١١٥

{ وللّه المشرق والمغرب } يريد بهما ناحيتى الارض اذ لا وجه لارادة موضعى الشروق والغروب بخصوصهما اى له الارض كلها لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فان منعتم ان تصلوا فى المسجد الحرام او الاقصى فقد جعلت لكم الارض مسجدا

{ فأينما تولوا } اى ففى اى مكان فعلتم تولية وجوهكم القبلة

قال الامام ولى اذا اقبل وولى اذا ادبر وهو من الاضداد والمراد ههنا الاقبال

{ فثم وجه اللّه } اى هناك جهته التى امر بها ورضيها قبلة فان امكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد او مكان دون آخر او فثمة ذاته بمعنى الحضور العلمى فيكون الوجه مجازا من قبيل اطلاق اسم الجزء على الكل والمعنى ففى اى مكان فعلتم التولية فهو موجود فيه يمكنكم الوصول اليه اذ ليس هو جوهرا او عرضا حتى يكون بكونه فى جانب مفرغا جانبا ولما امتنع عليه ان يكون فى مكان اريد ان علمه محيط بما يكون فى جميع الاماكن والنواحى اى فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وفى الحديث ( لو انكم دليتم بحبل الى الارض السفلى لهبط على اللّه ) معناه ان علم اللّه شمل جميع الاقطار فالتقدير لهبط على علم اللّه واللّه تعالى منزه عن الحلول فى الاماكن لانه كان قبل ان يحدث الاماكن كذا فى المقاصد الحسنة

واعلم ان اين شرط فى الامكنة وهو ههنا منصوب بتولوا وما مزيدة للتأكيد وثم ظرف مكان بمنزلة هناك تقول لما قرب من المكان هنا ولما بعد ثم وهناك وهو خبر مقدم ووجه اللّه مبتدأ والجملة فى محل الجزم على انها جواب الشرط

{ ان اللّه واسع } باحاطته بالاشياء ملكا وخلقا فيكون تذييلا لقوله وللّه المشرق والمغرب وكذا ان فسرت السعة بسعة الرحمة فان قوله وللّه المشرق والمغرب لما اشتمل على معنى قولنا لا تختص العبادة والصلاة ببعض المساجد بل الارض كلها مسجد لكم فصلوا فى اي بقعة شئتم من بقاعها فهم منه انه واسع الشريعة بالترخيص والتوسعة على عباده فى دينهم لا يضطرهم الى ما يعجزون عن ادائه والمقصود التوسعة على عباده والتيسير عليهم فى كل ما يحتاجون اليه فيدخل فيه التوسعة فى امر القبلة دخولا اولويا وهذا التعميم مستفاد من اطلاق واسع حيث لم يقيد بشئ دون شئ

قال الغزالى فى شرح الاسماء الحسنى الواسع مشتق من السعة والسعة تضاف مرة الى العلم اذا اتسع واحاط بالمعلومات الكثيرة وتضاف اخرى الى الاحسان وبسط النعم وكيفما قدر وعلى اى شئ نزل فالواسع المطلق هو اللّه تعالى لانه ان نظر الى علم فلا ساحل لبحر معلوماته بل تنفد البحار لو كانت مداداً لكلماته وان نظر الى احسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته وكل سعة وان عظمت فتنتهى الى طرف والذى لا يتناهى الى طرف فهو أحق باسم السعة واللّه تعالى هو الواسع المطلق لان كل واسع بالاضافة الى ما هو أوسع منه ضيق وكل سعة تنتهى الى طرف فالزيادة عليها متصورة وما لا نهاية له ولا طرف فلا يتصور عليه زيادة وسعة العبد فى معارفه واخلاقه فان كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه وان اتسعت اخلاقه حتى لم يضيقها خوف الفقر وغيظ الحسود وغلبة الحرص وسائر الصفات المذمومة فهو واسع وكل ذلك فهو الى نهاية وانما الواسع المطلق هو اللّه تعالى : قال فى المنثوى

اى سك كركين زشت از حرص وجوش ... بوستين شير را بر خود مبوش

غره شيرت بخواهد امتحان ... نقش شير وانكه اخلاق سكان

{ عليم } بمصالحهم واعمالهم كلها وهذا لا يخلو عن افادة التهديد ليكون المصلى على حذر من التفريط والتساهل كما انه يتضمن الوعد بتوفية ثواب المصلين فى جميع الاماكن فقد ظهر ان هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى

{ ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه } الآية وان المعنى ان بلاد اللّه ايها المؤمنون تسعكم فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد اللّه ان تولوا وجوهكم نحو قبلة اللّه اينما كنتم من ارضه

وقال مجاهد والحسن لما نزل

{ وقال ربكم ادعونى استجب لكم } قالوا اين ندعوه فأنزل اللّه

{ وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فيم وجه اللّه } بلا جهة وتحيز

ان قيل ما معنى رفع الايدى الى السماء عند الدعاء مع انه تعالى منزه عن الجهة والمكان قلنا ان الانبياء والاولياء قاطبة فعلوا كذلك لا بمعنى ان اللّه فى كل مكان بل بمعنى ان خزائنه تعالى فى السماء كما قال تعالى

{ وفى السماء رزقكم وما توعدون } وقال تعالى

{ وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم } فالعرش مظهر لاستواء الصفة الرحمانية فرفع الايدى اذا الى السماء والنظر اليها وقت الدعاء بمنزلة ان يشير سائل الى الخزينة السلطانية ثم يطلب من السلطان ان يعطى له عطاء من تلك الخزينة يروى ان امام الحرمين رفع اللّه درجته فى الدارين نزل ببعض الاكابر ضيفا فاجتمع عنده العلماء والاكابر فقام واحد من اهل المجلس فقال ما الدليل على تنزهه تعالى عن المكان وهو قال

{ الرحمن على العرش استوى } فقال الدليل عليه قول يونس عليه السلام فى بطن الحوت

{ ا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فتعجب منه الناظرون فالتمس صاحب الضيافة بيانه فقال الامام ههنا فقير مديون بالف درهم اد عنه دينه حتى ابينه فقبل صاحب الضيافة دينه فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما ذهب فى المعراج الى ما شاء من العلى قال

( لا احصى ثناء عليك انت كما اثنيت على نفسك ) ولما ابتلى يونس عليه السلام بالظلمات فى قعر البحر ببطن الحوت قال

{ لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين } فكل منهما خاطبه بقوله انت وهو خطاب الحضور فلو كان هو فى مكان لما صح ذلك فدل ذلك على انه ليس فى مكان وفى الحديث ( لا تفضلونى على يونس بن متى فانه رأى فى بطن الحوت ما رأيته فى اعلى العرش ) يشير عليه السلام بذلك الى ما وقع له وليونس عليه السلام من تجلى الذات

وقيل نزلت الآية لما طعن اليهود فى نسخ القبلة روى انه عليه السلام كان يصلى بمكة مع اصحابه الى الكعبة فلما هاجر الى المدينة امره اللّه ان يصلى نحو بيت المقدس ليكون أقرب الى تصديق اليهود فصلى نحوه ستة عشر شهرا وكان يقع فى روعه ويتوقع من ربه ان يحوله الى الكعبة لانها قبلة ابيه ابراهيم واقدم القبلتين وادعى للقرب الى الايمان كما قال اللّه تعالى

{ قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها } وذلك فى مسجد بنى سلمة فصلى الظهر ولما صلى الركعتين نزل قوله تعالى

{ فول وجهك شطر المسجد الحرام } فتحول فى الصلاة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين فلما تحولت القبلة انكر من أنكر فكان هذا ابتلاء من اللّه تعالى كما قال تعالى

{ وما جعلنا القبلة التى كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وان كانت لكبيرة الا على الذين هدى اللّه } اللّهم اهدنا وسددنا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فللمؤمن حقا ان يعتصم باللّه ويدور مع الامر الالهى حيث يدور ويتبع الرسل ولا يتبع عقله العاجز وفهمه القاصر ويتعلم الادب من معدن الرسالة حيث لم يسأل تحويل القبلة بل انتظر الى امر اللّه فاكرمه اللّه باعطاء مرامه وفضله على سائر الانبياء عليهم الصلاة والسلام

اعلم ان الذين شقت عليهم التحويلة طائفتان محجوبتان بالخلق عن الحق

اما الطائفة الاولى فقد عرفت ان التحويلة من الكعبة الى بيت المقدس كانت صورة العروج من مقام المكاشفة اعنى مقام القلب الى مقام المشاهدة اعنى مقام الروح فحسبوا التحويلة من بيت المقدس الى الكعبة بعد ابعد القرب ونزولا بعد العروج وظنوا ضياع السعى الى المقام الاشرف والسقوط عن الرتبة فشق عليهم ولم يعلموا انه صورة الرجوع الى مقام القلب حالة التمكين للدعوة ومشاهدة الجمع فى عين التفصيل والتفصيل فى عين اجمع حتى لا يحتجب العبد بالوحدة عن الكثرة ولا بالكثرة عن الوحدة

واما الطائفة الثانية فتقيدوا بصورة عملهم ولم يعرفوا حكمة التحويلة فحسبوا صحة العبادة الثانية دون الاولى فشق عليهم ضياعها على ما توهموا

واما الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى فلم يحتجبوا بحجاب واهتدوا الى ما هو الصواب فوصلوا الى التوحيد الذاتى المحمدى اللّهم اجعلنا من المهتدين واحشرنا مع الانبياء والمرسلين

وقال اهل التأويل

{ وللّه المشرق والمغرب } اى عالم النور والظهور الذى هو جهة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه وعالم الظلمة والاختفاء الذى هو جهة اليهود وقبلتهم بالحقيقة ظاهره

{ فأينما تولوا } اى اى جهة توجهوا من الظاهر والباطن

{ فثم وجه اللّه } اى ذاته المتجلية بجميع صفاته الجمالية والجلالية اذ بعد الاشراق على قلوبكم بالظهور فيها والتجلى لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم فيه والقروب فيها بتستره واحجابه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء فأى جهة توجهوا حينئذ فثم وجهه ليس الا هو وحده : قال الحافظ

ميان كعبه وتبخانه هيج فرقى نيست ... بهر طرف كه نظر ميكنى برابر اوست

واعلم ان شهود الحق بالخلق وشهود الخلق بالحق من غير احتجاب باحدهما عن الآخر هو مقام جمع الجمع والبقاء وذلك لا يحصل الا بالتجلى العينى بعد العلمى

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره واذا امر بالارشاد يعود لخدمة الحق ألا يرى ان موسى عليه السلام لما وصل الى الطور لاقتباس النار لاهله

{ نودى يا موسى انى انا ربك } فتجلى الربوبية اولا ثم قيل

{ فاخلع نعليك } وهما الطبيعة والنفس امر بتركهما ثم قيل

{ وانا اخترتك فاستمع لما يوحى اننى انا اللّه لا اله الا انا فاعبدنى } فتجلى الالوهية ثم بعدهما تجلى الذات وامر بارشاد فرعون فترك اهله هناك ولم يلتفت وجاء الى فرعون وكان دخوله بمصر فى نصف الليل فدق باب فرعون بعصاه امتثالا لامر اللّه تعالى قيل انه شابت لحية فرعون فى ذلك الوقت بمهابة دقه فقال أكنت وليدا مربى عندنا قال موسى نعم ولذلك دعوتك قبل الكل لسبق حقك على رعاية له فأرادوا قتله فألقى عصاه فصارت ثعبانا مبينا فبينا عزم على ابتلاعهم فاستأمنوا فأعطاهم الامان وكان يريد ان يؤمن ولكنه منعه هامان فبعد دعوة فرعون جاء الى اهله فوجدها قد وضعت الحمل فاحاطتها ذئاب من اطرافها لمحافظتها فلم يقدر ان يمر من هنا مار فانظر الى قدرة اللّه تعالى روى ان الامام الاعظم والهمام الاقدم رحمه اللّه لم يشتغل بالدعوة الى مذهبه الا بالاشارة النبوية فى المنام بعد ما قصد الانزواء فهذا اعدل دليل الى وصوله الى الحقيقة وكان يقوم كل الليل وسمع رحمه اللّه هاتفا فى الكعبة ان يا أبا حنيفة اخلصت خدمتى واحسنت معرفتى فقد غفرت لك ولمن تبعك الى قيام الساعة كذا فى عين العلم للشيخ محمد البلخى رحمه اللّه

وعن بعض العارفين قبلة البشر الكعبة وقبلة اهل السماء البيت المعمور وقبلة الكروبيين الكرسى وقبلة حملة العرش العرش ومطلوب الكل وجه اللّه سبحانه وتعالى

﴿ ١١٥