٢٢٠

{ فى الدنيا والآخرة }

قال البغوى يبين اللّه لكم الآيات فى امر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فى زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا وفى اقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها وهذه الآية ترغب فى التصدق لكن بشرط ان يكون ذلك من فضل المال وعفوه وعن النبى عليه السلام ان رجلا اتاه ببيضة من ذهب اصابها فى بعض المغازى فقال يا رسول اللّه خذها منى صدقة فواللّه لقد اصبحت ما املك غيرها فاعرض عنه رسول اللّه فاتاه من الجانب الايمن فقاله مثله فاعرض عنه ثم اتاه من الجانب الايسر فاعرض عنه فقال ( هاتها ) مغضبا فاخذها منه فحذفها حذفا لو اصابه لشجه او عقره ثم قال ( يجيئ احدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس انما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها ) وفى لفظ العفو اشارة الى ان ما يعطيه المرء ينبغى ان يعفو اثره عن قلبه عند الانفاق يعنى بطيب القلب لان اصل العفو المحو والطمس ثم الاخراج عن فاضل الاموال على قدر الكفاية طريقة الخواص. فاما خاص الخاص فطريقهم الايثار وهو ان يؤثر غيره على نفسه وبه فاقه الى ما يخرج وان كان صاحبه الذى يؤثر به غنيا قال اللّه تعالى

{ ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة } وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه تعالى عنه قال امرنا رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ان نتصدق ووافق ذلك مالا عندى فقلت اليوم اسبق ابا بكر رضى اللّه عنه فجئت بنصف مالى فتصدقت به فقال لى رسول اللّه ( ما ابقيت لاهلك يا عمر ) قلت نصف مالى يا رسول اللّه ثم قال لابى بكر ( ما ابقيت لاهلك ) قال ابقيت لهم اللّه ورسواله فقلت لا اسابقك بشىء بعدها روى ان النبى عليه السلام قال عند ذلك ( ما بينكما ما بين كلاميكما ) ومنه يعرف فضل ابى بكر على عمر لكن الفاضلية من وجه لا تنافى المفضولية من وجه آخر فان الكامل ليس يلزمه ان يكون كاملا فى جميع الامور وانما التقدم والتأخر بالنظر الى العلم باللّه

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره كان ابو بكر غالب المعرفة وعمر غالب الشريعة وعثمان غالب الطريقة وعلى غالب الحقيقة وان كانوا كاملين فى المراتب الاربع انتهى كلامه : قال الحسين الواعظ الكاشى

مايه توفيق كرم كردن است ... كنج يقين ترك درم كردن است

زادره مرك زنان دادن است ... زندكى عشق زجان دادن است

فسخاوة العوام اعطاى المال وسخاوة الخواص بذل الروح وهو قليل

هست جوانمرد درم صد هزار ... كار جو باجان فتد آنست كار

وحث النبى عليه السلام اصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان ابو امامة الباهلى جالسا بين يديه عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال له النبى عليه السلام ( ماذا تقول حيث تحرك شفتيك ) قال انى ارى الناس يتصدقون وليس معى شىء اتصدى به فاقول فى نفسى سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله الا اللّه واللّه اكبر فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( هؤلاء الكلمات خير لك من مد ذهبا تتصدق به على المساكين )

تازنده ايم ذكر لبش در زبان ماست ... يا دش انيس ومونس جان وروان ماست

يروى ان اول من قال سبحان اللّه جبريل عليه السلام وذلك انه لما خلقه اللّه وقع نظره على العرش وعظمته فقال سبحان اللّه فمن قالها نال ثواب جبريل. واول من قال الحمد للّه آدم الصفى عليه الصلاة والسلام حين نفخ فيه الروح فمن قالها نال نصيبا من فضل آدم. واول من قال لا اله الا اللّه نوح النجى عليه السلام حين مشاهدة الطوفان وشدة البلاء فمن قالها اخذ حظا وافرا من ثواب نوح. واول من قال اللّه اكبر ابراهيم الخليل عليه السلام حين شاهد فداء اسماعيل وهو الكبش فمن قالها نال فيضا من فيض ابراهيم اللّهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا رب العالمين

{ ويسألونك عن اليتامى } اى عن مخالطتهم لان السؤال عن الشىء ينصرف الى ما هو معظم المقصود منه وهو ههنا المخالطة والكفالة وذلك بعد نزول قوله تعالى

{ ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما } فتركوا مخالطتهم ومؤاكلتهم حتى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة وعزلوا اموال اليتامى عن اموالهم وكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شىء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم فقال عبد اللّه بن رواحة يا رسول اللّه ما لكلنا منازل يسكنها اليتامى ولا كلنا نجد طعاما وشرابا نفردهما لليتيم فزلت هذه الآية

{ قل اصلاح لهم } اى مداخلتهم على وجه الاصلاح لهم ولاموالهم

{ خير } من مجانبتهم وترك الخلطة والنظر عليهم. واصلاح مصدر حذف فاعله تقديره واصلاحكم لهم خير للجانبين اى جانبى المصلح والمصلح له

اما الاول فلما فيه من الثواب

واما الثانى فلما فيه من توافر اموال اليتامى والتزايد

{ وان تخالطوهم } وتعاشروهم على وجه ينفعهم

{ فاخوانكم } اى فهم اخوانكم فى الدين الذى هو اقوى من العلاقة النسبية ومن حق الاخ ان يخالط الاخ بالاصلاح والنفع

قال ابن عباس رضى اللّه عنهما المخالطة ان تأكل من تمره ولبنه وقصعته وهو يأكل من تمرك ولبنك وقصعتك وهذا اذا اصاب من مال اليتيم بقدر عمله له او دونه فلا يزيد على اجر مثله وقد قال تعالى

{ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وقد تكون المخالطة بخلط المال وتناول الكل منه وهو منهى شرعا

قال ابو عبيد هذه الآية عندى اصل لما يفعله الرفقاء فى الاسفار فانهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون فى قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه فلما كان هذا فى اموال اليتامى واسعا كان فى غيرهم اوسع ولولا ذلك لخفت ان يضيق فيه الامر على الناس وقد حملت المخالطة على المصاهرة وهو ان يكون ابنا فيزوجه ابنته او تكون بنتا فيزوجها ابنه فتتأكد الالفة ويخلطه بنفسه وبعشيرته ايناسا لوحشته وازالة لوحدته وهو مروى عن الحسن

{ واللّه يعلم } بمعنى المعرفة المتعدية الى واحد

{ المفسد } لمال اليتيم

{ من المصلح } لماله اى لا يخفى على اللّه من داخلهم بافساد واصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الاصلاح وفى تقديم المفسد مزيد تهديد ومن لتضمين العلم معنى التمييز اى يعلم من يفسد فى امورهم عند المخالطة مميزا له ممن يصلح فيها

{ ولو شاء اللّه } اعناتكم وهو الحمل على ولا يطيقه

{ لاعنتكم } لحملكم على العنت وهو المشقة فلم يطلق لكم مداخلتهم يقال عنت فلان اذا وقع فى امر يخاف منه التلف

{ ان اللّه عزيز } غالب يقدر على الاعنات

{ حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتسع له الطاقة وهو دليل على ما يفيده لمة لو من انتفاء مقدمها

واعلم ان مخالطة الايتام من اخلاق الكرام وفى الترحم عليهم فوائد جمة قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( من وضع يده على رأس يتيم ترحما عليه كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة ) وفى الحديث ( ثلاثة فى ظل عرش اللّه يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغارا فخطبت فلم تتزوج وقالت اقيم على اليتامى حتى يغنيهم اللّه او يموت ) يعنى اليتيم ( او هى ورجل له مال صنع طعاما فاطاب صنيعه واحسن نفقته فدعا اليه اليتيم والمسكين وواصل الرحم يوسع له فى رزقه ويمد له فى اجله ويكون تحت ظل عرشه ) قال اللّه تعالى ( يا موسى كن لليتيم كالاب الرحيم وكن للارامل كالزوج الشفيق وكن للغريب كالاخ الرفيق اكن لك كذلك ) : قال الحافظ

تميار غريبان سبب ذكر جميلست ... جانا مكراين قاعده درشهر شمانيست

وفى الحديث ( انا وكافل اليتيم ) اى القائم بمصالحه سواء كان من مال نفسه ام من مال اليتيم وسواء كان اليتيم قريبا ام لا

( كهاتين فى الجنة ) واشار بالسبابة والوسطى يعنى ان كافل اليتيم يكون فى الجنة مع حضرة النبى عليه الصلاة والسلام لا ان درجته تبلغ درجته : قال الشيخ سعدى قدس سره

جو بينى يتيمى سرافكنده ييش ... مده بوسه برروى فرزند خويش

ألا تانكريد كه عرش عظيم ... بلرزد همى جون بكريد يتيم

ويجتنب كل الاجتناب عن اخلال حق من حقوقه واكل حبة من ماله وعن ظلمه وقهره يحكى ان رستم بن زال بارز مع اسنفديار فلم يقدر عليه مع زيادة قوته وكان اسفنديار يجرحه فى كل حمل دون رستم وكان بدن اسفنديار كجلد السمك لا يعمل فيه شىء ثم ان رستم تشاور مع ابيه زال فى ذلك فقال له ابوه انك لا تقدر عليه الا ان تعمل سهما ذا فقارين وتصيب به عينى اسفنديار ففعل ذلك فرمى فاصاب فغلب عليه بذلك فيحكى فى سبب ذلك ان اسفنديار كان قد ضرب فى شبيبته يتيما بغصن ففقأ به عينه وابكاه ثم ان اليتيم اخذ ذلك الغصن وغرسه فلما صار شجرا اخذ رستم غصنا من اغصانه ونحت منه سهمه الذى اصاب به عينى اسنفديار

ويؤدب اليتيم الذى فى حجره كتأديبه ولده فانه مسئول عنه يوم القيامة ويصلح حاله

والتأديب على انواع. منها الوعيد. ومنها الضرب. ومنها حبس المنافع والعطية والبر فان بين النفوس تفاوتا فنفس تخضع بالغلظة والشدة ولو استعملت معها الرفق والبر لافسدها ونفس بالعكس وقد جعل اللّه الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون من المنكر فادب الاحرار الى السلطان وادب المماليك والاولاد الى السادات والآباء وهو مأجور على التأديب ومسئول عنه قال اللّه تعالى

{ قوا انفسكم واهليكم نارا } وفى الحديث ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) وفى قوله تعالى

{ وان تخالطوهم فاخوانكم } اشارة الى ان المرء ينبغى ان يتعود الاكل مع الناس فان شر الناس من اكل وحده وفى الحديث ( ان من احب الطعام الى اللّه ما كثرت عليه الايدى ) ذكره فى العوارف وذكر فى المصابيح ان اصحاب النبى عليه السلام قالوا يا رسول اللّه انا نأكل ولا نشبع قال ( لعلكم تفترقون ) قالوا نعم قال ( فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللّه تعالى ) ومن اللطائف ما يحكى انه قيل لجمين صاحب النوادر أتغديت عند فلان قال لا ولكن مررت ببابه وهو يتغدى فقيل كيف علمت قال رأيت غلمانه بايديهم قسى البنادق يرمون الطير فى الهواء قيل لبخيل من اشجع الناس فقال من يسمع وقع اضراس الناس فلا تنشق مرارته وفى الحديث ( من اضاف مؤمنا فكأنما اضاف آدم ومن اضاف اثنين فكانما اضاف آدم وحواء ) كذا فى الرسالة العلية لحسين الواعظ

﴿ ٢٢٠