٢١٨

{ ان الذين آمنوا } نزلت فى السرية فان اللّه تعالى لما فرج عنهم بالآية السابقة ما كانوا فيه من الغم الشديد بقتالهم فى الشهر الحرام طمعوا فيما عند اللّه من ثوابه فقالوا يا رسول اللّه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نعطى اجرا او ثوابا ونطمع ان يكون سفرنا هذا سفر غزو وطاعة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية لانهم كانوا مؤمنين مهاجرين وكانوا بسبب هذه المقاتلة مجاهدين والمعنى ثبتوا على ايمانهم فلم يرتدوا

{ والذين هاجروا } اى فارقوا منازلهم واهلهم

{ وجاهدوا } المجاهدة استفارغ ما فى اوسع اى حاربوا المشركين

{ فى سبيل اللّه } فى طاعته لاعلاء دينه

{ اولئك يرجون } بمالهم من مبادى الفوز

{ رحمة اللّه } اى ثوابه ولا يحبط اعمالهم كاعمال المرتدين اثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للايران بانهم عالمون بان العمل غير موجب للاجر وانما هو بطريق التفضل منه تعالى لا لان فى فوزهم اشتباها

{ واللّه غفور } مبالغ فى مغفرة ما فرط من عباده خطأ

{ رحيم } يجزل لهم الاجر والثواب

قال قتادة هؤلاء خيار هذه الامة ثم جعلهم اللّه اهل رجاء كما تسمعون وانه من رجا طلب ومن خاف هرب روى انه مر ابو عمر البيكندى يوما بسكة فرأى اقواما ارادوا اخراج شاب من المحلة لفساده وامرأة تبكى قيل انها امه فرحمها ابو عمر فشفع له اليه وقال هبوه منى فى هذه المرة فان عاد الى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى ابو عمر فلما كان بعد ايام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من ورآء ذلك الباب فقال فى نفسه لعل الشاب عاد الى فساده فنفى من المحلة فدق عليها الباب وسألها عن حال الشاب فقالت انه مات فسأله عن حاله فقالت لما قرب اجله قال لا تخبرى الجيران بموتى فلقد آذيتهم فانهم سيشتموننى ولا يحضرون جنازتى فاذا دفنتنى فهذا خاتم لى مكتوب عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم فادفنيه معى فاذا فرغت من دفنى فتشفعى لى الى ربى ففعلت وصيته فلما انصرفت عن رأس القبر سمعت صوته يقول انصرفى يا اماه فقد قدمت على رب كريم ونعم ما قيل ببهانه ميدهد ببها نميدهد قيل ان الحجاج لما احضرته الوفاة كان يقول اللّهم اغفر لى فان الناس يزعمون انك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهى مدينته التى انشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى اشرفت جارية من القصر وهى تبكى وتقول ألا ان مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من اهل الشام على قبره فقال اللّهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من اهل العراق بالطلاق ان الحجاج فى النار فاستفى طاووس فقال يغفر اللّه لمن يشاء وما اظنها الا طلقت فيقال انه استفتى الحسن البصرى فقال اذهب الى زوجتك وكن معها فان لم يكن الحجاج فى النار فما يضركما انكما فى الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على ان اللّه تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وان جاء بمثل زبد البحر ذنبا فاللازم للعباد الرجاء من اللّه تعالى

قال الراغب وهذه المنازل الثلاثة التى هى الايمان والمهاجرة والجهاد هى المعنية بقوله

{ اتقوا اللّه وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله } ولا سبيل الى المهاجرة الا بعد الايمان ولا الى جهاد الهوى الا بعد هجران الشهوات ومن وصل الى ذلك فحق له ان يرجو رحمته

واعلم ان الهجرة على قسمين. صورية وقد انقطع حكمها بفتح مكة كما قال عليه السلام ( لا هجرة بعد الفتح ) ومعنوية وهى السير عن موطن النفس الى اللّه لفتح كعبة القلب وتخليصها من اصنام الشرك والهوى فيجرى حكمها الى يوم القيامة. وكذا الجهاد فى سبيل اللّه على قسمين. اصغر وهو الجهاد مع الكفار. واكبر وهو الجهاد مع النفس وانما كان هذا الجهاد اكبر لان غاية الاول اصلاح الظاهر وغاية الثانى اصلاح الباطن وهو اصعب واقوى. وايضا غاية الاول الوصول الى الجنة والرحمة. وغاية الثانى الوصول الى مشاهدة الحق والجمال المطق. وايضا غاية الاول الشهادة. وغاية الثانى الصديقية والصديقون اعلى منزلة من الشهداء كما قال تعالى

{ فاولئك مع الذين انعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء } فقدم ذكر الصديقين على ذكر الشهداء فاذا وصل المرء الى صلاح النفس بالجهاد الاكبر الذى هو اعز من الكبريت الاحمر يرحم العباد ولا يقصد لهم الضرر حكى ان بعضهم جاء الى بعض المشايخ وخدمه وقال له اريد ان تعلمنى الاسم الاعظم فقال له وفيك اهلية له قال نعم قال اذهب الى باب البلد ثم اخبرنى بما جرى فيه فذهب وجلس على باب البلد فاذ بشيخ حطاب معه حطب على حمار فضربه جندى واخذ حطبه ظلما فلما رجع الرجل الى الشيخ واخبره بالقصة قال له الشيخ لو كنت تعلم الاسم الاعظم ما تصنع بالجندى قال كنت ادعو عليه بالهلاك فقال له الشيخ اعلم ان الحطاب هو الذى علمنى الاسم الاعظم واعلم ان الاسم الاعظم لا يصلح الا لمن يكون على هذه الصفة من الصبر والرحمة على الخلق والشفقة عليهم : قال السعدى قدس سره

مكن تاتوانى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش

ثم ان قلة الكلام من انفع الاشياء فى اصلاح النفس كما ان اللقمة الطيبة انفع فى اصلاح الطبيعة وصفاء القلب : قال فى المثنوى

طفل جان ازشير شيطان بازكن ... بعد ازانش باملك انباز كن

تاتو تاربك وملول وتيره ... دانكه با ديو لعين همشيره

لقمة كونور افزود وكمال ... آن بود آورده از كسب حلال

روغنى كايد جراغ ما كشد ... آب خوانش جون جراغى راكشد

﴿ ٢١٨