١٤٣

{ وكذلك } اشارة الى مفهوم الآية المتقدمة اى كما جعلناكم مهتدين الى الصراط المستقيم

{ جعلناكم } توحيد الخطاب فى كذلك مع القصد الى المؤمنين لما ان المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين

{ امة وسطا } اى خيارا لان الاوساط محمية محوطة والاطراف يتسارع اليها الخلل

{ لتكونوا شهداء على الناس } يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم

{ ويكون الرسول } اى محمد صلى اللّه عليه وسلم { عليكم شهيدا }

ان قلت ان الشاهد اذا اضر بشهادته عديت الشهادة بكلمة على واذا نفع بها تعدى باللام فيقال شهد له والرسول عليه السلام لما زكى امته وعدلهم بشهادته انتفعوا بها فالظاهر ان يقال ويكون الرسول لكم شهيدا بخلاف شهادة الامة على الناس فانها شهادة عليهم حيث استضروا بها فكلمة على فيها واقعة فى موضعها

قلت هذا مبنى على تضمين الشهيد معنى الرقيب والمطلع فعدى تعديته والوجه فى اعتبار تضمين الشهيد الاشارة الى ان التعديل والتزكية انما يكون عن خبرة ومراقبة بحال الشاهد فاذا شاهد منه الرشد والصلاح عدله وزكاه واثنى عليه ولا يسكت عنه وقدمت صلة الشهادة اى عليكم لاختصاصهم بشهادته صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التزكية والتعديل وهو لا ينافى شهادته صلى اللّه عليه وسلم للانبياء بالتبليغ وعلى منكرى التبليغ بالتكذيب روى ان اللّه تعالى يجمع الاولين والاخرين فى صعيد واحد ثم يقول لكفار الامم ألم يأتكم نذير فينكرون فيقولون البينة وهو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيشهدون لهم انهم قد بلغوا فتقول الامم الماضية من اين علموا وانهم اتوا بعدنا فيسأل هذه الامة فيقولون ارسلت الينا رسولا وانزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وانت صادق فيما اخبرت ثم يؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال امته فيزكيهم ويشهد بصدقهم فيؤمر بالكفار الى النار

قال بعض ارباب الحقيقة معنى شهادتهم على الناس اطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الاديان ومعرفتهم لحق كل دين وحق كل ذى دين من دينه وباطلهم الذى ليس حقهم الذى هو مخترعات نفوسهم وطريق الحق واحد فمن تحقق بحق دين تحقق بحق سائر الاديان وخاصة دين الاسلام الذى هو الحق الاعظم ومعنى شهادة الرسول عليهم اطلاعه على رتبة كل متدين بدينه وحقيقة ايمانهم واعمالهم وحسناتهم وسيآتهم واخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق وامته يعرفون ذلك من سائر الامم بنوره عليه الصلاة والسلام

قال بعضهم جعلنا سبحانه وتعالى آخر الامم تشريفا لحبيبه وامته لانه لو قدمنا لاحتجنا ان ننتظر فى قبورنا قدوم الامم الماضية فجعلهم سبحانه وتعالى فى انتظارنا تشريفا لنا وايضا جعلنا آخر الامم لنكون يوم القيامة شهداء على جميع الامم الماضية ويكفى شرفا لهذه الامة المرحومة ما قال صلى اللّه عليه وسلم فى حق علمائهم

( علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل ) وذكر الراغب الاصفهانى فى المحاضرات انه قال الامام الشاذلى صاحب حزب البحر اضطجعت فى المسجد الاقصى فرأيت فى المنام قد نصب تخت خارج الاقصى فى وسط الحرم فدخل خلق كثير أفواجا افواجا فقلت ما هذا الجمع فقالوا جمع الانبياء والرسل قد حضروا ليشفعوا فى حسين الحلاج عند محمد عليه افضل الصلاة والسلام لاساءة ادب وقعت منه فنظرت الى التخت فاذا نبينا محمد عليه السلام جالس عليه بانفراده وجميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام على الارض جالسون مثل ابراهيم وموسى وعيسى ونوح فوقفت انظر واسمع كلامهم فخاطب موسى نبينا عليه الصلاة والسلام وقال له انك قد قلت علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل فأرنا منهم واحدا فقال هذا واشار الى الامام الغزالى فسأله موسى سؤالا فاجابه بعشرة اجوبة فاعترض عليه موسى بان السؤال ينبغى ان يطابق الجواب والسؤال واحد والجواب عشرة فقال الامام هذا الاعتراض وارد عليك ايضا حين سئلت وما تلك بيمينك يا موسى وكان الجواب عصاى فعددت صفات كثيرة قال فبينما انا متفكر فى جلالة قدر محمد عليه السلام وكونه جالسا على التخت بانفراده والخليل والكليم والروح جالسون على الارض اذ رفسنى شخص برجله رفسة مزعجة فانتبهت فاذا بقيم ثم غاب عنى فلم اجده الى يومى هذا ومن هذا قال

فانسب الى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب الى قدره ما شئت من عظم

اللّه يسر لنا شفاعته

{ وما جعلنا القبلة } مفعول اول لجعلنا

{ التى كنت عليها } مفعول ثان له بتقدير موصوف اى الجهة التى كنت عليها وهى الكعبة لانه عليه السلام كان مأمورا بان يصلى الى الكعبة وهو بمكة ثم لما هاجر امر بالصلاة الى صخرة بيت المقدس التى منها يصعد الملائكة الى السماء ثم اعيد الى ما كان عليه اولا والمعنى ما رددناك الى ما كنت عليه اى على استقباله والتوجه اليه وما جعلنا ذلك لشئ من الاشياء

{ الا لنعلم من يتبع الرسول } فى التوجه الى ما امر به

{ ممن ينقلب } اى ينصرف ويرجع

{ على عقبيه } العقب مؤخر القدم والانقلاب على العقبين مستعار للارتداد والرجوع عن الدين الحق الى الباطل ومعنى لنعلم ليظهر علمنا على مظاهر الرسول والمؤمنين ويتميز عندهم الثابت على الاسلام الصادق فيه من المتردد الذي يرتد بادنى سبب لقلته وضعف ايمان لا انه لم يعلم حالهم فعلم لانه تعالى كان عالما فى الازل بهم وبكل حال من احوالهم التى تقع فى كل زمان من ازمنة وجودهم مقارنة للزمان الذى تقع فيه تلك الحال وكل من يعلم شيأ فانما يعلم بان يظهر ذلك العلم فيه ويقرب من هذا ما قيل المعنى ليعلم رسول اللّه والمؤمنون وانما اسند علمهم الى ذاته لانهم خواصه واهل الزلفى عنده هذا هو المعنى الذى اختاره القاشانى فى تأويلاته وزيف ما عداه والعلم فى قوله لنعلم بمعنى المعرفة اى لنعرف الذى يتبع الرسول فلا يحتاج الى مفعول ثان

فان قيل ان اللّه لا يوصف بالمعرفة فلا يقال اللّه عارف فكيف يكون العلم بمعنى المعرفة هنا قلت انما لا يوصف بها اذا كانت بمعناها المشهور وهو الادراك المسبوق بالعدم

واما اذا كانت بمعنى الادراك الذى لا يتعدى الى مفعولين فيجوز ان يوصف اللّه بها وقوله ممن ينقلب حال من فاعل يتبع اى متميزا منه

{ وان كانت } اى القبلة المحولة

{ لكبيرة } اى شاقة ثقيلة على من يألف التوجه الى القبلة المنسوخة فان الانسان ألوف لما يتعوده يثقل عليه الانتقال منه وان هى المخففة من المثقلة واسمها محذوف وهو القبلة واللام هى الفارقة بينها وبين النافية كما فى قوله تعالى

{ ان كان وعد ربنا لمفعولا } { الا على الذين هدى اللّه } اى هداهم الى حكمة الاحكام وارشدهم وعرفهم ان ما كلفه عباده متضمن لحكمة لا محالة وان لم يهتدوا الى خصوصية تلك الحكمة بعينها فتيقنوا بذلك ان السعيد الفائز من اطاع ربه الحكيم وان الشقى الخاسر من عصى ربه العليم ثم بين انهم مثابون على ذلك الثبات والاتباع وان ذلك غير ضائع منهم فقال

{ وما كان اللّه } مريدا

{ ليضيع ايمانكم } اى ثباتكم على التصديق بجميع ما جاء به النبى عليه السلام من غير ان ترتابوا فى شىء من ذلك

{ ان اللّه بالناس } متعلق برؤف

{ لرؤف } اى ذو مرحمة عظيمة لهم حيث نقلهم برحمته من ذلك الى هذا وهو اصح لهم

{ رحيم } يغفر ذنوبهم بالايمان وايصال الرزق : قال السعدى

فروماند كانرا برحمت قريب ... تضرع كنانرا بدعوت مجيب

روى انه اخذ بعض امراء الكفار وكان جائرا قاتلا فى زمن داود عليه السلام فصلب فوق الجبل عشاء ورجع الناس الى منازلهم وبقى هذا على الخشبة وحده وتضرع الى آلهته فلم يغنوا عنه شيأ ثم رجع الى اللّه وقال انت اللّه الحق اتيت اليك لتغيثنى برحمتك قال اللّه تعالى يا جبريل ان هذا عبد آلهته طويلا فلم ينتفع ففزع الى ودعانى فاستجبت له فاهبط الى الارض وضعه على الارض فى سلامة وعافية ففعل فلما اصبحوا رأوه وهو حى يصلى للّه تعالى فاخبروا داود بذلك فدعا اللّه فيه مستكشفا سره فاوحى اللّه يا داود انى ارحم من آمن بى ودعانى فان لم افعل فأى فرق بينى وبين آلهته

واعلم ان جماعة قد ارتدوا عن الاسلام عند تحويل القبلة لتعلقهم بما سوى اللّه تعالى وعدم فنائهم فى اللّه ورضاهم بما يجيئ عليهم من القضاء فاخذتهم الكدرة كالسيل

واما الذين سعدوا سعادة ازلية فلم يتعلقوا فى الحقيقة بيت المقدس ولا بالكعبة بل الرب الخالق لهما ولغيرهما وفنوا عن ارادتهم فجاءت ارادة اللّه لهم كالشهد المصفى فأخذهم السرور والصفا : قال الصائب

مهياى فنارا ازعلايق نيست بروابى ... نيند يشد زخار آنكس كه دامان بركمردارد

ذكر ان ابا القاسم الجنيد البغدادى لما رأوه فى وادى الوله ظنوا انه مرض او جن فجعلوه فى دار الشفاء فزاره بعض من يدعى حبه فقال لهم من انتم فقالوا نحن احباؤك فرماهم بالاحجار ففروا من عنده وقالوا قد غلب عليه الجنون فقال تدعون الحب باقوالكم وقد يكذبها افعالكم فالمحب من اسراه ما اصابه من الحبيب فلذلك قد عد اشد البلاء عند الانبياء والاولياء ألذ من الحلوى فاكتسوا حلل التسليم والاصطبار وغاصوا فى لجج المكاشفات والمشاهدات واشتغلوا مع الجنان واللسان بالتوحيد وذكر الملك المنان حتى عدوا الالتفات الى غيره ولو باكل لقمة من الموانع فلذلك ارتقوا فى الفناء والبقاء الى غاية المبتغى ولما قال موسى عليه السلام رب ارنى انظر اليك قال يا موسى لن ترانى فى البساط الفانى اصبر حتى اجعله باقيا حتى ترانى يا موسى رعيت غنم شعيب عشر سنين اتريد ان ترانى بعبادة اربعين يوما ثم اصطفاه واعطاه ما اعطاه فلما رجع الى قومه رأى فى الطريق الجبل الاعلى فسأل عنه متعجبا فقال الجبل يا موسى كنت ترعى الغنم فى وعلى رأسك قلنسوة وفى يدك عصا فاللّه الذى اصطفاك برسالاته وبكلامه لقد جعلنى الاعلى بفضله وانعامه اللّهم اجعلنا على صراطك المستقيم واتباع رسولك الكريم واهدنا التوجه الى كعبة ذاتك والانجذاب اليك والوصول الى مشاهدتك

﴿ ١٤٣