحتاج الى ما يذكر له التسليم المذكور وفى الحديث ( ما من مصيبة تصيب عبدا فيقول انا للّه وانا اليه راجعون اللّهم أجرنى من مصيبتى وأخلف لى خيرا منها الا آجره اللّه فى مصيبته وأخلف له خيرا منها ) قال سعيد بن جبير ما اعطى احد فى المصيبة ما اعطى هذه الامة يعنى الاسترجاع ولو اعطيه احد لاعطى يعقوب ألا تسمع الى قوله فى قصة فقد يوسف { يا اسفا على يوسف } وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بان يتصور ما خلق لاجله وهو الانقياد للّه تعالى فى جميع ما كلفه به من التكاليف والتسليم لقضاء اللّه وقدره فى جميع ما اخذه واعطاه فان من اختص للّه تعالى ملكا وملكا كيف ينازعه فى ملكه ولا يرضى بقضائه وملاحظة ان ما فى عالم الملك كله للّه يذكر نعم اللّه وتذكرها يستلزم العلم بان ما ابقى عليه اضعاف ما استرده منه والمبشر به محذوف دل عليه قوله تعالى ١٥٧ { اولئك } اى الصابرون الموصوفون بما ذكر { عليهم صلوات } كائنة { من ربهم ورحمة } اى رحمة ووجه الجمع فى الصلوات الدلالة على الكثرة والتكرير واستغنى بتنكير التعظيم فى رحمة عن ايرادها بلفظ الجمع ويندرج فى رحمته تعالى ايصال المسار ودفع المضار فى الدنيا والآخرة وجمع بين الصلاة والرحمة للايذان بان رحمته غير منقطعة فالمعنى عليهم فنون الرحمة المتوالية الفائضة من مالك امورهم ومبلغهم الى كمالاتهم اللائقة بهم قال بعضهم الصلاة من اللّه المدح والثناء والتعظيم والرحمة اللطف والاحسان فلا تكرار { واولئك هم المهتدون } المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء اللّه تعالى وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه لان أخر من السماء احب الى من ان اقول فى شىء قضاه اللّه ليته لم يكن وقال على رضى اللّه عنه من ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقط حبط اجره اى بطل ثوابه قيل المكاره التى تصيب الانسان اذا اصابته من قبل اللّه تعالى يجب الصبر عليها لان ما جاء من جهة العدل الحكيم ليس الا مقتضى عدله وحكمته فيجب عليه ان يرضى لعلمه بانه تعالى لا يقضى الا بالحق وان اصابته من جهة الظلمة فلا يجب عليه ان يصبر عليها بل جاز له ان يمانعه بل يحاربه وان قتل بمحاربته يكون شهيدا واعلم ان البلاء سبب للتصفية كما قال عليه السلام ( ما اوذى نبى مثل ما اوذيت ) اى ما صفى نبى مثل ما صفيت والوفاء والجفاء سيان عند العشاق كما قال صائب شكايت از ستم يار جون كند ... هر جاكه عشوه هست وفا وجفا يكيست قال الحسن رضى اللّه عنه سمعت جدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( يا بنى عليك بالقنوع تكن من اغنى الناس واداء الفرائض تكن من اعبد الناس يا بنى ان فى الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى باهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الاجر صبا ثم قرأ انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ) ولم يكن فى الصبر الا حكاية الطير الذى فى عهد سليمان عليه السلام لكفى وذلك ان طيرا فى عهد سليمان عليه السلام كان له صوت حسن وصورة حسنة اشتراه رجل بالف درهم وجاءه طير آخر فصاح صيحة فوق قفصه وطار فسكت الطير وشكا الرجل الى سليمان عليه السلام فقال احضروه فلما احضروه قال سليمان عليه السلام لصاحبك عليك حق حتى اشتراك بثمن غال فلم سكت فقال يا نبى اللّه قل له حتى يرفع قلبه عنى انى لا اصيح ابدا ما دمت فى القفص قال لم قال لان صياحى كان من الجزع الى الوطن والاولاد وقال لى ذلك الطير انما حبسك لاجل صوتك فاسكت حتى تنجو فقال سليمان عليه السلام للرجل ما قال الطير فقال الرجل أرسله يا نبى اللّه فانى كنت احبسه لصوته فأعطاه سليمان عليه السلام الف درهم ثم ارسل الطير ثم طار وصاح سبحان من صورنى وفى الهواء طيرنى ثم فى القفص صبرنى ثم قال سليمان عليه السلام ان الطير ما دام فى الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه ومثل هذا فى الحقيقة اشارة الى الفناء عن اوصاف فى الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه ومثل هذا فى الحقيقة اشارة الى الفناء عن اوصاف النفس فان المرء ما لم يمت باختياره قبل اضطراره لا يصل الى الحياة الحقيقية : قال فى المثنوى دانه باشى مرعكانت برجنند ... غنجه باشى كود كانت بركنند هركه كرد او حسن خوردا درمزاد ... صد قضاى بد سوى اورونهاد تن قفس شكلست وتن شد خارجان ... در فريب داخلان وخارجان قال حضرت الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لا بد من نفى الانية واضمحلال الوجود فى بحر الوجود الحقيقى حتى يتم المقصود ويحصل : قال الصائب ترك هستى كن كه اسودست از تاراج سيل ... هركه بيش ازسيل رخت خود برون ازخانه ريخت قال حضرة الشيخ افتاده افندى قدس سره العبور عن المراتب محله مرتبة يقال لها وادى الحيرة يعرف السالك فيها مطلوبه ولكن لا يقدر على الوصول فيدور فى ذلك الوادى بالحيرة والحرارة ويحرق الانية بتلك الحرارة ويقال له وادى الحيرة لان السالك يتحير ولا يقدر على الذهاب والرجوع وقوله عليه السلام ( اللّهم زدنى حيرة ) اشارة الى ذلك وتلك المرتبة لا تتيسر لكثير والعبور عنها لا يمكن الا بارشاد مرشد كامل اللّهم هيئنا لتجليات اسمائك وصفاتك وأفض علينا من كاسات مشاهدات كمال ذاتك ١٥٨ { ان الصفا } علم لجبل بمكة وسمى الصفا لانه جلس عليه آدم صفى اللّه { والمروة } علم لجبل فى مكة ايضا وسمى المروة لانها جلست عليها امرأة آدم حواء عليهما السلام { من شعائر اللّه } جمع شعيرة بمعنى العلامة اى من اعلام طاعة اللّه فان كل واحد من المواقف والمساعى والمنحر جعله اللّه تعالى علامة لنا نعرف به العبادة المختصة روى انه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له اساف وصنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة يروى انهما كانا رجلا وامرأة زنيا فى الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون اللّه فكان اهل الجاهلية اذا سعوا بين الصفا والمروة مسحوهما تعظيما لهما فلما جاء الاسلام وكسرت الاوثان كره المسلمون الطواف بينهما لانه فعل الجاهلية فاذن اللّه تعالى فى الطواف بينهما واخبر انهما من شعائر اللّه والحكمة فى شرعية السعى بين الصفا والمروة ما حكى ان هاجر لما ضاق عليها الامر فى عطشها وعطش اسماعيل سعت فى هذا المكان الى ان صعدت الجبل ودعت فأنبع اللّه لها زمزم واجاب دعاءها فجلعها طاعة لجميع المكلفين الى يوم القيامة وفى الخبر ( الصفا والمروة بابان من الجنة وموضعان من مواضع الاجابة ما بينهما قبر سبعين الف نبى وسعيهما يعدل سبعين رقبة ) { فمن حج البيت او اعتمر } الحج فى اللغة القصد والعمرة الزيارة وفى الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة { فلا جناح عليه } اى لا اثم عليه واصله من جنح اى مال عن القصد والخير الى الشر { ان يطوف بهما } اى فى ان يطوف بهما ويدور فأزال عنهم الجناح لانهم توهموا أن يكون فى ذلك جناح عليهم لاجل فعل الجاهلية وهو لا ينافى كون هذا الطواف واجبا كما عند الحنفية لان قولنا لا اثم فى فعل امر كذا يصح اطلاقه على الواجب واصل يطوف يتطوف وفى ايراد التفعل ايذان بان من حق الطائف ان يتكلف فى الطواف ويبذل فيه جهده { ومن تطوع خيرا } اصل التطوع الفعل طوعا لا كرها كانه قيل من فعل او اتى ما يتقرب به طائعا فنصب خيرا بتضمين تطوع فعلا يتعدى بنفسه او التطوع بمعنى التبرع من قولهم طاع يطوع اى تبرع فكأنه قيل من تبرع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقا فانتصاب خيرا حينئذ على اسقاط حرف الجر اى من تطوع تطوعا بخير { فان اللّه شاكر } له اى مجاز بعمله فان الشاكر فى وصف اللّه تعالى بمعنى المجازى على الطاعة بالاثابة عليها قال ابن التميجد فى حواشيه الشكر من اللّه بمعنى الرضى عن العبد والاثابة لازم الرضى والرضى ملزوم الشكر فالشكر مجاز فى معنى الرضى ثم التجوز منه الى معنى الاثابة مجاز فى المرتبة الثانية { عليم } بطاعة المتطوع ونيته فيها وفى الآية حث على نوافل الطاعات كما على فرائضها فمن اتى بنافلة واحدة فان اللّه شاكر عليم فكيف باكثر منها فالبصوم تحصيل قهر النفس وبالزكاة تزكيها وبالصلاة المعراج الروحانى وبالحج الوصول وعن سفيان الثورى قال حججت سنة ومن رأيى ان انصرف من عرفات ولا احج بعد هذا فنظرت فى القوم فاذا انا بشيخ متكىء على عصا وهو ينظر الى مليا فقلت السلام عليك يا شيخ قال وعليك يا سفيان ارجع عما نويت فقلت سبحان اللّه من اين تعلم نيتى قال ألهمنى ربى فواللّه لقد حججت خمسا وثلاثين حجة وكنت واقفا بعرفات ههنا فى الحجة الخامسة والثلاثين انظر الى هذه الرحمة وأتفكر فى امرى وامرهم ان اللّه هل يقبل حجهم وحجى فبقيت متفكرا حتى غربت الشمس وأفاض الناس من عرفات الى مزدلفة ولم يبق معى احد وجن الليل ونمت تلك الليلة فرأيت فى النوم كأن القيامة قد قامت وحشر الناس وتطايرت الكتب ونصبت الموازين والصراط وفتحت ابواب الجنان والنيران فسمعت النار تنادى وتقول اللّهم وق الحجاج حرى وبردى فنوديت يا نار سلى غيرهم فانهم ذاقوا عطش البادية وحر عرفات ووقوا عطش القيامة ورزقوا الشفاعة فانهم طلبوا رضاى بانفسهم واموالهم قال الشيخ فانتبهت وصليت ركعتين ثم نمت ورأيت كذلك فقلت فى نومى هذا من الرحمن او من الشيطان فقيل لى بل من اللّه مد يمينك فمددت فاذا على كفى مكتوب من وقف بعرفة وزار البيت شفعته فى سبعين من اهل بيته قال سفيان وارانى المكتوب حتى قرأته ثم قال الشيخ فلم تمر على منذ حينئذ سنة الا وانا حججت حتى تم لى ثلاث وسبعون حجة كذا فى زهرة الرياض قال فى الاشباه والنظائر بناء الرباط بحيث ينتفع به المسلمون افضل من الحجة الثانية والحج تطوعا افضل من الصدقة النافلة وحج الفرض اولى من طاعة الوالدين بخلاف النفل وحج الغنى افضل من حج الفقير لان الفقير يؤدى الفرض من مكة وهو متطوع فى ذهابه وفضيلة الفرض افضل من فضيلة التطوع فعلى العاقل ان يقصد بيت اللّه ويزوره فان لم يساعده المال فلتساعده الهمة والحال فان المعتبر هو توجه القلب الى جانب الغيب لا مجرد توجه القالب : قال فى المثنوى ميل تو سوى مغيلا نست و ريك ... تا جه كل جينى زخار مرده ريك وفى التأويلات القاشانية { ان الصفا } وجود القلب { والمروة } وجود النفس { من شعائر اللّه } من اعلام دين اللّه ومناسكه القلبية كاليقين والتوكل والرضى والاخلاص والنفسية كالصبر والشكر والذكر والفكر { فمن حج البيت } اى بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الآلهية بالفناء الكلى الذاتى { واعتمر } زار الحضرة بالبلوغ الى مقام المشاهدة بتوحيد الصفات والفناء فى انوار تجليات الجمال والجلال { فلا جناح } فلا حرج { عليه } حينئذ فى { ان يطوف بهما } اى يرجع الى مقامهما ويتردد بينهما لا بوجودهما التلوينى فانه جناح وذنب بل بالوجود الموهوب الحقانى بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفى الجناح فان فى هذا الوجود سعة بخلاف الاول { ومن تطوع خيرا } اى ومن تبرع خيرا من باب التكميل والتعليم والارشاد وشفقة الخلق فى مقام القلب ومن باب الاخلاق وطرف البر والتقوى ومعاونة الضعفاء والمساكين وتحصيل الهمم فى مقام النفس بعد كمال السلوك حال البقاء بعد الفناء { فان اللّه شاكر } شكر عمله بثواب المزيد { عليم } بانه من باب التصرف فى الاشياء باللّه لا من باب التلوين والابتلاء والفترة انتهى كلام القاشانى يا خفى الذات محسوس العطاء ... انت كالماء ونحن كالرحاء انت كالريح ونحن كالغبار ... يختفى لاريح وغبراه جهار ١٥٩ { ان الذين يكتمون } الآية نزلت فى رؤساء اليهود واحبارهم او فى كل من كتم شيأ من احكام الدين وهو الاقرب لان اللفظ عام وعموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك اظهار الشئ قصدا مع الحاجة اليه وحصول الداعى الى اظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره واخفائه وقد يكون بازالته ووضع شىء آخر فى موضعه وهو الذى فعه هؤلاء فى نعوت النبى صلى اللّه عليه وسلم وغيرها { ما انزلنا } حال كونه { من البينات } اى من الآيات الواضحة الدالة على امر محمد عليه السلام وعلى الرجم وتحويل القبلة الحرام والحلال { والهدى } اى والآيات الهادية الى كنه امره ووجوب اتباعه عليه السلام والايمان به { من } متعلق بيكتمون { بعدما بيناه } اى اوضحناه ولخصناه { للناس } جميعا لا الكاتمين فقط { فى الكتاب } اى التوراة وتبيينه لهم ايضاحه بحيث يتلقاه كل احد من غير ان يكون فيه شبهة قال ابن الشيخ فى حواشيه فالمراد بالبينات ما انزل على الانبياء من الكتب والوحى دون ادلة العقل وان قوله والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية وقوله تعالى فى حق الهدى من بعد ما بيناه وما لخصناه فى الكتاب لا يقتضى اتحادهما وان يكون العطف لتغاير اللفظين لان كون ما بينّاه فى الكتاب كما يجوز ان يكون بطريق كونه من جملة التنزيل يجوز ان يكون بطريق كونه فائدة ملخصة اى مستفادة منه { اولئك } اى اهل هذه الصفة { يلعنهم اللّه } اى يطردهم ويبعدهم من رحمته بسبب كتمهم الحق { ويلعنهم اللاعنون } اى الذين يتأتى منهم اللعن اى الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمنى الثقلين وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه ما تلا عن اثنان الا ارتفعت اللعنة بينهما فان استحقها احدهما والا رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام او اللاعنون البهائم والهوام تلعن العصاة تقول اللّهم العن عصاة بنى آدم فبشؤمهم منع عنا القطر ١٦٠ { الا الذين تابوا } من الكتمان وسائر ما يجب ان يتاب منه الاستثناء متصل والمستثنى منه هو الضمير فى يلعنهم { واصلحوا } ما افسدوا بالتدارك فانه لا بد بعد التوبة من اصلاح ما افسده مثلا لو افسد على غير دينه بايراد شبهة عليه يلزمه ازالة تلك الشبهة وبعد ذلك لا بد له من ان يفعل ضد الكتمان وهو البيان وهو المراد بقوله تعالى { وبينوا } اى ما بينه اللّه فى كتابهم لتتم توبتهم فدلت الآية على ان التوبة لا تحصل الا بترك كل ما لا ينبغى وبفعل كل ما ينبغى { فاولئك اتوب عليهم } اى بالقبول وافاضة الرحمة والمغفرة فان التوبة اذا اسندت اليه تعالى بان قيل تاب اللّه او يتوب تكون بمعنى القبول وقبول التوبة يتضمن المغفرة اى ازالة عقاب من تاب { وانا التواب الرحيم } اى المبالغ فى قبول التوبة ونشر الرحمة ولما ذكر لعنتهم احياء ذكر لعنتهم امواتا فقال ١٦١ { ان الذين كفروا } اى استمروا على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة { وماتوا وهم كفار } مصرون على كفرهم لا يرتدعون عن حالتهم الاولى { اولئك } مستقر { عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس اجمعين } اى هم المخصوصون باللعنة الابدية احياء وامواتا فمن يعتد بلعنتهم وهم المؤمنون لانهم هم الناس فى الحقيقة لانتفاعهم بالانسانية واما الكفار فهم كالانعام واضل سبيلا فلا اعتداد بهم عند اللّه او الناس عام لان الكفار يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا واللّه تعالى يلعنهم يوم القيامة ثم يلعنهم الملائكة ثم تلعنهم الناس والظالم يلعن الظالمين ومن لعن الظالمين وهو ظالم فقد لعن نفسه ١٦٢ { خالدين فيها } حال من المضمر فى عليهم اى دائمين فى اللعنة لانهم خلدوا فى النار خلدوا فى الابعاد عن رحمة اللّه تعالى { لا يخفف عنهم العذاب } استئناف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف اثر بيان كثرته من حيث الكم اى لا يرفع عنهم ولا يهون عليهم { ولا هم ينظرون } من الانظار بمعنى الامهال والتاجيل اى لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة او يعذبون على الدوام والاستمرار وان كل وجه من وجوه عذابهم يتصل بوجه آخر مثله او اشد منه وانهم لا يمهلون ولا يؤجلون ساعة ليستريحوا فيها او من النظربمعنى الانتظار اى لا ينتظرون ليعتذروا او بمعنى الرؤية اى لا ينظر اليهم نظر رحمة وانما خلدوا فى النار لان نيتهم كانت عبادة الاصنام ابدا ان عاشوا فجوزوا بتأبيد العذاب واما الدركات لان النيات متفاوتة كالاعمال والتأديب فى الحكمة واجب ولما اساء الكفار بسوء الاعتقاد فى حقه تعالى ادبوا بالحرمان من الجنة والخلود فى النار ونعم ما قيل سفيها نرا بود تأديب نافع ... جنونانرا جوشربت كشت دافع وانما حمل هؤلاء اليهود على ما فعلوا من الكتمان وغيره حب الرياسة والدنيا لانهم خافوا ان يذهب مأكلتهم من السفلة وما يغنى عنهم ذلك شيأ اذا كان مصيرهم الى النار وفى الخبر ان مؤمنا وكافرا فى الزمان الاول انطلقا يصيدان السمك فجعل الكافر يذكر آلهته ويأخذ السمك حتى أخذ سمكا كثيرا وجعل المؤمن يذكر اللّه كثيرا فلا يجيىء شىء ثم اصاب سمكة عند الغروب فاضطربت فوقعت فى الماء فرجع المؤمن وليس معه شىء ورجع الكافر وقد امتلأت شبكته فاسف ملك المؤمن الموكل عليه فلما صعد الى السماء اراه اللّه مسكن المؤمن فى الجنة فقال واللّه ما يضره ما اصابه بعد ان يصير الى هذا واراه مسكن الكافر فى جهنم فقال واللّه ما يغنى عنه ما اصابه من الدنيا بعد ان يصير الى هذا كذا فى شرح الخطب نركس اندرخواب غفلت يافت بلبل صدو صال ... خفته نابينا بود دولت به بيداران حسد ومرتكب المعاصى لو عرف عذاب الجحيم حق المعرفة لما ارتكبها حتى ان من قوى ظنه ان فى هذه الثقبة حية لا يدخل يده فيها فم ظنك فى ارتكاب المعاصى بملاحظة عذاب النار واعلم ان احبار اليهود لما لم ينتفعوا بعلمهم ضلوا فأضلوا فخذلهم اللّه ولعنهم وذكر فى الخالصة لن يهلك قوم بظلمهم وانما اهلكهم ظلم ولاتهم قال الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره وكذا الحال فى الارشاد فان الضلال والفساد فى الطالبين من فساد مرشدهم فما دام المرشد على الصراط المستقيم يحفظ اللّه تعالى الطالب من الضلال فان نزول البلاء على قوم من فساد رئيسهم وحكى ان امنا حواء اكلت اولا من الشجرة فلم يقع شىء فلما اكل منها ابونا آدم عليه السلام وقع الخروج من الجنة انتهى فويل لارباب الرياسة الذين ظلموا انفسهم وتجاوزو ظلمهم الى من عداهم فانهم هم الواقعون فى عذاب النار نار القطيعة والهجران وجهنم البعد عن اللّه ورحمته اللّهم احفظنا ١٦٣ { وآلهكم } خطاب عام لكافة الناس اى المستحق منك للعبادة { اله واحد } فرد فى الآلهية لا شريك له فيها ولا يصح ان يسمى غيره آلها فلا معبود الا هو وهو خبر مبتدأ وواحد صفة وهو الخبر فى الحقيقة لانه محط الفائدة ألا يرى انه لو اقتصر على ما قبله لم يفد { لا اله الا هو } تقرير للوحدانية وازاحة لا يتوهم ان فى الوجود آلها ولكن لا يستحق منهم العبادة يعنى بهذا فاعرفوه ودائما فاعبدوه ولا ترجوا غيره ولا تخافوا سواه ولا تعبدوا الا اياه والاستثناء بدل من اسم لا على المحل اذ محله الرفع على الابتداء والخبر محذوف اى لا اله كائن لنا او موجود فى الوجود الا اللّه واعلم ان الاسماء على ضربين اسم ظاهر واسم ضمير وكلمة هو اسم ضمير فكونها ضميرا لا ينافى كونها اسما وقد حقق الامام فى التفسير الكبير اسمية هذه الكلمة فليراجع وعند اهل الحقيقة كلمة هو اسم بحت لان كل ما يدل على الذات الاحدية فهو اسم محض عندهم سواء كان مظهرا او مضمرا ولذا يقال عالم الهوية باللام فاعرف هذا فانه ينفعك : وفى المثنوى از هواها كى رهى بى جام هو ... اى ز هو قانع شده با نام هو هيسج نامى بى حقيقت ديده ... يا ز كاف ولام كل كل جيدة اسم خواندى رو مسمارا بجو ... مه ببالا دان نه اندر آب جو نام وحرف خواهى بكذرى ... باك كن خودرا زخودهان يكسرى همجو آهن زاهنى بى رنك شو ... در رياضت آينه بى زنك شو خويش را صافى كن ازاوصاف خويش ... تا بينى ذات باك صاف خويش بينى اندر دل علوم انبياء ... بى كتاب وبى معيد و اوستا علم كان نبود ز هو بى واسطه ... آن نبايد همجو رنك ماشطه { الرحمن الرحيم } اى المولى لجميع النعم اصولها وفروعها ولا شىء سواه مستحق هذه الصفة فان كل شىء سواه اما نعمة واما منعم عليه فثبت ان غيره لا يستحق العبادة فلا يكون آلها فقوله الرحمن الرحيم كالحجة على الوحدانية وعن اسماء بنت يزيد انها قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( ان فى هاتين الآيتين اسم اللّه الاعظم وآلهكم اله واحد لا اله الا هو الرحمن الرحيم : واللّه لا اله الا هو الحيى القيوم ) قيل كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا كيف يسع الناس اله واحد فان كان محمد صادقا فى توحيد الاله فليئتنا بآية نعرف بها صدقه فنزل قوله تعالى ١٦٤ { ان فى خلق السموات والارض } اى فى ابداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العبر وبدائع الصنايع التى يعجز عن فهمها عقول البشر وانما جمع السموات وافرد الارض لان كل سماء ليست من جنس الاخرى بين كل سماءين من البعد مسيرة خمسمائة عام او لان فلك كل واحدة غير فلك الاخرى والارضون كلها من جنس واحد وهو التراب قال ابن التمجيد فى حواشيه وعند الحكماء محدب كل سماء مماس لمقعر ما فوق غير الفلك التاسع المسمى بالعرش فان محدبه غير مماس لشىء من الافلاك لان ما فوقه خلاء وبعد غير متناه عندنا وعند الحكماء لا خلاء فيه ولا ملاء والعلم عند اللّه { واختلاف الليل والنهار } اى فى تعاقبهما فى الذهاب والمجىء يخلف احدهما صاحبه اذا جاء احدهما جاء الآخر خلفه اى بعده وفى الزيادة والنقصان والظلمة والنور { والفلك التى تجرى فى البحر } لا ترسب تحت الماء وهى ثقيلة كثيفة والماء خفيف لطيف وتقبل وتدبر بريح واحدة والفلك فى الآية جمع وتأنيثه بتأويل الجماعة { بما ينفع الناس } ما اسم موصول والمصاحبة والجملة فى موضع النصب على الحالية من فاعل تجرى اى تجرى مصحوبة بالاعيان والمعانى التى تنفع الناس فانهم ينتفعون بركوبها والحمل فيها للتجارة فهى تنفع الحامل لانه يربح والمحمول اليه لانه ينتفع بما حمل اليه { وما } اى ان فيما { ما انزل اللّه من السماء } من لابتداء الغاية اى من جهة السماء { من ماء } بيان للجنس فان المنزل من السماء يعم الماء وغيره والسماء يحتمل الفلك على ما قيل من ان المطر ينزل من السماء الى السحاب ومن السحاب الى الارض ويحتمل جهة العلو سماء كانت او سحابا فان كل ما علا الانسان يسمى سماء ومنه قيل للسقف سماء البيت { فاحيى به } عطف على ما انزل اى نضر بالماء النازل { الارض } بانوا النبات والازهار وما عليها من الاشجار { بعد موتها } اى بعد ذهاب زرعها وتناثر اوراقها باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها قال ابن الشيخ فى حواشيه لما حصل للارض بسبب ما نبت فيها من انواع النبات حسن وكمال شبه ذلك بحياة الحيوان من حيث ان الجسم اذا صار حيا حصل فيه انواع من الحسن والنضارة والبهاء والنماء فكذلك الارض اذا تزينت بالقوة المنبتة وما يترتب عليها من انواع النبات { وبث فيها } اى فرق ونشر فى الارض { من كل دابة } من كل حيوان يدب على وجهها من العقلاء وغيرهم وهو معطوف على فاحيى والمناسبة ان بث الدواب يكون بعد حياة الارض بالمطر لانهم ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر { وتصريف الرياح } عطف على ما انزل اى فى تقليبها فى مهابها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا وفى كيفيتها حارة وباردة وفى احوالها عاصفة ولينة وفى آثارها عقما ولواقح وقيل فى اتيانها تارة بالرحمة وتارة بالعذاب قال ابن عباس رضى اللّه عنهما اعظم جنود اللّه الريح والماء وسميت الريح ريحا لانها تريح النفوس قال وكيع الجراح لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا قال شريح القاضى ما هبت الريح الا لشفاء سقيم او لسقم صحيح وقال بكر بن عباس لا تخرج من السحاب قطرة حتى تعمل فى السحاب هذه الرياح الاربع فالصبا تهيجه والجنوب تقدره والدبور تلقحه والشمال تفرقه واصول الرياح هذه الاربع فالشمال من ناحية الشام والجنوب تقابلها والصبا هى القبول من المشرق والدبور تقابلها وكل ريح جاءت بين مهب ريحين فهى نكباء لانها نكبت اى عدلت ورجعت عن مهاب هذه الاربع وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص الرياح ثمان اربع رحمة واربع عذاب فالرحمة الناشرات وهى الرياح الطيبة والمبشرات وهى الرياح التى تبشر بالغيث واللواقح وهى التى تلقح الاشجار والذاريات وهى التى تذر والتراب وغيره والعذاب الصرصر والعقيم وهما فى البر والعاصف والقاصف وهما فى البحر والعقيم هى التى لم تلقح سحابا ولا شجرا والعاصف الشديدة الهجوم التى تقلع الخيام { والسحاب المسخر } عطف على تصريف اى الغيم المذلل المنقاد الجارى على ما اجراه اللّه تعالى عليه وهو اسم جنس واحده سحابة وسمى سحابا لانه ينسحب فى الجو اى يسير فى سرعة كأنه يسحب اى يجر { بين السماء والارض } صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى { سحابا ثقالا } اى لا ينزل الارض ولا ينكشف مع ان طبع السحاب يقتضى احد هذين النزول والانكشاف قيل لانه لو كان خفيفا لطيفا ينبغى ان يصعد ولو كثيفا يقتضى ان ينزل { لآيات } اسم ان دخلته اللام لتأخره عن خبرها ولو كان فى موضعه لما جاز دخول اللام عليه والتنكير للتفخيم كما وكيفا اى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة والواسعة المقتضية لاختصاص الالوهية به سبحانه { لقوم } فى محل النصب لانه صفة لآيات فيتعلق بمحذوف { يعقلون } فى محل الجر على انه صفة لقوم اى يتفكرون فيها وينظرون اليها بعيون العقول والقلوب ويعتبرون بها لانها دلائل على عظم قدرة اللّه فيها وباهر حكمته فيستدلون بهذه الاشياء على موجدها فيوحدونه وفيه تعريض لجهل المشركين الذين اقترحوا على الرسول آية تصدقه فى قوله تعالى { والهكم اله واحد } وتسجيل عليهم بسخافة العقول اذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ) المج حقيقة قذف الريق ونحوه من الفم عدى بالباء لما فيه من معنى الرمى واستعير ههنا لعدم الاعتبار والاعتداد فان من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه واعلم ان قوله تعالى { وآلهكم اله واحد لا اله الا هو } اول آية نزلت فى التوحيد بحسب الرتبة اى اقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا فان اول رتبة التوحيد من طرفنا توحيد الافعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ افهام الناس نزل الى مقام توحيد الصفات بقوله الرحمن الرحيم ثم الى توحيد الافعال ليستدل به عليه فقال ان فى خلق الآية كذا فى التأويلات القاشانية ومن نتائج صفة الرحمن الرحيم فى حق الانسان ما اشار اليه فى قوله ان فى خلق الخ يعنى ان الحكمة فى خلق هذه الاشياء ان يكون كل شىء فى حق الانسان ما اشار اليه فى قوله ان فى خلق الخ يعنى ان الحكمة فى خلق هذه الاشياء ان يكون كل شىء مظهر آية من آيات اللّه ولا فائدة لهذه الاشياء من الآيات المودعة فيها فان فائدتها عائدة الى الانسان لانهم قوم يعقلون الآيات كما قال { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق } فالعالم بما فيه خلق بتبعية الانسان لان العالم مظهر آيات الحق والآيات المرئيات الانسان والانسان مظهر معرفة الحق ولهذا قال { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } اى ليعرفون فلو لم يكن لاجل معرفة اللّه ما خلق الانسان ولو لم يكن لاجل الانسان ما خلق العالم بما فيه كما قال للنبى عليه الصلاة والسلام ( لولاك لما خلقت الكون ) وكان العالم مرآة يظهر فيه آيات كمال الحق وجلاله والانسان هو المشاهد لآيات الجمال والجلال فى مرآة العالم وهو مرآة يظهر فيه مرآة العالم وما يظهر فيه كما قال تعالى { وفى انفسكم أفلا تبصرون } وهذا تحقيق قوله ( من عرف نفسه فقد عرف ربه ) لان نفسه مرآة جمال ربه وليس احد غير الانسان يشاهد حال ربه فى مرآة العالم ومرآة نفسه باراءة الحق كما قال { سنريهم آياتنا } فاعرف قدرك لتعرف قدر ربك يا مسكين ومما يدل على ان خلق السموات والارض وما بينهما تبع لخلق الانسان قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الارض اللّه اللّه ) يعنى اذا مات الانسان الذى هو يقول اللّه اللّه قامت القيامة فلم تبق السموات والارض لان وجودهما كان تبعا لوجود الانسان فاذا لم يبق المتبوع ما بقى التابع كذا فى التأويلات النجمية فعلى السالك ان يصل بالذكر الحقيقى الى المقصود الاصلى فان التوحيد ينفى الباطل وينفى الاغيار روى عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لابى حصين ( كم تعبد اليوم من اله ) فقال اعبد سبعا ستا فى الارض وواحدا فى السماء قال ( وأيهم تعبده لرغبتك ورهبتك ) فقال الذى فى السماء فقال عليه الصلا والسلام ( فيكفيك اله السماء ) ثم قال يا حصين لو اسلمت علمتك كلمتين تنفعانك فأسلم حصين ثم قال يا رسول اللّه علمنى هاتين الكلمتين فقال عليه الصلاة والسلام ( قل اللّهم ألهمنى رشدى واعذنى من شر نفسى ) ١٦٥ { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه } من لابتداء الغاية متعلق بيتخذ ودون فى الاصل ظرف مكان استعمل هنا بمعنى غير مجازا والاتخاذ بمعنى الصنع والعمل متعد الى مفعول واحد وهو هنا قوله { اندادا } هى الاصنام التى بعضها انداد لبعض اى امثال او انها انداد للّه تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة من حيث انهم كانوا يرجون من عندها النفع والضرر وقصدوها بالمسائل وقربوا لها القرابين فارجاع ضمير العقلاء اليه فى قوله تعالى { يحبونهم } مبنى على آرائهم الباطلة فى شأنها من وصفهم بما لا يوصف به الا العقلاء او هى الرؤساء الذين يطيعونهم قال القاضى ولعل المراد اعم منهما وهو ما يشغله عن اللّه تعالى فانه قال الصوفية والعارفون كل شىء شغلت به قلبك سوى اللّه تعالى فقد جعلته فى قلبك ندا له تعالى ويدل عليه قوله تعالى { أفرأيت من اتخذ اللّه هواه } { يحبونهم } الجملة صفة لانداد اى يعظمونهم ويخضعون لهم ويطيعونهم تعظيم المحبوب واطاعته { كحب اللّه } اى حبا كائنا مثل حبهم اللّه تعالى اى يسوون بينه تعالى وبينهم فى الطاعة والتعظيم والمقصود من التشبيه ما فى الوصف من القوة والضعف والمراد ههنا التسوية وهذه التسوية فى التعظيم لا تنافى اقرارهم بربوبيته تعالى كما يدل عليه قوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن اللّه } ولفظ المحبة مأخوذ من الحب بالفتح كحبة الحنطة والشعير شبه حبة القلب اى سويداءه بالحب المعروف فى كون كل منهما منشأ ومبدأ للآثار العجيبة فاستعير اسم الحب لها ثم اشتق من الحب المستعار للقلب الحب بمعنى ميل القلب لانه اصابها ورسخ فيها ومحبة العبد للّه تعالى ارادة طاعته فى اوامره ونواهيه والاعتناء لتحصيل مراضيه ومحبة اللّه للعبد ارادة اكرامه واستعماله فى الطاعة وصونه من المعاصى ثم فصل محبة المؤمنين بقوله { والذين آمنوا اشد حباً للّه } من حب الكفرة لاندادهم لانه لا ينقطع محبتهم للّه بخلاف محبة الانداد فانها لاغراض فاسدة موهومة تزول بادنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم الى اللّه تعالى عند الشدائد ويعبدون الصنم زمانا فاذا رأوا صنما يعجبهم اخذوه وطرحوا الاول. وروى ان باهلة عملت لها الها من خسّ فاكلوه عام المجاعة { ولو يرى الذين ظلموا } اى لو يعلم هؤلاء الذين اشركوا باتخاذ الانداد ووضعها موضع المعبود { اذ يرون العذاب } المعد لهم يوم القيامة اى عاينوه فهى من الرؤية بالعين { ان القوة } اى الغلبة والقدرة الآلهية { للّه جميعا } نصب حالا والجملة سادة مسد مفعولى يرى { وان اللّه شديد العذاب } عطف على ان القوة للّه وفائدته المبالغة فى تهويل الخطب وتفظيع الامر فان اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف اى لو علم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم بشركهم ان القدرة كلها للّه على كل شىء من الثواب والعقاب دون اندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين اذا عاينوا العذاب يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة على عبادة الانداد فيما لا يكاد يوصف ١٦٦ { اذ تبرأ الذين اتبعوا } بدل من اذ يرون واصل التبرى التخلص ويستعمل للتفصى والتنصل مما تكره مجاورته والمعنى اذ تبرأ الرؤساء المتبوعون { من الذين اتبعوا } اى من الاتباع بان اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه فى الدنيا ويدعونهم اليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن { ورأوا العذاب } الواو حالية وقد مضمرة اى تبرأوا حال رؤيتهم العذاب { وتقطعت بهم الاسباب } عطف على تبرأ وتوسط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى اى انقرضت عنهم الوصل التى كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد والانساب والمحاب والاتباع والاستتباع فالباء فى بهم بمعنى عن كما فى قوله تعالى { فاسأل به خبيرا } او للسببية اى تقطعت بسبب كفرهم الاسباب التى يرجون بها النجاة او للتعدية اى قطعتهم الاسباب كما تقول فرقت بهم الطريق اى فرقتهم ١٦٧ { وقال الذين اتبعوا } حين عاينوا تبرى الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم فى الدنيا { لو ان لنا كرة } اى ليت لنا رجعة الى الدنيا وعودة { فنتبرأ منهم } هناك { كما تبرأوا منا } اليوم اى تبرأ مثل تبرئهم فالكاف منصوب المحل على انها صفة مصدر محذوف { كذلك } اى مثل ذلك الايراء الفظيع وهو نزول العذاب عليهم وتبرى بعضهم من بعض { يريهم اللّه اعمالهم حسرات عليهم } اى ندمات شديدة فان الحسرة شدة الندم والكمد وهى تألم القلب وانحساره عما يؤلمه بحيث يبقى النادم كالحسير من الدواب وهو الذى انقطعت قوته فصار بحيث لا ينتفع به واصل الحسر الكشف ومن فات عنه ما يهواه وانكشف قلبه عنه يلزمه الندم والتأسف على فواته فلذلك عبر عن الحسرة التى هى انكشاف القلب عما يهواه بلازمه الذى هو الندم والرؤية ان كانت بصرية تكون حسرات حالا من اعمالهم والمعنى ان اعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون اعمالهم الا حال كونها حسرات وان كانت قلبية فهى ثالث مفاعيل يرى وعليهم يتعلق اما بحسرات والمضاف محذوف اى على تفريطهم او بمحذوف منصوب على انه صفة لحسرات اى حسرات مستولية عليهم فان ما عملوه من الخيرات محبوطة بالكفر فيتحسرون لم ضيعوها ويتحسرون على ما فعلوه من المعاصى لم عملوها قال السدى ترفع لهم الجنة فينظرون اليها والى بيوتهم فيها لو اطاعوا اللّه فيقال لهم تلك مساكنكم لو اطعمتم اللّه ثم تقسم بين المؤمنين وذلك حين يندمون ويتحسرون { وما هم بخارجين من النار } لانهم خلقوا لاجلها روى انه يساق اهل النار الى النار لم يبق منهم عضوا الا لزمه عذاب اما حية تنهشه او ملك يضربه فاذا ضربه الملك هوى فى النار مقدار اربعين يوما لا يبلغ قرارها ثم يرفعه اللّهب ويضربه الملك فيهوى فاذا بدا رأسه ضربه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب فاذا عطش احدهم طلب الشراب فيؤتى بالحميم فاذا دنا من ودهه سقط وجهه ثم يدخل فى فيه فتسقط اضراسه ثم يدخل بطنه فيقطع امعاءه وينضج جلده وهكذا يعذبون فى النار لا يموتون فيها ولا يحيون ولا يخرجون قال سعيد بن جبير ان اللّه تعالى يأمر يوم القيامة من احرق نفسه فى الدنيا على ربوبية الاصنام ان يدخلوا جهنم مع اصنامهم فلا يدخلون لعلمهم ان عذاب جهنم على الدوام ثم يقول للمؤمنين بين ايدى الكفار ان كتنم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادى مناد من تحت العرش والذين آمنوا اشد حبا للّه لان اللّه احبهم اولا ثم احبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته اتم قال تعالى { يحبهم ويحبونه } ومن لم يكن اهلا لمحبة اللّه ازلا طردته العزة الى محبة الانداد وهى كل ما يحب سوى اللّه فمن وكل الى المحبة النفسانية تعلقت محبته بملائم هوى النفس من الاصنام فكما ان الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها وبعضهم يحبون الاولاد ويعبدونها فمحبة الاولاد والازواج والاموال تمنع عن محبة اللّه ومن احب اللّه يرى ما سواه بنظر العداوة كما قال الخليل عليه السلام فانهم عدو لى الا رب العالمين ومن كان فى الازل اهلا لمحبة اللّه جذبته العناية فتجلى له الحق فانعكست تلك المحبة لمرآة قلبه فلا تتعلق بغير اللّه لانها من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة والاعداء احبوا الانداد بمحبة فانية نفسانية والاحباء احبوا اللّه بمحبة باقية ربانية بل احبوه بجميع اجزائهم الفانية والباقية اللّهم اوصلنا الى حقيقة المحبة واليقين والتمكين ١٦٨ { يا ايها الناس } نزلت فى قوم حرموا على انفسهم رفيع الاطعمة والملابس { كلوا مما فى الارض } اى من بعض ما فيها من اصناف المأكولات لان كل ما فيها لا يؤكل { حلالا } حال من الموصول اى حال كونه حلالا وهو ما انحل عنه عقد الحظر { طيبا } طاهرا من جميع الشبه صفة حلالا او الحلال ما يستطيبه الشرع والطيب ما يستطيبه الشهوة المستقيمة اى يستلذه الطبع { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } الخطوة بالفتح المرة من نقل القدم وبالضم بعد ما بين قدمى الماشى يقال اتبع خطواته ووطئ على عقبه اذا اقتدى به واستن بسنته اى لا تقتدوا بآثاره وطرقه ومذاهبه فى اتباع الهوى وهى وساوسه فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام { انه لكم عدو مبين } تعليل للنهى اى ظاهر العداوة عند ذوى البصيرة واما عند متبعى الهوى الذين لا بصيرة لهم فهو كولى حميم حيث يدلهم على مشتهات نفوسهم ولذائذ مراداتها المستحسنة فقوله مبين من ابان بمعنى بان وظهر وجعله الواحدى من ابان المتعدى حيث قال انه عدو مبين قد ابان عداوته لكم بابائه السجود لابيكم آدم وهو الذى اخرجه من الجنة ١٦٩ { انما يأمركم } اى يوسوس لكم شبه تسلطه عليهم بآمر مطاع وشبهوا فى قبولهم للوسوسة وطاعتهم له بالطبع بمأمور مطيع وفيه رمز الى انهم بمنزلة المأمورين المنقادين له تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم { بالسوء } وهو كل ما ساءك فى عاقبتك يطلق على جميع المعاصى سواء كانت من اعمال الجوارح او اعمال القلوب لاشتراك كلها فى انها تسوء صاحبها وتحزنه { والفحشاء } من عطف الخاص على العام اى اقبح انواع المعاصى واعظمها مساءة فالزنى فاحشة والبخل فاحشة وكل فعلة قبيحة فاحشة واصل الفحش مجاورة القدر فى كل شىء وجعل البيضاوى المغايرة بين السوء والفحشاء بحسب المفهوم دون الذات فانه سميت المعصية سوأ لاغتمام العاقل بها وفحشاء باستقباحه اياها فاطلاق السوء والفحشاء على المعصية من قبيل التوصيف بالمصدر للمبالغة مثل رجل عدل { وان تقولوا } اى يأمركم بان تفتروا { على اللّه } بانه حزم هذا او ذاك { ما لا تعلمون } ان اللّه تعالى امر به وهو اقبح ما امر به الشيطان من القبائح لان وصفه تعالى بما لا ينبغى ان يوصف به من اعظم انواع الكبائر كما ان الفحشاء اقبح انواع السوء فان قيل كيف يأمرنا الشيطان بذلك ونحن لا نراه ولا نسمع كلامه فكيف وسوسته وكيف وصوله الى القلب قلنا وهو كلام خفى على ما قيل تميل اليه النفوس والطبع وقد قيل يدخل فى جسد ابن آدم لانه جسم لطيف ويوسوس وهو انه يحدث النفس بالافكار الرديئة قال تعالى { يوسوس فى صدور الناس } ومن دعاء النبى صلى اللّه عليه وسلم ( اللّهم اعمر قلبى من وساوس ذكرك واطرد عنى وساوس الشيطان ) قال فى اكام المرجان وينحصر ما يدعو الشيطان اليه ابن آدم ويوسوس له فى ست مراتب المرتبة الاولى مرتبة الكفر والشرك ومعاداة رسوله فاذا ظفر بذلك من ابن آدم برد انينه واستراح من تعبه معه لانه حصل منتهى امنيته وهذا اول ما يريده من العبد المرتبة الثانية البدعة هى احب اليه من الفسوق والمعاصى لان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لان صاحبها يظنها حقيقة صحيحة فلا يتوب فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الثالثة وهى الكبائر على اختلاف انواعها فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الرابعة وهى الصغائر التى اذا اجتمعت صارت كبيرة والكبائر ربما اهلكت صاحبها كما قال عليه السلام ( اياكم ومحقرات الذنوب ) فان مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الارض فجاء كل واحد يعود حطب حتى اوقدوا نارا عظيمة وطبخوا وشبعوا فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الخامسة وهى اشتغاله بالمباحات التى لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذى فات عليه باشتغاله بها فان عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة السادسة وهى ان يشغله بالعمل المفضول عما هو افضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيجره من الفاضل الى المفضول ومن الافضل الى الفاضل ليتمكن من ان يجره من الفاضل الى الشرور بما يجره من الفاضل السهل الى الافضل الاشق كمائة ركعبة بالنسبة الى ركعتين ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية وانما خلق اللّه ابليس ليتميز به الخبيث من الطيب فخلق اللّه الانبياء لتقتدى بهم السعداء وخلق ابليس لتقتدى به الاشقياء ويظهر الفرق بينهما فابليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون واعرضوا عنها والراغبون فيها لم يجدوا فى قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له اعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هى فقال ابليس اعطونى رهنا فاعطوه سمعهم وابصارهم ولذا يحب ارباب الدنيا استماع اخبارها ومشاهدة زينتها لان سمعهم وبصرهم رهن عند ابليس فاعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل حبك الشىء يعمى ويصم فعلى العاقل ان يزهد ويرغب عن الدنيا ولا يقبل منها الا الحلال الطيب قال الحسن البصرى الحلال الطيب ما لا سؤال فيه يوم القيامة وهو ما لا بد منه قال النبى عليه السلام ( ان اللّه يهب لابن آدم ما لا بد منه ثوب يوارى به عورته وخبز يرد جوعته وبيت كعش الطير ) فقيل يا رسول اللّه فكيف الملح فقال ( الملح مما يحاسب به ) وفى التأويلات النجمية الحلال ما اباح اللّه اكله والطيب ما لم يكن مشويا بشبهة حقوق الخلق ولا بسرف حظوظ النفس وكل طيب حلال وليس كل حلال طيبا ولهذا قال النبى عليه السلام ( ان اللّه طيب ولا يقبل الا الطيب ) يعنى غير مشوب بعيب او شبهة قيل ولا يقال ان اللّه حلال واعلم ان اكل الحلال الطيب يورث القيام بطاعة اللّه والاجتناب عن خطوات الشيطان فالعمل الصالح نتيجة اللقمة الطيبة : وفى المثنوى علم وحكمت زايد از لقمه حلال ... عشق ورقت زايد از لقمه حلال جون زلقمه توحسد بينى ودام ... جهل وغفلت زايد آنرادان حرام هيج كندم كارى وجو بردهد ... يديه اسبى كه كره خرد دهد لقمه تخمست وبرش انديشها ... لقمه بحر وكوهرش انديشها زايد ازلقمه حلال اندردهان ... ميل خدمت عزم سوى آن جهان وطلب الحلال بالكسب المشروع سنة الانبياء عليهم السلام وفى الكسب فوائد كثيرة. منها الزيادة على رأس المال ان عمل للتجارة والزراعة وغرس الاشجار وفيها صدقة لما اكلته الطيور وغيرها. ومنها اشتغال المكتسب بالكسب عن البطالة واللّهو. ومنها كسر النفس وصيرورتها قليلة الطغيان. ومنها ان الكسب واسطة الامان من الفقر الذى هو اسوداد الوجه فى الدارين ولا يتحرك فى الكسب لاجل عياله الا قال له حافظاه بارك اللّه لك فى حركاتك وجعل نفقاتك ذخرا لك فى الجنة ويؤمن عليهما ملائكة السموات والارض وافضل الكسب الجهاد ثم التجارة ثم الحراثة ثم الصناعة ١٧٠ { واذا قيل لهم } نزلت فى مشركى العرب وكفار قريش امروا باتباع القرآن وسائر ما انزل تعالى من البينات الباهرة فجنحوا للتقليد اى واذا قيل للمشركين من الناس على وجه النصحية والارشاد { اتبعوا ما انزل اللّه } كتاب اللّه الذى انزله فاعملوا بتحليل ما احل اللّه وتحريم ما حرم اللّه فى القرآن ولا تتبعوا خطوات الشيطان { قالوا بل } عاطفة للجملة التى تليها على الجملة المحذوفة قبلها { نتبع ما الفينا } او وجدنا { عليه آباءنا } من اتخاذ الانداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك لانهم كانوا خيرا منا فقلدوا آباءهم فانظروا ايها العقلاء الى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون فقال اللّه تعالى ردا عليهم بهمزة الانكار والتعجب مع واو الحال بعدها { أولو كان آباؤهم } لما اقتضت الهمزة صدر الكلام والواو وسطه قدر بين الهمزة والواو جملة لتقع الهمزة فى صدرها والمعنى أيتبعونهم ولو كان آباؤهم اى فى حال كون آبائهم { لا يعقلون شيأ } من الدين لانهم كانوا يعقلون امر الدنيا { ولا يهتدون } للصواب والحق يعنى هذا منكر مستبعد جدا لان اتباع من لا عقل له ولا اهتداء الى طريق الحق لا وجه له اصلا ١٧١ { ومثل } واعظ { الذين كفروا } وداعيهم الى الحق { كمثل } الراعى { الذى ينعق } نعق الراعى والمؤذن بعين مهملة صوت وبالمعجمة نغق للغراب والمعنى يصوت { بما لا يسمع } وهو البهائم اى لا يدك بالاستماع { الا دعاء } صوتا من الناعق { ونداء } زجرا مجردا من غير فهم شىء آخر وحفظه كما يفهم العاقل ويجيب قيل الفرق بين الدعاء والنداء ان الدعاء للقريب والندا للبعيد ويحتمل ان يكون الدعاء اعم من النداء والتشبيه المذكور فى الآية من قبيل التشبيه المفرق شبه داعى الكافر بالناعق ونفس الكفرة بالبهائم المنعوق بها ودعاء داعى الكفرة بنعيق الناعق بالبهائم والمعنى مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا فى وعظهم ودعائهم الى اللّه وعدم اهتدائهم كمثل الراعى الذى يصيح بالغنم ويكلمها ويقول كلى واشربى وارعى وهى لا تفهم. شيأ مما يقول لها كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن اللّه شيأ { صم } اى هم صم يعنى كأنهم يتصاممون عن سماع الحق { بكم } بمنزلة الخرس فى ان لم يستجيبوا لما دعوا اليه { عمى } بمنزلة العمى من حيث اعراضهم عن الدلائل كأنهم لم يشاهدوها ثم انه تعالى لما شبههم بفاقدى هذه القوى الثلاث التى يتوسل بها الى تمييز الحق من الباطل واختيار الحق فرع على هذا التشبيه قوله { فهم لا يعقلون } اى لا يكتسبون الحق بما جبلوا عليه من العقل الغريزى لان اكتسابه انما يكون بالنظر والاستدلال ومن كان كالاصم والاعمى فى عدم استماع الدلائل ومشاهدتها كيف يستدل على الحق ويعقله ولهذا قيل من فقد حسا فقد فقد علما وليس المراد نفى اصل العقل لان نفيه رأسا لا يصلح طريقا للذم وهكذا لا ينفع الوعظ فى آخر الزمان لان آذان الناس مسدودة عن استماع الحق واذهانهم مصدودة عن قبوله : ونعم ما قال السعدى فهم سخن جون نكند مستمع ... قوت طبع از متكلم مجوى فسحت ميدان ارادت بيار ... تابزند مرد سخن كوى كوى وفى قوله تعالى { ولو كان آباؤهم } الآية اشارة الى قطع النظر عن الاسلاف السوء واتباع اهل الاهواء المختلفة والبدع الذين لا يعقلون شيأ من طريق الحق وضلوا فى تيه محبة الدنيا ويدعون انهم اهل العلم وليسوا من اهله اتخذوا العلم مكسبا للمال والجاه وقطعوا الطريق على اهل الطلب قال تعالى فى بعض الكتب المنزلة [ لا تسألن عن عالم قد اسكره حب الدنيا فاولئك قطاع الطريق على عبادى ] فمن كان على جادة الحق وصراط الشريعة وعنده معرفة سلوك مقامات الطريقة يجوز الاقتداء به اذ هو من اهل الاهتداء الى عالم الحقيقة دون مدعى الشيوخة بطريق الارث من الآباء ولاحظ لهم من طريق الاهتداء فانهم لا يصلحون للاقتداء : قال السعدى جو كنعانرا طبيعت بى هنربود ... بيمبر زادكى قدرش نيفزود هنر بنماى اكردارى به كوهر ... كل ازخارست وابراهيم از آزر وفى التأويلات النجمية ان { مثل الذين كفروا } كان فى عالم الارواح عند الميثاق اذ خاطبهم الحق بقوله ألست بربكم { كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء } لانهم كانوا فى الصف الاخير اذ الارواح كانوا جنودا مجندة فى اربعة صفوف فكان فى الصف الاول ارواح الانبياء عليهم السلام وفى الثانى ارواح الاولياء وفى الثالث ارواح المؤمنين وفى الرابع ارواح الكافرين فاحضرت الذرات التى استخرجت من ظهر آدم من ذرياته واقيمت كل ذرة بازاء روحها فخاطبم الحق ألست بربكم فالانبياء سمعوا كلام الحق كفاحا بلا واسطة وشاهدوا انوار جماله بلا حجاب ولهذا استحقوا ههنا النبوة والرسالة والمكالمة والوحى اللّه اعلم حيث يجعل رسالته والاولياء سمعوا كلام الحق وشاهدوا انوار جماله من انوار حجاب ارواح الانبياء ولهذا ههنا احتاجوا لمتابعة الانبياء فصاروا عند القيام باداء حق متابعتهم مستحقى الالهام والكلام من وراء الحجاب والمؤمنون سمعوا خطاب الحق من وراء حجاب الانبياء وحجاب ارواح الاولياء ولهذا آمنوا بالغيب وقبلوا دعوة الانبياء وان بلغتهم من وراء حجاب رسالة جبريل وحجاب رسالة الانبياء فقالوا سمعنا واطعنا ومما يدل على هذه التقريرات قوله تعالى { وما كان لبشر ان يكلمه اللّه الا وحيا او من وراء حجاب } يعنى الاولياء { او يرسل رسولا } يعنى المؤمنين والكفار لما سمعوا من الخطاب نداء من وراء الحجب الثلاثة كانوا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء فما شاهدوا من انوار كمال الحق لا قليلا ولا كثيرا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وما فهموا شيأ من كلام الحق الا انهم سمعوا من ذرات المؤمنين من وراء الحجاب لما قالوا بلى فقالوا بالتقليد ولهذا ههنا قلدوا ما الفوا عليه آباءهم لقوله تعالى { انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون } فلما تعلقت ارواحهم بالاجساد وتكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية واظلمت بظلمات الصفات الحيوانية وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التمتعات البهيمية والاخلاق الشيطانية واللذات الجسمانية اصمهم اللّه واعمى ابصارهم فهم الآن { صم } عن استماع دعوة الانبياء بسمع القبول { بكم } عن قول الحق والاقرار بالتوحيد { عمى } عن رؤية آيات المعجزات { فهم لا يعقلون } ابدا لانهم ابطلوا بالرين صفاء عقولهم الروحانية وحرموا من فيض الانوار الربانية : قال الصائب جرا زغير شكايت كنم كه همجو حباب ... هميشه خانه خراب هواى خوبشتنم وفى المثنوى : كرجه ناصح را بود صد داعيه ... بندرا اذنى ببايد واعيه توبصد تلطيف بنداش ميدهى ... اوزبندت ميكند بهلوتهى يك كس نامستمع زاستيزورد ... صدكس كوينده را عاجز كند زانبيا ناصح تر وخوش لهجة تر ... كى بودكه رفت دمشان درحجر زانجة كوه وسنك دركار آمدند ... مى نشد بد بخت رابكشاده بند آنجنان دلها كه بدشان ما ومن ... نعتشان شد بل اشد قسوة فعلى العاقل ان يتدارك حاله بسلوك طريق الرضى والندم على مضى ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ويصفى قلبه الى ان تنعكس اليه انوار الملك الخلاق وذلك لا يحصل غالبا الا بتربية كامل من اهل التحقيق لان المرء محجوب عن ربه وحجابه الغفلة وهى وان كانت لا ترفع ولا تزول الا بفضل اللّه تعالى لكنه باسباب كثيرة ولا اهتداء الى علاج المرض الا باشارة حكيم حاذق وذلك هو المرشد الكامل فاذا يزول الرين عن القلب وتنفتح روزنة البال الى الغيب فيكون اقرار السالك تحقيقا لا تقليدا وتوحيده تجريدا وتفريدا فحينئذ يعكس الامر فيكون اصم عن سماع اخبار ما سوى المحبوب الحقيقى ابكم عن افشاء سر الحقيقة اعمى عن رؤية الاغيار فى هذه الدار الفانية اللّهم خلصنا من التقليد واوصلنا الى حقيقة التوحيد انك حميد مجيد ١٧٢ { يا ايها الذين آمنوا كلوا } رزقكم { من طيبات ما رزقناكم } اى من حلالاته لان ما رزقناكم اعم من الحلال والحرام عند اهل السنة او من لذيذاته لانه اعم ايضا من المستلذ والمستكره قال ابن الشيخ وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام واولى من حمله على الحلال الطاهر من الشبهة لان المقام مقام الامتنان بما رزقه من لذائذ الاحسان وطلب شكر المنعم المنان والطيب له ثلاثة معان المستلذ طبعا والمباح شرعا والطاهر وضعا وفى الآية اشارة الى انه لا بأس بالتفكه بانواع الفواكه لانها من الطيبات وتركه افضل لئلا ينفر من درجته ويدخل تحت قوله تعالى { اذهبتم طيباتكم فى حيوتكم الدنيا } والامر باكل الطيبات لفائدتين. احديهما ان يكون اكلهم بالامر لا بالطبع فيمتازون عن الحيوانات ويخرجون من حجاب الظلمة الطبع بنور الشرع. والثانى ليثيبهم بائتمار امر الاكل { واشكروا للّه } الذى رزقكموها واحلها لكم والشكر صرف العبد جميع اعضائه الظاهرة والباطنة الى ما خلقت لاجله وهذا الامر ليس امر اباحة بل هو للايجاب اذ لا شك فى انه يجب على العاقل ان يعتقد بقلبه ان من اوجده وانعم عليه بما لا يحصى من النعم الجليلة مستحق لغاية التعظيم وان يظهر ذلك بلسانه وبسائر جوارحه { ان كنتم اياه تعبدون } اى ان كنتم مؤمنين باللّه ومخصصين اللّه بالعبادة فاشكروا له فان الايمان يوجب ذلك وهو من شرائطه وهو مشهور فى كلامهم يقول الرجل لصاحبه الذى عرف انه يحبه ان كنت لى محبا فافعل كذا فيدخل حرف الشرط فى كلامه تحريكا له على ما يؤمر به واعلاما انه من شرائط المحبة وليس المراد ان انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فان من لا يفعل هذه العبادة يجب الشكر عليه ايضا وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( يقول اللّه تعالى انى والانس والجن لفى نبأ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى ) قال السعدى مكن كردن ازشكر منعم مييج ... كه روز بسين سربر ارى بهيج ١٧٣ { انما حرم عليكم الميتة } اى ما مات بغير ذكاة مما يذبح والسمك والجراد مستثنيان بالعرف لانه اذا قيل فلان اكل ميتة لم يسبقا الى الفهم ولا اعتبار للعادة قالوا من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وان اكل لحما فى الحقيقة قال اللّه تعالى { لتأكلوا منه لحما طريا } والمراد بتحريم الميتة تحريم اكلها وشرب لبنها او الانتفاع بها لان الاحكام الشرعية انما تتعلق بالافعال دون الاعيان { والدم } الجارى والكبد والطحال مستثنيان ايضا بالعرف فهما حلالان { ولحم الخنزير } قد انعقد الاجماع على ان الخنزير حرام لعينه فيكون جميع اجزائه محرما وانما خص اللّه لحمه بالذكر لانه معظما ما ينتفع به من الحيوان فهو الاصل وما عداه تبع له { وما اهل به لغير اللّه } اى وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه للصنم واصل الاهلال رفع الصوت وكانوا اذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون اصواتهم بذكرها ويقولون باسم اللات والعزى فجرى ذلك من امرهم حتى قيل لكل ذابح وان لم يجهر بالتسمية مهل قال العلماء لو ذبح مسلم ذبيحة وقصد بها التقرب الى غير اللّه صار مرتدا وذبيحته ميتة وذبائح اهل الكتاب تحل لنا لقوله تعالى { وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم } الا ان سموا غير اللّه فانها حينئذ لا تحل لهذه الآية فان قوله تعالى { وطعام الذين } الخ عام وقوله { وما اهل به لغير اللّه } خاص مقدم على العام { فمن } يحتمل ان تكون شرطية وموصولة { اضطر } اى احوج وألجئ الى اكل شىء مما حرم اللّه بان لا يجد غيرها وجد ان الاضطرار ان يخاف على نفسه او على بعض اعضائه التلف { غير } نصب على الحال فانه اذا صلح فى موضع لا فهو حال وان صلح فى موضع الا فهو استثناء والا فهو صفة وذو الحال ههنا فاعل فعل محذوف بعد قوله اضطر تقديره فمن اضطره احد امرين الى تناول شىء من هذه المحرمات احدهما الجوع الشديد مع عدم وجدان مأكول حلال يسد رمقه وثانيهما الاكراه على تناوله فتناول واكل حال كونه غير { باغ } على مضطر آخر بأن حصل ذلك المضطر الآخر من الميتة مثلا قدر ما يسد به جوعته فأخذه منه وتفرد بأكله وهلك الآخر جوعا وهذا حرام لان موت الآخر جوعا ليس اولى من موته جوعا { ولا عاد } من العدو وهو التعدى والتجاوز فى الامر لما حد له فيه اى غير متجاوز حد الشبع عند الاكل بالضرورة بان يأكل قدر ما يحصل به سد الرمق والجوعة { فلا اثم عليه } فى تناوله عند الضرورة { ان اللّه غفور } لما اكل فى حال الاضطرار { رحيم } بترخيصه ذلك ولم يذكر فى هذه الآية سائر المحرمات لانها ليست لحصر المحرمات بل هذه الآيات سيقت لنهيهم عن استحلال ما حرم اللّه وهم كانوا يستحلون هذه الاشياء فكانوا يأكلون الميتة ويقولون تأكلون ما امتم ولا تأكلون ما اماته اللّه وكذا يأكلون الدم ولحم الخنزير وذبائح الاصنام فبين انه حرمها فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا قويل ذكر الميتة يتناول المتردية وهى الساقطة فى بئر او ماء او من علو والمنخنقة وهى ما اختنق بالشبكة او بحبل او خنق خانق والموقوذة وهى المضروبة بالخشب والنطيحة وهى المنطوحة وما اكل السبع ومتروك التسمية عمدا ونحوها ويكره عشرة من الحيوان الدم والغدة والقبل والدبر والذكر والخصيتان والمرارة والمثانة ونخاع الصلب. اما الدم فلقول تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } واما ما سواه فلانها من الخبائث قال الشيخ الشهير بأفتاده افندى ذكر ان النبى عليه السلام لم يأكل الطحال ولا الكلية ولا الثؤم وان لم يمنع عن اكلها فالاولى ان لا تؤكل اقتفاء لاثره ثم قيل فى وجهه ان المنى اذا نزل لم ينزل الا بعد اتصاله بالكلية. واما الطحال فلأنه من اطعمة اهل النار كذا فى واقعات الهدىئى قدس سره ومن امتنع من الميتة حال المخمصة او صام ولم يأكل حتى مات اثم بخلاف من امتنع من التداوى حتى مات فانه لا يأثم لانه لا يقين بان هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج وذكر فى الاشباه والنظائر انه يرخص للمريض التداوى بالنجاسات وبالخمر على احد القولين واختار قاضى خان عدمه واساغة اللقمة بها اذا غص اتفاقا على ما نص عليه فى الخانية وما قال الصدر الشهيد من ان الاستشفاء بالحرام حرام فهو غير مجرى على اطلاقه لان الاستشفاء بالمحرم انما لا يجوز اذا لم نعلم ان فيه شفاء واما اذا علم ذلك وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به ومعنى قول ابن مسعود رضى اللّه عنه ان اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يحتمل ان عبد اللّه قال ذلك فى داء عرف له دواء غير محرم لانه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام وفى التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم للتداوى اذا اخبره طبيب مسلم ان شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كذا فى شرح الاربعين حديثا لعلامة الروم ابن الكمال والاشارة فى قوله تعالى { انما حرم عليكم الميتة } انه كما حرم على الظواهر هذه المعهودات حرم على البواطن شهود غير اللّه فالميتة هى جيفة الدنيا { والدم } هى الشهوات النفسانية قال عليه السلام ( ان الشيطان ليجرى فى ابن آدم مجرى الدم ) ولولا ان الشهوات فى الدم مستكنة لما كان للشيطان اليه سبيل ولهذا قال عليه السلام ( سددوا مجارى الشيطان بالجوع ) لان الجوع يقطع مادة الشهوات { ولحم الخنزير } اشارة الى هوى النفس وتشبيه النفس بالخنزير لغاية حرصها وشرهها وخستها والخيرات المالية من غير اخلاص للّه وفى اللّه بل للرياء والسمعة فى سبيل الهوى { فمن اضطر } اما لضرورة الحاجة النفسانية واما لضرورة امر الشرع باقامة احكام الواجبات عليه فليشرع فى شىء مما اضطر اليه { غير باغ } اى غير حريص على الدنيا وجمعها من الحرام والحلال وغير مولع على الشهوات بالحرام والحلال وغير مقبل الى استيفاء حظوظ النفس فى الحرام والحلال وغير مواظب على الرياء فى الطاعات والخيرات من السنن والبدع { ولا عاد } اى غير متجاوز من الدنيا { ان اللّه غفور رحيم } يغفر للعاملين له بآثار الرحمة والقائمين به بانوار الرحمة والماحين فيه باوصاف الرحمة التقطته من التأويلات النجمية والغفور والغفار هو الذى اظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التى سترها باسباب الستر عليها فى الدنيا والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة وحظ العبد من هذا الاسم ان يستر من غيره ما يحب ان يستر منه وقد قال عليه السلام ( من ستر على مؤمن عورته ستر اللّه عورته يوم القيامة ) والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الاساءة بمعزل عن هذا الوصف وانما المتصف به من لا يفشى من خلق اللّه الا احسن ما فيه كما روى عن عيسى عليه السلام انه مر مع الحواريين بكلب قد غلب نتنه فقالوا ما انتن هذه الجيفة فقال عليه السلام ما احسن بياض اسنانها تنبيها على ان الذى ينبغى ان يذكر من كل شىء ما هو احسن كذا فى شرح الاسماء الحسنى للامام الغزالى قدس سره ١٧٤ { ان الذين } نزلت فى احبار اليهود فانهم كانوا يرجون ان يكون النبى المنعوت فى التوراة منهم فلما بعث اللّه نبينا محمدا عليه السلام من غيرهم غيروا نعته حتى اذا نظر اليه السفلة يجدونه مخالفا لصفة محمد عليه السلام فلا يتبعونه فلا تزول رياستهم { يكتمون ما انزل اللّه من الكتاب } حال من العائد المحذوف اى انزل اللّه حال كونه من الكتاب وهو التوراة المشتمل على نعت محمد عليه السلام { ويشترون به } اى بدل المنزل المكتوم { ثمنا قليلا } اى يأخذون عوضا حقيرا من الدنيا يعنى المآكل التى يصيبونها من سفلتهم { اولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار } اما فى الآخرة فظاهر لانهم لا يأكلون يوم القيامة الاعين النار عقوبة لهم على اكلهم الرشوة فى الدنيا واما فى الدنيا فبأكل سببها فان اكلهم ما اخذوه من اتباعهم سبب مؤد الى ان يعاقبوا بالنار فاطلاق النار عليه من قبيل اطلاق اسم المسبب على السبب ومعنى فى بطونهم ملئ بطونهم يقال اكل فى بطنه واكل فى بعض بطنه يعنى ان المقصود من ذكر بطونهم متعلقا بقوله يأكلون انما هو بيان محل الاكل ومقر المأكول فلما لم يقل يأكلون فى بعض بطونهم علم ان محل الاكل هو تمام بطونهم فلزم امتلاءها ففيه مبالغة كأنهم ما كانوا متكئين على البطون عند الاكل فملأوا بطونهم { ولا يكلمهم اللّه يوم القيمة } اى لا يكلمهم اللّه بطريق الرحمة غضبا عليهم فليس المراد به نفى الكلام حقيقة لئلا يتعارض بقوله تعالى { فوربك لنسألنهم اجمعين } ونحوه بل هو كناية عن الغضب لان نفى الكلام لازم للغضب عرفا وعادة الملوك عند الغضب انهم يعرضون عن المغضوب عليهم ولا يكلمونهم كما انهم عند الرضى يتوجهون اليهم بالملاطفة { ولا يزكيهم } لا يثنى عليهم ولا يطهرهم من دنس الذنوب يوم يطهر المؤمنين من ذنوبهم بالمغفرة { ولهم عذاب اليم } وجع دآئم مؤلم ١٧٥ { اولئك } المشترون بكتاب اللّه ثمنا قليلا ليسوا بمشترين للثمن وان قل بل { الذين اشتروا } بالنسبة الى الدنيا { الضلالة } التى ليست مما يمكن ان يشترى قطعا { بالهدى } الذى ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شىء وان جل { والعذاب } اى اشتروا بالنظر الى الآخرة العذاب الذى لا يتوهم كونه من المشترى { بالمغفرة } التى يتنافس فيها المتنافسون { فما اصبرهم على النار } اى ما اصبرهم على اعمال اهل النار حين تركوا الهدى وسلكوا مسالك الضلال فالمراد بالنار سببها اطلق عليه اسم النار للملابسة بينهما ومعنى التعجب راجع الى العباد فهو تعجب اى ايقاع للمخاطب فى العجب لامتناع التعجب فى شأنه تعالى لان التعجب منشأه الجهل بالسبب فانهم قالوا التعجب انفعال النفس مما خفى سببه وخرج عن نظائره فلا يجوز على اللّه تعالى ١٧٦ { ذلك } العذاب بالنار { بان اللّه } اى بسبب انه { نزل الكتاب } اى جنس الكتاب { بالحق } اى حال كونه ملتبسا بالحق فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلى بمثل هذا من افانين العذاب { وان الذين اختلفوا فى الكتاب } اى فى جنس الكتاب الالهى بان آمنوا ببعض كتب اللّه وكفروا ببعضها او فى التوراة بان آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على امر بعثه النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ونعوته الكريمة او فى القرآن بان قال بعضهم انه شعر وبعض سحر وبعض كهانة { لفى شقاق بعيد } اى خلاف بعيد عن الحق والصواب مستوجب لاشد العذاب اعلم ان فى هذه الآيات وعيدا عظيما لكل من يكتم الحق لغرض فاسد دنيوى فليحذروا اى العلماء ان يكتموا الحق وهم يعلمون وانما يكتمونه عن الملوك والامراء والوزراء وارباب الدنيا اما خوفا من اتضاع مرتبتهم ونقصان قدرهم عندهم واما طموحا الى احسانهم او لانهم شركاؤهم فى بعض احوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص فى طلبها او طلب مناصبها وحب رياستها او بالتنعم فى المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والاوانى وآلات البيت والامتعة والزينة فى كل شىء والخدم والخيول وغير ذلك فعند ذلك يداهنون ويأكلون ثمنا قليلا ولا يأكلون الا نار الحرص والشهوة والحسد التى تطلع على الافئدة وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب واعلم ان فى كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شررا يجتنى من نار السعير فتحصل فى قلب العبد تلك النار فى الحال وفى التى تصدر من العبد على وفق الشرع شررا يجتنى من نار المحبة فتظهر فى القلب فتحرق كل محبوب غير اللّه فى قلب كما ان نار السعير تحرق فى القلب الحسنات والاخلاق الحميدة فيأكلون نارا فى الحال وانما قال ما يأكلون فى بطونهم الا النار لان فسادهم كان فى باطل فكان عذابهم فى البطون وانما لا يكلمهم اللّه يوم القيامة لانهم كتموا كلام اللّه فى الدنيا ولا تكلموه بالصدق فكان جزاء سيئة سيئة مثلها وانما لا يزكيهم لان تزكية النفس للانسان مقدرة من الايمان والاعمال الصالحة بصدق النية من تهذيب الاخلاق بآداب الشرع فاولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا حب الدنيا بهدى اظهار الحق وآثروا الخلق على الحق والمداهنة على افضل الجهاد قال عليه السلام ( ان افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) وانما كانت افضل لان الجهاد بالحجة والبرهان جهاد أكبر بخلاف الجهاد بالسيف والسنان فانه جهاد اصغر ومدار كتمان الحق حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة قال الحسن ان الزبانية الى فسقة حملة القرآن اسرع منهم عبدة الاوثان فيقولون ربنا ما بالنا يتقدمون الينا فيقول اللّه ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فىخسران مبين وكان دائما فى منازعة الشيطان كما حكى ان رجلا قال للشيخ ابى مدين ما يريد منا الشيطان شكاية منه فقال الشيخ انه جاء قبلك وشكا منك وقال اعلم انه سيشكونى ولكن اللّه ملكنى الدنيا فمن نازعنى فى ملكى لا اتسلى بدون ايمانه فمن كف يده عن الدنيا وزينتها فقد استراح من تعبها ومحنتها وحكى ان ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على ابوابهم يقتاتون بنبات الارض ويشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين الى ملكهم فقال ما لى حاجة الى صحبة ذى القرنين فجاء ذو القرنين فقال ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم قال ليس للدنيا طالب عندنا لانها لا تشبع احدا فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم اخرج رأس انسان وقال هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه اللّه تعالى وبقى عليه السيآت ثم اخرج رأسا آخر وقال ايضا هذا رأس ملك عادل مشفق فقبضه واسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذى القرنين وقال من اى الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين وقال ان ترغب فى صحبتى شاطرتك مملكتى وسلمت اليك وزارتى فقال هيهات وقال ذو القرنين ولم قال لان الناس اعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم احبابى بسبب القناعة : قال السعدى قدس سره در كوشه قناعت نان باره وبينه ... دربيش اهل معنى بهتر زصد خزينه ١٧٧ { ليس البر } هو كل فعل مرضى يفضى بصاحبه الى الجنة { ان تولوا } اى ان تصرفوا يا اهل الكتابين { وجوهكم } فى الصلاة { قبل المشرق والمغرب } اى مقابلهما ظرف مكان لقوله تولوا والبر منصوب على انه خبر مقدم وان تولوا اسمها لكونه فى تأويل المصدر والمصدر المؤول اعرف من المحلى باللام وهو يشبه الضمير من حيث انه لا يوصف ولا يوصف به فالاولى ان يجعل الاعرف اسما وغير الاعرف خبرا وذلك ان اليهود والنصارى اكثروا الخوض فى امر القبلة حين حول رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الى الكعبة وزعم كل واحد من الفريقين ان البر هو التوجه الى قبلته فرد عليهم وقيل ليس البر ما انتم عليه فانه منسوخ خارج من البر { ولكن البر } المعود الذى ينبغى ان يهتم بشأنه ويجد فى تحصيله { من } اى بر من على حذف المضاف لان اسم لكن من اسماء المعانى وخبرها من اسماء الاعيان فامتنع الحمل لذلك { آمن باللّه } وحده ايمانا بريئا من شائبة الاشراك لا كايمان اليهود والنصارى المشركين بقولهم عزيز ابن اللّه وقولهم المسيح ابن اللّه وقدم الايمان باللّه فى الذكر لانه اصل لجميع الكمالات العلمية والعملية { واليوم الآخر } اى بالبعث الذى فيه جزاء الاعمال على انه كائن لا محالة وعلى ما هو عليه لا كما يزعمون من انهم لا تمسهم النار الا اياما معدودة وان آباءهم الانبياء ويشفعون لهم فالبر هو التوجه الى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب فى الحقيقة ولما كان الايمان باليوم الآخر متفرعا على الايمان باللّه لانا ما لم نعلم باستحقاقه الالوهية وقدرته على جميع الممكنات لا يمكننا ان نعلم صحة الحشر والنشر وكان الايمان به محركا وداعيا الى الانقياد باللّه فى جميع ما امر به ونهى عنه خوفا وطمعا ذكر الايمان به عقيب الايمان باللّه { والملائكة } كلهم بانهم عباد اللّه ليسوا بذكور ولا اناث ولا بشر ولا اولاد مكرمون عنده متوسطون بينه وبين انبيائه بالقاء الوحى وانزال الكتب واليهود اخلو بذلك حيث اظهروا عداوة جبريل { والكتاب } اى بجنس الكتاب الالهى الذى من افراده الفرقان واليهود اخلو بذلك لانه مع قيام الدليل على ان القرآن كتاب اللّه تعالى ردوه ولم يقبلوه { والنبيين } جميعا بانهم المبعوثون الى خلقه والقائمون بحقه والصادقون عنه فى امره ونهيه ووعده ووعيده واخباره من غير تفرقة بين احد منهم واليهود اخلوا بذلك حيث قتلوا الانبياء وطعنوا فى نبوة محمد عليه السلام واعلم ان الايمان بالملائكة والكتاب مؤخر عن الايمان بالنبيين الا انه قدم الايمان بهما فى الذكر رعاية للترتيب بحسب الوجود الخارجى ولم ينظر الى الترتيب فى العلم فان الملك يوجر اولا ثم يحصل بواسطته نزول الكتاب الى الرسل فتدعو الرسل الى ما فيها من الاحكام وهذا اى الايمان بالامور الخمسة المذكورة اصول الدين وقواعد العقائد { وآتى المال } اى الصدقة من ماله { على حبه } حال من الضمير فى آتى والضمير المجرور للمال اى آتاه كائنا على حب المال كما قال عليه السلام لما سئل اى الصدقة افضل قال ( ان تؤتيه وانت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى اذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان ) قال السعدى قدس سره بريشان كن امروز كنجينه جست ... كه فردا كليدش نه دردست تست كنون بر كف دست نه هرجه هست ... كه فردا بدندان كزى بشت دست { ذوى القربى } مفعول اول لآتى بدلالة الحال وقدمهم لانهم احق بالصدقة لقوله عليه السلام ( صدقتك على المسلمين صدقة وعلى ذى رحمك اثنتان ) لانها صدقة وصلة وقال ايضا ( افضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح ) { واليتامى } الفقراء منهم لا الاغنياء وقدم اليتامى على سائر المصارف لان الصغير الفقير الذى لا والد له ولا كاسب اشد احتياجا من المساكين ومن ذكر بعدهم { والمساكين } جمع مسكين والمسكين ضربان من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ومن ينبسط ويسأل وهذا القسم داخل فى قوله والسائلين وهو مبالغة الساكن فان المحتاج يزداد سكونه الى الناس على حسب ازدياد حاجته { وابن السبيل } اى المسافر البعيد عن ماله وسمى به لملازمته له كما تقول للص القاطع ابن الطريق وللمعمر ابن الليالى ولطير الماء ابن الماء والضيف لانه جاء من السبيل فكأنه ولد منه قال صلى اللّه عليه وسلم ( من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) وايضا ( اكرموا الضيف ولو كان كافرا ) { والسائلين } الذين الجأتهم الحاجة والضرورة الى السؤال وفى الحديث ( للسائل حق ولو جاء على ظهر فرسه ) قال السعدى قدس سره نه خواهنده بردر ديكران ... بشكرانه خواهنده ازدرمران { وفى } تخليص { الرقاب } بمعاونة المكاتبين جمع رقبة وهى مؤخر العنق واشتقاقها من المراقبة لانها مكان مراقبة الرقيب المشرف على القوم واذا قيل اعتق اللّه رقبته يراد ان اللّه تعالى خلصه من مراقبة العذاب اياه. وقيل المراد بهم ارقاء يشتريهم الاغنياء لاعتاقهم. وقيل المراد بهم الاسارى فان الاغنياء يؤتون المال فى تخليصهم فهذا هو البر ببذل الاموال على وفق مراد اللّه تعالى الى المصارف المذكورة واليهود اخلوا بذلك لانهم اكلوا اموال الناس بالباطل حيث كتموا دلائل حقية الاسلام على اتباعهم واشتروا به ثمنا قليلا وعوضا يسيرا وهو ما يعود اليهم من هدايا السفلة { واقام الصلوة } المفروضة عطف على صلة من اى من آمن وآتى واقام واليهود كانوا يمنعون الناس من الصلاة والزكاة { وآتى الزكوة } المفروضة على ان المراد بما مر من ايتاء المال التنفل بالصدقة قدم على الفريضة مبالغة فى الحث عليه او الاول لبيان المصارف والثانى لبيان وجوب الاداء { والموفون } عطف على من آمن فانه فى قوة ان يقال ومن اوفوا { بعهدهم } من الاوامر والنواهى والنذور { اذا عاهدوا } فيما بينهم وبين اللّه وفيما بينهم وبين الناس اذا وعدوا انجزوا واذا حلفوا او نذروا اوفوا واذا قالوا صدقوا واذا ائتمنوا ادوا وفى الحديث ( من اعطى عهد اللّه ثم نقضه فاللّه لا ينظر اليه ) اى انقطع نظره عنه ( ومن اعطى ذمة رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم غدر فالنبى خصمه يوم القيامة ) واليهود نقضوا العهد قال اللّه تعالى { واوفوا بعهدى اوف بعهدكم } وفى المثنوى جون درختست آدمى وبيخ عهد ... بيخ را نيمار مى بايد بجهد عهد فاسد بيخ بوسيده بود ... وزثمارلطف ببريده بود شاخ وبرك نخل اكرجه سيزبود ... بافساد بيخ سبزى نيست سود ورندارد برك سبز وبيخ هست ... عاقبت بيرون كند صدبرك دست تومشوغره بعلمش عهد جو ... علم جون قشراست وعهدش مغزاو { والصابرين } منصوب على المدح اى بتقدير اعنى وهو فى الحقيقة والمعنى عطف على من آمن لكن غير سبكه تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته اى واعنى الذين صبروا { فى البأساء } اى فى الفقر والشدة { والضراء } اى المرض والزمانة { وحين البأس } منصوب بالصابرين اى وقت الشدة والبأس شدة القتال خاصة وهو فى الاصل مطلق الشدة وزيادة الحين للاشعار بوقوعه احيانا وسرعة انقضائه واهل الكتاب اخلوا بذلك حيث كانوا فى غاية الخوف والجبن والحاصل انه لما حولت القبلة وكثر خوض اهل الكتاب فى نسخها صار كأنهم قالوا مدار البر والطاعة هو الاستقبال فانزل اللّه هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد فى امر القبلة مع الاعراض عن كل اركان الدين فصفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل الا بمجموع الامور المذكورة { اولئك } اى اهل هذه الصفة { الذين صدقوا } فى الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الاحوال ولم تزلزلهم الاحوال { واولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الاشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للاشارة الى انحصار التقوى فيهم والآية جامعة للكمالات الانسانية باسرها دالة عليها صريحا او ضمنا فانها بكثرتها وتشعبها منحصرة فى ثلاثة اشياء صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وقد اشير الى الاول بقوله من آمن الى والنبيين والى الثانى بقوله وآتى المال الى وفى الرقاب والى الثالث بقوله واقام الصلوة الى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا الى ايمانه واعتقاده وبالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق واليه يشير قوله عليه السلام ( من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان ) قال شيخنا العلامه. ابقاه اللّه بالسلامة قيل لى فى قلبى احسن اخلاق المرء فى معاملته مع الحق التسليم والرضى واحسن اخلاقه فى معاملته مع الخلق العفو والسخاء انتهى كلامه وحب المال من اغلب اخلاق النفس وكذا العجلة من الاخلاق الرديئة ولذلك قيل ان الصبر افضل من الشكر وفى الخبر ( يؤتى بأشكر اهل الارض ليجزيه اللّه جزاء الشاكرين ويؤتى بالصابر فيقول اللّه هذا انعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الاجر فيعطى اضعاف جزاء الشاكرين ) والتحقيق ان تهذيب النفس انما يكون بالتوحيد بطريقه المخصوص كما ان اصل الايمان انما يحصل بالتوحيد والشهادة ١٧٨ { يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى } الخطاب لائمة المؤمنين اوجب اللّه تعالى على الامام وعلى من يجرى مجراه ويقوم مقامه اقامة القصاص والتقدير يا ايها الائمة فرض عليكم استيفاء القصاص ان اراد ولى الدم استيفاءه ويحتمل ان يكون الخطاب متوجها على القاتل والمعنى يا ايها القاتلون عمدا كتب عليكم تسليم انفسكم عند مطالبة الولى بالقصاص وذلك لان القاتل ليس له ان يمتنع عن القصاص لكونه حق العبد بخلاف الزانى والشارب فان لهما الهرب من الحدود لكون ما عليهما من الحق حق اللّه تعالى والقصاص ان يفعل بالانسان مثل ما فعل فهو عبارة عن التسوية والمماثلة فى الانفس والاطراف والجراحات. والقتلى جمع قتيل وفى للسبب اى بسبب قتل القتلى كما فى قوله عليه السلام ( ان امرأة دخلت النار فى هرة ربطتها ) اى بسبب ربطها اياها وحسن الوقف فى قوله القتلى { الحر بالحر } مبتدأ وخبر اى الحر مأخوذ ومقتول بمثله { والعبد بالعبد والانثى بالانثى } سبب النزول انه كان بين حيين من احياء العرب دماء فى الجاهلية وكان لاحدهما طول على الآخر اى قوة وفضل فاقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالانثى والاثنين بالواحد فتحاكموا الى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم حين جاء اللّه بالاسلام فنزلت وامرهم اللّه ان يتباروا اى يتساووا ويتعادلوا. وقوله الحر بالحر لا يفيد الحصر البتة بان لا يجرى القصاص الا بين الحرين وبين العبدين وبين الانثيين بل يفيد شرع القصاص فى القتلى بين المذكورين من غير ان يكون فيه دلالة على سائر الاقسام فان قوله تعالى { كتب عليكم القصاص فى القتلى } جملة مستقبلة بنفسها. وقوله الحر بالحر تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وتخصيص بعض جزئيات الجملة المستقلة بالذكر لا يمنع ثبوت الحكم لسائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن ان يكون لفائدة سوى نفى الحكم عن سائر الصور وهى ابطال ما كان عليه اهل الجاهلية من انهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل بالعبد المقتول والانثى القاتلة بالانثى المقتولة وليس فيه نفى جريان القصاص بين الحر والعبد والذكر والانثى بل فيه منع عن التعدى الى غير القاتل انتهى كلامه والثورى وابو حنيفة يقتلان الحر بالعبد والمؤمن بالكافر ويستدلان بعموم قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس } فان شريعة من قبلنا اذا قصت علينا فى القرآن من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على انها شريعة لنا وبما روى ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) وبأن التفاضل فى النفس غير معتبر بدليل قتل الجماعة بالواحد وبان القصاص يعتمد المساواة فى العصمة وهى بالدين او بالدار وهما سيان فيهما ومالك والشافعى لا يقتلان الحر بالعبد ولا المؤمن بالكافر كما قال الشافعى رحمه اللّه خذوا بدمى هذا الغزال فانه ... رمانى بسهمى مقلتيه على عمد ولا تقتلوه اننى انا عبده ... وفى مذهبى لا يقتل الحر بالعبد { فمن } عبارة عن القاتل شرطية كانت او موصولة { عفى له من اخيه } الضميران راجعان الى من { شىء } اى شىء من العفو قليل فارتفاع شىء على انه قائم مقام فاعل عفى بناء على انه فى حكم المصدر اى فى حكم قولك عفى عفو فان عفا وان كان لازما لا يتعدى الى المفعول به الا انه يتعدى الى المفعول المطلق فيصلح ان يقام مصدره مقام الفاعل كما فى قوله تعالى { فاذا نفخ فى الصور نفخة } وقولهم سير بزيد بعض السير وشىء من السير وفائدة قوله شىء الاشعار بانه اذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بان يعفى عن بعض الدم او عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب الا الدية وعفا يتعدى الى الجانى والى الذنب بعن فاذا تعدى الى الذنب بعن كما فى قوله تعالى { عفا اللّه عنك } عدى الى الجانى باللام يقال عفوت لفلان اذ جنى وعليه ما فى الآية وعفو الجانى عبارة عن اسقاط موجب الجناية عنه وموجبها ههنا القصاص فكأنه قيل القاتل الذى عفى له عن جناية من جهة اخيه الذى هو ولى المقتول سواء كان العقو الواقع تاما بان اصطلح القاتل مع جميع اولياء القتيل على مال او بعض العفو بان وقع الصلح بينه وبين بعض الاولياء فانه على التقديرين يجب المال ويسقط القصاص فانه قد روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان هذه الآية نزلت فى الصلح عن القصاص على مال وسمى اللّه تعالى ولى الجناية اخا للقاتل استعطافا له عليه وتنبيها على ان اخوة الاسلام قائمة بينهما وان القاتل لم يخرج من الايمان بقتله { فاتباع بالمعروف } خبر مبتدأ محذوف اى واذا حصل شىء من العفو وبطل الدم بعفو البعض فالامر اتباع بالمعروف اى على ولى المقتول ان يطالب القاتل ببدل الصلاح بالمعروف بترك التشديد والتضييق فى طلبه واذا اخذ الدية لا يطلب الاكثر مما وجب عليه { واداء اليه باحسان } حث المعفو عنه وهو القاتل على تأدية المال بالاحسان اى وعلى القاتل ان يؤدى المال الى العافى باحسان فى الاداء بترك المطل والبخس والاذى { ذلك } اى الحكم المذكور من العفو والدية { تخفيف من ربكم } اى تيسير وتوسعة لكم { ورحمة } منه حيث لم يجزم بالعفو واخذ الدية بل خيركم بين الثلاث القصاص والدية والعفو وذلك لان فى شرع موسى عليه السلام القصاص وهو العدل فقط وفى دين عيسى عليه السلام العفو او اخذ الدية فقد كان الولى فى الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر فيقتله وينبذ ماله الى اوليائه { فله } باعتدائه { عذاب اليم } نوع من العذاب شديد الالم اما فى الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق واما فى الآخرة فبالنار ١٧٩ { ولكم فى القصاص حيوة } اى فى هذا الجنس من الحكم الذى هو القصاص حياة عظيمة لانهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قتل مهلهل بن ربيعة باخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قالته فتثور الفتنة ويقع فيما بينهم التشاجر والهرج والمرج وارتفاع الامن فلما جاء الاسلام بشرع القصاص كانت فيه اى حياة لانه اذا علم القاتل انه يقتل اذا قتل لا يقدم على القتل واذا قتل فقتل ارتدع غيره فكان القصاص سبب حياة نفسين او اكثر وهو كلام فى غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشىء محل ضده فان ضدية شىء لآخر تستلزم ان يكون تحقق احدهما رافعا للاخر والقصاص لاستلزامه ارتفاع الحياة ضد لها وقد جعل ظرفا لها تشبيها له بالظرف الحقيقى من حيث ان المظروف اذا حواه الظرف لا يصيبه ما يخل به ويفسده ولا هو يتفرق ويتلاشى بنفسه كذلك القصاص يحمى الحياة من الآفات فكان من هذا الوجه بمنزلة الظرف لها ولا شك فيه اذ جعل الضد حاميا لضده اعتبار لطيف فى غاية الحسن والغرابه التى هى من نكات البلاغة وطرقها { يا اولى الالباب } اى ذى العقول الخالصة من شوب الاوهام ناداهم للتأمل فى حكمة القصاص من استبقاء الارواح وحفظ النفوس { لعلكم تتقون } تعملون عمل اهل التقوى فى المحافظة على القصاص والحكم به والاذعان او تتقون عن القتل مخافة القود وفيه تحذير عن القتل فان من اعظم حقوق العباد الدماء وهى اول ما يحاسب به العبد بالنسبة الى حقوق العباد كما ان الصلاة اول ما يحاسب به بالنسبة الى حقوق اللّه تعالى وفى الحديث ( يأتى المقتول معلقا رأسه باحدى يديه ملببا قاتله بيده الاخرى تشخب اوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول للّه سبحانه هذا قتلنى فيقول اللّه تعالى للقاتل تعست ويذهب به الى النار ) واعلم ان الذنوب على ثلاثة اوجه الاول فيما بين العبد وبين اللّه تعالى كالزنى واللواطة والغيبة والبهتان ما لم يبلغ الى من بهته واغتابه فاذا بلغه وجعله فى حل وتاب المذنب فنرجوا ان اللّه يغفر له وكذلك اذا زنى بامرأة ولها زوج فلم يجعله ذلك الرجل فى حل لا يغفر له لان خصمه الآدمى فاذا تاب وجعله فى حل فانه يغفر له ويكتفى بحل منه ولا يذكر الزنى بان قال كل حق لى عليك فقد جعلتك فى حل منه ومن كل خصومة بينى وبينك وهذا صلح بالمعلوم على المجهول وذلك جائز كرامة لهذه الامة لان الامم السالفة ما لم يذكر الذنب لا يغفر لهم والثانى ذنب فيما بينه وبين اعمال اللّه وهو ان يترك الصلاة والصوم والزكاة والحج فان التوبة لا تكفيه ما لم يقض الصلاة وغيرها لان شرط التوبة ان يؤدى ما ترك فاذا لم يؤد فكأنه لم يتب والثالث فيما بينه وبين عباد اللّه وهو ان يغصب اموالهم او يضربهم او يشتمهم او يقتلهم فان التوبة لا تكفيه الا ان يرضى عنه خصمه او يجتهد فى الاعمال الصالحة حتى يوفق اللّه بينهما يوم القيامة فانه اذا تاب العبد وكان عليه حقوق العباد فعليه ان يردها الى اربابها وان عجز عن ايصالها واراد اللّه مغفرته يقول لخصمه يوم القيامة ارفع رأسك فيرفع فيرى قصورا عالية فيقول يا رب لمن هذه فيقول اللّه تعالى خذ يد اخيك واذهبا الى الجنة والاشارة فى الآية ان اللّه تعالى كتب عليكم القصاص فى قتلاكم كما كتب على نفسه الرحمة فى قتلاه كما قال ( من احبنى قتلته ومن قتلته فانا ديته ) وفى المثنوى كريكى سررا ببرد ازبدن ... صد هزاران سربر آرد در زمن اقتلونى يائقاتى لائما ... ان فى قتلى حياتى دائما ان فى موتى حياتى يا فتى ... كم افارق موطنى حتى متى شير دنيا جويد اشكارى وبرك شير ... مولى جويدآ زادى ومرك جونكه اندر مرك بيند صدو جود ... همجو بروانه بسوزاند وجود فعلى العاقل ان يقتل نفسه بالرياضات الشديدة ويحيى قلبه بالحياة الطيبة الباقية اللّهم وفقنا لمداواة هذه القلوب المرضى آمين ١٨٠ { كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت } اى حضر اسبابه وظهر امارته وآثاره من العلل والامراض اذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت والعامل فى اذا مدلول كتب لان الكتب بمعنى الايجاب لا يحدث وقت حضور الموت بل الحادث تعلقه بالمكلف وقت حضور موته فكأنه قيل توجه عليكم ايجاب اللّه تعالى ومقتضى كتابه اذا حضر فعبر عن توجه الايجاب وتعلقه بكتب للدلالة على ان هذا المعنى مكتوب فى الازل { ان ترك خيرا } اى مالا قليلا او كثيرا او مالا كثيرا يقال فلان ذو مال ولا يطلق ذلك لمن له مال قليل وعن عائشة رضى اللّه عنها ان رجلا اراد ان يوصى قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال اربعة قالت انما قال اللّه ان ترك خيرا وان هذا الشىء يسير فاتركه لعيالك واصل الخير ان يكون لكل ما يرغب فيه مما هو نافع لانه ضد الشر قال فى اخوان الصفا الخير فعل ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى من اجل ما ينبغى { الوصية } نائب فاعل كتب اى فرض الايصاء على الثلث ولا يوصى لغنى ويدع الفقير وكان السبب فى نزول هذه الآية ان اهل الجاهلية كانوا يوصون بمالهم للبعدى رياء وسمعة وطلبا للفخر والشرف ويتركون الاقارب فى الفقر والمسكنة فصرف اللّه تعالى بهذه الآية فى بدء الاسلام ما كان يصرف الى الابعدين الى الوالدين والاقربين فعمل بها ما كان العمل بها صلاحا وحكمة ثم نسختها آية المواريث فى سورة النساء فالآن لا يجب على احد ان يوصى لاحد قريب ولا بعيد واذا اوصى فله ان يوصى لكل من الاقارب والاباعد الا للوارث { حقا } اى احق هذه الوصية حقا { على المتقين } المجتنبين عن ضياع المال وحرمان القريب يعنى ان كنتم متقين باللّه لا تتركوا العمل بهذا قال ابن الشيخ فى حواشيه فان قيل قوله على المتقين يقتضى ان يكون هذا التكليف مختصا بالمتقين وقد دل الاجماع على ان الواجبات والتكاليف عامة فى حق المتقين وغيره اجيب بان المراد بقوله حقا على المتقين انه لازم لكل من آثر التقوى وتحراها وجعلها طريقا له ومذهبا فيدخل فيه الكل ١٨١ { فمن بدله } الضمير راجع الى الوصية لكونها فى تأويل الايصاء اى غير الايصاء عن وجهه الشرعى والمشهور ان من غير ايصاء المحتضر هو الوصى او الشاهد فالوصى يغير الوصية اما فى الكتابة او فى قسمة الحقوق والشاهد يغيرها اما بتغيير وجه الشهادة او بكتمها ويمكن ان يكون التبديل من سائر الناس بان منعوا من وصول المال الموصى به الى مستحقه فهؤلاء كلهم داخلون تحت قوله فمن بدله { بعد ما سمعه } اى بعد ما وصل اليه وتحقق لديه { فانما اثمه } اى ما اثم الايصاء المغير او اثم التبديل الا { على الذين يبدلونه } لانهم خانوا وخالفوا الشرع لا على الموصى وهو الميت فانه بريئ من الاثم { ان اللّه سميع } بالايصاء وتغييره { عليم } بثوابه وجزاء من غيره وهو يجازى كل واحد منهما بما يستحقه ١٨٢ { فمن } شرطية او موصولة { خاف } اى توقع وعلم فانه اذا علم خاف فهو من اطلق اسم اللازم على الملزوم { من موص } اى من الذى اوصى وهو يجوز ان يتعلق بخاف على انها لابتداء الغاية او بمحذوف على انها حال من جنفا قدمت عليه لانها فى الاصل صفة له فلما تقدمت نصبت حالا { جنفا } اى ميلا عن الحق بالخطأ فى الوصية { او اثما } اى تعمدا للجنف يعنى اذا جهل الموصى موضع الوصية او زاد على مقدار الوصية او اوصى بما لا يجوز ايصاؤه { فأصلح } الظاهر ان المراد بالمصلح هو الوصى لانه اشد تعلقا بامر الوصية الا انه لا وجه لتخصيصه بالوصى بل ينبغى ان يدخل تحته كل من يتأتى منه رفع الفساد فى وصية الميت من الوالى والولى والوصى ومن يأمر بالمعروف والمفتى والقاضى والوارث { بينهم } اى بين الموصى لهم وهم الوالدان والاقربون فغير وصيته باجرائها على طريق التسرع { فلا اثم عليه } اى لا وزر على المغير فى هذا التبديل لانه تبديل باطل الى حق بخلاف الاول { ان اللّه غفور رحيم } وعد للمصلح بالاثابة وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الاثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم لان بعض التبديل وهو التبديل الى الباطل اثم وهذا من المشاكلة الصورية لا المعنوية لان التبديل الى خير ليس من جنس الاثم لكن صورته صورة ما يؤثم واعلم ان الوصية مستحبة لحاجة الناس اليها فان الانسان مغرور بأمله اى يرجو الحياة مدة طويلة مقصر فى عمله فاذا عرض له المرض وخاف الهلاك يحتاج الى تدارك تقصيره بماله على وجه لو مات فيه يتحقق مقصده المآلى ولو انهضه البرء يصرفه الى مطلبه الحالى وفى الحديث ( ان اللّه تصدق عليكم بثلث اموالكم فى آخر اعماركم زيادة لكم فى اعمالكم تضعونها حيث شئتم ) ويوصى بفدية صلاته وصيامه لكل مكتوبة نصف صاع من الحنطة وكذا الوتر ولكل يوم من صوم رمضان ايضا نصف صاع من الحنطة وفى صوم النذر كذلك قال فى تفسير الشيخ ومن كان عليه حج او كفارة اى شىء من الواجبات فالوصية واجبة والا فهو بالخيار وعليه الفتوى ويوصى بارضاء خصمائه وديونه حكى ان الامام الشافعى رحمه اللّه لما مرض مرض موته قال مروا فلانا يغسلنى فلما مات بلغ خبر موته اليه فحضر وقال : ائتونى بتذكرته فأتى بها فنظر فيها فاذا على الشافعى سبعون الم درهم دينا فكتبها على نفسه وقضاها وقال هذا غسلى اياه واياه اراد وفى الخبر الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( من لم يوص لم يؤذن له فى الكلام مع الموتى ) قيل يا رسول اللّه وهل تتكلم الموتى قال ( نعم ويتزاورون ) قال الامام نقلا عن بعض الائمة الاعلام الارواح قسمان منعمة ومعذبة. فاما المعذبة فهى محبوسة مشغولة عن التزاور والتلاقى. واما المنعمة المرسلة غير المحبوسة فتتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها فى الدنيا وما يكون من اهل الدنيا فيكون كل روح مع رفيقه الذى هو على مثله عمله وهذه المعية ثابتة فى دار البرزخ وفى دار الجزاء والمرء مع من احب فى هذه الدور الثلاث فى كل موطن وموقف فعلى العاقل ان يخار صحبة الاخيار ويتأهب آناء الليل واطراف النهار ولا يغتر بالمال والمنال ولا ينقطع عن اللّه بطول الآمال فان الدنيا فانية وكل من عليها فان فاتقوا اللّه كل حين وآن : قال الصائب درسراين غافلان طول امل دانى كه جيست ... آشيان كردست مارى در كبوتر خانه والاشارة فى الآية انه { كتب عليكم } على الاغنياء الوصية بالمال وكتب على الاولياء الوصية بالحال فالاغنياء يوصون فى آخر اعمارهم بالثلث والاولياء يخرجون فى مبادى احوالهم عن الكل { اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية } اى يحضر قلب احدهم مع اللّه ويموت بنفسه بالارادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( موتوا قبل ان تموتوا ) ويترك كل خير وشر كان مشربها من الدنيا والعقبى فعليه ان يوصى { للوالدين } وهما الروح العلوى والبدن السفلى فان النفس توالدت وحصلت بازدواجهما { والاقربين } وهم القلب والسر وباقى المتولدات البشرية بتركه وترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانية { بالمعروف } اى بالاعتدال من غير اسراف يفضى الى اتلاف محترزا فى الاحوال من الركون الى شهوة من الشهوات وفى الاعمال مجتنبا عن الرسول والعادات كما قال النبى عليه السلام ( عثت لرفع العادات وترك الشهوات ) وقال ( بعثت لاتمم مكارم الاخلاق ) بان يجعل المشارب مشربا واحدا والمحابيب محبوبا واحدا والمذاهب مذهبا واحدا { حقا على المتقين } يعنى ما ذكرنا من الوصية بجملتها حق واجب على متقى الشرك الخفى ولهذا قال على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين لانهم اهل الظواهر والمتقون هم اهل البواطن كما قال عليه السلام ( التقوى ههنا ) واشار الى صدره واعلم ان القرآن انزل لاهل البواطن كما انزل لاهل الظواهر لقوله عليه السلام ( ان للقرآن ظهرا وبطنا ) فظاهره الاحكام لاهل الظواهر والاحكام تحتمل النسخ كما نسخت هذه الآية فى الوصية لاظاهرة وباطنه الحكم والحقائق فهى لا تحتمل النسخ ابدا ولهذا قال اهل المعانى ليس شىء من القرآن منسوخا يعنى وان كان دخل النسخ فى احكام ظاهره فلا يدخل فى احكام باطنه فيكون ابدا معمولا بالمواعظ والاسرار والحقائق حقا على المتقين لانه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى { هدى للمتقين } فحكم الوصية فى حقهم غير منسوخ ابدا كذا فى التأويلات النجمية قدس اللّه نفسه الزكية ١٨٣ { يا ايها الذين آمنوا } قال اصحاب اللسان يا حرف نداء وهو نداء من الحبيب للحبيب وايها تنبيه من الحبيب للحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب للحبيب وقال الحسن اذا سمعت اللّه يقول يا ايها الذين آمنوا فارفع لها سمعك فانه لامر تؤمر به او لنهى تنهى عنه وقال جعفر الصادق لذة فى النداء ازال بها تعب العبادة والعناء يشير الى ان المحب يبادر الى امتثال امر محبوبه حتى لو امره بالقاء نفسه فى النار { كتب عليكم الصيام } اى فرض عليكم صيام شهر رمضان فانه تعالى قال بعده { اياما معدودات } وقال تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } بعد قوله { شهر رمضان } والصيام فى الشريعة هو الامساك نهارا مع النية من اهله عن المفطرات المعهودة التى هى معظم ما تشتهيه الانفس وهذا صوم عوام المؤمنين واما صوم الخواص فالامساك عن المنهيات واما صوم اخص الخواص فالامساك عما سوى اللّه تعالى { كما كتب } محل كما النصب على انه صفة مصدر محذوف اى كتب كتابا كائنا مثل ما كتب وما مصدرية او على انه حال من الصيام وما موصولة اى كتب عليكم الصيام مشبها بالذى كتب { على الذين من قبلكم } من الانبياء عليهم السلام والامم من لدن آد عليه السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لانفس المخاطبين فان الصوم عبادة شاقة والشىء الشاق اذا عم سهل تحمله ويرغب كل احد فى اتيانه والظاهر ان التشبيه عائد الى اصل ايجاب الصوم لا الى كمية الصوم المكتبو وبيان وقته فكان الصوم على آدم ايام البيض وصوم عاشورا كان على قوم موسى والتشبيه لا يقتضى التسوية من كل وجهه كما يقال فى الدعاء اللّهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم وكما قال عليه السلام ( انكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر ) فان هذا تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئى بالمرئى { لعلكم تتقون } المعاصى فان الصوم يكسر الشهوة التى هي مبدأها كما قال عليه السلام ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر واحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء ) قوله الشباب جمع شاب وهو عند اصحابنا من بلغ ولم يحاوز ثلاثين كذا قاله النووى والباءة النكاح والتزوج وهو المباءة فى المنزل لان من تزوج امرأة بوأها منزلا والوجاء نوع من الاخصاء وهو ان يرض عروق الانثيين ويترك الخصيتين كما هما والمعنى على التشبيه اى الصوم يقطع شهوة الجماع ويدفع شر المنى كالخصاء والامر فى الحديث للوجوب لانه محمول على حالة التوقان باشارة قوله يا معشر الشباب فانهم ذووا التوقان على الجبلة السليمة قال العلماء تسكين الشهوة يحصل بالصيام بالنهار والقيام بالليل وحذف الشهوات والتغافل عنها وترك محادثة النفس بذكرها فان قلت ان الرجل يصوم ويقوم ولا يأكل ويجد من نفسه حركة واضطرابا قلت ذلك من فرط فضل شهوة مقيمة فيه من الاول فليقطع ذلك عن نفسه بالهموم والاحزان الدائمة وذكر الموت وتقريب الاجل وقصر الامل والمداومة على المراقبة والمحافظة على الطاعة ١٨٤ { اياما معدودات } اى موقتات ومقدرات بعدد معلوم او قلائل فان القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا اى يصب صبا من غير كيل وعد فاللّه تعالى لم يفرض علينا صيام الدهر ولا صيام اكثره تخفيفا ورحمة وتسهيلا لامر التكليف على جميع الامم وانتصاب اياما بمضمر دل هو اى الصيام عليه اعنى صوموا اما على الظرفية او المفعولية اتساعا { فمن كان منكم مريضا } اى مرضا يضره الصوم او يضر معه { او على سفر } او راكب سفر وفيه ايماء بان من سافر فى اثناء اليوم لم يفطر لعدم استعلائه السفر استعلاء الراكب المركوب بل هو ملابس شيأ من السفر والرخصة انما اثبتت لمن كان على سفر وكلمة على فيها استعارة تبعية شبه تلبسه بالسفر باستعلاء الراكب واستيلائه على المركوب ينصرف فيه كيف يشاء وللدلالة على هذا المعنى عدل عن اسم الفاعل فلم يقل او مسافرا اذ ليس فيه اشارة بالاستيلاء على السفر { فعدة } اى فعليه صوم عدة ايام المرض والسفر فعدة من العد بمعنى المعدود ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة { من ايام اخر } غير ايام مرضه وسفره ان افطر متتابعا او غير متتابع والمقصود من الآية بيان ان فرض الصوم فى الايام المعدودات انما يلزم الاصحاء المعتبرين واما من كان مريضا او مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الايام الى ايام اخر { وعلى الذين يطيقونه } ذهب اكثر المفسرين الى ان المراد بالذين يطيقونه الاصحاء المقيمون خيرهم فى ابتداء الاسلام بين امرين بين ان يصوموا وبين ان يفطروا ويفدوا لئلا يشق عليهم لانهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فالمعنى اى وعلى المطيقين للصيام القادرين عليه من غيره والفدية فى معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشىء وفى تفسير الشيخ يطيق من اطاق فلان اذا زالت طاقته والهمزة للسلب اى لا يقدرون على الصوم وهم الذين قدروا عليه فى حال الشباب ثم عجزوا عنه فى حال الكبر { فمن تطوع خيرا } اى من تبرع بخير فزاد فى الفدية او تطوع تطوعا خيرا { فهو } اى التطوع { خير له } وذكر فى الخير المتطوع ثلاثة اوجه. احدها ان يزيد على مسكين واحد فيطعم مكان كل يوم مسكينين او اكثر. وثانيها ان يطعم المسكين الواحد اكثر من القدر الواجب. وثالثها ان يصوم مع الفدية فهو خير كله { وان تصوموا } فى تأويل المصدر مرفوع بالابتداء اى صومكم ايها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه { خير لكم } من الفدية { ان كنتم تعلمون } ما فى الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة والجواب محذوف ثقة بظهوره اى اخترتموه وفى الاشباه الصوم فى السفر افضل الا اذا خاف على نفسه او كان له رفقة اشتركوا معه فى الزاد واختاروا الفطر انتهى وانما فضل الصوم للمسافر لان الصوم عزيمة له والتأخير رخصة والاخذ بالعزيمة افضل واما ما روى ان النبى عليه السلام ( قال ليس من البر الصيام فى السفر ) فمحمول على ما اذا كان الصوم يضعفه حتى يخاف عليه الهلاك كذا فى شرح المجمع لابن الملك والسفر المبيح للفطر مسيرة ثلاثة ايام ولياليها عند ابى حنيفة رحمه اللّه واعلم ان اللّه تعالى امرنا بصيام شهر كامل ليوافق عدد السنة فى الاجر الموعود بقوله { من جاء بالحسنة فله عشر امثالها } فالشهر الكامل ثلاثمائة وستة ايام شوال ستون يوما فان نقص يوم من عدد الشهر لم ينقص من الثواب روى ان رسول اللّه عليه السلام صام ثمانية رمضانات خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوما والباقى ثلاثين يوما وافترض الصيام بعد خمس عشرة سنة من النبوة بعد الهجرة بثلاث سنين وعن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما بعث اللّه نبيه عليه السلام بشهادة ان لا اله الا اللّه فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم اكمل لهم الدين واول ما فرض الصوم على الاغنياء لاجل الفقراء فى زمن الملك طهمورث ثالث ملوك بنى آدم وقع القحط فى زمانه فامر الاغنياء بطعام واحد بعد غروب الشمس وبامساكهم بالنهار شفقة على الفقراء وايثارا عليهم بطعام النهار وتعبدا وتواضعا للّه تعالى والصوم سبب للولوج فى ملكوت السموات وواسطة الخروج عن رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما اشير اليه بقول عيسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء واليه يشير الحديث القدسى ( الصوم لى وانا اجزى ) يعنى انا جزاؤه لا حورى ولا قصورى ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال فى مخاطبة عيسى عليه السلام ( تجوع ترانى ) : قال السعدى ندارند تن بروران آكهى ... كه برمعده باشد زحكمت تهى وانما اضيف الصوم الى اللّه فى ( الصوم لى ) لانه لا رياء فيه بل سر لا يعلمه الا اللّه وانما يكون اللّه سبحانه جزاء صومه اذا امسك قلبه وسره وروحه عما سواه تعالى وهو الصوم الحقيقى عند الخواص : قال فى المثنوى هركرا دارد هو سها جان باك ... زود بيند حضرت وايوان باك والاشارة فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ان الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن وباطن الخطاب يشير الى صوم القلب والروح والسر الذين آمنوا شهود انوار الحضور مع اللّه فصوم القلب صومه عن مشارب المعقولات وصوم الروح عن ملاحظة الروحانيات وصوم السر صونه عن شهود غير اللّه فمن امسك عن المفطرات فنهاية صومه اذا هجم الليل ومن امسك عن الاغيار فنهاية صومه ان يشهد الحق وفى قوله عليه السلام ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته ) عند التحقيق انها عائدة الى الحق فينبغى ان يكون صوم العبد ظاهرا وباطنا لرؤية الحق وافطاره بالرؤية قوله تعالى كتب عليكم الصيام اى على كل عضو فى الظاهر وعلى كل صفة فى الباطن. فصوم اللسان عن الكذب والفحش والغيبة. وصوم العين عن النظر فى الغفلة والريبة. وصوم السمع عن استماع المناهى والملاهى وعلى هذا فقس الباقى. وصوم النفس عن التمنى والحرص والشهوات. وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها. وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها. وصوم السر عن رؤية وجود غير اللّه واثباته { كما كتب على الذين من قبلكم } هى اشارة الى ان اجزاء وجود الانسان من الجسمانية والروحانية قبل التركيب كانت صائمة عن المشارب كلها فلما تعلق الروح بالقالب صارت اجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية بقوة امداد الروح وصار الروح بقوة حواس القالب متمتعا من المشارب الروحانية والحيوانية فالآن كتب عليهم الصيام وهم مركبون كما كتب على الذين من قبلكم من المفردات { لعلكم تتقون } من مشارب المركبات وتصومون فيها مع حصول استعداد الشراب ليفطروا عن مشارب يشرب بها عباد اللّه اذ اسقاهم ربهم شرابا طهورا فيطهرك طهورية هذا الشراب من دنس استدعاء الحظوظ الحيوانية والروحانية كما قال ولكن يريد ليطهركم فلما افل كوكب استدعاء الحظوظ طلعت شمس استدعاء اللقاء من مطلع الالتقاء فحينئذ يتحقق انجاز ما وعد سيد الانبياء بقوله ( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ) ثم اخبر عن كمال لطفه مع العباد بتقليل الاعداد فى قوله { اياما معدودات } والاشارة فيها هو ان صومكم فى ايام قلائل معدودة متناهية وثمرات صومكم فى ايام غير معدودة ولا متناهية فلا يهولنكم سماع ذكره كذا فى التأويلات النجمية ١٨٥ { شهر رمضان } متبدأ خبره ما بعده فيكون المقصود من ذكر هذه الجملة المنبهة على فضله ومنزلته الاشارة الى وجه تخصيصه من بين الشهور بان فرض صومه ثم اوجب صومه بقوله { فمن شهد منكم الشهر } لمعهود { فليصمه } وسمى الشهر شهرا لشهرته ورمضان مصدر رمض اذا احترق فاضيف اليه الشهر وجعل المجموع علما ومنع من الصرف للتعريف والالف والنون وانما سمى بذلك اما لارتماض الاكباد واحتراقها من الجوع والعطش واما لارتماض الذنوب بالصيام فيه او لوقوعه ايام رمض الحر اى شدة وقوعه على الرمل وغيره قيل انهم نقلوا اسماء الشهور من اللغة القديمة فسموها بالازمنة التى وقعت هى فيها وقت التسمية فوافق هذا الشهر ايام رمض الحر فسمى به كما يسمى بربيع لموافقته الربيع وجمادى لموافقته جمود الماء او رمضان اسم من اسماء اللّه تعالى والشهر مضاف اليه ولذلك روى ( لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فان رمضان اسم من اسماء اللّه تعالى ) { الذى انزل فيه القرآن } جملة الى بيت العزة فى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما فى ثلاث وعشرين سنة حسبما تقتضيه المشيئة الربانية وعن النبى عليه السلام ( نزلت صحف ابراهيم اول ليلة من رمضان وانزلت التوارة لست مضين منه والانجيل لثلاث عشرة والقرآن لاربع وعشرين ) القرآن من القرء وهو الجمع لانه مجمع علم الاولين والآخرين { هدى للناس } اى انزل حال كونه هداية للناس الى سواء الصراط بما فيه من الاعجاز وغيره { وبينات من الهدى والفرقان } اى وحال كونه آيات واضحات مما يهدى الى الحق ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والاحكام فالهدى على قسمين ما يكون بينا جليا ومالا يكون كذلك والاول افضل القسمين فذكر الجنس اولا ثم اردفه باشرف نوعيه بل بالغ فيه فكأنه قيل انه هدى بل هو بين من الهدى ولا شك انه فى غاية المبالغة لانه فى المرتبة الثالثة فالعطف فى وبينات من باب عطف التشريف { فمن } الفاء للتفريع والترتيب { شهد } اى حضر موضع الاقامة من المصر او القرية كائنا ذلك الحاضر { منكم الشهر } منصوب على الظرف اى فى الشهر دون المفعول به لان المقيم والمسافر يشهدان الشهر { فليصمه } اى فليصم فيه بحذف الجار وايصال الفعل الى المجرور اتساعا والمراد بالشاهد العاقل البالغ الصحيح لان كل واحد من الصبى والمجنون يشهد موضع الاقامة فى الشهر مع انه لا يجب عليهما الصوم وهذا اى الحتم ينسخ التخيير بين الصوم والافطار والفداء { ومن كان مريضا } وان كان مقيما حاضرا فيه { أو على سفر } وان كان صحيحا وعلى بمعنى فى وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض { فعدة من ايام اخر } اى فعليه صيام ايام اخر واعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما فى الافطار لان اللّه تعالى ذكر فى الآية الاولى تخيير المقيم المطيق والمسافر والمريض ونسخ فى الثانية تخيير المقيم بقوله { فليصمه } فلو اقتصر على هذا احتمل ان يعود النسخ الى تخيير الجميع فاعاد بعض النسخ بترخيص المسافر والمريض ليعلم انه باق على ما كان { يريد اللّه بكم اليسر } حيث اباح الفطر بالسفر والمرض واليسر ما تسهل { ولا يريد بكم العسر } اى مشقة بالصوم فى المرض والسفر لغاية رأفته وسعة رحمته قال محمد بن على الترمذى قدس سره اليسر اسم الجنة لان جميع اليسر فيها والعسر اسم جهنم لان جميع العسر فيها معناه يريد اللّه بصومكم ادخال الجنة ولا يريد بكم ادخال النار قال شيخنا العلامة الفضلى قدس سره فى الآية ان مراده تعالى بان يأمركم بالصوم يسر الدارين لا عسرهما اما اليسر فى الدنيا فالترقى الى الملكية والروحانية والوصول الى اليقظة والمعرفة واما العسر فيها فالبقاء مع البشرية والحيوانية والاتصاف بالاوصاف الطبيعية والنفسانية واما اليسر فى الآخرة فهو الجنة والنعمة والقربة والوصلة والرؤية واما العسر فيها فهو الجحيم وعذابها ودركاتها انتهى كلامه وقال نجم الدين فى تأويلاته يعنى يريد اللّه بكم اليسر الذى هو مع العسر فلا تنظر فى امتثال الامر الى العسر ولكن انظر الى اليسر الذى هو مع العسر فان العاقل اذا سقاه الطبيب شرابا مرا أمر من بالء المرض موجبا للصحة فلا ينظر العاقل الى مرارة الشراب ولكن ينظر الى حلاوة الصحة ولا يبالى بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة انتهى : قال السعدى قدس سره وبالست دادن برنجور قند ... كه داروى تلخش بود سودمند زعلت مدار اى خردمند بيم ... جوداروى تلخت فرستد حكيم { ولتكملوا العدة } اى وانما امرناكم بمراعاة العدة بعد ايجاب صوم رمضان كما قال تعالى { فعدة } اى فعليكم عدة ما افطرتم لتكملوا عدد ايام الشهر بقضاء ما افطرتم بسبب مرضكم او سفركم { ولتكبروا اللّه } اى انما علمناكم كيفية القضاء وهو المدلول عليه بقوله تعالى { من ايام اخر } مطلقا فانه يجوز ان يقضى على سبيل التوالى او التفريق لتعظموا اللّه حامدين { على ما هداكم } ما مصدرية اى على هدايته اياكم الى طريق الخروج عن عهدة التكليف { ولعلكم تشكرون } اى انما رخصنا لكم بالافطار لكى تشكروا اللّه على هذه النعمة باللسان والقلب والبدن وفى الحديث ( من حافظ على ثلاث فهو ولى اللّه حقا ومن ضيعهن فهو عدو اللّه حقا الصلاة والصوم والغسل من الجنابة ) وفى بعض الخبر ( ان الجنان يشتقن الى اربعة نفر صائمى رمضان وتالى القرآن وحافظى اللسان ومطعمى الجيران وان اللّه يغفر للعبد المسلم عند افطاره ما مشت اليه رجلاه وما قبضت عليه يداه وما نظرت اليه عيناه وما سمعته اذناه وما نطق به لسانه وما حدث به قلبه ) وفى الحديث ( اذا كان يوم القيامة وبعث من فى القبور اوحى اللّه الى رضوان انى اخرجت الصائمين من قبورهم جائعين عاطشين فاستقبلهم بشهواتهم من الجنان فيصيح ويقول أيها الغلمان والولدان عليكم باطباق من نور فيجتمع اكثر من عدد الرمل وقطرات الامطار وكواكب السماء واوراق الاشجار بالفاكهة الكثيرة والاشربة اللذيذة والاطعمة الشهية فيطعم من لقى منهم ويقول كلوا واشربوا هنيئا بما اسلفتم فى الايام الخالية ) وعن النبى عليه السلام انه قال ( رأيت ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ملكا لم ار مثله طولا وعرضا طوله مسيرة الف الف سنة وله سبعون ألف رأس فى كل رأس سبعون الف وجه فى كل وجه سبعون الف لسان وعلى كل رأس الف ذؤابة من نور وعلى كل ذؤبة الف الف لؤلؤة معلقة بقدرة اللّه تعالى وفى جوف كل لؤلؤة بحر من نور وفى ذلك البحر حيتان طول كل حوت مقدار مائتى عام مكتوب على ظهرهن لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه وذلك الملك واضع احدى يديه على رأسه والاخرى على ظهره وهو فى حظيرة القدس فاذا سبح اهتز العرش بحسن صوته فسألت عنه جبريل فقال هذا ملك خلقه اللّه تعالى قبل آدم بالفى عام فقلت اين كان هذا الى هذه الغاية فقال ان اللّه مرجا فى الجنة عن يمين العرش فكان هو فيه فامره اللّه فى ذلك المكان ان يسبح لك ولامتك بسبب صوم شهر رمضان فرأيت صندوقين بين يديه على كل صندوق الف قفل من نور وسألت جبريل عن الصندوقين فقال سل منه فسألته فقال ان فيهما براءة الصائمين من امتك من عذاب النار طوبى لك ولامتك ) اعلم انه لا بد من النية فى الاعمال خصوصا فى الصوم وهى ان يعلم بقلبه انه يصوم ولا يخلو مثلا عن هذا فى ليالى شهر رمضان والامساك قد يكون للعادة او لعدم الاشتهاء او للمرض او للرياضة او يكون للعبادة فلا يتعين له الا بالنية وهى شرط لكل يوم لان صوم كل يوم عبادة على حدة ألا يرى انه لو افسد صوم يوم لا يمنع صحة الباقى بخلاف التراويح فانه لا يلزم النية فى كل شفع لان الكل بمنزلة صلاة واحدة وهو الاصح وتجوز النية الى نصف النهار دفعا للحرج وما يروى من الاحاديث فى نفى الصوم الا بالتثبيت فمحمولة على نفى الفضيلة بخلاف القضاه والكفارات والنذر المطلق لان الزمان غير متعين لها فوجب التبييت نفيا للمزاحمة ويعتبر نصف النهار من طلوع الفجر الثانى فيكون الى الضحوة الكبرى فينوى قبلها الاكثر منويا فيكون له حكم الكل حتى لو نوى بعد ذلك لا يجوز لخلو الاكثر عن النية تغليبا للاكثر والاحتياط فى النية فى التراويح ان ينوى التراويح او ينوى قيام الليل او ينوى سنة الوقت او قيام رمضان والتراويح سنة مؤكدة واظب عليها الخلفاء الراشدون قال عليه السلام ( ان اللّه فرض عليكم الصيام وسننت قيامه ) واما قول عمر رضى اللّه عنه نعمت البدعة هذه يعنى قيام رمضان فمعناه ان النبى صلى اللّه عليه وسلم وان كان قد صلاها الا انه تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس اليها فمحافظة عمر عليها وجمع الناس اليها وندبهم بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة كذا فى تفسير القرطبى عند قوله تعالى { بديع السموات والارض } فى الجزء الاول وكان النبى صلى اللّه عليه وسلم يبشر اصحابه بقدوم رمضان ويقول ( قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب اللّه عليكم صيامه تفتح فيه ابواب السماء وتغلق فيه ابواب الجحيم وتغل فيه الشياطين وفيه ليلة خير من الف شهر من حرم خيرها فقد حرم ) قال بعض العلماء هذا الحديث اصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان قال السخاوى فى المقاصد الحسنة التهنئة بالشهور والاعياد مما اعتاده الناس وعن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما رفعه ( من لقى اخاه عنده الانصراف من الجمعة فليقل تقبل اللّه منا ومنك ) ويروى فى جملة حقوق الجار من المرفوع ( ان اصابه خير هنأه او مصيبة عزاه او مرض عاده ) ومن آداب الصيام حفظ الجوارح الظاهرة وحراسة الخواطر الباطنة ولن يتم التقرب الى اللّه تعالى الا بترك ما حرم اللّه قال ابو سليمان الدارانى قدس سره لأن اصوم النهار وافطر الليل على لقمة حلال احب الى من قيام الليل والنهار وحرام على شمس التوحيد ان تحل قلب عبد فى جوفه لقمة حرام ولا سيما فى وقت الصيام فليجتنب الصائم اكل الحرام فانه سم مهلك للدين والسنة تعجيل الفطور وتأخير السحور فان صوم الليل بدعة فاذا اخر الافطار فكأنه وجد صائما فى الليل فصار مرتكبا للبدعة كذا فى شرح عيون المذاهب ولنا ثلاثة اعياد عيد الافطار وهو عيد الطبيعة. والثانى عيد الموت حين القبض بالايمان الكامل وهو عيد كبير. والثالث عيد التجلى فى الآخرة وهو اكبر الاعياد وروى الترمذى وصححه عن زيد بن خالد ( من فطر صائما كان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجر الصائم شىء ) وكان حماد بن سلمة الامام الحافظ يفطر فى كل ليلة من شهر رمضان خمسين انسانا واذا كانت ليلة الفطر كساهم ثوبا ثوبا وكان يعد من الابدال واخرج السيوطى فى الجامع الصغير والسخاوى فى المقاصد عن ابن عمر رضى اللّه تعالى عنهما انه قال عليه السلام ( خيار امتى فى كل قرن خمسمائة والابدال اربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الاربعون كلما مات رجل ابدل اللّه مكانه رجلا آخر ) قالوا يا رسول اللّه دلنا على اعمالهم قال عليه السلام ( يعفون عمن ظلمهم ويحسنون الى من اساءهم ويتواسون فيما اتاهم اللّه ) وفى الحديث ( من اشبع جائعا او كسا عاريا او آوى مسافرا اعاذه اللّه من اهوال يوم القيامة ) وكان عبد اللّه بن المبارك ينفق على الفقرآء وطلبة العلم فى كل سنة مائة الف درهم ويقول للفضيل بن عياض لولاك واصحابك ما اتجرت وكان يقول للفضيل واصحابه لا تشتغلوا بطلب الدنيا اشتغلوا بالعلم وانا اكفيكم المؤونة وكان يحيى البرمكى يجرى على سفيان الثورى كل شهر الف درهم وكان سفيان يدعو له فى سجوده ويقول اللّهم ان يحيى كفانى امر الدنيا فاكفه امر آخرته فلما مات يحيى رآه بعض اصحابه فى النوم فقال ما صنع اللّه بك قال غفر لى بدعاء سفيان : قال الصائب تيره روزان جهانرا بجراغى درياب ... تابس ازمرك ترا شمع مزارى باشد جعلنا اللّه واياكم من العاملين بمقتضى كتابه ومدلول خطابه ١٨٦ { واذا سألك عبادى عنى } وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ان اللّه تعالى لما امرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على انه تعالى خبير باحوالهم مطلع على ذكرهم وشكرهم سميع باقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على اعمالهم تأكيدا له وحثا عليه وسبب النزول ما روى ان اعرابيا قال لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه ام بعيد فنناديه فقال تعالى ايماء الى سرعة اجابة الدعاء منهم اذا سألك عبادى عنى { فانى قريب } اى فقل لهم انى قريب بالعلم والاحاطة فهو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد واقوالهم واطلاعه على احوالهم بحال من قرب مكانه منهم فيكون لفظ قريب استعارة تبعية تمثيلية وانما لم يحمل على القرب الحقيقى وهو القرب المكانى لانه ممتنع فى حقه تعالى لانه لو كان فى مكان لما كان قريبا من الكل فان من كان قريبا من حملة العرش يكون بعيدا من اهل الارض ومن كان قريبا من اهل المشرق يكون بعيدا من اهل المغرب وبالعكس قال ابو موسى الاشعرى لمّا توجه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم الى خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا اصواتهم بالتكبير لا اله الا اللّه واللّه اكبر فقال صلى اللّه عليه وسلم ( اربعوا على انفسكم انكم لا تدعون اصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ) وهذا باعتبار المشارب والمقامات واللائق بحال اهل الغفلات الجهر لقلع الخواطر كما ان المناسب لاهل الحضور الخفاء : قال السعدى دوست نزديكتر ازمن بمنست ... وين عجبتركه من ازوى دورم { اجيب دعوة الداع اذا دعان } تقرير للقرب المجازى المراد فى هذا المقام وهو الحالة الشبيهة بالقرب المكانى وقد تقرر ان اثبات ما يلائم المستعار منه للمستعار له يرشح الاستعارة ويقررها وايضا وعد للداعى بالاجابة فان قلت انا نرى الداعى يبالغ فى الدعوات والتضرع فلا يجاب قلت ان هذه الآية مطلقة والمطلق محمول على المقيد وهو قوله تعالى { بل ايها تدعون فيكشف ما تدعون اليه ان شاء } فالمعنى اجيب دعوة الداع اذا دعانى ان شئت او اذا وافق القضاء او اذا لم يسأل محالا او كانت الاجابة خيرا له والاجابة اعطاء ما سئل واللّه تعالى يقابل مسألة السائل بالاسعاف ودعاء الداعى بالاجابة وضرورة المضطرين بالكفاية { فليستجيبوا لى } اى فليجيبوا اذا دعوتهم للايمان والطاعة كما اجيبهم اذا دعونى لمهماتهم واستجابه واستجاب له واجابه واحد قطع مسألته بتبليغة مراده واصله من الجوب والقطع { وليؤمنوا بى } امر بالثبات على ما هم عليه قال ابن الشيخ الاستجابة عبارة عن الانقياد والاستسلام والايمان عبارة عن صفة القلب وتقديمها على الايمان يدل على ان العبد لا يصل الى نور الايمان وقوته الا بتقديم الطاعات والعبادات. ومعنى الفاء فيه انه تعالى قال انا اجيب دعاءك مع انى غنى عنك مطلقا فكن انت ايضا مجيبا لدعائى مع انك محتاج الى من كل الوجوه فما اعظم هذا الكرم { لعلهم يرشدون } راجين اصابة الرشد وهو الاهتداء لمصالح الدين والدنيا ومعنى الآية انهم اذا استجابوا وآمنوا اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم لان الرشيد من كان كذلك اعلم ان عدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند اهل الشريعة والطريقة لانه كالمقاومة مع اللّه ودعوى لمشاقه : وفى المثنوى تافرود آيد بلا بى دافعى ... جون نباشد ازتضرع شافعى فالتسبب واجب للعوام والمبتدئين فى السلوك والتوكل افضل للمتوسطين. واما الكاملون فليس يمكن حصر احوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان روى ان ابراهيم الخليل عليه السلام لما القى فى النار لقيه جبريل فى الهواء فقال ألك حاجة فقال أما اليك فلا فقال فاسأل اللّه الخلاص فقال عليه السلام حسبى من سؤاله علمه بحالى وهذا مقام اهل الحقيقة من المكملين الفانين عن الوجود وما يتعلق به والباقين بالرب فى كل حال فأين انت من هذا فاسأل اللّه عفوه ومغفرته وقد كان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يكلم الناس بقدر مراتبهم ولذا قال لاعرابى ارسل ابلا له توكلا عليه تعالى ( اعقلها وتوكل على اللّه ) امر بعقل الدابة لانه اراد بالتوكل التحرز عن الفوات وحث بعضهم على التوكل كتوكل الطير وذلك اذا لم يسكن الى سابق القضاء ثم اجابة الدعاء وعد صدق من اللّه لا خلف فيه ومن دعا بحاجة فلم تقض للحال فذلك لوجوه. منها ان الاجابة حاصلة لا محالة فان اجابة الدعوة غير قضاء الحاجة وقضاء الحاجة غير اجابة الدعوة فان اجابة الدعوة هو ان يقول العبد يا رب فيقول اللّه تعالى له لبيك يا عبدى وهذا موعود موجود لكل متوجه راشد وقضاء الحاجة اعطاء المراد وايصال المرتاد وذلك قد يكون للحال وقد يكون بعد مدة وقد يكون فى الآخرة وقد يكون الخيرة له فى غيره. ومنها ان الاجابة ليست بجهة واحدة بل لها جهات وفى الحديث ( دعوة المسلم لا ترد الا لاحدى ثلاث اما ان يدعو باثم او قطيعة رحم واما ان يدخر له فى الآخرة واما ان يصرف السوء عنه بقدر ما دعا ) ومنها ان الاجابة مقيدة بالمشيئة كما سبق. ومنها انه شرط لهذه الاجابة اجابة العبد اياه فيما دعاه اليه لقوله تعالى { فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى }. ومنها ان للدعاء شرائط وآدابا وهى اسباب الاجابة فمن استكملها كان من اهل الاجابة ومن اخل بها كان من اهل الاعتداء فلا يستحق الجواب والاسباب منها ما يتعلق باهل العموم ويطول ذكرها ان استوفيت ههنا. ومنها ما يتعلق بالخصوص وهى التزكية فالاجابة موقوفة على تزكية اداعى فعليه ان يزكى البدن اولا فيصلحه بلقمة الحلال وقد قيل الدعاء مفتاح باب السماء واسنانه لقمة الحلال وقال عليه السلام ( الرجل يطيل السفر يمد يده الى السماء اشعث اغبر يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستحاب لذلك ) حكى انه كان بالكوفة انا يستجاب دعاؤهم كلما دخل عليهم وال كانوا يدعون عليه فيهلك فدبر الحجاج الحيلة عليهم حين ولى عمل الكوفة من ابن مروان فدعاهم الى مأدبته فلما اكلوا قال امنت من دعائهم ان يستجاب حيث دخل فى بطونهم طعام حرام ويزكى الداعى نفسه ويطهرها من الاوصاف البشرية والاخلاق الذميمة لانها قاطعات لطريق الدعاء ويزكى قلبه عن رين التعلقات الانسانية من النفسانى والروحانى ويصفيه بالاذكار وينوره بنورالاخلاق فان هذه اسباب القربة بها يرفع الدعاء الى اللّه كما قال تعالى { اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ويزكى الروح عن دنس الالتفات لغير اللّه ليتعرض لنفخات الطافه ويزكى السر عن وصمة الشرك بان يوجهه الى الحق فى الدعاء لطلب الحق لا لطلب غير الحق من الحق ليستجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه كما قال ( لا من طلبنى وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى ) وان اللّه وعد الاجابة على طلبه بالدعاء فقال { اجيب دعوة الداع اذا دعان } اى اذا طلبنى : قال السعدى خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند ازخدا جز خدا فمن اخل ببعض هذه الشرائط لم يلزمه الاجابة كمن اخل بركن من اركان الصلاة لم يلزمه القبول الا ان الجبار يجبر كل خلل وكسر يكون فى اعمال العباد بفضله وكرمه وفى الحقيقة ان افضاله مع العباد مقدم على اعمالهم وانه يعطى قبل السؤال ويحقق مراد العبد بعد سؤاله بجميع النوال والدعاء على قسمين داع بالدعاء وقارئ للدعاء فللداعى يفتح ابواب السموات حتى يبلغ دعاؤه العرش وقارئ الدعاء لا يبلغ الا الاذن قال الفنارى فى تفسير الفاتحة ثم لصحة التصور وجودة الاستحضار اثر عظيم فى الاجابة اعتبره النبى عليه الصلاة والسلام وحرض عليه عليا رضى اللّه تعالى عنه لماعلمه الدعاء وفيه اللّهم اهدنى وسددنى فقال له اذكر بهدايتك هداية الطريق وبالسداد سداد السهم فامره باستحضار هذين الامرين وقت الدعاء فهذا هو سر اجابة دعاء الرسل والكمل والامثل فالامثل واستقامة التوجه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوى فى الاجابة فمن تصوره تصورا صحيحا من رؤية وعلم سابقين او حاضرين حال الدعاء ثم دعاه سيما بعد امره له بالدعاء والتزامه الاجابة فانه يجيبه لا محالة اما من زعم انه يقصد مناداة زيد وهو يستحضر غيره ثم لم يجد الاجابة فلا يلومن الا نفسه اذ لم يناد القادر على الاجابة وانما توجه الى ما انشأه من صفات تصوراته بالحالة الغالبة عليه اذ ذاك لكن سؤاله قد يثمر بشفاعة حسن ظنه بربه وشفاعة المعية الآلهية وحيطته فالمتوجه بالخطأ مصيب من وجه كالمجتهد المخطىء مأجور غير محروم بالكلية انتهى كلام الفنارى وفى رسالة القشيرى فى الخبر المروى ( ان العبد يدعو اللّه سبحانه وهو يحبه فيقول يا جبريل اخر حاجة عبدى فانى احب ان اسمع صوته ) حكى انه وقع ببغداد قحط فامر الخليفة المسلمين بالخروج للاستسقاء فخرجوا واستسقوا فلم يسقوا فامر اليهود فخرجوا وسقوا فتحير الخليفة ودعا علماء المسلمين وسألهم فلم يفرجوا عنه فجاء سهل ابن عبد اللّه وقال يا امير المؤمنين انا معاشر المسلمين احبنا اللّه لدين الاسلام وهدانا ويحب دعاءنا وتضرعنا فلهذا لم يعجل اجابتنا وهؤلاء ابغضهم ولعنهم فلهذا عجل اجابتهم وصرفهم عن بابه قال عليه السلام ( قوام الدنيا باربعة اشياء بعلم العلماء وعدل الامراء وسخاوة الاغنياء ودعوة الفقراء ) وينبغى ان يسأل اللّه تعالى باسمائه الحسنى العظام والادعية المأثورة عن السلف الكرام وينبغى ان يتوسل الى اللّه تعالى بالانبياء والاولياء الصالحين وللدعاء اماكن يظن فيها الاجابة مثلا عند رؤية الكعبة والمساجد الثلاثة وبين الجلالتين من سورة الانعام وفى الطواف وعند الملتزم وفى البيت وعند زمزم وعند شرب مائه وعلى الصفا والمروة وفى السعى وخلف المقام وفى عرفات والمزدلفة ومنى وعند الجمرات الثلاث وعند قبور الانبياء عليهم السلام وقيل لا يصح قبر نبى بعينه سوى قبر نبينا عليه الصلاة والسلام وقبر ابراهيم عليه السلام داخل السور من غير تعيين وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين بشروط معروف عند اهلها اللّهم أفض علينا من بركات الصالحين ١٨٧ { احل لكم } تقديم الظرف على القائم مقام الفاعل للتشويق فان ما حقه التقديم اذا اخر تبقى النفس مترقبة اليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن اى ابيح لكم { ليلة الصيام } اى فى ليلة يوم الصوم وهى الليلة التى يصبح الرجل فى غداتها صائما { الرفث } اصل الرفث قول الفحش والتكلم بالقبح ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معانى الافضاء ثم جعل كناية عن الجماع لان الجماع لا يخلو عن شىء من التصريح بما يجب ان يكنى عنه من الالفاظ الفاحشة وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة كالغمز والتقبيل { الى نسائكم } عدى الرفث بالى وان كان المشهور تعديته بالباء تقول رفثت بالمرأة لتضمنه معنى الافضاء قال تعالى { وقد افضى بعضكم الى بعض } اراد به الجماع وكان الرجل فى ابتداء الاسلام اذا امسى فى رمضان حل له الاكل والشرب والجماع الى ان يصلى العشاء الاخيرة او يرقد فاذا صلاها او رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء الى القابلة ثم ان عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه واقع اهله بعد صلاة العشاء الاخيرة فلما اغتسل اخذ يبكى ويلوم نفسه فأتى النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقال يا رسول اللّه انى اعتذر الى اللّه واليك من نفسى هذه الخاطئة انى رجعت الى اهلى بعد العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لى نفسى فجامعت اهلى فقال عليه السلام ( ما كنت جديرا بذلك يا عمر ) فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزلت الآية وصارت زلته سببا للرحمة فى جميع الامة { هن لباس لكم وانتم لباس لهن } استئناف مبين لسبب الاحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباسا للآخر لتجردهما عند النوم واعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر او لان كلا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور وعما لا يحل كما جاء فى الحديث ( من تزوج فقد احرز ثلثى دينه ) او المعنى هن سكن لكم وانتم سكن لهن كما قال تعالى { وجعل منها زوجها ليسكن اليها } ولا يسكن شىء الى شىء كسكون احد الزوجين الى الآخر { علم اللّه } فى الازل { انكم كنتم تختانون انفسكم } تخونونها وتظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب بمباشرة النساء فى ليالى الصوم والخيانة ضد الامانة وقد ائتمن اللّه العباد على امرهم به ونهاهم عنه فاذا عصوه فى السر فقد خانوه وقد قال اللّه تعالى { لا تخونوا اللّه والرسول وتخونوا اماناتكم } قال الصائب ترابكوهر دل كردهاند امانت دار ... زدزد امانت حق را نكاه دار مخسب { فتاب عليكم } عطف على علم اى قبل توبتكم وتجاوز عنكم لما تبتم مما اقترفتموه { وعفا عنكم } اى محا اثره عنكم { فالآن } اى لما نسخ التحريم ظرف لقوله { باشروهن } اصله فعل بمعنى حان ثم جعل اسما للزمان الحاضر وعرف بالالف واللام وبقى على الفتحة والمباشرة الزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذى يستلزمها وجميع ما يتبعه يدخل فيه وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب ان كانت حرمة الاكل والشرب والجماع ثابتة بالسنة واما اذا كان ثبوت حرمتها بشريعة من قبلنا فلاعلى ما ذهب اليه بعضهم { وابتغوا ما كتب اللّه لكم } اى واطلبوا ما قدره اللّه تعالى واثبته فى اللوح المحفوظ من الولد وفيه ان المباشر ينبغى ان يكون غرضه الولد والتناسل فانه الحكمة فى خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الشهوة وحدها وفى الحديث ( تناكحوا تناسلوا تكثروا فانى اباهى بكم الامم يوم القيامة ) { وكلوا واشربوا } ليالى الصوم عطف على قوله باشروهن { حتى يتبين } يظهر { لكم الخيط الابيض } هو اول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود دقيقا ثم ينتشر { من الخيط الاسود } هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار فان الصبح الصادق اذا بدا يبدوا كأنه خيط ممدود فى عرض الافق ولا شك انه يبقى مع بقية من ظلمة الليل بحيث يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط اسود فى جنب خيط ابيض لان نور الصبح انما ينشق فى خلال ظلمة الليل فشبها بخيطين ابيض واسود { من الفجر } اى انشقاق عمود الصبح بيان للخيط الابيض واكتفى ببيانه عن بيان الاسود لدلالته عليه والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الفجر من الخيط الاسود من الليل. قوله حتى يتبين غاية للامور الثلاثة اى المباشرة والاكل والشرب ففى تجوزير المباشرة الى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل اليه وصحة صوم من اصبح جنبا لان المباشرة اذا كانت مباحة الى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال الا بعد الصبح بالضرورة والا لكانت المباشرة قبل آخر الليل بقدر ما يسع الاغتسال حراما وهو مخالف لكلمة حتى { ثم اتموا الصيام } اى اديموا الامساك عن المباشرة والاكل والشرب فى جميع اجزاء النهار { الى } غاية { الليل } وهو دخول الليل وذاك بغروب الشمس والاتمام اداؤه على التمام وفى الحديث ( اذا اقبل الليل وادبر النهار وغابت الشمس فقد افطر الصائم ) اى دخل وقت الافطار وانما ذكر الاقبال والادبار وان لم يكونا الا بغروب الشمس لبيان كمال الغروب كيلا يظن احد انه اذا غاب بعض الشمس جاز الافطار او لانه قد يكون فى واد بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيحتاج الى ان يعمل بهما قالوا فيه دلالة على جواز النية بالنهار فى صوم رمضان وعلى نفى صوم الوصال اما الاول فلان اللّه تعالى لما ابح المباشرة والاكل والشرب الى الفجر تبين ان ابتداء الصوم يكون بعد الفجر والصوم ليس مجرد الامساك بل هو الامساك مع النية فيكون قوله ثم اتموا الصيام امرا بنية الصوم بعد الفجر واما الثانى فلان اللّه تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشىء مقطعه فيكون بعدها الافطار وينتفى الوصال قال بعضهم الليل غاية وجوب الصوم فاذا دخل الليل لا يجب الصوم واما ان الصوم لا يجوز بعد دخول الليل فلا دلالة للآية عليه ولان مثل هذه الاوامر اى باشروهن وكلوا واشربوا انما يكون للاباحة والرخصة لا للوجوب فلا تدل الآية على نفى صوم الوصال ولما ظن ان حال الاعتكاف كحال الصوم فى ان المباشرة تحرم فيه نهارا لا ليلا بين ان المباشرة تحرم على المعتكف نهارا وليلا معا فقال { ولا تباشروهن } اى لا تجامعوهن { وانتم } اى والحال انتم { عاكفون فى المساجد } مقيمون فيها بنية الاعتكاف وهو فى الشرع لزوم المسجد والمكث لطاعة اللّه فيه والتقرب اليه وهو من الشرائع القديمة قال تعالى { ان طهرا بيتى للطائفين والعاكفين } نزلت فيمن كان يعتكف فى المسجد فاذا عرضت له حاجة الى امرأته خرج فجامعها ثم اغتسل فرجع الى المسجد فنهوا عن ذلك فالجماع يحرم على المعتكف ويفسد الاعتكاف ولفظ المساجد يدل على جواز الاعتكاف فى كل مسجد الا ان المسجد الجامع افضل حتى لا يحتاج الى الخروج الى الجمعة والاعتكاف من اشرف الاعمال اذا كان عن اخلاص لان فيه تفريغ القلب عما سوى اللّه تعالى قال عطاء مثل المعتكف كرجل له حاجة الى عظيم فيجلس على بابه ويقول لا ابرح حتى يقضى حاجتى فكذلك المعتكف يجلس فى بيت اللّه ويقول لا ابرح حتى يغفر لى وفى الحديث ( من مشى فى حاجة اخيه فكأنما اعتكف عشرين سنة ومن اعتكف يوما جعل اللّه بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق ابعد مما بين الخافقين ) وفى الخلوة والانقطاع عن الناس فوائد جمة يسلم منه الناس وسلم هو منهم وفيها خمول النفس والاعراض عن الدنيا وهو اول طريق الصدق والاخلاص وفيها الانس باللّه والتوكل والرضى بالكفاف فان المعاشر للناس والمخالط يتكلف فى معيشته البتة فاذا لا يفرق غالبا بين الحلال والحرام فيقع فى الهلاك ويسلم المتخلى ايضا من مداهنة الناس وغير ذلك من المعاصى التى يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره التصوف عبارة عن الاجتناب عن كل ما فيه شائبة الحرمة وصون لسانه عن الكلام اللغو والخلوة والاربعون ليست الا هذا فانه وحدة فى الكثرة والمقصود من الخلوة ايضا ذلك ولكن ما يكون فى الكثرة على الوجه الذى ذكرنا اثبت واحكم لان ما يكون بالخلوة يزول اذا اختلط بين الناس وليس كذلك ما ذكر فطريقنا طريق النبى عليه السلام وطريق الاصحاب رضى اللّه تعالى عنهم والنبى عليه السلام لم يعين الاربعين بل الاعتكاف فى العشر الاخير من رمضان نعم فعل ذلك موسى عليه السلام قال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر } والخلوتية اخذوا من ذلك كذا فى واقعات الهدائى قدس سره { تلك } اى الاحكام التى ذكرت من اول آية الصيام الى هنا { حدود اللّه } جمع حد وهو الحاجز بين الشيئين وجعل ما شرعه اللّه تعالى لعباده من الاحكام حدودا لهم لكونها امورا حاجزة بين الحق والباطل ولكونها مانعة من مخالفاتها والتخطى عنها { فلا تقربوها } اى ان تنتهوا فلا تقربوها فضلا عن تجاوزها نهى ان يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يدانى الباطل فضلا ان يتخطى كما قال عليه السلام ( ان لكل ملك حمى وان حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه ) وهو ابلغ من قوله فلا تعتدوها ولما بين تعالى احكام الصوم على وجه الاستقصاء فى هذه الالفاظ القليلة بيانا شافيا قال بعده { كذلك } اى بيانا مثل هذا البيان الوافى الواضح فالكاف فى محل النصب على انه صفة مصدر محذوف { يبين اللّه آياته للناس } والآيات دلائل الدين ونصوص الاحكام والمقصود من تعظيم البيان هدايته ورحمته على عباده فى هذا البيان { لعلهم يتقون } مخالفة اوامره ونواهيه والتقوى اتقاء الشرك. ثم بعده اتقاء المعاصى والسيآت. ثم بعده اتقاء الشهوات. ثم يدع بعده الفضلات وفى الحديث ( لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ) قال السعدى قدس سره ترا آنكه جشم ودهان داد وكوش ... اكر عاقلى در خلافش مكوش جو باك آفريدت بهش باش وباك ... كه ننكست ن بالك رفتن بخاك مرو زير بار كنه اى بسر ... كه حمال عاجز بود در سفر مكن عمر ضايع بافسوس وحيف ... كه فرصت عزيزست والوقت سيف جعلنا اللّه واياكم من اهل اليقظة واليقين ١٨٨ { ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل } اى لا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذى لم يبحه اللّه تعالى ولم يشرعه كالغصب والنهب والسرقة واليمين الكاذبة وكالاكساب الخبيثة كالقمار والرشى وحلوان الكاهن والمغنى والنائحة وكالحيلة ووجوه الخيانة قوله { بينكم } نصب على الظرفية فيتعلق بقوله { تأكلوا } ومعنى كون الاكل بينهم وقوع التداول والتناول لاجل الاكل بينهم وليس المراد بالاكل المنهى عنه نفس الاكل خاصة لان جميع التصرفات المتفرعة على الاسباب الباطلة حرام الا انه شاع فى العرف ان يعبر عن انفاق المال بأى وجه كان بالاكل لان الاكل معظم المقصود من المال وقوله { بالباطل } متعلق بالفعل المذكور اى لا تأكلوها بالسبب الباطل نزلت فى رجلين تخاصما فى ارض بينهما فاراد احدهما ان يحلف على ارض اخيه بالكذب فقال النبى عليه السلام ( انما انا بشر مثلكم يوحى الى وانتم تختصمون الى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له شيأ من حق اخيه فانما اقضى له قطعة من نار ) فبكيا وقال كل واحد منهما انا حل لصاحبى فقال ( اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ) قوله ألحن بحجته اى اقوم بها واقدر عليها من صاحبه والتوخى قصد الحق والاستهام الاقتراع وفيه دلالة ظاهرة على ان حكم القاضى لا ينفذ باطنا كما عند الشافعى وحمله ابو حنيفة على الاموال والاملاك دون عقود النكاح وفسخها وموضع بيانه مشبعا كتاب القضاء فى الفقه { وتدلوا بها الى الحكام } عطف على المنهى عنه فيكون محزوما بلا الناهية المذكورة بواسطة العاطف والادلاء الالقاء وضمير بها للاموال بتقدير المضاف والباء فيه مثلها فى قوله تعالى { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } والمعنى ولا تلقوا امر الاموال والحكومة فيها الى الحكام { لتأكلوا } بالتحاكم اليهم { فريقا } اى طائفة وبعضا { من اموال الناس بالاثم } الباء سببية متعلقة بقوله لتأكلوا اى بما يوجب اثما كشهادة الزور واليمين الكاذبة والصلح مع العلم بان المقضى له ظالم والمقضى به حق المقضى عليه وقيل ولا تلقوا بعضها الى امراء الظلم وقضاة السوء على وجه الرشوة { وانتم تعلمون } انكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها اقبح وصاحبها احق بالتوبيخ ويقال الدنيا ثلاثة اشياء حلال وحرام وشبهة فالحرام يوجب العقاب والشبهة توجب العتاب والحلال يوجب الحساب : قال الحكيم السنايى اين جهان برمشال مردار ست ... كر كسان اندرون هزار هزار اين مرانرا همى زند مخلب ... وان مرين را همى زند منقار آخر الامر بكذرند همه ... و ز همه باز ماند اين مردار فعلى العاقل ان يجتنب عن حقوق العباد والمظالم حكى انه لما مات انوشروان كان يطاف بتابوته فى جميع مملكته وينادى مناد من له علينا حق فليأت فلم يوجد احد فى ولايته له عليه حق من درهم روى ان ابا حنيفة كان له على بعض المجوس مال فذهب الى داره ليطالبه به فلما وصل الى باب داره وقع نعله على نجاسة فنفض نعله فانقلعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسى فتحير ابو حنيفة رحمه اللّه وقال ان تركتها كان ذلك شيأ يقبح جدار ذلك المجوسى وان حككتها احفر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها قولى لمولاك ان ابا حنيفة بالباب فخرج اليه وظن انه يطالبه بالمال واخذ يعتذر فقال ابو حنيفة رحمه اللّه ههنا ما هو اولى بالاعتذار وذكر قصة الجدار وانه كيف السبيل الى التطهير فقال المجوسى فانا ابدأ بتطهير نفسى فأسلم فى الحال والنكتة ان ابا حنيفة لما احترز عن ظلم ذلك المجوسى فى ذلك القدر القليل فلأجل بركة ذلك اسلم المجوسى ونجا من شقاوة الابد فمن احترز عن الظلم نال سعادة الدارين ولا فقد وقع فى الخذلان حكى ان نصرانيا كان يحمل امرأته على حمار فأتى بعض قرى المسلمين فقطع واحد من الرنود ذنب حماره فوثب الحمار وسقطت المرأة وانكسرت يداها والقت حملها ايضا فذهب النصراني الى قاضى تلك القرية شاكيا فقال القاضى لذلك الرند خذ هذا الحمار وامسكه حتى ينبت ذنبه والمرأة حتى تحمل حملا وتصح عندك يداها فقال النصرانى أهكذا حكم شريعتكم ثم رفع رأسه الى السماء وقال آلهى انت حليم ولا صبر لى على هذا فاحكم يا ناظر الملهوفين ويا ناصر المظلومين فمسخ اللّه ذلك القاضى فصار حجرا من ساعته ففى هذه الحكاية شيأن. الاول ان هذا القاضى بظلمه وقع فيما وقع من البلاء العظيم. والثانى انه يجب الاحتراز عن الظلم وان كان المظلوم كافرا فان دعاء الكافر يسمع والاشارة فى الآية ان الاموال خلقت لمصالح قوام النفس وان النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية لقوله { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } ليعلموا ان الاموال والانفس للّه فلا يتصرفون فيهما الا بامر اللّه { ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل } بهوى النفس والحرص والشهوة والاسراف على الغفلة وكلوا بالحق والقناعة والتقوية على الطاعة والقيام بالعبودية { و } لا { تدلوا بها الى الحكام } وهى النفس الامارة بالسوء { لتأكلوا فريقا من اموال الناس } من الاموال التى خلقت للاستعانة بها على العبودية { بالاثم } اى بالقطيعة والغفلة مستعينين بها على المعصية كالحيوانات والبهائم فيكون حاصلكم ومرجعكم ومثواكم النار ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم { وانتم تعلمون } حاصل الامر ولا تعملون به كذا فى التأويلات النجمية ١٨٩ { يسألونك عن الاهلة } روى ان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الانصاريين قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا اولا ولا يكون على حالة واحدة فأنزل اللّه تعالى { يسألونك عن الاهلة } وهى جمع هلال والهلال اول ما يظهر لك من نور القمر الى ثلاث ليال وسمى هلالا لان الناس يرفعون اصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبى اذا صرخ حين يولد واهل القوم بالحج اذا رفعوا اصواتهم بالتلبية { قل } يا محمد { هى } الاهلة { مواقيت } جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان ان المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها الى منتهاها والزمان مدة مقسومة الى الماضى والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لامر { للناس } اى لم يتعلق بهم من امور معاملاتهم ومصالحهم { والحج } واموره المتعلقة باوقات مخصوصة فان قلت لما كانت الاهلة مواقيت يوقت بها الناس عامة مصالحهم علم منه كونها ميقاتا للحج لانه من جملة المصالح المتوقفة على الوقت فلم خصه بالذكر قلت الخاص قد يذكر بعد العام للتنبيه على مزيته فالحج من حيث انه يراعى فى ادائه وقضائه الوقت المعلوم بخلاف سائر العبادات التى لا يعتبر فى قضائها وقت معين وحاصل الخطاب ان الهلال يبدو دائما ويظهر لكم على حسب مصلحتكم لقربه وبعده من الشمس كما بين فى فن الهيئة قال فى التيسير ثم الشمس على حالة واحدة لانها ضياء للعام وقوام لمصالح الناس والقمر يتغير لان اللّه علق به ما قلنا من المواقيت وذلك يعرف بهذه الاختلافات ودبر عز وجل هذا التدبير لحاجة الناس الى ذلك انتهى { وليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها } كان الانصار اذا احرم الرجل منهم بالحج او العمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فان كان من اهل المدر نقب نقبا فى ظهر بيته يدخل منه ويخرج او يتخذ سلما فيصعد منه وان كان من اهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى حيل من احرامه ويرون ذلك برا الا ان يكون من الحمس وهم قريش وسببه انهم ظنوا انه لا بد فى الاحرام من تغيير جميع العادات فغيروا عادتهم فى الدخول كما غيروا فى اللباس والتطيب وقالوا لا ندخل بيوتا من الابواب حتى ندخل بيت اللّه تعالى وكان منهم من لا يستظل بسقف بعد احرامه ولا يأقط الاقط ولا يجز الوبر وهذه اشياء وضعوها من عند نفوسهم من غير شرع فعرفهم اللّه تعالى ان هذا التشديد ليس ببر ولا قربة { ولكن البر } بر { من اتقى } المحارم والشهوات دون دخول البيت من ظهر وفى الكشاف فان قلت ما وجه اتصاله بما قبله قلت كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الاهلة وعن الحكمة فى نقصانها وتمامها معلوم ان كل ما يفعله اللّه تعالى لا يكون الا حكمة بالغة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا فى واحدة تفعلونها انتم مما ليس من البر فى شىء وانتم تحسبونها برا { وائتوا البيوت من ابوابها } حال الاحرام اذ ليس فى العدول بر { واتقوا اللّه } فى تغيير احكامه والاعتراض على افعاله { لعلكم تفلحون } اى لكى تظرفوا بالبر والهدى وللآية تأويل آخر قاله الحسن قال كان فى الجاهلية من هم بسفر او امر يصنعه فمنع عن ذلك لم يدخل داره من الباب حتى يحصل له ذلك وكان قريش وقبائل العرب من خرج لسفر او حاجة ثم رجع ولم يظفر بذلك كان ذلك طيرة فنهاهم اللّه عن ذلك واخبر ان الطيرة ليس ببر والبر بر من لم يخف غيره وتوكل عليه حكى الجاحظ قال تحاورت انا وابراهيم بن سيار المعروف بالنظام حديث الطيرة فقال اخبرك انى جعلت حتى اكلت الطين وما صبرت على ذلك حتى قلبت قلبى أتذكر هل ثمة رجل اصيب عنده غداء او عشاء فقصدت الاهواز وهى من بلدان فارس وما اعرف بها واحدا وما كان ذلك الا شيأ امر به الضجر فوافيت الفرضة فلم اجد بها سفينة فتطيرت من ذلك ثم انى رأيت سفينة فى صدرها خرق وهشم فتطيرت ايضا فقلت للملاح ما اسمك قال ( ديوزاده ) بالفارسى وهو اسم الشيطان فتطيرت وركبت معه فلما قربنا من الفرضة صحت يا حمال ومعى لحاف سمل وبعض ما لا بد لى منه فكان اول حمال اجابنى اعور فازددت طيرة وقلت فى نفسى الرجوع اسلم ثم ذكرت حاجتى الى اكل الطين وقلت من لى بالموت فلما صرت الى الخان وانا حائر ما اصنع سمعت قرع باب البيت الذى انا فيه فقلت من هذا قال رجل يريدك فقلت من انا قال ابراهيم بن سيار النظام فقلت فى نفسى هذا عدو أو رسول سلطان ثم انى تحاملت وفتحت الباب فقال ارسلنى اليه ابراهيم بن عبد العزيز ويقول لك وان كنا اختلفنا فى المقالة فانا نرجع بعد ذلك الى حقوق الاخلاق والحرية وقد رأيتك حيث مررت على حال كرهتها وينبغى ان يكون برحت بك حاجة فان شئت فاقم مكانك مدة شهر أو شهرين فعسى نبعث لك ببعض ما يكفيك زمينا من دهرك وان اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون دينارا فخذها وانصرف وانت احق من عذر قال فورد على امور اذهلتنى اما واحدها فانى لم اكن ملك قط ثلاثة دنانير والثانى انه لم يطل مقامى وغيبتى عن اهلى والثالث ما تبين لى من الطيرة انها باطلة كذا فى شرح رسالة الوزير ابن زيدون فظهر انه قد يكون ما تكرهه النفس خيرا كما حكى انه وقع قحط فى زمن شيخ فعين لكل من طلبته على طريق التفاؤل مكسبا فجاء فى فال واحد منهم قطع الطريق فانتقل ذلك الرجل فلقى بعض الحرامية واجتمع بهم فنهبوا جماعة من التجار فبعد اخذ أموالهم ربطوا ايديهم وامروا هذا الرجل ان يذبحهم بعيدا عنهم فتفكر الرجل فخطر بباله ان يطلقهم ويعطيهم السلاح ويطهروا الطريق من القطاع ففعلوا وهم غافلون ثم سألوا عن هذا الرجل فحكى حاله فجاؤا الى شيخه وسلموا الاموال وصاروا من جملة احبائه فعليك بالتسليم والقبول لكى تنال المأمول : قال الصائب جون سرودر مقام رضا استاده ام ... آسوده خاطرم زبهار وخزال خويش ثم فى قوله { وليس البر } الآية اشارة الى ان لكل شىء سببا ومدخلا لا يمكن الوصول اليه ولا الدخول الا باتباع ذلك السبب والمدخل كقوله تعالى { وآتيناه من كل شىء سببا فاتبع سببا } فسبب الوصول الى حضرة الربوبية والمدخل فيها هو التقوى وهى اسم جامع لكل بر من اعمال الظاهر واحوال الباطن والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات وتصفية الضمائر ومراقبة السرائر فبقدر السلوك فى مراتب التقوى يكون الوصول الى حضرة المولى كقوله تعالى { ان اكرمكم عند اللّه اتقاكم } وقال عليه السلام ( عليكم بتقوى اللّه فانه جماع كل خير ) فقوله { وليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها } اى غر مدخلها بمحافضة ظواهر الاعمال من غير رعاية حقوق بواطنها بتقوى الاحوال { ولكن البر من اتقى } اى حق التقوى كقوله تعالى { اتقوا اللّه حق تقاته } قيل فى معناه ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر { وائتوا البيوت من ابوابها } اى ادخلوا الامور من مداخلها ثم ذكر مدخل الوصول وقال { واتقوا اللّه } اى اتقوا باللّه عما سواه يقال فلان اتقى بترسه يعنى اجعلوا للّه محرزكم ومتقاكم ومفركم ومفزعكم ومرجعكم منه اليه كما كان حال النبى عليه السلام يقول ( اعوذ بك منك ) { لعلكم تفلحون } لكى تنجوا وتتخلصوا من مهالك النفوس باعانة الملك القدوس كذا فى التأويلات النجمية ١٩٠ { وقاتلوا } جاهدوا { فى } نصرة { سبيل اللّه } واعزازه والمراد بسبيل اللّه دينه لانه طريق الى اللّه ومرضاته { الذين يقاتلونكم } يعنى قريشا وكان ذلك قبل ان امروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين لان هذه الآية اول اية نزلت فى القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه اى يقاتل من واجهه للقتال وناجزه ويكف عن قتال من لم يناجز وان كان بينه وبينهم محاجزة وممانعة ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما ان هذه الآية نزلت فى صلح الحديبية وذلك ان النبى عليه السلام خرج مع اصحابه للعمرة فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة وكانوا الفا واربعمائة فنزل فى الحديبية وهو موضع فى قرب مكة كثير المياه والاشجار وصدهم المشركون عن البيت الحرام فاقام شهرا وصالحه المشركون على ان يرجع ذلك العام ويأتى مكة فى العام المقبل ويعتمر فرضى بما قالوا وان يصدوهم عن البيت وكره الاصحاب قتالهم فى الشهر الحرام وفى الحرم فانزل اللّه تعالى { وقاتلوا } الآية { ولا تعتدوا } بابتداء القتال فى الحرم محرمين { ان اللّه لا يحب المعتدين } اى لا يريد بهم الخير ١٩١ { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } اين وجدتموهم فى الحرم والحل وفى الاشهر الحرم وهم الذين هتكوا حرمة الشهر والحرم بالبداية فجازوهم بمثله واصل الثقف الحذق فى ادراك الشىء علما كان او عملا فهو يتضمن معنى الغلبة { واخرجوهم من حيث اخرجوكم } اى من مكة لانهم اخرجوا المسلمين منها اولا واخرج عليه الصلاة والسلام منها ثانيا من لم يؤمن به منهم يوم الفتح { والفتنة } فى الاصل عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الاصل اى المحنة التى يفتتن بها الانسان ويمتحن كالاخراج من الوطن { اشد من القتل } اصعب منه لدوام تعبها وتألم النفس بها فتكون هذه الجملة متعلقة بقوله { واخرجوهم من حيث اخرجوكم } تذييلا له وحثا على الاخراج والمعنى ان اخراجكم اياهم ليس اهون عليهم من القتل بل هو اشد من قتلكم اياهم فيصلح جزاء لاصرارهم على الكفر ومناجزتهم لحربكم وقتالكم قيل لبعض الحكماء ما اشد من الموت قال الذىيتمنى فيه الموت جعل الاخراج من الوطن من الفتن والمحن التى يتمنى عندها الموت ويحتمل ان تكون متعلقة بقوله { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } فيكون المقصود حث المؤمنين على قتلهم اياهم فى الحرم اى لا تبالوا بقتلهم اينما وجدتموهم فان فتنتهم اى تركهم فى الحرم وصدهم اياكم عن الحرم اشد من قتلكم اياهم فيه { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } اى لا تفاتحوهم بالقتل هناك وهتك حرمة المسجد الحرام { حتى يقاتلوكم فيه } حتى يبدأوكم بالقتال فى الحرم وهذا بيان لشرط كيفية قتالهم فى هذه البقعة خاصة فيكون تخصيصا لقوله { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } { فان قاتلوكم } ثمة { فاقتلوهم } فيه ولا تبالوا بقتلاهم ثمة لانهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا اشد العذاب { كذلك } اى مثل ذلك الجزاء على ان الكاف فى محل الرفع بالابتداء { جزاء الكافرين } يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم ١٩٢ { فان انتهوا } عن القتال وكذا عن الكفر فان الانتهاء عن مجرد القتال لا يوجب استحقاق المغفرة فضلا عن استحقاق الرحمة { فان اللّه غفور رحيم } يغفر لهم ما قد سلف ١٩٣ { وقاتلوهم } اى المشركين { حتى لا تكون } الى ان لا توجد ولا تبقى { فتنة } اى شرك يعنى قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثنى الا الاسلام فان أبى قتل { ويكون الدين للّه } خالصا له ليس للشيطان نصيب فيه { فان انتهوا } بعد مقاتلتكم عن الشرك { فلا عدوان الا على الظالمين } اى فلا تعتدوا على المنتهين اذ لا يحسن ان يظلم الا من ظلم فحذف نفس الجزاء واقيمت علته مقامه والعلة لما كانت مستلزمة للحكم كنى بها عنه كأنه قيل فان انتهوا فلا تعدوا علهم لان العدوان مختص بالظالمين والمنتهون عن الشرك ليسوا بظالمين فلا عدوان عليهم وسمى ما يفعل بالكفار عدوانا وظلما وهو فى نفسه حق وعدل لكونه جزاء الظلم للمشاركة كقوله تعالى { فجزاء سيئة سيئة } ١٩٤ { الشهر الحرام } يقابل { بالشهر الحرام } فى هتك الحرمة حيث صدهم المشركون عام الحديبية فى ذى القعدة وكان بين القوم ترامى بسهام وحجارة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه سنة سبع من الهجرة وكرهوا ان يقاتلوهم لحرمته فنزلت هذه الآية وقيل لهم هذا الشهر الحرام بذلك الشهر وهتكه بهتكه فلا تبالوا به { والحرمات قصاص } يعنى من هتك حرمة اى حرمة كانت من حرمة الشهر وحرمة الاحرام وحرمة الحرم اقتص منه فان مراعاة هذه الحرمات انما تجب فى حق من يراعيها واما من هتكها فانه يقتص منه ويعامل معه بمثل فعله والاوضح ان المراد بالحرمات كل حرمة وهى ما يجب المحافظة عليه نفسا كان او عرضا يجرى فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد وهو عين التعرض للقتال فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة اى قهرا وغلبة فان منعوكم فى هذه السنة عن قضاء العمرة بالمقاتلة ونحوها فاقتلوهم كما قال تعالى { فمن اعتدى عليكم } اى تجاوز بقتالكم فى الشهر الحرام { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } اى بعقوبة مماثلة لجناية اعتدائه وهذا اعتداء على سبيل القصاص وهو اعتداء مأذون فيه لا على سبيل الابتداء فانه ظلم حرام وهو المراد بقوله تعالى فلا تعتدوا { واتقوا اللّه } اذا انتصرتم ممن ظلمكم فلا تظلموهم باخذ اكثر من حقكم ولا تعتدوا الى ما لم يرخص لكم { واعلموا ان اللّه مع المتقين } والمعية وهى القرب المعنوى تدل على انه تعالى يحرسهم ويصلح شؤونهم بالنصر والتمكين روى انه عليه السلام واصحابه دخلوا ذلك العام مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدى وكان المشركون شرطوا له بعد قضاء العمرة الاقامة بمكة ثلاثا وكان النبى عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث فاحب المقام بمكة ليولم عليها فطالبوه بالخروج منها والوفاء بما عاهد ففعل واولم على ميمونة وبنى بها بسرف واعلم ان اللّه تعالى امرنا بالغزو فى سبيله ليظهر من يدعى بذل الوجود فى سبيل اللّه وامرنا بالزكاة ببذل المال ليتبين من يدعى محبة اللّه فالغزو معيار المحبة الآلهية لان كل انسان جبل على حب الحياة والمال فامتحن بالغزو والزكاة فى سبيل اللّه قطعا لدعوى المدعين لان الكل يدعى محبة اللّه وهذا هو السر فى الجهاد ولهذا قال سيدنا على رضى اللّه تعالى عنه خير الخصال فى الفتى الشجاعة والسخاوة وهما توأمان فكل شجيع سخى وعن عبد اللّه بن عمر عن ابيه رضى اللّه تعالى عنهما قال سئل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما الاسلام قال ( طيب الكلام واطعام الطعام وافشاء السلام ) قيل فأى المسلمون افضل قال ( من سلم الناس من لسانه ويده ) قيل فأى الصلاة افضل قال ( طول القيام ) قيل فأى الصدقة افضل قال ( جهد من مقل ) قيل فأى الايمان افضل قال ( الصبر والسماحة ) قيل فأى الجهاد افضل قال ( من عقر جواده واهريق دمه ) قيل فأى الرقاب افضل قال ( اغلاها ثمنا ) والجهاد جهادان ظاهر وباطن فالظاهر مع الكفار والباطن مع النفس والشيطان وهذا اصعب لان الكافر ربما يرجع اما بالمحاربة او بالصلح او ببذل النفس والمال بوجه من الوجوه والشيطان لا يرجع عنك دون ان يسلب الدين : وفى المثنوى اى شهان كشتيم ماخصم برون ... ماند خصمى روبتر دراندرون كشتن اين كار عقل وهوش نيست ... شير باطن سخره خركوش نيست سهل شيرى دان كه صفها بشكند ... شير آنست آنكه خودرا بشكند قال فى التأويلات القاشانية { وقاتلوا فى سبيل اللّه الذين يقاتلونكم } من الشيطان وقوى النفس الامارة { ولا تعتدوا } فى قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع فى التفريط والقصور والفتور { ان اللّه لا يحب المعتدين } لكونهم خارجين عن ظل المحبة والوحدة التى هى العدالة { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } اى ازيلوا حياتهم وامنعوهم عن افعالهم بهواها الذى هو روحها حيث كانوا { واخرجوهم من حيث } مكة الصدر عند استيلائهم عليها كما { اخرجوكم } منها باستنزالكم الى بقعة النفس واخراجكم من مقر القلب { والفتنة } التى هى عبادة هواها واصنام لذاتها وشهواتها { اشد } من قمع هواها واماتتها بالكلية او محنتكم وبلاؤكم بها عند استيلائها اشد عليكم { من القتل } الذى هو اماتتها ومحوها بالكلية او محنتكم لزيادة الضرر والالم هناك { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الذى هو مقام القلب اى عند حضور القلبى اذا وافقوكم فى توجهكم فانهم اعوانكم على السلوك حينئذ { حتى يقاتلوكم } فيه وينازعوكم فى مطالبه ويجروكم عن حياة القلب ودين الحق الى مقام النفس ودينهم الذى هو عبادة العجل { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } من تنازعهم وتجاذب دواعيهم وتعبدهم الهوى { ويكون الدين كله للّه } بتوجه جميعها الى جناب القدس ومشايعها للسر فى التوجه الى الحق الذى ليس للشيطان والهوى فيه نصيب { فان انتهوا فلا عدوان } عليهم { الا على الظالمين } على العادين المجاوزين عن حدودهم انتهى ما فى التأويلات النجمية وقال الشيخ نجم الدين قدس سره فى قوله تعالى { الشهر الحرام } الآية الاشارة ان ما يفوتكم من الاوقات والاوراد بتوانى النفس وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم والساعة بالساعة والوقت بالوقت والاوراد بالاوراد واقضوا الفائت والحقوق فكل صفة من صفات النفس اذا استولت عليكم فعالجوها بضدها البخل بالسخاوة والغضب بالحلم والحرص بالترك والشهوة بالرياضة وعلى هذا القياس واتقوا اللّه فى افراط الاعتداء احتراز عن هلاك النفس بكثرة المجاهدات واعلموا ان اللّه مع المتقين بالنصرة على جهاد النفس ١٩٥ { وانفقوا فى سبيل اللّه } الانفاق صرف المال الى وجوه المصالح والمراد بالسبيل الدين المؤدى الى ثواب اللّه ورحمته فكل ما امر اللّه به من الانفاق فى اعزاز الدين واقامته فهو داخل فى هذ الآية سواء كان فى اقامة الحج او العمرة او جهاد الكفار او صلة الارحام او تقوية الضعفاء من الفقراء والمساكين او رعاية حقوق الاهل والاولاد او غير ذلك مما يتقرب به الى اللّه تعالى امر تعالى بالجهاد بالمال بعد الامر به بالنفس اى واصرفوا اموالكم فى سبيل اللّه ولا تمسكوا كل الامساك { ولا تلقوا } الالقاء طرح الشىء حيث تراه ثم صار اسما لكل طرح عرفا وتعديته بالى لتضمنه معنى الانتهاء { بأيديكم } الباء زائدة فى المفعول به لان القى يتعدى بنفسه قال تعالى { فالقى موسى عصاه } ولا يقال القى بيده الا فى الشر والمراد بالايدى الانفس فان اليد لازم للنفس وتخصيص اليد من بين سائر الجوارح اللازمة لها لان اكثر الاعمال يظهر بالمباشرة باليد والمعنى لا تطرحوا انفسكم { الى التهلكة } اى الهلاك بالاسراف وتضييع وجه المعاش لتكون الآية نظير قوله تعالى { والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } او بالكف عن الغزو والانفاق فى مهماته فان ذلك مما يقوى العدو ويسلطه عليكم ويؤيده ما روى عن ابى ايوب الانصارى رضى اللّه تعالى عنه انه قال ان اللّه تعالى لما اعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا انا قد تركنا اهلنا واموالنا حتى فشا الاسلام ونصر اللّه نبيه فلو رجعنا الى اهلنا واموالنا فاقمنا فيها واصلحنا ما ضاع منا فانزل اللّه تعالى { وانفقوا فى سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة } اى الى ما يكون سببا لهلاككم من الاقامة فى الاهل والمال وترك الجهاد فما زال ابو ايوب يجاهد فى سبيل اللّه حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية فى زمن معاوية فتوفى هناك ودفن فى اصل سور قسطنطينية وهم يستشفون به وفى الحديث ( من مات ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) { واحسنوا } اى تفضلوا على الفقراء { ان اللّه يحب المحسنين } اى يريد بهم الخير روى ان الحجاج لما ولى العراق كان يطعم فى كل يوم على الف مائدة يجمع على كل مائدة عشر انفس وكان يرسل الرسل الى الناس لحضور الطعام فكثر عليه ذلك فقال ايها الناس رسولى اليكم الشمس اذا طلعت فاحضروا للغداء واذا غربت فاحضروا للعشاء فكانوا يفعلون ذلك واستقل الناس يوما فقال ما بال الناس قد قلوا فقال رجل ايها الامير انك اغنيت الناس فى بيوتهم عن الحضور الى مائدتك فاعجبه ذلك وقال اجلس بارك اللّه عليك هذا كرم الحجاج واحسانه الى الحلق مع كونه اظلم اهل زمانه : قال السعدى قدس سره كرم كن كه فردا كه ديوان نهند ... منازل بمقدار احسان نهند وحكى الهدائى قال اقبل ركب من بنى اسد ومن قيس يريدون النعمان فلقوا حاتما وهو المشهور بالجود فقالوا تركنا قوما يثنون عليك خيرا وقد ارسلوا اليك رسالة فقال ما هى فانشد الاسديون شعرا للنابغة فيه فلما انشده قالوا انا نستحيى ان نسألك شيأ وان لنا لحاجة قال ما هى قالوا صاحب لنا قد أرجل يعنى فقدت راحلته فقال حاتم فرسى هذه فاحملوه عليها فاخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فافلت يتبع امه وتبعته الجارية لترده فصاح حاتم ما يتبعكم فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية كذا فى شرح رسالة ابن زيدون الوزير قيل لما عرج النبى عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام ما بال هذا الرجل فى هذه الحظيرة لا تمسه النار فقال جبريل عليه السلام هذا حاتم طى صرف اللّه عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده كذا فى انيس الوحدة وجليس الخلوة وفى الاحاديث القدسية ( يا عيسى أتريد ان تطير على السماء مع الملائكة المقربين كن فى الشفقة كالشمس وفى الستر كاليل وفى التواضع كالارض وفى الحلم كالميت وفى السخاوة كالنهر الجارى ) قال بعض اهل الحقيقة وهو حسن جدا { وانفقوا فى سبيل اللّه } ارواحكم { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } بمنعكم انفسكم عن الشهادة { فى سبيل اللّه } التى هى الحياة الابدية فتهلكوا يعنى بفوت هذه الحياة واحسنوا تسليم انفسكم الى اللّه فقد اشتراها منكم { ان اللّه يحب المحسنين } : وفى المثنوى مرك بى مركى بود مارا حلال ... برك بى بركى بود مارا نوال ظاهرش مرك وبباطن زندكى ... ظاهرش ابتر نهان بايندكى جون مراسوى اجل عشق وهواست ... نهى لا تلقوا بايديكم مراست زانكه نهى از دانة شيرين بود ... تلخ را خود نخى حاجت كى شود دانه كش تلخ باشد مغز وبوست ... تلخى ومكروهيش خودنهى اوست دانه مردن مرا شيرين شده است ... بل هم احياء بى من آمده است قال فى التأويلات النجمية { وانفقوا فى سبيل اللّه } باموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } بالامتناع عن تسليم المبيع فتهلكوا بمنع الثمن وهو الجنة وبافراط الاعتداء وتفريطه فى جهاد النفس بالافراط بان يبرز واحد على رهط وبالتفريط بان يفر واحد من اثنين فى جهاد الكفار { واحسنوا } مع نفوسكم بوقايتها من نار الشهوات ومع قلوبكم برعايتها عن ملاحظة المكونات ومع الخلق بدفع الاذيات واتصال الخيرات ومع اللّه بالعبودية فى المأمورات والمنهيات والصبر على المضرات والبليات والشكر على النعم والمسرات والتوكل عليه فى جميع الحالات وتفويض الامور اليه فى الجزئيات والكليات والتسليم للاحكام الازليات والرضى بالاقضية الاوليات والفناء عن الارادات المحدثات فى ارادته القديمة بالذات { ان اللّه يحب المحسنين } الذين هم فى العبادة بوصف المشاهدة انتهى ما فى التأويلات بانتخاب ١٩٦ { واتموا الحج والعمرة } الحج فرض على من استطاع اليه سبيلا بالاتفاق والعمرة سنة عند ابى حنيفة رحمه اللّه لا تلزم الا بالشروع كنفل الصلاة والمعنى ان من شرع فى اى واحد منهما فليتمه قالوا ومن الجائز ان لا يكون الدخول فى شىء واجبا ابتداء الا انه بعد الشروع فيه يكون اتمامه واجبا { للّه } متعلق بأتموا واللام لام المفعول مناجله وفائدة التخصيص به هنا ان العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر وحضور الاسواق وكل ذلك ليس للّه فيه طاعة ولا قربة فامر اللّه بالقصد اليه لاداء فرضه وقضاء حقه والمعنى اكملوا اركانهما وشرائطهما وسائر افعالهما المعروفة شرعا لوجه اللّه تعالى من غير اخلال منكم بشىء منها واخلصوها للعبادة ولا تشوبوهما بشىء من التجارة والاغراض الدنيوية واجعلوا النفقة من الحلال واركان الحج خمسة الاحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعى بين الصفا والمروة وحلق الرأس او التقصير فركن الحج ما لا يحصل التحلل الا بالاتيان به وواجباته هو الذى اذا ترك يجبر بالدم وسننه ما لا يجب بتركه شىء وكذا افعال العمرة تشتمل على هذه الامور الثلاثة فاركانها اربعة الاحرام والطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة والحلق وللحج تحللان واسباب التحلل ثلاثة رمى جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق واذا وجد شيآن من هذه الاشياء الثلاثة حصل التحلل وبالثالث حصل التحلل الثانى وبعد التحلل الاول يستبيح جميع المحظورات اى محظورات الاحرام الا النساء وبالثانى يستبيح الكل واتفقت الامة على انه يجوز اداء الحج والعمرة على ثلاثة اوجه الافراد والتمتع والقران فصورة الافراد ان يحرم بالحج مفردا ثم بعد الفراغ منه يعتمر من الحل اى الذى بين المواقيت وبين الحرم وصورة التمتع ان يبتدئ باحرام العمرة فى اشهر الحج ويأتى بمناسكها ثم يحرم بالحج من مكة فيحج فى هذا العام وصورة القران ان يحرم بالحج والعمرة معا بان ينويهما بقلبه ويأتى بمناسك الحج وحينئذ يكون قد اتى بالعمرة ايضا لان مناسك العمرة هى مناسك الحج من غير عكس او يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل ان يفتتح الطواف فيصير قارنا ولو احرم بالحج ثم ادخل عليه العمرة ثم يدخل عليها الحج قبل ان يفتتح الطواف فيصير قارنا ولو احرم بالحج ثم ادخل عليه العمرة لم ينعقد احرامه بالعمرة والافضل عندنا من هذه الوجوه هو القران وفى الحديث ( تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء الا الجنة ) { فان احصرتم } اى منعتم وصددتم عن الحج والوصول الى البيت بمرض او عدو او عجز اوذهاب نفقة او راحلة او سائر العوائق بعد الاحرام باحد النسكين وهذا التعميم عند ابى حنيفة رحمه اللّه لان الخطاب وان كان للنبى واصحابه وكانوا ممنوعين بالعدو لكن الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب { فما استيسر } اى فعليكم ما تيسر { من الهدى } من اما تبعيضية او بيانية اى حال كونه بعض الهدى او الكائن من الهدى جمع هدية كتمر وتمرة وهو ما يهدى الى البيت تقربا الى اللّه من النعم ايسره شاة واوسطه بقرة واعلاه بدنة ويسمى هديا لانه جار مجرى الهدية التى يبعثها العبد الى ربه بان بعثها الى بيته والمعنى ان المحرم اذا احصر واراد ان يتحلل تحلل بذبح هدى تيسر عليه من بدنة او بقرة او شاة حيث احصر فى اى موضع كان عند الشافعى واما عندنا فيبعث به الى الحرم ويجعل للمبعوث على يده يوم ذبحه امارة اى علامة فاذا جاء اليوم وظن انه ذبح تحلل لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤسكم } اى لا تحللوا بحلق رؤسكم { حتى يبلغ الهدى محله } حتى تعلموا ان الهدى المبعوث الى الحرم بلغ مكانه الذى وجب ان ينحر فيه. والمحل بالكسر من الحلول وهو النزول يطلق على الزمان والمكان فمحل الدين وقت وجوب قضائه ومحل الهدى المكان الذى يحل فيه ذبحه وهو الحرم عندنا لقوله تعالى { ثم محلها الى البيت العتيق } والمراد الحرم كله لان كله يتبع البيت وهذا الحكم عام لجميع الحاج من المفرد والقارن والمتمتع والمعتمر يعنى لا يجوز له ان يحلق رأسه الا ان يذبح هديه وان لم يحصر يعنى فى منى والحلق افضل من التقصير ولو حلق ربع الرأس يكتفى به لكن حلق كله اولى اقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا فى الحج واما فى غيره فكان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يحلق رأسه الا قليلا بل هو معدود ويتركه فى اكثر الازمان وكان على رضى اللّه عنه يحلق رأسه منذ ما سمع قوله عليه السلام ( تحت كل شعرة جنابة ) { فمن } يجوز ان تكون شرطية وموصولة { كان منكم مريضا } مرضا محوجا الى الحلق حال الاحرام ومريضا خبر كان ومنكم حال منه لانه فى الاصل صفة له فلما تقدم عليه انتصب حالا { او به اذى } اى الم كائن { من رأسه } كجراحة او قمل او صداع او شقيقة والمعنى يثبت على احرامه من غير حلق حتى يذبح هديه الا ان يضطر الى الحلق فان حلق ضرورة { ففدية } اى فعليه فدية { من صيام } اى صيام ثلاثة ايام { او صدقة } على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { او نسك } بضمتين جمع نسيكة وهى الذبيحة اعلاها بدنة واوسطها بقرة وادناها شاه واو للتخيير { فاذا امنتم } من خوفكم وبرئتم من مرضكم وكنتم فى حال امن وسعة لا فى حال احصار { فمن تمتع بالعمرة الى الحج } اى فمن انتفع بالتقرب الى اللّه تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج فى اشهره او من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الاحرام الى ان يحرم بالحج { فما استيسر من الهدى } اى فعليه دم تيسر عليه بسبب التمتع وهو هدى المتعة وهو نسك عند ابى حنيفة رحمه اللّه لا يذبحه الا يوم النحر ويأكل منه كالاضحية { فمن لم يجد } اى الهدى { فصيام ثلثة ايام } صيام مصدر اضيف الى ظرفه معنى وهو فى اللفظ مفعول به على الاتساع اى فعليه صيام ثلاثة ايام { فى الحج } اى فى وقته واشهره بين الاحرامين احرام العمرة واحرام الحج ان شاء متفرقة وان شاء متتابعة والاحب ان يصوم سابع ذى الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وايام التشريق { وسبعة اذا رجعتم } اى نفرتم وفرغتم من اعمال الحج اطلق عليه الرجوع على طريق اطلاق اسم المسبب وارادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ فانه سبب للرجوع { تلك } اى صيام ثلاثة وسبعة { عشرة } فذلكة الحساب وفائدتها ان لا يتوهم ان الواو بمعنى او كما فى قوله تعالى { مثنى وثلث ورباع } وان يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا وعلمان خير من علم فان اكثر العرب لا يحسنون الحساب فكان الرجل اذا خاطب صاحبه باعداد متفرقة جمعها له ليسرع فهمه اليها وان المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فانه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة لعشرة فان الوصف قد يكون للتأكيد اذا افاد الموصوف معنى ذلك الوصف نحو آلهين اثنين والتأكيد انما يصار اليه اذا كان الحكم المؤكد مما يهتم بشأنه والمحافظة عليه والمؤكد ههنا هو رعاية هذا العدد فى هذا الصوم آكده لبيان ان رعايته من المهمات التى لا يجوز اهمالها البتة { ذلك } اشارة الى نفس التمتع عندنا والى حكم التمتع عند الشافعى وهو لزوم الهدى لمن يجده من المتمتع ولزوم بدله لمن لا يجده { لمن لم يكن اهله حاضرى المسجد الحرام } اى لازم للذى لا يسكن مكة واهل الرجل اخص الناس اليه وانما ذكر الاهل لان الغالب ان الانسان يسكن حيث يسكن اهله فعبر بسكون الاهل عن سكون نفسه وحاضروا المسجد الحرام عندنا هم امكة ومن كان منزله داخل المواقيت فلا متعة ولا قران لهم فمن تمتع او قرن منهم فعليه دم جناية لا يأكل منه وحاضروا المسجد الحرام ينبغى لهم ان يعتمروا فى غير اشهر الحج ويفرد واشهر الحج للحج والقارن والمتمتع الآفاقيان دمهما دم نسك يأكلان منه وعند الشافعى حاضروا المسجد الحرام اهل الحرم ومن هو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة { واتقوا اللّه } فى المحافظة على اوامره ونواهيه وخصوصا فى الحج { واعلموا ان اللّه شديد العقاب } لمن لم يتقه كى يصدكم العلم به عن العصيان : قال السعدى قدس سره مرو زير باركنه اى يسر ... كه حمال عاجز بود در سفر توبيش ازعقوبت در عقوكوب ... كه سودى ندارد فغان زيرجوب اعلم ان اتمام الحج كما يكون عن طريق الظاهر كذلك يكون عن طريق الباطن وعن بعض الصالحين انه حج فلما قضى نسكه قال لصاحبه هلم نتم حجنا ألم تسمع قول ذى الرمة تمام الحج ان تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام وخرقاء اسم حبيبة الشاعر واضعة اللثام اى مكشوفة الوجه مسفرة جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذى لا يتم الا به وحقيقة ما قال هو انه كما قطع البوادى حتى وصل الى بيته وحرمه ينبغى ان يقطع اهواء النفس ويخرق حجب القلب حتى يصل الى مقام المشاهدة ويبصر آثار كرمه بعد الرجوع عن حرمه قال فى التأويلات النجمية حج العوام قصد البيت وزيارته وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده كما قال الخليل عليه السلام انى ذاهب الى ربى سيهدين وكما ان من قصد اللّه وطلبه وتوجه اليه بالكلية وفدى بنفسه وماله وولده فى اللّه واتخذ ما سواه عدوا كما قال { فانهم عدو لى الا رب العالمين } كان الخليل عليه الصلاة والسلام وهذا كله من مناسك الحج الحقيقى فلذلك جعله اللّه اول من بنى بيت اللّه وطاف وحج واذن فى الناس بالحج وسن المناسك وكان الحج صورة ومعنى مقامه عليه السلام وكما كان له مقام كان لنبينا عليه السلام حال والحال اتم من المقام لان المقامات من المنازل والاحوال من المواهب فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات فلما كان الخليل من اهل المقامات قال { انى ذاهب الى ربى سيهدين } ولما كان النبى عليه الصلاة والسلام من اهل المواهب قيل فقيل له { فان احصرتم فما استيسر من الهدى } فاهدى باسمعيل ولما اسرى بالنبى عليه السلام وكان ذهابه باللّه ما احصره شىء فقيل له { وأتموا الحج والعمرة للّه } فأتم حجه بان دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى ثم اتى عمرته بان تجلى له اقمار المقصود عن كشوف التعزز بالشهود وانجلت عنانة المحبة عن شموس الوصلة وجرى بين المحبين ما جرى فأوحى الى عبده ما اوحى ثم نودى من سرادقات الجلال فى اتمام الحج والاكمال يوم الحج الاكبر عند وقوفه بعرفات فى حجة الوداع وهو آخر الحجات اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا انتهى ما فى التأويلات ثم اعلم ان كل قلب لا يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب ولا كل نفيس مال يصلح لخزانة الرب فتعجل ايها العبد فى تدارك حالك وكن سخيا بمالك فان لم يكن فبنفسك وان كان لك قدرة على بذلهما فبهما ألا يرى ان ابراهيم عليه السلام كيف اعطى ماله للضيفان وبدنه للنيران وولده للقربان وقلبه للرحمان حتى تعجب الملائكة من سخاوته فاكرمه اللّه بالخلة قال اللّه تعالى { واتخذ اللّه ابراهيم خليلا } قال مالك ابن دينار خرجت الى مكة فرأيت فى الطريق شابا اذا جن عليه الليل رفع وجهه نحو السماء وقال يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصى هب لى ما يسرك واغفر لى ما لا يضرك فلما احرم الناس ولبوا قلت له لم لا تلبى فقال يا شيخ وما تغنى التلبية عن الذنوب المتقدمة والجرائم المكتوبة والمعاصى السالفة اخشى ان اقول لبيك فيقا لى لا لبيك ولا سعديك لا اسمع كلامك ولا انظر اليك ثم مضى فما رأيته الا بمنى وهو يقول اللّهم اغفر لى اللّهم ان الناس قد ذبحوا وتقربوا اليك وليس لى شىء اتقرب به اليك سوى نفسى فتقبلها منى ثم شهق شهقة وخر ميتا اللّهم عاملنا بكمال كرمك واوصلنا على حضرتك العليا وحرمك ١٩٧ { الحج } بحذف المضاف اى وقته لان الحج فعل والفعل لا يكون اشهرا { اشهر } هى شوال وذوالقعدة وعشر ذى الحجة عندنا وانما سمى شهران وبعض شهر أشهرا مع ان جمع القلة لا يطلق على ما هو اقل من الثلاثة اقامة للبعض مقام الكل او اطلاقا للجمع على ما فوق الواحد { معلومات } معروفات بين الناس لانهم توارثوا علمها والشرع جاء مقررا لما عرفوه ولم يغير وقته عما كان قبله وفائدة توقيت الحج بهذه الاشهر ليعلم ان من شأ من افعال الحج لا يصح لا فيها والاحرام وان كان ينعقد فى غيرها ايضا عند ابى حنفية الا انه مكروه يعنى ان الاحرام عنده من شرائط الحج فيجوز تقديمه على وقت ادائه كما يجوز تقديم الطهارة على اداء الصلاة. وقولهم وقت الحج اشهر ليس المراد به انها وقت احرامه بل المراد انها وقت ادائه بماشرة اعماله ومناسكه والاشهر كلها وقت لصحة احرامه لقوله تعالى { يسألونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج } فجعل الاهلة كلها مواقيت للحج ومعلوم ان الاهلة كلها ليست مواقيت لصحة اداء احج فتعين ان المراد انها مواقيت لصحة الاحرام حتى من احرم يوم النحر لان يحج فى السنة القابلة يصح احرامه من غير كراهة عند ابى حنيفة كذا فى حواشى ابن الشيخ { فمن فرض فيهن الحج } اى اوجبه على نفسه بالتلبية او تقليد الهدى وذلك لان الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع بمجرد النية كالصلاة فلا بد من فعل يشرع به فيه وهو ما ذكرنا من التلبية او تقليد الهدى وهو جعل القلادة فى عنقه وسوقه { فلا رفث } اى فلا جماع وما دونه مما يفضى الى ذلك كالقبلة والغمز وهو محظور الاحرام فقبل الوقوف بعرفة مفسد وبعده موجب للبدنة وحرمت دواعيه لئلا يقع فيه والرفث وما يليه من الفسوق والجدال وان كانت على صورة النفى بمعنى ان شيأ منها لا يقع فى خلال الحج الا ان المراد بها النهى لان ابقاءها خبرا على ظاهرها يستلزم الخلف فى خبر اللّه للعلم بان هذه الاشياء كثيرا ما تقع فى خلال الحج وانما اخرجت على صورة الاخبار للمبالغة فى وجوب الانتهاء عنها كأن المكلف اذعن كونها منهيا عنها فاجتنب عنها فاللّه تعالى يخبر بانها لا توجد فى خلال الحج ولا يأتى بها احد منكم { ولا فسوق } ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات والفسق هو المعاصى بانواعها فيدخل فيه السباب والتنابز بالالقاب وغير ذلك { ولا جدال } اى لا مراء مع الخدم والرفقة والمكارين لانه يفضى الى التضاغن وزوال التأليف فاما الجدال على وجه النظر فى امر من امور الدين فلا بأس به { فى الحج } اى فى ايامه وانما امر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب فى كلحال لانه مع الحج اقبح واشنع كلبس الحرير فى الصلاة والتطريب فى قراءة القرآن والمنهى عنه التطريب الذى تخرج الحروف به عن هيآتها كما يفعله بعض القرآء من الالحان العجيبة والانغام الموسيقية واما تحسين القراءة ومدها فهو مندوب اليه قال عليه السلام ( حسنوا القرآن باصواتكم ) فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا والتطريب المقبول سبب للرقة واقبال النفس وبه قال ابو حنيفة رحمه اللّه وجماعة من السلف { وما } شرطية { تفعلوا من خير يعلمه اللّه } علم اللّه تعالى بما يفعله العبد من الخير كناية عن اثابته عليه. نهى عن ثلاثة اشياء من المعاصى ورغب فى كل الطاعات فهو حث على فعل الخير عقيب النهى عن الشر فيدخل فيه استعمال الكلام الحسن مكان القبيح والبر والتقوى مكان الفسوق والوفاق والاخلاق الجميلة مكان الجدال { وتزودوا } اى اجعلوا زادكم لمعادكم وآخرتكم اتقاء القبائح { فان خير الزاد التقوى } لا ما يتخذ من الطعام وتحقيق الكلام ان الانسان له سفران سفر فى الدنيا وسفر من الدنيا فالسفر فى الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال والسفر من الدنيا لا بد له ايضا من زاد وهو معرفة اللّه ومحبته والاعراض عما سواه بالاشتغال فى طاعته والاجتناب عن مخالفته ومناهيه وهذا الزاد خير من زاد المسافر فى الدنيا لان زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وزاد الدنيا فان وزاد الآخرة يوصلك الى لذات باقية خالصة. وقيل كان اهل اليمن لا يتزودون ويخرجون بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ونحن نحج بيت اللّه أفلا يطعمنا فيكون كلا على الناس واذا قدموا مكة سألوا الناس وربما يفضى بهم الحال الى النهب والغصب فقال اللّه تعالى { وتزودوا } اى ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم من الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها واتقوا الاستطعام وابرام الناس والتثقيل عليهم { فان خير الزاد التقوى } من السؤال والنهب { واتقون يا اولى الالباب } فان قضية اللب خشية اللّه وتقواه حثهم على التقوى ثم امرهم بان يكون المقصود بها هو اللّه فيتبرأوا عن كل شىء سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص اولى الالباب بالخطاب فان من لم يتقه فكأنه لا لب له فعلى العاقل تخليص العقل من الشوائب وتهذيب النفس وتكميلها بالوصول الى اعلى المراتب : قال الشاعر ولم ار فى عيوب الناس شيأ ... كنقص القادرين على التمام قال الامام اعلم ان الانسان فيه قوى ثلاث. قوة شهوانية بهيمية وقوة غضبية. سبعية شيطانية. وقوة وهمية عقلية ملكية والمقصود من جميع العبارات قهر القوات الثلاث اعنى الشهوانية والغضبية والوهمية فقوله { فلا رفث } اشارة الى قهر القوة الشهوانية وقوله { ولا فسوق } اشارة الى قهر القوة الغضبية التى توجب المعصية والتمدد وقوله { ولا جدال } اشارة الى قهر القوة الوهمية التى تحمل الانسان على الجدال فى ذات اللّه وصفاته وافعاله واحكامه واسمائه وهى الباعثة للانسان على منازعة الناس ومماراتهم والمخاصمة معهم فى كل شىء فلما كان الشر محصورا فى هذه الامور الثلاثة لا جرم قال { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } اى فيمن قصد معرفة اللّه ومحبته والاطلاع على نور جلاله والانخراط فى سلك الخواص من عباده انتهى ما قال الامام قالوا من سهل عليه المشى فى طريق الحج فهو الافضل فان كان يضعف ويؤدى ذلك الى سوء الخلق وقصور عن عمل فالركوب افضل كما ان الصوم افضل للمسافر والمريض ما لم يفض الى ضعف وسوء خلق قال ابو جعفر محمد الباقر ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت اذا لم يأت بثلاث. ورع يحجزه عن محارم اللّه. وحلم يكف به غضبه. وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج اليها المسافر خصوصا الى الحج فمن كملها فقد كمل حجه والا فلا : ونعم ما قال السعدى قدس سره ازمن بكوى حاجىء مردم كزايرا ... كوبوستين خلق بآزار ميدرد حاجى تونيستى شترست ازبراى آنك ... بيجار خار ميخورد وبار ميبرد فينبغى ان يجتهد الحاج قبل مفارقة رفيقه والجمال فى ان يتحالوا من الظالم ان كانت جرت بينهم مثل غيبة ونميمة او اخذ عرض او تعرض لمال فما سلم من ذلك الا القيل واذا ذكر رفيقه فليثن عليه خيرا وليغض عما سوى ذلك فقد كان السلف بعد قفولهم اى رجوعهم من السفر لا يذكر احدهم صاحبه الا بخير وليحذر من نظفت صحيفة علمه من الذنوب بالغفران ان يرجع الى وسخ المعاصى ثم الاشارة ان قصد القاصدين الى اللّه تعالى انما يكون فى اشهر معلومات من حياتهم الفانية فى الدنيا فاما بعد انقضاء الآجال فلا يفيد لاحد السعى كما لا ينفع للحاج القصد بعد مضى اشهر الحج قال تعالى { يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها } الآية وكما ان للحاج مواقيت معينة يحرمون منها فكذلك للقاصدين الى اللّه ميقات وهى ايام الشباب من بلاغية الصورة الى بلوغ الاربعين وهو حد بلاغية المعنى قال تعالى { حتى بلغ اشده وبلغ اربعين سنة } ولهذا قال المشايخ الصوفى بعد الاربعين نادر يعنى ان كان ظهور ارادته وطلبه يكون بعد الاربعين فوصوله الى المقصد الحقيقى يكون نادرا مع اركانه ولكن من يكون طلبه وصدقه فى الارادة قبل الاربعين وما امكنته الوصلة يقرب فى الاحتمال ان يكون بعد الاربعين حصول مقصوده بان يبذل غاية مجهوده بشرائطه وحقوقه وحدوده ومن فاته اوان الطلب فى عنفوان شبابه مستبعدة له الوصلة فى حال مشيبه فجرى منه عليه الحيف بان ضيع اللبن فى الصيف ولكن يصلح للعبادة التى آخرها الجنة ووقف بعض المشايخ على باب الجامع والخلق يخرجون منه فى ازدحام وغلبة وكان ينظر اليهم ويقول هؤلاء حشو الجنة وللمجالسة اقوام آخرون كذا فى التأويلات النجمية وقال القاشانى وقت الحج ازمنة وهو من وقت بلوغ الحلم الى الاربعين ثلاثة اعصر كل عصر بمثابة شهر. عصر من سن النمو. وعصر من سن الوقوف. وبعض من سن الكهولة كما قال تعالى فى وصف البقرة { لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك } انتهى : قال الحافظ عشق وشباب ورندى مجموعه مرادست ... جون جمع شدمعانى كوى بيان توان زد ١٩٨ { ليس عليكم جناح } اى اثم من الجنوح وهو الميل عن القصد { ان تبتغوا } اى فى ان تقصدوا وتطلبوا { فضلا من ربكم } اى عطاء ورزقا يريد الربح بالتجارة فى ايام الحج فان الآية نزلت ردا على من يقول لا حج للتاجر والجمال لكن الحق ان التجارة وان كانت مباحة فى الحج الا ان الاولى تركها فيه لقوله تعالى { وما امروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين } والاخلاص ان لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه طاعة وعبادة { فاذا افضتم من عرفات } الهمزة فى افضتم للتعدية والمفعول محذوف اى دفعتم انفسكم منها بكثرة بعد غروب الشمس ورجعتم بعد الوقوف بها وفى التيسير وحقيقة الافاضة هنا هو اجتماع الكثير فى الذهاب والمسير. وعرفات علم للموقف وليس بجمع حقيقة بل هو من قبيل ما زيدت حروفه لزيادة معناه فانه للمبالغة فى الانباء عن المعرفة روى انه نعته جبريل لابراهيم عليهما السلام فلما ابصره عرفه فسمى ذلك الموضع عرفات او لان جبريل عليه الصلاة والسلام كان يدور به فى المشاعر اى مواضع المناسك ويقول عرفت فيقول عرفت فلما رآه قال عرفت او لان آدم عليه الصلاة والسلام لما اهبط الى الارض وقع بالهند وحوآء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا او لغير ذلك كما ذكر فى التفاسير وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفات لان الاضافة مأمور بها وهى موقوفة على الحضور فيها والوقوف بها وما لم يتم الواجب الا به فهو واجب فيكون الوقوف واجبا { فاذكروا للّه } بالتلبية والتهليل والتسبيح والتحميد والثناء والدعوات { عند المشعر الحرام } قزح وهو الجبل الذى يقف عليه الامام وعلى الميقدة وفى المغرب الميقدة هو موضع بالمشعر الحرام على قزح كان اهل الجاهلية يوقدون عليها النار وتقييد محل الذكر والوقوف بقوله { عند المشعر الحرام } للتنبيه على ان الوقوف فيما يقرب من جبل قزح افضل من الوقوف فى سائر مواضع ارض مزدلفة وذلك لا ينافى صحة الوقوف فى جميع مواضعها كما ان عرفات كلها موضع الوقوف لكن الوقوف بقرب جبل الرحمة افضل واولى والمشعر العلم اى للعبادة. والشعائر العلامات من الشعار وهو العلامة ووصفه بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه { واذكروه كما هداكم } اى كما علمكم كيف تذكرونه مثل كون الذكر ذكرا كثيرا وعلى وجه التضرع والخيفة والطمع ناشئا عن الرغبة والرهبة ومشاهدة جلال المذكور وجماله كما قال عليه السلام ( الاحسان ان تعبد اللّه كأنك تراه ) فالمقصود من الكاف مجرد التقييد لا التشبيه اى اذكروه على الوجه الذى هداكم اليه لا تعدلوا عما هديتم اليه كما تقول افعل كما علمتك وليس هذا تكرارا لقوله { فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام } لان الاول لبيان محل الذكر والوقوف وتعليم النسك المناسك لذلك المحل واوجب بالثانى ان يكون ذكرنا اياه كهدايته ايانا اى موازيا لها فى الكم والكيف { وان } هى المخففة واللام هى الفارقة { كنتم من قبله } اى من قبل ما ذكر من هدايته اياكم { لمن الضالين } غير العالمين بالايمان والطاعة قال القاشانى ان اللّه تعالى هدى اولا الى الذكر باللسان فى مقام النفس. ثم الى الذكر بالقلب وهو ذكر الافعال اى تصور آلاء اللّه ونعمائه ثم الى ذكر السر وهو معاينة الافعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات. ثم الى ذكر الروح وهو مشاهدة انوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم الى ذكر الخفى وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الاثنينية. ثم الى ذكر الذات وهو الشهود الذاتى بارتفاع البعد وان كنتم من قبل الهدى الى هذه المقامات لمن الضالين عن طريق هذه الاذكار انتهى ولما امر بذكر اللّه تعالى اذا فعلت الافاضة امر بان تكون الافاضة من حيث افاض الناس مرتبا الامر الثانى على الاول بكلمة ثم فقال ١٩٩ { ثم افيضوا } اى ارجعوا { من حيث افاض الناس } اى من عرفة لا من المزدلفة كانت قريش وحلفاؤها هم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن اهل اللّه وسكان حرمه فلا نخرج من الحرم ويستعظمون ان يقفوا مع الناس بعرفات لكونها من الحل وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات اتباعا لملة ابراهيم عليه السلام فاذا افاض الناس من عرفات افاض الحمس من المزدلفة فانزل اللّه هذه الآية فأمرهم ان يقفوا بعرفات وان يفيضوا منها كما يفعله سائر الناس والمراد بالناس العرب كلهم غير الحمس. والحمس فى الاصل جمع احمس وهو الرجل الشجاع والاحمس ايضا الشديد الصلب فى الدين والقتال وسميت قريش وكنانة وجديلة وقيس حمسا لتشددهم فى دينهم وكانوا لا يستظلون ايم منى ولا يدخلون من ابوابها وكذلك كان من حالفهم او تزوج منهم { واستغفروا اللّه } من جاهليتكم فى تغيير المناسك ومخالفتكم فى الموقف { ان اللّه غفور رحيم } يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فامر النبى عليه السلام ابا بكر رضى اللّه تعالى عنه ان يخرج بالناس جميعا الى عرفات فيقف بها روى ان اللّه تعالى يباهى ملائكته باهل عرفات ويقول ( انظروا الى عبادى جاؤا من كل فج عميق شعثا غبرا اشهدوا انى غفرت لهم ) ويروى ان الشيطان ما رؤى فى يوم هو أصغر واحقر واذل منه يوم عرفة وما ذلك الا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز اللّه عن الذنوب العظام اذ يقال ان من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الا الوقوف بعرفة وفى الحديث ( اعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن اللّه تعالى لا يغفر له ) والحجة الواحدة افضل من عشرين غزوة فى سبيل اللّه وقيل ان البعير اذا حج عليه مرة بورك فى اربعين من امهاته واذا حج عليه سبع مرات كان حقا على اللّه ان يرعاه فى رياض الجنة ومصداق ذلك ما قال النهرانى رحمه اللّه بلغنى ان وقاد تنور حمام اتى بسلسلة عظام حمل ليوقدها قال فألقيتها فى المستوقد فخرجت منه فألقيتها فعادت فخرجت فعدت فألقيتها الثالثة فعادت فخرجت بشدة حتى وقعت فى صدرى واذا بصوت هاتف يقول ويحك هذه عظام جمل قد سعى الى مكة عشر مرات كيف تحرقها بالنار واذا كانت هذه الرأفة والرحمة بمطية الحاج فكيف به ثم ان الفضل على ثلاثة اقسام بالنسبة الى احوال العبد فان التنوع راجع الى تغيير احوال العباد لا الى تغيير صفة من صفات الحق تعالى. فالاول منها ما يتعلق بالمعاش الانسانى من المال والجاه ونوع يتعلق بالغذاء واللباس الضرورى وهذا الفضل مفسر بالرزق قال اللّه تعالى { وابتغوا من فضل اللّه } والثانى منها ما يتعلق بالمصالح الاخروية للعبد وهو نوعان ما يتعلق باعمال البدن على وفق الشرع ومتابعة الشارع ومجانبة طريق الشيطان المنازع قال تعالى { يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا } وما يتعلق باعمال القلب وتزكية النفس قال تعالى { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكا منكم من احد ابدا } والقسم الثالث منها ما يتعلق باللّه تعالى وهو نوعان ما يتعلق بمواهب القربة قال تعالى { وبشر المؤمنين بان لهم من اللّه فضلا كبيرا } اى قربا كبيرا فانه اكبر من الدنيا والآخرة وما يتعلق بمواهب الوصلة قال تعالى { ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم } يعنى فضل مواهب الوصلة اعظم من الكل ولكل قسم من هذه الاقسام الثلاثة مقام فى الابتغاء. اما الذى يتعلق بالمصالح الاخروية وهو فضل الرحمة فمقام ابتغائه بترك الموجود وبذل المجهود وهو فى السير الى عرفات. واما الذى يتعلق باللّه وهو فضل المواهب فمقام ابتغائه عند الوقوف بعرفات وعرفات اشارة الى المعرفة وهى معظم اركان الوصلة. واما الذى يتعلق بالمصالح الدنيوية وهو فضل الرزق فمقام ابتغائه بعد استكمال الوقوف بعرفات المعرفة عند الاضافة. ففى الآية تقديم وتأخير اى اذا افضتم من عرفات فليس عليكم الخ وذلك لان حال اهل السلوك فى البداية ترك الدنيا والتجريد عنها. وفى الوسط التوكل والتفريد. وفى النهاية المعرفة والتوحيد فلا يسلم الشروع فى المصالح الدنية ويملأها نورا بالالطاف الخفية فلا اعتبار للدنيا وشهواتها ونعيم الآخرة ودرجاتها عند الهمم العالية فلا يتصرفون فى شىء منها وتصرفهم باللّه وفى اللّه وللّه لا لحظوظ النفس بل لمصالح الدين واصابة الخير الى الغير كذا فى التأويلات النجمية : قال فى المثنوى كارباركانرا قياس ازخودمكير ... كرجه ماند در نوشتن شير شير اللّهم اجعل ههممنا مقصورة على جنابك آمين ٢٠٠ { فاذا قضيتم مناسككم } اى اتممتم عباداتكم الجاهلية التى امرتم بها فى الحج وفرغتم منها { فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم } يعنى فاتركوا عادة الجاهلية واتبعوا سنن الاسلام واشتغلوا بذكر رب الانام وكانت العرب اذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل ويذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن ايامهم يريد كل واحد منهم بذلك حصول الشهرة والترفع له بمآثر سلفه فناهم اللّه عن ذلك وامرهم بان يجعلوا بدل ذكرهم آباءهم ذكر اللّه تعالى وتمجيده والثناء عليه اذ الخير كله من عنده وآباؤهم عبيده ونالوا ما نالوا بافضاله : قال السعدى قدس سره كراز حق نه توفيق خيرى رسد ... كى ازبنده خيرى بغيرى رسد { او اشد ذكرا } مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكرا على المجاز اى اذكروه ذكرا كان مثل ذكرككم المتعلق بآبائكم او كذكر هو اشد منه وابلغ ذكرا او تحقيقه ان فعل انما يضاف الى ما بعده اذا كان من جنس ما قبله كقولك وجهك احسن وجه اى احسن الوجوه فاذا نصب ما بعده كان غير الذى قبله كقولك زيد افره عبدا فالفراهة للعبد لا لزيد والمذكور قبل اشد هنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال اشد ذكرا انما قياسه ان يقال للذكر اشد ذكر جرا اضافة فوجه النصب انه يجعل الذكر ذاكرا مجازا ويجوز نسبة الذكر الى الذكر بان يسمع انسان الذكر فيذكر فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه { فمن الناس } اى من الذين يشهدون الحج { من يقول } فى ذكره مقتصرا على طلب الدنيا { ربنا آتنا فى الدنيا } اى ايتاءنا ومنحتنا فى الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الاعداء وما هو من الحظوظ العاجلة وهم المشركون لانهم لا يسألون فى حجهم الا الدنيا { وما له فى الآخرة من خلاق } اى نصيب وحظ لان همه مقصور على الدنيا حيث سأل فى اعز المواقف احقر المطالب واعرض عن سؤال النعيم الدائم والملك العظيم ٢٠١ { ومنهم } اى من الذين يشهدون الحج { من يقول } فى ذكره طالبا خير الدارين { ربنا آتنا فى الدنيا حسنة } هي الصحة والكفاف والتوفيق للخير وفى التيسير الحسنة جامعة لكل الخيرات فى الدارين { وفى الآخرة حسنة } هى الثواب والرحمة قال الشيخ ابو القاسم الحكيم حسنة الدنيا عيش على سعادة وموت على شهادة وحسنة الآخرة بعث من القبر على بشارة وجواز على الصراط على سلامة { وقنا } اى احفظنا { عذاب النار } بالعفو والمغفرة وعن على كرم اللّه وجهه ان الحسنة فى الدنيا المرأة الصالحة وفى الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء : قال السعدى جو مستور باشد زن خوب روى ... بديدار اودر بهشتست سوى وتلخيصه اكثروا ذكر اللّه وسلوه سعادتكم فى داريه وترك ذكر من قصر دعاءه على طلب الآخرة فقط لان طالب الآخرة فقط بحيث لا يحتاج الى طلب حسنة من الدنيا لا يوجد فى الدنيا ٢٠٢ { اولئك } اشارة الى الفريق الثانى وهم الداعون الحسنتين لانه تعالى ذكر حكم الفريق الاول بقوله وماله { فى الآخرة من خلاق } { لهم نصيب مما كسبوا } من للتبعيض اى لهم نصيب عظيم كائن من جنس ما كسبوا من الاعمال الحسنة وهو الثواب الذى هو المنافع الحسنة او من اجل ما كسبوا لانهم استحقوا ذلك الثواب الحسن بسبب اعمالهم الحسنة ومن اجلها فتكون من ابتدائية لان العلة مبدأ الحكم ثم اومأ الى قدرته محذرا من الموت وحاثا على اعمال الخير بقوله { واللّه سريع الحساب } والحساب يراد به نفس الجزاء على الاعمال فان الحساب سبب للاخذ والعطاء واطلاق اسم السبب على المسبب جائز شائع اى يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة اعمالهم فى مقدار لمحة لعدم احتياجه الى عقد يد او وعى صدر او نظر وفكر فاحذروا من الاخلال بطاعة من هذا شأن قدرته او يوشك ان يقيم القيامة ويحاسب الناس وفى خطبة بعض المتقدمين ولت الدنيا حذاء ولم يبق الا صبابة كصبابة الاناء فليبادر المؤمن الى الطاعات واكتساب الحسنات والذكر فى كل الحالات قال الحسن البصرى اذكرونى بما يذكر الصغير اباه فانه اول ما يتكلم يقول يا اب يا اب فعلى كل مسلم ان يقول يا رب يا رب وعن النبى عليه السلام ( اغبط اوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة احسن عبادة ربه واطاعه فى السر وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ) ثم نقر بيده فقال ( هكذا عجلت منيته قلت بواكيه قل ثراؤه ) وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر ان يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والاشارة فاذا قضيتم مناسك وصلتكم وبلغتم مبلغ الرجال البالغين من اهل الكمال فلا تأمنوا مكر اللّه ولا تهملوا وظائف ذكر اللّه فاذكروا اللّه كما تذكرون فى حال طفوليتكم آباءكم للحاجة والافتقار بالعجز والانكسار وفى حال رجوليتكم للحجة والافتخار بالمحبة والاستظهار فاذكروا اللّه افتقارا وافتخارا او اشد ذكرا واكد فى الافتخار لانه يمكن للطفل الاستغناء عن اللّه بولى وكذلك البالغ يحتمل ان يفتخر بغير اللّه ولكن العباد ليس لهم من دون اللّه من ولى ولا واق فمن الناس من اهل الطلب والسلوك من يقول بتسويل النفس وغرورها بحسبان الوصول والكمال عند النسيان وتغير الاحوال ربنا آتنا فى الدنيا حسنة يعنى تميل نفسه الى الدنيا وتنسى المقصد الاصلى ويظن الطالب الممكور انه قد استغنى عن الاجتهاد فاهمل وظائف الذكر ورياضة النفس ومخاطرة القلب ومراقبة السر فاستولت عليه النفس وغلب عليه الهوى واستهوته الشياطين فى الارض حيران حتى اوقعته فى اودية الهجران والفراق وماله فى الآخرة من خلاق ومنهم اى من اهل الوصول وارباب الفتوة من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة نعمة من النعم الظاهرة كالعافية والصحة والسعة والفراغة والطاعة واستطاعة البدن والوجاهة والارشاد والاخلاق وفى الآخرة حسنة نعمة من النعم الباطنة هى الكشوف والمشاهدات وانواع القربات والمواصلات وقنا عذاب النار اى نار القطيعة وحرقة الفراق اولئك لهم نصيب اى لهؤلاء البالغين الواصلين نصيب وافر مما كسبوا من المقامات والكرامات ومما سألوا من ايتاء الحسنات واللّه سريع الحساب لكلا الفريقين فيما سألوه اى يعطيهم بحسب نياتهم على قد هممهم وطوياتهم كذا فى التأويلات النجمية ٢٠٣ { واذكروا اللّه } اى كبروه اعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمى الجمار وغيرها { فى ايام معدودات } فى ايام التشريق هى ثلاثة ايام بعد يوم النحر. اولها يوم القر وهو الحادى عشر من ذى الحجة يستقر الناس فيه بمنى. والثانى يوم النفر الاول لان بعض الناس يفنرون فى هذا اليوم من منى. والثالث يوم النفر الثانى وهذه الايام الثلاثة مع يوم النحر ايام رمى الجمار وايام التكبير ادبار الصلوات وفى الحديث ( كبر دبر كل صلاة من يوم عرفة الى آخر ايام التشريق ) وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى { دراهم معدودة } اى قليلة. والايام المعلومات فى قوله تعالى { ويذكروا اسم اللّه فى ايام معلومات } فى سورة الحج عشر ذى الحجة آخرهن يوم النحر وفى الكواشى معدودات جمع معدودة وايام جمع يوم ولا ينعت المذكر بمؤنث فلا يقال يوم معدودة وقياسه فى ايام معدودة لان الجمع قد ينعت بالمؤنث كقوله تعالى { لن تمسنا النار الا اياما معدودة } قالوا ووجهه انه اجرى معدودات على لفظ ايام وقابل الجمع بالجمع مجازا انتهى { فمن تعجل } اى استعجل وطلب الخروج من منى { فى يومين } فى تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فى يومين من هذه الايام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمى فى اليوم الثالث { فلا اثم عليه } بهذا التعجيل وهو مرخص له فعند ابى حنيفة رحمه اللّه ينفر قبل طلوع الفجر من اليوم الثالث ومحصله ان على الحاج ان يبيت بمنى الليلة الاولى والثانية من ايام التشريق ويرمى كل يوم بعد الزوال احدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع حصيات ورخص فى ترك البيتوتة لرعاء الابل واهل سقاية الحاج ثم كل من رمى اليوم الثانى من ايام التشريق واراد ان ينفر بعد البيتوتة فى الليلة الاولى والثانية من ايام التشريق ورمى يوميهما فذلك له واسع لقوله تعالى { فمن تعجل فى يومين فلا اثم عليه } ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه ان يبيت حتى يرمى اليوم الثالث ثم ينفر { ومن تأخر } عن الخروج حتى رمى فى اليوم الثالث قبل الزوال او بعده ثم يخرج اذا فرغ من رمى الجمال كما يفعل الناس الآن وهو مذهب الشافعى والامامين { فلا اثم عليه } بترك الترخص والمعنى انهم خيرون بين التعجيل والتأخير فان قلت أليس التأخير بافضل قلت بلى ويجوز ان يقع التخيير بين الفاضل والافضل كما خير المسافر بين الصوم والافطار وان كان الصوم افضل وانما اورد بنفى الاثم تصريحا بالرد على اهل الجاهلية حيث كانوا فريقين منهم من جعل المتعجل آثما ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفى الاثم عنهما جميعا { لمن اتقى } خبر مبتدأ محذوف اى الذى ذكر من التخيير ونفى الاثم عن المتعجل والمتأخر لمن اتقى اى مختص بمن اتقى المناهى لانه الحاج على الحقيقة والمنتفع به لانه تعالى قال { انما يتقبل اللّه من المتقين } ومن كان ملوثا بالمعاصى قبل حجه وحين اشتغاله به لا ينفعه حجه وان كان قد ادى الفرائض ظاهرا { واتقوا اللّه } اى حال الاشتغال باعمال الحج وبعده ليعتد باعمالكم فان المعاصى تأكل الحسنات عند الموازنة { واعلموا انكم اليه تحشرون } اى تبعثون وتجمعون للجزاء على اعمالكم وهو تأكيد للامر بالتقوى وموجب للامتثال به فان علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من اقوى الدواعى الى ملازمة التقوى وكانوا اذا رجعوا من حجهم يجترئون على اللّه بالمعاصى فشدد فى تحذيرهم قال ابو العالية يجيء الحاج يوم القيامة ولا اثم عليه اذا اقتى فيما بقى من عمره فلم يرتكب ذنبا بعدما غفر له فى الحج والمذنب المصر اذا حج فلا يقبل منه لعوده الى ما كان عليه فعلمة الحج المبرور ان يرجع زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة فاذا رجع من الحج المبرور رجع وذنبه مغفور ودعاؤه مستجاب فلذلك يستحب تلقيه بالسلام وطلب الاستغفار منه والحج المبرور مثل حج ابراهيم بن ادهم مع رفيقه الصالح الذى صحبه من بلخ فرجع من حجه زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة وخرج عن ملكه وماله واهله وعشيرته وبلاده واختار بلاد الغربة وقنع بالاكل من عمل يده اما من الحصاد او من نظارة البساتين قال بعضهم الحر الكريم لا ينقض العهد القديم واذا دعتك نفسك الى نقض عهد مولاك فقل لها معاذ اللّه ان ربى احسن مثواى : وفى المثنوى نقض ميثاق وشكست توبها ... موجب لعنت شود در انتها جون تراروى توكز بودودغا ... راست جون جويى ترازوى جزا وعن بعضهم قدمت من الحج مع قوم فدعتنى نفسى الى امر سوء فسمعت هاتفا ناحية البيت يقول ويلك ألم تحج ويلك ألم تحج فعصمنى اللّه الى الساعة ولا شك ان بعض الاعمال يكون حجابا للمرء اذا استند اليه واعتمد عليه حكى ان بعض الاتراك كان يلازم مجلس شيخ الاسلام احمد النامقى الجامى قدس سره ويرى فوق قفاه نورا كالترس فاتفق له ان يحج فلما رجع زالت عنه تلك الحال فسأل الشيخ عن سببه فقال انك كنت قبل الحج صاحب تضرع ومسكنة والآن غرك حجك واعطيت نفسك قدرا ومنزلة فلذا نزلت عن رتبتك ولم تر النور. ومما يجب على الحاج اتقاؤه المحارم ولان لا يجعل نفقته من كسب حرام فان اللّه لا يقبل الا الطيب وحكى عن بعض من حج انه توفى فى الطريق فى رجوعه فدفنه اصحابه ونسوا الفأس فى قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فاذا عنقه ويداه قد جمعتا فى حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم ردعوا الى اهله فسألوهم عن حاله فقالوا صحب رجلا فاخذ ماله فكان يحج منه وفى الحديث ( من حج بيت من كسب الحلال لم يخط خطوة الا كتب اللّه له بها سبعين حسنة وحط عنه سبعين خطيئة ورفع له سبعين درجة ) ذكره فى الخالصة واذا أراد أن يحج بمال حلال ليس فيه شبهة فانه يستدين للحج ويقضى دينه من ماله وعن ابى القاسم الحكيم انه كان يأخذ جائزة السلطان فكان يستقرض لجميع حوائجه وما يأخذه من السلطان كان يقضى به ديونه وعن ابى يوسف قال هذا جواب ابيح فى مثل هذا كذا فى خزانة الفتاوى ٢٠٤ { ومن الناس من يعجبك قوله } اى تستحسن ظاهر قوله وتعده حسنا مقبولا فان الاعجاب استحسان الشىء والميل اليه والتعظيم له قال الراغب التعجب حيرة تعرض للانسان عند الجهل بسبب الشىء وحقيقة اعجبنى كذا ظهر لى ظهورا لم اعرف سببه { فى الحيوة الدنيا } متعلق بالقول اى يسرك ما يقوله فى معنى الدنيا وحقها لان دعواه محبتك انما هو لطلب حظ من الدنيا فكلامه اذا فى الدنيا لا فى الآخرة او يعجبك قوله فى الدنيا بحلاوته وفصاحته لا فى الآخرة لما انه يظهر هناك كذبه وقبحه { ويشهد اللّه على ما فى قلبه } اى يقول اللّه شاهد أن ما فى قلبى من المحبة والاسلام موافق لما فى لسانى { وهو ألد الخصام } اى اشد فى العداوة والخصومة للمسلمين على ان الخصام مصدر كالقتال والجدال واضافة الألد اليه بمعنى فى. واللدد شدة الخصومة نزلت فى الاخنس بن شريف الثقفى وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ويدعى الاسلام ودعوى المحبة والخلوص بدون المواطأة من فعل الملاحدة والزنادقة والمحب لا يفعل الا ما يحب محبوبه قال الشاعر تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... ان المحب لمن أحب مطيع قال الحافظ بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست ... كه ازدروغ سيه روى كشت صبح نخست ٢٠٥ { واذا تولى } اى أدبر وانصرف عن مجلسك او اذا غلب وصار واليا { سعى فى الارض } السعى سير سريع بالاقدام وقد يستعار للجد فى العمل والكسب وانما جيىء بقوله فى الارض مع ان السعى على كلا المعنيين لا يكون الا فى الارض للدلالة على كثرة فساده فان لفظ الارض عام يتناول جميع اجزائها وعموم الظرف يستلزم عموم المظروف فكأنه قيل اى مكان حل فيه من الارض افسد فيه فيلزم كثرة فساده { ليفسد فيها } علة لسعى { ويهلك } الاهلاك الاشاعة { الحرث } اى الزرع { والنسل } ما خرج من كل انثى من اجناس الحيوان يقال نسل ينسل اذا خرج منفصلا والحرث والنسل وان كانا فى الاصل مصدرين فالمراد بهما ههنا معنى المفعول فان الولد نسل ابويه اى مخرج منفصل منهما وذلك كما فعله الاخنس بثقيف اذ بيتهم اى اتاهم ليلا واهلك مواشيهم وزرعهم لانه كان بينه وبينهم عداوة او كما يفعله ولاة السوء بالقتل والاتلاف او بالظلم حتى يمنع اللّه بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وفى الحديث ( لما خلق اللّه تعالى اسباب المعيشة جعل البركة فى الحرث والنسل ) فاهلاكهما غاية الافساد وفى الحديث ( يجاء بالوالى يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجه لا يبقى منه مفصل الا زال عن مكانه فان كان مطيعا للّه فى عمله مضى وان كان عاصيا انخرق به الجسر فيهوى به فى جهنم مقدار خمسين عاما ) { واللّه لا يحب الفساد } اى لا يرتضيه ويبغضه ويغضب على من يتعاطاه فان قيل كيف حكم اللّه تعالى بانه لا يحب الفساد وهو بنفسه مفسد للاشياء قيل الافساد فى الحقيقة اخراج الشىء من حالة محمودة لا لغرض صحيح وذلك غير موجود فى فعل اللّه تعالى ولا هو آمر به ولا محب له وما نراه من فعله ونظنه بظاهره فسادا فهو بالاضافة الينا واعتبارنا له كذلك فاما بالنظر الآلهى فكله صلاح ٢٠٦ { واذا قيل له } اى لهذا المنافق والمفسد على نهج العظة والنصيحة { اتق اللّه } خف من اللّه فى صنعك السوء واترك ما تباشره من الفساد والنفاق { اخذته العزة بالاثم } اى حملته الانفة التى فيه وحميته الجاهلية على الاثم والذنب الذى نهى عنه او على رد قول الواعظ لجاجا وعنادا من قولك اخذته بكذا اذا حملته عليه وألزمته اياه فالباء للتعدية وصلة الفعل الذى قبلها { فحسبه جهنم } مبتدأ وخبر اى كافيه دخول النار والخلود فيها على ما عمله وهو وعيد شديد { ولبئس المهاد } اى واللّه لبئس الفراش جهنم قال ابن مسعود رضى اللّه تعالى عنه من اكبر الذنب عند اللّه ان يقال للعبد اتق اللّه فيقول عليك نفسك وقيل لعمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه اتق اللّه فوضع خده على الارض تواضعا للّه تعالى ثم انه تعالى لما وصف فى الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر فى هذه الآية من يبذل دنياه ونفسه لطلب الدين وما عند اللّه يوم الدين فقال ٢٠٧ { ومن الناس من يشرى نفسه } اى يبيعها ويبذلها فان المكلف لما بذل نفسه فى طاعة اللّه من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك الى وجدان ثواب اللّه صار المكلف كأنه باع نفسه من اللّه تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما اعطاه من ثوابه وفضله { ابتغاء مرضاة اللّه } اى طلبا لرضاه { واللّه رؤف بالعباد } ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده ان ما اشتراه منهم من انفسهم واموالهم انما هو خالص ملكه وحقه ثم انه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة واحسانا وفضلا واكراما وقيل نزلت فى صهيب بن سنان الرومى خرج من مكة يريد الهجرة الى النبى عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركى قريش وقتلوا نفرا كانوا معه وكان معه كنانة فيها سهامه وكان راميا مصيبا فقال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا واللّه لا اضع سهمى الا فى قلب رجل وايم اللّه لا تصلون الى حتى ارمى بكل سهم فى كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقى فى يديى ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كونى فيكم فانى شيخ كبير ولى مال فى دارى بمكة فارجعوا وخذوه وخلونى وما انا عليه من الاسلام ففعلوا وسار هو الى المدينة فلما دخلها لقيه ابو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا ابا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشراء لانه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم واعلم ان المؤمنين باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة اما الاولياء فانهم باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس الاولياء مرضاة اللّه تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك ان يخرج من اوطان البشرية ويغترب عن ديار الاقران حتى يكون مجاهدا حقيقيا وشهيدا معنويا قال عليه الصلاة والسلام ( طوبى للغرباء ) وقال ايضا ( من مات غريبا فقد مات شهيدا ) يشير بذلك الى الانقطاع من الخلق الى الخالق وذلك لا يكون الا بمخالفة الجمهور فى العادات والشهوات وفى الحديث ( يا انس ان استعطت ان تكون ابدا على وضوء فافعل فان ملك الموت اذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة ) وذلك لان الوضوء واشارة الى الانفصال عما سى اللّه تعالى كما ان الصلاة اشارة الى الاتصال باللّه تعالى وفى الحديث ايضا ( دم على الطهارة يوسع عليك الرزق ) فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصورى وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوى من المعارف والالهامات والواردات وعند ذلك يحيى القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك الا اثر الجهاد الحقيقى فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حى ابدا : وفى المثنوى اى بسا نفس شهيد معتمد ... مرده دردنيا وزنده مى رود ولا بد للعبد من العروج من الخلق الى الخالق ومن الحاجة التامة لنفسه الى الغنى التام بالحق فى تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات فاذا فر الى اللّه ووصل الى جماله وغرق فى مشاهدة جلاله شاهد سر قوله تعالى { قل اللّه ثم ذرهم } واول الامر ترك الاموال ثم ترك الاولاد ثم ترك النفس. فعند الاول يتجلى توحيد الافعال. وعند الثانى يتجلى توحيد الصفات. وعند الثالث يتجلى توحيد الذات وهو اعلى الدرجات فعلى العاقل اكثار ذر اللّه فانه سبب لتصفية الباطن وصقالة القلب قال تعالى { واذكروا اللّه كثيرا لعلكم تفلحون } ولا فلاح اعظم من ان يصل الطالب الى المطلوب اللّهم اجعلنا مفلحين ٢٠٨ { يا ايها الذين آمنوا } بألسنتهم على ان الخطاب للمنافقين { ادخلوا فى السلم كافة } اى استسلموا للّه تعالى واطيعوه جملة ظاهرا وباطنا. فالسلم بمعنى الاستسلام والطاعة وكافة حال من ضمير الفاعل فى ادخلوا او هذه حال تؤكد معنى العموم فى ضمير الجمع فان قولك قام القوم كافة بمنزلة قاموا كلهم وتاء كافة وقاطبة وعامة ليست للتأنيث وان كان اصلها ان تدل عليه بل انما دخلت لمجرد كون الكلمة المنقولة الى معنى كل وجميع او المعنى ادخلوا فى الاسلام بكليته ولا تخلطوا به غيره فالخطاب لمؤمنى اهل الكتاب فانهم كانوا يراعون بعض احكام دينهم القديم كما روى ان عبد اللّه بن سلام واصحابه كان يتمسكون ببعض شرائع التوراة من تعظيم السبت وتحريم لحم الابل وألبانها واشياء كانوا يرون الكف عن ذلك مباحا فى الاسلام وان كان واجبا فى شريعتهم فثبتوا على ذلك مع اعتقادهم حلها استيحاشا من مفارقة العادة وقالوا يا رسول اللّه ان التوارة كتاب اللّه فدعنا فلنقرأ منها فى صلاتنا بالليل فقال عليه السلام ( لا تتمسكوا بشىء مما نسخ ودعوا ما الفتموه ولا تستوحشوا من النزوع عنه ) فانه لا وحشة مع الحق وانما هو من تزيين الشيطان { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } جمع خطوة بالضم والسكون وهو ما بين القدمين اى لا تسلكوا مسالكه ولا تطيعوه فيما دعاكم اليه من السبل الزائغة والوساوس الباطلة { انه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة يريد ان يفسد عليكم بهذه الوساوس اسلامكم ٢٠٩ { فان زللتم } الزلل فى الاصل عثرة القدم ثم يستعمل فى العدول عن الاعتقاد الحق والعمل الصائب فالمعنى اخطأتم الحق وتعديتموه علما كان او عملا { من بعد ما جاءتكم البينات } اى الحجج والشواهد على ان ما دعيتم الى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا ان اللّه عزيز } غالب على امره لا يعجزه الانتقام منكم { حكيم } لا ينتقم الا بالحق وفى الآية تهديد بليغ لاهل الزلل عن الدخول فى السلم فان الوالد اذا قال لولده ان عصيتنى فانت عارف بى وبشدة سطوتى لاهل المخالفة يكون قوله هذا ابلغ فى الزجر من ذكر الضرب وغيره وكما انها مشتملة على الوعيد منبئة عن الوعد ايضا من حيث انه تعالى اتبعه بقوله حكيم فان اللائق الحكمة ان يميز بين المحسن والمسيىء فكما يحسن ان ينتظر من الحكيم تعذيب المسيىء فكذلك ينتظر منه اكرام المحسن واثابته بل هذا أليق بالحكمة واقرب الى الرحمة ٢١٠ { هل ينظرون } استفهام فى معنى النفى ونظر بمعنى انتظر اى ينتظر من يترك الدخول فى السلم ويتبع خطوات الشيطان { الا ان يأتيهم اللّه } اى الا اتيان اللّه اى عذابه على حذف المضاف لان اللّه تعالى منزه عن المجيئ والذهاب المستلزمين للحركة والسكون لان كل ذلك محدث فيكون كل ما يصح عليه المجيئ والذهاب محدثا مخلوقا له والاله القديم يستحيل ان يكون كذلك. وسئل على رضى أين كان تعالى قبل خلق السموات والارض قال أين سؤال عن المكان وكان اللّه تعالى ولا مكان وهو اليوم على ما كان ومذهب المتقدمين فى هذه الآية وما شاكلها ان يؤمن الانسان بظاهرها ويكل علمها الى اللّه لانه لا يأمن فى تعيين مراد اللّه تعالى من الخطأ فالاولى السكوت ومذهب جمهور المتكلمين ان لا بد من التأويل على سبيل التفصيل { فى ظلل } كائنة { من الغمام } والظلل جمع ظلة وهى ما أظلك والغمام السحاب الابيض الرقيق سمى غماما لانه يغم اى يستر ولا يكون السحاب ظلة الا اذا كان مجتمعا متراكما فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة تكون فى غاية الكثافة والعظم وكل قطعة ظلة { والملائكة } اى ويأتيهم الملائكة فانهم وسائط فى اتيان امره تعالى بل هم الآتون بأسه على الحقيقة. وتلخيصه قد قامت الحجج فلم يبق الا نزول العذاب فان قلت لم لم يأتهم العذاب فى الغمام كما فعل بقوم يونس وقوم عاد وقوم شعيب قلت لان الغمام مظنة الرحمة فاذا نزل منه العذاب كان الامر افظع وأهول لان الشر اذا جاء من حيث لا يحتسب كان اغم كما ان الخير اذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر فكيف اذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الخير اى الغيث ومن ثمه اشتد على المتفكرين فى كتاب اللّه تعالى قوله { وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون } فان تفسيره على ما قالوا عملوا اعمالا حسبوها حسنات فاذا هى سيآت وذلك لتجويزهم ان يكون عملهم كذلك فيجيئهم الشر من حيث يتوقعون الخير فخافوا من ذلك روى أن محمد بن واسع تلا هذه الآية فقال آه آه الى ان فارق الدنيا { وقضى الامر } اى تم امر اهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل فى حيز الانتظار وانما عدل الى صيغة الماضى دلالة على الحقيقة فكأنه قد كان { والى اللّه } لا الى غيره { ترجع الامور } اى امور الخلق وامالهم هو القاضى بينهم يوم القيامة والمثيب والمعاقب فينبغى للمؤمن ان يكون فى جانب الانقياد ويحترز عن الهوى وخطوات الشيطان وعن النبى عليه السلام انه قال ( ان اللّه تعالى اظهر الشكاية من امتى ) وقال ( انى طردت الشيطان لاجلهم فهم يعصوننى. ويطيعون الشيطان ) قال السعدى قدس سره كجا سر بر آريم ازين عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك نظر دوست نادر كند سوى تو ... جو در روى دشمن بود روى تو ندانى كه كمتر نهد دوست باى ... جو بيندكه دشمن بود در سراى فمن أعظم الطاعات طرد الشيطان وأن يتهم النفس دائما كما روى ان رجلا صام اربعين سنة ثم دعا الحاجة ومع ذلك لم تجب دعوته وذم نفسه وقال يا مأوى الشر ذلك من شرك فاوحى الى نبى ذلك الزمان قل له ان قتلك لنفسك احب الى من صيام اربعين سنة : قال السعدى خورندهكه خيرى برآيد زدست ... به از صائم الدهر دنيا برست واعلم ان فى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم } معنى عاما ومعنى خاصا فالعام خطاب عام مع جميع من آمن اى ادخلوا فى شرائط الاسلام فى الباطن كما فى الظاهر ومن شرائطه ما قال النبى عليه السلام ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس ) واما المعنى الخاص فخطاب خاص مع شخص الانسان وجميع اجزائه الظاهرة والباطنة فينبغى ان يدخل أركانه فى الاسلام بالفعل. فالعين بالنظر. والاذن بالسمع. والفم بالاكل. والفرج بالشهوة. واليد بالبطش. والرجل بالمشى ودخول واحد منها فى الاسلام بأن يستسلم لاوامر الحق ويجتنب نواهيه بل يترك ما لا يعنيه أصلا ويقع على ما لا بد له منه. ودخول جميع اجزائه الظاهرة فى شرائع الاسلام ميسر للمنافق. فاما ادخال اجزائه الباطنة فمعركة ابطال الدين ومنزلة الرجال البالغين فدخول النفس فى الاسلام بخروجها عن كفر صفاتها الذميمة وترك مألوفاتها واطمئنانها بالعبودية ليستحق بها دخول مقام العباد المخصوصين به بخطابه تعالى اياها كقوله تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة } الآية. ودخول القلب فى الاسلام بتصفيته عن رذائل اخلاق النفس وتحليته بشمائل أخلاق الروح. ودخول الروح فى الاسلام بتخلقه بأخلاق اللّه وتسليم الاحكام الازلية وقطع النظر والتعلق عما سوى اللّه بتصرف جذبات الالوهية. ودخول السر فى الاسلام بفنائه فى اللّه وبقائه باللّه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } اى لا تكونوا على سيرته وصفته وهى الاباء والاستكبار فانه ضد الاسلام { انه لكم عدو مبين } لعداوته الغريزية لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم وقصوره عن نور فطرتكم لكونه نارى الخلقة لا يطلب منكم الا ان تكونوا ناريين مثله لا نوريين فهو عدو فى الحقيقة فى صورة المحب { فان زللتم } اى زلت اقدامكم عن صراط الاسلام الحقيقى { من بعد ما جاءتكم البينات } دلائل تجليات أفعال الصفات { فاعلموا ان اللّه عزيز } فلعزته لا يهدى اليه لك ذليل دنى الهمة قصير النظر { حكيم } يهدى من يشاء الى سرادقات عزته { هل ينظرون الا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام } الا ان يتجلى اللّه فى ظل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات الساترة لشمس الذات وهو ملائكة القوى السماوية { وقضى } فى اللوح { الامر } امر اهلاكهم { والى اللّه ترجع الامور } بالفناء كذا فى التأويلات النجمية ٢١١ { سل } أمر للرسول عليه السلام بالسؤال او لكل أحد يصلح ان يخاطب { بنى اسرائيل } يعنى هؤلاء الموجودين فى عصرك من رؤساء بنى اسرائيل { كم آتيناهم } اى آتينا آبائهم واسلافهم { من آية بينة } اى معجزة ظاهرة على ايدى انبيائهم لا يخفى على المتفكر أنها من عند اللّه كالعصا واليد البيضاء وانزال المن والسلوى وغيرها او المراد آيات كتبهم الشاهدة على صحة دين الاسلام. قوله كم آتيناهم محل هذه الجملة النصب او الخفض على انها مفعول ثان للسؤال فانه يتعدى الى مفعولين الى الول بنفسه والى الثانى بحرف الجر اما عن واما الباء نحو سألته عن كذا وبكذا قال اللّه تعالى { فاسأل به خبيرا } وقد يحذف حرف الجر فمن ثمة جاز فى محل كم النصب والخفض بحسب التقديرين وتمييزكم من آية بينة والاحسن اذا فصل بين كم ومميزها ان يؤتى بمن وهذا السؤال سؤال تقريع وتبكيت كما يسأل الكفرة يوم القيامة وتقرير لمجيئ البينات فكم استفهامية خبرية وليس المراد حقيقة الاستفهام { ومن يبدل } التبديل تصيير الشىء على غير ما كان عليه اى يغير { نعمة اللّه } التى هى آياته الباهرة فانها سبب للّهدى الذى هو أجل النعم وتبديلهم اياه أن اللّه اظهرها لتكون اسباب هداهم فجعلوها اسباب ضلالتهم فكفروا بها وتركوا الشكر عليها { من بعد ما جاءته } اى من بعد ما وصلت اليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع ان التبديل لا يتصور قبل المجيئ للاشعار بانهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها { فان اللّه شديد العقاب } تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة اللّه عاقبه أشد عقوبة فانه شديد العقوبة لمن بدل النعمة فى الدنيا والآخرة وقد عاقبهم فى الدنيا بالقتل وذلك فى بنى قريظة وبالاجلاء وذلك فى بنى النضير ويوم القيامة يعذبون فى السعير قال ابن التمجيد وتبديل النعمة جرم بغير علم ومع العلم اشد جرما ولذلك كان وعيد العلماء المقصرين أشد من الجاهلين بالاحكام لان الجهل قد يعذر به وان كان الاعتذار به غير مقبول فى باب التكاليف ٢١٢ { زين للذين كفروا الحيوة الدنيا } اى حسنت فى اعينهم واشربت محبتها فى قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والايجاد مستند الى اللّه تعالى اذ ما من شىء الا وهو خالقه وكل من الشيطان والقوى الحيوانية وما فى الدنيا من الامور البهية والاشياء الشهية مزين بالعرض { ويسخرون من الذين آمنوا } اى يستهزئون بالفقراء من المؤمنين كعبد اللّه بن مسعود وعمار وصهيب وحبيب وبلال وغيرهم رضى اللّه تعالى عنهم ويسترذلونهم ويقولون تركوا لذات الدنيا وعذبوا انفسهم بالعبادات وفوتوا الراحات وكراماتها وهو عطف على زين ومن للابتداء فكأنهم جعلوا السحرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا } يعنى اطاعوا اللّه واختاروا الفقر من المؤمنين وانما ذكروا بعنوان التقوى للايذان بان اعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مخلة بتبلهم الى جناب القدس شاغلة لهم وللاشارة الى انه لا يسعد عنده الا المؤمن المتقى { فوقهم يوم القيمة } يعنى فوق المشركين لانهم فى اعلى عليين وهم فى اسفل سافلين فتكون الفوقية حقيقة او لانهم فى اوج الكرامة وهم فى حضيض الذل والمهانة فتكون الفوقية مجازا. ويوم منصوب بالاستقرار الذى تعلق به فوقهم { واللّه يرزق من يشاء } اى فى الدارين { بغير حساب } كثير ( بى اندازه ) لانه تعالى لا يخاف نفاد ما عنده لانه غنى لا نهاية لمقدوراته فاللّه تعالى يوسع بحسب الحكمة والمشيئة على عباده فمنهم من تكون التوسعة عليه استدراجا كهؤلاء الكفرة وقارون واضرابهم ومنهم من تكون كرامة كاغنياء المؤمنين وسليمان وامثالهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( وقفت على باب الجنة فرأيت اكثر اهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت اكثر أهلها النساء ) واذا اهل الجسد محبوسون الا من كان منهم من اهل النار فقد امر به الى النار : قال الحافظ ازين رباط دودر جون ضرورتست رحيل ... رواق وطاق معيشت جه سر بلند وجه بست بهست ونيست مر نجان ضمير وخوش دل باش ... كه نيستعيست سرانجام هر كمال كه هست ببال و برمرو ازره كه تير برثابى ... هوا كرفت زمانى ولى بخاك نشست يحكى ان عيسى عليه السلام سافر ومعه يهودى فكان مع عيسى ثلاثة اقراص فأعطاها اليهودى فقدم قرصين فقال اين ثالثها فقال اليهودى لم تكن اكثر من هذا فمشيا حتى شاهد من عيسى عجائب فأقسم عليه عيسى لذلك حتى يقر بالقرص الثالث فلم يقر فلحقا بثلاث لبنات من الذهب فقال اليهودى اقسم ذلك فقال عيسى واحدة لى وواحدة لك وواحدة لمن اكل القرص الثالث فقال اليهودى انا اكلت القرص الثالث فقال عيسى ابعد عنى فقد شاهدت قدرة اللّه ولم تقر به والآن قد اقررت بالدنيا فترك اللبنات عند اليهودى ومشى وجاء ثلاثة من اللصوص وقتلوا اليهودى واخذوا للبنات ثم بعثوا من جملتهم واحدا ليأتى لهم بطعام فلما غاب عنهما تشاوروا فى قتله وقالا اذا رجع قتلناه واخذنا نصيبه فذهب واشترى سما فطرحه فى الطعام الذى اشتراه حتى يأكل ذلك الطعام صاحباه فيموتا ويأخذ اللبنات فلما قدم عليهما قاما وقتلاه ثم اكلا الطعام فماتا فعبر عليهم عيسى فوجد اليهودى وهؤلاء الثلاثة مقتولين فتعجب من ذلك فنزل جبريل واخبر بالقصة فينبغى للعاقل ان لا يغتر بكثرة الدنيا وان لا يهتم فى جمعها بل يزرع فيها بذر العمل كى يحصد فى الآخرة لان الدنيا مزرعة الآخرة ولا ينبغى للاغنياء ان يحقروا الفقراء بالغرور بكثرة دنياهم ولا يسخروا منهم لان هذه الصفة من صفات الكفرة : قال السعدى جو منعم كند سفله را روركار ... نهد بردل تنك درويش بار جوبام بلندش بودخود برست ... كندبول وحاشاك بربام بست والاشارة فى الآية ان اللّه اذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريه آياته فى الملك والملكوت فان تغير باحواله او تعجب بكماله فيقبل على شىء من مرادات النفس ويبدل نعمته بموافقة النفس ورضاها { فان اللّه شديد العقاب } بان يغير عليه احواله ويسلب عنه كماله ويشهده قوله تعالى { ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } ومن شدة عقابه انه اذا اذنب عبد ذنبا صغيرا ولم يتب منه وأصر عليه ان يعاقبه بالابتداء بكبيرة مثل تبدل النعمة ليعاقبه بزوال النعمة فى الدنيا ودوام النقمة فى العقبى. وايضا من شدة عقابه ان { زين للذين كفروا الحيوة الدنيا } ويمكر بهم حتى يغلب عليهم حب الدنيا { ويسخرون من الذين آمنوا } من فقرائهم وكبرائهم حملهم شدة العقوبة على الوقيعة فى اوليائه واستحقار احبابه وسيعلم الذين ظلموا اى منقلب ينقلبون { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة واللّه يرزق من يشاء } من درجات أعلى عليين ودركات أسفل سافلين { بغير حساب } بغير نهاية الى أبد الآباد فان ما لا نهاية له لا مدخل له تحت الحساب وفيه معنى آخر بغير حساب يعنى ما يرزق العبد فى الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب وما يرزق العبد فى الآخرة من النعيم المقيم فبغير حساب كذا فى التأويلات النجمية ٢١٣ { كان الناس امة واحدة } اى جماعة واحدة متفقين فى الايمان واتباع الحق من وقت آدم الى مبعث نوح عليهما السلام وكان بينهما عشرة قرون كل قرن ثمانون سنة كما عند الاكثر { فبعث اللّه النبيين } اى فاخلتفوا فبعث الخ بدلالة قوله تعالى { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } { مبشرين } بالثواب لمن آمن وأطاع { ومنذرين } محذرين بالعقاب لمن كفر وعصى { وأنزل معهم الكتاب } اى كتاب او مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص لا مع كل واحد منهم على الاطلاق اذ لم يكن لبعضهم كتاب وانما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافى خصوص الضمير العائد اليه بمعونة المقام { بالحق } اى حال كون ذلك الكتاب ملتبسا بالحق والعدل والصدق وشاهدا به { ليحكم } اى اللّه تعالى { بين الناس فيما اختلفوا فيه } اى فى الحق الذى اختلفوا فيه بعد الاتفاق { وما اختلف فيه } اى فى الحق { الا الذين أوتوه } اى الكتاب المنزل لازالة الاختلاف والتعبير عن الانزال بالايتاء للتنبيه من اول الامر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فى تضاعيفه من الحق فان الانزال لا يفيد تلك الفائدة اى عكسوا الامر حيث جعلوا ما انزل لازالة الاختلاف سببا لاستحكامه ورسوخه { من بعد ما جاءتهم البينات } اى رسخت فى عقولهم ومن متعلق بما اختلف ولم تمنع الا من ذلك كقولك ما قام الا زيد يوم الجمعة { بغيا بينهم } مفعول له لقوله وما اختلف فالاستثناء متعلق بثلاثة اشياء والتقدير وما اختلف فيه الا الذين الخ وما اختلفوا فيه الا من بعد الخ وما كان الاختلاف الا للبغى والتهالك على الدنيا وللحسد والظلم كما فعل قابيل بهابيل وما قتله لاشكال الحق عليه بل حسدا منه على اخيه وهكذا فى كل عصر وهذا فعل الرؤساء ثم العامة اتباعا لهم وفعلهم مضاف اليهم فتبين ان الاختلاف فى الحق امر متقادم فى الاسلام { فهدى اللّه الذين آمنوا } بالكتاب { لما اختلفوا فيه } متعلق بهدى وما موصولة ومعناه هدى الى ما اختلفوا فيه { من الحق } بيان لما { بأذنه } اى بأمره وتيسيره ولطفه وارادته ورحمته حتى ابصروا الحق بنور التوفيق من الباطل { واللّه يهدى من يشاء الى صراط مستقيم } لا يضل سالكه ٢١٤ { أم حسبتم ان تدخلوا الجنة } خاطب به النبى عليه السلام والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الامم على الانبياء بعد مجئ الآيات تشجيعا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة فان عاقبة الامر النصر. وأم منقطعة الاخبار المتقدم الى الانكار المدلول عليه بهمزة الاستفهام اى ما كان ينبغى ان تحسبوا ذلك فتقدر ببل والهمزة قيل اضراب عن وتظنوا او لم حسبتموه { ولما يأتكم } اى والحال لم يجئكم { مثل الذين خلوا } اى صفة الذين مضوا { من قبلكم } من الانبياء ومن معهم من المؤمنين ولم تبتلوا بعد بما ابتلوا به من الاحوال الهائلة التى هى مثل فى الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر { مستهم البأساء } بيان له على الاستئناف كأنه قيل كيف ن ن مثلهم وحالهم العجيبة فقيل مستهم البأساء اى الشدة من الخوف والفاقة { والضراء } اى الآلام والامراض { وزلزلوا } اى ازعجوا ازعاجا شديدا بما اصابهم من الشدائد { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } اى انتهى امرهم من الشدة الى حيث اضطبرهم الضجر الى ان يقول الرسول وهو اعلم الناس بشؤون اللّه واوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بانواره { متى } اى يأتى { نصر اللّه } الذى وعدناه طلبا وتمنيا له واستطالة لمدة الشدة والعناء فان الشدة وان قصر فهو طويل فى عين المبتلى بها فلا محالة يستطبئ النصر فاجابهم اللّه بقوله { ألا ان نصر اللّه قريب } اسعافا لهم الى طلبتهم من عاجل النصر اى أنا ناصر أوليائى لا محالة نصرى قريب منهم فان كل آت قريب ولما كان الجواب بذكر القرب دل ذلك على ان السؤال كان واقعا عن زمان النصر أقريب هو أم بعيد ولو كان السؤال عن وقوع أصل النصر بمعنى انه هل يوجد أو لا لما كان الجواب مطابقا للسؤال وفى الآية اشارة الى ان الوصول الى اللّه والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه السلام ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) كذا فى تفسير القاضى : ونعم ما قيل فلك مشام كسى خوش كند ببوى مراد ... كه خاك معركه باشد عبير وعنبراو وعن خباب بن الارت رضى اللّه تعالى عنه قال لما شكونا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما نلقى من المشركين قال ( ان من كان قبلكم من الامم كانوا يعذبون بانواع البلاء فلا يصرفهم ذلك عن دينهم حتى ان الرجل كان يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد بما دون العظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وايم اللّه ليتمن اللّه هذا الامر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الا اللّه والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون ) قالوا كل نبى بعث الى امته اجهد حتى قال متى نصر اللّه ووقع ذلك للرسول عليه السلام حين وقع له ضجر شديد قبل فتح مكة فقال فى يوم الاحزاب حيث لم يبق لاصحابه صبر حتى ضجوا وطلبوا النصرة فارسل اللّه ريحا وجنودا وهزم الكفار بهما. ومن شدائده عليه السلام غزوة الخندق حين اصاب المسلمين ما اصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وانواع الاذى كما قال تعالى { وبلغت القلوب الحناجر } ولو اطلعت على ما اصابهم من عداوة اليهود واسرار النفاق واذى القوم يمينا وشمالا ببذل المجهود حين هاجروا الى المدينة لكفى ذلك عبرة فى هذا الباب فنحن اولى بمقاساة امثال هذه الشدائد خصوصا فى هذا الزمان الذى لا تجد بدا من طعن الناس واذاهم اذا البلاء على الانبياء ثم على الاولياء ثم الامثل فالامثل غبار لازمه آسيا بود صائب ... امان ز حادثه آسمان جه ميخواهى قال فى التأويلات النجمية عند قوله تعالى { كان الناس امة واحدة } الآية الخصال الذميمة التى عليها اكثر الناس كلها عارضة لهم فانهم كانوا حين أشهدهم اللّه على انفسهم امة واحدة وولدوا على الفطرة لقوله عليه السلام ( كل مولود يولد على فطرة الاسلام فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه ) وما قال عليه السلام او يسلمانه لمعنيين. احدهما ان الكفر يحصل بالتقليد ولكن الايمان الحقيقى لا يحصل به. والثانى ان الابوين الاصلين هما الانجم والعناصر فعلى التقديرين الولد بتربية الآباء والامهات يضل عن سبيل الحق ويزل قدمه عن الصراط المستقيم التوحيد والمعرفة ولو كان نبيا يحتاج الى هاد يهدى الى الحق كما قال تعالى لنبينا صلى اللّه عليه وسلم { ووجدك ضالا فهدى } ولكل من السعادة والشقاوة كتاب كما قال عليه السلام ( ما من نفس الا وقد كتب فى كتابها من اهل الجنة او النار وكتب شقية او سعيدة ) فقالوا أفلا نتكل على كتابنا يا رسول اللّه وندع العمل قال ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما اهل الشقاوة فييسرون لعمل اهل الشقاوة واما اهل السعادة فييسرون لعمل اهل السعادة ) فلا بد من مقاساة بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار حتى يحصل دخول جنة الجمال ودار القرار فلم يضجروا من طول مدة الحجاب وكثرة الجهاد فى الفراق وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وذوق الوصال وطلبوا نصر اللّه بالتجلى على قمع صفات النفوس مع قوم مصابرتهم وحسن تحملهم لما يقول المحببو ويريد بهم حتى جاء نصر اللّه فرفع الحجاب وظهر انوار الجمال ٢١٥ { يسألونك ماذا ينفقون } اى اى شىء يتصدقون به من اصناف اموالهم نزلت حين حث النبى عليه السلام على التصدق فى سبيل اللّه وسأل عمرو بن الجموح وهو شيخ همّ اى فان وله مال عظيم فقال ماذا ننفق يا رسول اللّه من اموالنا واين نضعها { قل ما انفقتم من خير } اى اى شىء انفقتم من اى خير كان وهو بيان للمنفق والمال يسمى خيرا لان حقه ان يصرف الى جهة الخير فصار بذلك كأنه نفس الخير { فللوالدين } قان قلت كيف طابق الجواب السؤال وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف قلت قد تضمن قوله { ما انفقتم من خير } بيان ما ينفقونه وهو كل خير وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لان النفقة لا يعتد بها الا ان تقعع موقعها { والاقربين واليتامى } اى المحتاجين { والمساكين وابن السبيل } ولم يتعرض للسائلين والرقاب اما اكتفاء بما ذكر فى المواقع الاخر واما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى { وما } اى اى شىء { تفعلوا من خير } فانه شامل لكل خير واقع فى اى مصرف كان { فان اللّه به عليم } اى ان تفعلوا خيرا فان اللّه يعلم كنهه ويوفى ثوابه. والمراد بهذه الآية الحث على بر الوالدين وصلة الارحام وقضاء حاجة ذى الحاجة على سبيل التطوع ولا ينافيه ايجاب الزكاة وحصر مصارفها فى الاصناف الثمانية كما ذكر فى قوله تعالى { انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل اللّه وابن السبيل } ٢١٦ { كتب } اى فرض { عليكم القتال } اى قتال الكفرة والجمهور على ان الجهاد فرض على الكفاية مثل صلاة الجنازة ورد السلام { وهو } اى والحال ان القتال { كره لكم } شاق عليكم مكروه فالكره مصدر بمعنى الكراهة نعت به للمبالغة كأن القتال فى نفسه كراهة لفرط كراهتهم له وهذه الكراهة من حيث نفور الطبع منه لما فيه من مؤونة المال ومشقة النفس وخطر الروح لا انهم كرهوا امر اللّه تعالى وكراهة الطبع لا توجب الذم بل تحقق معنى العبودية اذا فعل ذلك اتباعا للشرع مع نفرة الطبع فاما كراهة الاعتقاد فهى من صفات المنافقين { وعسى ان تكرهوا شيأ } وهو جميع ما كلفوه من الامور الشاقة التى من جملتها القتال { وهو خير لكم } لان فى الغزو احدى الحسنيين اما الظفر والغنيمة واما الشهادة والجنة. وعسى كلمة تجرى مجرى لعل وهى من العباد للترجى ومن اللّه للترجية { وعسى ان تحبوا شيأ } وهو جميع ما نهوا عنه من الامور المستلذة التى من جملتها القعود عن الغزو { وهو شر لكم } لما فيه من فوات الغنيمة والاجر وغلبة الاعداء وتخريب الديار { واللّه يعلم } ما هو خير لكم دينا ودنيا فلذا يأمركم به { وانتم لا تعلمون } ذلك ولذلك تكرهونه : قال فى المثنوى ما التصوف قال وجدان الفرح ... فى الفؤاد عند اتيان الترح جمله در زنجير بيم و ابتلا ... ميروند اين ره بغير اوليا يعنى ان المقلد يجرى الى الحضرة بالاضطرار بخلاف الولى قال ذو النون المصرى رحمه اللّه انما دخل الفساد على الخلق من ستة اشياء. الاول ضعف النية بعمل الآخرة. والثانى صارت ابدانهم رهينة لشهواتهم. والثالث غلب عليهم حلول الامل مع قرب الاجل. والرابع آثروا رضى المخلوقين على رضى الخالق. والخامس اتبعوا اهواءهم ونبذوا سنة نبيهم وراء ظهورهم. والسادس جعلوا قليل زلات السلف حجة انفسهم ودفنوا كثير مناقبهم فعلى العاقل ان يجاهد مع النفس والطبيعة ليرتفع الهوى والشهوات والبدعة ويتمكن فى القلوب حب العمل بالكتاب والسنة قال ابراهيم الخواص رحمه اللّه كنت فى جبل لكام فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فقلت السلام عليك فقال وعليك السلام يا ابراهيم فقلت كيف عرفتنى فقال من عرف اللّه لا يخفى عليه شىء فقلت له ارى لك حالا مع اللّه فلو سألته ان يحميك ويقيك الاذى من هذه الزنابير فقال وارى لك حالا مع اللّه فلو سألته ان يقيك شهوة الرمان فلدغ الرمان يجد الانسان ألمه فى الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه فى الدنيا فتركته ومشيت : قال السعدى قدس سره مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتش قبله ديكرست كند مردرا نفس اماره خوار ... اكرهوا شمندى عزيزش مدار وفى التأويلات القاشانية { كتب عليكم القتال } قتال النفس والشيطان { وهو كره } مكروه { لكم } مر أمر من طعم العلقم واشد من ضغم الضيغم. وحقيقة الجهاد رفع الوجود المجازى فانه الحجاب بين العبد والرب كما قيل وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر وكما قال ابن منصور بينى وبينك انى قد يزاحمنى ... فارفع بجودك لى انى من البين { وعسى ان تكرهوا شيأ وهو خير لكم } لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذة العاجلة عما فى ضمنه من الخير الكثير واللذة العظيمة الروحانية التى تستحقر تلك الشدة السريعة الانقضاء بالقياس الى ذلك الخير الباقى واللذات السرمدية { وعسى ان تحبوا شيأ } من اللذات الجسمانية وتمتعات النفس { وهو شر لكم } للنفس بحرمانها من اللذات الروحانية { واللّه يعلم } ان فى كراهة النفوس ما اودع من راحة القلوب { وانتم لا تعلمون } ان حياة القلوب فى موت النفوس وفى حياة النفوس موت القلوب كما قال قدس سره اقتلونى اقتلونى يا ثقات ان فى قتلى حياتا فى حيات خنجر وشمشير شدريحان من ... مرك من شدبزم ونركسدان من ٢١٧ { يسألونك عن الشهر الحرام } روى ان النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعث عبد اللّه بن جحش وهو ابن عمته صلى اللّه عليه وسلم اخت ابيه فى جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين سعد بن ابى وقاص الزهرى وعكاشة بن محصن الاسدى وعتبة بن غزوان السلمى وابا حذيفة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد اللّه وخالد بن بكير وكتب لاميرهم عبد اللّه بن جحش كتابا وقال ( سر على اسم اللّه ولا تنظر فى الكتاب حتى تسير يومين فاذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على اصحابك ثم امض لما امرتك ولا تكرهن احدا من اصحابك على السير معك ) فسار عبد اللّه يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه ( بسم اللّه الرحمن الرحيم اما بعد فسر على بركة اللّه بمن تبعك من اصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك ان تأتينا منها بخير ) فلما نظر فى الكتاب قال سمعا وطاعة ثم قال لاصحابه ذلك وقال انه نهانى ان اكره احدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه اصحابه لم يتخلف عنه منهم احد حتى كاد يقعد فوق القزع بموضع من الحجاز يقال له بحران فاضل سعد بن ابى وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا فى طلبه ومضى بقية اصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك مرت عير قريش تحمل زبيبا وادما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمى والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة واخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميان فلما رأوا اصحاب رسول اللّه هابوهم فقال عبد اللّه ابن جحش ان القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم اشرف عليهم فقال قوم غمار لا بأس عليكم فأمنوا وكان ذلك فى آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرونه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا ان تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم فاجمعوا امرهم فى مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد اللّه السهمى عمرو ابن الحضرمى بسهم فقتله وكان اول قتيل من المشركين وهو اول قتيل فى الهجرة واستأسروا الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد اللّه وكان اول اسيرين فى الاسلام وافلت نوفل على فرس له فاعجزهم واستاق المؤمنون العير والاسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم اى يتفرقون فى البلاد فسفك فيه الدماء واخذ الجرائب وعير بذلك اهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه وبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقال عليه السلام لابن حجش واصحابه ( ما امرتكم بالقتال فى الشهر الحرام ) ووقف العير والاسيرين اى جعلها وموقوفة وما قسمها بين الغانمين وابى ان يأخذ شيأ من ذلك ينتظر الاذن من اللّه فعظم ذلك على اصحاب السرية وظنوا ان قد هلكوا وسقط فى ايديهم وقالوا يا رسول اللّه انا قتلنا ابن الحضرمى ثم امسينا فنظرنا الى هللا رجب فلا ندرى أفى رجب اصبناه ام فى جمادى فاكثر الناس فى ذلك فانزل اللّه هذه الآية فاخذ رسول اللّه العير فعزل منها الخمس وكان اول خمس فى الاسلام وقسم الباقى بين اصحاب السرية وكانت اول غنيمة فى الاسلام وبعث اهل مكة فى فداء اسيريهم فقال بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة وان لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فاداهما فاما الحكم بن كيسان فاسلم واقام مع رسول اللّه بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا واما عثمان بن عبد اللّه فرجع الى مكة فمات بها كافرا واما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الاحزاب ليدخل الخندق فوقع فى الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله اللّه فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم خذوه فانه خبيث خبيث الجيفة والدية. والمعنى يسألك المسلمون استعلاما او الكفار تعنتا عن الشهر الحرام اى رجب سمى به لتحريم القتال فيه { قتال فيه } بدل اشتمال من الشهر لان الشهر مشتمل على القتال { قل } يا محمد فى جوابهم { قتال فيه كبير } اثم عظيم عند اللّه وقتال مبتدأ خبره كبير وجاز الابتداء بالنكرة لانها وصفت بفيه. والاكثر ان هذه الآية مفسوخة بقوله تعالى { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } { وصد عن سبيل اللّه } مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعد اى ومنع عن الاسلام الموصل للعبد الى اللّه تعالى { وكفر به } اى باللّه تعالى { والمسجد الحرام } عطف على سبيل اللّه وحيث كان الصد عن سبيل اللّه فردا من افراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور فى حسن هذا العطف لانه ليس باجنبى محض اى منع المسلمين عن دخول مكة وزيارة بيت اللّه { واخراج اهله } اى اهل المسجد وهو النبى عليه السلام والمؤمنون { منه } اى من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به وجعل المسلمين اهل المسجد وان كانوا خارجين عن مكة لانهم قائمون بما يجب عليهم من حقه لانهم يصيرون اهلا له فى العاقبة فسماهم باسم العاقبة ولم يسم الكفار اهل المسجد وان كانوا بمكة لان مقامهم بمكة عارض { اكبر عند اللّه } خبر للاشياء المعدودة اى هذه الاشياء الاربعة اكر اثما وعقوبة من قتل المسلين ابن الحضرمى فى الشهر الحرام لان القتال يحل بحال والكفر لا يحل بحال ولانهم كانوا متأولين فى القتال لانهم شكوا فى اليوم ولا تأويل للكفار فى الكفر { والفتنة } اى ما ارتكبوه من الاخراج والشرك وصد الناس عن الاسلام ابتداء وبقاء { اكبر من القتل } اى افظع من قتل الحضرمى فى الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد اللّه بن انيس الى مؤمنى مكة اذا عيركم المشركون بالقتال فى الشهر الحرام فعيروهم انتم بالكفر واخراج رسول اللّه من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت { ولا يزالون يقاتلونكم } بيان لاستحكام عداوتهم واصرارهم على الفتنة فى الدين اى لا يزال الكفار عن قتالكم ايها المؤمنون { حتى يردوكم عن دينكم } اى كى يصرفوكم عن دينكم الحق الى دينهم الباطل { ان استطاعوا } اشارة الى تصلبهم فى الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك وهو كقول الرجل لعدوه ان ظفرت بى فلا تبق على ولا ترحمنى وهو واثق بانه لا يظفر به وهو تطييب لقلوب المؤمنين { ومن يرتدد منكم عن دينه } اظهار التضعيف لسكون الدال الثانية وبالفتح والادعام على التحريك لالتقاء الساكنين باخف الحركات والارتداد النكوص وهو تحذير من الارتداد اى من يفعل ذلك باضلالهم واغوائهم { فيمت وهو كافر } بان لم يرجع الى الاسلام. وفيه ترغيب فى الرجوع الى الاسلام بعد الارتداد الى حين الموت { فاولئك } المصرون على الارتداد الى حين الموت { حبطت } بطلت وتلاشت { اعمالهم } التى كانوا عملوها فى حالة الاسلام حبوطا لا تلافى له قطعا { فى الدنيا } وهو قطع حياته وقتله عند الظفر به لارتداده وفوات موالاة المسلمين ونصرهم والثناء الحسن وزوال النكاح وحرمانه من مواريث المسلمين ونحو ذلك مما يجرى على نفس المرتد واهله وماله { والآخرة } وهو الثواب وحسن المآب لان عبادتهم لم تصح فى الدنيا فلم يجازوا عليها فى الآخرة وليس المراد من احباط العمل ابطال نفس العمل لان الاعمال اعراض كما توجد تفنى وتزول واعدام المعدوم محال بل المراد به ما ذكر من ان الردة الحادثة تزيل ثواب الايمان السابق وثواب ما سبق من ثمراته. وظاهر الآية يقتضى ان تكون الوفاة على الردة شرطا لثبوت الاحكام المذكورة وهى حبوط الاعمال فى الدنيا والآخرة وكون صاحبها من اصحاب النار خالدا فيها وان لا يثبت شىء من هذه الاحكام ان اسلم المرتد بعد ردته ولهذا احتج الشافعى بهذه الآية على ان الردة لا تحبط الاعمال حتى يموت صاحبها عليها وعند ابى حنيفة رحمه اللّه ان الردة تحبط الاعمال مطلقا اى وان رجع مسلما تمسكا بعموم قوله تعالى { ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } وقوله { ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله } ويتفرع عليه مسألتان. الاولى ان جماعة من المتكلمين قالوا شرط صحة الايمان والكفر حصول الوفاة عليهما فلا يكون الايمان ايمانا الا اذا مات المؤمن عليه وايضا لا يكون الكفر كفرا الا اذا مات الكافر عليه والمسألة الثانية ان المسلم اذا صلى ثم ارتد والعياذ باللّه ثم اسلم فى الوقت قال الشافعى لا اعادة عليه. وقال ابو حنيفة يلزمه قضاء ما ادى وكذا الكلام فى الحج { واولئك اصحاب النار } ملازموها { هم فيها خالدون } كدأب سائر الكفرة فلا بد للمؤمن من العمل الصالح ومن الصون عما يبطله وسبب الارتداد عدم اليقين والا فكيف يحوم حول الموحد الحقيقى شيطان وشرك وهو قد تخلص من البرازخ والقيود ووصل الى الرب المعبود والعمل الصالح هو ما اريد به وجه اللّه فان غيره فاسد لا ينفع لصاحبه اصلا : قال الحافظ فرداكه بيشكاه حقيقت شود بديد ... شرمنده رهروى كه عمل برمجاز كرد واحسن الحسنات التوحيد لانه اس الكل ولذلك لا يوزن قال عليه السلام ( ان كل حسنة تعملها توزن يوم القيامة الا شهادة ان لا اله الا اللّه فانها لا توضع فى ميزان لانها لو وضعت فى ميزان من قالها صادقا ووضعت السموات والارضون السبع ما فيهن كان لا اله الا اللّه ارجح من ذلك ) وجميع الاعمال الصالحة يزيد فى نور الايمان. فعليك بالطاعة والحسنات والوصول الى المعارف الآلهية فان العلم باللّه افضل الاعمال ولذلك لما قيل يا رسول اللّه اى الاعمال افضل قال ( العلم باللّه ) فقيل نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال ( ان قليل العمل ينفع مع العلم وان كثير العمل لا ينفع مع الجهل ) وذلك انما يحصل بتصفية الباطن مع صيقل التوحيد وانواع الاذكار ولا يعقلها الا العالمون : قال فى المثنوى ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز قال الشيخ الحسن محمد بن السراج سعمت الجنيد قدس سره يقول رأيت ابليس فى المنام كأنه عريان فقلت ألا تستحيى من الناس فقال لو كان هؤلاء من الناس لما اتلاعب بهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة فقلت ومن الناس فقال قوم فى المسجد الشونيزى قد انحلوا جسمى واحرقوا قلبى كلما هممت بهم اشاروا الى اللّه تعالى فاكاد احرق بنور ذكرهم قال فانتبهت وجئت الى المسجد الشونيزى بليل فلما دخلت المسجد اذا انا بثلاث انفس جلوس ورؤسهم مغطاة بمرقعاتهم فلما أحسوا بى اخرج واحد رأسه فقال يا ابا القاسم انت كلما قيل بشىء صرت تقبله وتسمعه انظر الى اجتهادهم فى طاعة اللّه وصفاء اسرارهم عما سواه تعالى فهم من اهل الاسلام الحقيقى يقول الفقير ناظم هذه الدرر قال لى شيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة فى قوله عليه السلام ( بدا الاسلام غريبا وسيعود غريبا ) المراد بالاسلام هو الاسلام الحقيقى وصاحبه لا يرتد ابدا وكونه غريبا ان لا يوجد له انيس : قال فى المثنوى بود كبرى درزمان بايزيد ... كفت اورا يك مسلمان سعيد كه جه باشد كرتو اسلام آورى ... تا بيابى صد نجات سرورى كفت اين اسلام اكرهست اى مريد ... آنكه دارد شيخ عالم بايزيد مؤمن ايمان اويم درنهان ... كرجه مهرم هست محكم بر دهان باز ايمان كرخود ايمان شماست ... نى بدان ميلستم و نى مشتهاست آنكه صدميلش سوى ايمان بود ... جون شمارا ديد زآن فاترشود زانكه نامى بيندو معنبش نى ... جون بيابانرا مفازه كفتنى ٢١٨ { ان الذين آمنوا } نزلت فى السرية فان اللّه تعالى لما فرج عنهم بالآية السابقة ما كانوا فيه من الغم الشديد بقتالهم فى الشهر الحرام طمعوا فيما عند اللّه من ثوابه فقالوا يا رسول اللّه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نعطى اجرا او ثوابا ونطمع ان يكون سفرنا هذا سفر غزو وطاعة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية لانهم كانوا مؤمنين مهاجرين وكانوا بسبب هذه المقاتلة مجاهدين والمعنى ثبتوا على ايمانهم فلم يرتدوا { والذين هاجروا } اى فارقوا منازلهم واهلهم { وجاهدوا } المجاهدة استفارغ ما فى اوسع اى حاربوا المشركين { فى سبيل اللّه } فى طاعته لاعلاء دينه { اولئك يرجون } بمالهم من مبادى الفوز { رحمة اللّه } اى ثوابه ولا يحبط اعمالهم كاعمال المرتدين اثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للايران بانهم عالمون بان العمل غير موجب للاجر وانما هو بطريق التفضل منه تعالى لا لان فى فوزهم اشتباها { واللّه غفور } مبالغ فى مغفرة ما فرط من عباده خطأ { رحيم } يجزل لهم الاجر والثواب قال قتادة هؤلاء خيار هذه الامة ثم جعلهم اللّه اهل رجاء كما تسمعون وانه من رجا طلب ومن خاف هرب روى انه مر ابو عمر البيكندى يوما بسكة فرأى اقواما ارادوا اخراج شاب من المحلة لفساده وامرأة تبكى قيل انها امه فرحمها ابو عمر فشفع له اليه وقال هبوه منى فى هذه المرة فان عاد الى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى ابو عمر فلما كان بعد ايام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من ورآء ذلك الباب فقال فى نفسه لعل الشاب عاد الى فساده فنفى من المحلة فدق عليها الباب وسألها عن حال الشاب فقالت انه مات فسأله عن حاله فقالت لما قرب اجله قال لا تخبرى الجيران بموتى فلقد آذيتهم فانهم سيشتموننى ولا يحضرون جنازتى فاذا دفنتنى فهذا خاتم لى مكتوب عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم فادفنيه معى فاذا فرغت من دفنى فتشفعى لى الى ربى ففعلت وصيته فلما انصرفت عن رأس القبر سمعت صوته يقول انصرفى يا اماه فقد قدمت على رب كريم ونعم ما قيل ببهانه ميدهد ببها نميدهد قيل ان الحجاج لما احضرته الوفاة كان يقول اللّهم اغفر لى فان الناس يزعمون انك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهى مدينته التى انشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى اشرفت جارية من القصر وهى تبكى وتقول ألا ان مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من اهل الشام على قبره فقال اللّهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من اهل العراق بالطلاق ان الحجاج فى النار فاستفى طاووس فقال يغفر اللّه لمن يشاء وما اظنها الا طلقت فيقال انه استفتى الحسن البصرى فقال اذهب الى زوجتك وكن معها فان لم يكن الحجاج فى النار فما يضركما انكما فى الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على ان اللّه تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وان جاء بمثل زبد البحر ذنبا فاللازم للعباد الرجاء من اللّه تعالى قال الراغب وهذه المنازل الثلاثة التى هى الايمان والمهاجرة والجهاد هى المعنية بقوله { اتقوا اللّه وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله } ولا سبيل الى المهاجرة الا بعد الايمان ولا الى جهاد الهوى الا بعد هجران الشهوات ومن وصل الى ذلك فحق له ان يرجو رحمته واعلم ان الهجرة على قسمين. صورية وقد انقطع حكمها بفتح مكة كما قال عليه السلام ( لا هجرة بعد الفتح ) ومعنوية وهى السير عن موطن النفس الى اللّه لفتح كعبة القلب وتخليصها من اصنام الشرك والهوى فيجرى حكمها الى يوم القيامة. وكذا الجهاد فى سبيل اللّه على قسمين. اصغر وهو الجهاد مع الكفار. واكبر وهو الجهاد مع النفس وانما كان هذا الجهاد اكبر لان غاية الاول اصلاح الظاهر وغاية الثانى اصلاح الباطن وهو اصعب واقوى. وايضا غاية الاول الوصول الى الجنة والرحمة. وغاية الثانى الوصول الى مشاهدة الحق والجمال المطق. وايضا غاية الاول الشهادة. وغاية الثانى الصديقية والصديقون اعلى منزلة من الشهداء كما قال تعالى { فاولئك مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء } فقدم ذكر الصديقين على ذكر الشهداء فاذا وصل المرء الى صلاح النفس بالجهاد الاكبر الذى هو اعز من الكبريت الاحمر يرحم العباد ولا يقصد لهم الضرر حكى ان بعضهم جاء الى بعض المشايخ وخدمه وقال له اريد ان تعلمنى الاسم الاعظم فقال له وفيك اهلية له قال نعم قال اذهب الى باب البلد ثم اخبرنى بما جرى فيه فذهب وجلس على باب البلد فاذ بشيخ حطاب معه حطب على حمار فضربه جندى واخذ حطبه ظلما فلما رجع الرجل الى الشيخ واخبره بالقصة قال له الشيخ لو كنت تعلم الاسم الاعظم ما تصنع بالجندى قال كنت ادعو عليه بالهلاك فقال له الشيخ اعلم ان الحطاب هو الذى علمنى الاسم الاعظم واعلم ان الاسم الاعظم لا يصلح الا لمن يكون على هذه الصفة من الصبر والرحمة على الخلق والشفقة عليهم : قال السعدى قدس سره مكن تاتوانى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش ثم ان قلة الكلام من انفع الاشياء فى اصلاح النفس كما ان اللقمة الطيبة انفع فى اصلاح الطبيعة وصفاء القلب : قال فى المثنوى طفل جان ازشير شيطان بازكن ... بعد ازانش باملك انباز كن تاتو تاربك وملول وتيره ... دانكه با ديو لعين همشيره لقمة كونور افزود وكمال ... آن بود آورده از كسب حلال روغنى كايد جراغ ما كشد ... آب خوانش جون جراغى راكشد ٢١٩ { يسألونك } قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما سألوه الا عن ثلاث عشرة مسألة كلها فى القرآن ما كانوا يسألونه الا عما ينفعهم وينفع المسلمين { عن الخمر } اى عن حكم تعاطيها بقرينة الجواب لان الحل والحرمة والاثم والطاعة انما هى من عوارض افعال المكلفين ولا اثم فى ذوات الاشياء واعيانها ويدخل فى تعاطى الخمر البيع والشراء وغيرهما مما يدخل تحت التصرف على خلاف الشرع. والخمر مصدر خمره اى ستره كما سميت سكرا لانها تسكرهما اى تحجزهما { و } عن تعاطى { الميسر } مصدر ميمى من يسر كالموعد والمرجع يقال يسرته اذا قمرته واشتقاقه اما من اليسر لانه اخذ المال بيسر من غير كد وتعب واما من اليسار لانه سلب له ويدخل فيه جميع انواع القمار والشطرنج وغيرهما حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب { قل فيهما } اى فى تعاطى الخمر والميسر واستعمالهما { اثم كبير } لما ان الاول مسلبة للعقول التى هى قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للاموال { ومنافع للناس } من كسب الطرب والمغالاة بثمن الخمر اذا جلبوها من الاطراف وفيها تقوية الضعيف وهضم الطعام والاعانة على الباءة اى الجماع وتسلية المحزون وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وتصفية اللون وانطاق الفتى العى وتهييج الهمة. ومنافع الميسر اصابة المال من غير كد ولا تعب وانتفاع الفقراء بلحم الجزور فانهم كانوا يفرقونها على المحتاجين قال الواقدى وربما قمر الواحد منهم فى مجلس مائة بعير فيصيب مالا عظيما بلا نصب ولا ثمن ثم يعطيه المحتاجين فيكتسب المدح والثناء { واثمهما اكبر من نفعهما } وفى الخمر ايقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة وهى تسفه الحليم ويصير شاربها بحيث يلعب ببوله وعذرته وقيئه كما ذكر ابن ابى الدنيا انه مر على سكران وهو يبول فى يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ويقول الحمد اللّه الذى جعل الاسلام نورا والماء طهورا. وفى الميسر انه اذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه وقصده بالسوء قال المفسرون تواردت فى الخمر اربع آيات نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فطفق المسلمون يشربونها وهى لهم حلال يومئذ ثم ان عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة رضى اللّه تعالى عنهم قالوا افتنا يا رسول اللّه فى الخمر فانها مذهبة للعقل فنزلت { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية فشربها قوم وقالوا نأخذ منفعتها ونترك اثمها وتركها آخرون وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه اثم كبير ثم ان عبد الرحمن بن عوف رضى اللّه عنه دعا ناسا منهم فشربوا وسكروا فام احدهم فقرأ قل يا ايها الكافرون اعبد ما تعبدون الى آخر السورة بدون لا فى لا اعبد فنزلت { لا تقربوا الصلوة وانتم سكارى } الآية فقل من يشربها وقالوا لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم فى غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ويشرب بعد الصبح فيصحوا اذا جاء وقت الظهر ثم اتخذ عتبان بن مالك ضيافة ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن ابى وقاص رضى اللّه عنه وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم انهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الاشعار فانشد سعد قصيدة فيها هجاء الانصار وفخر لقومه فاخذ رجل لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد الى رسول اللّه وشكا اليه الانصارى فقال عمر اللّهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزل { انما الخمر والميسر } فى المائدة الى قوله { فهل انتم منتهون } فقال عمر انتهينا يا رب. وحرمت الخمر فى السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الاحزاب بايام قال القفال والحكمة فى وقوع التحريم على هذا الترتيب انه تعالى علم ان القوم كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم به كثيرا وعلم انه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم فلا جرم استعمل فى التحرم هذا التدريج وهذا الرفق ثم لما نزل التحريم اريقت الخمر قال ابن عمر رضى اللّه عنهما خرجنا بالحباب الى الطريق فمنا من كسر حبه ومنا من غسله بالماء والطين ولقد غودرت ازقة المدينة بعد ذلك حينا كلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحا وحرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش اعجب منها وما حرم اللّه عليهم شيأ اشد من الخمر روى ان جبريل عليه السلام قال للنبى عليه السلام ان اللّه تعالى شكر لجعفر الطيار رضى اللّه عنه اربع خصال كان عليها فى الجاهلية وهو عليها فى الاسلام فسأل النبى عليه الصلاة والسلام جعفرا عن ذلك فقال يا رسول اللّه لولا ان اللّه اطلعك عليها لما اخبرتك بها ما شربت الخمر قط لانى رأيتها تزيل العقل وانا الى ان ازيد فيه احوج منى الى ان ازيله. وما عبدت صنما قط لانى رأيته لا يضر ولا ينفع. وما زنيت قط لغيرتى على اهلى. وما كذبت قط لانى رأيته دناءة قال عمرو ابن الادهم من اكابر سادة بنى تميم ذاما للخمر لو كان العقل يشترى ما كان شىء انفس منه فالعجب لمن يشترى الحمق بماله فيدخله فى رأسه فيقىء فى جيبه ويسلح فى ذيله وعن على رضى اللّه عنه لو وقعت قطرة فى بئر فبنيت فى مكانها منارة لم اوذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم ارعه وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما لو ادخلت اصبعى فيها لم تتبعنى وهذا هو الايمان والتقى حقا فينبغى للمسلم ان لا يخطر بباله شرب الخمر فضلا عن شربها وينقطع شاربها فانه اذا خالط شارب الخمر يخاف عليه ان يصيبه من عثاره : قال الحسين الواعظ الكاشى ترار حمان همى كويدكه اى مؤمن مخورباده ... ترا ترسا همى كويدكه درصفرا مخور حلوا نمى مانى زنا باكى براى كفته رحمان ... بمانى شهد وشكررا براى كفته ترسا وعن بعض الصحابة انه قال من زوج ابنته لشارب الخمر فكأنما ساقها الى الزنى معناه ان شارب الخمر يقع منه الطلاق وهو لا يشعر. فالذى يجب على الولى ان لا يزوج ابنته ولا اخته من فاسق ولا ممن يتعاطى المنكرات واعلم ان خل الخمر حلال ولو بعلاج كالقاء الماء الحار او الملح او الخبز ولا يكره تخليلها وفى الحديث ( خير خلكم خل خمركم ) هذا هو البيان فى الخمر واما الميسر فهو القمار والياسر القامر وكان اصل الميسر فى الجزور وذلك ان اهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزور او يضمنون ثمنه ولا يؤدونه ليظهر بالقمار انه على من يجب فينحرونها ويجزئونها عشرة اجزاء وقيل ثمانية وعشرين ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الازلام والاقلام سبعة منها لها انصباء الفذ وله نصيب واحد والتوأم وله نصيبان والرقيب وله ثلاثة والحلس وله اربعة والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة والمعلى وله سبعة وثلاثة منها لا انصباء لها وهى المنيح والسفيح والوغد ثم يجعلون القداح فى خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدى عدل عندهم يسمى المجيل والمفيض ثم يجيلها ويجلجلها اى يحركها باليد ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذات الانصباء اخذ النصيب المعين له ومن خرج له قدح مما لا نصيب له وهو الثلاثة لم يأخذ شيأ وغرم ثمن الجزور وكانوا يدفعون تلك الانصباء الى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم وهو اللئيم العديم المروءة والكرم فهذا اصل القمار الذى كانت العرب تفعله فنهى المسلمون عنه واختلف فى الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين او هو اسم لجميع انواع القمار فقال بعض العلماء المراد من الآية جميع انواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما وروى أن رجلا خاطر رجلا على ان يأكل كذا كذا بيضة على كذا كذا من المال فقال على رضى اللّه عنه هذا قمار وعن ابن سيرين كل شىء فيه خطر فهو من الميسر وعن النبى عليه السلام ( اياكم وهاتين الكعبتين المشئومتين فانهما من مياسر العجم ) يريدان النرد والشطرنج ميسر يشير به الى انهما حرام واما السبق فى الخف والحافر والنشاب فخص بدليل : قال السعدى قدس سره كهل كشتى و همجنان طفلى ... شيخ بودىو همجنان شابى توببازى نشسته درجب وراست ... ميرسد نير جرخ برتابى جاى كريه است برمصيبت بير ... كه توكودك هنوز لعابى والاشارة فى الآية ان خمر الظاهر كما يتخذ من اجناس مختلفة من العنب والتمر والزبيب والحبوب كالحنطة والشعير والذرة فكذلك خمر الباطل من اجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وامثالها وهذه خمور تسكر منها النفوس والعقول الانسانية وفيها اثم كبير ولهذا كل مسكر حرام وما يسكر كثيره فقليله حرام. ومنها ما يسكر القلوب والارواح والاسرار فهو شراب الواردات فى اقداح المشاهدات من ساقى تجلى الصفات فاذا دارت على النفوس وانخمدت شهواتها وسكرات القلوب بالمواجيد عن المواحيد والارواح بالشهود عن الوجود والاسرار بلحظ الجمال عن ملاحظة الكمال فهذا شراب نافع للناس حلال فالعجب كل العجب ان قوما اسكرهم وجود الشراب وقوما اسكرهم شهود الساقى كقولهم فاسكر القوم دور كأس ... وكان سكرى من المدير وفى المثنوى ما اكر قلاش اكر ديوانه ايم ... مست آن ساقى و آن بيمانه ايم مست مى هشيار كردد ازدبور ... مست حق نايد بخود ازنفخ صور جرعه جون ريخت ساقئ الست ... برسراين شوره خاك زير دست جوش كرد آن خاك وما زان جوششيم ... جرعه ديكر كه بس بى كوششيم واتم الاعراض عن كؤس الوصال فى النهاية اكبر من نفع الطالب الف سنة فى البداية وكما ان سكران الخمر ممنوع من الصلاة فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات واما اثم الميسر فهو ان آثار القمار هى شعار اكثر الديار فى سلوك طريق الحيل والخداع بالفعل والكذب والفحش فى المقال وانه كبير عند الاخيار بعيد عن خصال الابرار واما نفعه فعدم الالتفات الى الكونين وبزل نقوش العالمين فى فردانية نقش الكعبتين واثمهما اكبر من نفعهما لان اثمهما للعوام ونفعهما للخواص والعوام اكثر من الخواص وقليل ما هم كذا فى التأويلات النجمية قدست نفسه الزكية { ويسألونك ماذا ينفقون } هو كما يصلح سؤالا عن جنس المنفق يصلح سؤالا عن كميته وقدره فانه لما نزل قوله تعالى { قل ما انفقتم من خير فللوالدين } قال عمرو بن الجموح ما انفق فنزل قوله { قل العفو } اى انفقوا العفو وهو نقيض الجهد وهو المشقة ونقيضه اليسر والسهولة فكأنه قيل قل انفق ما سهل وتيسر ولم يشق عليك انفاقه فالعفو من المال ما يسهل انفاقه والجهد من المال ما يعسر انفاقه والقدر المنفق انما يكون انفاقه سهلا اذا كان فاضلا عن حاجة نفسه وعياله ومن عليه مؤونته { كذلك } اى مثل ما بين ان العفو اصلح من الجهد والكاف فى محل النصب صفة لمصدر محذوف اى تبيينا مثل هذا التبيين وافراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل او الفريق او القوم مما هو مفرد اللفظ ومجموع المعنى { يبين اللّه لكم الآيات } الدالة على الاحكام الشرعية لا بيانا ادنى منه وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا انه تبيينها بعد ان كانت مشتهبة وملتبسة { لعلكم تتفكرون * فى الدنيا والآخرة } اى لكى تتفكروا فى امور الدارين فتأخذوا بما هو اصلح لكم واسهل فى الدنيا وانفع فى العقبى وتتجنبوا عما يضركم فى العقبى ٢٢٠ { فى الدنيا والآخرة } قال البغوى يبين اللّه لكم الآيات فى امر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فى زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا وفى اقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها وهذه الآية ترغب فى التصدق لكن بشرط ان يكون ذلك من فضل المال وعفوه وعن النبى عليه السلام ان رجلا اتاه ببيضة من ذهب اصابها فى بعض المغازى فقال يا رسول اللّه خذها منى صدقة فواللّه لقد اصبحت ما املك غيرها فاعرض عنه رسول اللّه فاتاه من الجانب الايمن فقاله مثله فاعرض عنه ثم اتاه من الجانب الايسر فاعرض عنه فقال ( هاتها ) مغضبا فاخذها منه فحذفها حذفا لو اصابه لشجه او عقره ثم قال ( يجيئ احدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس انما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها ) وفى لفظ العفو اشارة الى ان ما يعطيه المرء ينبغى ان يعفو اثره عن قلبه عند الانفاق يعنى بطيب القلب لان اصل العفو المحو والطمس ثم الاخراج عن فاضل الاموال على قدر الكفاية طريقة الخواص. فاما خاص الخاص فطريقهم الايثار وهو ان يؤثر غيره على نفسه وبه فاقه الى ما يخرج وان كان صاحبه الذى يؤثر به غنيا قال اللّه تعالى { ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة } وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه قال امرنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ان نتصدق ووافق ذلك مالا عندى فقلت اليوم اسبق ابا بكر رضى اللّه عنه فجئت بنصف مالى فتصدقت به فقال لى رسول اللّه ( ما ابقيت لاهلك يا عمر ) قلت نصف مالى يا رسول اللّه ثم قال لابى بكر ( ما ابقيت لاهلك ) قال ابقيت لهم اللّه ورسواله فقلت لا اسابقك بشىء بعدها روى ان النبى عليه السلام قال عند ذلك ( ما بينكما ما بين كلاميكما ) ومنه يعرف فضل ابى بكر على عمر لكن الفاضلية من وجه لا تنافى المفضولية من وجه آخر فان الكامل ليس يلزمه ان يكون كاملا فى جميع الامور وانما التقدم والتأخر بالنظر الى العلم باللّه قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره كان ابو بكر غالب المعرفة وعمر غالب الشريعة وعثمان غالب الطريقة وعلى غالب الحقيقة وان كانوا كاملين فى المراتب الاربع انتهى كلامه : قال الحسين الواعظ الكاشى مايه توفيق كرم كردن است ... كنج يقين ترك درم كردن است زادره مرك زنان دادن است ... زندكى عشق زجان دادن است فسخاوة العوام اعطاى المال وسخاوة الخواص بذل الروح وهو قليل هست جوانمرد درم صد هزار ... كار جو باجان فتد آنست كار وحث النبى عليه السلام اصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان ابو امامة الباهلى جالسا بين يديه عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال له النبى عليه السلام ( ماذا تقول حيث تحرك شفتيك ) قال انى ارى الناس يتصدقون وليس معى شىء اتصدى به فاقول فى نفسى سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( هؤلاء الكلمات خير لك من مد ذهبا تتصدق به على المساكين ) تازنده ايم ذكر لبش در زبان ماست ... يا دش انيس ومونس جان وروان ماست يروى ان اول من قال سبحان اللّه جبريل عليه السلام وذلك انه لما خلقه اللّه وقع نظره على العرش وعظمته فقال سبحان اللّه فمن قالها نال ثواب جبريل. واول من قال الحمد للّه آدم الصفى عليه الصلاة والسلام حين نفخ فيه الروح فمن قالها نال نصيبا من فضل آدم. واول من قال لا اله الا اللّه نوح النجى عليه السلام حين مشاهدة الطوفان وشدة البلاء فمن قالها اخذ حظا وافرا من ثواب نوح. واول من قال اللّه اكبر ابراهيم الخليل عليه السلام حين شاهد فداء اسماعيل وهو الكبش فمن قالها نال فيضا من فيض ابراهيم اللّهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا رب العالمين { ويسألونك عن اليتامى } اى عن مخالطتهم لان السؤال عن الشىء ينصرف الى ما هو معظم المقصود منه وهو ههنا المخالطة والكفالة وذلك بعد نزول قوله تعالى { ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما } فتركوا مخالطتهم ومؤاكلتهم حتى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة وعزلوا اموال اليتامى عن اموالهم وكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شىء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم فقال عبد اللّه بن رواحة يا رسول اللّه ما لكلنا منازل يسكنها اليتامى ولا كلنا نجد طعاما وشرابا نفردهما لليتيم فزلت هذه الآية { قل اصلاح لهم } اى مداخلتهم على وجه الاصلاح لهم ولاموالهم { خير } من مجانبتهم وترك الخلطة والنظر عليهم. واصلاح مصدر حذف فاعله تقديره واصلاحكم لهم خير للجانبين اى جانبى المصلح والمصلح له اما الاول فلما فيه من الثواب واما الثانى فلما فيه من توافر اموال اليتامى والتزايد { وان تخالطوهم } وتعاشروهم على وجه ينفعهم { فاخوانكم } اى فهم اخوانكم فى الدين الذى هو اقوى من العلاقة النسبية ومن حق الاخ ان يخالط الاخ بالاصلاح والنفع قال ابن عباس رضى اللّه عنهما المخالطة ان تأكل من تمره ولبنه وقصعته وهو يأكل من تمرك ولبنك وقصعتك وهذا اذا اصاب من مال اليتيم بقدر عمله له او دونه فلا يزيد على اجر مثله وقد قال تعالى { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وقد تكون المخالطة بخلط المال وتناول الكل منه وهو منهى شرعا قال ابو عبيد هذه الآية عندى اصل لما يفعله الرفقاء فى الاسفار فانهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون فى قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه فلما كان هذا فى اموال اليتامى واسعا كان فى غيرهم اوسع ولولا ذلك لخفت ان يضيق فيه الامر على الناس وقد حملت المخالطة على المصاهرة وهو ان يكون ابنا فيزوجه ابنته او تكون بنتا فيزوجها ابنه فتتأكد الالفة ويخلطه بنفسه وبعشيرته ايناسا لوحشته وازالة لوحدته وهو مروى عن الحسن { واللّه يعلم } بمعنى المعرفة المتعدية الى واحد { المفسد } لمال اليتيم { من المصلح } لماله اى لا يخفى على اللّه من داخلهم بافساد واصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الاصلاح وفى تقديم المفسد مزيد تهديد ومن لتضمين العلم معنى التمييز اى يعلم من يفسد فى امورهم عند المخالطة مميزا له ممن يصلح فيها { ولو شاء اللّه } اعناتكم وهو الحمل على ولا يطيقه { لاعنتكم } لحملكم على العنت وهو المشقة فلم يطلق لكم مداخلتهم يقال عنت فلان اذا وقع فى امر يخاف منه التلف { ان اللّه عزيز } غالب يقدر على الاعنات { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتسع له الطاقة وهو دليل على ما يفيده لمة لو من انتفاء مقدمها واعلم ان مخالطة الايتام من اخلاق الكرام وفى الترحم عليهم فوائد جمة قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( من وضع يده على رأس يتيم ترحما عليه كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة ) وفى الحديث ( ثلاثة فى ظل عرش اللّه يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغارا فخطبت فلم تتزوج وقالت اقيم على اليتامى حتى يغنيهم اللّه او يموت ) يعنى اليتيم ( او هى ورجل له مال صنع طعاما فاطاب صنيعه واحسن نفقته فدعا اليه اليتيم والمسكين وواصل الرحم يوسع له فى رزقه ويمد له فى اجله ويكون تحت ظل عرشه ) قال اللّه تعالى ( يا موسى كن لليتيم كالاب الرحيم وكن للارامل كالزوج الشفيق وكن للغريب كالاخ الرفيق اكن لك كذلك ) : قال الحافظ تميار غريبان سبب ذكر جميلست ... جانا مكراين قاعده درشهر شمانيست وفى الحديث ( انا وكافل اليتيم ) اى القائم بمصالحه سواء كان من مال نفسه ام من مال اليتيم وسواء كان اليتيم قريبا ام لا ( كهاتين فى الجنة ) واشار بالسبابة والوسطى يعنى ان كافل اليتيم يكون فى الجنة مع حضرة النبى عليه الصلاة والسلام لا ان درجته تبلغ درجته : قال الشيخ سعدى قدس سره جو بينى يتيمى سرافكنده ييش ... مده بوسه برروى فرزند خويش ألا تانكريد كه عرش عظيم ... بلرزد همى جون بكريد يتيم ويجتنب كل الاجتناب عن اخلال حق من حقوقه واكل حبة من ماله وعن ظلمه وقهره يحكى ان رستم بن زال بارز مع اسنفديار فلم يقدر عليه مع زيادة قوته وكان اسفنديار يجرحه فى كل حمل دون رستم وكان بدن اسفنديار كجلد السمك لا يعمل فيه شىء ثم ان رستم تشاور مع ابيه زال فى ذلك فقال له ابوه انك لا تقدر عليه الا ان تعمل سهما ذا فقارين وتصيب به عينى اسفنديار ففعل ذلك فرمى فاصاب فغلب عليه بذلك فيحكى فى سبب ذلك ان اسفنديار كان قد ضرب فى شبيبته يتيما بغصن ففقأ به عينه وابكاه ثم ان اليتيم اخذ ذلك الغصن وغرسه فلما صار شجرا اخذ رستم غصنا من اغصانه ونحت منه سهمه الذى اصاب به عينى اسنفديار ويؤدب اليتيم الذى فى حجره كتأديبه ولده فانه مسئول عنه يوم القيامة ويصلح حاله والتأديب على انواع. منها الوعيد. ومنها الضرب. ومنها حبس المنافع والعطية والبر فان بين النفوس تفاوتا فنفس تخضع بالغلظة والشدة ولو استعملت معها الرفق والبر لافسدها ونفس بالعكس وقد جعل اللّه الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون من المنكر فادب الاحرار الى السلطان وادب المماليك والاولاد الى السادات والآباء وهو مأجور على التأديب ومسئول عنه قال اللّه تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } وفى الحديث ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) وفى قوله تعالى { وان تخالطوهم فاخوانكم } اشارة الى ان المرء ينبغى ان يتعود الاكل مع الناس فان شر الناس من اكل وحده وفى الحديث ( ان من احب الطعام الى اللّه ما كثرت عليه الايدى ) ذكره فى العوارف وذكر فى المصابيح ان اصحاب النبى عليه السلام قالوا يا رسول اللّه انا نأكل ولا نشبع قال ( لعلكم تفترقون ) قالوا نعم قال ( فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللّه تعالى ) ومن اللطائف ما يحكى انه قيل لجمين صاحب النوادر أتغديت عند فلان قال لا ولكن مررت ببابه وهو يتغدى فقيل كيف علمت قال رأيت غلمانه بايديهم قسى البنادق يرمون الطير فى الهواء قيل لبخيل من اشجع الناس فقال من يسمع وقع اضراس الناس فلا تنشق مرارته وفى الحديث ( من اضاف مؤمنا فكأنما اضاف آدم ومن اضاف اثنين فكانما اضاف آدم وحواء ) كذا فى الرسالة العلية لحسين الواعظ ٢٢١ { ولا تنكحوا } بفتح التاء اى لا تتزوجوا { المشركات } اى الحربيات فان الكتابيات وان كانت من المشركات الا انه يجوز تزوجها عند الجمهور استدلالا بقوله تعالى فى سورة المائدة { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شىء اصلا { حتى يؤمن } اى يصدقن باللّه وبمحمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم روى انه عليه السلام بعث مرثدا الغنوى الى مكة ليخرج منها اناسا من المسلمين سرا فاتته عتاق وكان يهواها فى الجاهلية فقالت ألا تخلو فقال ان الاسلام حال بيننا فقالت هل لك ان تتزوج بى فقال نعم ولكن استأمر رسول اللّه عليه السلام فاستأمره فنزلت { ولأمة مؤمنة } مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر { خير } بحسب الدين والدنيا { من مشركة } اى امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن { ولو اعجبتكم } تلك المشركة بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادى الاعجاب وموجبات الرغبة والواو للحال ومعنى كونها للحال كونها عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها والتقدير خير من مشركة على كل حال ولو فى هذه الحالة والمقصود من مثل هذا التركيب استقصاء الاحوال وفى تفسير الكواشى لو هنا بمعنى ان وكذا كل موضع وليها الفعل الماضى وكان جوابها مقدما عليها والمعنى وان كانت المشركة تعجبكم وتحبونها فان المؤمنة خير لكم { ولا تنكحوا } بضم التاء من الانكاح { المشركين } اى الكفار اعم من الوثنى وغيره اى لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر ام اماء { حتى يؤمنوا } ويتركوا ما هم عليه من الكفر قال ابن الشيخ فى حواشيه اى لا تزوجوهم الصغيرات من نباتكم ومن فى حكمهن ممن هو تحت ولايتكم ولا تزوج البالغات من المؤمنات منهم انفسهم فقوله ولا تنكحوا من قبيل تغليب الذكور على الاناث ولا خلاف فى هذا الحكم فان المشرك هنا باق على همومه ولا يحل تزويج المؤمنة من الكافر البتة على اختلاف انواع الكفر { ولعبد مؤمن } مع ما به من ذل المملوكية { خير من مشرك } مع ما به من عز المالكية { ولو اعجبكم } بماله وجماله وخصاله { اولئك } المذكورون من المشركين والمشركات { يدعون } من يقارنهم ويعاشرهم { الى النار } اى الى ما يؤدى اليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم { واللّه } اى واولياؤه يعنى المؤمنين حذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه تفخيما لشأنهم { يدعوا الى الجنة والمغفرة } اى الى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين اليهما فهم الاحقاء بالمواصلة { باذنه } متعلق بيدعو اى يدعو ملتبسا بتوفيقه الذى من جملته ارشاد المؤمنين لمقارنيهم الى الخير ونصيحتهم اياهم { ويبين آياته } المشتملة على الاحكام الفائقة والحكم الرائقة { للناس لعلهم يتذكرون } اى لكى يتذكروا ويعملوا بما فيه فيفوزوا بما دعوا اليه من الجنة والغفران وايراد التذكر ههنا للاشعار بانه واضع لا يحتاج الى التفكر كما فى الاحكام السابقة ففى الآية نهى مواصلة الكفار وترغيب فى مواصلة المؤمنين ولا ينبغى للمؤمن ان تعجبه المشركة بمالها وجمالها فان من المسلمات من تدفع التعجب وفى المحيط مسلم رأى نصرانية سمينة وتمنى ان يكون هو نصرانيا حتى يتزوجها يكفر وهذا من حماقته فان السمان الحسنة كثيرة فى الملة الحنيفية ولكن علة الضم هى الجنسية كما قال تعالى { الزانى لا ينكح } الا زانية او مشركة وميل الطباع القذرة الى الدنيا العذرة قال تعالى { الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين } ونعم ما قيل همه مرغان كندبا جنس يرواز ... كبوتر با كبوتر بازباباز ومن بلاغات الزمخشرى لا ترض لمجالستك الا اهل مجانستك اى لا ترض ان يكون لك جليس من غير جنسك فان العذاب الشديد ليس الا هو قال فى اسئلة الحكم واما اختلاف الاخلاق فمن تعارف الارواح بعضها ببعض فى عالم الارواح قبل تلاقى الاشباح فى عالم الشهادة فمن تعارف روحه بروح صالح صلح بتعارفه الازلى فمن هنا اختلاف الاخلاق صلاحها وفسادها فلا بد من مناسبة اما من الجهة الجسمانية او من الجهة الروحانية فالجهة الجسمانية راجعة الى قابلية الطين والطبيعة الروحانية راجعة الى المناسبة الروحانية السابقة انتهى قال الامام السخاوى فى المقاصد الحسنة عند قوله عليه السلام ( لارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ) سبب ورود هذا الحديث ما روته عائشة رضى اللّه عنها ان امرأة كانت بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهن فلما هاجرن ووسع اللّه تعالىدخلت المدينة قالت عائشة فدخلت على فقلت لها فلانة الى من قدمت قالت اليكن قلت فأين نزلت قالت على فلانة امرأة كانت تضحك بالمدينة قالت عائشة ودخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ( فلانة المضحكة عندكم ) قالت عائشة نعم قال ( فعلى من نزلت ) قالت على فلانة المضحكة قال ( الحمد للّه ان الارواح ) الخ : قال بعضهم بينى وبينك فى المحبة نسبة ... مستورة عن سر هذا العالم نحن اللذان تحاببت ارواحنا ... من قبل خلق اللّه طينة آدم انتهى كلام السخاوى : قال الحسين الكاشفى جاذب هر جنس راهم جنس دان ... جنس برجنس است عاشق جاودان وفى المثنوى تلخ باتلخان يقين ملحق شود ... كىدم باطل قرين حق شود طيبات آمد بسوى طيبين ... مر خبيثين را خبيثا تست هين واعلم انه ركز فى العقول الميل الى الخير ومخالفة الشر فللعاقل ان يتذكر فان من كان بصيرا بنفسه ومتأملا فى حاله ينقطع عن اخوانه الداعين الى خلاف الحق ويصيخ الى داعى الهوى وقد قال بعض كتار العجم ( اللّه بسى باقى هوس ) قال تعالى { انا جعلنا ماعلى الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا } والمقربون قد فروا الى اللّه تعالى من جميع ما فى ارض الوجود ولم يلتفتوا الى شىء سوى وجهه الكريم ولم يريدوا من المولى غير المولى فكانوا احسن نية وعملا وهذا صراط مستقيم اللّهم الهمنا رشدنا واعدنا من شر نفسنا انك انت المجيب ٢٢٢ { ويسألونك } لعل حكاية الاسئلة الثلاثة بالواو وحكاية ما عداها بغير عطف انهم سألوا عن هذه الحوادث فى وقت واحد فكأنه قيل يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الانفاق والسؤال عن كذا وعن كذا بخلاف ما عداها فانهم سألوها فى اوقات متفرقة { عن المحيض } مصدر كالمجيئ والمبيت والحيض هو اللوث الخارج من الرحم فى وقت معتاد والسؤال فيه نوع ابها الا انه تبين بالجواب ان سؤالهم كان عن مخالطة النساء فى حالة الحيض { قل هو اذى } اى الحيض شىء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه وكراهة له روى ان اهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلوهن كدأب المجوس واليهود واستمر الناس على ذلك الى ان سأل عن ذلك ابو الدحداح فى نفر من الصحابة فقال يا رسول اللّه كيف نصنع بالنساء اذا حضن أنقربهن ام لا فنزلت { فاعتزلوا النساء فى المحيض } المحيض هنا اسم لمكان ظهور الحيض وهو الفرج اى فاجتنبوا مجامعتهن لما روى ان المسلمين اخذوا بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الاعراب يا رسول اللّه البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهن هلك سائر اهل البيت وان استأثرنا بها هلكت الحيض فقال صلى اللّه عليه وسلم ( انما امرتم ان تعتزلوا مجامعتهن اذا حضن ولم يأمركم باخراجهن من البيوت كفعل الاعاجم ) وهو الاقتصاد بين افراط اليهود وتفريط النصارى فانهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض { ولا تقربوهن } بالجماع { حتى يطهرن } من الحيض او ينقطع دمهن فذهب ابو حنيفة رحمه اللّه الى ان له ان يقربها اذا كانت ايامها عشرة بعد انقطاع الدم وان لم تغتسل وفى اقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل او يمضى عليها وقت صلاة { فاذا تطهرن } اى اغتسلن فان التطهر هو الاغتسال { فائتوهن من حيث امركم اللّه } اى من المأتى الذى حللّه لكم وهو القبل { ان اللّه يحب التوابين } من الذنوب { ويحب المتطهرين } المتنزهين عن الفواحش والاقذار كمجامعة الحائض والاتيان فى غير المأتى ٢٢٣ { نساؤكم حرث لكم } اى مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقى فى أرحامهن من النطف وبين البذور من المشابهة من حيث ان كلا منهما مادة لما يحصل منه. والفرق بين الحرث والزرع ان الحرث القاء البذر وتهيئة الارض والزرع مراعاته وانباته ولهذا قال تعالى { افرأيتم ما تحرثون ءانتم تزرعونه ام نحن الزارعون } فأثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع { فائتوا حرثكم } لما عبر عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالاتيان { أنى شئتم } أنى هنا بمعنى كيف اى كيف شئتم ومن اى شق وجهة اردتم بعد ان يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث لان الدبر ليس موضع الحرث فلم يمكن حمل قوله أنى شئتم على التخيير فى الامكنة حتى يجوز اتيان النساء فى ادبارهن فيكون محمولا على التخيير فى الكيفيات ويدل على هذا ما روى فى سبب نزول الآية من ان اليهود كانوا يزعمون ان من اتى امرأته فى قبلها من دبرها يأتى ولده احول فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت الآية ردا عليهم ببيان ان المقصود من عقد النكاح هو اتيان موضع الحراثة على اى كيفية كانت وفى الحديث ( ملعون من اى امرأته فى دبرها ) وهو اللواطة الصغرى والاتيان فى دبر الذكر اكبر لواطة منه قال الامام من قبل غلاما بشهوة فكأنما زنى بامه سبعين مرة ومن زنى مع امه مرة فكأنما زنى بسبعين بكرا ومن زنى مع البكر مرة فكانما زنى بسبعين الف امرأة وحكم اللواطة التعزير والحبس فى السجن حتى يتوب وعندهما يحد حد الزنى فيجلد ان لم يكن محصنا ويرجم ان كان محصنا { وقدموا لانفسكم } من الاعمال الصالحة ما يكون الثواب الموعود له ذخيرة محفوظة لكم عند اللّه ليوم احتياجكم اليه ولا تكونوا فى قربانهن على قيد قضاء الشهوة بل كونوا فى قيد تقديم الطاعة مع ملاحظة الحكم المقصود من شرع النكاح وهو الولد { واتقوا اللّه } بالاجتناب عن معاصيه التى من جملتها ما عد من الامور { واعلموا انكم ملاقوه } الهاء راجع الى اللّه تعالى فلا بد من حذف مضاف اى ملاقوا جزائه فتزودوا ما لا تفضحون به { وبشر } يا محمد { المؤمنين } الذين تلقوا ما خوطبوا به من الاوامر والنواهى بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم درامان خانه ايمان بنشين ايمن باش ... كرامان بايدت البته مروزين مأمن فالعلامة فى ذلك ان الذى يكون ايمانه عطاء يمنعه ايمانه من الذنوب ويرغبه فى الطاعات والذى هو رعاية لا يمنعه من الذنوب ولا يرغبه فى الطاعات اى لا يحثه على الطاعات لانه لا تدبير له فى مكان هو فيه عارية اى لا يستقر الايمان فى مكان هو فيه عارية وفى قوله تعالى { واعلموا انكم ملاقوه } اشارة الى ان على المرء ان يتذكر مرجعه ومصيره ويتدارك ما ينتفع به فى معاده من الاعمال الصالحة واقل المرتبة العمل للآخرة. واما اعلى المراتب وافضل المقاصد والمطالب فاللّه تعالى كما قال تعالى { قل اللّه ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون } وذلك لان العمل للّه تعالى لا لطلب الجنة ولا لخوف النار وفى التأويلات النجمية كما ان للنساء محيضا فى الظاهر وهو سبب نقصان ايمانهن لمنعهن عن الصلاة والصوم فكذلك للرجال محيض فى الباطن هو سبب نقصان ايمانهم لمنعهم عن حقيقة الصلاة وهى المناجاة وعن حقيقة الصوم وهى الامساك عن مشتهيات النفس وكما ان المحيض هو سيلان الدم من الفرج فكذلك الهوى هو غلبات دواعى الصفات البشرية والحاجات الانسانية فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الاذى وقد قيل قطرة من الهوى تكدر بحرا من الصفا فحينئذ منعت النفس عن الصلاة والصوم فى الحقيقة وان كانت مشغولة بهما. وطبقات المؤمنين ثلاث العوام والخواص وخاص الخاص. اما العوام فلما كانوا اهل الغيبة عن الحقيقة ابيح لهم السكون الى اشكالهم اذا كان على وصف الاذن وقيل لهم { نساؤكم حرث لكم فائتوا حرثكم } انى شئتم واما الخواص فلما كانوا بوصف الحضور يلزم عليهم المساكنة الى امثالهم وقيل لهم { قل اللّه ثم ذرهم } فهم سلكوا مسالك التفريد حتى وصلوا الى كعبة التوحيد. واما خاص الخاص فهم الرجال البالغون الواصلون الى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى اللّه بخلافة الحق فهم رجال اللّه وما دون اللّه نساؤهم فقيل لهم { نساؤكم حرث لكم فائتوا حرثكم انى شئتم } فهم الانبياء وخواص الاولياء فكما ان الدنيا مزرعة الآخرة لقوم فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها انى شاؤوا وكيف شاؤا وما يشاؤن الا ان يشاء اللّه فقد فنيت مشيئتهم فى مشيئة اللّه وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته فيقدمون لانفسهم لا بانفسهم بل هو المقدم لما يقدمون وهو المؤخر لما يؤخرون ثم قال { واتقوا اللّه واعلموا انكم ملاقوه } يعنى يا خواص الاولياء المتصرفين فى حرث الدنيا والآخرة اتقوا اللّه باللّه فانكم ملاقوا اللّه لا يحجبكم عنه شىء { وبشر المؤمنين } بأنهم ملاقوا اللّه ايضا ان اتقوا اللّه باللّه يعنى مرتبة الخواص الاولياء ميسرة للمؤمنين اذا عسوا فى طلبها حق سعيها : قال الحافظ جمال يا رندارد نقاب وبرده ولى ... غبار ره بنشان تانظر توانى كرد ٢٢٤ { ولا تجعلوا اللّه عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } روى ان بشير ابن نعمان الانصارى كان قد طلق زوجته التى هى اخت عبد اللّه بن رواحة واراد ان يتزوجها بعد ذلك وكان عبد اللّه قد حلف على ان لا يدخل على بشير ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين اخته فاذا قيل له فى ذلك قال قد حلفت باللّه ان لا افعل ولا يحل لى الا ان لا احفظ يمينى وابر فيه فانزل اللّه تعالى هذه الآية. والعرضة فعلة بمعنى المعروض جعل اسما لما يعرض دون الشىء اى يجعل قدامه بحيث يصير حاجزا ومانعا منه من عرض العود على الاناء اى جعل العود على الاناء وستره به بحيث يكون حاجزا وحائلا بين الاناء وما يتوجه اليه والمعنى لا تجعلوا ذكر اللّه والحلف به مانعا لما حلفتم عليه من انواع الخير كالبر والاتقاء والاصلاح فان الحلف باللّه لا يمنع ذلك فيكون لفظ الايمان مجازا مرسلا عن الخيرات المحلوف عليها سمى المحلوف عليه يمينا لتعلق اليمين به واللام فى لأيمانكم متعلق بقوله عرضة تعلق المفعولية لا تعلق العلية لان العرضة ما عرضته دون الشىء فاعترضه اى ما تجعله انت قدام شىء آخر فيقع قدامه فيكون المعنى لا تجعلوا الحلف باللّه شيأ عرض او وقع قدام المحلوف عليه الذى هو البر والخير ويصير مانعا من الاتيان به وان تبروا عطف بيان لايمانكم اى للامور المحلوف عليها التى هى البر والتقوى والاصلاح { واللّه سميع } لايمانكم { عليم } بنياتكم حتى ان تركتم الحلف تعظيما للّه واجلالا له من ان تستشهدوا باسمه الكريم فى الاغراض العاجلة يعلم ما فى قلوبكم ونيتكم فحافظوا على ما كلفتموه وفى المثنوى ازبى آن كفت حق خودرا سميع ... تاببندى لب زكفتار شنيع ازبى آن كفت حق خودرا بصير ... كه بود ديدويت هردم نذير امبى آن كفت حق خودرا عليم ... تانينديشى فسادى توزبيم والآية عامة فى كل من كان يحلف باللّه ان لا يحسن لاحد ولا يتقى من العصيان فيعمل ما اشتهت نفسه وان لا يصلح بين الناس اذا وقع فيهم العداوة والبغضاء فكانه قال تعالى كل ذلك خير وطاعة لا يمنعها حلفكم فان حلفتم عليها فلتكفروا عن حلفكم ولتفعلوا تلك الخيرات من البر والتقوى والاصلاح بين الناس ولا تقولوا نحن حلفنا باللّه فنخاف من اليمين به ان نفعله فنحنث فى يميننا فالحنث اولى من البر فيما يتعلق بالبر والتقوى والاصلاح قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذى هو خير ) والكفارة قبل اليمين غير جائزة وبعد الحنث واجبة اتفاقا. ولا تجوز قبل الحنث بعين اليمين عند اسحق رحمه اللّه وفى الشرعة ولا يروج سلعته اى متاعه بالحلف لا صادقا ولا كاذبا لانه ان كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس وهى من الكبائر التى تزر الديار بلاقع وان كان صادقا قد جعل اللّه عرضة لايمانه واساء فيه اذ الدنيا اخس من ان يقصد تروجها بذكر اللّه من غير ضرورة ومن حلف باللّه فى كل قليل وكثير انطلق لسانه بذلك ولا يبقى اليمين فى قلبه فلا يؤمن اقدامه على الايمان الكاذبة فيختل ما هو الغرض الاصلى من اليمين وفى الخبر ( ويل للتاجر من بلى واللّه ولا واللّه ) وفى بستان العارفين ويكره ان يصل على النبى عليه السلام فى عرض السلعة فيقول صلى اللّه على محمد ما اجود هذا وقال عليه السلام ( التجار هم الفجار ) قيل ولم يا رسول اللّه وقد أحل اللّه البيع فقال ( لانهم يحلفون ويأثمون ويتحدثون فيكذبون ) ولا يحلف على اللّه بشىء نحو ان يقول واللّه ليفعلن اللّه كذا ولو اقسم ولى اللّه مثل القسم المذكور لا يراه اللّه وصدقه فى يمينه كرامة له وكان ابو حفص رحمه اللّه يمشى ذات يوم فاستقبله رستاقى مدهوش فقال له ابو حفص ما اصابك قال ضل حمارى ولا املك غيره فوقف ابو حفص وقال وعزتك لا اخطو خطوة ما لم ترد حماره فظهر الحمار فى الوقت كذا فى شرح المشارق ٢٢٥ { لا يؤاخذكم اللّه باللغو } اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار يقال لغا لغوا اذا قال باطلا { فى ايمانكم } جمع يمين وهو الحلف وسميت بها لمعنيين. احدهما انها من اليمين التى هى اليد اليمنى وكانوا اذا تحالفوا فى العهود تصافحوا بالايمان فسميت بذلك. والثانى ان اليمين هى القوة قال تعالى { لأخذنا منه باليمين } وسميت به لان الحالف يتقوى بيمينه على حفظ ما حلف عليه من فعل او ترك والمراد باللغو فى الايمان ما لا عقد معه ولا قصد وهو ان يحلف الرجل باللّه على شىء يظن انه صادق فيه وليس كذلك سواء كان الذى يحلف عليه ماضيا او غيره فليس له اثم ولا كفارة هذا عند ابى حنيفة واما عند الشافعى فلغو اليمين ما سبق اليه اللسان بلا قصد الحلف نحو لا واللّه وبلى واللّه مما يوكدون به كلامهم من غير اخطار الحلف بالبال ولو قيل لواحد منهم سمعتك تحلف فى المسجد الحرام لانكر ذلك ولعله قال لا واللّه الف مرة. وفى الآية معنيان احدهما لا يعاقبكم اللّه باللغو فى ايمانكم ظنا انكم صادقون فيه { ولكن يؤاخذكم } المؤاخذة مفاعلة من الاخذ وهى المعاقبة ههنا { بما كسبت قلوبكم } انطوت عليه واقترفت قلوبكم من قصد الاثم بالكذب فى اليمين وهو ان يحلف الرجل على ما يعلم انه خلاف ما يقوله وهى اليمين الغموس وسميت بالغموس لانغماس لانغماس صاحبها فى الاثم بها. وثانيهما لا تلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذى لا قصد معه ولكن تلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من اليمين لا بكسب اللسان وحده وفى التيسير ان هذه الآية فى مؤاخذة الآخرة فاما المؤاخذة المذكورة فى قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان } فهى المؤاخذة بالكفارة لكنها فى اليمين المعقودة فالآيتان فى مؤاخذتين مختلفتين { واللّه غفور } حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا عن قلة المبالاة { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة وفيه ايذان بان المؤاخذة المعاقبة لا ياجاب الكفارة اذ هى التى تتعلق بها المغفرة والحلم دونه والفرق بين الحليم والصبور انه الذى لا يشمئز من الامر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة الى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال اللّه تعالى { ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } وحظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وفى الحديث ( ان الرجل المسلم ليدرك بالحلم مرتبة الصائم القائم ) قال الحسين الواعظ الكاشفى علم باحلم حال روى بود ... علم بى حلم خاك كوى بود بردبارى جوزينت خردست ... هركرا حلم نيست زيور يست ثم انه قال قال العلماء اذا حلف بشىء فحنث ان كان مستقبلا فعليه كفارة وهو اليمين المنعقدة وان كان ماضيا فان كان الحالف عالما بالواقع وحلف على خلافه فاليمين كبيرة ولا كفارة عند ابى حنيفة فى الكبائر وعند الشافعى تجب الكفارة فيه وهو اليمين الغموس وان كان الحالف جاهلا بالواقع ويرى انه صادق فيه وليس كذلك فلا كفارة فيه وهو يمين اللغو عند ابى حنيفة واليمين الغموس عند الشافعى ويحكم فيه بالكفارة واليمين باللّه او باسم من اسمائه او بصفة من صفاته فاليمين باللّه ان يقول والذين اصلى له والذى نفسى بيده واليمين باسمائه كقوله واللّه والرحمن ونحوه واليمين بصفته كقوله وعزة اللّه وعظمته وجلال اللّه وقدرته ونحوها ومن حلف بغير اللّه مثل ان قال والكعبة وبيت اللّه ونبى اللّه او حلف بابيه ونحوه فلا يكون يمينا ولا تجب به الكفارة اذا خالف وهى يمين مكروهة قال الشافعى واخشى ان تكون معصية وفى الحديث ( من حلف بغير اللّه فقد أشرك باللّه ) معناه من حلف بغير اللّه تعالى معتقدا تعظيم ذلك الغير فقد أشرك المحلوف به مع اللّه فى التعظيم المختص به ولو لم يكن على قصد التعظيم والاعتقاد به فلا بأس به كقوله لا وابى ونحو ذلك كما جرت به العادة قال على الرازى اخاف الكفر على من قال بحياتى وبحياتك وما اشبهه ولولا ان العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت انه الشرك لانه لا يمين الا باللّه ولا يحلف بالبراءة من الاسلام فمن فعل ذلك صادقا لن يرجع الى الاسلام سالما وان كان كاذبا خيف عليه الكفر وفى الحديث ( من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ) وظاهر الحديث يدل على ان المسلم ان قال ان افعل كذا فانا يهودى ففعل يكفر وبه عمل الشافعى وقال الحنفية لا يكفر فحملوا الحديث على التهديد واما ان علقه بالماضى كقوله ان فعلت كذا فانا يهودى وقد فعل فقد اختلفت الحنفية والصحيح انه لا يكفر ان كان يعلم انه يمين وان كان عنده انه يكفر بالحلف يكفر لانه رضى بالكفر وهو محمل الحديث عند الاكثر وفى الفتاوى البزازية والفتوى على انه يمين يلزم عليه الكفارة والاشارة فى الآية ان ما يجرى على الظواهر من غير قصد ونية فى البواطن ليس له كثير خطر فى الخير والشر ولا زيادة اثر ولو كان له اثر فى الخير لما عاب على قوم { يقولون بالسنتهم ما ليس فى قلوبهم } وكذا ما يجرى على اللسان بنية القلب بلا فعل الجوارح لو كان مؤثرا فى القبول لما عاب قوما بقوله { كبر مقتا عند اللّه ان تقولوا ما لا تفعلون } ولو كان له اثر فى البر لما وسع على قوم بقوله { لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وما عفا عن قوم بقوله { الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان } وذلك لان القلب كالارض للزراعة والجوارح كالآلات للحراثة والاعمال والاقوال كالبذر فالبذر ما لم يقع فى الارض المربية للزراعة لا ينبت وان كان فى آلة من آلات الحراثة فافهم جدا واما ان كان لما يجرى على الظواهر من الخير ادنى آثار فى القلب ولو كان مثقال ذرة فان اللّه من كمال فضله وكرمه لا يضيعه حتى يكون القليل كثيرا والصغير عظيما وان كان لما يجرى على الظواهر من الشر ادنى اثر فى القلب فان اللّه تعالى من غاية لطفه واحسانه لا يؤاخذ العبد به بل يحلم عنه ويتوب عليه ويغفر له كما قال { واللّه غفور حليم } كذا فى التأويلات النجمية ٢٢٦ { للذين يؤلون من نسائهم } الايلاء الحلف وحقه ان يستعمل بعلى لكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدى بمن اى للذين يبعدون من نسائهم مؤلين { تربص اربعة اشهر } اى انتظار هذه المدة واضافته الى الظرف على الاتساع فى الظرف بجريه مجرى المفعول به كما يقال بينهما مسيرة يوم اى مسيرة فى يوم اى لهم ان ينتظروا فى هذه المدة من غير مطالبة بفىء او طلاق. والايلاء من الزوجة ان يقول الرجل واللّه لا اقربك اربعة اشهر فصاعدا على التقييد بالاشهر او لا اقربك على الاطلاق ولو حلف على ان لا يطأها اقل من اربعة اشهر لا يكون مؤليا بل هو حالف اذا وطئها قبل مضى تلك المدة يجب عليه كفارة يمين على الاصح. وللايلاء حكمان حكم الحنث وحكم البر. فحكم الحنث وجوب الكفارة بالوطئ فى مدة الايلاء ان كان اليمين باللّه ولزوم الجزاء من نحو الطلاق او العتاق او النذر المسمى ان كان القسم بذلك وحكم البر وقوع طلقة بائنة عند مضى مدة الايلاء وهى اربعة اشهر ان كانت المنكوحة حرة وان كانت المنكوحة امة الغير تبين بمضى شهرين قال قتادة كان الايلاء طلاقا لاهل الجاهلية وقال سعيد بن المسيب كان ذلك من ضرار اهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب ان يتزوجها غيره فيحلف ان لا يقربها ابدا فيتركها لا ايما ولا ذات بعل وكانوا فى ابتداء الاسلام يفعلون ذلك ايضا فازال اللّه ذلك الضرر عنهن وضرب للزوج مدة يتروى فيها ويتأمل فان رأى المصلحة فى ترك هذه المضارة فعله وان رأى المصلحة فى المفارقة فارقها { فان فاؤوا } اى ان رجعوا عما حلفوا عليه من ترك الجماع { فان اللّه غفور رحيم } يغفر للمولى بفيئته التى هى كتوبته اثم حنثه عند تكفيره او ما قصد بالايلاء من ضرار المرأة ٢٢٧ { وان عزموا الطلاق } اصل العزم او العزيمة عقد القلب على امضاء شىء تريد فعله اى حققوه واكدوه بان ثبتوا فى المدة على ترك القربان حتى مضت المدة { فان اللّه سميع } لطلاقهم { عليم } بغرضهم فيه والاشارة فى تحقيق الآيتين ان يعلم العبد ان اللّه لا يضيع حق احد من عباده لا على نفسه ولا على غيره فلما تقاصر لسان الزوجة لكونها اسيرة فى يد الزوج فاللّه تعالى تولى الامر بمراعاة حقها فامر الزوج بالرجوع اليها او تسريحها فاذا كان حق صحبة الاشكال محفوظا عليك حتى لو اخللت به اخذك بحكمه فحق الحق احق بان يجب مراعاته وفى تعيين تربص اربعة اشهر فى الفيىء اشارة عجيبة وهى انها مدة تعلق الروح بالجنين كما قال عليه السلام ( ان احدكم يجمع خلقه ) اى يحرز ويقر مادة خلقه ( فى بطن امه ) اى فى رحمها من قبيل ذكر الكل وارادة الجزء ( اربعين يوما ) وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه ان النطفة اذا وقعت فى الرحم فاراد اللّه ان يخلق منها تنشر فى بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة فتمكث اربعين ليلة ثم تنزل دما فى الرحم فذاك جمعها ( ثم تكون علقة ) وهى قطعة دم غليظ جامد ( مثل ذلك ) اربعين يوما ( ثم تكون مضغة ) وهى قطعة لحم قدر ما تمضغ ( مثل ذلك ثم يرسل اللّه اليه الملك فينفخ فيه الروح ) وهذا يدل على ان التصوير يكون فى الاربعين الثالثة ( ويؤمر باربع كلمات ) يعنى يؤمر الملك بكتابة اربع قضاها وهو معطوف على قوله تكون علقة لان الكتابة فى الاربعين الثانية ( يكتب رزقه ) روى على صيغة المجهول والمعلوم ( واجله ) وهو يطلق على مدة الحياة كلها وهو المراد هنا وعلى منتهاها ومنه قوله تعالى { فاذا جاء اجلهم } وعمله وشقى وهو من وجبت له النار او سعيد وهو من وجبت له الجنة قدم ذكر الشقى لانه اكثر الناس كذا قال القاضى المراد بكتبه هذه الاشياء اظهارها للملك ولا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك. فاذا تمهد هذا فمن وقع له من اهل القصد وقفة او فترة فى اثناء السلوك من ملالة النفس او نفرة الطبع فعلى الشيخ وعلى الاصحاب ان لا يفارقوه فى الحقيقة وان يتعاونوا بالهمم العلية لاستجلابه ويتربصوا اربعة اشهر الرجوع فان فاء الى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة واستغفر مما جرى منه ونفخ فيه روح الارادة مرة اخرى اقبلوا عليه وعفوا عما لديه فان هذا ربيع لا يرعاه الا المهزولون وربع لا يسكنه الا المعزولون ومنهل لا يرده الا اللاهون وباب لا يقرعه الا الماكثون بل هذا شراب لا يذوقه الا العارفون وغناء لا يطرب عليه الا العاشقون وان عزموا بعد مضى اربعة اشهر طلاق منكوحة المواصلة واصروا على ذنب المفارقة فلهم التمسك بعروة هذا فراق بينى وبينك فان اللّه سميع بمقالتهم عليم بحالتهم : قال السعدى قدس سره نه مارا درميان عد و وفا بود ... جفا كردى وبد عهدى نمودى هنوزت كرسر صلحست بازآى ... كزان محبوبتر باشى كه بودى قال اوحد المشايخ فى وقته ابو عبد اللّه الشيرازى رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى المنام وهو يقول من عرف طريقا الى اللّه فسلكه ثم رجع عنه عذبه اللّه بعذاب لم يعذب به احدا من العالمين كذا فى لواقح الانوار القدسية فى مناقب العلماء والصوفية ٢٢٨ { والمطلقات } المراد بها ذوات الاقراء من الحرائر المدخول بهن لانه لا عدة على غير المدخول بها وان عدة من لا تحيض لصغر او كبر او حمل بالاشهر ووضع الحمل وان عدة الامة قرءان او شهران واصل التطليق رفع القيد اى المخليات من حبال ازواجهن { يتربصن } خبر فى معنى الامر اى ليتربصن وينتظرن { بانفسهن } الباء للتعدية اى يحملن انفسهن على التربص ويجعلنها متربصة { ثلثة قروء } نصب على الظرفية اى مدة ثلاثة قروء فلا تتزوجن الى انقضائها. والقروء جمع قرء وهو من الاضداد فى كلام العرب يقع على الطهر والحيض والمشهور انه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعا. ذهب ابو حنيفة واصحابه الى ان القروء هى الحيض لان اللّه تعالى جعل الاعتداد بالاشهر بدلا من الاعتداد بالقرء كما قال { واللائى يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلثة اشهر } فلما شرع ذلك عند ارتفاع الحيض دل على ان الاصل كان هو الحيض وتمسك الشافعى بقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } على ان المراد بالقروء الاطهار لان اللام فى لعدتهن للوقت ووقت العدة لا يجوز ان يكون وقت الحيض لانه تعالى امر بالطلاق والطلاق فى وقت الحيض منهى عنه. وجوابه ان معناه فطلقوهن مستقلات لعدتهن وهى الحيض الثلاث فالطلاق يقع ثم تأخذ المرأة وتشرع فى العدة وليس معنى الآية ان الطلاق واقع فى العدة وفائدة الخلاف بين الشافعى وابى حنيفة ان مدة العدة عند الشافعى اقصر وعند ابى حنيفة اطول حتى لو طلقها فى حال الطهر يحسب بقية الطهر قرأ وان حاضت عقيبه فى الحال فاذا شرعت فى الحيضة الثالثة انقضت عدتها وعند ابى حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ان كان الطلاق فى حال الطهر او من الحيضة الرابعة ان كان الطلاق فى حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها { ولا يحل لهن ان يكتمن } اى يخفين { ما خلق اللّه فى ارحامهن } من الحبل والحيض بان تقول المرأة لست بحامل او لست بحائض وهى حائض لتبطيل حق الزوج من الولد والرجعة وذلك اذا ارادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها ان تضع وربما اسقطت الحمل خوفا ان يعود ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها او كتمت حيضها استعاجلا للطلاق لان الطلاق السنى انما يكون فى الطهر. وفيه دليل على قبول قولهن فى ذلك نفيا واثباتا { ان كن يؤمن باللّه واليوم الآخر } اى فلا يجترئن على ذلك فان قضية الايمان باللّه واليوم الآخر الذى يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعا. وفيه تهديد شديد على النساء وليس المراد ان ذلك النهى مشروط بكونها مؤمنة لان المؤمنة والكافرة فى هذا الحكم سواء { وبعولتهن } جمع بعل والبعلة المرأة واصل البعل السيد والمالك سمى الزوج بعلا لقيامه بامر زوجته كانه مالك لها ورب والتاء فى البعولة لتأنيث الجمع فان الجمع لكونه بمعنى الجماعة فى حكم المؤنث والتاء زائدة لتأكيد التأنيث ودلت تسمية الزوج بعلا بعد طلاقها الصريح على ان النكاح قائم والحل ثابت والضمير لبعض افراد المطلقات لان هن عام شامل للمطلقة بالطلاق الرجعى والبائن ولا حق لازواج البوائن فى النكاح والرجعة { احق بردهن } الى النكاح والرجعة اليهن { فى ذلك } اى فى زمان التربص فان حق الرجعة انما يثبت للزوج ما دامت فى العده واذا انقضى وقت العدة بطل حق الرد والرجعة. وافعل هنا بمعنى الفاعل والمعنى ان ازواجهن حقيقون بردهن اذ لا معنى للتفضيل هنا فان غير الازواج لا حق لهم فيهن البتة ولا حق ايضا للنساء فى ذلك حتى لو ابت من الرجعة لم يعتد بذلك { ان ارادوا } اى الازواج بالرجعة { اصلاحا } لما بينهم وبينهن واحسانا اليهن ولم يريدوا مضارتهن كما كانوا يفعلونه فى الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فاذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها وليس المراد به شرطية قصد الاصلاح بصحة فان الرجعة صحيحة وان راجعها مضارا بها بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار ثم انه تعالى لما بين ان المقصود من الرجعة اصلاح حالها لا ايصال الضرر اليها بين ان لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر فقال { ولهن } عليهم من الحقوق { مثل الذى } لهم { عليهن بالمعروف } قوله بالمعروف متعلق بما تعلق به لهن من الاستقرار اى استقر لهن بالمعروف اى بالوجه الذى لا ينكر فى الشرع وعادات الناس فلا يكلفهن ما ليس لهم ولا يعنف احد الزوجين صاحبه ووجه المماثلة بين الحقين هو الوجوب واستحقاق المطالبة لا الاتحاد فى جنس الحقوق مثلا اذا استحقت المرأة على الزوج المهر والنفقة والمسكن لا يستحق هو عليها ايضا جنس هذه الحقوق { وللرجال عليهن درجة } اى زيادة فى الحق وفضل فيه وفضل الرجل على المرأة فى العقل والدين وما يتفرع عليهما مما لا شك فيه وفضله المناسب بهذا المقام امران. الاول كون ما يستحق هو عليها افضل وازيد مما تستحق هى عليه فانه مالك لها مستحق لنفسها لا تصوم تطوعا الا باذنه ولا تخرج من بيتها الا باذنه وقادر على الطلاق فاذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة او ابت. واما المرأة فلا تملك شيأ من هذه الامرو وانما حقها فيه المهر والكفاف وترك الضرار. والثانى ما اشار اليه الزجاج بقوله معناه ان المرأة تنال من الرجل من اللذات المتفرعة على النكاح مثل ما ينال الرجل منها وله الفضية عليها بنفقته والقيام عليها فالفضيلة على هذا فضيلة ما التزمه فى حقها مما يتعلق بالرحمة والاحسان كالتزام المهر والنفقة والمسكن والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات عن ابى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لو كنت آمرا لاحد ان يسجد لاحد غير اللّه لامرت المرأة ان تسجد لزوجها ) لما عظم اللّه من حقه عليها قال تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل اللّه بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم } فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوبا لهذه الحقوق الزائدة { واللّه عزيز } يقدر على الانتقام ممن يخالف احكامه { حكيم } تنطوى شرائعه على الحكم والمصالح واعلم ان مقاصد الزوجية لا تتم الا اذا كان كل واحد من الزوجين مراعيا حق الآخر مصلحا لاحواله مثل طلب النسل وتربية الولد ومعاشرة كل واحد منهما الآخر بالمعروف وحفظ المنزل وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت ايديهما الى غير ذلك مما يستحسن شرعا ويليق عادة وفى الحديث ( جهاد المرأة حسن التبعل ) يقال امرأة حسنة التبعل اذا كانت تحسن عشرة زوجها والقيام بما عليها فى بيت الزوج وفى الحديث ( ايما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة ) كما فى رياض الصالحين. ومن الحقوق التزين قال ابن عباس رضى اللّه عنهما انى لا اتزين لامرأتى كما تتزين لقوله تعالى { ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف } ويقال ان المرأة مثل الحمامة اذا انبت لها جناح طارت كذا الرجل اذا زين امرأته بالثياب فلا تجلس بالبيت. وقال رجل ما دخل دارى شر قط فقال حكيم ومن اين دخلت امرأتك : قال السعدى قدس سره دلارام باشد زن نيك خواه ... ولى اززن بد خدايا بناه وقال بعضهم عصمت زن را بمقام جمال ... جلوه حرامست مكريا حلال حكى انه كان فى بنى اسرائيل رجل صالح وكان له امرأة يحبها حبا شديدا فبعث اللّه اليه ان يسأله ثلاث حوائج فقال لامرأته حوائجى كثيرة لا ادرى ما اعمل فقالت امرأته اسأل حاجة لى وحاجتين لك قال ما تريدين قالت اسأل ربك ان يصيرنى فى صورة ما كانت صورة احسن منها واجمل فسأل ربه فاضاء البيت من حسنها وجمالها فقامت لتخرج من بيتها فقال زوجها الى اين تذهبين قالت الى بعض السلاطين انا لا اضيع حسنى وجمالى بمثلك ومنع الزوج خروجها ثم بلغ الخبر الى بعض السلاطين فجاء اعوانه واخذوها من زوجها جبرا فقال الرجل اللّهم بقى لى عندك حاجتان اجعلها قردة فمسخها اللّه تعالى قردة فردها الملك من عنده فجاءت الى زوجها ثم قال الرجل اللّهم ردها كما كانت اولا فذهبت الحوائج كلها عبثا لاهى افلحت ولا هو والاشارة ان المطلقات لما امرن بالعدة وفاء لحق الصحبة وان كان الانقطاع من الزوج لا من الزوجة امرن ان لا يقين غير مقامه بالسرعة ويصبرون حتى يمضى مقدار من المدة الى آخر العدة وكلها دلالات على وفاء الربوبية فى رعاية العبودية فان اللّه تعالى من كمال كرمه يرخى زمام الفضل بالاصطناع وان كان من العبد الفصل والانقطاع ويمهل العبد الى انقضاء عدة الجفاء ولا يعرض عنه سريعا لاقامة شرط الوفاء لعل العبد فى مدة العدة يتنبه من نوم الغفلة وتتحرك داعيته فى ضمير قلبه من نتائج محبة ربه وان ابتلاه بمحنة الفرقة فيقرع باصبع الندامة باب التوبة ويقوم على قدم الغرامة فى طلب الرجعة والاوبة فيقال من كمال الفضل والنوال يا قارع الباب دع نفسك وتعال من طلب منا فلاحا فليلزم عتبتنا مساء وصباحا ٢٢٩ { الطلاق } اى التطليق الرجعى المتقدم ذكره الذى قال تعالى فيه { وبعولتهن احق بردهن } { مرتان } اى دفعتان وذلك لا يكون الا على سبيل التفريق فان من اعطى الى آخر درهمين لم يجز أن يقال اعطاه مرتين حتى يعطيه اياهما دفعتين فالجمع بين الطلقتين والثلاث فى الايقاع حرام عند ابى حنيفة رحمه اللّه الا انه سنى الوقوع لا سنى الايقاع فالطلاق الذى يثبت فيه للزوج حق الرجعة البتة ولا تحل له المرأة الا بعد زوج آخر ثم قوله { الطلاق مرتان } وان كان ظاهره الخبر فان معناه الامر لان حمله على ظاهره يؤدى الى وقوع الخلف فى خبر اللّه تعالى لانه قد يوجد ايقاع الطلاق على وجه الجمع ولا يجوز الخلف فى خبر اللّه فكان المراد منه الامر كأنه قيل طلقوهن مرتين اى دفعتين { فامساك } اى فالحكم بعد هاتين الطلقتين امساك لهن { بمعروف } وهو ان يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الاصلاح وحسن المعاشرة { او تسريح } اى تخلية { باحسان } بان يترك المراجعة حين تبين بانقضاء العدة. ومعنى الاحسان فى التسريح انه اذا تركها ادى اليها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها وجملة الحكم فى هذ الباب ان الحر اذا طلق زوجته طلقة او طلقتين بعد الدخول بها يجوز له ان يراجعها من غير رضاها ما دامت فى العدة وان لم يراجعها حتى تنقضى عدتها او طلقها قبل الدخول بها او خالعها فلا تحل له الا بنكاح جديد باذنها واذن وليها فان طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تنكح زوجا غيره واما العبد اذا كانت تحته امة فطلقها طلقتين فانها لا تحل له الا بعد نكاح زوج آخر والاعتبار بالمرأة فى عدد الطلاق عند ابى حنيفة رحمه اللّه فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الامة الا طلقتين { ولا يحل لكم } روى ان جميلة بنت عبد اللّه بن ابى بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فاتت رسول اللّه عليه السلام وقالت فى الاسلام ما اطيقه بعضا انى رفعت جانب الخباء فرأيته اقبل فى عدة فاذا هو اشدهم سوادا واقصرهم قامة واقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة اصدقها اى سماها ثابت صداقا لها يعنى لما قالت جميلة ما قالت قال ثابت يا رسول اللّه مرها فلترد على الحديقة التى اعطيتها فقال عليه السلام لها ( ما تقولين ) قالت نعم وازيده فقال عليه السلام ( لا حديقته فقط ) ثم قال لثابت ( خذ منها ما اعطيتها وخل سبيلها ) ففعل وكان ذلك اول خلع فى الاسلام. والخطاب فى لكم مع الاحكام ليطابق قوله تعالى { فان خفتم } فانه خطاب مع الحكام والحكام وان لم يكونوا آخذين ومؤتين حقيقة الا انهم هم الذين يأمرون بالاخذ والايتاء عند الترافع اليهم فكأنهم هم الذين يأخذون ويؤتون { ان تأخذوا مما آتيتموهن } اى تأخذوا منهن بمقابلة الطلاق ما اعطيتموهن من المهور { شيأ } اى نزرا يسيرا فضلا عن استرداد الكثير { الا ان يخافا } اى الزوجان { ألا يقيما حدود اللّه } اى ان لا يراعيا مواجب الزوجية. قوله { الا ان يخافا } استثناء مفرغ وان يخافا محله النصب على انه مفعول من اجله مستثنى من العام المحذوف تقديره ولا يحل لكم ان تأخذوا بسبب من الاسباب شيأ الا بسبب خوف عدم اقامة حدود اللّه { فان خفتم } ايها الحكام { ألا يقيما حدود اللّه } اى الحقوق التى اثبتها النكاح وذلك بمشاهدة بعض الامارات والمخايل { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } اى فيما اعطته المرأة من بدل الخلع لا على الزوج فى اخذ ما فدت به نفسها ولا عليها فى اعطائه اياه هذا اذا كان النشوز من قبل المرأة لانها ممنوعة عن اتلاف المال بغير حق اما اذا كان النشوز من قبل الزوج فلا يحل له ان يأخذ شيأ مما آتاها لقوله تعالى { فلا تأخذوا منه شيأ } ولا يضيق عليها ليلجئها الى الافتدء فان ذلك منهى عنه قال تعالى فى سورة النساء { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وعموم قوله تعالى { فيما افتدت به } يشعر بجواز المخالعة على قدر المقبوض من الزوج وعلى الازيد والاقل وعليه جمهور الفقهاء ثم ان ظاهر الآية انه لا يباح الخلع الا عند الغضب والخوف وجمهور المجتهدين على جوازه فى حالة الخوف وفى غير حالة الخوف فلا بد حينئذ ان يجعل قوله { الا ان يخافا } استثناء منقطعا كما فى قوله تعالى { وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا الا خطأ } اى لكن ان قتل خطأ فدية مسلمة الى اهله قال البغوى ويجوز الخلع فى غير حال النشوز غير انه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان من ابغض الحلال الى اللّه الطلاق ) { تلك } اى الاحكام المذكورة { حدود اللّه } اوامره ونواهيه { فلا تعتدوها } اى لا تتجاوزوا عنها بالمخالفة والرفض { ومن يتعد حدود اللّه فاولئك } المتعدون { هم الظالمون } اى لانفسهم بتعريضها لسخط اللّه وعقابه اعلم ان المرأة اذا برئت من مواقع الخلل واتصفت بالعفة فعلى الزوج ان يعاشرها بالمعروف ويصبر على سائر اوضاعها وسوء خلقها ويتأدب بآداب النبى صلى اللّه عليه وسلم وكان عليه السلام يحسن المعاشرة مع ازواجه المطهرة فحسن معاشرتهن والصبر عليهن مما يحسن الاخلاق فلا جرم يعد الصابر من المجاهدين فى سبيل اللّه روى ان بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته الى ان ماتت وعرض عليه التزويج فامتنع وقال الوحدة اروح لقلبى قال فرأيت فى المنام بعد جمعة من وفاتها كأن ابواب السماء قد فتحت وكأن رجالا ينزلون ويسيرون فى الهواء يتبع بعضهم بعضا فكلما نظر الى واحد منهم يقول لمن وراءه هذا هو المشئوم فيقول الآخر نعم ويقول الثالث كذلك فخفت ان اسألهم الى ان مر بى آخرهم فقلت له من هذا المشئوم قال انت قلت ولم قال كنا نرفع عملك مع اعمال المجاهدين فى سبيل اللّه تعالى فمنذ جمعة امرنا ان نضع عملك مع المخالفين فلا ندرى ما احدثت فقال لاخوانه زوجونى فلم يكن يفارقه زوجتان او ثلاث : قال الكاشفى مردى كمان مبركه بزورست وبردلى ... بانفس اكر جهاد كنى مرد كاملى ولا يتيسر هذا الا لواحد بعد واحد كما قيل وللحروب رجال وان انت تريد الطلاق فطلق نفسك : كما قيل هركه زن نفس شوم را داد طلاق ... جفتش نبود بزير اين نيلى طاق از مزبله نفس قدم بيرون نه ... تاروحت كند تسم وصل استنشاق وما دام عجوز نفسك تشوش باطنك وتخرب بيت قلبك فالعروس التى هى تجلى الروح لا تتراءى من وراء نقاب السر ولا تجيىء بيت مشاهدتك رحم اللّه امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره والاشارة فى الآية ان اهل الصحبة لا يفارقون بجريمة واحدة صدرت من الرفيق الشفيق والصديق الصدوق ولا بجريمتين بل يتجاوزون مرة او مرتين. وفى الثالثة { فامساك بمعروف او تسريح باحسان } اما صحبة جميلة او فرقة جميلة كما تجاوز الخضر عن موسى عليهما السلام مرتين وفى الثالثة قال { هذا فراق بينى وبينك } واما الصحبة من غير تعظيم وحرمة وذهاب لذة العمر بالاخلاق الذميمة واضاعة الوقت فى تحصيل المقت فغير مرضية فى الطريقة ولا محمودة فى الشريعة بل قاطعة طريقة الحق وليس لاهل الصحبة اذا اتفقت المفارقة ان يستردوا خواطرهم من الرفقاء بالكلية ويقطعوا رحم الاخوة فى الدين ويأخذوا منهم قلوبهم بعدما آتوهم الهمم العلية فان العائد فى هبته كالعائد فى قيئه { الا ان يخافا الا يقيما حدود اللّه } فى رعاية حقوق الصحبة { فان خفتم ان لا يقيما حدود اللّه } بان تؤدى الى مداهنة او اهمال فى حق حقوق الدين { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } من الحظوظ لرعاية الحقوق { تلك حدود اللّه } من الحظوظ والحقوق { فلا تعتدوها } بترك الحقوق لنيل الحظوظ كذا فى التأويلات النجمية قدس اللّه تعالى نفسه الزاكية القدسية ٢٣٠ { فان طلقها } اى بعد الطلقتين السابقتين { فلا تحل } تلك المرأة { له } لزوجها { من بعد } اى من بعد الطلقة الثالثة لا بطريق الرجعة ولا بتجديد العقد { حتى تنكح } زوجا فسماه باسم العاقبة والنكاح هنا العقد دون الوطئ وبه اخذ سعيد بن المسيب واللفظ يشهد له لا يقال حتى تطأ المرأة الزوج فان المرأة موطوءة لا واطئة فالآية وان كانت مطلقة لانها انما تدل على ان عدم حلها له يمتد الى ان تتزوج بزوج آخر وينعقد بينهما عقد النكاح من غير تقييد ذلك العقد بكونه مؤديا الى جماع الزوج الثانى لكنها مقيدة بالسنة فالاجماع على اشتراط الاصابة لما روى ان امرأة رفاعة جاءت النبى عليه الصلاة والسلام فقالت ان رفاعة طلقنى فبت طلاقى اى قطعه حيث طلقنى ثلاثا وان عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى وان ما معه اى ذكره ليس باغنى عنى من هذه اى الهدبة واخذت من جلبابها فتبسم رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وقال ( أتريدين ان ترجعى الى رفاعة ) قالت نعم فقال ( لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك ) والمراد بالعسيلة الجماع شبه لذة الجماع بالعسل { فان طلقها } اى الزوج الثانى بعد الدخول بها { فلا جناح عليهما } اى لا اثم على الزوج الاول والمرأة { ان يتراجعا } اى يرجع كل منهما الى صاحبه بعقد جديد { ان ظنا ان يقيما حدود اللّه } اى ان كان فى ظنهما انهما يقيمان حدود اللّه اى ما حده اللّه وشرعه من حقوق الزوجية ولم يقل ان علما لان العواقب غير معلومة والانسان لا يعلم ما فى الغد وانما يظن ظنا { وتلك } اشارة الى الاحكام المذكورة الى هنا { حدود اللّه } اى احكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة { يبينها } بهذا البيان { لقوم يعلمون } اى يفهمون ويعملون بمقتضى العلم وتخصيصم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما انهم المنتفعون بالبيان والجاهل اذا بين له لا يحفظ ولا يتعاهد نكته كفتن بيش كزفهمان زحكمت بيكمان ... جوهرى جند از جواهر ريختن ييش خرست ثم ان الحكمة فى اشتراط اصابة الزوج الثانى فى التحليل وعدم كفاية مجرد العقد فيه الردع عن المسارعة الى الطلاق فان الغالب ان يستنكر الزوج ان يستفرش زوجته رجل آخر وهذا الردع انما يحصل بتوقف احل على الدخول واما مجرد العقد فليس منه زيادة نفرة وتهييج غيرة فلا يصلح توقف الحل عليه رادعا وزاجرا عن التسرع الى الطلاق والنكاح المعقود بشرط التحليل وهو ان يشترط فى النكاح ان يقتصر على قدر التحليل ولا يستديم زوجيتها فاسد عند الاكثر وجائز عند ابى حنيفة مع الكراهة وعنه انهما ان اضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة وفى شرح الزيلعى لو خافت المرأة المطلقة ثلاثا ان لا يطلقها المحلل فقالت زوجتك نفسى على ان امرى بيدى اطلق نفسى كلما اردت فقبل جاز النكاح وصار الامر بيدها وفيه ايضا ومن لطائف الحيل فيه ان تزوج المطلقة من عبد صغير تتحرك آلته ثم تملكه بسبب من الاسباب بعدما وطئها فيفسخ النكاح بينهما قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( لعن اللّه المحلل والمحلل له ) المحلل بكسر اللام والمراد به الزوج الثانى والمحلل له بفتح اللام والمراد به الزوج الاول فان قلت ما معنى لعنهما قلت معنى اللعن على المحلل لانه نكح على قصد الفراق والنكاح شرع للدوان وصار كالتيس المستعار والتيس هو الذكر من الغنم وقد يستعيره الناس لاستيلاد الغنم واللعن على المحلل له لانه صار سببا لمثل هذا النكاح والمتسبب شريك المباشر فى الاثم والثواب. او المراد من اللعن اظهار خساستهما اما خساسة المحلل فلمباشرته مثل هذا النكاح بدليل قوله عليه السلام ( الا أنبئكم بالتيس المستعار ) واما خساسة المحلل له فلمباشرة ما ينفر عنه الطبع السليم من عودها اليه بعد مضاجعة غيره اياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن اذ هو لا يليق بمنصب الرسالة فى حق الامة لانه عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعانا والاشارة فى الآية ان اهل الصحبة لما تجاوزوا عن زلة الاخوان مرة ومرتين ثم فى الثالثة ان سلكوا طريق الهجران وخرجوا عن مصاحبة الاخوان فلا يحل للاخوان ان يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقا مثله فان ندم بعد ذلك على افعاله وسئم من ذلك الصديق وامثاله وترك صحبته وخرج عن خصاله ورجع الى صحبة اخوانه واشكاله { فلا جناح عليهما ان يتراجعا ان ظنا ان يقيما } شرائط العبودية والصحبة فى اللّه وتلك طرق قربات اللّه والسائرين الى اللّه يبينها بالتصريح والتعريض والعبارات والاشارات { لقوم يعلمون } المعاريض ويفهمون الاشارات كذا فى التأويلات النجمية قال احمد بن حضرويه الطريق واضح والدليل لائح والداعى قد اسمع فما التحير بعد هذا الا من العمى : قال الحافظ وصف رخساره خورشيد زخفاش مبرس ... كه درين آينه صاحب نظران حيرانند ٢٣١ { واذا طلقتم النساء } اى نساءكم { فبلغن اجلهن } اى آخر عدتهن وشارفن منتهاها ولم يرد حقيقة انقضاء العدة لان العدة اذا انقضت لم يكن للزوج امساكها بالمعروف نزلت فى رجل من الانصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى اذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها { فامسكوهن بمعروف } اى راجعوهن من غير طلب اضرار لهن بالرجعة. والمعروف ما الفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة والمراد به هنا حسن المعاشر { او سرحوهن بمعروف } او خلوهن حتى تنقضى عدتهن من غير تطويل { ولا تمسكوهن ضرارا } اى ولا تراجعوهن ارادة الاضرار بهن بتطويل العدة والحبس على ان يكون انتصاب ضرارا على العلة او مضارين على الحال فان قلت لا فرق بين قوله { امسكوهن بمعروف } وبين قوله { لا تمسكوهن ضرارا } لان الامر بالشىء نهى عن ضده فما الفائدة فى التكرار قلت ان الامر لا يفيد التكرار ولا يدل على كون امتثال المأمور به مطلوبا فى كل الاوقات فدل لا تمسكوهن على المبالغة فى التوصية بالامساك بالمعروف لدلالته على ان الامساك المذكور مطلوب منه فى جميع الاوقات { لتعتدوا } متعلق بضرار اذ المراد تقييده اى لتظلموهن بالالجاء الى الافتداء { ومن يفعل ذلك } اى ما ذكر من الامساك المؤدى الى الظلم { فقد ظلم نفسه } فى ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب { ولا تتخذوا آيات اللّه } المنطوية على الاحكام المذكورة او جميع آياته وهى داخلة فيها دخولا اوليا { هزوا } اى مهزوا بها بالاعراض عنها والتهاون فى العمل بما فيها والنهى كناية عن الامر بضده لان المخاطبين مؤمنون ليس من شأنهم الهزؤ بآيات اللّه اى جدوا فى الاخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها : قال الحكيم السنانى قدس سره دانشت هست وكاربستن كو ... خنجرت هست وصف شكستن كو ولما رغبهم فى رعاية التكاليف والعمل بها بالتهديد على التهاون بها اكد ذلك الامر بذكر نعم اللّه عليهم بان يشكروها ويقوموا بحقوقها فقال { واذكروا نعمت اللّه } كائنة { عليكم } حيث هداكم الى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية اى قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها وقيل واذكروا انعام اللّه عليكم بان خلقكم رجالا وجعل لكم ازواجا تسكنون اليها وجعل النكاح والطلاق والرجعة بايديكم ولم يضيق عليكم كما ضيق على الاولين حين احل لهم امرأة واحدة ولم يجوز لهم بعد موت المرأة نكاح اخرى { وما انزل عليكم } عطف على نعمة اللّه اى وما انزله اللّه عليكم { من الكتاب والحكمة } اى القرآن والسنة افردهما بالذكر اظهارا لشرفهما { يعظكم به } اى بما انزل عليكم حال من فاعل انزل وهو ضمير انزل اى اذكروا نعمة اللّه وما انزله عليكم واعظا به لكم ومخوفا { واتقوا اللّه } فى شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة { واعلموا ان اللّه بكل شىء عليم } فلا يخفى عليه شىء مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بافانين العذاب والاشارة فى الآية ان الاذية والمضارة ليست من الاسلام ولا من آثار الايمان ولا من شعار المسلمين عموما كما قال عليه السلام ( المؤمن من امنه الناس ) وقال ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ويتضمن حسن المعاشرة مع الخلق جميعا. فاما الزوجان ففيهما خصوصية بالامر بحسن المعاشرة معهن وترك اذيتهن والمغايظة معهن على وجه اللجاج فاما تخلية سبيل من غير جفاء او قيام بحق الصحبة على شرائط الوفاء بلا اعتداء { ومن يفعل ذلك } اى من الاذية والمضارة والاعتداء بالجفاء { فقد ظلم نفسه } لان اللّه تعالى يجازى الظالم والمظلوم يوم القيامة بان يكافىء المظلوم من حسنات الظالم ويجازى الظالم من سيآت المظلوم والظالم اذا اساء الى غيره صارت نفسه مسيئة واذا احسن صارت نفسه محسنة فترجع اساءة الظالم الى نفسه لا الى نفس غيره حقيقة فانه ظلم نفسه لا غيره ولهذا قال تعالى { ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اسأتم فلها } قال السعدى قدس سره مكن تا توانى دل خلق ريش ... وكر ميكنى ميكنى بيخ خويش { ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا } اى بتلاوة ظاهرها من غير تدبر معانيها وتفهم اشاراتها وتحقق اسرارها وتتبع حقائقها والتنور بانوارها والاتعاظ بمواعظها وحكمها يقال ان الوعظ كالشاهين فانما يقع على الحى لا على الميت فمن مات قلبه ونعوذ باللّه من ذلك لم يتأثر بالمواعظ قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( انتم اليوم على بينة من ربكم ) يعنى على بيان قد بين لكم طريقكم ( ما لم تظهر فيكم السكرتان سكرة العيش وسكرة الجهل ) روى انه ضلت راحلة الحسن البصرى فى طريق الحج فلقيه صبى فسأله فعرفها فلما وجد الراحلة سأله الصبى يا شيخ ما تأكل وما تلبس قال آكل خبز الشعير والبس الصوف لاكسر شهوتى بهما قال الصبى كل ما شئت والبس كذلك بعد ان يكونا حلالين قال واين تبيت قال فى الخص وهو بيت من القصب قال لا تظلم وبت حيث شئت فقال الحسن لولا صباك لكسبت منك ما تكلمت به فتبسم الصبى وقال اراك غافلا اخبرتك بالدنيا فقبلت واخبرتك بالدين فتأنف من كلامى ارجع الى منزلك فلا حج لك : قال السعدى قدس سره مرد بايد كه كيرد اندر كوش ... ور نوشته است يند بر ديوار ٢٣٢ { واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن } اى استوفين عدتهن فالبلوغ هنا عبارة عن حقيقة الانتهاء لان المذكور بعده النكاح ولا يكون ذلك الا بعد الانقضاء العدة { فلا تعضلوهن } العضل المنع والحبس والتضييق. والمخاطب بالخطاب الاول هو الازواج. وبالثانى هو الاولياء لما روى ان الآية نزلت فى معقل ابن يسار حين منع اخته جميلة ان ترجع الى زوجها الاول البداح عبيد اللّه بن عاصم فانه جاء يخطبها بعد انقضاء العدة وارادت المرأة الرجوع فلما سمع مقل الآية قال ارغم انفى وازوج اختى واطيع ربى فالمعنى اذا طلقتم النساء ايها الازواج فلا تعضلوهن ايها الاولياء وهذا وان كان مما لا يخفى ركاكته الا ان جملة الخلائق من حيث حضورهم فى علمه تعالى لما كانت بمثابة جماعة واحدة صح توجيه احد الخطابين الواقعين فى كلام واحد الى بعض وتوجيه الخطاب الآخر الى البعض الآخر ولعل التعريض لبلوغ الاجل مع جواز تزوج الاول قبله ايضا لدفع العضل المذكور حينئذ وليس فيه دلالة على ان ليس للمرأة ان تزوج نفسها والا لاحتيج الى نهى الاولياء عن العضل لما ان النهى لدفع الضرر عنهن فانهن وان قدرن على تزويج انفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة. وقيل الخطابان للازواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن من شئن من الازواج ظلما وقسرا واتباعا لحمية الجاهلية { ان ينكحن } اى لا تمنعوهن من ان يتزوجن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن { ازواجهن } ان اريد بهم المطلقون فالزوجية اما باعتبار ما كان واما باعتبار ما يكون والا فبالاعتبار الاخير على معنى ان ينكحن انفسهن ممن شئن ان يكونوا ازواجا لهن { اذا تراضوا } اى الخطاب والنساء ظرف لقوله ان ينكحن اى ان ينكحن وقت التراضى { بينهم } ظرف للتراضى مفيد لرسوخه واستحكامه { بالمعروف } حال من فاعل تراضوا اى اذا تراضوا ملتبسين بالمعروف من العقد الصحيح والمهر الجائز والتزام حسن المعاشرة وشهود عدول. والمعروف ما يعرف الشرع وتستحسنه المروءة وفيه اشعار بان المنع من التزوج بغير كفؤ وبما دون مهر المثل ليس من باب العضل { ذلك } اشارة الى ما مضى ذكره اى الامر الذى تلى عليكم من ترك العضل ايها الاولياء او الازواج وتوحيد كاف الخطاب مع كون المخاطب جمعا اما على تأويل القبيل او كل واحد او لكون الكاف لمجرد توجيه الكلام الى الحاضر مع قطع النظر عن كونه واحدا او جمعا { يوعظ به } اى ينهى ويؤمر به { من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر } لانه المتعظ به والمنتفع { ذلكم } اى الاتعاظ به والعمل بمقتضاه { ازكى لكم } انمى لكم وانفع من زكا الزرع اذا نما فيكون اشارة الى استحقاق الثواب { واطهر } من ادناس الآثام واوضار الذنوب والمفضل عليه محذوف للعلم اى من العضل { واللّه يعلم } ما فيه من النفع والصلاح والتفضيل { وانتم لا تعلمون } لقصور علمكم فان المكلف وان كان يعلم وجه الصلاح فى هذه التكاليف على سبيل الاجمال الا ان التفصيل غير معلوم له واما اللّه تعالى فانه العالم بتفاصيل الحكم فى كل ما امر به ونهى عنه وبينه لعباده فدعوا رأيكم وامتثلوا امره تعالى ونهيي فى كل ما تأتون وما تذرون وذلك كما ان الوالد يحمى ولده عن بعض الاطعمة صونا له عن انحراف مزاجه فذلك محض اصلاح له لما انه يعلم ما لا يعلمه فقد وعظنا اللّه فى الكتاب بكل ما هو خير وصواب ونهانا عن كل ما يؤدى الى هلاك وتباب ولكن سماع النصيحة لا يتيسر الا لاولى الالباب كما قال الامام الغزالى قدس سره العالى النصيحة سهل والمشكل قبولها لانها فى مذاق متبع الهوى مر اذ المناهى محبوبة فى قلوبهم فالواعظ انما ينفع المؤمن الحقيقى وهو ما وصفه اللّه فى كتابه فقال { انما المؤمنون الذين اذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه السعيد من وعظ بغيره ومثالكم فى استماعكم ما قيل ان رجلا اصطاد طيرا فقال له لا تذبحنى فأى فائدة لك بل خلنى واعلمك ثلاث حكم تنفعك كلها. الاولى لا تترك الفائدة المعلومة بالمظنونة. والثانية لا تصدق الشىء المستحيل. والثالثة لا تمدن يدك الى ما لم تبلغه فلما خلاه وطار قال ان فى حوصلتى جوهرة كبيرة لو استخرجتها لفزت فأخذ يدنو منه والطير يتباعد منه فقال يا احمق ما اسرع ما نسيت الحكم تركت الفائدة المعلومة بالمظنونة حيث خليتنى والآن تمد يدك الى ما لم تنل وصدقتنى فى المستحيل فان حوصلتى لا تسع الا حبة او حبتين فكيف يحتمل فيها الجوهرة الكبيرة فكذلك انتم فى استماعكم روى ان شقيق البلخى قدس سره كان تاجرا فى اول امره يتجر فى بلاد النصارى فقال له امير النصارى فى اى مدة تجئ وتذهب فقال اجئ فى ثلاثة اشهر واشترى السلع فى ثلاثة واذهب فى ثلاثة وابيع السلع فى ثلاثة فقال الملك فهذه الشهور السنة فما تعبد ربك فتأثر قلبه من هذا الكلام فقام عن التجارة واشتغل بالعبادة فان كان التوفيق رفيق عبد لا يزال يقطع المسافات وان مسه الآفات الى ان الى المقصود واذا وكل الى نفسه لا يفيده ملام ولا يؤثر فيه كلام. ومن النصائح التى نصح بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امته قوله عليه الصلاة والسلام ( علامة اعراض اللّه عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وان امرأ ذهبت ساعة من عمره فى غير ما خلق له لجدير ان تطول عليه حسرته ومن جاوز الاربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز الى النار ) وفى هذه النصيحة كفاية لاهل العلم : قال السعدى قدس سره بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... و كر هيج كس را نيايد بسند كه ردا بشيمان بر آرد خروش ... كه آوخ جراحق نكردم بكوش اللّهم اجعلنا من المتعظين بمواعظ كلمك ٢٣٣ { والوالدات } اى جميع الوالدات مطلقات كن او مزوجات لان اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه { يرضعن } خبر فى معنى الامر اى ليرضعن والرضع مص الثدى للبن { اولادهن } جمع ولد وهو المولود ذكرا كان او انثى ومعنى الامر الندب ووجه الندب ان تربية الطفل بلبن الام اصلح له من سائر الالبان وان شفقة الام اتم من شفقة غيرها ثم ان حكم الندب انما هو على تقدير ان لا يضطر الولد الى لبن امه اما اذا بلغ حالة الاضطرار بان لا يوجد غير الام او لا يرضع الطفل الا منها او عجز الوالد عن الاستئجار فحينئذ يجب عليها الارضاع عند ذلك كما يجب على كل احد مواساة المضطر فى الطعام واعلم ان حق الارضاع لهن الى ان يتزوجن بغير آباء الاولاد ان كانت مطلقات لانهن يشتغلن بخدمة الازواج فلا يتفرغن لحضانتهم على الوجه الاليق ولان الربيب يتضرر بالراب فانه ينظر اليه شزرا وينفق عليه نزرا { حولين } سنتين اصله من حال الشىء يحول اذا انقلب والحول منقلب من الوقت الاول الى الثانى { كاملين } تامين اكده بصفة الكمال لانه مما يتسامح فيه فيقال اقمت عند فلان حولين بمكان كذا وانما اقام فيه حولا وبعض الحول { لمن اراد ان يتم الرضاعة } بيان للذى توجه اليه حكم الارضاع كأنه قيل هذا الحكم لمن فقيل لمن اراد ان يتم الرضاعة ومن يحتمل ان يراد بها الوالدات فقط او هن والآباء معا واعلم ان مدة الرضاع عند ابى حنيفة حولان ونصف وعندهما حولان فقط استدلالا بهذه الآية ولا يباح ارضاع بعد هذا الوقت المخصوص على الخلاف لان اباحته ضرورية لانه جزء الآدمى فيتقدر بقدر الضرورة وقال ابو حنيفة هذه الآية محمولة على مدة استحقاق الاجرة فان الاجماع على ان مدت الرضاع فى استحقاق اجر الرضاع على الاب مقدرة بحولين حتى ان الاب لا يجبر على اعطاء اجرة بعد الحولين قال تعالى { فان ارادا فصالا عن تراض } الآية ولو حرم الرضاع بعد الحولين لم يكن لقوله { عن تراض منهما وتشاور } فائدة فالرضاع الذى ثبت به الحرمة هو ما يكون فى ثلاثين شهرا عنده ولا يحرم ما يكون بعدها وعندهما هو ما يكون فى الحولين ولا يحرم ما يكون بعد الحولين وهو مذهب الشافعى ايضا ثم ان اتمام الحولين غير مشروط عند ابى حنيفة للآية اى لان فى قوله تعالى { لمن اراد ان يتم الرضاعة } دلالة على جواز النقص ولو اردات التكميل لها مطالبة النققة واذا نقصت من غير اضرار لا تجبر على الكمال يعنى اذا فطم قبل مضى العدة واستغنى بالطعام لم تكن رضاعا وان لم يستغن يثبت به الحرمة وهو رواية عن ابى حنيفة وعليه الفتوى ذكره الزيلعى ثم انه تعالى كما وصى الام برعاية جانب الطفل فى قوله والولدات الخ وصى الاب برعاية جانب الام حتى تتقوى على رعاية مصلحة الطفل فامره بان يرزقها ويكسوها بالمعروف سواء كان ذلك المعروف محدودا بشرط وعقد ام لا وقد يكون غير محدود الا من جهة العرف لانه اذا قام بما يكفيها من طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الاجرة فقال { وعلى المولود له } اى وعلى الذى يولد له وهو الوالد وانما لم يقل على الوالد ليعلم ان الاولاد للآباء لان الزوجة انما تلد الولد للزوج ولذلك ينسبون اليهم لا الى الامهات روى ان المأمون بن الرشيد لما طلب الخلافة عابه حشام ابن على فقال بلغنى انك تريد الخلافة وكيف تصلح لها وانت ابن امة فقال كان اسماعيل عليه السلام ابن امة. واسحق ابن حرة فاخرج اللّه من صلب اسماعيل خير ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم وانشد لا تزرين بفتى من ان يكون له ... ام من الروم او سوداء دعجاء فانما امهات الناس اوعية ... مستودعات وللابناء آباء مكن زنهاراصل عودجوبست ... به بيه دودش جو مستثنى وخوبست { رزقهن وكسوتهن } اى رزق الامهات اذا ارضعن اولادهم ولباسهن وكذا اجر الرضاع للاظئار لانهن يحتجن الى ما يقمن به ابدانهن لان الولد انما يغتذى باللبن وانما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هى الى التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية { بالمعروف } حسبما يراه الحاكم ويفى به وسعه فان قيل اذا كانت الزوجية باقية فهى مستحقة للنفقة والكسوة بسبب النكاح سواء ارضعت الولد أو لم ترضعه فما وجه تعلق هذا الاستحقاق بالارضاع قلنا النفقة والكسوة تجبان فى مقابلة التمكين فاذا اشتغلت بالحضانة والارضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما يتوهم متوهم ان نفقتها وكسوتها تسقطان بالخلل الواقع فى خدمة الزوج فقطع اللّه ذلك الوهم بايجاب الرزق والكسوة وان اشتغلب المرأة بالارضاع هذا ما قال الواحدى فى البسيط { لا تكلف نفس الا وسعها } التكليف الالزام ومعنى تكلف الامر اظهار اثره وقوله وسعها مفعول ثان لان كلف يتعدى الى اثنين كأنه قيل لم لم تجب مؤونة الامهات على انفسهن ولم قيدت تلك المؤون بكونها بالمعروف فاجيب بانهن غير قادرات على الكسب لضعف بنيتهن واحتباسهن لمنفعة الازواج فلو اوجب مؤنهن على انفسهن لزم تكليف العاجز وكذا لو اوجب تلك المؤن على الازواج على خلاف المعروف { لا تضار والدة بولدها } نهى اصله لا تضارر بكسر الرآء الاولى فتكون المرأة هى الفاعلة او بفتح الراء الاولى فتكون المرأة هى المفعول بها الضرار وعلى الاول يكون المعنى لا تفعل المرأة الضرار بالاب بولدها اى بسبب ايصال الضرر الى الولد وذلك بان تمتنع المرأة من ارضاعه مع ان الاب يوسع عليها فى النفقة والكسوة فتلقى الولد عليه { ولا مولود له بولده } اى لا يفعل الاب الضرار بالام بان ينزع الولد منها مع رغبتها فى امساكه وشدة محبتها له وعلى الوجه الثانى لا يفعل الاب الضرار بالام بان ينزع الولد منها ولا مولود له بولده اى ولا تفعل الام الضرار بالاب بان تلقى الولد عليه والمعنيان يرجعان الى شىء واحد وهو ان يغيظ احدهما صاحبه بسبب الولد واضافة الولد الى كل منهما لاستعطافهما اليه لانه ليس باجنبى من كل واحد منهما فالحق ان يشفق عليه كل منهما وللتنبيه على انه جدير بان يتفقا على استصلاحه ولا ينبغى ان يضرا به او يتضارا بسببه { وعلى الوارث } وهو الذى لو مات الصبى ورثه اى وارث الصبى عند عدم الاب ممن كان ذا رحم محرم منه بحيث لا يجوز النكاح على تقدير ان يكون احدهما ذكرا والآخر انثى لا كل وارث سوآء كان ذا رحم محرم منه او لم يكن وسوآء كان من الرجال او النساء { مثل ذلك } اى مثل ما وجب على الاب من الرزق والكسوة واجر الرضاع ونفقة المحارم تجب عندنا بهذه الآية { فان ارادا } اى الولدان { فصالا } وهو الفطام سمى فصالا لانه انما يكون بفصل الطفل عن الاغتذاء بلبن امه الى غيره من الاقوات اى فطاما للصغير عن الرضاع قبل تمام الحولين صادرا { عن تراض منهما } اى من الوالدين لا من احدهما فقط لاحتمال اقدامه على ما يضر بالولد بان تمل المرأة الارضاع ويبخل الاب باعطاء الاجرة وربما يضر الفطام بجمسه بقطع غذائه قبل وقت فصاله { وتشاور } فى شأن الولد وتفحص عن احواله واجماع منهما على استحقاقه للفطام. والتشاور من المشورة وهى استخراج الرأى من المستشار وانما اعتبر اتفاق الوالدين لما فى الاب من الولاية وفى الام من الشفقة وهى اعلم بحال الصبى { فلا جناح عليهما } فى ذلك ولا حرج لما ان تراضيهما انما يكون بعد استقرار رأيهما واجتهادهما فى ان صلاح الولد فى الفطام وقلما يتفقان على الخطأ فالحاصل سواء زادا على الحولين الى ثلاثين شهرا او نقصا فلا جناح عليهما فى ذلك بعد استقرار رأيهما الى ما هو خير للصبى { وان اردتم } ايها الآباء { ان تسترضعوا } المراضع { اولادكم } فالمفعول الاول محذوف واسترضع يتعدى الى اثنين بنفسه يقال رضع الولد امه وارضعت المرأة ولدها واسترضعتها الولد وقيل يتعدى الى الثانى بحرف الجر والتقدير لاولادكم اى اذا طلبتم ان تأخذوا ظئر الارضاع اولادكم { فلا جناح عليكم } اى لا اثم عليكم فى الاسترضاع. وفيه دلالة على ان للاب ان يسترضع الولد ويمنع الام من الارضاع { اذا سلمتم } اى الى المراضع { ما آتيتم } اى ما اردتم ايتاءه كما فى قوله تعالى { فاذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه } { بالمعروف } متعلق بسلمتم اى بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب الى ما هو الاليق والاولى فان المراضع اذا اعطين ما قدر لهن ناجزا يدا بيد كان ذلك ادخل فى اصلاح شؤون الاطفال. وقيل المراد من المعروف ان يكون الاجر من الحلان لان المرضع اذا اكلت الحلال كان اللبن انفع للصبى واقرب الى صلاحه قالوا العادة جارية ان من ارتضع امرأة فالغالب عليه اخلاقها من خير وشر ولذا قيل انه ترضعه امرأة صالحة كريمة الاصل فان لبن المرأة الحمقاء يسرى واثر حمقها يظهر يوما ما وفى الحديث ( الرضاع يغير الطباع ) ومن ثمه لما دخل الشيخ ابن محمد الجوينى بيته ووجد ابنه الامام ابا المعالى يرتضع ثدى غير امه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وادخل اصبعه فى فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلا يسهل على موته ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير امه ثم لما كبر الامام كان اذا حصلت له كبوة فى المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة { واتقوا اللّه } فى شأن مراعاة الاحكام المذكورة فى امر الاطفال والمراضع { واعلموا ان اللّه بما تعملون بصير } فيجازيكم بذلك. وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى : قال الحسين الكاشى كر برهنه بره برون آيى ... زود در تهمت جنون آيى جامه ظاهرى كه نيست ببر ... توفضيحت شوى ميان بشر فكر آن كن كه بى لباس ورع ... جه كنى در مقام هول وفزع خويشتن در لباس تقوى دار ... تاشوى دردوكون بر خوردار والآية مشتملة على تمهيد قواعد الصحبة وتعظيم محاسن الاخلاق فى احكام العشرة بل انها اشتملت على شيوع الرحمة والشفقة على البرية فان من لا يرحم لا يرحم قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لمن ذكر انه لمن يقبل اولاده ( ان اللّه لا ينزع الرحمة الا من قلب شقى ) وفى الحديث ( اربع نفقات لا يحسب العبد بهن يوم القيامة نفقة على ابويه ونفقة على افطاره ونفقة على سحوره ونفقة على عياله ) واللطف والمرحمة ممدوح جدا عموما وخصوصا وفى الحديث ( ان امرأة بغيا رأت كبا فى يوم حار يطيف ببئر قد ادلع لسانه من العطش فنزعت له فغفر لها ) قال البخارى فنزعت خفها فاوثقته اى احكمته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك والحديث يدل على غفران الكبيرة من غير توبة وهو مذهب اهل السنة وعلى ان من اطعم محتاجا الى الغذاء يستحق المثوبة والجزاء. فعلى العاقل العمل بالكتاب والسنة ٢٣٤ { والذين يتوفون منكم } اى يموتون ويقبض ارواحهم بالموت. وقرىء بفتح الياء اى يستوفون آجالهم واعمارهم. واصل التوفى اخذ الشىء وافيا كاملا يقال توفى الشىء واستوفاء فمن مات فقد اخذ عمره وافيا كاملا واستوفاه { ويذرون ازواجا } اى يتركون نساء من بعدهم وهو جمع زوج والمنكوحة تسمى زوجا وزوجة والتذكير اغلب قال تعالى { اسكن انت وزوجك الجنة } ويجمع ازواجا على لغة التذكير وزوجات على لغة التأنيث { يتربصن بانفسهن } الباء للتعدية اى يجعلنها متربصة منتظرة بعد موتهم لئلا يبقى المبتدأ بلا عائد { اربعة اشهر وعشرا } اى فى تلك المدة فلا يتزوجن الى انقضاء العدة قوله عشرا اى عشرة ايام وتأنيث العشر باعتبار الليالى لان التاريخ عند العرب بالليلة بناء على انها اول الشهر واليوم تبع لها ولعل الحكمة فى تقدير عدة الوفاة باربعة اشهر وعشر ان الجنين اذا كان ذكرا يتحرك غالبا لثلاثة اشهر وان كان انثى يتحرك لاربعة فاعتبر اقصى الاجلين وزيد عليه العشر استظهارا اى استعانة بتلك الزيادة على العلم بفراغ الرحم اذ ربما تضعف الحركة فى المبادى فلا يحس بها وكانت عدة الوفاة فى اول الاسلام سنة فنسخت بهذه الا الحوامل فان عدتها بوضع الحمل قال تعالى { واولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن } والا الاماء فان عدة المتوفى عنها زوجها اذا كانت امة شهران وخمسة ايام نصف عدة الحرة باجماع السلف وقوله تعالى { والذين يتوفون منكم } خطاب مع المؤمنين فدل على ان الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط فلا وجه لايجاب العدة المذكورة على الكتابية { فاذ بلغن اجلهن } اى انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } الخطاب للحكام وصلحاء المسلمين لانهن ان تزوجن فى مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك ان قدر عليه وان عجز وجب عليه ان يستعين بالسلطان { فيما فعلن فى انفسهن } من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة { بالمعروف } حال من فاعل فعلن اى فعلن ملتبسات بالوجه الذى لا ينكره الشرع { واللّه بما تعملون خبير } فيجازيكم عليه فلا تعملون خلاف ما امرتم به هركه عاصى شود بامر خدا ... بيخ اورابكند قهر خدا واعلم ان المراد بالتربص هنا الامتناع عن النكاح والامتناع عن الخروج من المنزل الذى توفى عنها زوجها فيه والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لانه ليس فيه بيان انها تتربص فى اى شىء الا انا نقول الامتناع عن النكاح مجمع عليه واما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب الا عند الضرورة والحاجة واما ترك التزين فهو واجب لما روى عن عائشة وحفصة رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم قال ( لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال الا على زوجها اربعة اشهر وعشرا ) وانما وجب الحداد لانه لما حرم عليها النكاح فى العدة امرت بتجنب الزينة حتى لا تكون بصفة الملتمسة للازواج ولاظهار التأسف على فوت نعمة النكاح الذى كان سبب مؤونتها وكفايتها من النفقة والسكنى وغير ذلك. والحداد على الميت ثلاثة ايام وتمس المرأة الطيب فى الثالث لئلا يزيد الحداد على ثلاثة ايام فانها لو مسته فى الرابع لازداد الحداد من اليوم الرابع. وهو حرام ومن السنة ان يتوقى رسوم الجاهلية من شق الجيوب وضرب الخدود وحلق الشعر كما كان عادة العرب وكذا قطعه كما كان عادة العجم وكذا رفع الصوت بالبكاء والنوح وقد برىء رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ممن يفعل شيأ من ذلك لانها عادات الجاهلية واكثر اهالى هذا الزمان فى اكثر البلدان مبتلون بامثال هذه العادات لا سيما النساء فانهن يلبسن الالبسة السود الى ان تمضى ايام بل شهور كثيرة وربما ترى رجلا لا يلبس لباس الجمع والاعياد فلو سئل فيه لاجاب بقوله مات ابى او امى او غيرهما وذلك بعد ما مضى من زمان الوفاة شهور. وكذا الرافضة قد تغالت فى الحزن لمصيبة الحسين رضى اللّه عنه واحدت عليها حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لقتله رضى اللّه عنه فيقيمون فى مثل هذا اليوم العزاء ويطيلون النوح والبكاء ويظهرون الحزن والكآبة ويفعلون فعل غير اهل الاصابة ويتعدون الى سب بعض الصحابة وهذا عمل اهل الضلال المستوجبين من اللّه الخزى والنكال كأنهم لم يسمعوا ما ورد فى النهى عن الحداد ومن اللّه الرشاد والاشارة فى الآية ان موت المسلم لم يكن فراقا اختياريا للزوج فكانت مدة وفاته اطول فكذا العبد الطالب فان حال الموت بينه وبين مطلوبه من غير اختياره فالوفاء بحصول مطلوبه فى مدة كرم محبوبه كما قال تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا الى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع اجره على اللّه } ففى هذا تسلية قلوب المؤمنين لئلا يقطع عليهم طريق الطلب وساوس الشيطان وهو رجس النفس بان طلب الحق امر عظيم وشأن خطير وانت ضعيف والعمر قصير فان منادى الكرم من سرادقات الفضل ينادى ألا من طلبنى وجدنى فان الطلاب فى طلبى كذا فى التأويلات النجمية قدس اللّه تعالى نفسه الزاكية القدسية المرضية ٢٣٥ { ولا جناح عليكم } علم اللّه تعالى ان المرأة اذا مات زوجها قد يكون لها مال او جمال او معنى يرغب الناس فيها فاطلق للراغب ان يعرض بالخطبة فى العدة فقال تعالى ولا جناح عليكم { فيما عرضتم به } التعريض افهام المعنى الشىء المحتمل له ولغيره { من خطبة النساء } الخطبة بالكسر التماس النكاح وبالضم الكلام المشتمل على الوعظ والزجر من الخطاب الذى هو الكلام يقال خطب المرأة اى خاطبها فى امر النكاح وبالضم الكلام المشتمل على الوعظ والزجر من الخطاب الذى هو الكلام يقال خطب المرأة اى خاطبها فى امر النكاح والمراد بالنساء المعتدات للوفاة واما النساء اللاتى لا تكون منكوحة الغير ولا معتدته من طلاق رجعى فان خطبهن جائزة تصريحا وتعريضا الا ان يخطبها رجل فيجاب بالرضى صريحا فههنا لا يجوز لغيره ان يخطبها لقوله عليه السلام ( لا يخطبن احدكم على خطبة اخيه ) وان اجيب بالرد صريحا فههنا يحل لغيره ان يخطبها وان لم يوجد صريح الاجابة ولا صريح الرد ففيه خلاف والتى هى معتدة عن الطلاق الثلاث والبائن باللعان والرضاع ففى جواز التعريض بخطبتها خلاف واما البائن التى يحل لزوجها نكاحها فى عدتها كالمختلعة والتى انفسخ نكاحها بعيب او عنة او اعسار نفقة فههنا يجوز لزوجها التعريض والتصريح واما غير الزوج فلا يحل له التصريح والتعريض لانها معتدة يحل للزوج ان يستبيحها فى عدتها لا يحل له التعريض بخطبتها كالرجعية ثم التعريض بالخطبة ان يقول لها فى العدة انك لجميلة صالحة ومن غرضى ان اتزوج او اشتهى امرأة مثلك او انا محتاج الى امرأة صفتها كذا أو يقول انى حسن الخلق كثير الانفاق جميل العشرة محسن الى النساء فيصف نفسه ليرغب فيه او يقول رب راغب فيك وحريص عليك ونحو ذلك مما يوهم انه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه ان رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح بان يقول انى اريد ان انكحك او اتزوجك او اخطبك او غير ذلك فانه كما لا يجوز ان ينكحها فى عدتها لا يجوز له ان يخطبها صريحا فيها { او اكننتم فى انفسكم } مفعول اكننتم محذوف وهو الضمير الراجع الى ما الموصولة فى قوله فيما عرضتم اى او اكننتموه فى انفسكم اى اضمرتم فى قلوبكم مننكاحهن فلم تذكروه صريحا ولا تعريضا. الآية الاولى لاباحة التعريض فى الحال وتحريم التصريح فى الحال وهذه الآية اباحة لان يعقد قلبه على انه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ثم انه تعالى ذكر الوجه الذى لاجله اباح ذلك فقال { علم اللّه انكم ستذكرونهن } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فالمقصود بيان وجه اباحة الخطبة بطريق التعريض { ولكن لا تواعدوهن سرا } نصب على انه مفعول ثان لتواعدوهن وهو استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن اى فاذكروهن واظهروا لهن رغبتكم ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لان مسببه الذى هو الوطئ مما يسر به { الا ان تقولوا قولا معروفا } استثناء مفرغ مما يدل عليه النهى اى لا تواعدوهن مواعدة ما الا مواعدة غير منكرة شرعا وهى ما تكون بطريق التعريض والتلويح { ولا تعزموا } العزم عبارة عن عقد القلب على فعل من الافعال يتعدى بنفسه وبعلى قال الراغب ودواعى الانسان الى الفعل على مراتب السانح ثم الخاطر ثم التفكر فيه ثم الارادة ثم الهمة ثم العزم فالهمة اجماع من النفس على الامر والعزم هو العقد على امضائه { عقدة النكاح } اى لا تعزموا عقد عقدة النكاح لان العزم عبارة عن عقد القلب على فعل فلا يتعلق الا بالفعل والاضافة فى قوله عقدة النكاح بيانية فلا تكون العقدة بمعنى ربط المكلف اجراء التصرف بل المراد به الحاصل بالمصدر وهو الارتباط الشرعى الحاصل بعقد العاقدين والمقصود النهى عن تزوج المعتدة فى زمان عدتها الا انه نهى عن العزم على عقد النكاح للمبالغة فى النهى عن النكاح فى زمان العدة فان العزم على الشىء متقدم عليه والنهى عن مقدمات الشىء يستلزم النهى عن ذلك الشىء بطريق الاولى { حتى يبلغ الكتاب اجله } الكتاب بمعنى المكتوب وهو المفروض والمعنى حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها { واعلموا ان اللّه يعلم ما فى انفسكم } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } بالاجتناب عن العزم ابتداء واقلاعا عنه بعد تحققه { واعلموا ان اللّه غفور } لمن عزم ولم يفعل خشية من اللّه تعالى { حليم } لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على ان ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة فاجتنبوا اسباب العقوبة واعملوا بما أمركم به ربكم واغتنموا زمان الحياة حتى لا تتأسفوا كما قال المفرطون المتحسرون جون توانستم ندانستم جه سود ... جون بدانستم توانستم نبود وقد وبخ اللّه تعالى من مال الى شهواته وهوى نفسه فى هذه الآيات من غير ان يكون له رخصة شرعية فلا بد للعاقل ان يختار رضى اللّه تعالى على رضى نفسه ولا يكون له مطلب اعلى من مال او امرأة او غيرهما الا اللّه تعالى قال عليه الصلاة والسلام ( من كانت هجرته الى اللّه ورسوله فهجرته الى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه ) فتأمل كيف جعل جزاء كل مؤمّل ما امله وثواب كل قاصد ما قصده واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا اشعارا بعدم اعتبارها لخساستها ولان وجودها لعب ولهو فكأنه كلا وجود وانظر الى قوله عليه السلام ( فهجرته الى ما هاجر اليه ) وما تضمن من ابعاد ما سواه تعالى وتدبر هذا الامر اذ ذكر الدنيا والمرأة مع انها منها يشعر بان المراد كل شىء فى الدنيا من شهوة او مال وان المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شىء للّه قال ابو سليمان الدارانى قدس سره ثلاث من طلبهن فقد ركن الى الدنيا طلب معاش او تزوج امرأة او كتب الحديث واعلم انه ينبغى لطالب الحق ان يحصل من العلوم الشرعية ما يفرق به بين الحق والباطل ويشتغل بالعلوم الرسمية والقوانين المتداولة قدر ما يقدر على استخراج الحديث والتفسير من غير تعمق فى الفلسفيات وغوامض العلوم فانه زائد على قدر الكفاية منهى عنه على اصول اهل الشريعة والطريقة فهذا اول الامر فى هذا الباب. واما امر النهاية وهو ما بعد التحصيل والتكميل فان السالك بقدر اشتغاله بالعلوم الظاهرة زاد بعدا عن درك الحق لان السلوك يبتنى على التخلى والانقطاع وترك الكلام والاستماع وتفريغ الباطن من العلائق ولو كانت علوما وطرح المشاغل الخارجية والداخلية من البين خصوصا وعموما فقول بعضهم بنفى الاشتغال لاهل السلوك يبتنى على هذا المعنى لا على الترك من الاصل كما يزعمه جهلة الصوفية نعوذ باللّه من هذا فان العلم مطلقا هو النور وبه يهتدى السالك الى مسالكه. واما ارباب النهاية من اهل السلوك فلا يمكن حصر احوالهم فانهم لا يحتجبون لا بالكثرة عن الوحدة ولا بعكسها اذ هم تجاوزوا عن مقام الاغيار بل شاهدوا أينما قلبوا الاحداق الانوار بل حققوا بالحقيقة فلا اغيار عندهم لا حقيقة ولا اعتبار ولذا حبب الى النبى عليه السلام النساء وذلك لان محبته عليه السلام ليست كما يعرفها الناس بل سرها مستور لا يطلع عليه الا من فاز بالوراثة الكبرى يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة انما بسطت الكلام فى هذا المقام لئلا يظن احد ان قوله فيما سبق او كتب من خرافات الصوفية بل له محمل على ما اشرت اليه ومن لم يسلك هذا الطريق لم يعرف قدر خطوات اهل التحقيق والتدقيق ٢٣٦ { لا جناح عليكم } المراد من الجناح فى هذه الآية وجوب المهر اى لا تبعة من مهر { ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن } اى غير ماسين لهن ومجامعين قال ابن الشيخ الظاهر ان كلمة ما مصدرية ظرفية والزمان محذوف تقديره مدة عدم المسيس { أو تفرضوا لهن فريضة } كلمة او بمعنى الا ان كقولك لالزمنك او تعطينى حقى اى الا ان تفرضوا لهن عند العقد مهرا والمعنى انه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر اصلا اذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال الا فى تسمية المهر فان عليه حينئذ نصف المسمى وفى حال عدم تسميته عليه المتعة لانصف مثل المهر واما اذا كان بعد المساس فعليه فى صورة التسمية تمام المسمى وفى صورة عدمها تمام مهر المثل { ومتعوهن } عطف على مقدر اى فطلقوهن ومتعوهن اى اعطوهن ما يتبلغن وينتفعن به والحكمة فى ايجاب المتعة جبر لما اوحشها الزوج بالطلاق وهو درع وهو ما يستر البدن وملحفة وهو ما يستر المرأة عند خروجها من البيت وخمار وهو ما يستر الرأس على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى { على الموسع } يقال اوسع الرجل اذا اتسع حاله فصار ذا سعة وغنى اى الذى له سعة { قدره } امكانه وطاقته { وعلى المقتر } يقال اقتر الرجل اذا افتقر وصار ذا قترة. والقترة الغبار وهو قليل من التراب اى على المقل الضيق الحال { قدره } فالمتعة معتبرة بحاله لا بحالها لا تنقص عن خمسة دراهم ولا تزاد على نصف مهر المثل لان المسمى اقوى من مهر المثل والمتعة لا تزاد على نصف المسمى فلان لا تزيد على نصف مهر المثل اولى. والقدر والقدر لغتان وذهب جماعة الى ان الساكن مصدر والمتحرك اسم كالعد والعدد والمد والمدد والقدر بالتسكين الوسع يقال هو ينفق على قدره اى على وسعه وبالتحريك المقدار { متاعا } اسم لمصدر الفعل المذكور من قبيل قوله تعالى { انبتكم من الارض نباتا } اى تمتيعا ملتبسا { بالمعروف } اى بالوجه الذى يستحسنه الشرع والمروءة { حقا } صفة متاعا اى متاعا واجبا { على المحسنين } اى الذين يحسنون الى انفسهم بالمسارعة الى الامتثال قال ابن التمجيد اعلم ان للمطلقة اربع حالات. الاولى ان تكون غير ممسوسة ولم يسم لها مهر. والثانية ان تكون ممسوسة وسمى لها. والثالثة ان تكون ممسوسة ولم يسم لها. والرابعة ان تكون غير ممسوسة وسمى لها ورفع الجناح بمعنى نفر المهر انما هو فى الصورة الاولى لا فى البواقى من الصور الثلاث فان فيها وجوب المهر ولم يجب فى الصورة الاولى مهر لا بعضا ولا كلا اما عدم وجوب البعض فلان مهر المثل لا ينصف واما عدم وجوب الكل فلكونها غير مدخول بها ولكن لها المتعة لقوله تعالى { ومتعوهن } فانه فى حق من جرى ذكرهن وهى المطلقات الغير الممسوسة التى لم يفرض لهن فريضة اذ لو فرضت لكان لهن تمام المهر لا المتعة ٢٣٧ { وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } اى وان طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن عند النكاح مهرا { فنصف ما فرضتم } اى فلهن نصف ما سميتم لهن من المهر وان مات احدهما قبل الدخول فيجب عليه كله لان الموت كالدخول فى تقرير المسمى كذلك فى ايجاب مهر المثل اذا لم يكن فى العقد مسمى { الا ان يعفون } استثناء من اعم الاحوال اى فلهن نصف المفروض معينا فى كل حال الا فى حال عفوهن اى المطلقات فانه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه { أو يعفو الذى بيده عقدة النكاح } اى يترك الزوج المالك لعقده وحله ما يعود اليه من نصف المهر الذى ساقه اليها كملا على ما هو المعتاد تكرما فان ترك حقه عليها عفو بلا شبهة فالمراد بقوله الذى بيده عقدة النكاح الزوج لا الولى والمراد بعفوه ان يعطيها الصداق كاملا النصف الواجب عليه والنصف الساقط العائد اليه بالتنصيف وتسمية الزيادة على الحق عفوا لما كان الغالب عندهم ان يسوق الزوج اليها كل المهر عند التزوج فاذا طلقها قبل الدخول فقد استحق ان يطالبها بنصف ما ساق اليها فاذا ترك المطالبة فقد عفا عنها { وان تعفوا اقرب للتقوى } واللام فى التقوى تدل على علة قرب العفو تقديره العفو اقرب من اجل التقوى اذ الاخذ كأنه عوض من غير معوض عنه او ترك المروءة عند ذلك ترك للتقوى وفى الحديث ( كفى بالمرء من الشح ان يقول آخذ حقى لا اترك منه شيأ ) وفى حديث الاصمعى اتى اعرابى قوما فقال لهم هذا فى الحق او فيما هو خير منه قالوا وما خير من الحق قال التفضل والتغافل افضل من اخذ الحق كله كذا فى المقاصد الحسنة للسخاوى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ليس المراد منه النهى عن النسيان لان ذلك ليس فى الوسع بل المراد منه الترك والمعنى لا تتركوا الفضل والافضال فيما بينكم باعطاء الرجل تمام الصداق وترك المرأة نصيبها حثهما جميعا على الحسان والافضال وقوله بينكم منصوب بلا تنسوا : قال السعدى قدس سره كسى نيك بيند بهر دوسراى ... كه نيكى رساند بخلق خداى { ان اللّه بما تعملون بصير } فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والاحسان. والبصر فى حقه تعالى عبارة عن الوصف الذى به ينكشف كمال نعوت المبصرات وذلك اوضح واجلى مما يفهم من ادراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات. والحظ الدينى للعبد من البصر امران. احدهما ان يعلم انه خلق له البصر لينظر الى الآيات وعجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظره الا عبرة قيل لعيسى عليه السلام هل احد من الخلق مثلك فقال من كان نظره عبرة وصمته فكرة وكلامه ذكرا فهو مثلى. والثانى ان يعلم انه بمرأى من اللّه ومسمع فلا يستهين بنظره اليه واطلاعه عليه ومن اخفى عن غير اللّه ما لا يخفيه عن اللّه فقد استهان بنظر اللّه والمراقبة احدى ثمرات الايمان بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم ان اللّه يراه فما اجسره واخسره ومن ظن انه لا يراه فما اكفره كذا فى شرح الاسماء الحسنى للامام الغزالى ثم الاشارة فى الآيات ان مفارقة الاشكال من الاصدقاء والعيال لمصلحة دنيوية { لا جناح عليكم } فيها فكيف يكون جناح ان فارقتموهم لمصلحة دينية بل انتم مأمورون بمفارقتهم لزيارة بيت اللّه فكيف لزيارة اللّه فان الواجب فى زيارة بيت اللّه مفارقة الاهالى والاوطان وفى زيارة اللّه مفارقة الارواح والابدان دع نفسك وتعال قل اللّه ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون وقوله تعالى { ومتعوهن } اشارة الى ان من له من الطلاب واهل الارادة مال فليمتع به اقرباءه واحباءه حين فارقهم فى طلب الحق سبحانه ليزيل عنهم بحلاوة المال مرارة الفراق فان الفطام عن المألوف شديد ولا ينفق المال عليهم بقدر قربهم فى القرابة وبعدهم بل يقسم بينهم على فرائض اللّه كالميراث فانه قد مات عنهم بالحقيقة وفى قوله تعالى { وان تعفوا اقرب للتقوى } اشارة الى ان الوصول الى تقوى اللّه حق تقاته انما هو بترك ما سوى اللّه والتجاوز عنه فان المواصلة الى الخالق على قدر المفارقة عن المخلوق والتقرب الى اللّه بقدر التبعد عما سواه وفى قوله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ههنا فى الدنيا فان حلول الجنة ودخولها هناك لا يكون الا من فضله كقوله تعالى { الذى احلنا دار المقامة من فضله } { ان اللّه بما تعملون } فى وجدان الفضل وفقدانه { بصير } كذا فى التأويلات النجمية وانما يوجب للعبد الالتفات للخلائق فقدان النور الكاشف للخلائق والا فلو اشرق نور اليقين الهادى الى العلم بان الآخرة خير من الدنيا وان ما عند اللّه خير وابقى لرأيت الآخرة اقرب من ان يرحل اليها ولرأيت محاسن الدنيا وقد ظهرت كسفه الفناء عليها لان الآتى قطعا كالموجود فى الحال لا سيما ومباديه ظاهرة من تغير الاحوال وانتقال الاهلين والاموال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان النور اذا دخل القلب انفسخ وانشرح ) قيل يا رسول اللّه وهل له من علامة يعرف بها قال ( التجافى عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ) انتهى اللّهم اجعلنا ممن استعد للقائك وتهيأ للوصول لنوال وصالك ٢٣٨ { حافظوا على الصلوات } بالاداء لوقتها والمداومة عليها والمراد بالصلوات المكتوبات الخمس فى كل يوم وليلة ثبت عددها بغيرها من الآيات والاحاديث المتواترة وباشارة فى هذه الآية وهو ذكر الوسطى وهى ما اكتنفه عددان متساويان واقل ذلك خمسة لا يقال ان الثلاث بهذه الصفة لانا نقول الثلاث لا يكتنفها عددان فان الذى قبلها واحد والذى بعدها واحد وهو ليس بعدد فان العدد ما اذا اجتمع طرفاه صارا ضعفه وليس له طرفا فانه ليس قبله شىء { و } حافظوا على { الصلوة الوسطى } اى المتوسطة بينها على ان تكون الوسطى صفة مشتبهة او الفضلى منها على ان تكون افعل تفضيل تأنيث الاوسط واوسط الشىء خيره واعدله وهى صلاة العصر لانها بين صلاتى ليل وصلاتى نها ولقوله عليه الصلاة والسلام يوم الاحزاب ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه قبورهم وبيوتهم نارا ) وفضلها لكثرة اشتغال الناس فى وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر اهله وماله ) اى ليكن من فوتها حذرا كما يحذر من ذهاب اهله وماله ثم فى حديث يوم الاحزاب حجة على من قال الصلاة الوسطى غير العصر وعلى من قال انها مبهمة ابهمها اللّه تعالى تحريضا للخلق على محافظتها كساعة الاجابة يوم الجمعة فان قيل ما روت عائشة رضى اللّه عنها انه عليه الصلاة والسلام قال ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) يدل على ان الوسطى غير العصر قلت يحتمل ان يكون الوسطى لقبا والعصر اسما فذكرها باسمها كذا فى شرح المشارق لابن الملك { وقوموا للّه } اى فى الصلاة { قانتين } حال من فاعل قوموا اى ذاكرين له فى القيام لان القنوت هو الذكر فيه او خاشعين روى انهم كانوا اذا قام احدهم الى الصلاة هاب الرحمن ان يمد بصره او يلتفت او يقلب الحصى او يحدث نفسه بشىء من امور الدنيا الا ناسيا حتى ينصرف ٢٣٩ { فان خفتم } اى ان كان بكم خوف من عدو او غيره { فرجالا } منصوب على الحال وعامله محذوف تقديره فصلوا راجلين والرجال جمع راجل مثل صحاب وصاحب { أو ركبانا } اى راكبين وهو جمع راكب مثل فرسان وفارس. ومذهب ابى حنيفة انهم لا يصلون فى حال المشى والمسايفة ما لم يمكن الوقوف وعند امكان الوقوف يصلى واقعا والدليل عليه قوله تعالى { فان خفتم } الآية { فاذا امنتم } وزال خوفكم { فاذكروا اللّه } اى فصلوا صلاة الا من عبر عنها بالذكر لانه معظم اركانها { كما علمكم } اى ذكرا كائنا كتعليمه اياكم { ما لم تكونوا تعلمون } من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه ان تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه اللّه وايرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة او اشكروا للّه شكرا يوازى تعليمه اياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والاحكام التى من جملتها كيفية اقامة الصلاة حالتى الخوف والامن واعلم ان الصلاة بمنزلة الضيافة قد هيأها اللّه للموحدين فى كل يوم خمس مرات فكما فى الضيافة تجتمع الألوان من الاطعمة ولكل طعام لذة ولون فكذلك فيها اركان وافعال مختلفة لكل فعل لذة وتكفير للذنوب وعن كعب الاحبار انه قال قال اللّه لموسى فى مناجاته [ يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة الظهر اعطيهم فى اول ركعة منها المغفرة وفى الثانية اثقل موازينهم وفى الثالثة اوكل بهم الملائكة يسبحون ويستغفرون لهم لا يبقى ملك فى السماء ولا فى الارض الا ويستغفر لهم ومن استغفرت له الملائكة لم اعذبه ابدا وفى الرابعة افتح لهم ابواب السماء وتنظر اليهم الحور العين. يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة العصر ما يسألون منى حاجة الا قضيت لهم. يا موسى ثلاث ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة المغرب افتح لهم ابواب السماء. يا موسى اربع ركعات يصليها احمد وامته وهى صلاة العشاء خير لهم من الدنيا وما فيها ويخرجون من الدنيا كيوم ولدتهم امهاتهم ] ثم اعلم انه لا يرخص لمن سمع الاذان ترك الجماعة فانها سنة مؤكدة غاية التأكيد بحيث لو تركها اهل ناحية وجب قتالهم بالسلاح لانها من شعائر الاسلام ولو تركها احد منهم بغير عذر شرعى يجب عليه التعزيز ولا تقبل شهادته ويأثم الجيران والامام والمؤذن بالسكوت عنه وفى غنية الفتاوى من حضر المسجد الجامع لكثرة جماعة فى الصلاة فمسجد محلته افضل قل اهل مسجده او كثر لان لمسجده حقا عليه لا يعارضه كثرة الجماعة ولا زيادة تقوى غيره او علمه ويبادر الصف الاول على محاذاة الامام وروى عن النبى عليه السلام انه قال ( يكتب للذى خلف الامام بحدائه مائة صلاة وللذى فى الجانب الايمن خمس وسبعون صلاة وللذى فى جانب الايسر خمسون صلاة وللذى فى سائر الصفوف خمس وعشرون صلاة ) كذا فى القنية ولا يتخطى رقاب الناس الى الصف الاول اذا وجد فيه فرجة ويتلاصقون بحيث يكونون محاذين بالاعناق والمناكب قال عليه السلام ( رصوا صفوفكم وقاربوا بينها تقارب اشباحكم وحاذوا بالاعناق فوالذى نفسى بيده انى لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كانه الحذف ) الخلل بفتح الخاء المعجمة الفرجة والحذف بفتحتى الحاء المهملة والذال المعجمة الغنم السود الصغار الحجازية كذا فى التنوير. والكلام فى اداء الصلاة بالحضور والتوجه التام : قال بعضهم محراب ابروى تواكر قبله ام نبود ... كى برفلك برند ملائك نمازمن يحكى ان الشيخ ابا العباس الجوالقى كان فى بداية حاله يعمل الجوالق ويبيع فباع يوما جوالقا بنسيئة ونسى المشترى فلما قام الى الصلاة تفكر فى ذلك ثم لما سلم قال لتلميذه وقعت لى خاطرة فى الصلاة انى الى اى شخص بعت الجوالق الفلانى فقال تلميذه يا استاذ انت فى اداء الصلاة او تحصيل الجوالق فأثر هذا القول فى الشيخ فلبس جوالقا وترك الدنيا واشتغل بالرياضة الى ان وصل الى ما وصل مردان بسعى ورنج بجايى رسيده اند ... توبى هنر كجارسى از نفس برورى والاشارة ان اللّه تعالى اشار فى حفظ الصلاة بصيغة المبالغة التى بين الاثنين وقال { حافظوا على الصلوات } يعنى محافظة الصلاة بينى وبينكم كما قال ( قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل ) فمعناه انى حافظكم بقدرة التوفيق والاجابة والقبول والاثابة عليها فحافظوا انتم على الصلاة بالصدق والاخلاص والحضور والخضوع والمناجاة بالتذلل والانكسار والاستعانة والاستهداء والسكون والوقار والهيبة والتعظيم وحفظ القلوب بدوام الشهود فأنما هى الصلاة الوسطى لان القلب الذى فى وسط الانسان هو واسطة بين الروح والجسد ولهذا يسمى القلب فالاشارة فى تخصيص المحافظة على الصلاة هى صلاة القلب بدوام الشهود فان البدن ساعة يحفظ صورة اركان الصلاة وهيئتها وساعة يخرج منها فلا سبيل الى حفظ صورتها بنعت الدوام ولا الى حفظ معانيها بوصف الحضور والشهود وانما هو من شأن القلب كقوله تعالى { ان فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد } وانه من نعت ارباب القلوب انهم فى صلاتهم دائمون كذا فى التأويلات النجمية فليسارع السالكون الى حرم الحضور قبل الموت والقبور فان الصلاة بالفتور غير مقبولة عند اللّه الغيور ولا بد من الاعراض عن الكائنات ليتجلى نور الذات والا فمن يستحضر عمرا وينادى زيدا فلا اجابة له ابدا : قال الشيخ سعدى الشيرازى قدس سره آنكه جون بسته ديدش همه مغز ... بوست بربوست بود همجو بياز بارسايان روى در مخلوق ... بشت بر قبله ميكنند نماز ومن اللّه التوفيق ٢٤٠ { والذين يتوفون منكم } اى يموتون يسمى المشارف الى الوفاة متوفيا تسمية للشىء باسم ما يؤول اليه وقرينة المجاز امتناع الوصية بعد الوفاة { ويذرون ازواجا } اى يدعون نساء من بعدهم { وصية لازواجهم } اى يوصون وصية لهن والجملة خبر الذين { متاعا } اى يوصون متاعا { الى الحول } او متعوهن تمتيعا الى الحول { غير اخراج } بدل من قوله متاعا بدل اشتمال لتحقق الملابسة بين تمتيعهن حولا وبين عدم اخراجهن من بيوتهن كأنه قيل يوصون لازواجهم متاعا اى لا يخرجن من مساكنهن حولا او حال من ازواجهم اى غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون ان يوصوا قبل الاحتضار لازواجهم بان يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى نزلت الآية فى رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر الى المدينة وله اولاد ومعه ابواه وامرأته ومات فانزل اللّه هذه الآية فاعطى النبى عليه السلام والديه واولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيأ وامرهم ان ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا وكان عدة الوفاة فى ابتداء الاسلام حولا وكان يحرم على الوارث اخراجها من البيت قبل تمام الحلول وكان نفقتها وسكناها واجبة فى مال زوجها ما لم تخرج ولم يكن لها الميراث فان خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها وكان على الرجل ان يوصى بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث فنسخ اللّه تعالى نفقة الحول بالربع عند عدم الولد وولد الابن والثمن عند وجودهما وسقطت السكنى ايضا عند ابى حنيفة ونسخ عدة الحول باربعة اشهر وعشر فانه وان كان متقدما فى التلاوة متأخر فى النزول { فان خرجن } من منزل الازواج باختيارهن { فلا جناح عليكم } ايها الائمة والحكام { فيما فعلن فى انفسهن من معروف } لا ينكره الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وهذا يدل على انه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وانما كانت مخيرة بين الملازمة واخذ النفقة وبين الخروج وتركه { واللّه عزيز } غالب على امره يعاقب من خالفه { حكيم } يراعى فى احكامه مصالح عباده ٢٤١ { وللمطلقات } سواء كن مدخولا بهن ام لا { متاع } اى مطلق المتعة الشاملة للمستحبة والواجبة فان كانت المطلقة مفوضة غير مدخول بها وجبت لها المتعة وان كانت غيرها يستحب لها فلفظ التمتع المدلول عليه بمتعوهن فى الآية السالفة يحمل على الواجب فلا منافاة بين الآيتين { بالمعروف } اى متاع ملتبس بالمعروف شرعا وعادة { حقا على المتقين } اى مما ينبغى على من كان متقيا فليس بواجب ولكن من شروط التقوى التبرع بهذا تطييبا لقلبها وازالة للضغن ٢٤٢ { كذلك } اشارة الى ما سبق من احكام الطلاق والعدة اى مثل ذلك البيان الواضح { يبين اللّه لكم آياته } الدالة على احكامه التى شرعها لعباده قال القاضى وعد بانه سيبين لعباده من الدلائل والاحكام ما يحتاجون اليه معاشا ومعادا { لعلكم تعقلون } لكى تفهموا ما فيها فتستعملوا العقل فيها وتعملوا بموجبها : كشتئ بى لنكر آمد مردشر ... كه زباد كزنيابد اوحذر لنكر عقلست عاقل را امان ... لنكرى در يوزه كن ازعاقلان والاشارة ان المطلقة لما ابتليت بالفراق جبراً للّه تعالى كسر قلبها بالمتعة يشير بهذا الى ان المريد الصادق لو ابتلى فى اوان طلبه بفراق الاعزة والاقرباء وهجران الاحبة والاصدقاء والخروج من مال الدنيا وجاهها والهجرة من الاوطان وسكانها والتنقل فى البلاد لصحبة خواص العباد ومقاساة الشدائد فى طلب الفوائد فاللّه تعالى يبذل له احسانه ويزيل عنه احزانه ويجبر كسر قلبه بمتعة ( انا عند المنكسرة قلوبهم من اجلى ) فيكون للطالب الملهوف متاع بالمعروف من نيل المعروف كذلك يظهر اللّه لكم آياته اصناف الطافه واوصاف اعطافه لعلكم تعقلون بانوار الطافه كمالات اوصافه كذا فى التأويلات النجمية فالعاقل لا ينظر الى الدنيا واعراضها بل يعبر عن منافعها واغراضها ويقاسى الشدائد فى طريق الحق الى ان يصل الى الذات المطلق يحكى عن شقيقى البلخى انه لم يجد طعاما ثلاثة ايام وكان مشتغلا بالعبادة فلما ضعف عن العبادة رفع يده الى السماء وقال يا رب اطعمنى فلما فرغ من الدعاء التفت فرأى شخصا ينظر اليه فلما التفت اليه سلم عليه وقال يا شيخ تعال معى فقام شقيق وذهب معه فادخله ذلك الرجل فى بيت فرأى فيه الواحا موضوعة عليها الوان الاطعمة وعند الخوان غلمان وجوارى فاكل والرجل قائم فلما فرغ اراد ان يخرج شقيق من ذلك البيت فقال له الرجل الى اين يا شيخ فقال الى المسجد فقال ما اسمك قال شقيق فقال يا شقيق اعلم ان هذه الدار دارك والعبيد عبيدك وانا عبدك كنت عبدا لابيك بعثنى الى التجارة فرجعت الآن وقد توفى ابوك فالدار وما فيها لك قال شقيق ان كان العبيد لى فهم احرار لوجه اللّه وان كانت الاموال لى وهبتها لكم فاقتسموها بينكم فانى لا اريد شيأ يمنعنى عن العبادة : قال السعدى تعلق حجابست وبى حاصلى ... جوبيوندها بكسلى واصلى والدنيا علاقة خصوصا هذا الزمان زمان الفتنة والشرور فالراقد فيه خير من اليقظان حكى ان سليمان عليه السلام اتى بشراب الجنة فقيل له لو شربت هذا لا تموت فتشاور مع حشمه الا القنفذ قالوا باجمعهم اشرب ثم ارسل الفرس والبازى الى القنفذ يدعوانه فلم يجبهما ثم ارسل اليه الكلب فاجابه فقال له سليمان لم لم تجب الفرس والبازى قال انهما جافيان لان الفرس يعدو بالعدو كما يعدو صاحبه والبازى يطيع غير صاحبه كما يطيع صاحبه واما الكلب فانه ذو وفاء حتى انه لو طرده صاحبه من الدار يرجع اليه ثانيا فقال له ءأشرب هذا الشراب قال لا تشرب لانه يطول عمرك فى السجن فالموت فى العز خير من العيش فى السجن بهمه حال اسيرى كه زبندى برهد ... بهترش دان زاميريكه كرفتار آيد فقال له سليمان احسنت وامر باهراقة فى البحر فعذب ماء ذلك البحر تزود من الدنيا فانك راحل ... وبادر فان الموت لا شك نازل وان امرأ قد عاش سبعين حجة ... ولم يتزوج للمعاد لجاهل ودنياك ظل فاترك الحرص بعدما ... علمت فان الظل لا بد زائل قال السعدى قدس سره كه اندر نعمتى مغرور غافل ... كهى ازتنك دستى خسته وريش جودر سرا وضرا حالت اينست ... ندانم كى بحق بروازى ازخويش اللّهم احفظنا من الموانع ٢٤٣ { ألم تر الى الذين خرجوا من ديارهم } جمع دار اى منازلهم وهذا الخطاب وان كان بحسب الظاهر متوجها الى النبى عليه السلام الا انه من حيث المعنى متوجه الى جميع من سمع بقصتهم من اهل الكتاب وارباب التواريخ فمقتضى الظاهر ان يقال ألم تسمع قصتهم الا انه نزل سماعهم اياها منزلة رؤيتهم تنبيها على ظهورها واشتهارها عندهم فخوطبوا بألم تر وهو تعجيب من حال هؤلاء وتقرير اى حمل على الاقرار بما دخله النفى قال الامام الواحدى ومعنى الرؤية ههنا رؤية القلب وهى بمعنى العلم انتهى فتعدية الرؤية بالى مع انها ادراك قلبى لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك اليهم قال العلماء كل ما وقع فى القرآن ألم تر ولم يعاينه النبى عليه السلام فهو بهذا المعنى وفى التيسير وتحقيقه اعلم ذلك وفى الكواشى معناه الوجوب لان همزة الاستفهام اذا دخلت على النفى او على الاستفهام صار تقريرا او ايجابا والمعنى قد علمت خبر الذين خرجوا الآية قال ابن التمجيد فى حواشيه لفظ ألم تر قد يخاطب به من تقدم علمه بالقصة وقد يخاطب به من لم يتقدم علمه بها فانه قد يقول الرجل للآخر ألم تر الى فلان اى شىء قال يريد تعريفه ابتداء فالمخاطبون به ههنا اما من سمعها وعلمها قبل الخطاب به من اهل التواريخ فذكرهم وعجبهم واما من لم يسمعها فعرفهم وعجبهم وقيل الخطاب عام لكل من يتأتى منه الرؤية دلالة على شيوع القصة وشهرتها بحيث ينبغى لكل احد ان يعلمها او يبصرها ويتعجب منها { وهم الوف } جمع الف الذى هو من جملة اسماء العدد واختلفوا فى عدد مبلغهم والوجه من حيث اللفظ ان يكون عددهم ازيد من عشرة آلاف لان الالوف جمع الكثرة فلا يقال فى عشرة آلاف فما دونها الوف { حذر الموت } مفعول له اى خرجوا من ديارهم خوفا من الموت { فقال لهم اللّه } على لسان ملك وانما اسند اليه تعالى تخويفا وتهويلا لان قول القادر القهار والملك الجبار له شأن { موتوا } التقدير فماتوا لاقتضاء قوله ثم احياهم ذلك التقدير لان الاحياء يستدعى سبق الموت { ثم احياهم } اى اعادهم احياء ليستوفوا بقية اعمارهم وليعلموا ان لا فرار من القدر قال ابن العربى عقوبة لهم ثم احياهم وميتة العقوبة بعدها حياة للاعتبار وميتة الاجل لا حياة بعدها وعن الحسن ايضا ماتهم اللّه قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم الى بقية أجالهم وقصة هؤلاء ما ذكره اكثر اهل التفسير انهم كانوا قوما من بنى اسرائيل بقرية من قرى واسط يقال لها داوودان وقع بها الطاعون فذهب اشرافهم واغنياؤهم واقام سفلتهم وفقراءهم فهلك اكثر من بقى فى القرية وسلم الذين خرجوا فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا اصحابنا كانوا احزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا كما بقوا ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن الى ارض لا وباء بها فوقع الطاعون من العام القابل فهرب عامة اهلها فخرجوا حتى نزلوا واديا افيح بين جبلين فلما نزلوا المكان الذى يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من اسفل الوادى وملك آخر من اعلاه ان موتوا فماتوا جميعا من غير علة بامر اللّه ومشيئته وماتت دوابهم كموت رجل واحد فاتت عليهم ثمانية ايام حتى انتفخوا واروحت اجسادهم اى انتنت فخرج اليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فاحدقوا حولهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها فاتت على ذلك مدة وقد بليت اجسادهم وعريت عظامهم فمر عليهم نبى يقال له حزقيل بن يوزى ثالث خلفاء بنى اسرآئيل بعد موسى عليه السلام وذلك ان القيم بعد موسى بامر بنى اسرائيل كان يوشع بن نون ثم كالب بن يوحنا ثم حزقيل وكان يقال له ابن العجوز لان امه كانت عجوزا فسألت اللّه الولد بعدما كبرت وعقمت فوهبه اللّه لها وقال الحسن هو ذو الكفل وسمى حزقيل ذا الكفل لانه كفل سبعين نبيا وانجاهم من القتل وقال لهم اذهبوا فانى ان قتلت كان خيرا لكم من ان تقتلوا جميعا فلما جاء اليهود وسألوا ذا الكفل عن الانبياء السبعين قال انهم ذهبوا ولا ادرى اين هم ومنع اللّه تعالى ذا الكفل من اليهود بفضله وكرمه فلما مر حزقيل على اولئك الموتى وقف عليهم لكثرة ما يرى فجعل يتفكر فيهم متعجبا فاوحى اللّه اليه أتريد ان اريك آية قال نعم فقال اللّه ناد ايتها العظام ان اللّه يأمرك ان تجتمعى فاجتمعت من اعلى الوادى وادناه حتى التزق بعضها ببعض فصارت اجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم اوحى اللّه اليه ناد ايتها الارواح ان اللّه يأمرك ان تقومى فقاموا وبعثوا احياء يقولون سبحانك اللّهم وبحمدك لا اله الا انت فبقيت فيهم بقايا من ريح النتن حتى انه بقى فى اولاد ذلك السبط من اليهود الى اليوم ثم انهم رجعوا الى بلادهم وقومهم وعاشوا دهرا سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد دسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التى ثبتت لهم وفائدة القصة تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض لاسباب الشهادة وحثهم على التوكل والاستسلام وان الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فاولى ان يكون فى سبيل اللّه { ان اللّه لذو فضل } عظيم { على الناس } قاطبة اما اولئك فقد احياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى واما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم الى مسلك الاعتبار والاستبصار { ولكن اكثر الناس لا يشكرون } فضله كما ينبغى لعجز بعضهم وكفر بعضهم ٢٤٤ { وقاتلوا } الخطاب لهذه الامة وهو معطوف على مقدر تقديره فاطيعوا وقاتلوا { فى سبيل اللّه } لاعلاء دينه متيقنين ان الفرار من الموت غير مخلص وان القدر واقع فلا تحرموا من احد الحظين اما النصر والثواب واما الموت فى سبيل اللّه الملك الوهاب { واعلموا ان اللّه سميع } يسمع مقالة السابقين الى الجهاد من ترغيب الغير فيه ومقالة المتخلفين عنه من تنفير الغير { عليم } بما يضمرونه فى انفسهم يعلم ان خلف المتخلف لأى غرض وان جهاد المجاهد لأى سبب وانه لاجل الدين او الدنيا وهو من وراء الجزاء ثم ان قوله تعالى { ألم تروا } رد لتقبيح حال هؤلاء الذين خرجوا وقد جعل اللّه جزاء خروجهم الموت والخيبة فى رجائهم الخلاص وكل ذلك يدل على كراهية الفرار فثبت بهذه الآية فضيلة القرار وفائدته وفى الحديث ( الفار من الطاعون كالفار من الزحف ) وهذا الحديث يدل على ان النهى عن الخروج للتحريم وانه من الكبائر قيل ان عبد الملك هرب من الطاعون فركب ليلا واخرج غلاما معه فكان ينام على دابته فقال للغلام حدثنى فقال من انا حتى احدثك فقال على حال حدث حديثا سمعته فقال بلغنى ان ثعلبا كان يخدم اسدا ليحميه ويمنعه مما يريده فكان يحميه فرأى الثعلب عقابا فلجأ الى الاسد فاقعده على ظهره فانقض العقاب واختلسه فصاح الثعلب يا ابا الحارث اغثنى واذكر عهدك لى فقال انما اقدر على منعك من اهل الارض فاما اهل السماء فلا سبيل اليهم فقال عبد الملك وعظتنى واحسنت وانصرف ورضى بالقضاء قال السعدى قدس سره قضا كشتى آنجا كه خواهد برد ... وكر ناخدا جامه برثن درد در آبى كه بيدا نباشد كنار ... غرور شناور نيايد بكار واعلم ان ما كان من القضاء حتما مقضيا لا ينفعه شىء كما قال عليه السلام ( الحذر لا ينفع من القدر ) واما المعلق فتنفعه الصدقة وامثالها كما قال عليه السلام ( الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان فى الاعمار ) قال بعض المحققين ان المقدرات على ضربين ضرب يختص بالكليات وضرب يختص بالجزئيات التفصيلية فالكليات المختصة بالانسان ما اخبر النبى عليه الصلاة والسلام انها محصورة فى اربعة اشياء العمر والرزق والاجل والسعادة او الشقاوة وهى لا تقبل التغير فالدعاء فيها لا يفيد كصلة الرحم الا بطريق الفرض بمعنى ان لصلة الرحم مثلا من الاثر فى الخير ما لو امكن ان يبسط فى رزق الواصل ويؤخر فى اجله بها لكان ذلك ويجوز فرض المحال اذا تعلق بذلك حكمة قال تعالى { قل ان كان للرحمن ولد فانا اول العابدين } واما الجزئيات ولوازمها التفصيلية فقد يكون ظهور بعضها وحصوله للانسان متوقفا على اسباب وشروط ربما كان الدعاء او الكسب والسعى والتعمد من جملتها بمعنى انه لم يقدر حصوله بدون ذلك الشرط حكى ان قصارا مر على عيسى عليه السلام مع جماعة من الحواريين فقال لهم عيسى احضروا جنازة هذا الرجل وقت الظهر فلم يمت فنزل جبريل فقال ألم تخبرنى بموت هذا القصار فقال نعم ولكن تصدق بعد ذلك بثلاثة ارغفة فنجا من الموت وقد سبق منا فى الجزء الاول عند قوله تعالى { فانزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون } ما يتعلق بالطاعون والفرار منه فليرجع اليه قال الامام القشيرى فى قوله تعالى { وقاتلوا فى سبيل اللّه } الآية يعنى ان مسكم ألم فتصاعد منكم أنين فاعلموا ان اللّه سميع بأنينكم عليم باحوالكم والآية توجب عليهم تسهيل ما يقاسونه من الالم قال قائلهم اذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت ان اشكوا اليك وتسمع انتهى كلامه قدس سره اللّهم اجعلنا من الذين يفرون الى جنابك ويميلون ٢٤٥ { من } استفهام للتحريض على التصدق مبتدأ { ذا } اشارة الى المقرض خبر المبتدأ اى من هذا { الذى } صفة ذا او بدل منه { يقرض اللّه } اصل القرض القطع سمى به لان المعطى يقرضه اى يقطعه من ماله فيدفعه اليه ليرجع اليه مثله من الثواب واقراض اللّه مثل لتقديم العمل الذى يطلب به ثوابه { قرضا } مصدر ليقرض بمعنى اقراض كقوله تعالى { انبتكم من الارض نباتا } اى اقراضا { حسنا } اى مقرونا بالاخلاص وطيب النفس ويجوز ان يكون القرض بمعنى المقرض اى بمعنى المفعول على انه مفعول ثان ليقرض وحسنه ان يكون حلالا صافيا عن شوب حق الغير به وقيل القرض الحسن المجاهدة والانفاق فى سبيل اللّه ومن انواع القرض قول الرجل سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر { فيضاعفه له } منصوب باضمار ان عطفا على المصدر المفهوم من يقرض اللّه فى المعنى فيكون مصدرا معطوفا على مصدر تقديره من ذا الذى يكون منه اقراض فمضاعفة من اللّه او منصوب على جواب الاستفهام فى المعنى لان الاستفهام وان وقع عن المقرض لفظا فهو عن الاقراض معنى كأنه قال أيقرض اللّه احد فيضاعفه واصل التضعيف ان يزاد على الشىء مثله او امثاله { اضعافا } جمع ضعف حال من الهاء فى يضاعفه { كثيرة } هذا قطع للاوهام عن مبلغ الحساب اى لا يعلم قدرها الا اللّه وقيل الواحد سبعمائة وحكمة تضعيف الحسنات لئلا يفلس العبد اذا اجتمع عليه الخصماء فمظالم العباد توفى من التضعيفات لا من اصل حسناته لان التضعيف فضل من اللّه تعالى واصل الحسنة الواحدة عدل منه واحدة بواحدة وذكر الامام البيهقى ان التضعيفات فضل من اللّه تعالى لا يتعلق بها العباد كمالا يتعلق بالصوم بل يدخرها الحق للعبد فضلا منه سبحانه فاذا دخل الجنة اثابه بها : قال السعدى نكو كارى از مردم نيك رأى ... يكى را بده مى نويسد خداى كرم كن كه فردا كه ديوان نهند ... منازل بمقدار احسان تهند ولما حثهم على الاخراج سهل عليهم الاقراض واخبر انهم لا يمكنهم ذلك الا بتوفيقه فقال { واللّه يقبض } يقتر على بعض { ويبسط } يوسع على بعض او يقتر تارة ويوسع اخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح واذا علم العبد ذلك هان عليه الاعطاء لان اللّه تعالى هو الرزاق وهو الذى وسع عليه فهو يسأل منه ما اعطاه ولانه يخلفه عليه فى الدنيا ويثيبه عليه فى العقبى فكأن اللّه تعالى يقول اذا علمتم ان اللّه هو القابض والباسط وان ما عندكم انما هو من بسطه واعطائه فلا تبخلوا عليه فاقرضوه وانفقوا مما وسع عليكم واعطاكم ولا تعكسوا بان تبخوا لئلا يعاملكم مثل معاملتكم فى التعكيس بان يقبض بعد ما بسط. ولعل تأخير البسط عند القبض فى الذكر للايماء الى انه يعقبه فى الوجود تسلية للفقراء قال الامام الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى القابض الباسط هو الذى يقبض الارواح من الاشباح عند الممات ويبسط الارواح فى الاجساد عند الحياة ويقبض الصدقات من الاغنياء ويبسط الارزاق للضعفاء يبسط الرزق على الاغنياء حتى لا تبقى فاقة ويقبضه من الفقراء حتى لا تبقى طاقة ويقبض القلوب فيضيقها بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله ويبسطها لما يقرب اليها من بره ولطفه وجماله والقابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم واوتى جوامع الكلم فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء اللّه ونعمائه وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال اللّه وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من اعدائه كما فعل رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة حيث ذكرهم ان اللّه يقول لآدم يوم القيامة ابعث بعث النار فيقول كم فيقول من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة فلما اصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روح قلوبهم وبسطها فذكر انهم فى سائر الامم كشامة سوداء فى مسك ثور ابيض انتهى قال القشيرى فى رسالته القبض والبسط حالتان بقدر ترقى العبد عن حال الخوف والرجاء والقبض للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف { واليه ترجعون } فيجازيكم على ما قدمتم من الاعمال خير وشرا على الجود بالجنة وعلى البخل بالنار وهو وعد ووعيد او هو تنبيه على ان الغنى لمفارق ماله بالموت فليبادر على الانفاق قبل الفوت واجتمع جماعة من الاغنياء والفقراء فقال غنى ان اللّه تعالى رفع درجاتنا حتى استقرض منا وقال فقير بل رفع درجاتنا حتى استقرض لنا والواحد قد يستقرض من غير الحبيب ولك ان لا تستقرض الا لاجل الحبيب وقبض رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ودرعه عند يهودى بشعير اخذه لقوت عياله. انظر ممن استدان ولمن استدان وفى الحديث ( يقول اللّه تعالى يوم القيامة ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال رب كيف اطعمك وانت رب العزة قال استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه أما علمت انك لو اطعمته لوجدت ذلك عندى ) فالقرض لا يقع عند المحتاج فكأنه ذكر نفسه ونزل وصفه منزلة المحتاج كقوله مرضت فلم تعدنى جعت فلم تطعمنى شفقة وتلطيفا للفقير والمريض وهذا من باب التنزلات الرحمانية عند المحققين لتكميل محبة العبد وجذبه الى حظرة اهل الشهود من عباده اذ جذبة من جذبات الحق توازى عمل الثقلين وذلك اذا شاهد العبد الفقير جلوة جمال الرحمن فى اطوار تنزلاته فى المشاهد الاعيانية : وفى المثنوى روى خو بان زانيه زيبا شود ... روى احسان از كدا ييدا شود جون كدا آيينه جودست هان ... دم بود بر روى آيينه زيان بس از ين فرمود حق در والضحى ... بانك كم زن اى محمد بر كدا فاللّه تعالى من كمال فضله وكرمه مع عباده خلق انفسهم وملكهم الاموال ثم اشترى منهم انفسهم واموالهم ثم ردها اليهم بالعارية ثم اكرمهم فيها بالاستقراض منهم ثم بشر باضعاف كثيرة عليها فالعبد الصادق لا يطلب الا على قدر همته ولا يريد العوض مما اعطاه الا ذاته تعالى فيعطيه اللّه ما هو مطلوبه على قدر همته ويضاعف له مع مطلوبه ما اخفى لهم من قرة اعين اضعافا كثيرة على قدر كرمه فمن يكون له متاع الدنيا باسره قليلا فانظر ما يكون له كثيرا اللّهم متعنا بما الهمت قلوب اوليائك واجعلنا من الذين قصروا اعينهم على استطلاع انوار لقائك ٢٤٦ { ألم تر } اى ألم ينته علمك { الى } قصة { الملأ } اى قد علمت خبرهم باعلامى اياك فتعجب. الملأ جماعة يجتمعون للتشاور سموا بذلك لانهم اشراف يملأون العيون مهابة والمجالسة بهاءة لا واحد له من لفظه كالقوم { من بنى اسرائيل } من للتبعيض حال من الملأ اى كائنين بعض بنى اسرائيل وهم اولاد يعقوب { من } ابتدائية متعلقة بما تعلق به الجار الاول { بعد } وفاة { موسى اذ قالوا } منصوب بالمضاف المقدر فى الملأ اى ألم تر الى قصة الملأ او حديثهم حين قالوا لان الذوات لا يتعجب منها وانما يتعجب من احوالها { لنبى لهم } اشمويل وهو الاشهر الاظهر { ابعث لنا ملكا } اى اقم وانصب لنا سلطانا يتقدمنا ويحكم علينا فى تدبير الحرب ونطيع لامره { نقاتل } معه وهو بالجزم على الجواب { فى سبيل اللّه } طلبوا من نبيهم ما كان يفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من التأمير على الجيوش التى كان يجهزها ومن امرهم بطاعته وامتثال اوامره وروى انه امر الناس اذا سافروا ان يجعلوا احدهم اميرا عليهم { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم النبى حينئذ فقيل قال { هل عسيتم } قاربتم { ان كتب عليكم القتال } مع الملك شرط معترض بين عسى وخبره وهو قوله { ان لا تقاتلوا } معه قال فى الكشاف والمعنى هل قاربتم ان لا تقاتلوا يعنى هل الامر كما اتوقعه انكم لا تقاتلون اراد ان يقول عسيتم ان لا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فادخل هل مستفهما عما هو متوقع عنده وانه صائب فى توقعه كقوله تعالى { هل اتى على الانسان } معناه التقرير { قالوا وما } مبتدأ وهو استفهام انكارى خبره قوله { لنا } فى { ان لا نقاتل فى سبيل اللّه } اى اى سبب وغرض لنا فى ترك القتال { وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا } اى والحال انه قد عرض لنا ما يوجب القتال ايجابا قويا من الاخراج من الديار والاوطان والاغتراب عن الاهل والاولاد وافراد الابناء بالذكر لمزيد تقوية اسباب القتال قال بعضهم وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا جلاء واسرار ومثله يذكر اتباعا نحو وزججن الحواجب والعيونا وكان سبب مسألتهم نبيهم ذلك انه لما مات موسى عليه السلام خلف بعده فى بنى اسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة وامر اللّه حتى قبضه اللّه ثم خلف فيهم كالب كذلك حتى قبضه اللّه ثم عظمت الاحداث فى بنى اسرائيل ونسوا عهد اللّه حتى عبدوا الاوثان فبعث اللّه اليهم ألياس نبيا فدعاهم الى اللّه وكانت الانبياء من بنى اسرائيل بعد موسى يبعثون اليهم بتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلف بعد ألياس أليسع وكان فيهم ما شاء اللّه حتى قبضه اللّه وخلف فيهم الخلوف وعظمت الخطايا وظهر لهم عدو يقال له البلنانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وهم العمالقة اولاد عمليق بن عاد فظهروا على بنى اسرائيل وغلبوا على كثير من ارضهم وسبوا كثيرا من ذراريهم واسروا من ابناء ملوكهم اربعمائة واربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية واخذوا توراتهم ولقى بنوا اسرائيل منهم بلاء شديدا ولم يكن لهم نبى يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم الا امرأة حبلى فحبسوها فى بيت رهبة ان تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بنى اسرائيل فى ولدها وجعلت المرأة تدعو اللّه ان يزرقها غلاما فولدت غلاما فسمته اشمويل تقول سمع اللّه دعائى وهو بالعبرانية اسماعيل والسين تصير شينا فى لغة عبران فكبر الغلام فاسلموه لتعلم التوراة فى بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فلما بلغ الغلام اتاه جبريل عليه السلام وهو نائم الى جنب الشيخ وكان لا يأتمن عليه احدا فدعاه بلحن الشيخ يا اشمويل فقال الغلام مسرعا الى الشيخ فقال يا ابتاه دعوتنى فكره الشيخ ان يقول لا لئلا يتفزع الغلام فقال يا بنى ارجع فنم فرجع الغلام فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتنى فقال ارجع فنم فان دعوتك الثالثة فلا تجبنى فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له اذهب الى قومك فبلغهم رسالة ربك فان اللّه قد بعثك فيهم نبيا فلما اتاهم كذبوه وقالوا له استعجلت بالنبوة ولم تأن لك وقالوا ان كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل اللّه آية نبوتك وانما كان قوام امر بنى اسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك لانبيائهم فكان الملك هو الذى يشير بالجموع والنبى يقيم امره ويشير عليه برشده ويأتيه بالخبر من عند ربه { فلما كتب عليهم القتال } بعد سؤال النبى ذلك وبعث الملك { تولوا } اى اعرضوا وتخلفوا عن الجهاد وضيعوا امر اللّه ولكن لا فى ابتداء الامر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته وانما ذكر اللّه ههنا مآل امرهم اجمالا اظهارا لما بين قولهم وفعلهم من التنافى والتباين { الا قليلا منهم } وهم الذين عبروا النهر مع طالوت واقتصروا على الغرفة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر بعدد اهل بدر { واللّه عليم بالظالمين } وعيد لهم على ظلمهم بالتولى عن القتال وترك الجهاد وتنافى اقوالهم وافعالهم والاشارة ان القوم لما اظهروا خلاف ما اضمروا وزعموا غير ما كتموا عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما افلحوا عند الامتحان اذ عجزوا عن البرهان وعند الامتحان يكرم الرجل او يهان : قال الحافظد خود بود كرمحك تجربه آمد بميان ... تاسيه روى شود هركه دروغش باشد وهذه حال المدعين من اهل السلوك وغيرهم قال اهل الحقيقة عللوا القتال بما يرجع الى حظوظهم فخذلوا ولو قالوا كيف لا نقاتل وقد عصوا اللّه وخربوا بلاد اللّه وقهروا عباد اللّه واطفأوا نور اللّه لنصروا. وافادت الآية ان خواص اللّه فيهم قليلة قال تعالى { وقليل من عبادى الشكور } وهذا فى كل زمان لكن الشىء العزيز القليل اعلى بهاء من الكثير الذليل : قال السعدى قدس سره خاك مشرق شنيده ام كه كنند ... بجهل سال كاسه جينى صد بروزى كنند در بغداد ... لا جرم قيمتش همى بينى وانما كان اهل الحق اقل مع ان الجن والانس انما خلقوا لاجل العبادة كما قال تعالى { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } لان المقصود العظم هو الانسان الكامل وقد حصل او لان المهديين وان قلوا بالعدد لكنهم كثيرون بالفضل والشرف كما قيل قليل اذا عدوا كثير اذا شدوا اى اظهروا الشدة. وقد روى عن ابن مسعود رضى اللّه عنه السواد الاعظم هو الواحد على الحق والحكمة لا تقتضى اتفاق الكل على الاخلاص والاقبال الكلى على اللّه فان ذلك مما يخل بامر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا بل تقتضى ظهور ما اضيف اليه كل من اليدين فللواحدة المضاف اليها عموم السعداء الرحمة والجنان وللاخرى القهر والغضب ولوازمهما فلا بد من الغضب لتكميل مرتبة قبضة الشمال فانه وان كان كلتا يديه يمينا مباركة لكن حكم كل واحدة يخالف الاخرى فعلى العاقل ان يحترز من اسباب الغضب ويجتهد فى نيل كرم الرب قال على كرم اللّه وجه [ من ظن انه بدون الجهد يصل فهو متمن ومن ظن انه بذل الجهد فهو متعن ] اللّهم افض علينا من سجال فضلك وكرمك واوصلنا اليك بك يا ارحم الراحمين ٢٤٧ { وقال لهم نبيهم } وذلك ان اشمويل لما سأل اللّه تعالى ان يبعث لهم ملكا اتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له ان صاحبكم الذى يكون ملكا طوله طول هذه العصا وانظر القرن الذى فيه الدهن فاذا دخل عليك رجل ونش الدهن الذى فى القرن فهو ملك بنى اسرائيل فدهن به رأسه ولمك عليهم قال وهب ضلت حمر لابى طالوت فارسله وغلاما له فى طلبها فمرا ببيت اشمويل فقال الغلام لو دخلنا على هذا النبى فسألنا عن الحمر ليرشدنا ويدعو لنا بحاجتنا فدخلا عليه فبينما هما عنده يذكران له شأن الحمر اذ نش الدهن الذى فى القرن فقام اشمويل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فقال لطالوت قرب رأسك فقربه فدهنه بدهن القدس ثم قال له انت ملك بنى اسرائيل الذى امرنى اللّه ان املكه عليهم قال بأى آية قال بآية انك ترجع وقد وجد ابوك حمره فكان كذلك ثم قال اشمويل لنبى اسرائيل { ان اللّه قد بعث لكم طالوت } اسم اعجمى ممتنع من الصرف لتعريفه وعجمته { ملكا } حال منه اى فاطيعوه وقاتلوا عدوكم معه { قالوا } متعجبين من ذلك ومنكرين قيل انهم كفروا بتكذيبهم نبيهم وقيل كانوا مؤمنين لكن تعجبوا وتعرفوا وجه الحكمة فى تمليكه كما قال الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } { أنى يكون له الملك علينا } من أين يكون له ذلك ويستأهل { ونحن احق بالملك منه } اولى بالرياسة عليه منه بالرياسة علينا { ولم يؤت سعة من المال } اى لم يعط ثروة وكثرة من المال فيشرف بالمال اذا فاته الحسب يعنى كيف يتملك علينا والحال انه لا يستحق التملك لوجود من هو احق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال ولا بد للملك من مال يقتصد به. وسبب هذا الاستبعاد ان النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من اسباط بنى اسرائيل وهو سبط لاود بن يعقوب ومنه كان موسى وهارون وسبط المملكة سبط يهودا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان ولم يكن طالوت من احد هذين السبطين بل هو من ولد بنيامين بن يعقوب وكانوا عملوا ذنبا عظيما ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا فغضب اللّه عليهم ونزع الملك والثروة منهم وكانوا يسمونه سبط الاثم وكان طالوت يتحرف بحرفة دنية كان رجلا دباغا يعمل الادم فقيرا او سقاء او مكاريا { قال } لهم نبيهم ردا عليهم { ان اللّه اصطفاه عليكم } اى اختاره فان لم يكن له نسب ومال فله فضيلة اخرى وهو قوله { وزاده بسطة } اى سعة وامتداد { فى العلم } المتعلق بالملك او به وبالديانات ايضا { والجسم } بطول القامة وعظم التركيب لان الانسان يكون اعظم فى النفوس بالعلم وأهيب فى القلوب بالجسم وكان اطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى ان الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك اولا بان ملاك الامر هو اصطفاء اللّه وقد اختاره عليكم وهو اعلم بالمصالح منكم وثانيا بان العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة امور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره فى القلوب ويقدر على مقاومة الاعداء ومكابدة الحروب وقد خصه اللّه تعالى منهما بحظ وافر { واللّه يؤتى ملكه من يشاء } لما انه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله ان يؤتيه من يشاء من عباده { واللّه واسع } يوسع على الفقير ويغنيه { عليم } بمن يليق بالملك ممن لا يليق به وفى التأويلات النجمية انما حرم بنوا اسرائيل من الملك لانهم كانوا معجبين بانفسهم متكبرين على طالوت ناظرين اليه بنظر الحقارة من عجبهم قالوا ونحن احق بالملك منه ومن تكبرهم عليه قالوا أنى يكون له الملك علينا ومن تحقيرهم اياه قالوا ولم يؤت سعة من المال فلما تكبروا وضعهم اللّه وحرموا من الملك : قال السعدى قدس سره يكى قطره باران زابرى جكيد ... خجل شد جوبهناى دريا بديد كه جايى كه درياست من كيستم ... كر اوهست حقا كه من نيستم جو خودرا بجشم حقارت بديد ... صدف در كنارش بجان بروريد سبهرش بجابى رسانيد كار ... كه شد نامور لؤلؤى شاهوار بلندى ازان يافت كويست شد ... درنيستى كوفت تاهست شد ومن بلاغات الزمخشرى كم يحدث بين الخبيثين ابن لا يعابن والفرث والدم يخرج من بينهما اللبن يعنى حدوثا كثيرا يحدث بين الزوجين الخبيثين ابن طيب لا يعاب بين الناس ولا يذكر بقبيح وهذا غير مستبعد لان اللبن يخرج من بين السرجين والدم وهما مع كونهما مستقذرين لا يؤثران فى اللبن بشىء من طعمهما ولونهما بل يحدث اللبن من بينهما لطيفا نظيفا سائغا للشاربين. قالوا يخلق اللّه اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة اللّه لا يبغى احدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله. قيل اذا اكلت البهيمة العلف فاستقر فى كرشها وهو من الحيوان بمنزلة المعدة من الانسان طبخته فكان اسفله فرثا واوسطه مادة اللبن واعلاه مادة الدم والكبد مسلطة على هذه الاصناف الثلاثة تقسمها فتجرى الدم فى العروق واللبن فى الضروع وتبقى الفرث فى الكرش فسبحان اللّه ما اعظم قدرته وألطف حكمته لمن تأمل والانسان له استعداد الصلاح والفساد فتارة يظهر فى الاولاد الصلاح المبطون فى الآباء وتارة يكون الامر بالعكس وامر الايجاد يدور على الاظهار والابطان فانظر الى آدم وابنيه قابيل وهابيل ثم وثم الى انتهاء الزمان. والحاصل ان طالوت ولو كان اخس الناس عند بنى اسرائيل لكنه عظيم شريف عند اللّه لما ان النظر الآلهى اذا تعلق بحجر يجعله جوهرا وبشوك يجعله وردا وريحانا فلا معترض لحكمه ولا راد لقضائه فالوضيع من وضعه اللّه وان وان كان قد رفعه الناس والرفيع من رفعه اللّه وان كان قد وضعه الناس. والعاقل اذا تأمل امثال هذا يجد من نفسه الانصاف والسكوت وتفويض الامر الى الحى الذى لا يموت واللّه يقول الحق وهو يهدى السبيل ٢٤٨ { وقال لهم نبيهم } طلبوا علامة من نبيهم على كون طالوت ملكا عليهم فقالوا ما آية ملكه فقال { ان آية ملكه } اى علامة سلطنته { ان يأتيكم التابوت } من التوب وهو الرجوع وسمى تابوتا لانه ظرف توضع فيه الاشياء وتودع فلا يزال يرجع اليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع اليه فيما يحتاج اليه من مودعاته والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه اللّه بعد وفاة موسى عليه السلام سخطا على بنى اسرائيل لما لما عصوا واعتدوا فلما طلب القوم من نبيهم آية تدله على ملك طالوت قال لهم ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فاتاهم كما وصف والقوم ينظرون اليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضى اللّه عنهما. وقال ارباب الاخبار ان اللّه تعالى انزل على آدم عليه السلام تابوتا فيه تماثيل الانبياء عليهم السلام من اولاده وكان من عود الشمشار ونحوا من ثلاثة اذرع فى ذراعين فكان عند آدم عليه السلام الى ان توفى فتوارثه اولاده واحد بعد واحد الى ان وصل الى يعقوب عليه السلام ثم بقى فى ايدى بنى اسرائيل الى ان وصل الى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه وكان اذا قاتل قدمه فكانت تسكن اليه نفوس بنى اسرائيل وكان عنده الى ان توفى ثم تداولته ايدى بنى اسرائيل وكانوا اذا اختلفوا فى شىء تحاكموا اليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا اذا حضروا القتال يقدمونه بين ايديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فاذا سمعوا فى التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وفسدوا سلط اللّه عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه فى موضع البول والغائط فلما اراد اللّه ان يملك طالوت سلط اللّه عليهم البلاء حتى ان كل من بال عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار ان ذلك سبب استهانتهم بالتابوت فاخرجوه وجعلوه على عجلة وعقلوها على ثورين فاقبل الثوران يسيران وقد وكل اللّه بهما اربعة من الملائكة يسوقونهما حتى اتيا منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبى ان آية ملكه انكم تجدون التابوت فى داره فلما وجدوه عنده ايقنوا بملكه فالاتيان على هذا مجاز لانه اتى به ولم يأت هو بنفسه فنسب الاتيان اليه توسعا كما يقال ربحت التجارة وعلى الوجه الاول حقيقة { فيه } اى فى اتيان التابوت { سكينة من ربهم } اى سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم او الضمير للتابوت قال بعض المحققين السكينة تطلق على ثلاثة اشياء بالاشتراك اللفظى. اولها ما اعطى بنوا اسرائيل فى التابوت كما قال تعالى { ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } قال المفسرون هى ريح ساكنة طيبة تخلع قلب العدو بصوتها رعبا اذا التقى الصفان وهى معجزة لانبيائهم وكرامة لملوكهم. والثانية شىء من لطائف صنع الحق يلقى على لسان المحدث الحكمة كما يلقى الملك الوحى على قلوب الانبياء مع ترويح الاسرار وكشف السر. والثالثة هى التى انزلت على قلب النبى عليه السلام وقلوب المؤمنين وهى شىء يجمع نورا وقوة وروحا يسكن اليه الخائف ويتسلى به الحزين كما قال تعالى { فانزل اللّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وقال بعضهم التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والاخلاص وذكر اللّه الذى تطمئن اليه القلوب واتيانه تصيير قلبه مقر العلم والوقار بعد ان لم يكن كذلك { وبقية } كائنة { مما } من للتبعيض { ترك آل موسى وآل هرون } هما رضاض الالواح وعصا موسى من آس الجنة وثيابه ونعلاه وعمامة هارون وشىء من التوراة وخاتم سليمان وقفيز من المن وهو الترنجبين الذى كان ينزل على بنى اسرائيل ويأكلونه فى ارض التيه. وآلهما انفسهما والآل مقحم او انباؤهما او اتباعهما { تحمله الملائكة } حال من التابوت اى ان آية ملكه اتيانه حال كونه محمولا للملائكة او استئناف كأنه قيل كيف يأتى فقيل تحمله الملائكة ثم ان التابوت لم تحمله الملائكة فى الروايتين بل نزل من السماء الى الارض بنفسه والملائكة كانوا يحفظونه فى الرواية الاولى واتى به على العجلة وعلى الثورين بسوق الملائكة على الرواية الاخيرة وانما اضيف الحمل فى القولين جميعا الى الملائكة لان من حفظ شيأ فى الطريق جاز ان يوصف بانه حمل ذلك الشىء وان لم يحمله بل كان الحامل غيره كما يقول القائل حملت الامتعة الى زيد اذا حفظها فى الطريق وان كان الحامل غيره { ان فى ذلك } يحتمل ان يكون من تمام كلام النبى وان يكون ابتداء خطاب من اللّه اى فى رد التابوت ايها الفريق { لآية } عظيمة { لكم } دالة على ملك طالوت وصدق قول نبيكم فى ان اللّه جعله ملكا فانه امر مناقض للعادة { ان كنتم مؤمنين } مصدقين باللّه فصدقوا بتمليكه عليكم وفى الآية اشارة الى ان آية ملك الخلافة للعبد ان يظفر بتابوت قلب فيه سكينة من ربه وهى الطمأنينة بالايمان والانس مع اللّه وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون وهى عصا الذكر كلمة لا اله الا اللّه وهى كلمة التقوى وهى الحية التى اذا فتحت فاها تلقف سحرة صفات فرعون النفس فعصا ذكر اللّه فى تابوت القلوب وقد اودعها اللّه بين اصبعى جماله وجلاله كما قال عليه السلام ( قلب المؤمن بين اصبعين من اصابع الرحمن ) فبصفة الجلال يلهمها فجورها وبصفة الاكرام يلهمها تقواها كما قال تعالى { فالهمها فجورها وتقواها } ولم يستودعها ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا فشتان بين امة سكينتهم فيما للاعداء عليه تسلط وبين امة سكينتهم فيما ليس للاولياء ولا للانبياء عليه ولاية وان كان فى ذلك التابوت بعض التوراة موضوعا ففى تابوت قلوب هذه الامة جميع القرآن محفوظ وان كان فى تابوتهم بيوت فيها صور الانبياء ففى تابوت قلوبهم خلوات ليس فيها معهم غير اللّه كما قال ( لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن ) فاذا تيسر لطالوت روح الانسان ان يؤتى تابوت القلب الربانى فسلم ملك الخلافة وسرير السلطنة واستوثق عليه جميع اسباط الصفات الانسانى فلا يركن الى الدنيا الغدارة المكارة بل يتهجر منها ويتبرز لقتال جالوت النفس الامارة وهذا لا يتيسر الا بفضل اللّه واخذ الطريقة والتمسك بالحقيقة ره اينست روى از طريقت متاب ... بنه كام وكامى كه خواهى بياب ومن اراد ان يزداد سكينة فليصل الى المعرفة فان المعرفة الآلهية توجب السكينة فى القلب كما ان القلب يوجب السكون وسئل ابو يزيد عن المعرفة فقال { ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة } اى غيروا حالها عما هى عليه وكذلك اذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة اخرجت منها كل صفة رديئة. وقيل لابى يزيد بم وجدت هذه المعرفة فقال ببطن جائع وبدن عار : قال السعدى قدس سره باندازه خور زاد اكر مردمى ... جنين برشكم آدمى يا خمى تدارند تن بروران آكهى ... كه بر معده باشدز حكمت تهى اللّهم احفظنا من الموانع فى طريق الوصول اليك آمين آمين ٢٤٩ { فلما فصل طالوت بالجنود } الاصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة اللازم كانفصل والمعنى انفصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة. والجنود جمع جند وهو الجيش الاشداء مأخوذ من الجند وهى الارض الشديدة وكل صنف من الخلق جند على حدة روى انهم لما رأوا التابوت لم يشكوا فى النصر فتسارعوا الى الجهاد فقال طالوت لا يخرج معى شيخ ولا مريض ولا رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا ابتغى الا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون الفا وكان الوقت قيظا اى شديد الحر وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء وسألوا ان يجرى اللّه لهم نهرا { قال } اى طالوت باخبار من النبى اشمويل { ان اللّه مبتليكم بنهر } اى معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه وذلك الاختبار ليظهره عند طالوت من كان مخلصا فى نيته من غيره ليميزهم من العسكر لان من لا يريد القتال اذا خالط عسكرا يدخل الضعف فى العسكر فينهزمون بشؤمه آنكه جنك آرد بخون خويش بازى ميكند ... روز ميدان آنكه بكريزد بخون لشكرى فميز بينهما كالذهب والفضة فيهما الخبث فميز الخالص من غيره بالنار { فمن شرب منه } اى ابتدأ شربه من ماء النهر بان كرع وهو تناول الماء بفيه من موضعه من غير ان يشرب بكفيه ولا بآناء { فليس منى } اى من جملتى واشياعى المؤمنين فمن للتبعيض دخلت على نفس المتكلم للاشعار بان اصحابه لقوة اختصاصهم واتصالهم به كأنهم بعضه او ليس بمتحد معى فمن اتصالية كما فى قوله تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } اى بعضهم متصل بالبعض الآخر ومتحد معه { ومن لم يطعمه } الطعم هنا بمعنى الذوق وهو التناول من الشىء تناولا قليلا يقال طعم الشىء اذا ذاقه مأكولا او مشروبا { فانه منى } اى من اهل دينى { الا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب واعتراض الجملة الثانية وهو ومن لم يطعمه للعناية بها لان عدم الذوق منه رأسا عزيمة والاغتراف رخصة وبيان حال الاخذ بالعزيمة اهم من بيان الاخذ بالرخصة. والغرفة بالضم اسم للقدر الحاصل فى الكف بالاغتراف والغرف اخذ ماء بآلة كالكف وهو فى الاصل القطع والغرفة التى هى العلية قطعة من البناء والباء متعلقة باغترف قال ابن عباس رضى اللّه عنهما كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها قال الامام وهذا يحتمل وجهين. احدهما انه كان مأذونا له ان يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة او جرة بحيث كان المأخوذ فى المرة الواحدة يكيفه ودوابه وخدمه ويحمل باقيه. وثانيهما انه كان يأخذ القليل فيجعل اللّه فيه البركة حتى يكفى كل هؤلاء فيكون معجزة لنبى ذلك الزمان كما انه تعالى يروى الخلق الكثير من الماء القليل فى زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم { فشربوا منه } اى فانتهوا الى النهر وابتلوا به وكرعوا فيه كروعا مثل الدواب ولم يقنعوا بالاغتراف فضلا عن ان لا يذوقوا منه شيأ { الا قليلا منهم } وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على عدد اهل بدر فانهم اغترفوا فشربوا بالاكف ورووا واما الذين خالفوا فشربوا كرعا فازدادوا عطشا واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فعرف طالوت الموافق من المخالف فخلف الاشداء نه بى حكم شرع آب خوردن خطاست ... وكر خون بفتوى بريزى رواست ولما ردوا بالخلاف فى صفة شرب ماء اصله حلال لكن على صفة مخصوصة وهلكوا بعد الرد فما حال من تناول الحرام المحض فى الطعام والشراب كيف يقبل ويسلم. ثم انه لا خلاف بين المفسرين فى ان الذين عصوا رجعوا الى بلدهم والصحيح انهم لم يجاوزوا النهر وانما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى { فلما جاوزه } اى النهر { هو } اى طالوت { والذين آمنوا } وهم القليل الذين اطاعوه ولم يخالفوه فيما ندبهم اليه. وفيه اشارة الى ان من عداهم بمعزل من الايمان { معه } اى مع طالوت متعلق بجاوز لا بآمنوا { قالوا } اى بعض من معه من المؤمنين القليلين لبعض آخر منهم وهم الذين يظنون الآية فالمؤمنون الذين جاوز النهر صاروا فريقين فريقا يحب الحياة وكيره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه وفريقا كان شجاعا قوى القلب لا يبالى بالموت فى طاعة اللّه تعالى. والقسم الاول هم الذين قالوا { لا طاقة } قوة { لنا اليوم بجالوت وجنوده } اى بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن ان يكون لنا غلبة عليهم وذلك لما شاهدوا منهم من الكثرة والقوة وكانوا مائة الف مقاتل شاكى السلاح. والقسم الثانى هم الذين اجابوهم بقولهم كم من فئة الآية { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم مخاطبهم فقيل قال { الذين يظنون انهم ملاقوا } نصر { اللّه } العزيز وتأييده { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } اى كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة. والفئة اسم للجماعة من الناس قلت او كثرت { باذن اللّه } اى بحكمه وتيسيره فان دوران كافة الامور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وان قل عدده ولا يعز من خذله وان كثر اسبابه وعدده فنحن ايضا نغلب جالوت وجنوده { واللّه مع الصابرين } بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة قال الراغب فى القصة ايماء ومثال للدنيا وابنائها وان من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا من تناول منها فوق ذلك ازداد عطشا ولهذا قيل الدنيا كالملح من ازداد منها عطش وفى الحديث ( لو ان لابن آدم واديين من ذهب لابتغى اليهما ثالثا فلا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب اللّه على من تاب ) يعنى لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره الا من تاب فان اللّه يقبل التوبة من التائب عن حرصه المذموم وعن غيره من المذمات وههنا نكتة وهى ان فى ذكر ابن آدم دون الانسال تلويحا الى انه مخلوق من تراب ومن طبيعته القبض واليبس وازالته ممكنة بان يمطر اللّه عليه من غمام توفيقه فللعاقل ان لا يتعب نفسه فى جمع حطام الدنيا فان الرزق مقسوم اوحى اللّه الى داود [ يا داود تريد واريد فان رضيت بما اريد كفيتك ما تريد وان لم ترض بما اريد اتعبك ثم لا يكون الا ما اريد ] فالناس مبتلون بنهر هو منهل الطبيعة الجسمانية فمن شرب منه مفرطا فى الرى منه بالحرص فليس من اهل الحقيقة لانه من اهل الطبيعة وعبدة الشهوات المشتغل بها عن اللّه الا من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن ومحبة الخلق على الاضطرار بمقدار القوام فانه من اولياء اللّه. والحاصل ان النهر هو الدنيا وزينتها ومن بقى على شطها واطمأن بها كثير ممن جاوزها ولم يلتفت اليها فان اهل اللّه اقل من القليل واهل الدنيا لا يحصى عددهم رزقنا اللّه واياكم القوة والقناعة ولم يفصلنا عن اهل السنة والجماعة روى انه عليه السلام قال فى وصيته لابى هريرة رضى اللّه عنه ( عليك يا ابا هريرة بطريق اقوام اذا فزع الناس لم يفزعوا واذا طلب الناس الامان من النار لم يخافوا ) قال ابو هريرة من هم يا رسول اللّه قال ( قوم من امتى فى آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الانبياء اذا نظر اليهم الناس ظنوهم انبياء مما يرون من حالهم حتى اعرفهم انا فاقول امتى امتى فيعرف الخلائق انهم ليسوا انبياء فيمرون مثل البرق او الريح تغشى ابصارهم اهل الجمع من انوارهم ) فقلت يا رسول اللّه مرنى بمثل عملهم لعلى الحق بهم فقال ( يا ابا هريرة ركب القوم طريقا صعبا آثروا الجوع بعدما اشبعهم اللّه والعرى بعدما كساهم اللّه والعطش بعدما ارواهم اللّه تركوا ذلك رجاء ما عند اللّه تركوا الحلال مخافة حسابه صحبوا الدنيا بابدانهم ولم يشتغلوا بشىء منها عجبت الملائكة والانبياء من طاعتهم لربهم طوبى لهم وددت ان اللّه جمع بينى وبينهم ) ثم بكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شوقاً اليهم ثم قال عليه السلام ( اذا اراد اللّه باهل الارض عذابا فنظر اليهم صرف العذاب عنهم فعليك يا ابا هريرة بطريقهم ) قال الشيخ العطار قدس اللّه سره درراه تومر دانند ازخويش نهان مانده ... بى جسم وجهت كشته بى نام ونشان مانده تنشان بشريعت هم دلشان بحقيقت هم ... هم دل شده وهم جان نه اين ونه آن مانده عليهم سلام اللّه ورحمته وبركاته اللّهم اجعلنا من اللاحقين بهم آمين آمين ٢٥٠ { ولما برزوا } اى ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا الى براز اى فضاء من الارض فى موطن الحرب { لجالوت وجنوده } وشاهدوا ما عليهم من العدد وايقنوا انهم غير مطيقين لهم عادة { قالوا } اى جميعا عند تقوى قلوب الفريق الاول منهم بقول الفريق الثانى متضرعين الى اللّه تعالى مستعينين به { ربنا } فى ندائهم بقولهم ربنا اعتراف منهم بالعبودية وطلب لاصلاحهم لان لفظ الرب يشعر بذلك دون غيره { أفرغ علينا } افراغ الاناء اخلاؤه مما فيه اى صب علينا وهو استعارة عن الاكمال والاكثار أتوا بلفظة على طلبا لان يكون الصبر مستعليا عليهم وشاملا لهم كالظرف للمظروف { صبرا } على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الضيقة { وثبت اقدامنا } وهب لنا ما نثبت به فى مداحض القتال ومزال النزال من قوة القلوب والقاء الرعب فى قلوب العدو ونحو ذلك من الاسباب فالمراد بثبات القدم كمال القوة والرسوخ عند المقارنة وعدم التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرر فى حيز واحد { وانصرنا على القوم الكافرين } بقهرهم وهزمهم ولقد راعوا فى الدعاء ترتيبا بليغا حيث قدموا سؤال افراغ الصبر على قلوبهم الذى هو ملاك الامر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر على العدو الذى هو الغاية القصوى ٢٥١ { فهزموهم } اى كسروهم بلا مكث { باذن اللّه } اى بنصره وتأييده اجابة لدعائهم { وقتل داود جالوت } كان جالوت الجبار رأس العمالقة وملكهم وكان من اولاد عمليق بن عاد وكان من اشد الناس واقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاثمائة رطل حديد وكان ظله ميلا لطول قامته وكان ايشى ابو داود عليه السلام فى جملة من عبر النهر مع طالوت وكان معه سبعة من ابنائه وكان داود اصغرهم يرعى الغنم فاوحى الى نبى العسكر وهو اشمويل ان داود بن ايشى هو الذى يقتل جالوت فطلبه من اللّه فجاء به فقال النبى اشمويل لقد جعل اللّه تعالى قتل جالوت على يدك فاخرج معنا الى محاربته فخرج معهم فمر داود عليه السلام فى الطريق بحجر فناداه يا داود احملنى فانى حجر هارون الذى قتل بى ملك كذا فحمله فى مخلاته ثم بحجر آخر فقال له احملنى فانىحجر موسى الذى قتل بى كذا وكذا فحمهل فى مخلاته ثم مر بحجر آخر فقال له احملنى فان حجر الذى تقتل بى جالوت فوضعه فى مخلاته وكان من عادته رمى القذافة وكان لا يرمى بقذافته شيأ من الذئب والاسد والنمر الا صرعه واهلكه فما تصاف العسكران للقتال برز جالوت الجبار الى البراز وسأل من يخرج اليه فلم يخرج اليه احد فقال يا بنى اسرائيل لو كنتم على حق لبارزنى بعضكم فقال داود لاخوته من يخرج الى هذا الاقلف فسكتوا فالتمس منه طالوت ان يخرج اليه ووعده ان يزوجه ابنته ويعطيه نصف ملكه ويجرى له خاتمه فيه لما توجه داود نحوه اعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فلبس السلاح وركب الفرس فسار قريبا ثم انصرف الى الملك فقال من حوله جبن الغلام فجاء فوقف على الملك فقال ما شأنك فقال ان اللّه تعالى ان لم ينصرنى لم يغن عنى هذا السلاح شيأ فدعنى اقاتل كما اريد قال نعم فاخذ داود مخلاته فتقلدها واخذ المقلاع ومضى نحو جالوت روى انه لما نظر جالوت الى داود قذف فى قلبه الرعب فقال يا فتى ارجع فانى ارحمك ان اقتلك قال داود بل انا اقتلك قال ائتنى بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب قال نعم انت شر من الكلب قال جالوت لا جرم لاقسمن لحمك بين سباع الارض وطير السماء قال داود بل يقسم اللّه لحمك فقال باسم اله ابراهيم واخرج حجرا ثم اخرج الآخر وقال باسم اله اسحق ثم اخرج الثالث وقال باسم اله يعقوب فوضع الاحجار الثلاثة فى مقلاعه فصارت كلها حجرا واحدا ودور المقلاع ورمى به فسخر اللّه له الريح حتى اصاب الحجر انف البيضة وخالط دماغه وخرج من قفاه وقتل من ورائه ثلاثين رجلا وهزم اللّه الجيش وخرّ جالوت قتيلا فاخذ داود يجره حتى القاه بين يدى طالوت ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا الى المدينة سالمين فزوجه طالوت ابنته واجرى خاتمه فى نصف مملكته فمال الناس الى داود واحبوه واكثروا ذكره فحسده طالوت واراد قتله فتنبه له داود وهرب منه فسلط طالوت عليه العيون وطلبه اشد الطلب فلم يقدر عليه وانطلق داود الى الجبل مع المتعبدين فتعبد فيه دهرا طويلا فاخذ العلماء والعباد ينهون طالوت فى شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه احد عن قتل داود الا قتله فاكثر فى قتل العلماء الناصحين فلم يكن يقدر على عالم فى بنى اسرائيل يطيق قتله الا قتله ثم ندم على ما فعله من المعاصى والمنكرات واقبل على البكاء ليلا ونهارا حتى رحمه الناس وكان كل ليلة يخرج الى القبور فيبكى وينادى حم اللّه عبدا يعلم ان لى توبة الا اخبرنى بها فلما اكثر التضرع والالحاح عليهم رق له بعض خواصه فقال له ان دللتك ايها الملك لعلك ان تقتله فقال لا واللّه بل اكرمه اتم الاكرام وانقاد الى حكمه واخذ مواثيق الملك وعهوده على ذلك فذهب به الى باب امرأة تعلم اسم اللّه الاعظم فلما لقيها قبل الارض بين يديها وسألها هل من توبة فقالت لا واللّه لا اعلم لك من توبة ولكن هل تعلم مكان قبر نبى فانطلق بها الى قبر اشمويل فصلت ودعت ثم نادت صاحب القبر فخرج اشمويل من القبر ينفض رأسه من التراب فلما نظر اليهم سألهم وقال مالكم أقامت القيامة قالت لا ولكن طالوت يسأل هل له من توبة قال اشمويل يا طالوت ما فعلت بعدى قال لم ادع من الشر شيأ الا فعلته وجئت لطلب التوبة قال كم لك من الولد قال عشرة رجال قال لا اعلم لك من التوبة الا ان تتخلى من ملكك وتخرج انت وولدك فى سبيل اللّه ثم تقدم ولدك حتى يقتلوا بين يديك ثم تقاتل انت فتقتل آخرهم ثم رجع اشمويل الى القبر وسقط ميتا ورجع طالوت ففعل ما امر به حتى قتل فجاء قاتله الى داود ليبشره وقال قتلت عدوك فقال داود ما انت بالذى تحيى بعده فضرب عنقه فكان ملك طالوت الى ان قتل اربعين سنة واتى بنوا اسرائيل بداود واعطوه خزائن طالوت وملكوه على انفسهم وملك داود بعد قتل طالوت سبعين سنة { وآتاه اللّه الملك } اى ملك بنى اسرائيل فى مشارق الارض المقدسة ومغاربها ولم يجتمعوا قبل داود على ملك { والحكمة } اى النبوة ولم يجتمع فى بنى اسرائيل الملك والنبوة قبله الا له بل كان الملك فى سبط والنبوة فى سبط آخر وانزل عليه الزبور اربعمائة وعشرين سورة وهو اول من تكلم باما بعد وهو فصل الخطاب الذى اوتيه داود عليه السلام { وعلمه مما يشاء } اى مما يشاء اللّه تعليمه اياه من صنعة الدروع بألانة الحديد وكان يصنعها ويبيعها وكان لا يأكل الا من عمل يده ومنطق الطير وتسبيح الجبال وكلام الحكل والنمل والصوت الطيب والالحان الطيبة فلم يعط اللّه احدا مثل صوته وكان اذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ باعناقها وتطلبه الطير مصيخة له ويركد الماء الجارى وتسكن الريح { ولولا دفع اللّه } المصدر مضاف الى فاعله اى صرفه { الناس } مفعول الدفع { بعضهم } الذين يباشرون الشر والفساد وهو بدل من الناس بدل البعض من كل { ببعض } آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر اللّه من القتل كما فى القصة المحكية وغيره وهو متعلق بالمصدر { لفسدت الارض } وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الارض ويصلحها وقيل لولا دفع اللّه بالمؤمنين والابرار عن الكفار والفجار لهلكت الارض ومن فيها ولكن اللّه يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة اهل بيت جيرانه البلاء ) ثم قرأ { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض } ثم ان فيه تنبيها على فضيلة الملك وانه لولاه لما انتظم امر العالم. ولهذا قيل الدين والملك توأمان ففى ارتفاع احدهما ارتفاع الآخر لان الدين اساس والملك حارس ومالا اس له فمهدوم ومالا حارس له فضائع والناس قد لا ينقادون للرسل تحت الرياسة مع ظهور الحجج فاحتيج الى المجاهدة باللسان والسيف وذلك يكون من الانبياء ومن يتابعهم ثم لهم آجال مضروبة عندها فوجب ان يكون لهم خلفاء بعدهم من كل عصر فى اقامة الدين والجهاد فهذا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض. وتفصيله ان دفع اللّه الناس بعضهم ببعض على وجهين دفع ظاهر ودفع خفى. فالظاهر ما كان بالسواس الاربعة الانبياء والملوك والحكماء المعنيي بقوله { ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا } والوعاظ. فسلطان الانبياء عليه السلام على الكافة خاصهم وعامهم ظاهرهم وباطنهم وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون البواطن كما قيل نحن ملوك ابدانهم لا ملوك اديانهم وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة وسلطان الوعاظ بواطن العامة. واما الدفع الخفى فسلطان العقل يدفع عن كثير من القبائح وهو السبب فى التزام سلطان الظاهر { ولكن اللّه ذو فضل } عظيم لا يقادر قدره { على العالمين } كافة يعنى لكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الارض وتنتظم به مصالح العامة وتنصلح احوال الامم. ففضله تعالى يعم العوالم كلها اما فى عالم الدنيا فبهداية طريق الرشد والصلاح واما فى الآخرة فبالجنات والدرجات والنجاة والفلاح ومن جملة فضله تعالى على العالمين دفع البليات عن بعض عباده بلا واسطة كالانبياء وكمل الاولياء ومن اقتفى اثرهم من اهل اليقين ٢٥٢ { تلك } اشارة الى ما سلف من حديث الالوف وتمليك طالوت واتيان التابوت وانهزام الجبابرة وقتل داود جالوت { آيات اللّه } المنزلة من عنه { نتلوها عليك } اى بواسطة جبريل { بالحق } حال من مفعول نتلوها اى ملتبسة بالوجه المطابق الذى لا يشك فيه اهل الكتاب وارباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما فى كتبهم { وانك لمن المرسلين } اى من جملة الذين ارسلوا الى الامم لتبليغ رسالتنا واجراء اوامرنا واحكامنا عليهم والا لما اخبرت بتلك الآيات من غير تعرف ولا استماع والتأكيد لرد قول الكفار لست رسولا قال بعضهم ألا اى احمد مرسل شودهر مشكل ازتوحل ... كنم وصف ترا مجمل تويى سلطان هرمولى شريعت ازتوروشن طريقت هم مبرهن شد ... حقيقت خود معين شد زهى سلطان بى همتا والاشارة ان المجاهد مع جالوت النفس الامارة لا يقوم بحوله وقوته حتى يرجع الى ربه مستعينا { ربنا افرغ علينا صبرا } على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك { وثبت اقدامنا } فى التسليم عند الشدة والرخاء وهجوم احكام القضاء فى السراء والضراء { وانصرنا على القوم الكافرين } وهم اعداؤنا فى الدين عموما والنفس الامارة التى هى اعدى عدونا بين جنبينا خصوصا اذا كان الالتجاء عن صدق الرجاء برب الارض والسماء يكون مقرونا باجابة الدعاء والظفر على الاعداء { فهزموهم باذن اللّه } بنصرة اللّه فانه الذى صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده { وقتل داود } القلب { جالوت } النفس اذا اخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون الى العقبى وحجر تعلقه الى نفسه بالهوى حتى صارت الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات الى غير المولى فوضعه فى مقلاع التسليم والرضى فرمى به جالوت النفس وسخر اللّه له ريح العناية حتى اصاب انف بيضة هواها فاخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها واخلاقها وهزم اللّه باقى جيشها وهو الشياطين واحزابها { وآتاه اللّه الملك والحكمة } يعنى آتى داود القلب ملك الخلافة وحكمة الالهامات الربانية { وعلمه مما يشاء } من حقائق القرآن واسراره واشاراته { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض } يعنى ارباب الطلب بالمشايخ الواصلين { لفسدت الارض } ارض استعدادهم المخلوقة فى احسن التقويم لتشمير كمالات الدين القويم عن استيلاء جالوت النفس وجنود صفاتها فى تخريب بلاد الارواح بتبديل اخلاقها وتكدير صفاء ذواتها وترديدها الى جحيم صفات البهائم والانعام واسفل دركاتها { ولكن اللّه ذو فضل على العالمين } يعنى من كمال فضله ورحمته يحرك سلسلة طلب الطالبين ويلهم اسرارهم بارادة المشايخ الكاملين ويوفقهم للتمسك بذيول تربيتهم والتسليم تحت تصرفاتهم فى تنقيتهم ويثبتهم بالصبر والسكون على الرياضات والمجاهدات فى حال تزكيتهم ويشير الى المشايخ بقبولهم والاقبال عليهم ويقويهم على شدائد المخالفات فلو لم تكن هذه الالطاف من اللّه ما تيسر لهم تزكية نفوسهم ابدا فهذه اشارة لا تتحقق الا لاهل الخير ولهذا خص اللّه حبيبه بتحقيقها وتحققها بقوله { تلك آيات اللّه } يعنى فى ضمن هذه الآيات حقائق ودقائق { نتلوها عليك } اى نجلوها لديك { بالحق } اى بالحقيقة كما هى { وانك لمن المرسلين } الذين عبروا على هذه المقامات وشاهدوا هذه الاحوال والكرامات كذا فى التأويلات النجمية ٢٥٣ { تلك الرسل } اشارة الى الجماعة الذين من جملتهم النبى عليه الصلاة والسلام فاللام فى الرسل للاستغراق { فضلنا بعضهم على بعض } بان خصصناه بمنقبة ليست لغيره واعلم ان الانبياء كلهم متساوون فى النبوة لان النبوة شىء واحد لا تفاضل فيها وانما التفاضل باعتبار الدرجات. بلغ بعضهم منصب الخلة كابراهيم عليه الصلاة والسلام ولم يحصل ذلك لغيره. وجمع لداود بين الملك والنبوة وطيب النعمة ولم يحصل هذا لغيره. وسخر لسليمان الجن والانس والطير والريح ولم يحصل هذا لابيه داود. وخص محمدا عليه وعليهم السلام بكونه مبعوثا الى الجن والانس وبكون شرعه ناسخا لجميع الشرائع المتقدمة. ومنهم من دعا امته بالفعل الى توحيد الافعال وبالقوة الى الصفات والذات ومنهم من دعا بالفعل الى الصفات ايضا وبالقوة الى الذات. ومنهم من دعا الى الذات ايضا بالفعل وهو ابراهيم عليه السلام فانه قطب التوحيد اذ الانبياء كانوا يدعون الى المبدأ والمعاد والى الذات الاحدية الموصوفة ببعض الصفات الآلهية الا ابراهيم عليه السلام فانه دعا الى الذات الآلهية الاحدية ولذا امر اللّه نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم باتباعه بقوله ( ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا ) فهو من اتباع ابراهيم باعتبار الجمع دون التفصيل اذ لا متمم لتفاصيل الصفات الا هو ولذلك لم يكن غيره خاتما فالانبياء وان كانوا متفاوتين فى درجات الدعوة بحسب مشارب الامم الا ان كلهم واصلون فانون فى اللّه باقون باللّه لان الولاية قبل النبوة حيث ان آخر درجات الولاية اول مقامات النبوة فهى تبتنى على الولاية ومعنى الولاية الفناء فى اللّه والبقاء باللّه فالنبى لا يكون الا واصلا محرزا جميع مراتب التوحيد من الافعال والصفات والذات { منهم من كلم اللّه } اى فضله اللّه بان كلمه بغير واسطة وهو موسى عليه الصلاة والسلام فهو كليمه بمعنى مكالمه واختلفوا فى الكلام الذى سمعه موسى وغيره من اللّه تعالى هل هو الكلام القديم الازلى الذى ليس من جنس الحروف والاصوات. قال الاشعرى واتباعه المسموع هو ذلك الكلام الازلى قالوا كما انه لم تمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف. وقيل سماع ذلك الكلام محال وانما المسموع هو الحروف والصوت { ورفع بعضهم درجات } اى على درجات فانتصابه على نزع الخافض وذلك بان فضله على غيره من وجوه متعددة او بمراتب متباعدة والظاهر انه اراد محمدا صلى اللّه عليه وسلم لانه هو المفضل عليهم حيث اوتى ما لم يؤته احد من الآيات المتكاثرة المرتقية الى ثلاثة آلاف آية واكثر ولو لم يؤت الا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما اوتى الانبياء لانه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفى الحديث ( فضلت على الانبياء بست اوتيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب واحلت لى الغنائم وجعلت لى الارض مسجدا وطهورا وارسلت الى الخلق كافة وختم بى النبيون ) قال فى التأويلات النجمية اعلم ان فضل كل صاحب فضل يكون على قدر استعلاء ضوء نوره لان الرفعة فى الدرجات على قدر رفعة الاستعلاء كما قال تعالى { والذين اوتوا العلم درجات } فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية فكلما ازداد العلم زادت الدرجة فناهيك عن هذا المعنى قول النبى عليه السلام فيما يخبر عن المعراج انه رأى آدم فى السماء الدنيا ويحيى وعيسى فى السماء الثانية ويوسف فى السماء الثالثة وادريس فى السماء الرابعة وهارون فى السماء الخامسة وموسى فى السماء السادسة وابراهيم فى السماء السابعة وعبر النبى عليه السلام حتى رفع الى سدرة المنتهى ومن ثم الى قاب قوسين او ادنى فهذه الرفعة فى الدرجة فى القرب الى الحضرة كانت له على قدر قوة ذلك النور فى استعلاء ضوئه وعلى قدر غلبات انوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الانبياء بعضهم فوق بعض فلما غلب نور الوحدانية على ظلمة انسانية النبى عليه السلام اضمحلت وتلاشت وفنيت ظلمة وجوده بسطوات تجلى صفات الجمال والجلال فكل نبى بقدر بقية ظلمة وجوده بقى فى مكان من اماكن السموات فانه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ما بقى فى مكان ولا فى الامكان لانه كان فانيا عن ظلمة وجوده باقيا بنور وجوده ولهذا سماه اللّه نورا وقال { قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين } فالنور هو محمد عليه السلام والكتاب هو القرآن فافهم واغتنم فانك لا تجد هذه المعانى الا ههنا انتهى كلام التأويلات النجمية { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من احياء الموتى وشفاء المرضى وابراء الاكمه والابرص وخلق الطير من الطين والخبار بالمغيبات والانجيل وجعل معجزاته سبب تفضيله مع ان ايتاء البينات غير مختص بعيسى عليه الصلاة والسلام لانها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره وخص عيسى عليه السلام بالتعيين مع انه غير مختص بايتاء البينات تقبيحا لافراط اليهود فى تحقيره حيث انكروا نبوته مع ما ظهر على يده من البينات القاطعة الدالة عليها ولافراط النصارى فى تعظيمه حيث اخرجوه عن مرتبة الرسالة { وايدناه } اى قويناه { بروح القدس } اى الروح المطهرة التى نفحها اللّه فيه فأبانه بها من غيره ممن خلق من اجتماع نطفتى الذكر والانثى لانه عليه السلام لم تضمه اصلاب الفحول ولم يشتمل عليه ارحام الطوامث. فالقدس بمعنى المقدس من قبيل رجل صدق او القدس هو اللّه وروحه جبريل والاضافة للتشريف والمعنى اعانه بجبريل فى اول امره وفى وسطه وفى آخره اما فى الاول من امره فلقوله { فنفخنا فيه من روحنا } واما فى وسطه فلان جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الاعداء واما فى آخر الامر فحين ارادت اليهود قتله اعانه جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الاعداء واما فى آخر الامر فحين ارادت اليهود قتله اعانه جبريل ورفعه الى السماء { ولو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم } اى من بعد الرسل من الامم المختلفة اى لو شاء اللّه عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بان جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق { من } متعلقة باقتتل { بعد ما جاءتهم } من جهة اولئك الرسل { البينات } المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقيقة الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الاعراض عن سننهم المؤدى الى القتال { ولكن اختلفوا } اى لكن لم يشأ عدم اقتتالهم لانهم اختلفوا اختلافا فاحشا { فمنهم من آمن } اى بما جاءت به اولئك الرسل من البينات وعملوا به { ومنهم من كفر } بذلك كفرا لا ارعواء له فاقتضت الحكمة عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء احوالهم { ولو شاء اللّه } عدم اقتتالهم بعد هذه المرة ايضا من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة { ما اقتتلوا } وما نبض منهم عرق التطاول والتعاون لما ان الكل تحت ملكوته { ولكن اللّه يفعل ما يريد } اى من الامور الوجودية والعدمية التى من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فان الترك ايضا من جملة الافعال اى يفعل ما يريد حسبما يريد من غير ان يوجبه عليه موجب او يمنعه منه مانع. وفيه دليل بين على ان الحوادث تابعة لمشيئته تعالى خيرا كان او شرا ايمانا كان او كفرا وهذا نذير على المعتزلة قال الامام الغزالى قدس سره المتعالى فى شرح اسمى الضار والنافع هو الذى يصدر منه الخير والشر والنفع والضر وكل ذلك منسوب الى اللّه تعالى اما بواسطة الملائكة والانس والجمادات او بغير واسطة فلا تظنن ان السم يقتل ويضر بنفسه وان الطعام يشبع وينفع بنفسه وان الملك او الانسان او الشيطان او شيأ من المخلوقات من فلك الكواكب او غيرها يقدر على خير او شر بنفسه او نفع او ضر بل كل ذلك اسباب مسخرة لا يصدر منها الا ما سخرت له وجملة ذلك بالاضافة الى القدرة الازلية كالقلم بالاضافة الى الكاتب فى اعتقاد العامى وكما ان السلطان اذا وقع لكرامة او عقوبة لم يضر ذلك ولا نفعه من القلم بل من الذى القلم مسخر له فكذلك سائر الوسائط والاسباب وانما قلنا فى اعتقاد العامى لان الجاهل هو الذى يرى القلم مسخرا للكاتب والعارف يعلم انه مسخر فى يده للّه تعالى وهو الذى الكاتب مسخر له فانه مهما خلق الكاتب وخلق له القدرة وسلط عليه الداعية الجازمة التى لا تردد فيها صدر منه حركة الاصبع والقلم لا محالة شاء ام ابى بل لا يمكنه ان لا يشاء فاذا الكاتب بقلم الانسان ويده هو اللّه تعالى واذا عرفت هذا فى الحيوان المختار فهو فى الجمادات اظهر قال صاحب روضة الاخيار المؤثر هو اللّه تعالى والكواكب اسباب عادية الشمس مظهر اسم الحى والزهرة للمريد وعطارد للمسقط والقمر للقابل ولذا كان بيت العزة فى ملكه والمريخ للقادر والمشترى للعليم وزحل للجواد واصول الاسماء اربعة هى الحياة والعلم والقدرة والارادة واسرافيل مظهر الحياة والاقساط مندرج فيها وجبريل مظهر العلم والقول وباعتبار الاول هو روح القدس وبالثانى الروح الامين ولذا كان حامل الوحى وميكائيل مظهر الارادة والجود مندرج فيها ولذا كان ملك الارزاق وعزرائيل مظهر القدرة ولذا يقهر الجبابرة ويذلهم بالموت والفناء ٢٥٤ { يا ايها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم } من تبعيضية اى شيأ مما رزقناكموه والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الانفاق والمراد به الانفاق الواجب اى الزكاة بدلالة ما بعده من الوعيد والاكثر على ان الامر يتناول الواجب والمندوب { من } لابتداء الغاية { قبل ان يأتى يوم } يوم الحساب والجزاء { لا بيع فيه } يتدارك به المقصر تقصيره وهو فى التقدير جواب هل فيه بيع ولهذا رفع. والبيع استبدال المال بالثمن { ولا خلة } حتى يسامحكم اخلاؤكم بما تصنعون. والخلة المودة والصداقة فكأنها تتخلل الاعضاء اى تدخل خلالها ووسطها والخليل الصديق لمداخلته اياك والخلة تنقطع يوم القيامة بين الاخلاء الا بين المتقين لقوله تعالى { الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين } { ولا شفاعة } حتى تتكلوا على شفعاء تشفع لكم فى حط ما فى ذممكم والشفاعة المنفية يوم القيامة هى التى يستقل فيها الشفيع ويأتى بها وان لم يؤذن له فيها فان الدلائل قائمة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين بعد ان يؤذن لهم فيها وهى لمن مات لا يشرك باللّه شيأ { والكافرون } اى والتاركون للزكاة وايثاره عليه للتغليط والتهديد كما قال فى آخر آية الحج { ومن كفر } مكان ومن ولم يحج وللايذان بان ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى { فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة } { هم الظالمون } اى الذين ظلموا انفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال فى غير موضعه وصرفوه الى غير وجهه زكات اكر ندهى اززت زداده وى ... علاج كى كنمت كاخر الدواء الكى قال الراغب حث المؤمنين على الانفاق مما رزقهم من النعماء النفسية والبدنية الجارحية وان كان الظاهر فى التعارف انفاق المال ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن فى مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء والآخرة دار ثواب وجزاء بين ان لا سبيل للانسان الى تحصيل ما ينتفع به فى الآخرة فابتلى بذكر هذه الثلاثة لانها اسباب اجتلاب المنافع المفضية اليها. احدها المعاوضة واعظمها المبايعة. والثانى ما تناوله بالمودة وهو المسمى بالصلات والهدايا. والثالث ما يصل اليه بمعاونة الغير وذلك هو الشفاعة. ولما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثا عدالة بين الانسان ونفسه وعدالة بينه وبين الناس وعدالة بينه وبين اللّه. فكذلك الظلم له مراتب ثلاث واعظم العدالة ما بين العبد وبين اللّه وهو الايمان واعظم الظلم ما يقابله وهو الكفر ولذلك قال { والكافرون هم الظالمون } اى هم المستحقون لاطلاق هذا الوصف عليهم بلا مشوبة. فليسارع العبد الى تقوية الايمان بالانفاق والاحسان حكى انه كان عابد من الشيوخ اراده الشيطان فلم يستطع منه شيأ فقال له الشيطان ألا تسألنى عما اضل به بنى آدم قال بلى قال فاخبرنى ما اوثق شىء فى نفسك ان تضلهم به قال الشيخ والحدة والسكر فان الرجل اذا كان شحيحا قللنا ماله فى عينيه ورغبناه فى اموال الناس وان كان حديدا ادرناه بيننا كما تتداور الصبيان الكرة فلو كان يحيى الموتى بدعائه لم نيأس منه واذا سكر اقتدناه الى كل شهوة كما تقاد العنز باذنها كذا فى آكام المرجان وعن محمد بن اسماعيل البخارى يقول بلغنا ان اللّه اوحى الى جبريل عليه الصلاة والسلام فقال يا جبريل لو انا بعثتك الى الدنيا وجعلتك من اهلها ما الذى عملت من الطاعات فيها فقال جبريل انت اعلم بشأنى منى ولكنى كنت اعمل ثلاثة اشياء. اولها كنت اعين صاحب العيال فى النفقة على عيالة. والثانى كنت استر عيوب الخلق وذنوبهم حتى لا يعلم احد من خلقك عيوب عبادك وذنوبهم غيرك. والثالث اسقى العطشان وارويه من الماء كذا فى روضة العلماء : قال السعدى قدس سره جو خودرا قوى حال بينى وخوش ... بشكرانه بار ضعيفان بكش اكر خود همين صورتى جون طلسم ... بميرى واسمت بميرد جو جسم اكر برورانى درخت كرم ... برنيك نامى خورى لا جرم اللّهم اجعلنا من المنفقين والمستغفرين ٢٥٥ { اللّه } هذا الاسم اعظم الاسماء التسعة والتسعين لانه دال على الذات الجامعة لصفات الآلهية كلها حتى لا يشذ منها شىء وسائر الاسماء لا تدل آحادها الا على آحاد المعانى من علم او قدرة او فعل وغيره ولانه اخص الاسماء اذ لا يطلقه احد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الاسماء قد يسمى بها غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيرها وينبغى ان يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله واعنى به ان يكون مستغرق القلب والهمة فى اللّه تعالى لا يرى غيره ولا يلتفت الى سواه ولا يرجو ولا يخاف الا اياه وكيف لا يكون كذلك وقد فهم من هذا الاسم انه الموجود الحقيقى الحق وكل ما سواه فان وهالك وباطل الا به فيرى نفسه اول هالك وباطل كما رآه رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم حث قال ( أصدق بيت قالته العرب قول لبيد ألا كل شىء ما خلا اللّه باطل ) وهذه الكلمة فوائد ليست فى غيرها فان كل كلمة اذا اسقطت منها حرفا يختل المعنى بخلاف هذه فانك ان حذت الالف يصير للّه قال تعالى { للّه ما فى السموات والارض } وان حذفت اللام الاولى ايضا يبقى له قال تعالى { له ملك السموات والارض } وان حذفت اللام الثانية ايضا يبقى الهاء وهو ضمير راجع الى اللّه تعالى قال تعالى { هو اللّه الذى لا اله الا هو } وللاسماء تأثير بليغ خصوصا للفظة الجلالة قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لما جاء المولى علاء الدين الخلوتى ببروسة صعد المنبر فى الجامع الكبير للوعظ وقد اجتمع جمع كثير منتظرين لكلامه فقال مرة واحدة ( يا اللّه ) فحصل للجماعة حالة رقصوا وكادوا لا يرجعون عن البكاء والفزع وحكى انه لما مات سلطان العصر عزم جماعة الرجال على قتل الوزير فجاء بيت الشيخ وفاء فى القسطنطنية واستغاث منه فادخله الشيخ الى بيته فهجموا جميعا الى بيت الشيخ فخرج الشيخ وقال مرة واحدة ( يا اللّه ) فهربوا جميعا فانظر انهم اذا ذكروا اللّه تظهر آثار عجيبة ونحن اذا ذكرنا ذلك الاسم بعينه لا يظهر له اثر وذلك لانهم زكوا انفسهم وبدلوا اخلاقهم واما نحن فليس فينا هذا ولا القابلية لذلك وانما الفيض من اللّه تعالى : قال الحافظ فيض روح القدس ار باز مدد فرمايد ... ديكران هم بكنند انجه مسيحا ميكند { لا اله الا هو } الجملة خبر للمبتدأ وهو الجلالة والمعنى انه المستحق للعبادة لا غير وحكى ان تسبيح قطب الاقطاب ( يا هو ويا من هو ويا من لا اله الا هو ) فاذا قال ذلك بطريق الحال يقدر على التصرفات وللتوحيد ثلاث مراتب. توحيد المبتدئين لا اله الا اللّه. وتوحيد المتوسطين لا اله الا انت لانهم فى مقام الشهود فمقتضاه الخطاب. واما الكمل فيسمعون التوحيد من الموحد وهو لا اله الا انا لانهم فى مقام الفناء الكلى فلا يصدر منهم شىء اصلا قال ابن الشيخ فى حواشى سورة الاخلاص لفظ هو اشارة الى مقام المقربين وهم الذين نظروا الى ماهيات الاشياء وحقائقها من حيث هى هى فلا جرم ما رأوا موجودا سوى اللّه لان الحق هو الذى لذاته يجب وجوده واما ما عداه فممكن والممكن اذا نظر اليه من حيث هو هو كان معدوما فهؤلاء لم يروا موجودا سوى الحق سبحانه وكلمة هو وان كانت للاشارة المطلق ومفتقرة فى تعين المراد بها الى سبق الذكر باحد الوجوه او الى ان يعقبها ما يفسرها الا انهم يشيرون الى الحق سبحانه ولا يفتقرون فى تلك الاشارة الى ما يميز الذات المرادة عن غيرها لان الافتقار الى المميز انما يحصل حيث وقع الابهام بان يتعدد ما يصلح لان يشار اليه وقد بينا انهم لا يشاهدون بعيون عقولهم الا الواحد فقط فلهذا السبب كانه لفظة هو كافية فى حصول العرفان التام لهؤلاء انتهى كلامه وانما ذكرته ههنا ليكون حجة على من انكر على جماعة الصوفية فى كلمة هو ذاهبا الى انها ضمير ولا فائدة فى الذكر به وقد سبق منى عند قوله تعالى { وآلهكم اله واحد لا اله الا هو } ما ينفك فى هذا المقام قال شيخى وسندى الذى بمنزلة روحى فى جسدى الذكر ب ( لا اله الا اللّه ) افضل من الذكر بكلمة ( اللّه اللّه ) و ( هو هو ) عند العلماء باللّه لانها جامعة بين النفى والاثبات وحاوية لزيادة العلم والمعرفة فمن نفى بلا اله عين الخلق حكما لا علما فقد اثبت كون الحق حكما وعلما وافادنى ايضا اذ قلت لا اله الا اللّه فشاهد بالشهود الحقانى فناء افعال الخلق وصفاتهم وذواتهم فى افعال الحق وصفاته وذاته وهذا مقتضى الجمع والاحدية. وتلك الكلمة فى الحقيقة اشارة الى هذه المرتبة واذا قلت محمد رسول اللّه فشاهد بالشهود الحقانى ايضا بقاء افعالهم وصفاتهم وذواتهم بافعاله تعالى وصفاته وذاته وهذا مقتضى الفرق والواحدية. وتلك الكلمة ايضا اشارة الى هذه المرتبة فاذا كان توحيد العبد على هذه المشاهدة فلا جرم ان توحيده يكون توحيدا حقيقا حقانيا لا رسما نفسانيا : قال المولى الجامى قدس سره كرجه ( لا ) داشت تيركئ عدم ... دارد ( الا ) فروع نور قدم كرجه ( لا ) بود كان كفر وجحود ... هست ( الا ) كليد كنج شهود جون كند ( لا ) بساط كثرت طى ... دهد ( الا ) زجام وحدت مى آن رهاند زنقش بيش وكمت ... وين رساند بوحدت قدمت تانسازى حجاب كثرت دور ... ندهد افتاب وحدت نور دائم آن آفتاب تابانست ... ازحجاب تو ازتو بنهانست كربرون آيى ازحجاب تويى ... مرتفع كردد ازميانه دويى در زمين زمان وكون مكان ... همه او بينى آشكار ونهان اللّهم اوصلنا الى الجمع والعين واليقين { الحى } خبر ثان. وهو فى اللغة من له الحياة وهى صفة تخالف الموت والجمادية وتقتضى الحس والحركة الارادية واشرف ما يوصف به الانسان الحياة الابدية فى دار الكرامة واذا وصف البارى عز شأنه بها وقيل انه حى كان معناه الدائم الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء فهو الموصوف بالحياة الازلية الابدية قال الامام الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى ( الحى ) هو الفعال الدراك حتى ان من لا فعل له اصلا ولا ادراك فهو ميت واقل درجات الادراك ان يشعر المدرك بنفسه فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت فالحى الكامل المطلق هو الذى تندرج جميع المدركات تحت ادراكه وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشد عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول وذلك هو اللّه تعالى فهو الحى المطلق وكل حى سواه فحياته بقدر ادراكه وفعله وكل ذلك محصور فى قوله { القيوم } قام بالامر اذا دبره مبالغة القائم فانه تعالى دائم القيام على كل شىء بتدبير امره فى انشائه وتزريقه وتبليغه الى كماله اللائق به وحفظه قال الامام الغزالى اعلم ان الاشياء تنقسم الى ما يفتقر الى محل كالاعراض والاوصاف فيقال فيها انها ليست قائمة بنفسها والى ما يحتاج الى محل فيقال انه قائم بنفسه كالجواهر الا ان الجوهر وان قام بنفسه مستغنيا عن محل يقوم به فليس مستغنيا عن امور لا بد منها لوجوده وتكون شرطا فى وجوده فلا يكون قائما بنفسه لانه محتاج فى قوامه الى وجود غيره وان لم يحتج الى محل فان كان فى الوجود موجود يكفى ذاته بذاته ولا قوام له بغيره ولا شرط فى دوام وجوده وجود غيره فهو القائم بنفسه مطلقا فان كان مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور للاشياء وجود ولا دوام وجود الا به فهو القيوم لان قوامه بذاته وقوام كل شىء به وليس ذلك الا اللّه تعالى ومدخل العبد فى هذا الوصف بقدر استغنائه عما سوى اللّه تعالى انتهى كلام الغزالى قيل الحى القيوم اسم اللّه الاعظم. وكان عيسى عليه الصلاة والسلام اذا اراد ان يحيى الموتى يدعو بهذا الدعاء يا حى يا قيوم ويقال دعاء اهل البحر اذا خافوا الغرق يا حى يا قيوم وعن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه لما كان يوم بدر جئت انظر ما يصنع النبى صلى اللّه عليه وسلم فاذا هو ساجد يقول يا حى يا قيوم فترددت مرات وهو على حاله لا يزيد على ذلك الى ان فتح اللّه له وهذا يدل على عظمة هذا الاسم وفى التأويلات النجمية انما اشير فى معنى الاسم الاعظم الى هذين الاسمين وهما الحى والقيوم لان اسمه الحى مشتمل على جميع اسمائه وصفاته فان من لوازم الحى ان يكون قادرا عالما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا. واسمه القيوم مشتمل على افتقار جميع المخلوقات اليه فاذا تجلى اللّه لعبد بهاتين الصفتين فالعبد يكاشف عند تجلى صفة الحى معانى جميع اسمائه وصفاته ويشاهد عند تجلى صفة القيوم فناء جميع المخلوقات اذا كان قيامها بقيومية الحق لا بانفسهم فلما جاء الحق زهق الباطل فلا يرى فى الوجود الا الحى القيوم اذا سلب الحى جميع اسماء اللّه وسلب القيوم قيام المخلوقات فترتفع الاثنينية بينهما واذا فنى التعدد وبقيت الوحدة فيصيران اسما اعظم للمتجلى له فيذكره عند شهود عظمة الوحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الانسانية فقد ذكره باسمه الاعظم الذى اذا دعى به اجاب واذا سئل به اعطى فاما الذاكر عند غيبه فكل اسم دعاه لا يكون الاسم الاعظم بالنسبة الى حال غيبه وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الاعظم كما سئل ابو يزيد البسطامى قدس سره عن الاسم الاعظم فقال الاسم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فاذا كنت كذلك فاذكره بأى اسم شئت انتهى ما فى التأويلات واعلم ان الاسم الاعظم عبارة عن الحقيقة المحمدية فمن عرفها عرفه وهى صورة الاسم الجامع الالهى وهو ربها ومنه الفيض فاعرف تفز بالحظ الاوفى { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة ثقلة من النعاس وفتور يعترى المزاج قبل النوم وليست بداخلة فى حد النوم والنعاس اول النوم والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الاحساس رأسا وتقديم السنة عليه مع ان قياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود الخارجى فان الموجود منهما اولا هو السنة ثم يعترى بعدها النوم وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفى لكل منهما والمراد بيان انتفاء اعتراء شىء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه وانما عبر عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الاخذ لمراعاة الواقع اذ عروض السنة والنوم لمعروضهما انما يكون بطريق الاخذ والاستيلاء والجملة نفى للتشبيه وتأكيد لكونه حيا قيوما فان من اخذه نعاس او نوم كان مؤوف الحياة قاصرا فى الحفظ والتدبير والمعنى لا يعتريه ما يعترى المخلوقين من السهو والغفلة والملال والفترة فى حفظ ما هو قائم بحفظه ولا يعرض له عوارض التعب المحوجة الى الاستراحة فيستريح بالنوم والسنة لان النوم اخو الموت والموت ضد الحياة وهو الحى الحقيقى فلا يلحقه ضد الحياة فكما انه موصوف بصفات الكمال فهو منزه عن جميع صفات النقصان روى ان موسى عليه السلام سأل الملائكة وكان ذلك فى نومه أينام ربنا فاوحى اللّه تعالى اليهم ان يوقظوه ثلاثا ولا يتركوه ينام ثم قال خذ بيدك قارورتين مملوءتين فاخذهما فاخذه النوم فزالتا وانكسرتا ثم اوحى اللّه اليه انى امسك السموات والارض بقدرتى فلو اخذنى نوم او نعاس لزالتا كذا فى الكشاف قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه لا ينام ولا ينبغى له ان ينام ) قال ابن الملك هذا بيان لاستحالة وقوع النوم منه لانه عجز واللّه تعالى يتعالى عنه انتهى وحظ العبد من هذا الوصف ان يترك النوم فان اللّه تعالى وان رخص للعباد فى المنام بل هو فضل منه تعالى لكن كثرة المنام بطالة وان اللّه تعالى لا يحب البطال قال ابو يزيد البسطامى قدس سره لم يفتح لى شىء الا بعد ان جعلت الليالى اياما : قال السعدى قدس سره سر آنكه ببالين نهد هو شمند ... كه خوابش بقهر آورد در كمند قيل كان رجل له تلميذان اختلفا فيما بينهما فقال احدهما النوم خير لان الانسان لا يعصى فى تلك الحالة وقال الآخر اليقظة خير لانه يعرف اللّه فى تلك الحالة فتحاكما الى ذلك الشيخ فقال الشيخ اما انت الذى قلت بتفضيل اليقظة فالحياة خير لك وقيل اشترى رجل مملوكة فلما دخل الليل قال افرشى الفراش فقالت المملوكة يا مولاى ألك مولى قال نعم قالت ينام مولاك قال لا فقالت ألا تستحيى ان تنام ومولاك لم ينم : ومن الابيات التى كان يذكرها بلال الحبشى رضى اللّه عنه وقت السحر يا ذا الذى استغرق فى نومه ... ما نوم عبد ربه لا ينام أهل تقول اننى مذنب ... مشتغل الليل بطيب المنام { له ما فى السموات وما فى الارض } تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده فى الالوهية لانه تعالى خلقهما بما فيهما والمشاركة انما تقع فيما فيهما ومن يكن له ما فيهما فمحال مشاركته فكل من فيهما وما فيهما ملكه ليس لاحد معه فيه شركة ولا لاحد عليه سلطان فلا يجوز ان يعبد غيره كما ليس لعبد احدكم ان يخدم غيره الا باذنه والمراد بما فيهما ما هو اعم من اجزائهما الداخلة فيهما ومن الامور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فهو ابلغ من ان يقال له السموات والارض وما فيهن لان قوله وما فيهن بعد ذكر السموات والارض انما يتناول الامور الخارجة المتمكنة فيهن اذ لو اريد به ما يعم الامور الداخلة فيهما والخارجة عنهما لاغنى ذكره عن ذكرهما { من ذا الذى يشفع عنده الا باذنه } من مبتدأ وذا خبره. والذى صفة ذا او بدل منه ولفظ من وان كان استفهاما فمعناه النفى ولذلك دخلت الا فى قوله { الا باذنه } و { عنده } فيه وجهان. احدهما انه متعلق بيشفع. والثانى انه متعلق بمحذوف فى موضع الحال من الضمير فى يشفع اى لا احد يشفع مستقرا عنده الا باذنه وقوى هذا الوجه بانه اذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريب منه فشفاعة غيره ابعد والا باذنه متعلق بمحذوف لانه حال من فاعل يشفع فهو استثناء مفرغ والباء للمصاحبة والمعنى لا احد يشفع عنده فى حال من الاحوال الا فى حال كونه مأذونا له او لا احد يشفع عنده بامر من الامور الا باذنه والباء للاستعانة كما فى ضرب بسيفه فيكون الجار والمجرور فى موضع المفعول به وكان المشركون يقولون اصنامنا شركاء اللّه تعالى وهم شفعاؤنا عنده فوحد اللّه نفسه بالنفى والاثبات ليكون المعنى فى ثبوت التوحيد ونفى الشرك اى ليس لاحد ان يشفع لاحد عند الا باذنه وقد اخبر انه لا يأذن فى الشفاعة للكفار وهو رد على المعتزلة فى انهم لا يرون الشفاعة اصلا واللّه تعالى اثبتها للبعض بقوله { الا باذنه } وفى التأويلات النجمية هذا الاستثناء راجع الى النبى عليه الصلاة والسلام لان اللّه قد وعد له المقام المحمود وهو الشفاعة فالمعنى من ذا الذى يشفع عنده يوم القيامة الا عبده محمد فانه مأذون موعود ويعينه الانبياء بالشفاعة انتهى غم نخورد آنكه شفيعش تويى ... بايه ده قدر رفعيش وتويى حاصلى ارنيست ز طاعت مرا ... هست اميدى بشفاعت مرا قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( اتانى آت من عند ربى فخيرنى بين ان يدخل نصف امتى الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ) روى ان الانبياء عليهم السلام يعينون نبينا صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة فيأتى الناس اليه فيقول انا لها وهو المقام المحمود الذى وعده اللّه به يوم القيامة فيأتى ويسجد ويحمد اللّه بمحامد يلهمه اللّه تعالى اياها فى ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك ثم يشفع الى ربه ان يفتح باب الشفاعة للخلق فيفتح ذلك الباب فيأذن فى الشفاعة للملائكة والرسل والانبياء والمؤمنين فهذا يكون سيد الناس يوم القيامة فانه شفع عند اللّه ان يشفع الملائكة والرسل ومع هذا تأدب صلى اللّه عليه وسلم وقال ( انا سيد الناس ) ولم يقل سيد الخلائق فيدخل الملائكة فى ذلك مع ظهور سلطانه فى ذلك اليوم على الجميع وذلك انه صلى اللّه تعالى عليه وسلم جمع له بين مقامات الانبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليهم من اختصاصه بعلم الاسماء كلها فاذا كان فى ذلك اليوم افتقر اليه الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه فى فتح باب الشفاعة واظهار ماله من الجاه عند اللّه اذ كان القهر الآلهى والجبروت الاعظم قد اخرس الجميع فدل على عظيم قدره عليه السلام حيث اقدم مع هذه الصفة الغضبية الآلهية على مناجاة الحق فيما سأله فيه فاجابه الحق سبحانه كذا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى عليه رحمة البارى واعلم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو اول من يفتح باب الشفاعة فيشفع فى الخلق ثم الانبياء ثم الاولياء ثم المؤمنون وآخر من يشفع هو ارحم الراحمين فان الرحمن ما شفع عند المنتقم فى اهل البلاء الا بعد شفاعة الشافعين الذين لم تظهر شفاعتهم الا بعد شفاعة خاتم الرسل اياهم ليشفعوا ومعنى شفاعة اللّه سبحانه هو انه اذا لم يبق فى النار مؤمن شرعى اصلا يخرج اللّه منها قوما علموا التوحيد بالادلة العقلية ولم يشركوا باللّه شيأ ولا آمنوا ايمانا شرعيا ولم يعملوا خيرا قط من حيث ما اتبعوا فيه نبيا من الانبياء فلم يكن عندهم ذرة من ايمان فيخرجهم ارحم الراحمين فاعرف هذا فانه من الغرائب افاده لى شيخى العلامة افادة كشفية وصادفته ايضا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى اللّهم اغفر وارحم وانت ارحم الراحمين { يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم } استئناف آخر لبيان احاطة علمه باحوال خلقه المستلزم لعلمه بمن يستحق الشفاعة ومن لا يستحقها اى يعلم ما كان قبلهم من امور الدنيا وما يكون بعدهم من امر الآخرة او ما بين ايديهم يعنى الآخرة لانهم يقدمون عليها وما خلفهم الدنيا لانهم يخلفونها وراء ظهورهم او ما بين ايديهم من السماء الى الرض وما خلفهم يريد ما فى السموات او ما بين ايديهم بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم اى ما كان قبل ان يخلقهم او ما فعلوه من خير وشر وقدموه وما يفعلونه بعد ذلك والمقصود بهذا الكلام بيان انه عالم باحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب. والضمير لما فى السموات وما فى الارض لان فيهم العقلاء فغلب من يعقل على غيره او لما دل عليه من ذا من الملائكة والانبياء فيكون للعقلاء خاصة { ولا يحيطون } اى لا يدركون يعنى من الملائكة والانبياء وغيرهم { بشىء من علمه } اى من معلوماته { الا بما شاء } ان يعلموه وان يطلعهم عليه كاخبار الرسل فلا يظهر على غيبه احد الا من ارتضى من رسول وانما فسرنا العلم بالمعلوم لان علمه تعالى الذى هو صفة قائمة بذاته المقدسة لا يتبعض فجعلناه بمعنى المعلوم ليصح دخول التبعيض والاستثناء عليه وفى التأويلات النجمية { يعلم } محمد عليه السلام { ما بين ايديهم } من الامور الاوليات قبل خلق اللّه الخلائق كقوله ( اول ما خلق اللّه نورى ) { وما خلفهم } من اهوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الانبياء وقولهم نفسى نفسى وحوالة الخلق بعضهم الى بعض حتى بالاضطرار يرجعون الى النبى عليه السلام لاختصاصه بالشفاعة { ولا يحيطون بشىء من علمه } يحتمل ان تكون الهاء كناية عنه عليه السلام يعنى هو شاهد على احوالهم يعلم ما بين ايديهم من سيرهم ومعاملاتهم وقصصهم وما خلفهم من امور الآخرة واحوال اهل الجنة والنار وهم لا يعلمون شيأ من معلوماته { الا بما شاء } ان يخبرهم عن ذلك انتهى قال شيخنا العلامة ابقاه اللّه بالسلامة فى الرسالة الرحمانية فى بيان الكلمة العرفانية علم الاولياء من علم الانبياء بمنزلة قطرة من سبعة ابحر وعلم الانبياء من علم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام بهذه المنزلة وعلم نبينا من علم الحق سبحانه بهذه المنزلة انتهى وفى القصيدة البردية وكلهم من رسول اللّه ملتمس ... غرفا من البحر او رشفا من الديم وواقفون لديه عند حدهم ... من نقطة العلم او من شكلة الحكم حاصله ان علوم الكائنات وان كثرت بالنسبة الى علم اللّه عز وجل بمنزلة نقطة او شكلة ومشربها بحر روحانية محمد صلى اللّه عليه وسلم فكل رسول ونبى وولى أخذون بقدر القابلية والاستعداد مما لديه وليس لاحد ان يعدوه او يتقدم عليه. قوله النقطة فعلة من نقطت الكتاب نقطا ومعناها الحاصل. والشكلة بالفتح فعلة من شكلت الكتاب قيدته بالاعراب { وسع كرسيه السموات والارض } الكرسى ما يجلس عليه من الشىء المركب من خشبات موضوعة بعضها فوق بعض ولا يفضل على مقعد القاعد وكأنه منسوب الى الكرس الذى هو الملبد وهو ما يجعل فيه اللبدة اى لم يضق كرسيه عن السموات والارض لبسطته وسعته وما هو الا تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسى فى الحقيقة ولا قاعد. وتقريره انه تعالى خاطب الخلق فى تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه فى ملوكهم وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتا له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وامر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر فى الحجر الاسود انه يمين اللّه تعالى فى ارضه ثم جعله موضعا للتقبيل كما يقبل الناس ايدى ملوكهم وكذلك ما ذكر فى محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء فوضع الميزان وعلى هذا القياس اثبت لنفسه عرشا فقال { الرحمن على العرش استوى } ثم اثبت لنفسه كرسيا فقال { وسع كرسيه السموات والارض } والحاصل ان كل ما جاء من الالفاظ الموهمة للتشبيه فى العرش والكرسى فقد ورد مثلها بل اقوى منها فى الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقت الامة ههنا على ان المقصود تعريف عظمة اللّه وكبريائه مع القطع بانه تعالى منزه عن ان يكون فى الكعبة ما يوهمه تلك الالفاظ فكذا الكلام فى العرش والكرسى. والمعتمد كما قال الامام ان الكرسى جسم بين يديى العرش محيط بالسموات السبع لان الارض كرة والسماء الدنيا محيطة بها احاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا الى ان يكون العرش محيطا بالكل قال صلى اللّه عليه وسلم ( ما السموات السبع والارضون السبع من الكرسى الا كحلقة فى فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) ولعله الفلك الثامن وهو المشهور بفلك البروج قال مقاتل كل قائمة من الكرسى طولها مثل السموات السبع والارضين السبع وهو بين يدى العرش ويحمل الكرسى اربعة املاك لكل ملك اربعة وجوه واقدامهم فى الصخرة التى تحت الارض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام. ملك على صورة سيد البشر آدم عليه الصلاة والسلام وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة الى السنة. وملك على صورة سيد الانعام وهو الثور وهو يسأل للانعام الرزق من السنة الى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل. وملك على صورة سيد السباع وهو الاسد يسأل للسباع الرزق من السنة الى السنة. وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسأل للطير الرزق من السنة الى السنة وفى التأويلات النجمية اما القول فى معنى الكرسى فاعلم ان مقتضى الدين والديانة ان لا يؤول المسلم شيأ من الاعيان مما نطق به القرآن والاحاديث بالمعانى الا بصورها كما جاء وفسرها النبى عليه الصلاة والسلام والصحابة وعلماء السلف الصالح اللّهم الا ان يكون محققا خصصه اللّه بكشف الحقائق والمعانى والاسرار واشارات التنزيل وتحقيق التأويل فاذا كوشف بمعنى خاص او اشارة وتحقيق يقدر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الاعيان مثل الجنة والنار والميزان والصراط وفى الجنة من الحور والقصور والانهار والاشجار والثمار وغيرها من العرش والكرسى والشمس والقمر والليل والنهار ولا يؤول شيأ منها على مجرد المعنى ويبطل صورته بل يثبت تلك الاعيان كما جاء ويفهم منها حقائق معانيها فان اللّه تعالى ما خلق شيأ فى عالم الصورة الا وله نظير فى عالم المعنى وما خلق شيأ فى عالم المعنى وهو الآخرة الا وله حقيقة فى عالم الحق وهو غيب الغيب فافهم جدا وما خلق فى العالمين شيأ الا وله مثال وانموذج فى عالم الانسان فاذا عرفت هذا فاعلم ان مثال العرش فى عالم الانسان قبله اذ هو محل استواء الروح عليه ومثال الكرسى سر الانسان والعجب كل العجب ان العرش مع نسبته الى استواء الرحمانية قيل هو كحلقة ملقاة بين السماء والارض بالنسبة الى وسعة قلب المؤمن انتهى ما فى التأويلات : وفى المثنوى كفت بيغمبر كه حق فرموده است ... من نكنجم هيج در بالا وبست در زمين و آسمان و عرش نيز ... من نكنجم اين يقين دان اى عزيز دردل مؤمن بكنجم اى عجب ... كرمرا جويى دران دلها طلب خود بزركى عرش باشد بس مديد ... ليلك صورت كيست جون معنى رسيد { ولا يؤده } يقال آده الشىء يأوده اذا اثقله ولحقه منه مشقة مأخوذ من الاود بفتح الواو وهو العود ويعرض ذلك بالثقل اى لا يثقله ولا يشق عليه تعالى { حفظهما } اى حفظ السموات والارض اذ القريب والبعيد عنده سواء والقليل والكثير سواء وكيف يتعب فى خلق الذرة وكل الكون عنده سواء فلا من القليل له تيسر ولا من الكثير عليه تعسر انما امره اذا اراد شيأ ان يقول له كن فيكون وانما لم يتعرض لذكر ما فيهما لان حفظهما مستتبع لحفظه { وهو العلى } اى المتعالى بذاته عن الاشباه والانداد { العظيم } الذى يستحقر بالنسبة اليه كل ما سواه. فالمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لانه تعالى منزه عن التحيز وكذا عظمته انما هى بالمهابة والقهر والكبرياء ويمنع ان يكون بحسب المقدار والحجم لتعالى شأنه من ان يكون من جنس الجواهر والاجسام. والعظيم من العباد الانبياء والاولياء والعلماء الذين اذا عرف العاقل شيأ من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدره وصار متشوقا بالهيبة قلبه حتى لا يبقى فيه متسع فالنبى عليه السلام عظيم فى حق امته والشيخ عظيم فى حق مريده والاستاذ فى حق تلميذه اذ يقصر عقله عن الاحاطة بكنه صفاته فان ساواه أو جاوزه لم يكن عظيما بالاضافة اليه. وهذه الآية الكريمة منطوية كما ترى على امهات المسائل الآلهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الحلية فانها ناطقة بانه تعالى موجود متفرد بالآلهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجد لغيره لما ان القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ من التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الاشباح ولا يعتريه ما يعترى النفوس والارواح مالك الملك والملكوت ومبدع الاصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده الا من اذن له فهو العالم وحده بجميع الاشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه ان يملك ويقدر عليه ولا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الاوهام عظيم لا تحدق به الافهام ولذلك قال عليه السلام ( ان اعظم آية فى القرآن ية الكرسى من قرأها بعث اللّه ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيآته الى الغد من تلك الساعة ) يعنى انما صارت آية الكرسى اعظم الآيات لعظم مقتضاها فان الشىء انما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته وآية الكرسى اقتضت التوحيد فى خمسين حرفا وسورة الاخلاص فى خمسة عشر حرفا قال الامام فى الاتقان اشتملت آية الكرسى على ما لم تشتمل عليه آية فى اسماء اللّه تعالى وذلك انها مشتملة على سبعة عشر موضعا فيها اسم اللّه تعالى ظاهرا فى بعضها ومستكنا فى بعض وهى اللّه هو الحى القيوم وضمير لا تأخذه وله وعنده وباذنه ويعلم وعلمه وشاء وكرسيه ويأوده وضمير حفظهما المستتر الذى هو فاعل المصدر وهو العلى العظيم ويكفى فى استحقاقها السيادة ان فيها الحى القيوم وهو الاسم الاعظم كما ورد به الخبر عن سيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم وتذاكر الصحابة افضل ما فى القرآن فقال لهم على اين انتم عن آية الكرسى ثم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يا على سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الايام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسى ) وعن على كرم اللّه وجهه عن النبى عليه السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ما قرئت هذه الآية فى دار الا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة اربعين ليلة يا على علمها ولدك واهلك وجيرانك فما نزلت آية اعظم منها ) وعن على ايضا سمعت نبيكم على اعواد المنبر وهو يقول ( من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت ولا يواظب عليها الا صديق او عابد ومن قرأها اذا اخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه وجاره وجار جاره والابيات حوله ) عن محمد بن ابى بن كعب عن ابيه ان اباه اخبره انه كان له جرن فيه خضر فكان يتعاهده فوجده ينقص فحرسه ذات ليلة فاذا هو بدابة تشبه الغلام المحتلم قال فسلمت فرددت عليها السلام وقلت من انت جن ام انس قالت جن قلت ناولينى يدك فناولتنى يدها فاذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلقة الجن قالت لقد علمت الجن ما فيهم اشد منى قلت ما حملك على ما صنعت قالت بلغنى انك رجل تحب الصدقة فاحببنا ان نصيب من طعمك فقال لها ابىّ فما الذى يجيرنا منكم قالت هذه الآية التى فى سورة البقرة اللّه لا اله الا هو الحى القيوم من قالها حين يصبح اجير منا حتى يمسى ومن قالها حين يمسى اجير منا حتى يصبح فلما اصبح أتى النبى عليه السلام فاخبره فقال النبى عليه السلام ( صدق الخبيث ) وروى ان رجلا أتى شجرة او نخلة فسمع فيها حركة فتكلم فلم يجب فقرأ آية الكرسى فنزل اليه شيطان فقال ان لنا مريضا فبم نداويه قال بالذى انزلتنى به من الشجرة وخرج زيد بن ثابت الى حائط له فسمع فيه جلبة فقال ما هذا قال رجل من الجان اصابتنا السنة فاردنا ان نصيب من ثماركم أفتطيبونها قال نعم فقال له زيد بن ثابت ألا تخبرنى ما الذى يعيذنا منكم قال آية الكرسى وبالجملة ان آية الكرسى من اعظم ما ينتصر به على الجن فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة ان لها تأثيرا عظيما فى طرد الشياطين عن نفس الانسان وعن المصروع وعمن تعينه الشياطين مثل اهل الشهوة والطرب وارباب سماع المكاء والتصدية واهل الظلم والغضب اذا قرئت عليهم بصدق كما فى آكام المرجان فى احكام الجان دل بر دردرا دوا قرآن ... جان مجروح را شفا قرآن هرجه ويى زنص قرآن جو ... كه بود كنج علمها قرآن وانما قال اذا قرئت عليهم بصدق لانه هو العمدة والصادق يبيض وجهه والكاذب يسود ألا ترى الى الصبح الصادق والكاذب كيف اعقب الاول شمس منير دون الثانى : قال فى المثنوى هست تسبيحت بخار آب وكل ... مرغ جنت شد زنفخ صدق دل وكل ما وقع بطريق الحال وجد عنده التأثير بخلاف ما وقع بطريق القال فقط ولذا ترى اكثر الناس محرومين وان دعوا بالاسم الاعظم اللّهم آت نفسى تقواها وزكها انت خير من زكاها آمين ٢٥٦ { لا اكراه فى الدين } قال بعضهم نزلت هذه الآية فى المجوس واهل الكتاب من اليهود والنصارى انه تقبل منهم الجزية ولا يكرهون على الاسلام ليس كمشركى العرب فانه لا يقبل منهم الا السيف او الاسلام ولا تقبل منهم الجزية ان اسلموا فيها والا قتلوا قال اللّه تعالى { تقاتلونهم او يسلمون } والمعنى لا اجبار فى الدين لان من حق العاقل ان لا يحتاج الى التكليف والالزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم لوضوح الحجة { قد تبين الرشد } هو لفظ جامع لكل خير والمراد ههنا الايمان الذى هو الرشد الموصل الى السعادة الابدية لتقدم ذكر الدين { من الغى } اى من الكفر الذى هو المؤدى الى الشقاوة السرمدية قال الراغب الغى كالجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد والغى اعتبارا بالافعال ولهذا قيل زوال الجهل بالعلم وزوال الغى بالرشد { فمن يكفر بالطاغوت } هو كل ما عبد من دون اللّه مما هو مذموم فى نفسه ومتمرد كالانس والجن والشياطين وغيرهم فلا يرد عيسى عليه الصلاة والسلام والكفر به عبارة عن الكفر باستحقاقه العبادة { ويؤمن باللّه } بالتوحيد وتصديق الرسل لان الكفر بالانبياء والكتب يمنع حقيقة الايمان باللّه لان الايمان باللّه حقيقة يستلزم الايمان باوامره ونواهيه وشرائعه المعلومة بالدلائل التى اقامها اللّه لعباده وتقديم الكفر بالطاغوت على الايمان به تعالى لتوقفه عليه فان التخلية بالمعجمة متقدمة على التحلية بالمهملة { فقد استمسك بالعروة الوثقى } اى بالغ فى التمسك بالحلقة الوكيدة. وعروة الجسم الكبير الثقيل الموضع الذى يتعلق به من يأخذ ذلك الجسم ويحمله. والوثقى فعلى للتفضيل تأنيث الاوثق كفضلى تأنيث الافضل { لا انفصام لها } اى لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شىء من الشبه والشكوك فان العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لان من اراد امساك هذا الدين نعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الاسلام اقوى الدلائل واوضحها وصفها اللّه بانها العروة الوثقى قال المولى ابو السعود الكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذى لا يحتمل النقيض اصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة فى المفردات { واللّه سميع } بالاقوال { عليم } بالعزائم والعقائد يعلم غيها ورشدها وباطلها وحقها ويجرى كلا على وفق عمله وقوله وعقده وهو ابلغ وعد ووعيد واعلم ان حقيقة الايمان كونه متعلقا باللّه على وجه الشهود والعيان ومجازه كونه متعلقا به على وجه الرسم والبيان او بالطاغوت وحقيقة الكفر كونه متعلقا بالطاغوت ومجازه كونه متعلقا بوحدة اللّه او بنعمته فان الكفر ثلاثة اقسام كفر النعمة وكفر الوحدة وكفر الطاغوت وافراد الانسان ثلاثة اقسام ايضا اصحاب الميمنة وهم ارباب الجمال ومظاهره واصحاب المشأمة وهم ارباب الجلال ومظاهره والمقربون وهم اصحاب الكمال ومظاهره وقلوب الفريق الاول فى ايدى سدنة الجمال الآلهى من الملائكة المقربين وقلوب الفريق الثانى فى ايدى سدنة الجلال الآلهى من الشياطين المتمردين يستعملونها فى سبيل الشرور وقلوب الفريق الثالث فى يد اللّه المتعال يد اللّه فوق ايدى سدنة الجمال والجلال يقلبها كيف يشاء بين التجليات العاليات والعلوم والمعارف الآلهيات ولما تعلق ايمان هذه الفرق باللّه على وجه الشهود والعيان وتعلق كفرهم بالطاغوت جليا او خفيا كان ايمانهم وكفرهم حقيقيين وجاوزوا من عالم المجاز الى عالم الحقيقة واما الفريق الثانى فقد تعلق ايمانهم بالطاغوت مطلقا او خفيا وكفرهم بالوحدة والنعمة فكان ايمانهم وكفرهم مجازيين لكن ايمانهم مردود ككفرهم لانه لم يتعلق باللّه اصلا بل كان كله مقصورا على الطاغوت ولذا لم يتجاوزوا من عالم المجاز اصلا ولم يصلوا الى قرب عالم الحقيقة جدا فضلا عن وصولهم الى عالم الحقيقة قطعا واما الفريق الاول فلما تعلق ايمانهم باللّه على وجه الرسم والبيان لا بالطاغوت الجلى جدا ولم يتعلق ايمانهم به على وجه الشهود ولم يتعلق ايمانهم به على الاخلاص حين تعلق به على وجه الرسم والبيان لتعلقه ايضا بالطاغوت الخفى وتعلق كفرهم بالطاغوت الجلى فقط لا بالطاغوت لا بالطاغوت الخفى كان ايمانهم وكفرهم مجازيين ايضا لكن ايمانهم لم يكن ككفرهم مردودا بل كان مقبولا من وجه لعدم تعلقه بالطاغوت الجلى اصلا فان غلب تعلقه باللّه على تعلقه بالطاغوت الخفى عند خاتمته فيدخل فى الفلاح ثم فى الآخرة ان تداركه الفضل الآلهى فبها ونعمت فيغفر والا فيدخل الجحيم ويعذب بكفره الخفى ثم يخرج لعدم كفره باللّه جليا ويدخل النعيم لايمانه باللّه جليا وكفره بالطاغوت وهم ايضا لم يصلوا الى عالم الحقيقة بل انما وصلوا الى قربه ولذا جاوزوا الجحيم ودخلوا النعيم فى قرب عالم الحقيقة ولذا كانوا بالنسبة الى نفس الحقيقة موطنين فى عالم المجاز والفرقة لا فى عالم الحقيقة والوصلة واما الفريق الثانى فهم مخلدون فى النار ابدا لايمانهم بالطاغوت مطلقا وكفرهم باللّه كذلك ثم سعادة الفريق الثالث على ما هو المنصوص فى القرآن قطعية الثبوت فى آخر النفس وشقاوة الفريق الثانى وسعادة الفريق الاول ليست قطعية الثبوت بل محتملة الثبوت فى آخر النفس بالنظر الى الافراد لجواز التبدل والتغير فى عاقبة الامر الدنيوى بالنظر الى افرادهم هذا ما التقطته من الكتاب المسمى باللائحات البرقيات لشيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة ٢٥٧ { اللّه ولى الذين آمنوا } اى محبهم ومعينهم او متولى امورهم لا يكلهم الى غيره. فالولى قد يكون باعتبار المحبة والنصرة فيقال للمحب ولى لانه يقرب من حبيبه بالنصرة والمعونة لا يفارقه وقد يكون باعتبار التدبير والامر والنهى فيقال لاصحاب الولاية ولى لانهم يقربون القوم بان يدبروا امروهم ويراعوا مصالحهم ومهماتهم والمعنى اللّه ولى الذين اراد ايمانهم وثبت فى علمه انهم يؤمنون فى الجملة مآلا او حالا وانما اخرج عن ظاهره لان اخراج المؤمن بالفعل من الظلمات تحصيل الحاصل { يخرجهم من الظلمات } التى هى اعم من ظلمات الكفر والمعاصى وظلمات الشبه والشكوك بل مما فى بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس الى مراتبها القوية الجلية بل مما فى جميع مراتبها بالنظر الى مرتبة العيان { الى النور } الذى يعم نور الايمان ونور الايقان بمراتبه ونور العيان اى يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التى وقع فيها الى ما يقابلها من النور. وجمع الظلمات لان فنون الضلالة متعددة والكفر ملل وافرد النور لان الاسلام دين واجد ويسمى الكفر ظلمة لالتباس طريقه ويسمى الاسلام نورا لوضوح طريقه { والذين كفروا } اى الذين ثبت فى علمه كفرهم { اولياؤهم الطاغوت } اى الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق من الكهنة وقادة الشر وان حمل على الاصنام التى هى جمادات فالمعنى لا يكون على الموالاة الحقيقية التى هى المصادقة او تولى الامر بل يكون على ان الكفار يتولونهم اى يعتقدونهم ويتوجهون اليهم. والطاغوت تذكر وتؤنث وتوحد وتجمع { يخرجونهم } بالوساوس وغيرها من طريق الاضلال والاغواء { من النور } اى الايمان الفطرى الذى جبلوا عليه كافة { الى الظلمات } اى ظلمات الكفر وفساد الاستعداد والانهماك فى الشهوات او من نور اليقينيات الى ظلمات الشكوك والشبهات واسناد الاخراج الى الطاغوت مجاز لكونها سببا له وذلك لا ينافى كون المخرج حقيقة هو اللّه تعالى فالآية لا تصلح ان تكون متمسكا للمعتزلة فيما ذهبوا اليه من ان الكفر ونحوه مما لا يكون اصلح للعبد ليس من اللّه تعالى بناء على انه اضاف الكفر الى الطاغوت لا الى نفسه { اولئك } اشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة وما يتبعه من القبائح { اصحاب النار } اى ملابسوها وملازموها بسبب مالهم من الجرائم { هم فيها خالدون } ماكثون ابدا ولم يقل بعد قوله { يخرجهم من الظلمات الى النور } اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون تعظيما لشأن المؤمنين لان البيان اللفظى لا يفى بما اعد لهم فى دار الثواب واعلم ان مراتب المؤمنين فى الايمان متفاوتة وهم ثلاث طوائف. عوام المؤمنين. وخواصهم. وخواص الخواص فالعوام يخرجهم اللّه من ظلمات الكفر والضلالة الى نور الايمان والهداية كقوله تعالى { والذين اهتدوا زادهم هدى } والخواص يخرجهم من ظلمات الصفات النفسانية والجمسانية الى نور الروحانية الربانية كقوله تعالى { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكراللّه } واطمئنان القلب بالذكر لم يكن الا بعد تصفيته عن الصفات النفسانية وتحليته بالصفات الروحانية وخواص الخواص يخرجهم من ظلمات حدوث الحلقة الروحانية بافنائهم عن وجودهم الى نور تجلى صفة القدم لهم ليبقيهم به كقوله تعالى { انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } الآية نسبهم الى الفتوة لما خاطروا بارواحهم فى طلب الحق وآمنوا باللّه وكفروا بطاغوت دقيانوس فلما تقربوا الى اللّه بقدم الفتوة تقرب اليهم بمزيد العناية فاخرجهم من ظلمات النفسانية الى نور الروحانية فلما تنورت انفسهم بانوار ارواحهم اطمأنت الى ذكر اللّه وآنست به واستوحشت عن محبة اهل الدنيا وما فيها فاحبوا الخلاء كما كان حال النبى عليه الصلاة والسلام فى بدء الامر قالت عائشة رضى اللّه عنها اول ما بدئ به عليه الصلاة والسلام كان حبب اليه الخلاء ولعمرى هذا دأب كل طالب محق مريد صادق كذا فى التأويلات النجمية قال الفخر الرازى بطريق الاعتراض ان جمعا من الصوفية يقولون الاشتغال بغير اللّه حجاب عن معرفة اللّه والانبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون الخلق الا الى الطاعات والتكاليف فهم يشغلون الخلق بغير اللّه ويمنعونهم عن الاشتغال باللّه فوجب ان لا يكون ذلك حقا وصدقا انتهى كلامه يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة هذا الاعتراض ليس بشىء فان الطاعات والتكاليف وسائل الى معرفة اللّه الملك اللطيف فالدعوة ليست الا الى معرفة اللّه حقيقة ألا يرى الى تفسير ابن عباس رضى اللّه عنهما عند قوله تعالى { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } بقوله ليعرفون وانما عدل عنه الى ليعبدون مع انه خلاف مقتضى الظاهر حينئذ اشعارا بان المعرفة المقبولة هى التى تحصل بطريق العبادة فالاشتغال بغير اللّه وبغير عبادته حجاب اى حجاب ولذلك كان بدء حال السلف الخلاء والانقطاع عن الناس اقتداء برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واهتماما فى رفع الحجاب الحاصل بالاختلاط : وفى المثنوى آدمى راهست درهر كار دست ... ليك ازو مقصود اين خدمت بدست ما خلقت الجن والانس اين بخوان ... جز عبادت نيست مقصود ازجهان ناجلا باشد مران آبينه را ... كه صفا آيد زطاعت سينه را ٢٥٨ { ألم تر } اى ألم ينته علمك الذى يضاهى العيان فى الايقان وحقيقته اعلم باخبارنا فانه مفيد لليقين { الى الذى } اى الى قصة الملك الذى { حاج } اى جادل وخاصم وقابل بالحجة { ابراهيم } فى معارضة ربوبيته { فى ربه } وفى التعرض لعنوان الربوبية مع ان الاضافة الى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وايذان بتأييده فى المحاجة والذى حاج هو نمرود ابن كنعان بن سام بن نوح وهو اول من وضع التاج على رأسه وتجبر وادعى الربوبية { ان آتاه اللّه الملك } اى لان آتاه فهو مفعول له لقوله حاج. وله معنيان. احدهما انه من باب العكس فى الكلام بمعنى انه وضع المحاجة موضع الشكر اذ كان من حقه ان يشكر فى مقابلة ايتاء الملك ولكنه عكس ما هو الحق الواجب عليه كما تقول عادانى فلان لانى احسنت اليه تريد انه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لاجل الاحسان. والثانى ان ايتاء الملك حمله على ذلك لانه اورثه الكبر والبطر فنشأ عنهما المحاجة والمعنى اعطاه كثرة المال واتساع الحال وملك جميع الدنيا على الكمال قال مجاهد لم يملك الدنيا باسرها الا اربعة مسلمان وكافران فالمسلمان سليمان وذو القرنين والكافران نمرود وبخت نصر وهو شداد بن عاد الذى بنى ارم فى بعض صحارى عدن. ثم هو حجة على من منع ايتاء اللّه الملك للكافر وهم المعتزلة لان مذهبهم وجوب رعاية الاصلح للعبد على اللّه وايتاء اللّه الملك للكافر تسليط له على المؤمنين وذلك ليس باصلح لحال المؤمن قلنا انما ملكه امتحانا له ولعباده { اذ قال ابراهيم } ظرف لحاج { ربى الذى يحيى ويميت } روى انه عليه السلام لما كسر الاصنام سجنه ثم اخرجه ليحرقه فقال من ربك الذى تدعونا اليه قال { ربى الذى يحيى ويميت } اى يخلق الحياة والممات فى الاجساد وجواب ابراهيم فى غاية الصحة لانه لا سبيل الى معرفة اللّه الا بمعرفة صفاته وافعاله التى لا يشاركه فيها احد من القادرين والاحياء والاماتة من هذا القبيل { قال } كأنه قيل كيف حاجه فى هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال { انا احيى واميت } روى انه دعا برجلين قد حبسهما فقتل احدهما واطلق الآخر فقال قد احييت هذا وامت هذا فجعل ترك القتل احياء وكان هذا تلبيسا منه { قال ابراهيم } كأنه قيل فماذا قال ابراهيم لمن فى هذه الرتبة فى المحاجة وبماذا افحمه فقيل قال { فان اللّه } جواب شرط مقدر تقديره قال ابراهيم اذا ادعيت الاحياء والاماتة واتيت بمعارضة مموهو ولم تعلم معنى الاحياء فالحجة ان اللّه { يأتى بالشمس من المشرق } تحريكا قسريا حسبما تقتضيه مشيئته والباء للتعدية { فائت بها من المغرب } تسييرا طبيعيا فانه اهون ان كنت قادرا على مثل مقدوراته تعالى ولم يلتفت عليه السلام الى ابطاله مقالة اللعين ايذانا بان بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفى على احد وان التصدى بابطالها من قبيل السعى فى تحصيل الحاصل واتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالا للتمويهوالتلبيس فهو عدول عن مثال الى مثال آخر لايضاح كلامه وليس انتقالا من دليل الى دليل آخر لان ذلك غير محمود فى باب المناظرة { فبهت الذى كفر } اى صار مبهوتا ومتحيرا مدهوشا وايراد الكفر فى حيز الصلة للاشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفرا قال فى اسئلة الحكم الحكمة فى طلوع شمس قرب القيامة من مغربها ان ابراهيم عليه الصلاة والسلام قال لنمرود { ان اللّه يأتى بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب فبهت الذى كفر } وان السحرة والمنجمة عن آخرهم ينكرون ذلك وانه غير كائن فيطلعها الحق يوما من المغرب ليرى المنكرين قدرته وان الشمس فى ملكه ان شاء اطلعها من المشرق او المغرب { واللّه لا يهدى القوم الظالمين } اى الذين ظلموا انفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب اعراضهم عن قبول الهداية الى مناهج الاستدلال اى عن قبول الدلائل القطعية الدالة على الحق دلالة واضحة بالغة فى الوضوح والقوة الى حيث جعل الخصم مبهوتا متحيرا فمن ظلم نفسه بالامتناع عن قبول مثل هذه الدلائل لا يجعله اللّه مهتديا بها لان المعتبر فى دار التكليف ان يهتدى وقت اختيارهم الكفر والظلم اى لا يخلق فيهم فعل الهداية وهم يختارون فعل الضلال ويحتمل انه لا يهدى طريق الجنة فى الآخرة من كفر باللّه فى الدنيا روى ان النمرود لما عتا عتوا كبيرا والقى ابراهيم فى النار بعد هذه المحاجة سلط اللّه على قومه البعوض فاكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق الا العظام والنمرود كما هو لم يصبه شىء فبعث اللّه بعوضة فدخلت فى منخره فمكث اربعمائة سنة تضرب رأسه بالمطارق فعذبه اللّه اربعمائة سنة كما ملك اربعمائة سنة وهو الذى بنى صرحا الى السماء ببابل فاتى اللّه بنياهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم : قال الشيخ العطار قدس سره سوى او خصمى كه تير انداخته ... بشه كارش كفايت ساخته والاشارة ان اللّه تعالى اعطى النمرود ملكا ما اعطى لاحد قبله ادعى الربوبية ما ادعى بها احد قبله وذلك ان اللّه اعطى الانسان حسن استعداد لطلب الكمال فمن حسن استعداده فى الطلب وغاية لطافته فى الجوهر دائم الحركة فى طلب الكمال فحيثما توجه الكمال اخذ فى السير فيها الى اقصى مراتبها فى العلوى والسفلى فان وكل الى نفسه فى طلب الكمال فينظر بنظر الحواس الخمس الى المحسوسات وهى الدنيا فلا يتصور الا الدنيا فلا يتصور الكمال الا فيها فيأخذ فى السير لطلب الكمال وهذا السير موافق لسيره الطبيعى لانه خلق من تراب والتراب سفلى الطبع فيميل الى السفليات طبعا والدنيا هى السفل فيسير فيها بقدمى الطبع وطلب الكمال ففى البداية يرى الكمال فى جمع المال فيجمعه ثم يرى الكمال فى الجاه فيصرف المال فى طلب الجاه ثم يرى الكمال فى المناصب والحكم ثم يرى فى الامارة والسلطنة فيسير فيها ما لم يكن مانع الى ان يملك الدنيا باسرها كما كان حال النمرود ثم لا يسكن جوهر الانسان فى طلب الكمال بل كلما ازداد استغناؤه ازداد حرصه وكلما ازداد حرصه ازداد طلبه الى ان لا يبقى شىء من السفليات دون ان يملكه ثم يقصد العلويات والى الآن كان ينازع ملوك الارض والآن ينازع ملك الملوك ومالك الملك فى السموات والارض فيدعى الربوبية كالنمرود فانه كان سبب طغيانه استغناؤه قال تعالى { ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى } فاذا كمل استغناؤه كمل طغيانه حتى يكفر بالنعمة فهذا كله عند فساد جوهره لما وكل الى نفسه واذا اصلح جوهره بالتربية ولم يكله الى نفسه هدى الى جهة الكمال المستعد له كقوله { اهدكم سبيل الرشاد } فصاحب التربية وهو النبى او خليفته وهو الشيخ المرشد يربيه وتربيته فى تبرئته مما سوى اللّه الى ان بلغ حد كماله فى طلب الكمال وهو افناء الوجود فى وجود الموجود ليكون مفقودا عن وجوده موجودا بموجده فلما كان يقول عند فساد الجوهر وابطال حسن الاستعداد بالكمال انا احيى واميت فيقول عند صلاح الجوهر وصرف حسن الاستعداد فى طلب الكمال ما فى الوجود سوى اللّه فالمجد يدق بمطرقة لا اله الا اللّه دماغ نمرود النفس الى ان يؤمن باللّه ويكفر بطاغوت وجوده ووجود كل موجود سوى اللّه واللّه لا يهدى القوم المشركين الى عالم التوحيد والشرك ظلم عظيم فالبشرك ضل من ضل فزل عن الصراط المستقيم كذا فى التأويلات النجمية فعلى العاقل ان يتخلص من الشرك الخفى ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ولا يغتر بالمال والمنال بل يرجع الى اللّه الملك المتعال وقد وجدت صخرة عظيمة وعليها اسطر قديمة. فرحك بشىء من الدنيا دليل على بعدك من اللّه. وسكونك الى ما فى يدك دليل على قلة ثقتت باللّه. ورجوعك الى الناس فى حال الشدة دليل على انك لم تعرف اللّه انتهى : قال السعدى قدس سره شنيدم كه جمشيد فرخ سرشت ... بسر جشمة بر بسنكى نوشت برين جشمه جون مابسى دم زدند ... برفتند جون جشم برهم زدند كرفتيم علام بمردى وزور ... وليكن نبرديم باخود بكور برفتند وهركس درود آنجه كشت ... نماند بجز نام نيكو وزشت اللّهم اجعلنا من الذين طال عمرهم وحسن عملهم وقصر املهم وكمل عقلهم ٢٥٩ { أو كالذى مر على قرية } عطف على قوله ألم تر وتقديره اورأيت مثل الذى فعل كذا اى ما رأيت مثله فتعجب منه وتخصيصه بحرف التشبيه لان المنكر للاحياء كثير والجاهل بكيفيته اكثر من ان يحصى بخلاف مدعى الربوبية. والمار هو عزير بن شرخيا والقرية بيت المقدس على الاشهر الاظهر واشتقاقها من القرى وهو الجمع روى ان بنى اسرائيل لما بالغوا فى تعاطى الشر والفساد سلط اللّه عليهم بخت نصر البابلى فسار اليهم فى ستمائة الف راية حتى وطئ الشام وخرب بيت المقدس وجعل بنى اسرائيل اثلاثا ثلثا منهم قتلهم وثلثا منهم اقرهم بالشام وثلثا منهم سباهم وكانوا مائة الف غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فاصاب كل ملك منهم اربعة غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه اللّه منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على افظع مرأى واوحش منظر وذلك قوله { وهى خاوية على عروشها } اى خالية عن اهلها وساقطة على سقوفها بان سقطت العروش ثم الحيطان سقطت عليها من خوت المرأة وخويت خوى اى خلا جوفها عند الولادة وخوت الدار خواء بالمد وخوى البيت خوى بالقصر اى سقط والعرش سقف البيت ويستعمل فى كل ما هيئ ليستظل به { قال أنى يحيى هذه اللّه بعد موتها } اى يعمر اللّه تعالى هذه القرية بعد خرابها على هذا الوجه اذ ليس المراد بالقرية اهلها بل نفسها بدليل قوله { وهى خاوية على عروشها } لم يقله على سبيل الشك فى القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة { فاماته اللّه } اى جعله ميتا { مائة عام } روى انه لما دخل القرية نزل تحت ظل شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف فى القرية ولم ير بها احدا فقال ما قال وكانت اشجارها قد اثمرت فتناول من فواكهها التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فاماته اللّه فى منامه وهو شاب وكان معه شىء من التين والعنب والعصير وكانت هذه الاماتة عبرة لا انقضاء مدة كاماتة الذين خرجوا من ديارهم وهم الوف وامات حماره ايضا ثم اعمى اللّه عن جسده وجسد حماره ابصار الانس والسباع والطير فلما مضى من موته سبعون سنة وجه اللّه ملكا عظيما من ملوك فارس يقال له يوشك الى بيت المقدس ليعمره ومعه الف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة الف عامل فجعلوا يعمرون واهلك اللّه بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى اللّه من بقى من بنى اسرائيل وردهم الى بيت المقدس وتراجع اليه من تفرق منهم فى الاكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كاحسن ما كانوا فلما تمت المائة من موت العزير احياه اللّه تعالى وذلك قوله تعالى { ثم بعثه } من بعثت الناقة اذا اقمتها من مكانها ويوم القيامة يسمى يوم البعث لانهم يبعثون من قبورهم وانما ق ثم بعثه ولم يقل ثم احياه لانه قوله ثم بعثه يدل على انه عاد كما كان اولا حيا عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال فى المعارف الآلهية ولو قال ثم احياه لم تحصل هذه الفوائد { قال } كأنه قيل فماذا قال بعد بعثه فقيل قال اللّه تعالى او ملك مأمور من قبله تعالى { كم } يوما او وقتا { لبثت } يا عزير ليظهر له عجزه عن الاحاطة بشئونه تعالى وان احياءه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم انه هين فى الجملة بل مدة طويلة وتنحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع فى تضاعيفه على امر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو ابقاء الغذاء المتسارع الى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهرا طويلا من غير تغير ما { قال لبثت يوما او بعض يوم } كقول الظان قاله بناء على التقريب والتخمين او استقصار المدة لبثه { قال } ما لبثت ذلك المقدار { بل لبثت مائة عام } يعنى كنت ميتا هذه المدة { فانظر } لتعاين امرا آخر من دلائل قدرتنا { الى طعامك وشرابك لم يتسنه } اى لم يتغير فى هذه المدة المتطاولة مع تداعيه الى الفساد روى انه وجد تينه وعنبه كما جنى وعصيره كما عصر والجملة المنفية حال بغير واو من الطعام والشراب لان المضارع المنفى اذا وقع حالا يجوز ان يكون بالواو وبدونها وافراد الضمير مع ان الظاهر ان يقال لم يستنها او لم تسنيا لان المذكور قبله شيآن الطعام والشراب لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء. والهاء فى لم يتسنه ان كانت اصلية فهو من السنة التى اصلها سنهة وان كانت هاء سكت فهو من السنة التى اصلها سنوة واستعمال لم يتسنه فى معنى لم يتغير من قبيل استعمال اللفظ فى لازم معناه لان المعنى الاصلى لقولنا تسنه او تسنى مرت عليه السنون والاعوام ويلزمه التغيير { وانظر الى حمارك } كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت اوصاله وتمزقت ليتبين لك ما ذكر من لبثك المديد وتطمئن به نفسك { ولنجعلك آية } كائنة { للناس } الواو استئنافية واللام متعلقة بمحذوف والتقدير فعلنا ذلك اى احياءك واحياء حمارك وحفظ ما معك من الطعام والشراب لنجعلك آية للناس الموجودين فى هذا القرن بان يشاهدوك وانت من اهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ احقاب من علم التوراة { وانظر الى العظام } تكرير الامر مع ان المراد عظام الحمار ايضا لما ان المأمور به اولا هو النظر اليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانيا هو النظر اليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها اى وانظر الى عظام الحمار لتشاهد كيفية الاحياء فى غيرك بعد ما شاهدت نفسه فى نفسك { كيف ننشزها } يقال انشزته فنشز اى رفعته فارتفع اى نرفع بعضها من الارض الى بعض ونردها الى اماكنها من الجسد فتركبها تركيبا لائقا بها. والجملة حال من العظام والعامل فيها انظر تقديره انظر الى العظام محياة او بدل من العظام على حذف المضاف والتقدير انظر الى حال العظام { ثم نكسوها لحما } اى نسترها به كما يستر الجسد باللباس وانما وحد اللحم مع جمع العظام لان العظام متفرقة متعددة صورة واللحم متصل متحد مشاهدة ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما انها مما لا تقتضى الحكمة بيانه روى انه سمع صوتا من السماء ايتها العظام البالية المتفرقة ان اللّه يأمرك ان ينضم بعضك الى بعض كما كان وتكتسى لحما وجلدا فالتصق كل عظم بآخر على الوجه الذى كان عليه اولا وارتبط بعضها ببعض بالاعصاب والعروق ثم انبسط اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ثم نفخ فيه الروح فاذا هو قائم ينهق { فلما تبين له } اى ظهر له احياء الميت عيانا { قال اعلم ان اللّه على كل شىء } من الاشياء التى من جملتها ما شاهده فى نفسه وفى غيره من تعاجيب الآثار { قدير } لا يستعصى عليه امر من الامور روى انه ركب حماره واتى محلته وانكره الناس وانكر الناس وانكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى اتى منزله فاذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد ادركت زمن عزير فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير قالت نعم واين ذكرى عزير وقد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال فانى عزير قالت سبحان اللّه أنى يكون ذلك قال قد أماتنى اللّه مائة عام ثم بعثنى قالت ان عزيرا كان رجلا مستجاب الدعوة فادع اللّه لى برد بصرى حتى اراك فدعا ربه ومسح بين عينيها فصحتا فاخذ بيدها فقال قومى باذن اللّه فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت اليه فقالت اشهد انك عزير فانطلقت الى محلة بنى اسرائيل وهم فى انديتهم وكان فى المجلس ابن العزير قد بلغ مائة وثمانى عشرة سنة وبنوا بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت انظروا فانى بدعائه رجعت الى هذه الحالة فنهض الناس فاقبلوا اليه فقال ابنه كان لأبى شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكشف فاذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر بيت المقدس من قراء التوراة اربعين الف رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا احد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير ان يخرم منها حرفا اى ينقص ويقطع فقال رجل من اولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثنى ابى عن جدى انه دفن التوراة يوم سبينا فى خابية فى كرم فان أريتمونى كرم جدى اخرجتها لكم فذهبوا الى كرم جده ففتشوه فوجدوها فعارضوها بما املى عليهم عزير عليه السلام عن ظهر القلب فما اختلفا فى حرف واحد فعند ذلك قالوا عزير ابن اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وفى القصة تنبه على ان الداعى اذا راعى آداب الدعاء اجيب سريعا من غير مشقة تلحقه واذا ترك الادب لحقته المشقة وابطأت الاجابة فان ابراهيم عليه السلام لما قال { رب ارنى كيف تحيى الموتى } وبدأ بالثناء ثم سأل احياء الموتى اراه اله ذلك فى غيره فانه اراه فى طيره وعجل له ذلك على فوره وعزير قال { أنى يحيى هذه اللّه بعد موتها } فأرى ذلك فى نفسه بعد مائة عام مضت على موته : قال السعدى نبايد سخن مفت ناساخته ... نشايد بريدن نينداخته والاشارة فى تحقيق الآية ان قوما انكروا حشر الاجساد مع انهم اعتقدوا واقروا بحشر الارواح وقالوا الارواح كان تعلقها بالاجساد لاستكمالها فى عالم المحسوس كالصبى يبعث الى المكتب ليتعلم الادب فلما حصل مقصوده من التعلم بقدر استعداده وحرج من المكتب ودخل محفل اهل الفضل وصاحبهم سنين كثيرة واستفاد منهم انواع العلوم التى لم توجد فى المكتب الا انه استفاد العلوم من الفضلاء بقوة ادبه الذى تعلمه فى المكتب وصار فاضلا فى العلوم فما حاجته بعد ان كبر شأنه وعظم قدره الى ان يرجع الى المكتب وحالة صباه فكذا الارواح لما خرجت من سجن الاشباح واتصلت بالارواح المقدسة بقوة علوم الجزئيات التى حصلتها من عالم الحس واستفادت من الارواح العلوية علم الكليات التى لم توجد فى عالم الحس فما حاجتها الى ان ترجع الى سجن الاجساد فكانت نفوسهم تسول لهم هذه التسويلات والشيطان يوسوسهم بمثل هذه الشبهات فاللّه سبحانه من كمال فضله ورحمته على عباده المخلصين امات عزيرا مائة سنة وحماره معه ثم احياهما جميعا ليستدل به العقلاء على ان اللّه مهما يحيى عزير الروح يحيى معه حمار جسده فلا يشك العاقل بتسويل النفس ووسوسة الشيطان وشبهات الفلسفى فى حشر الاجساد فكما ان عزير الروح يكون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر يكون حمار جسده فى الجنة فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلى صفحات الجمال والجلال عن ساقى وسقاهم ربهم شربا طهورا والحمار الجسد مشرب من انهار الجنات وحياض رياض ولكم فيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وقد علم كل اناس مشربهم شربنا واهرقنا على الارض جرعة ... وللأرض من كأس الكرام نصيب كذا فى التأويلات النجمية ٢٦٠ { واذ قال ابراهيم } اى اذكر وقت قوله وذكر الوقت يوجب ذكر ما وقع فى ذلك الوقت من الحوادث بالطريق البرهانى { رب } كلمة استعطاف قدمت بين الدعاء مبالغة فى استدعاء الاجابة { ارنى كيف تحيى الموتى } اى بصرنى كيفية احيائك للموتى بان تحييها وانا انظر اليها انما سأل ذلك ليصير علمه عيانا وقد شرفه اللّه بعين اليقين بل بحق اليقين الذى هو اعلى المقامات. والفرق ان علم اليقين هو المستفاد من الاخبار. وعين اليقين هو المعاينة لامرية فيه قال تعالى فى حق الكفار { ثم لترونها عين اليقين } فلما دخلوا النار وباشروا عذابها قال تعالى { فنزل من حميم وتصلية حجيم ان هذا لهو حق اليقين } { قال } ربه { أولم تؤمن } اى ألم تعلم يقينا ولم تؤمن بانى قادر على الاحياء باعادة التركيب والحياة قاله عز وعلا مع علمه بانه اعرف الناس بالايمان يظهر ايمانه لكل سامع بقوله بلى فيعلم السامعون غرضه من هذا القول وهو الوصول الى العيان { قال } ابراهيم { بلى } علمت وآمنت بذلك { ولكن } سألت ما سألت { ليطمئن قلبى } اى ليسكن ويحصل طمأنينته بالمعاينة فان عين اليقين يوجب الطمأنينة لا علمه فان قلت ما معنى قول على رضى اللّه عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا قلت ما ازددت يقينا بالايمان بها وكان اذ رأى الآخرة ابصر بها من الفضائل والهيآت ما لم يحط به قبل ذلك وكذلك ابراهيم لما رأى كيفية الاحياء وقف على ما لم يقف عليه قبل { قال } ربه ان اردت ذلك { فخذ اربعة من الطير } طاووسا وديكا وغرابا وحمامة ومنهم من ذكر النسر بدل الحمام وانما خص الطير لانه اقرب الى الانسان واجمع لخواص الحيوان { فصرهن } من صاره يصوره وبكسر الصاد من صاره يصيره والمعنى واحد اى املهن واضممهن واجمعهن { اليك } لتتأملها وتعرف اشكالها مفصلة حتى تعلم بعد الاحياء ان جزأ من اجزائها لم ينتقل من موضعه الاول اصلا روى انه امر بان يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق اجزاءها ولحومها ويمسك رؤسها ثم امر بان يجعل اجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى { ثم اجعل على كل جبل } من الجبال التى بحضرتك وكانت سبعة او اربعة فجزأها اربعة اجزاء فقال تعالى ضع على كل جبل { منهن } اى من كل الطيور { جزأ ثم ادعهن } قل لهن تعالين باذن اللّه تعالى { يأتينك سعيا } اى ساعيات مسرعات طيرانا او مشيا ففعل كما امره فجعل كل جزء يطير الى آخر حتى صارت جثثا ثم اقبلن فانضمت كل جثة الى رأسها فعادت كل واحدة الى ما كانت عليه من الهيئة وجعل ابراهيم ينظر ويتعجب { واعلم ان اللّه عزيز } غالب على امره لا يعجزه شىء عما يريده { حكيم } ذو حكمة بالغة فى افاعيله فليس بناء افعاله على الاسباب العادية لعجزه عن ايجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح قال القشيرى طلب ابراهيم عليه السلام بهذه حياة قلبه فاشير اليه بذبح الطيور وفى الطيور الاربعة اربعة معان هى فى النفس فى الطاووس زينة. وفى الغراب امل. وفى الديك شهوة. والبط حرص فاشار الى انه ما لم يذبح نفسه بالمجاهدة لم يحى قلبه بالمشاهدة : وفى المثنوى حرص بط يكتاست اين نيجاه تاست ... حرص شهوت مار ومنصب ازدهاست حرص بط از شهوت حلقست وفرج ... در رياست بيست جند انست درج صد خرونده كنجد اندر كرد خوان ... دو رياست در نكنجد درجهان كاغ كاغ ونعره زاغ سياه ... دائما باشد بدنيا عمر خواه همجو ابليس از خداى باك فرد ... تا قيامت عمرتن در خواست كرد عمرو مرك اين هردو باحق خوش بود ... بى خدا آب حيات آتش بود عمر خوش در قرب جان بروردنست ... همر زاغ از بهر سركين خوردنست قال فى التأويلات النجمية الطيور الاربعة هى الصفات الاربع التى تولدت من العناصر الاربعة التى خمرت طينة الانسان منها وهى التراب والماء والنار والهواء فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان فمن التراب وقرينه الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان حيث وجد احدهما وجد قرينه ومن النار وقرينها الهواء تولد الغضب والشهوة وهما قرينان يوجدان معا ولكل واحدة من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن اليها كحواء وآدم ويتولد منها صفات اخرى فالحرص زوجه الحسد والبخل زوجه الحقد والغضب زوجه الكبر وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هى كالمعشوقة بين الصفات فيتعلق بها كل صفة ولها منها متولدات يطول شرحها فهى الابواب السبعة للدركات السبع من جهنم منها يدخل الخلق جهنم التى لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم يعنى من الخلق فمن كان الغالب عليه صفة منها فيدخل النار من ذلك الباب فامر اللّه خليله بذبح هذه الصفات وهى الطيور الاربعة طاووس البخل فلو لم يزين المال فى نظر البخيل كما زين الطاووس بألوانه ما بخل به وغراب الحرص وهو من حرصه اكثر فى الطلب وديك الشهوة وهو بها معروف ونسر الغضب ونسبته اليه لتصريفه فى الطيران فوق الطيور وهذه صفة المغضب فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقى له باب يدخل منه النار فلما القى فيها بالمنجنيق قهرا صارت النار عليه بردا وسلاما والاشارة بتقطيعها بالمبالغة ونتف ريشها وتفريق اجزائها وتخليط ريشها ودمائها ولحومها بعضها ببعض اشارة الى محو آثار الصفات الاربع المذكورة وهدم قواعدها على يدى ابراهيم الروح بامر الشرع ونائب الحق وهو الشيخ والامر بتقسيم اجزائها وجعلها على كل جبل جزأ فالجبال الاربعة هى النفوس التى جبل الانسان عليها. اولها النفس النامية وتسمى النفس النباتية. وثانيها النفس الامارة وتسمى الروح الحيوانى. وثالثها قوة الشيطنة وتسمى الروح الطبيعى. ورابعها قوة الملكية وهو الروح الانسانى فطيور الصفات لما ذبحت وقطعت وخلطت اجزاء بعضها بعض ووضع على كل جبل روح ونفس وقوة منها جزء بامر الشرع تكون بمثابة اشجار وزروع تجعل عليها الترب المخلوطة بالزبل والقاذورات باستصواب دهقان ذى بصارة فى الدهقنة بمقدار معلوم ووقت معلوم ثم يسقيها بالماء ليتقوى الزرع بقوة الترب والزبل وتتصرف النفس النامية النباتية فى الترب المخلوطة الميتة فتحييها باذن اللّه تعالى كقوله تعالى { فانظر الى آثار رحمة اللّه كيف يحيى الارض بعد موتها } فكذلك الصفات الاربع وهى الحرص والبخل والشهوة والغضب مهما كانت كل واحدة منها على حالها غالبة على الجوهر الروحانى تكدر صفاءه وتمنعه من الرجوع الى مقامه الاصلى ووطنه الحقيقى فاذا كسرت سطوتها ووهنت قوتها واميتت شعلتها ومحيت آثار طباعها بامر الشرع وخلطت اجزاؤها المتفرقة بعضها ببعض ثم قسمت باربعة اجزاء وجعل كل جزء منها على جبل قوة او نفس او روح فيتقوى كل واحد من هؤلاء بتقويتها ويتربى بتربيتها فيتصرف فيها الروح الانسانى فيحييها ويبدل تلك الظلمات التى هى من خصائص تلك الصفات المذمومة بنور هو من خصائص الروح الانسانى والملكى فتكون تلك الصفات ميتة عن اوصافها حية باخلاق الروحانيات انتهى كلام التأويلات ٢٦١ { مثل } نفقات { الذين ينفقون اموالهم فى سبيل اللّه } اى فى وجوه الخيرات من الواجب كالزكاة والنفل وقدر فى الكلام حذف لان الذين ينفقون لا يشبهون الحبة لانه لا يشبه الحيوان بالجماد بل نفقاتهم تشبه الحبة { كمثل حبة } لزراع زرعها فى ارض عامرة والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات واكثر اطلاقه على البر { انبتت } اىخرجت واسناد الانبات الى الحبة مجاز { سبع سنابل } اى ساقات تشعب منها سبع شعب لكل واحدة منها سنبلة { فى كل سنبلة مائة حبة } كما يشاهد ذلك فى الذرة والدخن فى الاراضى المغلة بل اكثر من ذلك { واللّه يضاعف } تلك المضاعفة الى ما شاء اللّه تعالى { لمن يشاء } ان يضاعف له بفضله وعلى حسب حال المنفق من اخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الاعمال فى مقادير الثواب { واللّه واسع } لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة { عليم } بنية المنفق ومقدار انفاقه وكيفية تحصيل ما انفقه. فمثل المتصدق كمثل الزارع اذا كان حاذقا فى عمله وكان البذر جيدا وكانت الارض عامرة يكون الزرع اكثر. فكذلك المتصدق اذا كان صالحا والمال طيبا ووضع فى موضعه يكون الثواب اكثر كما روى فى الحديث عن ابى هريرة رضى اللّه عنه عن النبى عليه السلام ( انه قال من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل اللّه الا الطيب فان اللّه يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى احدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل ) وانما ذكر النبى عليه السلام التربية فى الصدقة وان كان غيرها من العبادات يزيد ايضا بقبوله اشارة الى ان الصدقة فريضة كانت او نافلة احوج الى تربية اللّه لثبوت النقيصة فيها بسبب حب الطبع الاموال وفى الحديث ( صدقة المؤمن تدفع عن صاحبها آفات الدنيا وفتنة القبر وعذاب يوم القيامة ) وفى الحديث ( السخاوة شجرة اصلها فى الجنة واغصانها متدليات فى دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه الى الجنة والبخل شجرة اصلها فى النار واغصانها متدليات فى دار الدنيا فمن تعلق بغصن منها يسوقه الى النار ) وفى الحديث ( الساعى على الارملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل اللّه ) اى الكاسب لتحصيل مؤنتهما كالمجاهد لان القيام بمصالحهما انما يكون بصبر عظيم وجهاد نفس لئيم فيكون ثوابه عظيما : وفى بستان الشيخ السعدى قدس سره يكى از بزركان اهل تميز ... حكايت كند زابن عبد العزيز كه بودش نكينى در انكشترى ... فرومانده ازقيمتش مشترى بشب كفتى آن جرم كيتى فروز ... درى بود در روشنايى جوروز قضارا در آمد يكى خشك سال ... كه شد بدر سيماى مردم هلال جو درمردم آرام وقوت نديد ... خود آسوده بودن مروت نديد جو بيند كسى زهر دركام خلق ... كيش بكذرد آب شيرين بحلق بفرمود بفروختندش بسيم ... كه رحم آمدش بر فقير ويتيم بيك هفته نقدش بتاراج داد ... بدرويش ومسكين ومحتاج داد فتادند دروى ملامت كنان ... كه ديكر بدستت نيايد جنان شنيدم كه ميكفت باران دمع ... فروميدويدش بعارض جوشمع كه زشتست بيرايه بر شهريار ... دل شهرى از ن توانى فكار مراشايد انكشترى بى تكين ... نشايد دل خلق اندوهكين خنك آنكه آسايش مرد وزن ... كزيند بر آسايش خويشتن نكردند رغبت هنر بروران ... بشادئ خويش از غم ديكران واعلم ان الاعمال بالنيات فان قلت ما معنى قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) قلت مورد الحديث ان عثمان رضى اللّه تعالى عنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه وعد بثواب عظيم على حفر بئر فنوى ان يحفرها فسبق اليه كافر فحفرها فقال عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) اى عمل الكافر والجواب الثانى ان النية المجردة من المؤمن خير من عمله المجرد عن النية لانه اذا فعل فعل الخير بغير نية يكون عمله مع النية خيرا من ذلك لكن قال بعضهم ليس فى بعض الاعمال اجر بغير نية كالصلاة لا تجوز بغير نية ولا يحتاج بعض الاعمال الى النية كقراءة القرآن والاذكار ثم اعلم ان الانفاق على مراتب. انفاق العامة بالمال فاجرهم الجنة. وانفاق الخواص اصلاح الحال بتزكية النفس وتصفية القلب فاجرهم يوم القيامة النظر الى وجه اللّه تعالى فينبغى للمؤمن ان يزكى نفسه ويصفى قلبه من حب المال بالانفاق فى سبيل اللّه الملك المتعال حتى ينال الشرف فى الجنان ويحترز عن البخل حتى لا يكون عند اللّه تعالى من الخاسرين ٢٦٢ { الذين ينفقون اموالهم فى سبيل اللّه } اى يضعونها فى مواضعها { ثم } لاظهار علو رتبة المعطوف { لا يتبعون ما انفقوا } العائد محذوف اى ما انفقوه { منا } وهو ان يعتد على من احسن اليه باحسانه ويريه انه اوجب بذلك عليه حقا اى لا يمنون عليهم بما تصدقوا بان يقول المتصدق المانّ اصطنعتك كذا خيرا واحسنت اليك كثيرا { ولا اذى } وهو ان يتطاول عليه بسبب انعامه عليه اى لا يؤذيه بان يقول المتصدق المؤذى انى قد اعطيتك فما شكرت او الى كم تأتينى وتؤذينى او كم تسأل ألا تستحيى او انت ابدا تجيئنى بالابرام فرج اللّه عنى منك وباعد ما بينى وبينك { لهم اجرهم عند ربهم } ثوابهم فى الآخرة وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بان ترتب الاجر على ما ذكر من الانفاق وترك المن والاذى امر بين لا يحتاج الى التصريح بالسببية { ولا خوف عليهم } مما يستقبلهم من العذاب { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من امور الدنيا روى ان الحسن بن على رضى اللّه عنهما اشتهى طعاما فباع قميص فاطمة بستة دراهم فسأله سائل فاعطاها ثم لقى رجلا يبيع ناقة فاشتراها باجل وباعها من آخر فاراد ان يدفع الثمن الى بائعها فلم يجده فحكى القضية الى النبى عليه السلام فقال اما السائل فرضوان واما البائع فيمكائيل واما المشترى فجبرائيل فنزل قوله تعالى { الذين ينفقون اموالهم } الآية قال بعض اهل التفسير نزلت هذه الآية والتى قبلها فى عثمان وعبد الرحمن رضى اللّه عنهما. اما عثمان فجهز جيش العسرة فى غزوة تبوك بالف بعير باقتابها والف دينار فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده يقول ( يا رب رضيت عنه فارض عنه ) واما عبد الرحمن بن عوف فتصدق بنصف ماله اربعة آلاف دينار فقال عندى ثمانية آلاف فامسكت منها لنفسى وعيالى اربعة آلاف واربعة آلاف اقرضتها ربى فقال عليه السلام ( بارك اللّه لك فيما امسكت وفيما اعطيت ) فهذه حال عثمان وعبد الرحمن رضى اللّه عنهما حيث تصدقا ولم يخطر ببالهما شىء من المن والاذى. قال بعضهم المن يشبه بالنفاق والاذى يشبه بالرياء. ثم قال بعضهم اذا فعل ذلك فلا اجر له وعليه وزر فيما منّ وآذى على الفقير قال وهب فلا اجر له ولا وزر له. وقال بعضهم له اجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن واعلم ان اللّه تعالى نهى عباده ان يمنوا على احد بالمعروف مع انه تعالى قد من على عباده كما قال { بل اللّه يمن عليكم } وذلك لان اللّه تعالى تام الملك والقدرة وملكه وقدرته ليس بغيره والعبد وان كان فيه خصال الخير فتلك خصاله من اللّه ولم يكن ذلك بقوة العبد فالعبد ناقص والناقص لا يجوز له ان يمن على احد او يمدح نفسه والمن ينقص قدر النعمة ويكدرها لان الفقير الآخذ منكسر القلب لاجل حاجته الى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطى فاذا اضاف المعطى الى ذلك اظهار ذلك الانعام زاد ذلك فى انكسار قلبه فيكون فى حكم المضرب به بعد ان نفعه وفى حكم المسيئ اليه بعد ان احسن اليه : قال الحسين الكاشفى قدس سره آنجه كه بدهى جودهنده خداست ... منت بيهوده نهادن خطاست هرجه دهى مى ده ومنت منه ... وآنجه بشيمان شوى آن هم مده وقال السعدى قدس سره جو انعام كردى مشوخود برست ... كه من سرورم ديكران زيردست جوبينى دعا كوى دولت هزار ... خداوندرا شكر نعمت كذار كه جشم ازتودارند مردم بسى ... نه توجشم دارى بدست كسى قيل ان ابراهيم عليه السلام كان له خمسة آلاف قطيع من الغنم وعليها كلاب المواشى باطواق الذهب فتمثل له ملك فى صورة البشر وهو ينظر اغنامه فى البيداء فقال الملك [ سبوح قدوس رب الملائكة والروح ] فقال ابراهيم عليه السلام كرر ذكر ربى ولك نصف ما ترى من اموالى فكرر الملك فنادى ثانيا كرر تسبيح ربى ولك جميع ما ترى من مالى فتعجب الملائكة فقالوا جدير ان يتخذك اللّه خليلا ويجعل لك فى الملل والنحل ذكرا جميلا : وفى المثنوى قرض ده زين دولت اندر اقرضوا ... تاكه صد دولت به بينى بيش رو اندكى زين شرب كم كن بهر خويش ... تاكه حوض كوثرى يابى به بيش وفى نوابغ الكلم ( صنوان من منح سائله ومن ومن منع نائله وضن ) واعلم ان الناس على ثلاث طبقات. الاولى الاقوياء وهم الذين انفقوا جميع ما ملكوا وهؤلاء صدقوا فيما عاهدوا اللّه عليه من الحب كما فعل ابو بكر الصديق رضى اللّه تعالى عنه. والثانية المتوسطون وهم الذين لم يقدروا على اخلاء اليد عن المال دفعة ولكن امسكوه لا للتنعم بل للانفاق عند ظهور محتاج اليه وقنعوا فى حق انفسهم بما يقويهم على العبادة والثالثة الضعفاء وهم المقتصرون على اداء الزكاة الواجبة اللّهم اجعلنا من المتجردين عن عيرك والقانعين بك عما سواك ٢٦٣ { قول معروف } رد جميل وهو ان يرد السائل بطريق جميل حسن تقبله القلوب والطباع ولا تنكره { ومغفرة } اى ستر لما وقع من السائل الالحاف فى المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه { خير من صدقة يتبعها اذى } لان من جمع بين نفع الفقير واضراره حرم الثواب فان قالوا اى خير فى الصدقة التى فيها اذى حتى يقال هذا خير منه قلنا يعنى عندكم كذلك وهو كقوله تعالى { قل ما عند اللّه خير من اللّهو ومن التجارة } اى عندكم ذلك خير لكن اعلموا ان هذا خير لكم فى الدنيا والآخرة مما تعدونه انتم خيرا { واللّه غنى } عما عندكم من الصدقة لا يحوج الفقراء الى تحمل مؤونة المن والاذى ويرزقهم من جهة اخرى { حليم } لا يعاجل اصحاب المن والاذى بالعقوبة لا انهم لا يستحقونها بسببهما. وفيه من السخط والوعيد لهم ما لا يخفى قال فى مجالس حضرة الهدائى قدس سره وانما كان الرد الجميل خيرا من صدقة المان والمؤذى لان القول الحسن وان كان بالرد يفرح قلب السائل ويروح روحه ونفع الصدقة لجسده وسراية السرور لقلبه بالتبعية من تصور النفع فاذا قارن ما ينفع الجسد بما يؤذى الروح يكدر النفع حينئذ ولا ريب ان ما يروح الروح خير مما ينفع الجسد لان الروحانية اوقع فى النفوس واشرف قال الشعبى من لم ير نفسه الى ثواب الصدقة احوج من الفقير الى صدقته فقد ابطل صدقته. وبالغ السلف فى الصدقة والتحرز فيها عن الريا فانه غالب على النفس وهو مهلك ينقلب فى القلب اذا وضع الانسان فى قبره فى صورة حية اى يؤلم ايلام الحية والبخل ينقلب فى صورة عقرب والمقصود فى كل انفاق الخلاص من رذيلة البخل فاذا امتزج به الرياء كان كانه جعل العقرب غذاء الحية فتخلص من العقرب ولكن زاد فى قوة الحية اذ كل صفة من الصفات المهلكة فى القلب انما غذاؤها وقوتها فى اجابتها الى مقتضاها. ثم ان الصدقة لا تنحصر فى المال بل تجرى فى كل معروف فالكلمة الطيبة والشفاعة الحسنة والاعانة فى حاجة واحد وعيادة مريض وتشييع جنازة وتطييب قلب مسلم كل ذلك صدقة كر خير كنى مراد يابى ... در هر دوجهان كشاد يابى احسان كن وبهر توئه خويش ... زادى بفرست توازين ييش واعلم ان الدنيا وملكها لا اعتداد لها حكى عن بعض الملوك انه حبست الريح فى بطنه حتى قرب الى الهلاك فقال كل من يزيل عنى هذا البلاء اعطيته ملكى فسمعه شخص من اهل اللّه فجاء ومسح يده على بطنه فخرجت منه ريح منتنة وتعافى الملك من ساعته فقال يا سيدى اجلس على سرير المملكة انا عزلت نفسى فقال الرجل لا حاجة الى متاع قيمته ضرطة منتنة ولكن انت اتعظ من هذا فالشىء الذى اغتررت به قيمته هذا وعن الحسن قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم على اصحابه فقال ( هل منكم من يريد ان يذهب اللّه عنه العمى ويجعله بصيرا. ألا انه من رغب فى الدنيا وطال امله فيها اعمى اللّه قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر امله اعطاه اللّه تعالى علما بغير تعلم وهدى بغير هداية. ألا انه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك الا بالقتل والتجبر ولا الغنى الا بالفخر والبخل ولا المحبة الا باتباع الهوى. ألا فمن ادرك ذلك الزمان منكم فصبر للفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك الا وجه اللّه تعالى اعطاه اللّه تعالى ثواب خمسين صديقا ) وفى المثنوى كوزه جشم حريصان برنشد ... تاصدف قانع نشد بردر نشد ٢٦٤ { يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى } فان من فعل ذلك لا اجر له فى صدقته وعليه وزر منه على الفقير ووزر ايذائه وقد سبق معنى المن والاذى والمراد بابطال الصدقة احباط اجرها لان الصدقة لما وقعت وتقدمت لم يمكن ان يراد بابطالها نفسها بل المراد احباط اجرها وثوابها لان الاجر لم يحصل بعد فيصح ابطاله بما يأتيه من المن والاذى { كالذى } المراد المنافق لان الكافر معلن كفره غير مراء والكاف فى محل النصب على انه صفة لمصدر محذوف اى لا تبطلوها ابطالا كابطال المنافق الذى { ينفق ماله رئاء الناس } اى لاجل رئائهم يعنى ليقال انه كريم { ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر } لا يريد بانفاقه رضى اللّه ولا ثواب الآخرة. ورئائ من راآى نحو قاتل قتالا ومعنى المفاعلة ههنا مبنى على ان المرائى فى الانفاق يراعى ان تراه الناس فيحمدوه { فمثله } اى حالته العجيبة { كمثل صفوان } اى حجر صاف املس وهو واحد وجمع فمن جعله جمعا فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفى { عليه تراب } اى يسير منه { فأصابه وابل } اى مطر شديد الوقع كبير القطر { فتركه صلدا } املس ليس عليه شىء من الغبار { لا يقدرون } كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل لا يقدرون { على شىء مما كسبوا } اى لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا قطعا كقوله تعالى { فجعلناه هباء منثورا } يقال فلان لا يقدر على درهم اى لا يجده ولا يملكه فان قلت كيف قال لا يقدرون بعد قوله كالذى ينفق قلت اراد بالذى ينفق الجنس او الفريق الذى ينق ولان من والذى يتعاقبان فكأنه قيل كمن ينفق فجمع الضمير باعتبار المعنى ولما ذكر تعالى بطلان امر الصدقة بالمن والاذى ذكر لكيفية ابطال اجرها بهما مثلين فمثله اولا بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر باللّه واليوم الآخر فان بطلان اجر ما انفقه هذا الكافر اظهر من بطلان اجر من يتبعها بالمن والاذى ثم مثله ثانيا بالصفوان الذى وقع عليه تراب وغبار ثم اصابه المطر فازال ذلك الغبار عنه حتى صار كانه ما كان عليه تراب وغبار اصلا فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الانفاق والوابل كالكفر الذى يحبط عمل الكافر وكالمن والاذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق فكما ان الوابل ازال التراب الذى وقع على الصفوان فكذا المن والاذى يجب ان يكونا مبطلين لاجر الانفاق بعد حصوله وذلك صريح فى القول بالاحباط والتكفير كما ذهب اليه المعتزلة القائلون بان الاعمال الصالحة توجب الثواب وان الكبائر تحبط ذلك الثواب واما اصحابنا القائلون بان الثواب تفضل محض فانهم قالوا ليس المراد بقوله لا تبطلوا النهى عن ازالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد النهى عن ان يأتى بهذا العمل باطلا وبيانه ان المن والاذى يخرجانه من ان يترتب عليه الاجر الموعود لان العمل انما يؤدى الى الاجر الموعود اذاتىبه العامل تعبدا وطاعة وابتغاء لما عند اللّه تعالى من الاجر والرضوان وعملا بقوله تعالى { وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيراً واعظم اجرا } وبقوله تعالى { ان اللّه اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة } فمن كان حامله على العمل ابتغاء ما عند اللّه مما وعده للمخلصين فقد جرى على سنن المبادلة التى وقعت بين العمل والثواب الذى وعده اللّه تعالى لمن اخلص عمله للّه تعالى فلما كانت معاملته فى الحقيقة مع اللّه تعالى لم يبق وجه لان يمن على الفقير الذى تصدق عليه ولا لان يؤذيه بان يقول له مثلا خذه بارك اللّه لك فيه ومن من عليه او آذاه فقد اعرض عن جهة المبادلة مع اللّه ومال الى جهة التبرع على الفقير من غير ابتغاء وجه اللّه واتى بعمله من الابتداء على نعت البطلان فيكون محروما من البدل الذى وعده اللّه لمن اقرض اللّه قرضا حسنا اذ لم يقع عمله على وجه الاقراض { واللّه لا يهدى القوم الكافرين } الى الخير والرشاد. وفيه تعريض بان كلا من الرئاء والمن والاذى من خصائص الكفار ولا بد للمؤمنين ان يجتنبوها روى عن بعض العلماء انه قال مثل من يعمل الطاعة للرئاء والسمعة كمثل رجل خرج الى السوق وملأ كيسه حصى فيقول الناس ما املأ كيس هذا الرجل ولا منفعة له سوى مقالة الناس فلو اراد ان يشترى به شيأ لا يعطى به شيأ. وقد بالغ السلف فى اخفاء صدقتهم عن اعين الناس حتى طلب بعضهم فقيرا اعمى لئلا يعلم احد من المتصدق. وبعضهم ربط فى ثوب الفقير نائما. وبعضهم القى فى طريق الفقير ليأخذها وبذلك يتخلص من الرئاء : وفى المثنوى كفت بيغمبر بيك صاحب ريا ... صل انك لم تصل يا فتى از بارى جاره اين خوفها ... آمد اندر هر نمازى اهدنا كين نمازم را مياميز اى خدا ... با نماز ضالين و اهل ريا قال النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك الاصغر ) قالوا يا رسول اللّه وما الشرك الاصغر قال ( الرياء يقول اللّه لهم يوم يجازى العباد باعمالهم اذهبوا الى الذى كنتم تراؤون لهم فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه تعالى اذا كان يوم القيامة ينزل الى العباد ليقضى بينهم وكل امة جاثية فاول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل فى سبيل اللّه ورجل كثير المال فيقول اللّه للقارئ ألم اعلمك ما انزلت على رسولى قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما علمت قال كنت اقرأ آناء الليل واطراف النهار فيقول اللّه تعالى كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول اللّه بل اردت ان يقال فلان قارئ فقد قيل ويؤتى بصاحب المال فيقول اللّه ألم اوسع عليك حتى لم ادعك تحتاج الى احد قال بلى يا رب قال فماذا عملت فيما آتيتك قال كنت اصل الرحم واتصدق فيقول اللّه كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول اللّه بل اردت ان يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ويؤتى بالذى قتل فى سبيل اللّه فيقول له فيماذا قتلت فيقول يا رب امرت بالجهاد فى سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول اللّه كذبت وتقول الملائكة كذبت ويقول اللّه بل اردت ان يقال فلان جرىء فقد قيل ذلك ) ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اولئك الثلاثة اول خلق اللّه تسعر بهم النار يوم القيامة ) قال السعدى طريقت همينست كاهل يقين ... نكو كار بودند وتقصير بين بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت همان به كر آبستن كوهرى ... كه همجون صدف سر بخوددربرى وكر آوازه خواهى در اقليم فاش ... برون حله كن كودرون حشو باش اكرمسك خالص ندارى مكوى ... وكرهست خود قاش كردد ببوى جه زنار مع درميانت جه دلق ... كه در بوشى از بهر بندار خلق والاشارة فى الآية ان المعاملات اذا كانت مشوبة بالاغراض ففيها نوع من الاعراض ومن اعرض عن الحق فقد اقبل على الباطل ومن اقبل على الباطل فقد ابطل حقوقه فى الاعمال فماذا بعد الحق الا الضلال وقد نهينا عن ابطال اعمال البر بالاعراض عن طلب الحق والاقبال على الباطل بقوله { لا تبطلوا صدقاتكم } وهى من اعمال البر بالمن اى اذا مننت بها على الفقير فقد اعرضت عن طلب الحق لان قصدك فى الصدقة لو كان طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منة الفقير حيث كان سبب وصولك الى الحق ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم ( لولا الفقراء لهلك الاغنياء ) معناه لم يجدوا وسيلة الى الحق وقد فسر بعضهم قوله عليه السلام ( اليد العليا خير من اليد السفلى ) بان اليد العليا هى يد الفقير والسفلى يد الغنى تعطى السفلى وتأخذ العليا. والاذى هو الاقبال على الباطل لان كل شىء غير الحق فهو باطل فمن عمل عملا للّه ثم يشوبه بغرض فى الدارين فقد ابطل عمله بان يكون للّه فافهم جدا كذا فى التأويلات النجمية : وفى المثنوى عاشقا نرا شادمانى و غم اوست ... دست مزد واجرت خدمت هم اوست غير معشوق ار تما شائى بود ... عشق نبود هرزه سودايى بود عشق آن شعله است كوجون بر فروخت ... هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت فالعشق الآلهى والحب الرحمانى اذا استولى على قلب العبد يقطع عنه عرق الشركة فى الاموال والاولاد والانفس. والخدمة بالاجرة لا تناسب الرجولية فان من علم ان مولاه كريم يقطع قلبه عن ملاحظة الاجرة وتجىء اجرته اليه من ذلك الكريم على الكمال : قال الحافظ تو بندكى جو كدايان بشرط مزد مكن ... كه خواجه خود روش بنده برورى داند اللّهم اقطع رجاءنا عن غيرك واجعلنا من الذين لا يطلبون منك الا ذاتك ٢٦٥ { ومثل } نفقات { الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضاة اللّه } اى لطلب رضاه { وتثبيتا من انفسهم } اى جعل بعض انفسهم ثابتا على الايمان والطاعة ليزول عنها رذيلة البخل وحب المال وامساكه والامتناع عن انفاقه فان النفس وان كانت مجبولة على حب المال واستثقال الطاعات البدنية الا انها ما عودتها تتعود : قال صاحب البردة والنفس كالطفل ان تهمله شب على ... حب الرضاع وان تفطمه ينفطم فمتى اهملتها فقد تمرنت واعتادت الكسل والبطالة والبخل وامساك المال عن صرفه الى وجوه الطاعات ومقتضيات الايمان وحيث كلفتها وحملتها على مشاق العبادات البدنية والمالية تنقاد لك وتتزكى عن عاداتها الجبلية. فمن تبعيضية كما فى قولهم ( هز من عطفه وحرك من نشاطه ) فان قلت كيف يكون المال بعضا من النفس حتى تكون الطاعة ببذله طاعة لبعض النفس وتثبيتا لها على الثمرة الايمانية قلت ان النفس لشدة تعلقها بالمال كأنه بعض منها فالمال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه اللّه فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها : وفى المثنوى آن درم دادن سخى را لايق است ... جان سبردن خود سخاى عاشق است نان دهى از بهر حق نانت دهند ... جان دهى ازبهر حق جانت دهند آن فتوت بخش هر بى علت است ... باكبازى خارج ازهر ملت است در شريعت مال هركس مال اوست ... در طريقت ملك ما مملوك دوست ويجوز ان يكون التثبيت بمعنى جعل الشىء صادقا محققا ثابتا والمعنى تصديقا للاسلام ناشئا من اصل انفسهم وتحقيقا للجزاء فان الانفاق امارة ان الاسلام ناشىء من اصل النفس وصميم القلب. فمن لابتداء الغاية كما فى قوله تعالى { حسدا من عند انفسهم } ولعل تحقيق الجزاء عبارة عن الايقان بان العمل الصالح مما يثيب اللّه ويجازى عليه احسن الجزاء { كمثل جنة } بستان كائن { بربوة } مكان مرتفع مأمون من ان يصطلمه البرد اى يفسده للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فان اشجار الربا تكون احسن منظرا وازكى ثمرا واما الاراضى المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة هوائها بركود الرياح. وقال بعضهم ان البستان اذا وقع فى موضع مرتفع من الارض لا تنفعه الانهار وتضر به الرياح كثيرا فلا يحسن ريعه الا اذا كان على الارض المستوية التى لا تكون ربوة ولا وهدة فالمراد من الربوة حينئذ كون الارض لينة جيدة بحيث اذا نزل المطر عليها انتفخت وربت ونمت فان الارض اذا كانت بهذه الصفة يكثر ريعها وتكمل اشجارها ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى { وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت } فان المراد من ربوها ما ذكر { اصابها وابل } اى وصل اليها مطر كبير القطر شديد الوقع { فآتت } اى عطت صاحبها او اهلها { اكلها } ثمرتها وغلتها وهو بضمتين الشىء المأكول. ويجوز ان يكون آتت بمعنى اخرجت فيتعدى الى مفعول واحد هو اكلها { ضعفين } اى مثلى ما كانت تثمر فى سائر الاوقات وذلك بسبب ما اصابها من الوابل قال ابن عباس حملت فى سنة من الريع ما يحمل غيرها فى سنتين والمراد بالضعف المثل كما اريد بالزوج الواحد فى قوله تعالى { من كل زوجين اثنين } ومن فسره باربعة امثال ما كانت تثمر حمل الضعف على اصل معناه وهو مثلا الشىء فيكون ضعفين اربعة امثال { فان لم يصبها وابل فطل } اى فطل وهو المطر الصغير القطر يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها. والطل اذا دام عمل عمل الوابل وجاز الابتداء بالنكرة لوقوعها فى جواب الشرط وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة ومن كلامهم ان ذهب العير فعير فى الرباط والمعنى تشبيه نفقات هؤلاء الذين ينفقون بسبب ما يحملهم عليه من الابتغاء والتثبيت زاكية عند اللّه لا تضيع بحال وان كانت تلك النفقات تتفاوت فى زكائها بحسب تفاوت ما ينضم اليها من احوالهم التى هى الابتغاء والتثبيت الناشىء من ينبوع الصدق والاخلاص اليها بحال جنة نامية زاكية بسببى الربوة والوابل او الطل والجامع النمو المرتب على السبب المؤدى اليه. ويجوز ان يكون التشبيه من قبيل المفرق بان يشبه زلفاهم من اللّه تعالى وحسن حالهم عنده بثمرة الجنة ووجه التشبيه الزيادة ويشبه نفقتهم الكثيرة والقليلة بالقوى المطر والضعيف منه من حيث ان كل واحد منهما سبب لزيادة فى الجملة لان النفقتين تزيد ان حسن حالهم كما ان المطرين يزيدان ثمرة الجنة { واللّه بما تعملون بصير } من عمل الاخلاص والرياء لا يخفى عليه شىء وهو ترغيب فى الاخلاص مع تحذير عن الرياء ونحوه فعلى العاقل ان يعبد اللّه تعالى على الاخلاص ويكون دائما فى رجاء الخلاص عن الطاغوت الخفى وهو الشرك الخفى فان الخلاص يبتنى على الاخلاص : قال السعدى قدس سره همينست بندت اكر بشنوى ... كه كر خاركارى سمن ندروى يعنى من زرع الشوك لم يحصد الازهار والنبات ولا يثمر شجرة وبالكأس التى تسقى تشرب عصمنا اللّه واياكم من ضياع العلم وكساده واختلال الاعتقاد وفساده. وخالص الاعمال هو الذى تعمله للّه لا تحب ان يحمدك عليه احد واذا قارن العمل بالاخلاص يكون كنحاس طرح فيه الاكسير وجسد نفخ فيه الروح ولذا يضاعف ثوابه وعن على ابن ابى طالب رضى اللّه عنه عن النبى عليه السلام ( ان الصدقة اذا خرجت من يد صاحبها قبل ان تدخل فى يد السائل تتكلم بخمس كلمات اولاها تقول كنت قليلة فكثرتنى وكنت صغيرة فكبرتنى وكنت عدوا فاحببتنى وكنت فانيا فابقيتنى وكنت محروسا الآن صرت حارسك ) وعن مكحول الشامى اذا تصدق المؤمن بصدقة رضى اللّه عنه ونادت جهنم يا رب ائذن لى بالسجود شكرا لك قد اعتقت واحدا من امة محمد من عذابى لانى استحيى من محمد ان اعذب احدا من امته ولا بد لى من طاعتك ولفظ الصدقة اربعة احرف كل منها اشارة الى معنى. اما الصاد فالصدّ اى الصدقة تصد وتمنع عن صاحبها مكروه الدنيا والآخرة. واما الدال فدليل لانها تدل صاحبها الى الجنة. واما القاف فقربه الى اللّه تعالى. واما الهاء فهداية اللّه تعالى : قال بعضهم زان ييش كه دست ساقىء دهر ... در جام مرارت افكند زهر ازسر بنه اين كلاه ودستار ... جهدى بكن و دلى بدست آر كين سرهمه سال باكله نيست ... وين روى هميشه همجومه نيست فمن ساعده المال فلينفق فى سبيل اللّه الملك المتعال وليشكر على غنى ومدد فلا يقطع رجاء احد وفى الحديث ( من قطع رجاء من التجأ اليه قطع اللّه رجاءه ) روى ان بعض العلماء لما رأى هذا الحديث بكى بكاء شديدا وتحير فى رعاية فحواه فقام وذهب الى واحد من الصلحاء ليستفسر معنى هذا الحديث ويدفع شبهته فلما دخل عليه رأى ذلك الرجل الصالح يأخذ بيده خبزا ويؤكله الكلب من يده فسلم فرد عليه السلام ولم يقم له كما كان يفعله قبل فلما اكل الكلب الخبز بالتمام قام له ولاطفه وقال معتذرا خذ العذر منى حيث لم اقم امتثالا لقول النبى عليه السلام ( من قطع رجاء ) الحديث وهذا الكلب رجا منى اكل الخبز ولم اقم خشية ان اقطع رجاءه فلما سمع هذا الكلام زاد تحيرا ولم يستفسر فتعجب من كرامته وقوته فى باب الولاية واعلم ان ثمرات الاخلاص فى طلب الحق ومرضاته تكون ضعفين بالنسبة الى من ينفق فان حظه يكون من نعيم الجنة فحسب والمخلص فى طلب الحق يكون له ضعف من قربة الحق وذولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وضعف من نعيم الجنة اوفى واوفر من ضعف طالب الجنة ونعيمها باضعاف مضاعفة اللّهم اهدنا اليك ٢٦٦ { أيود احدكم } الهمزة لانكار الوقوع كما فى قوله أاضرب ابى لا لانكار الواقع كما فى قوله أتضرب اباك اى ما كان ينبغى ان يود رجل منكم { ان تكون له جنة } كائنة { من نخيل واعناب } والجنة تطلق على الاشجار الملتفة المتكاثفة وهو الانسب بقوله تعالى { تجرى من تحتها الانهار } اذ على كونها بمعنى الارض المشتملة على الاشجار الملتفة لا بد من تقدير مضاف اى من تحت اشجارها { له فيها من كل الثمرات } الظرف الول خبر والثانى حال والثالث مبتدأ اى صفة للمبتدأ قائمة مقامه اى له رزق من كل الثمرات كما فى قوله تعالى { وما منا الا له مقام معلوم } اى وما منا احد الا له الخ وليس المراد بالثمرات العموم بل انما هو التكثير كما فى قوله تعالى { واوتيت من كل شىء } فان قلت كيف قال { جنة من نخيل واعناب } ثم قال { له فيها من كل الثمرات } قلت النخيل والاعناب لما كانا اكرم الشجر واكثرها نفعا خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وان كانت محتوية على سائر الاشجار تغليبا لهما على غيرهما ثم اردفهما ذكر كل الثمرات { و } الحال انه قد { اصابه الكبر } اى كبر السن الذى هو مظنة شدة الحاجة الى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك اسباب المعاش { وله ذرية ضعفاء } اى اصابه الكبر والحال ان له ذرية صغارا لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش { فاصابها } اى تلك الجنة { اعصار } اى ريح عاصفة تستدير فى الارض ثم تنعكس منها ساطعة الى السماء على هيئة العمود { فيه نار } شديدة { فاحترقت } فصارت نعمها الى الذهاب واصلها الى الخراب فبقى الرجل متحيرا لا يجد ما يعود به عليها ولا قوة له ان يغرس مثلها ولا خير فى ذريته من الاعانة لكونهم ضعفاء عاجزين عن ان يعينوه وهذا كما ترى تمثيل لحال من يفعل الافعال الحسنة ويضم اليها ما يحبطها كرياء وايذاء فى الحسرة والاسف اذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته اليها ووجدها محبطة بحال من هذا شأنه واشبههم به من جال بسره فى عالم الملكوت وترقى بفكره الى جنات الجبروت ثم نكص على عقبيه الى عالم الزور والتفت الى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا : قال الحافظ زاهد ايمن مشو از بازئ غيرت زنهار ... كه ره از صومعه تا ديرمغان اين همه نيست { كذلك } اى مثل ذلك البيان الواضح الذى بين فيما مر من الجهاد والانفاق فى سبيل اللّه وقصة ابراهيم وعزير وغير ذلك لكم ايها الفريق { يبين اللّه لكم الآيات } اى الدلالات الواضحة فى تحقيق التوحيد وتصديق الدين { لعلكم تتفكرون } كى تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها قال القشيرى هذه آيات ذكرها اللّه على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق والمنفق فى سبيل اللّه والمنفق فى الباطل هؤلاء يحصل لهم الخلف والشرف وهؤلاء يحصل لهم السرف والتلف وهؤلاء ضل سعيهم وهؤلاء شكر سعيهم وهؤلاء تزكو اعمالهم وهؤلاء حبطت اعمالهم وخسرت اموالهم وختمت بالسوء احوالهم وتضاعف عليهم وبالهم وثقل ومثل هؤلاء كالذى انبت زرعا زكا اصله ونما فضله وعلا فرعه وكثر نفعه ومثل هؤلاء كالذى خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاقت على كبر سنه غلته وتواترت من كل وجه محنته هل يستويان مثلا وهل يتقاربان شبها انتهى فلا بد من اخلاص الاعمال فان الثمرات تبتنى على الاصل وعن معاذ بن جبل رضى اللّه عنه انه قال حين بعث الى اليمن يا رسو اللّه اوصنى قال ( اخلص دينك يكفك العمل القليل ) وعلاج الرياء على ضربين. احدهما قطع عروقه واستئصال اصوله وذلك بازالة اسبابه وتحصيل ضده واصل اسبابه حب الدنيا واللذة العاجلة وترجيحها على الآخرة. والثانى دفع ما يخطر من الرياء فى الحال ودفع ما يعرض منه فى اثناء العبادة فعليك فى اول كل عبادة ان تفتش قلبك وتخرج منه خواطر الرياء وتقره على الاخلاص وتعزم عليه الى ان تتم لكن الشيطان لا يتركك بل يعارضك بخطرات الرياء وهى ثلاث مرتبة العلم باطلاع الخلق او رجاؤه ثم الرغبة فى حمدهم وحصول المنزلة عندهم ثم قبول النفس له والركون اليه وعقد الضمير على تحقيقه فعليك رد كل منها : قال السعدى قدس سره قيامت كسى بينى اندر بهشت ... كه معنى طلب كرد ودعوى بهشت كنهكار انديشناك از خداى ... بسى بهتر ازعابد خود نماى وفى التاتارخانية لو افتتح الصلاة خالصا للّه تعالى ثم دخل فى قلبه الرياء فهو على ما افتح والرياء انه لو خلا عن الناس لا يصلى ولو كان مع الناس يصلى فاما لو صلى مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب اصل الصلاة دون الاحسان ولا يدخل الرياء فى الصوم روى عن ابى ذر الغفارى رضى اللّه عنه البارى انه قال رسو اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يا ابا ذر جدد السفينة فان البحر عميق واكثر الزاد فان السفر بعيد واقل من الحمولة فان الطريق مخوف واخلص العمل فان الناقد بصير ) والمراد من تجديد السفينة تحقيق الايمان وتكرير التوحيد ومن البحر هو جهنم قال تعالى { ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } والمراد بالسفر سفر الآخرة والقيامة قال تعالى { فى يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون } وزاد النعيم الطاعات وزاد الجحيم السيآت والمراد بالحمولة الذنوب والخطايا واريد باقلالها نفيها رأس وانما كان طريق الآخرة مخوفا لان الزبانية يأخذون اصحاب الحمل الثقيل من الطريق وليس هناك احد يعين على حمل احد وينصره وان كان من اقربائه قال تعالى { وان تدع مثقلة الى حملها لا يحمل منه شىء ولو كان ذا قربى } والمراد بالناقد هو اللّه تعالى وهو طيب لا يقبل الا الطيب الخالص عن الشرك والرياء قال تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا } اى خالصا لوجهه تعالى { ولا يشرك بعبادة ربه احدا } وفى الحديث قال اللّه تعالى ( انا غنى عن الشركاء فمن عمل لى وأشرك فيه غيرى فأنى برىء منه ) وذكر عن وهب بن منبه انه قال امر اللّه تعالى ابليس ان يأتى محمدا عليه السلام ويجيبه عن كل ما يسأله فجاءه على صورة شيخ وبيده عكازة فقال له ( من أنت ) قال انا ابليس قال ( لماذا جئت ) قال امرنى ربى ان آتيك واجيبك واخبرك عن كل ما تسألنى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( فكم اعداؤك من امتى ) قال خمسة عشر. انت اولهم. وامام عادل. وغنى متواضع. وتاجر صدوق. وعالم متخشع. ومؤمن ناصح. ومؤمن رحيم القلب. وثابت على التوبة. ومتورع عن الحرام. ومؤمن مديم على الطهارة. ومؤمن كثير الصدقة. ومؤن حسن الخلق مع الناس. ومؤمن ينفع الناس. وحامل القرآن المديم عليه. وقائم الليل والناس نيام قال عليه السلام ( فكم رفقاؤك من امتى ) قال عشرة. سلطان جائر. وغنى متكبر. وتاجر خائن. وشارب الخمر. والقتات. وصاحب الرياء. وآكل الربا. وآكل ما اليتيم. ومانع الزكاة. والذى يطيل الامل وفى الحديث ( ما منكم من احد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبين اللّه ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشأم منه فلا يرى الا ما قدم من عمله وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا اللّه ولو بشق تمرة ) قال شيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة قيل لى فى قلبى احسن اخلاق المرء فى معاملته مع الحق التسليم والرضى واحسن اخلاقه فى معاملته مع الخلق العفو والسخاء : قال السعدى غم وشادمان نماند و ليك ... جزاى عمل ماند و نام نيك كرم باى دارد نه ديهيم وتخت ... بده كز تواين مانداى نيكبخت مكن تكيه برملك وجاه وحشم ... كه بيش ازتو بودست وبعدازتوهم ٢٦٧ الحمد للّه الذى امر المؤمنين بالانفاق ليزكى به نفوسهم عن سفساف الاخلاق وهدى العارفين الى بذلك المال والروح ليفتح لهم ابواب الفتوح والصلاة على المتخلق باخلاق مولاه سيدنا محمد الذى جاء بالشفاعة لمن يهواه وعلى آله واصحابه ممن اثر اللّه على ما سواه ووثق فى اجر الانفاق بربه الذى اعطاه وبعد فان العبد العليل سمى الذبيح اسماعيل الناصح البروسى ثم الاسكوبى اوصله اللّه الى غاية المقام الحى يقول لما ابتليت بالنصح والعظه أهتممت فى باب الموعظه فكنت التقط من التفاسير وانظم فى سلك التحرير ما به ينحل عقد الآيات القرآنيه والبينات الفرقانيه من غير تعرض لوجوه المعانى مما يحتمله المبانى قصدا الى التكلم بقدر عقول الناس وتصديا للاختصا الحامل على الاستئناس واضم الى كل آية ما يناسبها من الترغيب والترهيب وبعض من التأويل الذى لا يخفى على كل لبيب حتى انتهيت من سورة البقرة الى ما ها هنا من آيات الانفاق بعون اللّه الملك الخلاق فجعلت اول هذه الآية معنونا ليكون هذا النظم مع ما يضم اليه مدونا مقطوعا عما قبله من الآيات مجموعا بلطائف العظات ومن اللّه استمد ان يمهلنى الى ان آخذ بهذا المنوال القرآن العظيم واقضى هذا الوطر الجسيم واتضرع ان يجعله منتفعا به وذخر اليوم والمعاد ونعم المسؤل والمراد { يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم } اى من حلال ما كسبتم او جياده لقوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وفسر صاحب الكشاف الطيبات بالجياد حيث قال من طيبات ما كسبتم من جياد مكسوباتكم ذكر بعض الافاضل انه انما فسر الطيب بالجيد دون الحلال لان الحل استفيد من الامر فان الانفاق من الحرام لا يؤمر به ولان قوله تعالى بعده { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } والخبيث هو الرديئ المستخبث يدل على ان المعنى انفقوا مما يستطاب من اكسابكم { ومما } اى ومن طيبات ما { اخرجنا لكم من الارض } من الحبوب والثمار والمعادن { ولا تيمموا } اى لا تقصدوا { الخبيث } اى الرديئ الخسيس. والخبيث نقيض الطيب ولهما جميعا ثلاث معان الطيب الحلال والخبيث الحرام والطيب الطاهر والخبيث النجس والطيب ما يستطيبه الطبع والخبيث ما يستخبثه { منه تنفقون } الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا اى لا تقصدوا الخبيث قاصرين الانفاق عليه والتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من انفاق الخبيث خاصة لا تسويغ انفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه { ولستم بآخذيه } حال من واو تنفقون اى تنفقون والحال انكم لا تأخذون الخبيث فى معاملاتكم فى وقت من الاوقات او بوجه من الوجوه { الا ان تغمضوا فيه } اى الا وقت اغماضكم فيه او الا باغماضكم يعنى لو كان لكم على رجل حق فجاء برديئ ماله بدل حقكم الطيب لا تأخذونه الا فى حال الاغماض والتساهل مخافة فوت حقكم او لاحتياجكم اليه من قولك اغمض فلان عن بعض حقه اذا غض بصره ويقال للبائع اغمض اى لا تستقص كأنك لا تبصر { واعلموا ان اللّه غنى } عن انفاقكم وانما يأمركم به لمنفعتكم. وفى الامر بان يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من اعطاء الخبيث وايذان بان ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فان اعطاء مثله انما يكون عادة عند اعتقاد المعطى ان الآخذ محتاج الى ما يعطيه بل مضطر اليه { حميد } مستحق للحمد على نعمه العظام واعلم ان المتصدق كالزارع والزارع اذا كان له اعتقاد بحصول الثمرة يبالغ فى الزراعة وجودة البذر لتحققه ان جودة البذر مؤثرة فى جودة الثمرة وكثرتها فكذلك المتصدق اذا ازداد ايمانه باللّه والبعث والثواب والعقاب يزيد فى الصدقة وجودتها لتحققه ان اللّه لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجرا عظيما والعبد كما اعطى اللّه احب ما عنده فان اللّه يجازيه باحب ما عنده كما قال تعالى { هل جزاء الاحسان الا الاحسان } ودلت الآية على جواز الكسب وان احسن وجوه التعيش هو التجارة والزراعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان اطيب ما اكله الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ) وكذلك اطيب الصدقات ما كانت من عمل اليد بقنطار زر بخش كردن زكنج ... نباشد جو قيراط از دست رنج قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ا يكسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره الا كان زاده الى النار ان اللّه تعالى لا يمحوا السيىء بالسيىء ولكن يمحو السيىء بالحسن ان الخبيث لا يمحو الخبيث ) ووجوه الانفقا والصدقة كثيرة قال صلى اللّه عليه وسلم ( ما من مسلم يغرس غرسا او يزرع زرعا فيأكل منه انسان أو طير أو بهيمة الا كانت له صدقة ) روى ان النبى صلى اللّه عليه وسلم حث اصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان ابو امامة الباهلى جالسا بين يدى النبى عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( انك تحرك شفتيك فماذا تقول ) قال انى ارى الناس يتصدقون وليس معى شىء اتصدق به فأقول فى نفسى سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر فقال صلى اللّه عليه وسلم ( هؤلاء الكلمات خير لك من مد ذهبا تتصدق به على المساكين ) فعلى العاقل ان يواظب على الاذكار فى الليل والنهار ويتصدق على الفقراء والمساكين بخلوص النية واليقين فى كل حين كرامت جوانمردى ونان دهيست ... مقالات بيهوده طبل تهيست وجلس الاسكندر يوما مجلسا عاما فلم يسأل فيه حاجة فقال واللّه ما اعد هذا اليوم من ملكى قيل ولم ايها الملك قال لانه لا توجد لذة الملك الا باسعاف الراغبين واغاثة الملهوفين ومكافأة المحسنين قال السرى السقطى قدس سره فى وصف الصوفية اكلهم اكل المرضى ونومهم نوم العرضى ومن تخليهم عن الاملاك ومفارقتهم اياها سموا فقراء فالصوفى ما لم يبذل ماله وروحه فى طلب اللّه فهو صاحب دنيا والدنيا مانعة عن الوصول فعليك بالايثار وكمال الافتقار ٢٦٨ { الشيطان يعدكم الفقر } الوعد هو الاخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتبا على شىء من زمان او غيره يستعمل فى الشر استعماله فى الخير قال اللّه تعالى { النار وعدها اللّه الذين كفروا } والمعنى ان الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل امسك مالك فانك اذا تصدقت به افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } اى بالخصلة الفحشاء اى ويغريكم على البخل ومنع الصدقات اغراء الآمر المأمور على فعل المأمور به والعرب تسمى البخيل فاحشا { واللّه يعدكم } اى فى الانفاق { مغفرة } لذنوبكم اى مغفرة كائنة { منه } عز وجل { وفضلا } كائنا منه تعالى اى خلفا مما انفقتم زائدا عليه فى الدنيا وثوابا فى العقبى وفيه تكذيب للشيطان { واللّه واسع } قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة واخلاف ما تنفقونه { عليم } مبالغ فى العلم فيعلم انفاقكم فلا يكاد يضيع اجركم ٢٦٩ { يؤتى الحكمة } اى مواعظ القرآن ومعنى ايتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها اى يبينها ويوفق للعمل بها { من يشاء } من عباده اى يؤتيها ايه بموجب سعة فضلة واحاطة علمه كما آتاكم ما بينه فى ضمن الآى من الحكم البالغة التى عليها يدور فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا الى العمل بها. والموصول مفعول اول ليؤتى قدم عليه الثانى للعناية به { ومن يؤت الحكمة } اى يعط العلم والعمل { فقد اوتى خيرا كثيرا } اى اى خير كثير فانه قد حيز له خير الدارين { وما يذكر } اى وما يتعظ بما اوتى من الحكمة { الا اولوا الالباب } اى العقول الخالصة من شوائب الوهم والركون الى متابعة الهوى. فالمراد منهم الحكماء العلام العمال ولا يتناول كل مكلف وان كان ذا عقل لان من لا يغلب عقله على هواه فلا ينتفع به فكأنه لا عقل له قيل من اعطى علم القرآن ينبغى ان لا يتواضع لاهل الدنيا لاجل دنياهم لان ما اعطيه خير كثير والدنيا متاع قليل ولقوله عليه السلام ( القرآن غنى لا غنى بعده ) والاشارة أن الشيطان فقير يعد بالفقر ظاهرا فهو يأمر بالفحشاء حقيقة. والفحشاء اسم جامع لكل سوء لان عدته بالفقر تتضمن معانى الفحشاء وهى البخل والحرص واليأس من الحق والشك فى مواعيد الحق للخلق بالرزق والخلف للمنفق ومضاعفة الحسنات وسوء الظن باللّه وترك التوكل عليه وتكذيب قول الحق ونسيان فضله وكرمه وكفران النعمة والاعراض عن الحق والاقبال على الخلق وانقطاع الرجاء من اللّه تعالى وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وايثار الحظوظ الدنيوية وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل حطيئة وبزر كل بلية فمن فتح على نفسه باب وسوسته فسوف يبتلى بهذه الآفات ومن سد هذا الباب فان اللّه يكرمه بانواع الكرامات ورفعة الدرجات واللّه واسع عليم يؤتى من اجتنب عن وساوسه الحكمة وهى من مواهبه ترد على قلوب الانبياء والاولياء عند تجلى صفات الجلال والجمال وفناء اوصاف الخلقية بشواهد صفات الخالقية فيكاشف الاسرار بحقائق معان اورثتها تلك الانوار سرا بسر واضمارا باضمار. فحقيقة الحكمة نور من انوار صفات الحق يؤيد اللّه به عقل من يشاء من عباده فهذه ليست مما تدرك بالعقول والبراهين العقلية والنقلية واما المعقولات فهى مشتركة بين اهل الدين واهل الكفر فالمعقول ما يحكم العقل عليه ببرهان عقلى وهذا ميسر لكل عاقل بالدراية وعالم بالقراءة فمن صفى عقله عن شوب الوهم والخيال فيدرك عقله المعقول بالبرهان دراية عقلية ومن لم يصف العقل عن هذه الآفات فهو يدرك المعقول قراءة بتفهيم استاذ مرشد فاما الحكمة فليست من هذا القبيل وما يذكر الا اولوا الالباب وهم الذين لم يقنعوا بقشور العقول الانسانية بل سعوا فى طلب لبها بمتابعة الانبياء عليهم السلام فاخرجوهم من ظلمات قشور العقول الانسانية الى نور لب المواهب الربانية فتحقق لهم ان من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور فانتبه ايها المغرور المفتون بدار الغرور فلا يغرنك باللّه الغرور قال من قال نكر تاقضا از كجاسير كرد ... كه كورى بودتكيه بر غيركرد فغان ازبديها كه درنفس ماست ... كه ترسم شود ظن ابليس راست قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( يمين اللّه ملأى لا يغيضها نفقة سحاب الليل والنهار أرأيتم ما انفق منذ خلق السماء والارض فانه لم يغض ما فى يمينه ) قال ( وعرشه على الماء وبيده الاخرى القبض يرفع ويخفض ) فالمؤمن يتخلق باخلاق اللّه ويجود على الفقراء ويدفع ما وسوس اليه الشيطان من خوف الفقر فان اللّه بيده مفاتيح الارزاق وهو المعطى على الاطلاق ٢٧٠ { وما } كلمة شرط وهى للعموم { انفقتم من نفقة } اى اى نفقة كانت فى حق او باطل فى سر أو علانية قليلة او كثيرة { او نذرتم } النذر عقد الضمير على شىء والتزامه وهو فى الشرع التزام بر له نظيرفى الشرع ولهذا لو نذر سجدة مفردة لا يصح الا ان تكون للتلاوة عند ابى حنيفة واصحابه { من نذر } اى نذر كان فى طاعة او معصية بشرط او بغير شرط متعلق بالمال او بالافعال كالصلاة والصيام ونحوهما { فان اللّه يعلمه } الضمير عائد الى ما اى فانه تعالى يجازيكم عليه البتة ان خيرا فخير وان شرا فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد { وما للظالمين } بالانفاق والنذر فى المعاصى او بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذور او بانفاق الخبيث او بالرياء والمن والاذى وغير ذلك مما ينتظمه معنى الظلم الذى هو عبارة عن وضع الشىء فى غير موضعه الذى يحق ان يوضع فيه { من انصار } اى اعوان ينصرونهم من بأس اللّه وعقابه لا شفاعة ولا مدافعة وايراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين اى ومالظالم من الظالمين من نصير من الانصار ٢٧١ { ان تبدوا الصدقات فنعما هى } اى ان تظهروا الصدقات فنعم شىء ابداؤها بعد ان لم يكن رياء وسمعة { وان تخفوها } اى تعطوها خفية { وتؤتوها الفقراء } ولعل التصريح بايتائها الفقراء مع انه واجب فى الابداء ايضا لما ان الاخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فان الغنى ربما يدعى الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس { فهو خير لكم } اى فالاخفاء خير لكم من الابداء وكل متقبل اذا صلحت النية وهذا فى التطوع ومن لم يعرف بالمال واما فى الواجب فالبعكس ليقتدى به كالصلاة المكتوبة فى الجماعة افضل والنافلة فى البيت ولنفى التهمة وسوء الظن حتى اذا كان المزكى ممن لا يعرف باليسار كان اخفاؤه افضل خوف الظلمة عن ابن عباس رضى اللّه عنهما صدقة السر فى التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها افضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا { و } اللّه { يكفر عنكم من سيآتكم } من تبعيضية اى شيأ من سيآتكم لانه يمحو بعض الذنوب بالتصدق فى السر والعلانية او زائدة على رأى الاخفش فالمعنى يمحو عنكم جميع ذنوبكم { واللّه بما تعملون } من الاسرار والاعلان { خبير } فهو ترغيب فى الاسرار ذكر الامام فى ان الاسرار والاخفاء فى صدقة التطوع افضل وجوها الاول انها ابعد من الرياء والسمعة قال صلى اللّه عليه وسلم ( لا يقبل من مسمع ولا مرائى ولا منان ) والمتحدث فى صدقة لا شك انه يطلب السمعة والمعطى فى ملأ من الناس يطلب الرياء فالاخفاء والسكوت هو المخلص منهما. وقد بالغ قوم فى صدقة الاخفاء واجتهدوا ان لا يعرفهم احد فكان بعضهم يلقيها فى يد اعمى وبعضهم يلقيها فى طريق الفقير فى موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطى وبعضهم كان يشدها فى ثوب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل على يد غيره وثانيها انه اذا اخفى صدقته لم يحصل له من الناس شهرة وتمدح وتعظيم فكان ذلك اشق على النفس فوجب ان يكون اكثر ثوابا وثالثها قوله صلى اللّه عليه وسلم ( افضل الصدقة جهد المقل الى فقير فى سر ) وقال ايضا ( ان العبد يعمل عملا ان فى السر والعلانية وكتب فى الرياء ) وفى الحديث ( سبعة يظلهم اللّه فى ظله يوم لا ظل الا ظله امام عدل وشاب نشأ فى عبادة اللّه تعالى ورجل قلبه معلق بالمسجد اذا خرج منه حتى يعود اليه ورجلان تحابا فى اللّه اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال انى اخاف اللّه ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ) واما الوجه فى جواز اظهار الصدقة فهو ان الانسان اذا علم انه اذا اظهرها صار فى ذلك سببا لاقتداء الخلق به فالاظهار افضل قال محمد بن على الحكيم الترمذى ان الانسان اذا اتى بعمله وهو يخفيه عن الخلق وفى نفسه شهوة ان يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يردد عليه رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الانسان فى محاربة الشيطان فضوعف العمل فى السر سبعين ضعفا على العلانية ثم ان تقرب العبد الى اللّه انما يكون بفرض اوجبه اللّه عليه او بنفل اوجبه العبد على نفسه فعلى كلا التقديرين اللّه عليم بهما فيجازى العبد بهما كما قال فى حديث ربانى ( لن يتقرب الى المتقربون بمثل ما افترضت عليهم ولا يزال العبد يتقر الىّ بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا فبى يسمع وبى يبصر وبى ينطق وبى يبطش ) ولكن الشأن اخلاص العمل للّه من غير شوبه بعلة دنيوية او اخروية فانها شرك والشرك ظلم عظيم فلا بد من الاجتناب جو رويى بخدمت نهى بر زمين ... خدارا ثناكوى وخودرا مبين فاخفاء الصدقة اشارى فى الحقيقة الى تخليصها من شوب الحظوظ النفسانية لتكون خالصة للّه فصاحبها يكون فى ظل اللّه كما قال عليه السلام ( المرء يكون فى ظل صدقته يوم القيامة ) يعنى ان كانت صدقته للّه فيكون فى ظل اللّه وان كانت صدقته للجنة فيكون فى ظل الجنة وان كانت صدقته للّهوى فيكون فى ظل هاوية فافهم جدا رطب ناورد جوب خرزهره بار ... جه تخم افكنى بر همان جشم دار ٢٧٢ { ليس عليك هداهم } اى لا يجب عليك يا محمد ان تجعلهم مهديين الى الاتيان بما امروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وانما الواجب عليك الارشاد الى الخير والحث عليه والنهى عن الشر والردع عنه بما اوحى اليك من الآيات والذكر الحكيم والخطاب خاص والمراد عام يتناول كل اهل الاسلام { ولكن اللّه يهدى } هداية خاصة موصلة الى المطلوب حتما { من يشاء } هدايته الى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع ويختار الخير فهدى التوفيق على اللّه وهدى البيان على النبى صلى اللّه عليه وسلم وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول اللّه عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كى تحملهم الحاجة على الدخول فى الاسلام فنزلت اى ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لاجل دخولهم فى الاسلام وفيه ايماء الى ان الكفر لا يمنع صدقة التطوع واختلف فى الواجب فجوزه ابو حنيفة واباه غيره { وما تنفقوا من خير } اى اى شىء تتصدقوا كائن من مال { فلانفسكم } اى فهو لانفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا على من اعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث او فنفعه الدينى لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين وعن بعض العلماء لو كان شر خلق اللّه لكان لك ثواب نفقتك { وما تنفقون الا ابتغاء وجه اللّه } استثناء من اعم العلل او اعم الاحوال اى ليست نفقتكم لشىء من الاشياء الا لابتغاء وجه اللّه او ليست فى حال من الاحوال الا حال ابتغاء وجه اللّه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذى لا يوجه مثله الى اللّه { وما تنفقوا } اى اى شىء تنفقوا { من خير } فى اهل الذمة وغيرهم { يوف اليكم } اى يوفر لكم اجره وثوابه اضعافا مضاعفة فلا عذر لكم فى ان ترغبوا عن انفاقه على احسن الوجوه واجملها { وانتم لا تظلمون } اى لا تنقصون شيأ مما وعدتم من الثواب المضاعف ٢٧٣ { للفقراء } اى اجعلوا ما تنفقونه للفقراء { الذين احصروا فى سبيل اللّه } اى حبسوا نفوسهم فى طاعته من الغزو والجهاد { لا يستطيعون } لاشتغالهم به { ضربا فى الارض } اى ذهابا فيها وسيرا فى البلاد للكسب والتجارة وقيل هم اصحاب الصفة وهم نحو من اربعمائة رجل من مهاجرى قريش لم يكن لهم مساكن فى المدينة ولا عشائر فكانوا فى صفة المسجد وهى سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون فى كل سرية بعثها رسول اللّه فكان من عنده فضل اتاهم به اذا امسى وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما على اصاحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال ( ابشروا يا اصحاب الصفة فمن لقى اللّه من امتى على النعت الذى انتم عليه راضيا بما فيه فانه من رفقائى ) { يحسبهم الجاهل } اى يظنهم الجاهل بحالهم وشأنهم { اغنياء من التعفف } اى من اجل تعففهم عن المسألة وهو ترك الطلب ومنع النفس عن المراد بالتكلف استحياء { تعرفهم } اى تعرف فقرهم واضطرارهم { بسيماهم } اى بما تعاين منهم من الضعف ورثاثة الحال. والسيما والسيمياء العلامة التى تعرف بها الشىء { لا يسألون الناس الحافا } مفعول له ففيه نفى السؤال والالحاف جميعا اى لا يسألون الناس اصلا فيكون الحافا والالحاف الالزام والالحاح وهو ان يلازم السائل المسئول حتى يعطيه ويجوز السؤال عند الحاجة والاثم مرفوع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لان يأخذ احدكم حبله فيذهب فيأتى بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من ان يسأل الناس اشياءهم اعطوه او منعوه ) وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه يحب الحى الحليم المتعفف ويبغض البذى السائل الملحف ) { وما تنفقوا من خير فان اللّه به عليم } فيجازيكم بذلك احسن جزآء فهو ترغيب فى التصدق لا سيما على هؤلاء ثم زاد التحريض عليه بقوله ٢٧٤ { الذين ينفقون اموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } اى يعمون الاوقات والاحوال بالخير والصدقة فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال وقيل نزلت فى شأن الصديق رضى اللّه عنه حين تصدق باربعين الف دينار عشرة آلاف منها بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سرا وعشرة علانية { فلهم اجرهم } اى ثوابهم حاضر { عند ربهم ولا خوف عليهم } من مكروه آت { ولا هم يحزنون } من محبوب فات واعلم ان الانفاق على سادة اختاروا الفقر على الغنى محبة للّه واقتداء بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حرفة فانه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول ( لى حرفتان الفقر والجهاد ) وهم احق بها واولى والعبد اذا انفق من كل معاملة فيها خير من المال او الجاه او خدمة النفس او اعزاز او اكرام او اعظام او ارادة بالقلب حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقا واجلالا لا استخفافا واذلالا فان اللّه به عليم فان تقرب اليه فى الانفاق بشبر يتقرب هو اليه فى المجازاة بذراع وان تقرب بذراع يتقرب اليه بباع فلا نهاية لفضله ولا غاية لكرمه فطوبى لمن ترك الدنيا بطيب القلب واختار اللّه على كل شىء ومن كان للّه كان اللّه له روى ان حسن ستة اشياء فى ستة العلم والعدل والسخاوة والتوبة والصبر والحياء. العلم فى العمل. والعدل فى السلطان. والسخاوة فى الاغنياء. والتوبة فى الشباب. والصبر فى الفقر. والحياء فى النساء. العلم بلا عمل كبيت بلا سقف والسلطان بلا عدل كبئر بلا ماء. والغنى بلا سخاوة كسحاب بلا مطر. والشباب بلا توبة كشجر بلا ثمر. والفقر بلا صبر كقنديل بلا ضياء. والنساء بلا حياء كطعام بلا ملح فعلى الغنى ان يمطر من سحاب غنى بركات الدين والدنيا ويتسبب لاحياء قلوب ماتت بالفقر والاحتياج فان اللّه لا يضيع اجر المحسنين بسنديده رأيى كه بخشيد وخورد ... جهان ازبى خويشتن كرد كرد يعنى ان الذى له رأى صائب هو الذى تنعم بماله وانعم وجمع الدنيا لاجله لا لغيره فان من جمع مالا ولم يأكل منه ولم يعط فهو جامع لغيره فى الحقيقة اذ هو لوارثه بعده ٢٧٥ { الذين يأكلون الربوا } اى يأخذونه وعبر عنه بالاكل لانه معظم المقصود من المال ولشيوعه فى المطعومات والربا فضل فى الكيل والوزن خال عن العوض عند ابى حنيفة واصحابه ويجرى فى الاشياء الستة الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والملح وكتب بالواو تنبيها على اصله لانه من ربا يربو وزيدت الالف تشبيها بواو الجمع { لا يقومون } اى من قبورهم اذا بعثوا { الا كما يقوم } اى الا قياما مثل قيام { الذى يتخبطه } اى يضربه ويصرعه { الشيطان من المس } اى الجنون متعلق بلا يقومون يعنى لا يقومون من المس الذى بهم الا كقيام المصروع المختل اى فاسد العقل ويكون ذلك سيماهم يعرفون به عند اهل الموقف وقيل الذين يخرجون من الاجداث يوفضون الا اكلة الربا فانهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لانهم اكلوا الربا فارباه اللّه تعالى فى بطونهم حتى اثقلهم فلا يقدرون على الايفاض { ذلك } اى العذاب النازل بهم { بانهم قالوا } اى بسبب قولهم { انما البيع مثل الربوا } فنظموا الربا والبيع فى سلك واحد لافضائهما الى الربح فاستحلوه استحلاله وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين وحق الكلام ان يقال انما الربا مثل البيع الا انه على المبالغة اى اعتقدوه حلا حتى ظنوا انه اصل او قالوا انما البيع مثل الربا فلم لا يحل فان الزيادة فى اوله كما هى فى آخره روى ان اهل الجاهلية كان احدهم اذا حل ماله على غريمه فطالبه به يقول الغريم لصاحب الاجل زدنى شيأ فى الاجل حتى ازيدك فى المال فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة فى اول البيع بالربح او عند المحل لاجل التأخير فكذبهم اللّه وقال { واحل اللّه البيع وحرم الربوا } اى كيف يتماثلان والبيع محلل بتحليل اللّه والربا محرم بتحريم اللّه تعالى { فمن جاءه موعظة } اى فمن بلغه وعظ وزجر كالنهى عن الربا { من ربه فانتهىى} اى فاتعظ بلا تراخ وتبع النهى { فله ما سلف } اى مضى من ذنبه فلا يؤاخذ به لانه اخذ قبل نزول التحريم وجعل ملكا له ولا يسترد منه { وامره الى اللّه } يجازيه على انتهائه ان كان عن قبول الموعظة وصدق النية. وقيل يحكم فى شأنه يوم القيامة وليس من امره اليكم شىء فلا تطالبوه به { ومن عاد } الى الربا مستحلا بعد النهى كما استحل قبله { فاولئك } اشارة الى من باعتبار المعنى { اصحاب النار } اى ملازموها { هم فيها خالدون } ماكثون ابدا ٢٧٦ { يمحق اللّه الربوا } المحق نقضان الشىء حالا بعد حال حتى يذهب كله كما فى محاق الشهر وهو حال آخذ الربا فان اللّه يذهب بركته ويهلك المال الذى يدخل فيه ولا ينتفع به ولده بعده { ويربى الصدقات } يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذى اخرجت منه الصدقة روى عنه صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه يقبل الصدقة ويربيها كما يربى احدكم مهره ) وعنه ايضا ( ما نقصت زكاة من مال قط ) { واللّه لا يحب } اى لا يرضى لان الحب مختص بالتوابين { كل كفار } مصر على تحليل المحرمات { أثيم } منهمك فى ارتكابها ٢٧٧ { ان الذين آمنوا } باللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم وبما جاءهم به { وعملوا الصالحات } اى الطاعات { واقاموا الصلوة وآتوا الزكوة } تخصيصهما بالذكر مع اندراجهما فى الصالحات لانافتهما على سائر الاعمال الصالحة { لهم اجرهم } الموعود لهم حال كونه { عند ربهم ولا خوف عليهم } من مكروه آت { ولا هم يحزنون } من محبوب فات واعلم ان آكل الربا لحرصه على الدنيا مثله كمثل من به جوع الكلب فيأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فكلما يقوم يصرعه ثقل بطنه فكذا حال اهل الربا يوم القيامة : ونعم ما قيل توان بحلق فرو بردن استخوان درشت ... ولى شكم بدرد جون بكيردندار ناف فالعاقل لا يأكل ما لا يتحمله فى الدنيا والآخرة فطوبى لمن يقتصد فى اخذ الدنيا ولا يحمله الحرص على اخذها بغير حقها فهو ينجو من وبالها وهو مثل التاجر الذى يكسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدى حقه وان كان له حرص فى الطلب والجمع ولكن لما كان بامر الشرع وطريق الحل ولا يمنع ذا الحق حقه ما اضر به كما اضرّ بآكل الربا روى ان النبى صلى اللّه عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وكسب البغى ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والواشمة والمستوشمة والمصور قال عليه السلام ( الربا بضع وسبعون بابا ادناها كأتيان الرجل أمه ) يعنى كالزنى بامه والعياذ باللّه فمن سمع هذا القول العظيم فليبادر بالتوبة الى باب المولى الكريم ذلك لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد. ومن اقرض شيأ بشرط ان يرد عليه افضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا وكان لابى حنيفة رحمه اللّه على رجل الف درهم سود فرد عليه الف درهم بيض فقال ابو حنيفة لا اريد هذا الابيض بدل دراهمى فاخاف ان يكون هذا البياض ربا فرده واخذ مثل دراهمه قال ابو بكر لقيت ابا حنيفة على باب رجل وكان يقرع الباب ثم يتنحى ويقوم فى الشمس فسألته عنه فقال ان لى على صاحبه دينا وقد نهى عن قرض جر منفعة فلا انتفع بظل حائطه ويقرب منه ما روى عن ابى يزيد البسطامى قدس سره من انه اشترى من همذان حب القرطم ففضل منه شىء فلما رجع الى بسطام رأى فيه نملتين فرجع الى همذان ووضع النملتين فهذا هو الورع وكمال التقوى ومثل هذا لا يوجد فى هذا الزمان وان وجد فاقل من القليل واكثر الناس ولو كانوا صوفية لا يفرقون بين الحلال والحرام والشبهات ولذا ترى امر الدين صار مهملا وعاد غريبا هدانا اللّه واياكم الى سواء الطريق انه ولى التوفيق : قال جلال الدين الرومى اى زخودت بى وقوف لاف ترا يوف يوف ... فضل نبخشد تراجبه ودستار وصوف ٢٧٨ { يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه } اى قوا انفسكم عقابه { وذروا ما بقى من الربوا } اى واتركوا تركا كليا ما بقى لكم غير مقبوض من مال الربا على من عاملتموه به { ان كنتم مؤمنين } على الحقيقة فان ذلك مستلزم لامتثال ما امرتم به البتة روى انه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت ٢٧٩ { فان لم تفعلوا } اى ما امرتم به من الاتقاء وترك البقاؤا اما مع انكار حرمته واما مع الاعتراف بها { فائذنوا } اى فاعلموا من اذن بالامر اذا علم به { بحرب } اى بنوع من الحرب عظيم لا يقادر قدره كائن { من } عند { اللّه ورسوله } وحرب اللّه حرب ناره اى بعذاب من عنده وحرب رسوله نار حربه اى القتال والفتنة فلما نزلت قالت ثقيف لا طاقة لنا بحرب اللّه ورسوله { وان تبتم } من الارتباء مع الايمان بحرمته بعدما سمعتموه من الوعيد { فلكم رؤس اموالكم } تأخذونها كملا { لا تظلمون } غرماءكم بأخذ الزيادة { ولا تظلمون } انتم من قبلهم بالمطل والنقص عن رأس المال هذا هو الحكم اذا تاب ومن لم يتب من المؤمنين واصر على عمل الربا فان لم يكن ذا شوكة عزر وحبس الى ان يتوب وان كان ذا شوكة حاربه الامام كما يحارب الباغية كما حارب ابو بكر رضى عنه مانع الزكاة وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الاذان او ترك دفن الموتى ٢٨٠ { وان كان ذو عسرة } اى وان وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة وهى بالاعدام او كساد المتاع { فنظرة } اى فالحكم نظرة وهى من الانظار والامهال { الى ميسرة } اى الى يسار { وان تصدقوا } اى وتصدقكم باسقاط الدين كله عمن اعسر من الغرماء او بالتأخير والانظار { خير لكم } اى اكثر ثوابا { ان كنتم تعلمون } جوابه محذوف اى ان كنتم تعلمون انه خير لكم عملتموه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( من انظر معسرا أو وضع له انجاه اللّه من كرب يوم القيامة ) وفى القرض والادانة فضائل كثير روى ان امامة الباهلى رضى اللّه عنه رأى فى المنام على باب الجنة مكتوبا القرض بثمانية عشر أمثاله والصدقة بعشر امثالها فقال ولم هذا فاجيب بان الصدقة ربما وقعت فى يد غنى وان صاحب القرض لا يأتيك الا وهو محتاج قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ثلاث من جاء بهن يوم القيامة مع ايمان دخل من اى ابواب الجنة شاء وزوج من حور العين كم شاء من عفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو اللّه احد عشر مرات ومن ادان دينا لمن يطلب منه ) فقال ابو بكر الصديق او احداهن يا رسول اللّه قال ( او احداهن ) واعلم ان الاستدانة فى احوال ثلاث فى ضعف قوته فى سبيل اللّه وفى تكفين فقير مات عن قلة وفقر وفى نكاح يطلب به العفة عن فتنة العذوبة فيستدين متوكلا على اللّه فاللّه تعالى يفتح ابواب اسباب القضاء قال صلى اللّه عليه وسلم ( من ادان دينا وهو ينوى قضاءه وكل به ملائكة يحفظونه ويدعون له حتى يقضيه ) وكان جماعة من السلف يستقرضون من غير حاجة لهذا الخبر ومهما قدر على قضاء الدين فليبادر اليه ولو قبل وقته وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم عن جبريل عليه السلام ( الشهادة تكفر كل شىء الا الدين يا محمد ) ثلاثا فعلى العاقل ان يقضى ما عليه من الديون ويخاف من وبال سوء نيته يوم يبعثون وهذا حال من ادى الفرض فانه يهون عليه ان يؤدى القرض. واما المرتكب وتارك الفرائض فلا يبالى بالفرائض فكيف بالديون والاقراض ولذا قيل وامش مده آنكه بى نمازست ... ور خود دهنش زفاقه بازست كو فرض خدا نمى كذارد ... از قرض تو نيز غم ندارد واحوال هذا الزمان مختلة كاخوانه فطوبى لمن تمسك بالقناعة فى زمانه. ومن شرط المؤمن الحقيقى اتقاؤه باللّه فى ترك زيادات لا يحتاج اليها فى امر الدين بل تكون شاغلة له عن الترقى فى مراتب الدين كما قال عليه السلام ( من حسن اسلام المرء تركه مالا يعنيه ) ٢٨١ { واتقوا يوما } نصب ظرفا تقديره واتقوا عذاب اللّه يوما او مفعولا به كقوله { فكيف تتقون ان كفرتم يوما } اى كيف تتقون هذا اليوم الذى هذا وصفه مع الكفر باللّه { ترجعون فيه } على البناء للمفعول من الرجع اى تصيرون فيه { الى اللّه } لمحاسبة اعمالكم { ثم توفى كل نفس } من النفوس اى تعطى كملا { ما كسبت } اى جزاء ما عملت من خير او شر { وهم لا يظلمون } اى لا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون على عقابهم وهو حال من كل نفس تفيد ان المعاقبين وان كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين فى ذلك لما انه من قبل انفسهم وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما هذه آخر آية نزلت ولقى رسول اللّه ربه بعدها بسبعة او تسعة ايام او احد وعشرين او احد وثمانين يوما او ثلاث ساعات وقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة فجعلت بين آية الدين وآية الربا تأكيدا للزجر عن الربا روى ان رسول صلى اللّه عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وقبض يوم الاثنين وكان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس وكان آخر ما يقول صلى اللّه عليه وسلم ( الصلاة وما ملكت ايمانكم الصلاة فانا للّه وانا اليه راجعون ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من اصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بى فانها اعظم المصائب ) وقال عليه السلام ( من كان له فرطان من امتى ادخله اللّه بهما الجنة ) فقالت له عائشة رضى اللّه عنها فمن كان له فرض من امتك قال ( ومن كان له فرط يا موفقة ) قالت فمن لم يكن له فرط من امتك قال ( انا فرط لامتى لن يصابوا بمثلى ) قال تعالى { وما ارسلناك الا رحمة للعالمين } فكانت حياته ومماته رحمة قال صلى اللّه عليه وسلم ( اذا اراد اللّه بامة رحمة قبض نبيها قبلها فجعله سلفا وفرطا لها ) ورثاه صلى اللّه عليه وسلم بعض الانصار فقال الصبر يحمد فى المواطن كلها ... الا عليك فانه مذموم واعلم ان اللّه تعالى جمع فى هذه الآية خلاصة ما انزله فى القرآن وجعلها خاتم الوحى والانزال كما انه جمع خلاصة ما انزل من الكتب على الانبياء فى القرآن وجعله خاتم الكتب كما ان النبى عليه السلام خاتم الانبياء عليهم السلام وقد جمع فيه اخلاق الانبياء فاعلم ان خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة الى الانسان عائدة الى معنيين. احدهما نجاته من الدركات السفلى. وثانيهما فوزه بالدرجات العليا فنجاته فى خروجه عن الدركات السفلى وهى سبعة الكفر والشرك والجهل والمعاصى والاخلاق المذمومة وحجب الاوصاف وحجاب النفس وفوزه فى ترقيه على الدرجات العليا وهى ثمانية المعرفة للّه والتوحيد للّه والعلم والطاعات والاخلاق الحميدة وجذبات الحق والفناء عن انانيته والبقاء بهويته فهذه الآية تشير الى مجموعها اجمالا قوله تعالى { واتقوا } هى لفظة شاملة لما يتعلق بالسعى الانسانى من هذه المعانى لان حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن اللّه ومباشرة ما يقربك اليه دليله قول النبى عليه السلام ( جماع التقوى قول اللّه تعالى ان اللّه يأمر بالعدل والاحسان ) الآية فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقى على الدرجات العليا. فتقوى العوام الخروج عن الكفر بالمعرفة وعن الشرك بالتوحيد وعن الجهل بالعلم وعن المعاصى بالطاعات وعن الاخلاق المذمومة بالاخلاق المحمودة وههنا ينتهى سير العوام لان نهاية كسب الانسان وغاية جهد المجتهدين فى اقامة شرائط جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا. فمن ههنا تقوى الخواص المجذوبين بجذبات لنهديهم سبلنا فتخرجهم الجذبة من حجب اوصافهم الى درجة تجلى صفات الحق فههنا ينقضى سلوك الخواص فيستظلون بظل سدرة المنتهى عندها جنة المأوى فينتفعون من مواهب اذ يغشى السدرة ما يغشى. واما تقوى خواص الخواص فبجذبة رفرف العناية بجذب ما زاغ البصر وما طغى من سدرة منتهى الاوصاف الى قاب قوسين نهاية حجب النفس وبداية انوار القدس فهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه فالبتقوى الحقيقية يجد الايمان الحقيقى فمعنى { واتقوا } جاهدوا فينا بجهدكم وطاقتكم { يوما } يعنى ليوم فيه لنهدينكم بجذبات العناية { ترجعون فيه الى اللّه } اشار بلفظ الرجوع اليه ليعلم ان الشروع كان منه هدانا اللّه واياكم الى مقام الجمع واليقين وشرفنا بلطائف التحقيق والتمكين انه نصير ومعين يصيب برحمته من يشاء من عباده الصالحين ٢٨٢ { يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين } اى اذا داين بعضكم بعضا وعامله نسيئة معطيا وآخذا كما تقول بايعته اذا بعته او باعك وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة والتنبيه على تنوعه الى الحال والمؤجل وانه الباعث على الكتب وتعيين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالامر وهو فاكتبوه { الى اجل } متعلق بتداينتم { مسمى } بالايام او الاشهر او السنة وغيرها مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحاصد والدياس وقدوم الحاج مما لا يرفعها { فاكتبوه } اى الدين باجله لانه اوثق وادفع للنزاع والجمهور على استحبابه { وليكتب بينكم كاتب } بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها اثر الامر بها اجمالا وقوله بينكم للايذان بان الكاتب ينبغى ان يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفى بكلام احدهما { بالعدل } اى كاتب كائن بالعدل اى وليكن المتصدى للكتابة من شأنه ان يكتب بالتسوية من غير ميل الى احد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو امر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين يجئ كتابه موثقا به معدلا بالشرع { ولا يأب كاتب } اى لا يمتنع احد من الكتاب { ان يكتب } كتاب الدين { كما علمه اللّه } على طريقة ما علمه اللّه من كتب الوثائق { فليكتب } تلك الكتابة المعلمة امر بها بعد النهى عن ابائها تأكيدا لها { وليملل الذى عليه الحق } الاملال هو الاملاء وهو القاء المعنى على الكاتب للكتابة اى ليكن المملل اى مورد المعنى على الكاتب من عليه الحق اى الدين لانه المشهود عليه فلا بد ان يكون هو المقر { وليتق اللّه ربه } جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة فى التحذير اى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى { ولا يبخس منه } اى من الحق الذى يمليه على الكاتب { شيأ } فانه هو الذى يتوقع منه البخس خاصة. واما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس وانما شدد فى تكليف المملى حيث جمع فيه بين الامر بالاتقاء والنهى عن البخس لما فيه من الدواعى الى المنهى عنه فان الانسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما فى ذمته { فان كان الذى عليه الحق سفيها } ناقص العقل مبذرا مجازفا { او ضعيفا } صبيا او شيخا مختلا { او لا يستطيع ان يمل هو } اى غير مستطيع للاملاء بنفسه لخرس او عى او جهل او غير ذلك من العوارض { فليملل وليه } اى الذى يلى امره ويقوم مقامه من قيم او وكيل او مترجم { بالعدل } اى من غير نقص ولا زيادة { واستشهدوا شهيدين } اى اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما من المداينة وتسميتهما شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن { من رجالكم } متعلق باستشهدوا اى من اهل دينكم يعنى من الاحرار البالغين المسلمين اذ الكلام فى معملاتهم فان خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة واما اذا كانت المداينة بين الكفرة او كان من عليه الحق كافرا فيجوز استشهاد الكافر عندنا { فان لم يكونا } اى الشهيدان جميعا على طريقة نفى الشمول لا شمول النفى { رجلين } اما لاعوازهما او لسبب آخر من الاسباب { فرجل وامرأتان } اى فليشهد رجل وامرأتان وشهادة النساء مع الرجال فى الاموال جائزة بالاجماع دون الحدود والقصاص فلا بد فيهما من الرجال { ممن ترضون } متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان اى كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره فى كل شهيد لقلة اتصاف النساء به { من الشهداء } متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف الراجع الى الموصول اى ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم وادراج النساء فى الشهداء بطريق التغليب { ان تضل احداهما } اى فى النساء والعلة فى الحقيقة هى التذكير ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته كما فى قولك اعددت السلاح ان يجيئ عدو فادفعه فالاعداد للدفع لا لمجيئ العدو لكن قدم عليه المجيئ لانه سببه كأنه قيل لاجل ان تذكر احداهما الاخرى ان ضلت الشهادة بأن نسيت ثم حث الشهداء على اقامة الشهادة بقوله { ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا } لاداء الشهادة او لتحملها وما مزيدة { ولا تسأموا } اى لا تملوا من كثرة مدايناتكم { ان تكتبوه } اى من ان تكتبوا الدين او الحق او الكتاب { صغيرا او كبيرا } حال من الضمير اى حال كونه صغيرا او كبيرا اى قليلا او كثيرا او مجملا او مفصلا { الى اجله } متعلق بمحذوف وقع حالا من الهاء فى تكتبوه اى مستقرا فى الذمة الى وقت حلوله الذى اقر به المديون { ذلكم } اى كتب الحق الى اجله ايها المؤمنون { اقسط } اى اعدل { عند اللّه } اى فى حكمه تعالى { واقوم للشهادة } اى اثبت لها واعون على اقامتها { وادنى ان لا ترتابوا } اى اقرب الى انتفاء ريبكم فى جنس الدين وقدره واجله وشهوده ونحو ذلك { الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } استثناء منقطع من الامر بالكتابة اى لكن وقت كون تداينكم او تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد { فليس عليكم جناح ان لا تكتبوا } اى فلا بأس بان لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان { واشهدوا اذا تبايعتم } اى هذا التبايع او مطلقا لانه احوط. والاوامر الواردة فى الآية الكريمة للندب عند الجمهور { ولا يضار } يحتمل البناء على الفاعل وعلى المفعول فعلى الاول نهى للكاتب عن ترك الاجابة الى ما يطلب منه وعن التحريف والزيادة والنقصان اى لا يمتنع { كاتب } عن الكتابة المقصودة { ولا شهيد } اى ولا يمتنع الشاهد عن اقامة الشهادة المعلومة وعلى الثانى النهى عن الضرار بالكاتب والشاهد اى لا يوصل احد مضرة للكاتب والشهيد اذا كانا مشغولين بما يهمهما ويوجد غيرهما فلا يضاران بابطال شغلهما وقد يكون اضرار الكاتب والشهيد بان لا يعطى حقهما من الجعل فيكون النهى عن ذلك { وان تفعلوا } ما نهيتم عنه من الضرار { فانه } اى فعلكم ذلك { فسوق بكم } اى خروج عن الطاعة ملتبس بكم { واتقوا اللّه } فى مخالفة اوامره ونواهيه التى من جملتها نهيه عن المضارة { ويعلمكم اللّه } احكامه المتضمنة لمصالحكم { واللّه بكل شىء عليم } فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك ثم هذه الآية اطول آية فى القرآن وابسطها شرحا وابينها وابلغها وجوها يعلم بذلك ان مراعاة حقوق الخلق واجبة والاحتياط على الاموال التى بها امور الدين والدنيا لازم فمن سعى بالحق فقد نجا ولا فقد غوى كسى راكه سعى قدم بيشتر ... بدركاه حق منزلش بيشتر واللّه تعالى من كمال رحمته على عباده علمهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم لئلا يجرى من بعضهم على بعض حيف ولئلا يتخاصموا ويتنازعوا فيحقد بعضهم على بعض فامر بتحصين الحقوق بالكتابة والاشهاد وامر الشهود بالتحمل ثم بالاقامة وامر الكاتب ان يكتب كما علمه اللّه بالعدل وراعى فى ذلك دقائق كثيرة كما ذكرها فيشير بهذه المعانى الى ثلاثة احوال. اولها حال اللّه تعالى مع عباده فيظهر من آثار الطافه معهم انه تعالى كيف يرفق بهم ويعلمهم كيفية معاملاتهم الدنيوية حتى لا يكونوا فى خسران من امر دنياهم ولا يكون فيما بينهم عداوة وخصومة تؤدى الى تنغيص عيشهم فى الدنيا وعقوبة فى الآخرة فيستدلوا بها على ان تكاليف الشرع التى امروا بها ايضا من كمال مرحمته استعملهم بها ليفيض بها عليهم سجال نعمه كقوله تعالى { ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } الآية. وثانيها حال العباد مع اللّه ليعلموا برعاية هذه الدقائق للامور الدنيوية الفانية ان للامور الاخروية الباقية فيما بينهم وبين اللّه ايضا دقائق كثيرة والعباد بها محاسبون وعلى مثقال ذرة من خيرها مثابون وعلى مثقال ذرة من شرها معاقبون وانها بالرعاية اولى واحرى من امور الدنيا وان اللّه تعالى كما امر العباد ان يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستهشدوا عليهم العدول وقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عبادة فى الميثاق فان اللّه تعالى اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بان لهم الجنة وعلى هذا عاهدهم واشهد الملائكة الكرام عليه ثم رقم فى الكتاب ان ياقوتة من الجنة وديعة وهى الحجر الاسود. وثالثها حال العباد فيما بينهم فليعتبر كل واحد منهم من ملاطفات الحق معهم وليتخلق باخلاق الحق فى مخالفتهم وليتوسل الى اللّه بحسن مرافقتهم وليحفظ حدود اللّه فى مخالفتهم وموافقتهم وليتمسك بعروة محبتهم فى اللّه وجذبتهم للّه ونصحهم باللّه ليحرز فى رفقتهم صراطا مستقيما ويفوز من زمرتهم فوزا عظيما ففى جميع الاحوال كونوا مع اللّه كما قال { واتقوا اللّه ويعلمكم اللّه } اى اتقوا فى الاحوال الثلاثة كما يعلمكم اللّه بالعبارات والاشارات { واللّه بكل شىء } تعملونه فى جميع الاحوال من الاقوال والافعال { عليم } يعلم مضمون ضمائركم ومكنون سرائركم فيجازيكم على حسن معاملتكم بقدر خلوصكم وصفاء نياتكم وصدق طوياتكم فطوبى لمن صفى قلبه عن سفساف الاخلاق وعزم الى عالم السر والاطلاق واحسن المعاملة مع اللّه فى جميع الحالات ووصل الى الدرجات العاليات حقائق سراييست آراسته ... هوا وهوس كرد برخاسته نه بينى كه جايى كه برخاست كرد ... نه بيند نظر كرجه بيناست مرد يعنى ان عالم الغيب كالبيت المزين والهوى كالنقع المثار فما دام لم يترك المرء هواه لا يرى ما يهواه فان الحجاب اذا توسط بين الرائى والمرئى يمنع من الرؤية فارفع الموانع من البين وتشرف بوصول العين ٢٨٣ { وان كنتم على سفر } اى مسافرين اى متوجهين اليه ومقبلين { ولم تجدوا كاتبا } فى المداينة بان لا يحسن الكتابة او لا توجد الصحيفة او الدواة والقلم ولم يتعرض لحال الشاهد لما انه فى حكم الكاتب توثقا واعوازا { فرهان } جمع رهن اى فالتوثق رهن { مقبوضة } اى مسلمة الى المرتهن ولا بد من القبض حتى لو رهن ولم يسلم لا يجبر الراهن على التسليم وانما شرط السفر فى الارتهان مع ان الارتهان لا يختص به سفر دون حضر لان السفر لما كان مظنة عدم الكتب باعواز الكاتب والشاهد امر بالارتهان ليقوم مقامهما تأكيدا وتوثيقا لحفظ المال فالكلام خرج على الاعم الاغلب لا على سبيل الشرط وقد رهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم درعه فى المدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير واخذه لاهله { فان امن بعضكم بعضا } اى بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بامانته عن الارتهان فلم يطلب منه الرهن { فليؤد الذى ائتمن } وهو المديون والائتمان الوثوق بامانة الرجل وانما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الاداء { أمانته } اى فليقض المطلوب الامين ما فى ذمته من الدين من غير رهن منه وسمى الدين امانة لتعلقه بالذمة كتعلق الامانة { وليتق اللّه ربه } فى رعاية حقوق الامانة واداء الدين من غير مطل { ولا تكتموا الشهادة } ايها الشهود اذا دعيتم الى الحاكم لادائها على وجهها { ومن يكتمها فانه آثم قلبه } فاعل آثم كأنه قيل فانه يأثم قلبه فان قلت هلا اقتصر على قوله فانه آثم وما فائدة ذكر القلب والجملة هى الآثمة لا القلب وحده قلت كتمان الشهادة هو ان يضمرها ولا يتكلم بها فلما كان الاثم مقترفا بالقلب اسند اليه لان اسناد الفعل الى الجارحة التى يعمل بها ابلغ الاتراك تقول اذا اردت التوكيد هذا مما ابصرته عينى ومما سمعته اذنى ومما عرفه قلبى ولان القلب هو رأس الاعضاء والمضغة التى ان صلحت صلح الجسد كله وان فسدت فسد الجسد كله فكأنه قيل فقد تمكن الاثم فى اصل نفسه وملك اشرف مكان منه ولئلا يظن ان كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم ان القلب اصل متعلقه ومعدن اقترافه واللسان ترجمان عنه ولان افعال القلوب اعظم من افعال سائر الجوارح وهى لها كالاصول التى تتشعب منها ألا ترى ان اصل الحسنات والسيآت الايمان والكفر وهما من افعال القلوب فاذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بانه من معاظم الذنوب وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما اكبر الكبائر الاشراك باللّه لقوله تعالى فقد حرم اللّه عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة { واللّه بما تعملون عليم } فيجازيكم به ان خيرا فخير وان شرا فشر وكتمان الشهادة وشهادة الزور من الاعمال التى تجر صاحبها الى النار فانهما من علامات سنخ القلب قال تعالى { فانه آثم قلبه } والمراد سنخ القلب ونعوذ باللّه من ذلك وهما اسهل وقوعا بين الناس والحوامل عليهما كثيرة كالعداوة وغيرها واعلم ان اهل الدين طائفتان الواقفون والسائرون. فالواقف من لزم عتبة الصورة ولم يفتح له باب الى عالم المعنى فهو كالفرخ المحبوس فى قشر البيضة فيكون مشربه من عالم المعاملات البدنية فلا سبيل له الى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس فى سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام الكاتبين يكتبان عليه اعماله الظاهرة بالنقير والقطمير والسائر من لم يقم ولم ينزل فى منزل فهو مسافر من عالم الصورة الى عالم المعنى ومن مضيق الاجساد الى متسع الارواح وهم صنفان صنف سيار وصنف طيار. فالسيار من يسير بقدم الشرع والعقل على جادة الطريقة. والطيار من يطير بجناحى العشق والهمة فى فضاء الحقيقة وفى رجله جلجلة الشريعة فالاشارة فى قوله { وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا } الى السيار الذى تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل فلم يجد له كاتبا يكتب عليه كما قال بعضهم ما كتب على صاحب الشمال منذ عشرين سنة وقال بعضهم كاشف لى صاحب اليمين وقال لى أمل على شيأ من معاملات قلبك لاكتبه فانى اريد ان اتقرب به الى اللّه قال فقلت له حسبك الفرائض فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق او يكون هاربا منه فيحبس ويقيد ويوكل عليه فاما الذى آناء الليل واطراف النهار يغدو ويروح فى طلب غريمه وما برح فى جريمه فلا يحتاج الى التوكيل والتقييد فقوله { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } اشارة الى السيار الذى له قلب فيرهنه عند اللّه تعالى فالرهان هى القلوب التى ليس فيها غير اللّه المقبوضة بين اصبعين من اصابع الرحمن فاما الطيار الذى هو عاشق مفقود القلب مسلوب العقل مجذوب السير فلا يطالب بالرهن فانه مبطوش ببطشه الشديد مستهام ضاق مذهبه ... فى هوى من عز مطلبه كل امر فى الهوى عجب ... وخلاصى منه اعجبه فلم يوجد فى السموات والارض ولا فى الدنيا والآخرة امين يؤتمن لحمل اعباء امانته الا العاشق المسكين ٢٨٤ { للّه ما فى السموات وما فى الارض } من الامور الداخلة فى حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من اولى العلم وغيره ى كلها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لا شركة لغيره فى شىء منها بوجه من الوجوه فلا تعبدوا احدا سواه ولا تعصوه فيما يأمركم وينهاكم { وان تبدوا } اى تظهروا { ما فى انفسكم } اى فى قلوبكم من السوء والعزم عليه وذلك بالقول او بالفعل { او تخفوه } اى تكتموه عن الناس ولا تظهروه باحد الوجهين ككتمان الشهادة وموالاة المشركين وغيرهما من المناهى ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشر من الوساوس واحاديث النفس التى لا عقد ولا عزيمة فيها اذ التكليف بحسب الوسع ودفع ذلك مما ليس فى وسعه { يحاسبكم به اللّه } اى يجازيكم به يوم القيامة وهو حجة على منكرى الحساب من المعتزلة والروافض { فيغفر } اى فهو يغفر بفضله { لمن يشاء } ان يغفر له وان كان ذنبه كبيرا { ويعذب } بعدله { من يشاء } ان يعذبه وان كان ذنبه حقيرا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ويعذب الكفار لا محالة لانه لا يغفر الشرك وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه { واللّه على كل شىء قدير } فكمال قدرته تعالى على جميع الاشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب قال فى التيسير دل ظاهر قوله او تخفوه على المؤاخذة بما يكون من القلب وجملته ان عزم الكفر كفر وحضرة الذنوب من غير عزم مغفورة وعزم الذنوب اذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور فاما الهم بالسيئة ثم يمتنع عنه بمانع لا باختياره وهو ثابت على ذلك فانه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله يعنى بالعزم على الزنى لا يعاقب عقوبة الزنى وهل يعاقب على الخاطر عقوبة عزم الزنى قيل هو معفو عنه لقوله صلى اللّه عليه وسلم ( ان اللّه عفا لامتى عما حدثت به انفسها ما لم يعمل او يتكلم ) واكثرهم على ان الحديث فى الحضرة دون العزمة وان المؤاخذة فى العزمة ثابتة وكذا قال الامام ابو منصور رحمه اللّه انتهى ما فى التيسير. وربما يكون للانسان شركة فى الاثم مثل القتل والزنى وغيرهما اذا رضى به من عامله واشتد حرصه على فعله وفى الحديث ( من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها ) وفى حديث آخر ( من احب قوما على اعمالهم حشر فى زمرتهم ) اى جماعتهم ( وحوسب يوم القيامة بحسابهم وان لم يعمل باعمالهم ) فعلى العاقل ان يرفع عن قلبه الخواطر الفاسدة ولا يجالس الجماعة الفاسقة كيلا يحشر فى زمرتهم كر نشيند فرشته باديو ... وحشت آموزد وخيانت وريو ازبدان نيكويى نياموزى ... نه كند كرك بوستين دوزى والاشارة فى الآية ان اللّه يطالب العباد بالاستدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة لئلا يغفلوا عن حفظ حركات الظاهر وضبط خطرات الباطن فيقعوا فى آفة ترك ادب من آداب العبودية فيهلكوا بسطوات الالوهية واعلم ان الانسان مركب من عالمى الامر والخلق فله روح نورانى من عالم الامر وهو الملكوت الاعلى وله نفس ظلمانية سفلية من عالم الخلق ولكل واحدة منهما ميل الى عالمها فقصد الروح الى جوار رب العالمين وقربه وقصد النفس الى اسفل السافلين وغاية البعد عن الحق فبعث النبى صلى اللّه عليه وسلم ليزكى النفوس عن ظلمة اوصافها لتستحق بها جوار رب العالمين فتزكيتها فى اخفاء ظلمة اوصافها بابداء انوار اخلاق الروح عليها فى تحليتها بها فهذا مقام الاولياء مع اللّه يخرجهم من الظلمات الى النور وبعث الشيطان الى اوليائه وهم اعداء اللّه ليخرج ارواحهم من النور الروحانى الى الظلمات النفسانية باخفاء انوار اخلاقها فى ابداء ظلمات اخلاق النفس عليها لتستحق بها دركة اسفل السافلين. فمعنى الآية فى التحقيق { ان تبدوا ما فى انفسكم } مودع من ظلمات الاوصاف النفسانية فى الظاهر بمخالفات الشريعة وفى الباطن بموافقات الطبيعة { او تخفوه } بتصرفات الطريقة فى موافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة { يحاسبكم به اللّه } بطهارة النفس لقبول انوار الروح واخلاقه او بتلوث الروح لقبول ظلمات النفس واخلاقها { فيغفر لمن يشاء } فينور نفسه بانوار الروح وروحه بانوار الحق { ويعذب من يشاء } فيعاقب نفسه بنار دركات السعير وروحه بنار فرقة العلى الكبير { واللّه على كل شىء } من اظهار اللطف والقهر على تركيب عالمى الخلق والامر { قدير } كذا فى تأويلات الكامل نجم الدين دايه قدس سره ٢٨٥ { آمن الرسول } اى صدق النبى عليه السلام { بما انزل } اى بكل ما انزل { اليه من ربه } من آيات القرآن ايمانا تفصيليا متعلقا بجميع ما فيه من الشرائع والاحكام والقصص والمواعظ واحوال الرسل والكتب وغير ذلك من حيث انه منزل منه تعالى. والايمان بحقيقة احكامه وصدق اخباره ونحو ذلك من فروع الايمان به من الحيثية المذكورة ولم يرد به حدوث الايمان فيه بعد ان لم يكن كذلك لانه كان مؤمنا باللّه وبوحدانيته قبل الرسالة منه ولا يجوز ان يوصف بغير ذلك لكن اراد به الايمان بالقرآن فانه قبل انزال القرآن اليه لم يكن عليه الايمان به وهو معنى قوله { ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان } اى ولا الايمان بالكتاب فانه قال { وما كنت ترجو ان يلقى اليك الكتاب } { والمؤمنون } اى الفريق المعروفون بهذا الاسم وهو مبتدأ { كل } مبتدأ ثان { آمن } خبره والجملة خبر للمبتدأ الاول والرابط بينهما الضمير الذى ناب منابه التنوين وتوحيد الضمير فى آمن مع رجوعه الى كل المؤمنين لما ان المراد بيان ايمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع وتغيير سبك النظم عما قبله لتأكيد الاشعار بما بين ايمانه صلى اللّه عليه وسلم المبنى على المشاهدة والعيان وبين ايمانهم الناشىء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والاختلاف الجلى كأنهما متخالفان من كل وجه حتى فى الهيئة الدالة عليهما اى كل واحد منهم آمن { باللّه } وحده من غير شريك له فى الالوهية والمعبودية هذا ايمان اثبات وتوحيد { وملائكته } اى من حيث انهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بانزال الكتب والقاء الوحى وهذا ايمان تصديق انهما من عند اللّه وتحليل ما احله وتحريم ما حرمه { وكتبه ورسله } اى من الحيثية المذكورة وهذا ايمان اتباع واطاعة ولم يذكر الايمان باليوم الآخر لاندراجه فى الايمان بكتبه. وهذا على تقدير ان يوقف على قوله تعالى من ربه ويجعل والمؤمنون كلاما ابتدائيا واختاره ابو السعود العمادى. ويجوز ان يكون قوله والمؤمنون معطوفا على الرسول فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع الى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول فيوقف عليه والضمير الذى عوض عنه التنوين راجع الى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول والمؤمنون بما انزل اليه من ربه ثم فصل ذلك. وقيل كل واحد من الرسول والمؤمنون آمن باللّه خلا انه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وايذانا باصالته صلى اللّه عليه وسلم فى الايمان به واختار الكواشى هذا الوجه حيث قال والاختيار الوقف على المؤمنون وهو حسن ليكون المؤمنون داخلين فيما دخل النبى صلى اللّه عليه وسلم فيه اى الايمان { لا نفرق } اى يقول الرسول والمؤمنون لا نميز { بين احد من رسله } بان نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما قال اليهود والنصارى. واحد ههنا بمعنى الجمع اى الآحاد فلذلك اضيف اليه بين لانه لا يضاف الا الى المتعدد والاحد وضع لنفى ما يذكر معه من العدد والواحد اسم لمفتتح العدد والواحد الذى لا نظير له والوحيد الذى لا نصير له { وقالوا } عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الاوامر اثر حكاية ايمانهم { سمعنا } اى فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته { واطعنا } ما فيه من الاوامر والنواهى قيل لما نزلت هذه الآية قال جبرائيل عليه السلام للرسول صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه قد أثنى عليك وعلى امتك فسل تعط فقال الرسول عليه السلام { غفرانك ربنا } اى اغفر لنا غفرانك كما قال { فضرب الرقاب } اى فاضربوا او نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة او ما لا يخلو عنه البشر من التقصير فى مراعاة حقوقك وهذا الوجه اولى لئلا يتكرر الدعاء بقوله فى آخر السورة واغفر لنا وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما ان تقديم الوسيلة على المسئول ادعى الى الاجابة والقبول { واليك المصير } اى الرجوع بالموت والبعث لا الى غيرك قال القاشانى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } اى صدقه بقبوله والتخلق به كما قالت عائشة رضى اللّه عنها كان خلقه القرآن ومجرد قراءة القرآن بغير علم لا يفيد قال فى تفسير الحنفى مثاله ان السلطان اذا وهب لاحد من مماليكه امارة واعطاه رياسة او نيابة وكتب له توقيعا ان يطيعه اهل البلد كلها فاذا جاء الى البلد وقعد على المملكة واطاعه الخلق ثم ان السلطان كتب له كتابا وامر له فيه ان يبنى له قصرا او دارا واسعة حتى لو حضر السلطان وجاء الى تلك المدينة ينزل فى تلك الدار او القصر فوصل الكتاب اليه وهو لا يبنى ما امر به فى الكتاب لكنه يقرأه كل يوم فلو حضر السلطان ولم يجد ما امره به حاضرا هل يستحق ذلك الامير خلعه من السلطان او ثناء اولا بل ظاهره انه يستحق الضرب والشتم والحبس وكذلك القرآن انما هو مثل هو ذلك المنشور قد امر اللّه فيه لعبيده ان يعمروا أركان الدين كما قال لداود عليه السلام [ فرغ الى بيتا اسكنه ] وبين لهم بما يكون عمارة الدين فقال اللّه تعالى { اقيموا الصلوة وآتو الزكوة } { كتب عليكم الصيام } { وللّه على الناس حج البيت } فصارت قراءة القرآن كقراءة منشور السلطان ولا تحصل الجنة بمجرد القرآن لانه قال { جزاء بما كانوا يعملون } كما قيل ( مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست نه ترتيل سوره مكتوب بتجويد ). ثم فى قوله { غفرانك ربنا } اشارة الى ان من نتائج الايمان وآثار العبودية ان يرى العبد نفسه اهلا لكل شر ومولاه اهلا لكل خير. فينسب كل ما يستحسنه لسيده مستعملا حسن الادب معه فى كل اوقاته وذلك بان يحمده على ما دق وجل ويستغفره من تقصيره فى شكره له عليه ويتبرأ من حوله وقوته له فى ذلك كله وبحسب هذا يكون شعاره الحمد للّه استغفر اللّه لا حول ولا قوة الا باللّه فى جميع اوقاته وهو الذكر المنجى من عذاب اللّه فى الدنيا والآخرة المقرب للفتح لمن لازمه واعلم انك لا تصل الى التحقيق الا بمراقبة الاوقات باحكامها من التوبة والاستغفار عند العصيان وشهود المنة فى الطاعة ووجود الرضى فى النية ووجود الشكر فى النعمة ولن تصل الى ذلك الا بتعلق قلبك بصلاح قلبك واتهام نفسك حتى فى خروج نفسك وتصل الى هذا باحد أربعة اوجه. نور يقذفه اللّه فى قلبك بلا واسطة. أو علم متسع فى عقل كامل. او فكرة سالمة من الشواغل. او صحبة شيخ او اخ هذه حاله وقد قال الشيخ ابو مدين قدس سره الشيخ من هذبك باخلاقه وادبك باطراقه وانار باطنك باشراقه الشيخ من جمعك فى حضوره وحفظك فى مغيبه فاعمل ايها العبد على تخليص نفسك من عالم جسمك حتى تخرج عن دائرة رسمك وتصل الى تحقيق فهمك وعلمك از هشتىء خويش تاتوغافل مشوى ... هر كز بمراد خويش واصل نشوى از بحر ظهور تا بساحل نشوى ... در مذهب اهل عشق كامل نشوى ٢٨٦ { لا يكلف اللّه نفسا الا وسعها } اخبار من اللّه تعالى وليس من كلام المؤمنين روى انه لما نزل قوله تعالى { وان تبدوا ما انفسكم او تخفوه يحاسبكم به اللّه } الآية اشتد ذلك على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضى عنهم فاتوه عليه السلام ثم بركوا على الركب فقالوا اى رسول اللّه كلفنا من الاعمال ما نطيق الصلاة والصيام والحج والجهاد وقد انزل اليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ) قالوا بل سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فقرأها القوم فانزل اللّه تعالى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } الى قوله تعالى { غفرانك ربنا واليك المصير } فمسئولهم الغفران المعلق بمشيئته تعالى فى قوله تعالى { فيغفر لمن يشاء } ثم انزل اللّه تعالى { لا يكلف اللّه نفسا الا وسعها } تهوينا للخطب عليهم ببيان ان المراد بما فى انفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر التى لا يستطاع الاحتراز عنها والتكليف الزام ما فيه كلفة ومشقته والوسع ما يسع الانسان ولا يضيق عليه اى سنته ان لا يكلف نفسا من النفوس الا ما يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود فضلا منه تعالى ورحمة لهذه الامة كقوله تعالى { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه. اما الاول فلانه لو كان وقع لزم الكذب فى كلامه تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا. واما الثانى فلانه تعالى نفى مطلقا ولا يلزم منه نفى مقيد الذى هو الامتناع لان العام من حيث هو عام لا يدل على الخاص بوجه من الدلالات { لها } اى للنفس ثواب { ما كسبت } من الخير الذى كلفت فعله لا لغيرها استقلالا او اشتراكا ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من اجزاء مكسوبها { وعليها } لا على غيرها باحد الطريقين المذكورين عقاب { ما اكتسبت } من الشر الذى كلفت تركه وايراد الاكتساب فى جانب الشر لان الشر فيه اعتمال اى اجتهاد فى العمل فانه لما كان مشتهى النفس كان فيه جد وسعى بخلاف الخير وصيغة الافتعال للتكلف { ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا } شروع فى حكاية بقية دعواتهم اثر بيان سر التكليف اى يقولون ربنا لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الامور المؤدية الى النسيان او الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحوهما مما يدخل تحت التكليف ودل هذا على جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ فان التحرز عنهما فى الجملة ممكن ولولا جواز المؤاخذة فى النسيان والخطأ لم يكن للسؤال معنى وخفف اللّه عن هذه الامة فرفع عنها المؤاخذة وقال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( رفع عن امتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) فدل انهم مخصوصون بهما وامم السالفة كانوا مؤاخذين فيهما { ربنا ولا تحمل علينا اصرا } عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لابراز مزيد الضراعة. والاصر العبىء الثقيل الذى يأصر صاحبه اى يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة { كما حملته على الذين من قبلنا } اى حملا مثل حملك اياه على من قبلنا وهو ما كلفه بنوا اسرائيل من قتل النفس فى توبة وقطع الاعضاء الخاطئة وقطع موضع النجاسة وعدم التطهير بغير الماء وخمسين صلاة فى يوم وليلة وعدم جواز صلاتهم فى غير المسجد وحرمة اكل الصائم بعد النوم ومنع بعض الطيبات عنهم بالذنوب وكون الزكاة ربع مالهم وكتابة ذنب الليل على الباب بالصبح وغير ذلك من التشديدات وقد عصم اللّه عز وجل ورحم هذه الامة من امثال ذلك وانزل فى شأنهم { ويضع عنهم اصرهم والاغلال التى كانت عليهم } وقال صلى اللّه عليه وسلم ( بعثت بالحنفية السهلة السمحة ) وعن العقوبات التى عوقب بها الاولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال صلى اللّه عليه وسلم ( رفع عن امتى الخسف والمسخ والغرق ) { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } عطف على ما قبله واستعفاء من العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء مما يؤدى اليها من التكاليف الشاقة التى لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا فى المحافظة عليها فيكون التعبير عن انزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدى اليها قال فى التيسير اى لا تكلفنا ما يشق علينا الدوام عليه ولم يرد به عدم الطاقة اصلا فانه لا يكون فلا يسأل { واعف عنا } اى آثار ذنوبنا { واغفر لنا } واستر عيوبنا ولا تفضحنا على رؤس الاشهاد قال فى التيسير وليس بتكرار. فان الاول تركه حتى لا يؤاخذ بجزائه لكن يذكر ذلك ويظهر والمؤمنون امروا ان يسألوا التجاوز عنها واخفاءها حتى لا يظهر حالهم لاحد فلا يفتضحوا به { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما ان التخلية سابقة على التحلية { أنت مولانا } سيدنا ونحن عبيدك او ناصرنا او متولى امورنا { فانصرنا على القوم الكافرين } اى اعنا عليهم وادفع عنا شرهم فان من حق المولى ان ينصر عبيده ومن يتولى امره على الاعداء والنصرة على الكفار تكون بالظفر وتكون بالحجة وتكون بالدفع وهو سؤال العصمة من الشياطين ايضا لانهم منهم روى انه لما اسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به الى سدرة المنتهى وهى فى السماء السادسةاليها ينتهى ما يعرج به من الارض فيقبض منها واليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال اذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب قال فاعطى رسول اللّه عليه السلام ثلاثا اعطى الصلوات الخمس واعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك باللّه شيأ من امته قال صلى اللّه عليه وسلم فى خبر المعراج قربنى اللّه وادنانى الى سند العرش ثم الهمنى اللّه ان قلت آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله كما فرقت اليهود والنصارى قال فما قالوا قلت قالوا سمعنا وعصينا والمؤمنون قالوا سمعنا واطعنا فقال صدقت فسل تعط فقلت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا قال قد رفعت عنك وعن امتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقلت ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا يعنى اليهود قال لك ذلك ولامتك قلت ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قال قد فعلت قلت واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال قد فعلت وعنه صلى اللّه عليه وسلم ( انزل اللّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بالفى عام من قرأهما بعد العشاء الاخيرة اجزأتاه عن قيام الليل ) وعنه صلى اللّه عليه وسلم ( من قرأ آيتين من آخر سورة البقرة كفتاه ) اى عن قيام الليل او عن حساب يوم القيامة وهو حجة على من استكره ان يقول سورة البقرة وقال ينبغى ان يقال السورة التى تذكر فيها البقرة كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( السورة التى تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن ) اى مصره الجامع ( فتعلموها فان تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة ) قيل وما البطلة قال عليه السلام ( السحرة ) اى لا تستطيع البطلة أن تسحر قارئها ( ولا تقرأ فى دار ثلاث ليال فيقربها شيطان ) وكان معاذ اذا ختم سورة البقرة يقول آمين عن ابى الاسلم الديلمى قلت لمعاذ بن جبل اخبرنى عن قصة الشيطان حين اخذته فقال جعلنى رسول اللّه عليه السلام على صدقة المسلمين فجعلت التمر فى غرفة فوجدت فيه نقصانا فأخبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك فقال هذا الشيطان يأخذه فدخلت الغرفة واغلقت الباب فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب ثم تصور فى صورة اخرى فدخل من شق الباب فشددت ازارى على فجعل يأكل من التمر فوثبت اليه فقبضته فالتفت يداى عليه فقلت يا عدو اللّه فقال خل عنى فانى كبير ذو عيال كثير وانا فقير من جن نصيبين وكانت لنا هذه القرية قبل ان يبعث صاحبكم فلما بعث اخرجنا منها فخل عنى فلن اعود اليك فخليت سبيله وجاء جبريل عليه السلام فاخبر رسول اللّه عليه السلام بما كان فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنادانى مناديه وقال ( ما فعل اسيرك ) فأخبرته فقال ( اما انه سيعود فعد ) قال فدخلت الغرفة وأغلقت على الباب فجاء فدخل من شق الباب فجعل يأكل التمر فصنعت به كما صنعت فى المرة الاولى فقال خل عنى فانى لن اعود اليك فقلت يا عدو اللّه ألم تقل انك لن تعود قال فانى لن اعود وآية ذلك انه اذا قرأ احد منكم خاتمة البقرة لا يدخل احد منا فى بيته تلك الليلة |
﴿ ٠ ﴾