تفسير روح البيان

إسماعيل حقى بن مصطفى بروسوي الإستانبولي

الحنفي الجلوتي (ت ١١٣٧ هـ ١٧٢٥ م)

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ

مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَتَانِ آيَةً

١

{ الم } الالف اشارة الى اللّه واللام الى اللطيف والميم الى المجيد

٢

{ اللّه } مبتدأ

{ لا اله الا هو } خبره اي هو المستحق للمعبودية لا غير

{ الحي القيوم } خبر آخر له اي الباقى الذى لا سبيل عليه للموت والفناء والدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه - روى - عنه صلى اللّه عليه وسلم ( اسم اللّه الاعظم فى ثلاث سور البقرة لا اله الا هو الحى القيوم وفى آل عمران الم اللّه لا اله إلا هو الحى القيوم وفى طه وعَنَتِ الوُجوهُ للحى القيوم ) وهذا رد على من زعم ان عيسى عليه السلام كان ربا فانه روى ان وفد نجران قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانوا ستين راكبا. فيهم اربعة عشر رجلا من اشرفهم. ثلاثة منهم اكابر اليهم يؤول امرهم. احدهم اميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح. وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد واسمه الابهمز وثالثهم حبرهم واسقفهم وصاحب مدارسهم ابو حارثة بن علقمة احد بنى بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه واكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب ابو حارثة بغلته وكان اخوه كرز بن علمة الى جنبه فبينا بغلة ابى حارثة تسير اذ عثرت فقال كرز تعسا للابعد يريد به رسول اللّه عليه السلام فقال له ابو حارثة بل تعست امك فقال كرز ولم يا اخى قال انه واللّه النبي الذي كنا ننظر فقال له كرز فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا قال لان هؤلاء الملوك اعطونا اموالا كثيرة واكرمونا فلو آمنا به لاخذوها منا كلها فوقع ذلك في قلب كرز واصره الى ان اسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلا مسجد رسول اللّه عليه السلام بعد صلاة العصر عليهم ثياب خيرات من جنب واردية فاخرة يقول بعض من رآهم من اصحاب النبي عليه السلام ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام ( دعوهم ) فصلوا الى المشرق ثم تكلم اولئك الثلاثة مع رسول اللّه عليه السلام فقالوا تارة عيسى هو اللّه لانه كان يحي الموتى ويبرئ الاسقام ويخبرنا بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ونارة اخرى هو ابن اللّه اذ لم يكم له اب يعلم وتارة اخرى انه ثالث لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان واحد لقال فعلت وقلت فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اسلموا ) قالوا اسلمنا قبلك قال عليه السلام ( كذبتم يمنعكم من الاسلام ادعاؤكم للّه تعالى ولدا ) قالوا ان لم يكن ولد للّه فمن ابوه فقال عليه السلام ( ألستم تعلمون انه لا يكون ولد الا ويشبه اباه )

فقالوا بلى قال صلى اللّه عليه وسلم ( ألستم تعملون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يأتي عليه الفناء ) قالوا بلى قال عليه السلام ( ألستم تعملون ان ربنا قيوم على كل شيء يحفظه ويرزقه ) قالو بلى قال صلى اللّه عليه وسلم ( فهل يملك عيسى من ذلك شيأ ) قالوا لا فقال عليه السلام ( ألستم تعملون ان اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا فى السماء ) قالوا بلى قال عليه السلام ( فهل يعلم عيسى شيأ من ذلك الا ما علم ) قالوا لا قال صلى اللّه عليه وسلم ( ألستم تعلمون ان ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء وان ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث ) قال بلى قال صلى اللّه عليه وسلم ( ألستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث ) قالوا بلى قال صلى اللّه عليه وسلم ( فكيف يكون هذا كما زعمتم ) فسكتوا فابوا الا جحودا فانزل اللّه تعالى من اول السورة الى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليه السلام عليهم واجاب به عن شبههم وتحقيقا للحق الذى فيه يمترون

٣

{ نزل عليك الكتاب } اى القرآن عبر عنه باسم الجنس ايذانا بكمال تفوقه على بقية الافراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بان يطلق عليه اسم الكتاب

فان قلت لم قيل نزل الكتاب وانزل التوراة والانجيل قلت لان التنزيل للتكثير والقرآن نزل منجما ونزل الكتابان جملة وذكر فى آخر الآة الانزال واراد به من اللوح المحفوظ الى سماء الدنيا جملة فى ليلة القدر في شهر رمضان والمراد هنا هو تنزيله الى الارض ففى القرآن جهتا الانزال والتنزيل

{ بالحق } ملتبسا ذلك الكتاب بالعدل فى احكامه او بالصدق فى اخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه اوفى وعده ووعيده

{ مصدقا لما بين يديه } اي فى حال كونه مصدقا للكتب قبله فى التوحيد والنبوات والاخبار وبعض الشرائع قبله

{ وانزل التوراة والانجيل } اسمان اعجميان الاول عبرى والثانى سريانى

٤

{ من قبل } اى انزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام و\من قب تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الامر للمبالغة في البيان

{ هدى للناس } علة للانزال اى انزلهما لهداية الناس وفيه لف بدون النشر لعدم اللبس لان كون التوراة هدى للناس فى زمان موسى وكون الانجيل هدى لهم فى زمان عيسى معلوم فاختصر لذلك

{ وانزل الفرقان } اى جنس الكتب السماوية لان كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل او هو القرآن كرر ذكرة تعظيما لشانه واظهارا لفضله

{ ان الذين كفروا بآيات اللّه } اى بالقرآن ومعجزات النبي عليه السلام

{ لهم } بسبب كفرهم بها

{ عذاب شديد } لا يقادر قدره

{ واللّه عزيز } لا يغالب يفعل ويحكم ما يريد

{ ذز انتقام } عظيم لا يقدر على مثله منتقم

٥

{ ان اللّه لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء } اى مدرك الاشياء كلها يعنى هو مطلع على كفر من كفر به وايمان من آمن به وعلى جميع اعمالهم فيجازيهم يوم القيامة

٦

{ هو الذى يصوركم فى الارحام كيف يشاء } اي يجعلكم على هيئة مخصوصة فى ارحام امهاتكم من ذكر وانثى واسود وأبيض وتام وناقص وطويل وقصير وحسن وقبيح وهو رد على الذين قالوا عيسى اللّه وابن اللّه لان من صور فى الرحم يمتنع ان يكون الها أو ولد اللّه لكونه مركبا وحالا فى المركب وفى عرض الفناء والزوال

{ لا اله الا هو } نزه نفسه ان يكون عيسى ابنا له

{ العزيز الحكيم } المتناهى في القدرة والحكمة فربكم يخلقكم على النمط البديع

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان خلق احدكم يجمع في بطن امه اربعيم يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه اليه الملك باربع كلمات فيكتب رزقه وعمله واجله وشقى او سعيد )

قال ( وان احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها )

وقال عليه السلام ( يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم باربعين او بخمس واربعين ليلة فيقول يارب أشقى او سعيد فيكتبان فيقول اى رب أذكر أو انثى فيكتبان ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها لا ينقص ثم يقول الملك يارب ما اصنع بهذا الكتاب فيقول علقه في عنقه الى قضائى عليه فذلك قوله تعالى { وكل انسان ألزمناه طائره فى عنقه } ) اى علمه من خير وشر صادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار اليه من وكر الغيب والقدر

قال القاضى المراد بكتبه هذه الاشياء اظهارها للملك والافقضاؤه تعالى سابق على ذلك وكل ميسر لما خلق له فعلى العاقل ان لا يتكاسل عن الاعمال في جميع الاحوال ولا يفوت ايام الفرصة والليال

خبردارى اى استخوانى قفس ... كه جان تومر غيست نامش نفس

جو مرغ ازقفس رفت وبكسس قيد ... دكر ره نكردد بسعى تو صيد

نكه دار فرصت كه عالم دميست ... دمى ييش دانا به از عالميست

والاشارة ان اللّه تعالى كما يصور الجنين بصورة الانسانية على نطفة سقطت في الرحم بتدبير الاربعينات فكذلك اذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجاله نطفة ارادة فى رحم قلب مريدد صادق والمرد يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهى بمثابة ملك الارحام ويضبط احوال ظاهرة وباطنة على وفق امر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة يلا يصدر منه حركة عنيفة او يجد رايحة غريبة يلزم منها سقوط النطفة وفسادها ويقعد بامر الشيخ وتدبيره فاللّه تعالى يصرف لاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل اربعين عليه بشرائطها يحولها من حال الى حال وينقلها من مقام الى مقام الى ان يرجع الى حظائر القدس ورياض الانس التي منها صدر الى عالم الانس بقدم الاربعينات الاولى فلما وصل الى مقامة الاول ايضا بقدم الاربعينات كما جاءتم خلق الجنين فى رحم القلب وهو يجعل خليفة اللّه فى ارضه فيستحق الآن ان ينفخ فيه الروح المخصوص بابناء اوليائه وهو روح القدي الذى هو متولى القائه كقوله تعالى

{ يلقى الروح من امره على من يشاء من عباده } وقال

{ كتب فى قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه } ولهذا الفائدة العظيمة والنعمة الجسيمة اهبط الارواح من اعلى عليين القرب الى اسفل سافلين كمال قال

{ اهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فاذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم اجمعون فاحفظه تفهم ان شاء اللّه تعالى كذا في تأويلات الشيخ الكامل نجم الدين الكبرى افاض اللّه علينا من سجال معارفه وحقائقه ولطائفه آمين

٧

{ هو الذى انزل عليك الكتاب } اى القرآم

{ منه } اى من الكتاب

{ آيات محكمات } اى قطيعة الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه

{ هن ام الكتاب } اى اصل فيه وعمدة يرد اليها غيرها بالتاويل فالمراد بالكتاب كله والاضافة بمعنى فى

{ واخر } اى ومنه آيات اخر

{ متشابهات } اى محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض فى استحقاق الارادة بها لا يتضح الامر الا بالنظر الدقيق والتأمل الانيق فالتشابه فى الحقيقة وصف للمعنى وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول

واعلم ان اللفظ اما ان لا يحتمل غير معنى واحد او يحتمل. والاول هو النص كقوله تعالى

{ والهكم اله واحد } والثاني اما ان تكون دلالته على مدلولية او مدلولاته متساوية اولا والاول هو المجمل كقوله تعالى

{ ثلاثة قروء }.

واما الثاني فهو بالنسبة الى الراجح ظاهر كقوله تعالى

{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وبالنسبة الى المرجوح مؤول متشابه وهو كقوله تعالى

{ فاينما تولوا فثم وجه اللّه } قد رد الى قوله تعالى

{ وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ثم أن اللّه تعالى جعل القرآن كله محكما في قوله

{ الر كتاب احكمت آياته } ومعناه ان كله حق لاريب فيه ومتقن لا تناقض فيه ومحفوظ من اعتراء الخلل او من النسخ. وجعله كله متشابها فى قوله

{ كتاب متشابهاً مثانى } ومعناه يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى وجزالة النظم وحقيقة المدلول وجعل بعضه محكما وبعضه متشابها فى هذه الآية وقد سبق وانما لم يجعل اللّه القرآن كله محكما لما فى المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه كابتلاء بنى اسرائيل بالنهر فى اتباع نبيهم ولان النظر فى المتشابه والاستدلال لكشف الحق يوجب عظم الاجر ونيل الدرجات عند اللّه

{ فاما الذين فى قولبهم زيغ } اى ميل عن الحق الى الاهواء الباطلة

{ فيتبعون ما تشابه منه } معرضين عن المحكمات اي يتعلون بظاهر المتشابه من الكتاب او بتاويل باطل الاتحريا للحق بعد الايمان بكونه من عند اللّه تعالى بل

{ ابتغاء الفتنة } اى طلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابة

{ وابتغاء تأويله } اى ى طلب ان يؤولوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال انهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل

{ وما يعلم تأويله } اى تأويل المتشابه

{ الا اللّه والراسخون فى العلم } اي لا يهتدى الى تأويله الحق الذى يجب ان يحمل عليه الا اللّه وعباده الذين رسخوا فى العلم اى ثبتوا فيه وتمكنوا اوفوضوا فيه لنص قاطع ومنهم من يقف على قوله

{ الا اللّه } ويبتدىء بقول

{ والراسخون فى العلم يقولون آمنا به } ويفسرون المتشابه بما أستاثر اللّه بعلمه وبمعرفة فيه من آياته كعدد الزبانية فى قوله

{ عليها تسعة عشر } ومدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة والصوم وعدد الركعات فى الصلوات الخمس والاول هو الوجه فان اللّه تعالى لم ينزل شيأ من القرآن الا لينتفع به عباده ويدل به على معنى ارادة فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطاعن مقال وهل يجوز ان يقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه واذا جاز ان يعرفه مع قوله تعالى

{ وما يعلم تأويله الا اللّه } جاز ان يعرفه الربانيون من صحابته وان لم يكن لهم فضل على الجهال لانهم جميعا يقولون ذلك قالوا ولم يزل المفسرون الى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وققفوا عن شيء من القرآن فقالوا هذا متشابه لا يعلمه الا اللّه بل فسروا نحو جروف التهجى وغيرها

{ يقولون آمنا به } اى بالمتشابه والجملة على الاول استئناف موضح لحال الراسخين وعلى الثانى خبر لقوله والراسخون

{ كل } اى كل واحد من المحكم والمتشابه

{ من عند ربنا } منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما

{ وما يذكر } حق التذكر

{ الا اولوا الالباب } اى العقول الخالصة عن الركون الى الاهواء الزائغة وهو مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر واشارة الى ما به استعدوا للاهتداء الى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس

٨

{ ربنا لا تزغ قلوبنا } اى يقولون لا تمل قلوبنا عن نهج الحق الى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه

{ بعد اذ هديتنا } الى الحق والتأويل الصحيح او الى الايمان

{ وهب لنا من لدنك } اى من عندك

{ رحمة } واسعة تزلفنا اليك ونفوز لها عندك

{ انك انت الوهاب } واطلاق الوهاب ليتناول كل موهوب. وفيه دلالة على ان الهدى والضلال من قبله وانه متفضل بما ينعم به على عباده من غير ان يجب عليه شىء

٩

{ ربنا انك جامع الناس } بعد الموت

{ ليوم } اى لجزاء يوم وسابه وهو يوم القيامة

{ لا ريب فيه } اى فى وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم الى الرحمة وانها المقصد الاسنى عندهم { ان اللّه لا يخلف الميعاد } الوعد يعنى الالوهية تنافى خلف الوعد فى البعث واستجابة الدعاء وهذا حال الراسخين فى الدعاء فانظر كيف لا يأمنون سوء اخاتمة واداهم الخوف والخشية الى الرجاء فاياك والزيغ عن الصراط المستقيم باتباع الهوى والشهوات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ما من قلب الا وهو بين اصبعين من اصابع الرحمن اذا شاء ان يقيمه اقامه واذا شاء ازاغه ) يعنى قلب المؤمن الا وهو بين توفقيه وخذلانه وانما قال من اصابع الرحمن ولم يقل من اصابع اللّه اشعارا بانه هو المتكمن من قلوب العباد والمتصرف فيها كيف يشاء ولم يكلها الى احد من ملائكته رحمة منه وفضلا لئلا يطلع على سرائرهم غيره وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( اللّهم يا مقلب القلوب والابصار ثبت قلوبنا على دينك ) والميزان بيد الرحمن يرفع قوما ويضع آخرين الى يوم القيامة وقال صلى اللّه عليه وسلم ( مثل القلب كريشة بارض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن ) * قال الجنيد رحمه اللّه من اراد ان يسلم له دينه ويستريح فى بدنه وقلبه فليعتزل الناس فان هذا زمان وحشة والعاقل من اختار الوحدة قال عليه السلام لاصحابة ( اين تنبت الحبة ) قالوا فى الارض قال ( فكذلك الحكمة انما تنبت فى قلب مثل الارض ) فدفن حبة الفؤاد والوجود فى ارض الخمل مما يتيج ويتم متاجه جدا فما نبت ما لم يدفن لم يتم نتاجه وان ظهر نوره وانتاجه كالذى نبت فى حميل السيل

فعليك بتزكية النفس واصلاح الوجود كى تدرك نور الشهود وتقبل الى الاستقامة وتخلص من الزيغ والضلال فى جميع الاحوال وكم من زائغ قلبه وهو صورة مستقيم وكم من مستقيم فؤواده وهو فى الظاهر غير مستقيم : كما قيل

بس قامت خاشاك برجا باشد ... جون باد بر آنها برود ن باشد

و القلب هو محل النظر لا الصورة كما قال عليه السلام ( ان اللّه لا ينظر الى صوركم بل الى قلوبكم واعمالكم ) فأى فائدة فى القلب الزائغ عن الحق فنعوذ باللّه منه

١٠

{ ان الذين كفروا لن تغنى عنهم } اى لن تنفعهم

{ اموالهم } التي يبذلونها فى جلب المنافع ودفع المضار قدم الاموال على الاولاد لانها اول عدة يفرغ اليها عند نزول الخطوب

{ ولا اولادهم } الذين بهم يتناصرون فى الامور المهمة وعليهم يعولون فى الخطوب الملمة وتوسيط حروف النفى لعرافة الاولاد فى كشف الكروب

{ من اللّه } اى عذابه تعالى

{ شيأ } اى شيأ ن الاغناء ومعناه لا يصرف عنهم كثرة الاموال والاولاد والتناصر بهما عذابه وكانوا يقولون نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين قال تعالى فى ردهم

{ وما أموالكم ولا اولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى الامن آمن وعمل صالحا } { واولئك } اى اولئك المتصفون بالكفر

{ هم وقود النار } حطب النار وحصبها الذى تسعر به

١١

{ كداب آل فرعون } الدأب مصدر دأب فى العمل اذا كدح فيه وتعب غلب استعماله فى معنى الشان والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف اى دأب هؤلاء فى الكفر وعدم النجاة من اخذ اللّه تعالى وعذابه كدأب آل فرعون

{ والذين من قبلهم } اى آل فرعون من الامم الكافرة كقوم نوح وثمود وقوم لوط وهو عطف على ما قبله

{ كذبوا بآياتنا } بيان وتفسير لدابهم الذى فعلوا على الستئناف المبنى على السؤال كأنه قيل كيف كان دابهم فقيل كذبوا بآياتنا اى بكتبنا ورسلنا

{ فأخذهم اللّه بذنوبهم } تفسير لدأبهم الذي فعل بهم ا فأخذهم اللّه تعالى وعاقبهم ولم يجدوا من بأس اللّه تعالى محيصا فداب هؤلاء الكفرة ايضا كدأبهم والذنب فى الاصل التلو والتابع وسميت الجريمة ذنبا لانها تتلو اى يتبع عقابها فاعلها

{ واللّه شديد العقاب } لمن كفر بالآيات والرسل

١٢

{ قل للذين كفروا } المراد بهم اليهود لما روى عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما ان يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المشركين يوم بدر قالوا واللّه انه النبي الامى الذى بشرنا به موسى وفى التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر الى وقعة له اخرى فلما كان يوم احد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد الى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الاشرف فى ستين راكبا الى اهل مكة فاجمعوا امرهم على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت

{ ستغلبون } البتة عن قريب فى الدنيا وقد صدق اللّه وعده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من اوضح شواهده النبوة

{ وتحشرون } اى فى الآخرة

{ الى جهنم } والحشر السوق والجمع اى يغلبون فى الدنيا ويساقون فى الآخرة مجموعين الى جهنم

{ وبئس المهاد } اى بئس الفراش والمقر جهنم

١٣

{ قد كان لكم } جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به اى واللّه قد كان لكم ايها اليهود المغتربون بعددهم وعددهم

{ آية } عظيمة دالة على صدق ما اقول لكم انكم ستغلبون

{ فى فئتين } اى جماعتين فان المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم

{ التقتا } اى تلاقيا بالقتال يوم بدر

{ فئة } خبر مبتدا محذوف اى احدهما فئة

{ تقاتل } تجاهد

{ فى سبيل اللّه } وهم لا كثرة فيهم ولا شوكة وهم اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم

{ واخرى } اى وفئة اخرى

{ كافرة } باللّه ورسوله

{ يرونهم } اى ترى الفئة الاخيرة الكافرة الفئة الاولى المؤمنة والجملة صفة للفئة الاخيرة

{ مثليهم } اى مثلى عدد الرائين قريبا من الف كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا راسهم عتبة من ربيعة بن عبد شمس وفيهم ابو سفيان وابو جهل وكان فيهم من الخيل والابل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن اصناف الاسلحة عدد لا يحصى

وعن سعد بن اوس انه قال اسر المشركون رجلا من المسلمين فسالوه كم كنتم قال ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا ما كنا نراكم الا تضعفون علينا أو مثل عدد المرئيين اى ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا ثاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين على بن ابى طالب رضى اللّه تعالى عنه وصاحب راية الانصار اراهم اللّه عز وجل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويتجنبوا عن قتالهم مددا لهم منه سبحانه كما امدهم بالملائكة عليهم السلام

فان قلت فهذا مناقض لقوله فى سورة الانافل

{ ويقللكم فى اعينهم } قلت قللّهم اولا فى اعينهم حتى اجترأوا عليهم فلما لاقوهم كثروا فى اعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير فى حالين متلفين وتقليلهم تارة وتكثيرهم اخرى ابلغ فى القدرة واظهار الآية

{ رأى العين } نصب على المصدر يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لالبس فيها معاينة كسائر المعاينات

{ واللّه يؤيد } اى يقوى

{ بنصره من يشاء } اى يريد من غير توسيط الاسباب العادية كما ايد الفئة المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به

{ ان فى ذلك } اشارة غلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكى السلاح

{ لعبرة } من العبور كالجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فانه نوع من العبور اى لعبرة عظيمة كائنة

{ لاولى الابصار } لذوى العقول والبصائر

فعلى العاقل ان يعتبر بالآيات ولا يغتر بكثرة الاعداد من الاموال والاولاد وعدم اجتهاده لمعاده فان اللّه يمتعه قليلا ثم يضطره الى عذاب غليظ

واعلم ان المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الازلى بالشقاوة ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا فغلبات الهوى والنفس ترد الى اسفل سافلين الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه فى قعر جهنم وبئس المهاد فانه مهده فى معاشه والنار ناران نار اللّه ونار الجحيم فاما نار اللّه فهى نار حسرة القطيعة عن اللّه فيها يعذب قلوب المحجوبين عن اللّه كقوله تعالى

{ نار اللّه الموقدة التي تتطلع على الأفئدة }

واما نار الجحيم فهى نار الشهوات والمعاملات على الغفلات من المخالفات فهى تحرق قشور الجلود كما قال تعالى

{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب بما كانوا يعملون } ولا يتخلص من هذه النار الالب القلوب وان عذاب حرقة الجلد بالنسبة الى عذاب حرقة القلوب كنسيم الحياة وسموم الممات فلا بد من تزكية النفس فانها سبب للخلاص من عذاب الفرقة قيل لبعضهم بم يتخلص العبد من نفسه قال بربه انتهى فاذا اراد اللّه ان ينصر عبده على ما طلب منه امده بجنود الانوار فكلما اعترته ظلمة قام لها نور فاذهبها وقطع عنه مواد الظلم والأغيار فلم يبق للّهوى مجال ولا للشهوة والاخلاق الذميمة مقال ولا قال فالنور جند القلب كما ان الظلمة جند النفس والمراد بالنور حقائق ما يستفاد من معانى الاسماء والصفات وبالظلمة معانى ما يستفاد من الهوى والعوائد الردئية قال تعالى

{ ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها } اى غيروا حالها عما هى عليه وكذلك اذا وردت الواردات الربانية على القلوب الممتلئة اخرجت منها كل صفة ردئية وكستها كل خلق زكية فهذه الدولة انما تنال بترك الدنيا والعقبى فكيف يمتلىء بالأنوار قلب من خالط الاغيار واحب المال والاولاد ولم يخف من رب العباد * وقدم على الاستاذ ابى على الدقاق رحمه اللّه فقير وعليه مسح وقلنسوة فقال له بعض اصحابه بكم اشتريت هذا المسح على وجه المطايبة فقال اشتريته بالدنيا فطلب منى بالآخرة فلم ابعه

قال ابو بكر الوراق رحمه اللّه طوبى للفقراء فى الدنيا والآخرة فسألوه عنه فقال لا يطلب السلطان منه فى الدنيا الخراج ولا الجبار فى الآخرة الحساب

قناعت سر افرازد اى مرد هوش ... سرير طمع برنيايد زدوش

كر آزاداه برزمين خسب وبس ... مكن بهر ماى زمين بوس كس

حققنا اللّه واياكم بحقتئق التوحيد

١٤

{ زين للناس } اي حسن لهم والمزين هو اللّه لقوله تعالى

{ زينا لهم اعمالهم } وذلك على جهة الامتحان او هو الشيطان لقوله تعالى

{ وزين لهم الشيطان أعمالهم } وذلك على جهة الوسوسة

{ حب الشهوات } اى محبة مرادات النفوس والشهورة نزوع النفس الى ما تريده وهى مصدر اريد به المفعول اى المشتهيات لان الاعيان التي ذكرها كلها مشتهيات وانما عبر عنها بالمصدر مبالغة فى كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات وانما عبر عنها بالمصدر مبالغة فى كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات والوجه ان يقصد تخسيسها فيسميها شهوات لان الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمة. قالوا خلق اللّه الملائكة عقولا بلا شهوة والبهائم ذت شهوات لا عقل وجعلهما فى الانسان فمن غلب علقله شهوته فهو افضل من الملائكة ومن غلب عليه شهوته فهو ارذل من البهائم

{ من النساء } حال من الشهواتاى حال كونها من طائفة النساء وانما بدأ بهن لعرافتهن فى معنى الشهوات فانهن حبائل الشيطان

{ والبنين } والفتنة بهم ان الرجل يحرص بسببهم على جمع المال من الحلال والحرام والنهم يمنعونه عن محافظة حدود اللّه. قيل اولادنا فتنة ان عاشوا فتنونا وان ماتوا احزنوانا وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد فى حبهن

{ والقناطير المقنطرة } جمع قنطار وهو امال الكثير اى الاموال الكثيرة المجتمعة وهو مائة الف دينار او ملىء مسك ثور او سبعون الفا او اربعون الف مثقال او ثمانون الفا او مائة رطل او الف ومائتا مثقال او الف دينار او مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم اودية النفس

وفى الكشاف المقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم الوف مؤلفة وبدر مبدرة

{ من الذهب والفضة } بيان للقناطير اى من هذين الجنسين وانما سمى الذهب ذهبا للاه يذهب ولا يبقى والفضة لانها تنفض اى تتفرق

{ والخيل } عطف على القناطير. والخيل جمع لا واحد له من لفظه واحد فرس وهو مشتق من الخيلاء لاختيالها فى مشيتها او من التخيل فانها لم يتخيل فى عين صاحبها اعظم منها لتمكنها من قلبه

{ المسومة } اى المعلمة وهى التى جعلت فيها العلامة بالسيمة واللون او بالكى او المرعية من سامت السائمة اى رعت

{ والانعام } اى الابل والبقر والغنم جمع نعم

{ والحرث } اى الزرع قيل كل منهما فتنة للناس. اما النساء والبنون ففتنة للجميع. والذهب والفضة للتجار. والخيل فتنة للملوك. والانعام فتنة لاهل البوادى. والحرث فتنة لاهل الرساتيق

{ ذلك } اى ما ذكر من الاشياء المعهودة

{ متاع الحيوة الدنيا } اى ما يمتنع به فى الحياة الدنيا اياما قلائل فيفنى سريعا

{ واللّه عنده حسن المآب } اى حسن المرجع وهو الجنة

وفيه دلالة على انه ليس فيما عدد عاقبة حميدة وهذا تزهيد فى طيبات الدنيا الفانية وترغيب فيما عند اللّه من النعيم المقيم فعلى العاقل ان يأخذ من الدنيا قدر البلغة ولا يستكثر بالاستكثر بالاستكثار الذى يورط صاحبه فى المحظور ويورثه المحذور

١٥

{ قل } يا محمد

{ اؤنبئكم بخير من ذلكم } الهمزة للتقرير اى اخبركم بما هو مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم

{ للذين } خبر مبتدأه قوله جنات

{ اتقوا } والمراد بالتقوى هو التبت الى اللّه تعالى والاعراض عما سواه كما ينبىء عنه النعوت الآتية

{ عند ربهم } نصب على الحالية من قوله

{ جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } حال مقدرة

{ وازواج مطهرة } اى زوجات مبرأة من العيوب الظاهرة كالحيض والامتخاط واتيان الخلاء ومن الباطنة كالحسد والغضب والنظر الى غير ازواجهن - روى عن النبى عليه السلام ( شبر من الجنة خير من الدنيا وما فيها )

{ ورضوان } اى رضوان وأى رضوان لا يقادر قدره كائن

{ من اللّه } قال الحكماء الجنات بما فيها اشارة الى الجنة الجسمانية والرضوان اشارة الى الجنة الروحانية واعلى المقامات الجنة الروحانية وهى عبارة عن تجلى نور جلال اللّه تعالى فى روح العبد واستعراق العبد فى معرفة اللّه ثم يصير فى اول هذه المقامات راضيا عن اللّه وفى آخرها مرضيا عند تعالى واليه الاشارة بقوله

{ راضية مرضية } { واللّه بصير بالعباد } وباعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها

١٦

{ الذين } كأنه قيل من اولئك المتقون الفائزون الكرامات السنية فقيل هم اذين

{ يقولون ربنا اننا آمنا } اى صدقنا بك وبنبيك وفى ترتيب الدعاء بقولهم

{ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } على مجرد الايمان دلالة على كفايته فى استحقاق المغفرة والوقاية من النار

١٧

{ الصابرين } نصب على المدخ باضمار اعنى والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى الباساء والضراء وحين البأس

{ والصادقين } فى اقوالهم ونياتهم وعزائمهم

{ والقانتين } اى المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات

{ والمنفقين } اموالهم فى سبيل اللّه

{ والمستغفرين بالاسحار } وتوسيط الواو بين الصفات المذكورة مؤذن بان كل صفة مستقلة بالمدح ومؤذن بان منهم صابر ومنهم صادق

ثم الصبر حبس النفس عن شهواتها المحظورة فى الشرع. وجميع اجناس الصبر ثلاثة. الصبر على الطاعة. والصبر على المعصية. والصبر على المكروه قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( من صبر على مصيبة فله ثلاثمائة درجة وبين الدرجتين كما بين السماء والارض ومن صبر على الطاعة فله ستمائة درجة ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض ومن صبر على المعصية فله تسعمائة درجة بين الدرجتين كما بين العرش والكرسى )

والصدق يجرى فى القول وهو مجانبة الكذب وفى الفعل وهو اتيانه وترك الانصراف عنه قبل تمامه وفى النية وهو العزم عليه حتى يفعل

والانفاق يتناول الانفاق على نفسه واهله واقاربه وصلة رحمه وفى الجهاد وسائر وجوه البر

والاستغفار سؤال المغفرة من اللّه وتخصيص الاسحار بالاستغفار لان الدعاء فيها اقرب الى الاجابة اذ العبادة حينئذ اشق والنفس اصفى والروح اجمع لاسيما للمجتهدين

قال مجاهد فى قول يعقوب عليه السلام

{ سأستغفر لكم ربى } اخره الى وقت السحر فان الدعاء فيه مستجاب وقال ان اللّه تعالى لا يشغله صوت عن صوت لن الدعاء فى السحر دعوتى فى الخلوة وهى ابعد من الرياء والسمعة فكانت اقرب الى الاجابة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ينزل اللّه تعالى الى السماء الدنيا كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذى يدعونى فاستجيب له من ذا الذى يسألنى فاعطيه من ذا الذى يستغفرنى فاغفر له ) ومعنى ينزل محمول على نزول ملكه او على الاستعارة فمعناه الاقبال على الداعين بالطف والاجابة ولهذا قال الى السماء الدنيا اى القربى وفى هذا الكلام توبيخ لهم على غفلتهم فى الدعاء والسؤال منه والاستغفار

قال لقمان لابنه يا بنى لا تكونن اعجز من هذا الديك يصوت بالاسحار وانت نائم على فراشك

دلابر خيز وطاعت كن كه طاعت به زهر كارست ... سعادت آن كسى داردكه وقت صبح بيدارست

خروسان درسحر كويند قم يا ايها الغافل ... توازمستى نمى دانى كسى داندكه هيشاراست

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لما اسرى بى الى السموات رأيت عجائب من عجائب اللّه تعالى فمن ذلك ان فى السماء الدنيا ديكا له زغب اخضر وريش ابيض وبياض ريشه كاشد بياض رأيته وزغبه تحت ريشه كاشد خضرة رأيتها فاذا رجلاه فى تخوم الارض السابعة السفلى واذا راسه عند عرش الرحمن ثانى عنقه تحت العرش له جناحان فى منكبيه اذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فاذا كان بعض الليل نشر جناية وخفق بهما وصرخ بالتسبيح للّه يقول سبحان الملك القدوس الكريم )

أو قال ( الكبير المتعال لا اله الا هو الحى القيوم فاذا فعل ذلك سبحت ديكة الارض كلها وخفقت باجنحتها فاذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض كلها ثم اذا كان بعض الليل نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق والمغرب وحفق بهما ثم صرخ بالتسبيح للّه يقول سبحان اللّه العى العظيم سبحان العزيز القهار سبحان اللّه رب العرش الرفيع فاذا فعل ذلك سبحت ديكة الارض بمثل قوله وخفقت باجنحتها واخذت فى الصراخ واذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض بمثل قوله وخفقت باجنحها واخذت فى الصراخ واذا سكن ذلك الديك سكنت ديكة الارض ثم اذا هاج بنحو فعله فى السماء هاجت الديكة فى الارض يجاوبونه تسبيحا للّه تعالى بنحو قوله ) والمقصود من هذا ان التسبيح اذا كان من فعل اهل السماء والارض خصوصا الحيوانات العجم بل النباتات كما قال تعالى

{ وان من شىء الا يسبح بحمده } فان الانسان اولى بان يشتغل بالدعاء والتسبيح خصوصا فى الخلوات واوقات الاسحار

قال الامام القشيرى رحمه اللّه الصابرين على ما امر اللّه والصادقين فيما عاهدوا اللّه والقانتين بالاستقامة فى محبة اللّه والمنفقين فى سبيل اللّه والمستغفرين من جميع ما فعلوا لرؤية تقصيرهم

١٨

{ شهد اللّه انه } بانه

{ لا اله الا هو } نزلت حين جاء رجلان من احبار الشام فقالا للنبى عليه السلام انت محمد قال ( نعم ) فقالا انت احمد قال ( انا محمد واحمد ) قالا اخبرنا عن اعظم الشهادة فى كتاب اللّه فاخبرهما اى اثبت اللّه بالحجة القطيعة واعلم بمصنوعاته الدالة على توحيده انه واحد لا شريك له فى خلقه الاشياء اذ لا يقدر احد ان ينشىء شيأ منها

قال ابن عباس خلق اللّه تعالى الارواح قبل الاجساد باربعة آلاف سنة وخلق الارزاق قبل الارواح باربعة آلاف سنة فشهد لنفسه قبل خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا ارض ولا بر ولا بحر فقال

{ شهد اللّه } الآية

{ والملائكة } عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازى شامل للاقرار والايمان بطريق عموم المجاز اى اقرت الملائكة بذلك بشهادة الشاهد فى البيان والكف

{ قائما بالقسط } نصب على الحال المؤكدة من هو دون من ذكر معه لأ من اللبس اذ القيام بالقسط من الصفات الخاصة به تعالى ومثله جاء زيد وهند راكبا جاز لا جل التذكير ولو قلت جاء زيد وعمرو راكبا للبس اى مقيما بالعدل فى قسمة الارزاق والآجال والاثابة والمعاقبة وما يأمر به عباده وينهاهم عنه من العدل والتسوية فيما بينهم ودفع الظلم عنهم

{ لا اله الا هو العزيز الحكيم } كرر المشهود له لتأكيد التوحيد ليوحدوه ولا يشركوا به شيأ لانه ينتقم ممن لا يوحده بما لا يقدر على مثله منتقم ويحكم ما يريد على جميع خلقه لا معقب لحكمه لغلبته عليهم

١٩

{ ان الدين عند اللّه الاسلام } جملة مستانفة مؤكدة للاولى اى لا الدين مرضيا للّه تعالى سوى الاسلام الذى هو التوحيد والتشرع بالشريعة الشريفة وهو الدين الحق منذ بعث اللّه آدم عليه السلام وما سواه من الاديان فكلها باطلة

قال شيخنا العلامة فى بعض تحريراته المقصورد من انزال الكلام مطلق الدعوة الى الدين الحق والدين من زمن آدم الى نبينا عليهما الصلاة والسلام الاسلام كما قال تعالى

{ ان الدين عند اللّه الاسلام } وحقيقة دين الاسلام التوحيد وصورته الشرائع التى هى الشروط وهذا الدين م ذلك الزمان الى يوم القيامة واحد بحسب الحقيقة وسواء بين الكل ومختلف بحسب الصورة والشورط وهذا الاختلاف الصورى لا ينافى الاتحاد الاصلى والوحدة الحقيقة انتهى

وعن قتادة ان الاسلام شهادة ان لا اله الا اللّه والاقرار بما جاء من عند اللّه

وعن غالب القطان قال اتيت الكوفة فى تجارة فنزلت قريبا من الاعمش فكنت اختلف اليه فلما ككنت ذات ليلة اردت ان احدر الى البصرة قام من الليل متهجدا فمر بهذه الآية

{ شهد اللّه انه لا اله الا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم } قال الاعمش وانا اشهد بما شهد اللّه به واستودع اللّه هذه الشهادة وهى لى عند اللّه وديعة ان الدين عند اللّه الاسلام قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيأ فصليت معه وودعته ثم قلت آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها قال واللّه لا احدثك بها الى سنة فلبثت على بابه من ذلك اليوم فاقمت سنة فلما مضت السنة قلت يا ابا محمد قد مضت السنة قال حدثنى ابو وائل عن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه ان لعبدى هذا عندى عهدا وانا احق من وفى بالعهد ادخلوا عبدى الجنة ) ويناسب هذا ما يقال عهدنا للّه

عن ابى مسعود رضى اللّه عنه ان النبى صلى اللّه عليه وسلم قال لاصحابه ذات يوم ( أيعجز احدكم ان يتخذ كل صباح ومساء عند اللّه عهدا ) قالوا وكيف ذلك قال ( يقول كل صباح ومساء اللّهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة انى اعهد اليك بانى اشهد ان لا اله الا انت وحدك لا شريك لك وان محمد عبدك ورسولك وانك ان تكلنى الى نفسى تقربنى من الشر وتباعدنى من الخير وانى لا اثق الا برحمتك فاجعل لى عهدا توفينيه يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع ) اى ختم عليه بخاتم ( ووضع تحت العرش فاذا كان يوم القيامة نادى مناد اين الذى لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنة ) فلا بد من الدعاء فى الصبح والمساء للّه الذى هو خالق الارض والسماء ومن الاخلاص الذى هو ملاك الامر كله فى طاعة المرء وعمله

عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مزبوست

{ وما اختلف الذين اوتوا الكتاب } نزلت فى اليهود والنصارى حين تركوا الاسلام الذى جاء به النبى عليه السلام وانكروا نبوته

{ الا من بعد ما جاءهم العلم } استثناء مفرغ من اعم الاحوال او اعم الاوقات اى ما اختلفوا فى دين اللّه الاسلام ونبوة محمد عليه السلام فى حال من الاحوال او اعم الاوقات اى وما اختلفوا فى دين اللّه الاسلام ونبوة محمد عليه السلام فى حال من الاحوال او فى وقت من الاوقات الا بعد ان عملوا بانه الحق الذى لا محيد عنه او بعد ان عملوا حقيقة الامر وتمكنوا من اعلم بها بالحجج والآيات الباهرة وفيه من الدلالة على ترامى حالهم فى الصلاة ما لا مزيد عليه فان الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة مما لا يصدر عن العاقل

{ بغيا بينهم } مفعول به لقوله اختلف اى حسدا كائنا بينهم وطلبا للرياسة لا شبهة وخفاء فى الامر وهو تشنيع اثر تشنيع

{ ومن يكفر بآيات اللّه } الناطقة بما ذكر من ان الدين عند اللّه الاسلام ولم يعمل بمقتضاها

{ فان اللّه سريع الحساب } قائم مقام جواب الشرط عله له اى ومن يكفر بآياته تعالى فانه يجاز به ويعاقبه عن قريب فانه سريع الحساب اى يأتى حسابه عن قريب او سريع فى محاسبة جميع الاخلائق لانه يحاسبهم فى اقل من لمحة بحيث يظن كل احد منهم انه اى اللّه يحاسب نفسه فقط

٢٠

{ فان حاجوك } اى فى كون الدين عند اللّه الاسلام

{ فقل اسلمت وجهى } اى اخلصت نفسى وقلبى وهو القديم الذى ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندى وما جئت بشىء بديع حتى تجادلونى فيه

{ ومن اتبعن } عطف على المتصل فى اسملت وحسن ذلك لمكان الفصل الجارى مجرى التأكيد بالنفصل اى واسلم من اتبعنى وجوههم ايضا

{ وقل للذين اوتوا الكتاب } اى من اليهود والنصارى

{ والاميين } الذين لا كتاب لهم من مشركى العرب

{ أاسلمتم } وعملتم بقضيتها او انتم بعد على كفركم وهو استفهام بمعنى الامر اى اسلموا وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا الا سلكته فهل فهمتها

{ فان اسلموا } اى كما اسلمتم واخلصتم

{ فقد اهتدوا } اى فازوا بالحظ الاوفر ونحوا من مهاوى الضلال

{ وان تولوا } اى اعرضوا عن الاتباع وقبول الاسلام

{ فانما عليك البلاغ } قائم الجواب اى لم يضروك شيأ اذما عليك الا البلاغ اى التبليغ بالرسالة دون الهداي وقد فعلت على ابلغ وجه - روى - ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على اهل الكتاب قالوا اسلمنا فقال صلى اللّه عليه ولسلم لليهود ( أتشهدون ان عيسى عبد كلمة اللّه وعبده ورسوله ) فقالوا معاذ اللّه وقال صلى اللّه عليه وسلم للنصارى ( أتشهدون ان عيسى عبد اللّه ورسوله ) فقالوا معاذ اللّه ان يكون عيسى عبدا وذلك قوله عز وجل وان تولوا

{ واللّه بصير بالعباد } عالم بجميع احوالهم وهو وعد ووعيد

٢١

{ ان الذين يكفرون بآيات اللّه } اى آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الاسلام

{ ويقتلون النبين بغير حق } هو اهل الكتاب قتل اولوهم الانبياء عليهم السلام وقتلوا اتباعهم وهو راضون بما فعلوا وكانوا حاولوا قتل النبى صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين لولا عصمهم اللّه وقد اشير اليه بصيغة الاستقبال قال فى سورة البقرة

{ بغير الحق } اى بغير الحد الذى حده اللّه واذن فيه والنكرة ههنا على معنى ان القتل يكون بوجوه من الحق فمعناه يقتلون بغير حق من تلك الحقوق

{ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } اى بالعدل

{ من الناس } عن ابى عبيدو بن الجراح رضى اللّه عنه قلت يا رسول اللّه اى الناس اشد عذابا يوم القيامة قال ( رجل قتل نبيا او رجلا امر بمعروف أو نهى عن منكر ) ثم قرأها ثم قال ( يا ابا عبيدة قتلت بنوا اسرائيل ثلاثة واربعين نبيا من اول نهار فى ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى اسرائيل فامروا قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتولا جميعا من آخر النهار )

{ فبشرهم بعذاب اليم } اى وجيع دائم جعل لهم بدل البشارة وهو الاخبار السار الاخبار بالنار وهو كقول القائل تحية ضرب وجيع

٢٢

{ اولئك } المتصفون بتلك الصفات القبيحة

{ الذين حبطت اعمالهم فى الدنيا والآخرة } الذين بطلت اعمالهم التى ما عملوهن البر والحسنات ولم يبق لها اثر فى الدارين بل بفى لهم اللعنة والخزى فى الدنيا والعذاب الاليم فى الآخرة

{ وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من بأس اللّه وعذابه فى اخدى الدارين وصبغة الجمع لرعاية ما وقع فى مقابلته لا لنفى تعدد الانصار من كل واحد منهم كما فى قوله تعالى

{ وما للظالمين من انصار } ففى الآية ذم لمن قتل الآمرين بالمعروف والناهين عن المكنر فبئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالمعروف والناهين عن المنكر وبئس القوم قوم لا يقومون بالقسط بين الناس وبئس القوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فعليك بالعدل والانصاف واياك الجور والظلم والاعتساف فاصدع باوامر الحق ونواهيه ولا تخف غير اللّه فيما انت فيه وانما عليك البلاغ

كرجة دانى نشنوند بكوى ... هرجه مى دانى ازنصيحت وبند

زود باشد كه خيره سر بينى ... بدو باى او فتاده اندر بند

دست بدست مى زند كه دريغ ... نشنيدم حديث دانشمند

ولا يسقط الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ابدا ولكنه لا ينفع الوعظ والزجر فى آخر الزمان حين تشتد القلوب قساوة وتكون الانفس مولعة بلذات الدنيا - روى - ان يهوديا قال لهارون الرشيد فى سيره مع عسكره اتق اللّه فلما سمع هارون قول اليهودى نزل عن فرسه وكذا العسكر نزلوا تعظيما لاسم اللّه العظيم. ومن اكبر الذنوب ان يقول الرجل لاخيه اتق اللّه فيقول فى جوابه عليك نفسك أانت تأمرنى بهذا ومن اللّه العظة والوفي الى سواء الطريق

٢٣

{ ألم تر } تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم او لكل من تتأتى منه الرؤية من حال اهل الكتاب وسوء صنيعهم اى ألم تنظر

{ الى الذين اوتوا نصيبا } حظا وافرا

{ من الكتاب } اى التوراة والمراد بما اوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والاحكام التى من جملتها ما عملوه من نعوت النبى عليه السلام وحقية الاسلام

{ يدعون الى كتاب اللّه } الذى اتوا نصيبا منه وهو التوراة كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر اليهم فقيل يدعون الى كتاب اللّه فالجملة استئناف

{ ليحكم } ذلك الكتاب

{ بينهم } وفى الكتاب بيان الحكم فاضيف اليه الحم كما فى صفة القرآن بشيرا ونذيرا لان فيه بيان التبشير والانذار وذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل مدراس اليهود فدعاهم الى الايمان فقال له رئيسهم نعيم بن عمرو على اى دين انت قال صلى اللّه عليه وسلم ( على ملة ابراهيم ) قال ان ابراهيم كانو يهوديا قال صلى اللّه عليه وسلم ( ان بيننا وبينكم التوراة فهاتوها فابوا ) وقال الكلبى نزلت الآية فى الرجم فخر رجل وامرأة من اهل خيبر وكانا فى شرف منهم وكان فى كتابهم الرجم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجاء رخصة عنده فحكم عليهم بالرجم فقالوا جرت علينا ليس عليهما الرجم فقال صلى اللّه عليه وسلم ( بينى وبينكم التوراة ) قالوا قد انصفتنا قال ( فمن اعلمكم بالتوراة ) قالوا ابن صوريا فأرسلوا اليه فدعا النبى عليه الصلاة والسلام بشيء من التوراة فيه الرجم دله على ذلك ابن سلام فقال له ( اقر فلما اتى على آية الرجم وضع كفه عليها ) وقام ابن سلام فرفع اصبعه عنها ثم قرأ على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة اذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وان كانت المرأة حبلى تربص حتى تضع ما فى بطنها وامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك ورجعوا كفارا فانزل اللّه هذه الآية

{ ثم يتولى فريق منهم } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع اليه ولم يصب به الكل لانه قال فى هذه السورة

{ من اهل الكتاب امة قائمة } وقال تعالى

{ امه يهدون بالحق وبه يعدلون } { وهم معرضون } بقلوبهم او اعتراض اى وهم قوم ديدنهم الاعراض عن الحق والاصرار على الباطل

٢٤

{ ذلك } اى التولى والاعراض

{ بانهم } اى حاصل بسبب انهم

{ قالوا لن تمسنا النار } باقتراف الذنوب وركوب المعاصى

{ الا اياما معدودات } اربعين يوما وهى مدة الايام التى عبدوا فيها العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك من قولهم ان آبائنا الانبياء يشفعون لنا او ان اللّه تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذب اولاده الا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح

قال ابن عباس رضى اللّه عنهما زعمت اليهود انهم وجدوا فى التوراة ان ما بين طرفى جهنم وتهلك واصل الجحيم سقر وفيها شجرة الزقوم فاذا اقتحموا من باب جهنم وتبادروا فى العذاب حتى انتهوا الى شجرة الزقوم وملأوا البطون قال لهم خازن سقر زعمتم ان النار لن تمسكم الا اياما معدودات قد خلت اربعون سنة وانتم فى الابد

٢٥

{ فكيف } اى فكيف يصنعون وكيف يكون حالهم وهو استعظام لما اعد لهم وتهويل لهم وانهم يقعون فيما لا حيلة فى دفعه والمخلص منه وان ما حدثوا به انفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون

{ اذا جمعناهم ليوم } اى لجزاء يوم

{ لا ريب فيه } اى فى وقوعه ووقوع ما فيه - روى - ان اول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفرة راية اليهود فيفضحهم اللّه على رؤس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار

{ ووفيت كل نفس ما كسبت } اى جزاء ما كسبت من غير نقص اصلا كما يزعمون

وفيه دلالة على ان العبادة لا تحبط وان المؤمن لا يخلد فى النار لان توفيه جزاء ايمانه وعمله لا يكون فى النار ولا قبل دخولها فاذا هى بعد الخلاص منها

{ وهم } اى كل الناس المدلول عليهم بل نفس

{ لا يظلمون } بزيادة عذاب او بنقص ثواب بل يصيب كلا منهم مقدار ما كسبه فاله تعالى ليس من شأنه العظيم ان يظلم عباده ولو مقال ذرة فيجازى المؤمنين بايمانهم والكافرين بكفرهم

فعلى العاقل ان لا يقطع رجاءه من اللّه تعالى وان كانت ذنوبه مثل زبد البحر فاللّه تعالى عند حسن الظن العبد به - روى - انه اذا كان يوم القيامة وسكن اهل الجنة الجنةواهل النار النار اذا بصوت حزين ينادى من دال النار يا حنان يا منان ياذا الجلال والاكرا فيقول اللّه تعالى يا جبريل اخرج هذا العبد الذى فى النار قال فيخرجه اسود كفرخ الحمام قد تناثر لحمه وذاب جسمه فينادى يا جبريل لا توقفنى بين يدى اللّه فافزع فيؤتى به الى اللّه فيقول له عبدى أتذكر ذنب كذا وكذا فى سنة كذا وكذا فيقول نعم يا رب فيقول اللّه اذهبوا بعبدى الى النار فيكون من العبد التفات فيقول اللّه ردوا عبدى الىّ فيرد اليه فيقول له عبدى ما كان التفاتك وهو اعلم فيقول يا رب اذنبت ولم اقطع رجائى منك وحاسبتنى ولم اقطع رجائى منك وادخلتنى النار ولم اقطع رجائى منك واخرجتن منها اليك ولم اقطع رجائى منك ثم رددتنى اليها ولم اقطع رجائى منك فيقول اللّه تبارك وتعالى وعزتى وجلالى وارتفاعى فى علو مكانى لأكونن عند ظن عبدى بى ولأحققن رجاءه فى اذهبوا بعبدى الى الجنة

خدايا بعزت كه خوارم مكن ... بذل بزه شر مسارم مكن

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ليس على اهل لا اله الا اللّه وحشة عند الموت ولا فى قبورهم ولا فى منشرهم كأننى باهل لا اله الا اللّه ينفضون التراب عن رؤسهم وهم يقولون الحمد للّه الذى اذهب عنا الحزن )

فالواجب على من كان مؤمنا وليس من اهل البدع ان يحمد اللّه على ما هداه وجعله مسلما من الامة الشريفة. ولذا قيل من علامات سوء العاقبة ان لا يشكر العبد على ما هدى به من الايمان والتوحيد. واهل الغرور فى الدنيا مخدوع بهم فى الآخرة فليس لهم عناية رحمانية وانما يقبل رجاء العبد اذا قارنه العمل والكاملون بعد ان بالغوا فى تزكية النفس ما زالوا يخافون من سوء العاقبة ويرجون حمة اللّه فكيف بنا ونحن متورطون فى آبار الاوزار لا توبة لنا ولا استغفار غير العناد والاصرار

قال الامام الهمام محمد الغزالى رحمه اللّه فى منهاج العابدين مقدمات التوبة ثلاث. احدها ذكر غاية قبح الذنوب. والثانية ذكر غاية عقوبة اللّه تعالى واليم سخطه وغضبه الذى لا طاقة لك به. والثالثة ذكر ضعفك وقلة حيلتك فان من لا يحتمل حر الشمس ولطمة شرطى وقرص نملة كيف يحتمل حر نار جهنم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيات كأعناق البخت وعقارب كالبغال خلقت من النار فى دار الغضب والبوار نعوذ باللّه نم سخطه وعذابه

مرامى ببايد جو طفلان كريست ... زشرم كناهان زطفلانة زيست

نكو كفت لقمان كه نازيستن ... به ازسالها بر خطا زيستن

هم ازبامداد آن در كلبه بست ... به ازسود وسرمايه دادن زيستن

٢٦

{ قل اللّهم } اصله يا اللّه فالميم عوض عن حرف النداء النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل وشددت لقيامها مقام حرفين.

وقيل اصله يا اللّه امنا بخير اى اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته

{ مالك الملك } اى مالك جنس الملك على الاطلاق ملكا حقيقا بحيث يتصرف فيه كيف يشاء له ايجاد واعداما واحياء واماتة وتعذيبا واثابة من غير مشارك ول ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فان الميم عنده تمنع الوصفية لانه ليس فى الاسماء الموصوفة شىء على حد اللّهم

{ تؤتى الملك } بيان لبعض وجوه التصرف الذى يستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى وكون مالكية الغير بطريق المجاز كما ينبىء عنه ايثار الايتاء الذى هو مجرد الاعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة

{ من يشاء } ايتاءه اياه

{ وتنزع الملك ممن تشاء } نزعه منه فالملك الاول حقيقى عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبيتهما الى صاحبهما مجازية

{ وتعز من تشاء } ان تعزه فى الدنيا او فى الآخرة او فى فيهما بالنصر والوفيق

{ وتذل من تشاء } ان تذله فى احداهما او فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة

{ بيدك الخير } وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص اى بقدرتك الخير كله لا بقدرة احد من غيرك تتصرف فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لان الكلام انما وقع فى الخير الذى يسوقه الى المؤمنين وهو الذى انكرته الكفرة فقال بيدك الخير تؤتيه اولياءك على رغم من اعدائك ولان كل افعال اللّه تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كأيتاء الملك ونزعه او لمراعاة الادب فان فى الخطاب بان الشر منك وبيدك ترك ادب وام كان الكل من اللّه تعالى - روى - ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خط الخندق عام الاحزاب وقطع لكل عشرة من اهل المدينة اربعين ذراعا وجميع من وافى الخندق من القبائل عششرة آلاف واخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالقيل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبره فجاء عليه السلام واخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها مقدار ثلثها وبرق منها برق اضاء ما بين لابتيها كانه مصباح فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال ( اضاءت لى منها قصور الحيرة كانها انياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية فقال ( اضاءت لى منها القصور الحمر فى ارض الروم ) ثم ضرب الثالثة فقال ( اضاءت لى قصورة صنعاء واخبرنى جبريل عليه السلام ان امتى ظاهرة على الامم كلها فابشروا ) فقال المنافقون ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وانتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون ان تبرزوا فنزلت

{ انك على كل شىء قدير } من الاعزاز والاذلال

٢٧

{ تولج } اى تدخل

{ الليل فى النهار } بنقص الاول وزيادة الثانى حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات

{ وتولج النهر فى الليل } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات

{ وتخرج الحى من الميت } اى تظهر الحيوان من النطفة او الطير من البيضة او العالم من الجاهل او المؤمن من الكافر او النبات من الارض اليابسة

{ وتخرج الميت من الحى } وهذا عكس الاول

{ وترزق من تشاء بغير حساب } قال ابو العباس المقرى ورد لفظ الحساب فى القرآن على ثلاثة اوجه بمعنى التعب قال تعالى

{ ترزق من تشاء بغير حساب } وبمعنى العدد قال تعالى

{ انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب } وبمعنى المطالبة

{ فامنن او امسك بغير حساب } والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل ترزق او من مفعوله وفيه دلالة على ان من قدر على امثال هاتيك الافاعيل العظام المحيرة للعقول فقدرته على ان ينزع الملك من العجم ويذل ويؤتيه العرب ويعزهم اهون من كل هين

عن على رضى اللّه عنه انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد اللّه انه لا اله الا هو الى قوله تعالى ان الدين عند اللّه الاسلام وقل اللّهم الى قوله تعالى بغير حساب معلقات ما بينهن وبين اللّه حجاب قلن يارب أتهبطنا الى ارضك والى من يعصيك قال اللّه عز وجل انى حلفت انه لا يقرأهن احد دبر كل صلاة الا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه واسطنته فى حظيرة القدس ونظرت اليه بعينى كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة ادناها المغفرة واعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم ) وفى بعض الكتب ( انا اللّه ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدى فان العباد اطاعونى جعلتهم لهم رحمة وان العباد عصونى جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا الى اعطفهم عليكم ) وهو معنى قوله عليه السلام ( كما تكونون يولى عليكم ) معناه ان كنتم من اهل الطاعة يول عليكم اهل الرحمة وان كنتم من اهل المعصية يول عليكم اهل العقوبة

وجاء فى الخبر ان موسى عليه السلام قال فى مناجاته [ يا رب انت فى السماء ونحن فى الارض فما علامة سخطك من رضاك فاوحى اللّه اليه اذا استعملت على الناس خيارهم فهو علامة رضاى واذا استعملت شرارهم فهو علامة سخطى عليهم ]

قال الحجاج بن يوسف حين قيل له لم لا تعدل مثل عمر رضى اللّه عنه وانت قد ادركت خلافته أفلم ترعد له وصلاحه فقال فى جوابهم تبذوروا أتعمر لكم اى كونوا كأبى ذر فى الزهد والتقوى اعاملكم معاملة عمر فى العدل والانصاف

وفيه اشارة الى ان الولاة انما يكونون على حسل اعمال الرعايا واحوالهم صلاحا وفسادا فعلى كل واحد من المسلمين التضرع للّه تعالى والانابة اليه بالتوبة والاستغفار عند فشّو الظلم وشمول الجور ويظهر جور الوالى وعد له فى الضرع والزع والاشجار والاثمار والمكاسل والحرف يعنى يقل لين الضرع وتنزلع بركة الزرع وتنقص ثمار الاشجار وتكسد معاملة التجار واهل الحرف فى الامصار التي نلك فيها ذلك الملك الجائر بشؤم ظلمه وسوء فعله ويكون الامر على العكس اذا عدل ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب اليه طاووس ان اردت ان يكون عملك خيرا كله فاستعمل اهل الخير فقال كفى بها موعظة

بندم اكر بشنوى اى بادشاه ... درهمه دفتر به ازين بند نيست

جز بخر دمند مفرما عمل ... كرجه عمل كارخردمند نسيت

قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( سيأتى زمان لامتى يكون امراؤهم على الجور وعلماؤهم على الطمع وعبادهم على الرياء وتجارهم على اكل الربا ونساؤهم على زينة الدنيا )

٢٨

{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء } نهوا عن موالاتهم لقرابة او صداقة جاهلية او جوار ونحوها من اسباب المصادقة والمعاشرة حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم الا للّه تعالى او عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الامور الدينية

{ من دون المؤمنين } فى موضع الحال اى متجاوزين المؤمنين اليم استقلالا او اشتراكا. وفيه اشارة الى انهم الاحقاء بالمولاة وان فى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكافرين اى استغناء فلا تؤثروهم عليهم فى الولاية

{ ومن يفعل ذلك } اى اتخاذهم اولياء

{ فليس من اللّه } اى من ولايته تعالى

{ فى شيء } يصح ان يطلق عليه اسم الولاية يعنى انه منسلخ من ولاية اللّه راسا وهذا امر معقول فان موالالة الولى ومولاة عده متنافيان : قال

تود عدوى ثم تزعم اننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب

النوك الحمق. والعازب البعيد والمعنى الصديق هو من يودك ويبغض عدوك. والاداء ايضا ثلاثة عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك

بشوى اى خرمند ازان دوست دست ... كه بادشمنانت بود هم نشست

{ الا ان تتقوا } استثناء من اعم الاوال كأنه قيل لا تتخذوهم اولياء ظاهرا وباطنا فى حال من الاحوال الا حال اتقائكم

{ منهم } اى من جهتهم

{ تقاة } اى اتقاء بان تغلب الكفار او يكون المؤمن بينهم فان اظهار المولاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا واظهار ما فى الضمير كما قال عيسى عليه السلام [ كن واسطا وامش جانبا ] اى كم فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة [ ولا تخالطهم مخالطة الاوداء ولا تتيسر بسيرتهم ] وهذا رصة فلو صبر حتى قتل كان اجره عظيما

{ ويحذركم اللّه نفسه } اى يخوفكم اللّه ذاته المقدسة كقوله تعالى ( فاتقون. واخشون ) اى من سخطى وعقوبتى فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة اعدائه وهذا وعيد شديد

{ والى اللّه المصير } اى الى جزاء اللّه مرجع الخلق فيجزى كلا بعمله

٢٩

{ قل ان تخفوا ما فى صدوركم } من الضمائر التى من جملتها ولاية الكفرة

{ او تبدوه } فيما بينكم

{ يعلمه اللّه } فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم اليه

{ ويعلم ما فى السموات وما فى الارض } لا يخفى عليه منه شيء قط فلا يخفى عليه سركم وعلنكم وهو من باب ايراد العام بعد الخاص تأكيد له وتقريرا

{ واللّه على كل شىء قدير } فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه عنه ان لم نتتهوا عما نهيتم عنه وهذا بيان لقوله تعالى

{ ويحذركم اللّه نفسه } لان نفسه وهى ذاته المتميزة من شائر الذوات متصفة بعلم ذاتى لا يختص بمعلوم دون المعلوم فهى متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدرو دون مقدور فهى قاردة على المقدورات كلها فكان حقها ان تحذر وتتقى فلا يجسر احد على قبيح ولا يقصر عن واجب فان ذلك مطلع عليه لا محالة والاحق به العذاب ولو علم بعض عبيد السلطان انه اراد الاطلاع على احواله مما يورد ويصدر ونصب عليه عيونا وبث من يتجسس عن بواطن اموره لاخذ حذره وتيقظ فى امره واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به فما بال من علم ان اللّه الذي يعلم السر واخفى مهيمن عليه وهو آمن اللّهم انا نعوذبك من اغترارنا بسترك كذا فى الكشاف

فالعاقل يخاف من اللّه ويكون حبه وبغضه للّه يوالى المؤمنين ويعادى الكافرين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اربعة منهم ورجل لا يرى الكسب ويأكل من كسب الناس )

كر آنها كه ميكفتمى كردمى ... نكو سيرت بارسا بودمى

والحب فى اللّه والبغض فى اللّه باب عظيم واصل من اصول الايمان وخلق سنى والمحبة الصادقة لا تكون الا عند المصافاة فى الباطن وهى مبنية على اتفاق العقيدة والوجهة لان القلوب تتناسب فتتصافى فان لم يكن بينهما التوافق المعنوى واتفق بين اربابها المصالحة والمؤانسة بحسب المماثلة النوعية والالفة النفسية والجنسية و الصورية اعدت الرذائل صاحب الفضائل باستغراق النفس فتشابه وتخالق كما قيل

عن المر لا تسال وابصر قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى

وقال على رضى اللّه عنه

فلا تصحب اخا الجهل ... واياك واياه

فكم من جاهل اردى ... حليما حين اخاه

يقاس المرء بالمرء ... اذا ما هو ما شاه

وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه

واذا كان الرجل مبتلى بصحبة الفجار فى سفره للحج او للغزاء لا يترك الطاعة بصحبتهم ولكن يكره بقلبه ولا يرضى به فلعل الفاسق يتوب ببركة كراهة قلبه - حكى - ان حاتما وشقيقا خرجا فى سفر فصحبهما شيخ فاسق وكان يضرب بالمعزف فى الطريق وارادوا ان يتفرقوا قال لهما ذلك الشيخ الفاسق اعذرنا فانا هذا شقيق وانا حاتم فتاب الرجل وكسر ذلك المعزف وجعل يتلمذ عندهما ويخدمهما فقال شقسق لحاتم كيف رأيت صبر الرجال

نه آنكه بر در دعوى نشيد از خلقى ... كه كر خلاف كنندش بجنك برخيزد

وكر زكوة فرو غلطد آسيا سنكى ... نه عارفست كه از راه سنك برخيزد

وينبغى ان يعلم ام المؤمن كما يلزم له ان يقطع الموالاة عن الكفار كذلك يقطع ذلك عن الاقرباء الفجار كما قيل

جون نبود خويش را ديانت وتقوى ... قطع رحم بعتر از مودت قربى

فان قلت هذا مخالف للقرآن فانه ناطق بصلة الارحام مطلقا قلت هو موافق كما قال تعالى

{ وان جاهدك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما } فمن تسبب لشقاوتك يجب تقاطعك عنه وان كان ذا قرابتك

هزار خويش كه بيكانه از خذا باشد ... فداى يك تن بيكانه كاشنا باشد

فعليك بقطع التعلق من الاغيار وبالاقتداء بهدى الانبياء الاخيار قال خليل اللّه عليه السلام فانهم عد لى الا رب العالمين. ومن موالاة الكفار المواكلة معهم بغير عذر اقتضاها. ومن القول الشنيع ان يقال لهم جلبى كما يقول لهم سفهاء زماننا فان معنى جلبى منسوب الى جلب وجلب اسم اللّه تعالى وهم تارى دون نورى فكيف يصح نسبتهم الى اللّه والعياذ باللّه

٣٠

{ يوم } منصوب بتود

{ تجد كل نفس } اى من النفوس المكلفة

{ ما عملت من خير محضر } عندها بامر اللّه تعالى

{ وما عملت من سوء } عطف على ما عملت والاحضار معتبر فيه ايضا الا انه خص بالذكر فى الخير للاشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون احضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية

{ تود } اى تحب وتتمنى يوم تجج صحائف اعمالها من الخير والشر او اجزيتها محضرة

{ لو ان بيها وبينه } اى بين النفس وبين ذلك اليوم وهو له او بين العمل السوء

{ امدا بعيدا } اى مسافة واسعة كما بين المشرق والمغرب ولم تحضر ذلك اليوم او لم تعمل ذلك السوء قط

{ ويحذركم اللّه نفسه } اى يقول اللّه اياكم ونفسى يعنى احذورا من سخطى وهو تكرير لما سبق ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه

{ واللّه رؤف بالعباد } يعنى ان تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لانهم اذا عرفوه حق المعرفة وحذروه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لانهم اذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك الى طلب رضاه واجتناب سخطه فيحذرهم تحذير الوالد المشفق ولده عما يوبقه

قال القشيرى رحمه اللّه هذا للمستأنفين وقوله

{ ويحذركم اللّه نفسه } للعارفين اولئك اصحاب التخفيف والتسهيل وهؤلاء اصحاب التخويف والتهويل ونظيره بشر المذنبين وانذر الصديقين فاللّه تعالى يمهل ولا يهمل فيجب ان لا يغتر العبد بامهاله بل يتأهب ليوم حسابه وجزائه

درخير بازاست وطاعت وليك ... نه هر كس تواناست برفعل نيك

واعلم ما يعمله الانسان اويقوله ينتفش فى صحائف النفوس السماوية واذا تكرر صار ملكة راسخة لكنه مشغول عن تلك الهيآت الثابتة فى نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية والوهمية والفكرية فاذا فارقت النفس الجسد وقامت قيامتها وجدت ما عملت من خير وشر محضرا لارتفاع الشواغل المانعة كقوله تعالى

{ احصاه اللّه ونسوه } فان كان شرا تتمنى البعد فيما بينها وما بين ذلك اليوم او ذلك العمل لتعذبها به فتصير تلك الهيآت صورتها ان كانت راسخة والاصورة تعذبها وتعذبت بحسبها ومن اللّه العصمة : قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره

هر خيالى كو كمد در دل وطن ... روز محشر صورتى خواهد شدن

سيرتى كان در وجدت غالب است ... هم برآن تصوير حشرت واجب است

فعلى العاقل تن يزكى نفسه عن الاخلاق الذميمة ويطهر لبه كى يجدها عند ره يوم احتياجه ويفوز بالسعادة قال ريول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يحشر الناس يوم القيامة اجوع ما كانوا قط واظمأ ما كانوا قط واعرى من كانوا قط وانصب ما كانوا قط فمن اطعم اللّه اطعمه ومن سقى اللّه سقاه ومن كسا اللّه كساه ومن عمل للّه كفاه )

وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( يا حنان يا منان ياذا الجلال والاكرام باعد بينى وبين خطيئتى كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقنى من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس واغسلنى بماء الثلج والبرد سبحان اللّه وبحمده استغفر اللّه العظيم واتوب اليه ) ونظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما على اصحابه حوله فقال ( ايها الناس لا تعجبوا بانفسكم وبكثرة اعمالكم وبقلة ذنوبكم ولا تعجبوا بامرىء حتى تعلموا بم يختم له ) قال عليه السلام ( فانما الاعمال بخواتيمها ولوان احدكم جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لتمنى الزيادة لهول ما يقدم عليه يوم القيامة )

٣١

{ قل ان كنتم تحبوت اللّه فاتبعونى } اثبت فيه الياء لانه اصل ولم يثبت فى فاتقون واطيعون لانه ختم آية ينوى بها الوقف

{ يحببكم اللّه } نزلت حين دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كعب بن الاشرف ومن تابعة الى الايمان فقالوا

{ نحن ابناء اللّه واحباؤه } فقال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم انى رسول اللّه ادعوكم اليه فان كنتم تحبونه فاتبعونى على دينه وامتثلوا امرى يحببكم اللّه ويرض عنكم. والمحبة ميل النفس الى الشىء لكمال ادركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها اليه والعبد اذا علم ان الكمال الحقيقى ليس الا للّه وان كل ما يراه كمالا من نفسه او غيره فهو من اللّه وباللّه والى اللّه لم يكن حبه الا للّه وفى اللّه وذلك يقتضى ارادة طاعته. والرغبة فيما يقربه اليه فلذلك فسرت المحبة بارادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم فى طاعته على مطاوعته

{ ويغفر لكم ذنوبكم } اى يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جنات عزه ويبوئكم فى جوار قدسه. عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة او المشاكلة

{ واللّه غفور رحيم } اى لمن كان يتحبب للنصارى ويتبع عيسى ابن مريم فنزل قوله تعالى

٣٢

{ قل اطيعوا اللّه والرسول } اى فى جميع الاوامر والنواهى فيدخل فى ذلك الطاعة فى اتباعه صلى اللّه عليه وسلم دخولا اوليا

{ فان تولوا } اما من تمام مقول القول فهى صيغة المضارع المخاطب بحذف احدى التاءين اى تتولوا وتعرضوا

واما كلام منفرع مسوق من جهته تعالى فهى صيغة الماضى الغائب وفى ترك ذكر احتمال الا طاعة كما فى قوله تعالى

{ فان اسلموا } تلويح الى لانه غير محتمل عنهم

{ فانه اللّه لا يحب الكافرين } نفى المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم اى لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم

ودلت الآية على شرف النبى عليه السلام فانه جعل متابعته حبيبه وقارم طاعته بطاعته فمن ادعى محبة اللّه وخالف سنة نبيه فهو كذاب بنص كتال اللّه تعالى كما قيل

تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا محال فى الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لاطعته ... ان المحب لمن يحب مطيع

قال الامام القشيرى رحمه اللّه قطع اللّه اطماع الكل ان يسلم لاحدهم نفسه الا مقتداهم سيد الاولين والآخرين

وقال القاشانى محبة النبى عليه السلام انما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة وعقيدة ولا تتمشى دعوى المحبة الا بهذا فانه قطب المحبة ومظهرها وطريقته صلى اللّه ع ليه وسلم المحبة فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب واذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبى وسره وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة فلزم بهذه المناسبة ان يكون لهذا التابع قسط من محبة اللّه بقدر نصيبه من المتابعة فليقى اللّه محبته عليه ويسرى من روح النبى نور تلك المحبة ايضا الى قلبه اسرع ما يكون اذلولا محبة اللّه لم يكن محباله ثم نزل عن هذا المقام لانه اعز من الكبريت الاحمر ودعاهم الى ما هو اعم من مقام المحب وهو مقام الارادة فقال

{ قل اطيعوا اللّه والرسول } اى ان لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبى فلا اقل من ان تكونوا مريدين مطيعين لما امرتم به فان المريد يلزمه طاعة المراد وامتثال امره

{ فان تولوا } اى ان اعرضوا عن ذلك ايضا فهم كفار محجوبون انتهى وروى البخارى وعن عبد اللّه بن هشام انه كانه مع النبى صلى اللّه عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر رضى اللّه عنه فقال عمر يا رسو ل اللّه انت احب الى من كل شىء الا نفسى فقال عليه السلام

( والذى نفس محمد بيده لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه ) فقال عمر فانه الآن واللّه انت احب الى من نفسى فقال عليه السلام ( الآن يا عمر صار ايمانك كاملا ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( كل امتى يدخلون الجنة الا من ابى ) قالو من يأبى قال ( من اطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى ) وعن جابر بن عبد اللّه انه قال جاءت ملائكة الى النبى صلى اللّه عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن اجاب الداعى دخل الدار واكل من المأدبة ومن لم يجب الداعى لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا او لوها له يفقهها فقالوا الدار الجنة والداعى محمد فمن اطاع محمدا فقد اطاع اللّه ومن عصى محمدا فقد عصى اللّه ومحمد فرق بين الناس فبمتابعة النبى صلى اللّه عليه وسلم تحصل الجنة والقربة والوصلة - روى ان محمود الغازى دخل على الشيخ الربانى ابى الحسن الخرقانى قدس سره لزيارته وجلس ساعة ثم قال يا شيخ ما تقول فى حق ابى يزيد البسطامى قدس سره فقال الشيخ هو رجل من اتبعه اهتدى واتصل بسعادة لا تخفى فقال محمود وكيف ذلك وابو جهل رأى رسول اللّه عليه السلام ولم يخلص من الشقاوة فقال الشيخ فى جوابه ان ابا جهل ما رأى رسول اللّه عليه السلام ولم يخلث من الشقاوة فقال اشيخ فى جوابه ان ابا جهل كا رأى رسول اللّه انما رى محمد بن عبد اللّه حتى لو كان رأى رسول اللّه عليه السلام لخرج من الشقاوة ودخل فى السعادة ثم قال ومصداق ذلك قول اللّه تعالى

{ وتراهم ينظرون اليك وهو لا يبصرون } فالنظر بعين الرأس لا يوجب هذه السعادة بل النظر بعين السرو والقلب والمتابعة التامة تورث ذلك. وامته صلى اللّه عليه وسلم من اتبعه ولا يتبعه الا من اعرض عن الدنيا فاته عليه السلام ما دعا الا الى اللّه واليوم الآخر وما صرف الا عن الدنيا عدلت عن سبيله واعرضت عن متابعته ولحقت بالذين قال اللّه تعالى فيهم

{ فاما من طغى وآثر الحيوة الدنيا فان الجحيم هى المأوى } ولو خرجت عن مكمن الغرور وانصفت من نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت انك من حين تمسى الى حين تصبح لا تسعى الا فى الحظوظ العاجلة ولا تتحرك الا برجل الدنا الفانية ثم تطمع فى ان تكون غدا من امته واتباعه ويحك ما ابعد ظننا وما افحش طمعنا قال اللّه تعالى { أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون }

٣٣

{ ان اللّه اصطفى آدم } الاصطفاء اخذ ماصفا من الشىء كالاستصفا اى اختار آدم بالنفس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة فى نفس المصطفى كما فى كافة الرسل عليهم السلام او فيمن يلابسه وينشأ منه كما فى مريم او اصطفاه بان خلقه بيده فى احسن تقويم وبتعليم الاسماء واسجاد الملائك اياه واسكانه الجنة

{ و } اصطفى

{ نوحا } بما ذكر من الوجه الاول او اصطفاه بكونه اول من نسخ الشرائع اذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حرما وباطلة عمرة وجعل ذريته هم الباقين استجابة دعوته فى حق الكرة والمؤمنين وحمله على متن الماء

{ و } اصطفى

{ آل ابراهين } وهو اسماعيل واسحق والانبياء من اولادهما الذين ن جملتهم النبى صلى اللّه عليه وسلم ويفهم من اصطفائهم اصطفاء ابراهيم بطريق الاولوية

{ و } اصطفى

{ آل عمران } وهو عيسى وامه مريم ابنه عمران بن ماتان بن العادر بن ابى هود بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن اوشا بن اوموذر ابن ميشك بن خارقا بن يومانام بن غرزيا بن يوازان بن ساقط بن ايشا بن راجقيم بن سليمان بن داود عليهما السلام بن ايشا بن عويل بن سلمون لن ياعر لن ممشون لن عمياد بن دام بن حضروم بن فارض بن يهودا بن يعقوب عليه السلام.

وقيل آل عمران هو موسى وهارون عليهما السلام ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام وبين العمرانين الف واثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه السلام بالاندراج فى آل ابراهيم والاول هو الاظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهارون عليهما السلام بالانتظام فى سلك آل ابراهيم انتظاما ظاهرا

{ على العالمين } جمع عالم وهو اسم لنوع من المخلوقين فيه علامة يمتازبها عن خلافه من الانواع كالملك والجن والانس يقال عالم البر وعالم البحر وعالم الارض وعالم السماء والمراد بالعالمين اهل زمان كل واحد منهم اى اصطفى كل واحد منهم على عالمى زمانه

٣٤

{ ذرية } نصب على البدلية من الآلين. والذر بفتح الذال البث والتفريق وسمى نسل الثقلين ذرية لا اللّه تعالى قد بثهم فى الارض او لان اللّه اخرج نسل آدم عليه السلام من صلبه كهيئة الذر وهو جمع ذرة وهى اصغر النمل والذرء ايضا الخلق واللّه تعالى خلقهم واظهرهم من العدم الى الوجود

{ بعضها من بعض } فى محل النصب على انه صفته لذرية يعنى ان الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض قان آل ابراهيم اعنى اسماعيل واسحق متشعبان من اببراهين المتشعب من نوح المتشعب من آدم واولادهما الى آخر انبياء بينى اسرائيل والى خاتم الانبياء والمرسلين صلوات اللّه عليهم اجمعين متشعبون منهما وآل عمران وهو موسى وهارون من ذرية ابراهيم نوح وآدم وكذا عيسى وامه مريم عليهما السلام

{ واللّه سميع } لاقوال العباد

{ عليم } باعمالهم البادية والخافية فيصطفى من يبينهم لخدمته من يظهر استقامته قولا وفعلا على نهج قوله تعالى

{ اللّه اعلم حيث يجعل رسالته } ودلت الآية على صحة انكحه الكفار حيث ثبت نسب بعضهم من بعض بها قال صلى اللّه عليه وسلم ( ولدت من نكاح لا من سفاح )

واعلم ان الاصطفاء اعم من المحبة والخلة فيشمل الانبياء كلهم لانهم خيرة اللّه وصفوته وتفاضل فيه مراتبهم كمال قال تعالى

{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } فاخص المراتب هو المحبة المشار اليها بقوله

{ ورفع بعضهم درجات } فلذلك كان افضلهم حبيب اللّه محمدا عليه السلام ثم الخلة التى هى صفة ابراهيم عليه السلام واعمها الصفاء الذى هو صفة آدم صفى اللّه عليه السلام

{ ذرية بعضها من بعض } فى الدين والحقيقة اذ الولاة قسمان صورية ومعنوية فكل نبى يتبع نبيا آخر ف التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من اصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ فى زماننا هذا وكما قيل الآباء ثلاثة اب ولدك واب رباك واب علمك وكما ان وجود البدن فى الولادة الصورية يتولد فى رحم امه من نطفة ابي فكذلك وجود القلب فى الولادة الحقيقية يزهر فى رحم استعداد النفس من نفخة الشيخ والمعلم والى هذه الولادة اشار عيسى عليه السلام بقوله [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] ثم اعلم ان الولادة المعنوية اكثرها تتبع الصورية فى التناسل ولذلك كان الانبياء فى الظاهر ايضا نسلا واحدا ثمرة شجرة واحدة وسببه ان الروح فى الصفاء والكدورة يناسب المزاج فى القرب من الاعتدال الحقيقى وعدمه وقت التكون فلكل روح مزاج يناسبه ويخصه اذ الفيض يضل بحسب المناسبة وتتفاوت الارواح فى الازل بحسب صفوتها ومراتبها فى القرب والبعد عن الحضرة الحدية فتتفاوت الامزجة بحسبها فى الابد لتتصل بها والابدان المتناسلة بعضها من بعض متشابهة فى الامزجة على الاكثر اللّهم الا لامر عارضة اتفاقية فكذلك الارواح المتصلة بها متقاربة فى الرتبة متناسبة فى الصفة وهذامما يقوى ان المهدى يكون من نسل محمد عليه السلام.

والاغذية مؤثرة فى البدن. فمن كان غذائه حلالا طبيا وهيأت نفسه فاضلة نورانية ونياته صادقة حقانية جاء لد مؤمنا صديقا او وليا او نبيا. ومن كان غذائه حراما وهيآت نفسه خبيثى ظلمانية ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقا او كافرا او زنديقا اذا لنطفة التى يكون الولد منها مولدة من ذلك الغذاء مرباة فى تلك النفس فيناسبها ولهذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( الولد سر ابيه ) وكان صدق مريم ونبوة عيسى ببركة صدق نيتها

٣٥

{ اذ } منصوب باذكر

{ قالت امرأة عمران } وهو امرأة عمران بن ماثان ام مريم البتول جدة عيسى عليه السلام وهى حتة بنت فاقوذا

فان قلت كان لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم اكبر من موسى وهارون ولعمران بن ماثانن مريم البتول فما ادراك ان عمران هذا هة ابو مريم البتول دون عمران ابى مريم التى هى اخت موسى وهارون قلت

كفى لكفالة زكريا دليلا على انه عمران ابو البتول لا زكريا بن اذن وعمران بن ماثان كان فى عصر واحد وقد تزوج زكريا بنته اسيشاع اخت مريم فكان يحى وعيسى عليهما السلام ابنى خالة - روى - انها كانت عاقر لم تلد الى ان عجزت فبينا هى فى ظل جرة بصرت بطائر يطعم فرخالة فتحركن نفسها للولد ومنته فقالت اللّهم ان لك علىّ نذرا شكرا ان رزقتنى ولدا ان اتصدق له على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمة فحملت بمريم وهلم عمران وهى حامل وذلك قوله تعالى

{ رب انى نذرت لك } ةالنذر ما يوجبه الانسان على نفسه

{ ما فى بطنى } عبر عن الولد بما لا بهام امره وقصوره عن درجة العقلاء

{ محررا } اى معتقا لخدمة بيت المقدس لا يدنى عليه ولا استخدمه ولا اشغله بشىء او خالصا للّه ولعبادته لا يعمل عمل الدنيا ولا يتزوج فيتفرغ لعمل الآخرة وكان هذالنذر مشروعا عندهم لان الامر فى دينهم ان الولد اذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الابوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد ولم يكم احد من الانبياء الا ومن نسله محرر لبيت المقدس ولم يكن يحرر الا الغلمان ولا تصح له الجارية لما يصيبها من الحيض والاذى فتحاتج الى الخروج ولكن حررت حنة ما فى بطنها مطلقا اما لانها بنت الامر على تقدير الذكروة او النها جعلت ذلك النذر وسيلة الى طلب الولد الذكر

{ فتقبل منى } اى ما نذرته والتقبل. اخذ الشىء على وجه الرضى وهذا فى الحقيقة استدعاء للولد اذ لا يتصور القبول بدون المقبول بل للولد الذكر لعدم قبول الانثى

{ انك انت السميع } لجميع المسموعات التى من جملتها تضرعى ودعائى

{ العليم } لكل المعلونا التى من زمرتها ما فى ضميرى لا غير

٣٦

{ فلما وضعتها } اى ولدت النسمة وهى انثى

{ قالت } حنة وكانت ترجو ان تكون غلاما

{ رب انى } التأكيد للرد على اعتقادها الباطل

{ وضعتها انثى } تحسرا على ما رأته من خيبة رجائها وعكس تقديرها والضمير المتصل عائد الى النسمة وانثى حال منه

{ واللّه اعلم بما وضعت } تعظيم من جهته تعغلى لموضوعها فانها بما تحسرت وتحزنت على ان ولدت انثى قال اللّه تعالى انها لا تعلم قدر هذا الموهوب واللّه وهو العالم بالشىء الذى وضعته وما علق به من العجائب وعظائم الامور فانه تعالى سيجعله وولدة آية للعالمين وهى جاهل بذلك لا تعلم به فلذلك تحسرت وتحزنت

{ وليس الذكر كالانثى } مقول للّه ايضا مبين لتعظيم موضوعها ورفع منزلته. واللام فيهما للعهد اى ليس الذكر الذى كانت تطلبه وتتخيل فيه كمالا قصاراه ان يكون كواحد من السدنة كالانثى التى وهبت لها فان دائرة عملها وامنيتها لا تكاد تحيط بما فيها من جلائل الامور فهى افضل من مطلوبها وهى لا تعلم وهاتان الجملتان من مقول اللّه تعالى اعتراضان بين قول ام مريم

{ انى وضعتها انثى } وقولها

{ وانى سميتها مريم } وفائدتهما التسلية لنفس حنة والتعظيم لوضعها

{ وانى سميتها مريم } من مقول حنة عطف غعلى قولها

{ انى وضعتها } اى انى جعلت اسمها مريم فى لغتهم بمعنى العابدة وخادم الرب واظهار انها غير راجعة فى نيتها وان كان ما وضعته انثى وانها ان لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكم من العابدات فيه وظاهر هذا الكلام يدل على ان عمران كان قد مات قبل وضع حنة مريم ولا لما تولت الام تسمية المولود لان العادة ان التسمية يتولاها الآباء

{ وانى اعيذها بك } اى اجيرها بحفظك

{ وذريتها } عطف على الضمير المنصوب اى اولادها

{ من الشيطان الرجيم } اى المطرود. واصل الرجم الرمى بالحجارة وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسه الا مريم وابنها ) ومعناه ان الشيطان يطمع فى اغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الا مريم وابنها فان اللّه تعالى عصمهما ببركة هذه الاستعاذة

٣٧

{ فتقبلها } اى اخذ مريم ورضى بها فى النذر مكان الذكر

{ ربها } مالكها ومبلغها الى كمالها اللائق

{ بقبول حسن } بوجه حسن يقبل به النذائر وهو قبول تلك الانثى مع انوثتها وصغرها فان المعتاد فى تلك الشريعة ان لا يجوز التحرير الا فى حق غلام عاقل قادر على خدمة المسجد وهنا لما علم تعالى تضرع حنة قبل بنته حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد

{ وانبتها نباتا حسنا } مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها مما يصلح فى جميع احوالها ثم ان اللّه تعالى ذكر قبولها منها وذلك لضعفها وصدق نيتها فى الابتداء وحيائها فى النتهاء وكان فى ذلك الزمان اربعة آلاف محرر لم يشتهر خبر احد منهم اشتهار خبرها وفيه تنبيه للبعد على ان يرى من نفسه التقصير بعد جهدها ليقبل اللّه عملها لاظهار افلاسها واضمار اخلاصها رزقنا اللّه واياكم

طريقت همينست كاهل يقين ... نكو كار بودند وتقصير بين

واعلم انه سبحانه قطع السائرين له وهم المريدون والواصلين اليه وهم المرادون عن رؤية اعمالهم وشهود احوالهم. اما السائرون فلأنهم لم يتحققوا الصدق مع اللّه فيها فانقطعوا اليه برؤية تقصيرهم.

واما الواصلون فلأنه غيبهم شهوده عنها لانه الفعال وهو آلة مسخرة

ولما دخل الواسطى نيسابور سأل اصحاب الشيخ ابى عثمان المغربى بم يأمركم شيخكم قالوا كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها فقال امركم بالمجوسية المحضة هلا آمركم بالغيبة عنها بشهود منشئها ومجريها

قال القشيرى وانما اراد الواسطى صيانتهم عن محل الاعجاب لا تعريجا فى اوطان التقصير او تجويزا للاخلال بادب من الآداب

قال النهر جورى من علامة من تولاه اللّه فى اعماله ان يشهد التقصير فى اخلاصه والغفلة فى اذكراه والنقصان فى صدته والفتور فى مجاهدته وقلة المراعاة فى فقره فتكون جميع احواله عنده غير مرضية ويزداد فقرا الى اللّه فى فقرة وسيره حتى يفنى عن كل ما دونه

قال الشيخ ابو العباس رضى اللّه عنه فى اشارة قوله تعالى

{ يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل } يولج المعصية فى الطاعة ويولج الطاعة فى المعصية يطيع العبد الطاعة فيعجب بها ويعتمد عليها ويستصغر من لم يفعلها ويطلب من اللّه العوض عليها فهذه حسنة احاطت بها سيئات ويذنب الذنب فيلجأ الى اللّه فيه ويستصغر نفسه ويستعظم من لم يفعله فهذه سيئة احاطت بها سيئات فايتهما الطاعة وايتهما المعصية فعى السالك ان يجتهد فى الطاعات ولا يغتر بالعبادات لعله يصل الى غاية فى روضات الجنات

جه زرها بخاك سيه در كنند ... كه باشد كه رزوى مسى زركنند

يعنى ان المشتغلين بتحصيل صنعة الكيمياء يجعلون دنانير كثيرة تحت التراب اى يبذلونها لتحصيلها ويفرقونها فى اسبابها كى يصير النحاس فى ايديهم ذهبا بحتا ويتشرفوا بوصولها

زر ازبهر جيرى خريدن نكوست ... جه خواهى خريدن به ازوضل دوست

فالسعى فى الاعمال انما هو لطلب رضى اللّه ووصول جنابه وهو الذى يبذل فى طريقه المال والروح لينفتح باب الفتوح

قال الشيخ الشاذلى قدس سره فى لطائف المنن واعملوا ان اللّه اوع انوار الملكوت فى اصناف الطاعات فأى من فاته من الطاعات صنف او اغوزه من الموافقات جنس فقد فقد من النور بمقدار ذلك ولا تهملوا شيأ عن الطاعات ولا تستغنوا عن الاوراد بالواردات ولا ترضوا لانفسكم بما رضى به المردعون بحر الحقائق على ألسنتهم وخلوا انوارها من قلوبهم انتهى

فينبغى للعبد ان يواظب على اصناف الطاعات وينساها بعدما عملها كيلا يبطلها العجب لانه يقال حفظ الطاعة اشد من فعلها لان مثلها كمثل الزجاج يسرع اليه الكسر ولا يقبل الجبر وكذا الخيرات اذا ازيلت بالمخالفات

{ وكفلها زكريا } الفعل للّه تعالى بمعنى وضمنها اللّه الى زكريا وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها قائما بتدابير امورها والكافل هو الذى ينفق على انسان ويهتم باصلاح مصالحة وفى الحديث ( انا وكافل اليتيم كهاتين ) وهو زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من اولاد سليمان عليه السلام ابن داود عليه السلام - روى - ان حنة حين ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الاحبار ابناء هارون وهم فى بيت المقدس كالحجبة فى الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة اى خذوها فتنافسوا فيها لانها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فان بنى كاثان كانت رؤس بنى اسرائيل وملوكهم فقال لهم زكريا انا احق بها عندى خالتها فقالوا لا حتى نقرع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين الى نهر قيل هو نهر الاردن فالقوا فيه اقلامهم التى كانوا يكتبون بها الوحى على ان كل من ارتفع قلمه فهو الراجح فالقوا ثلاث مرات ففى كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت اقلامهم فتكفلها

قال الشيخ فى تفسيره وهو معنى قوله

{ فتقبلها ربها } الآية

{ كلما } اى كل وقت

{ دخل عليها } على مريم

{ زكريا } فاعلى دخل

{ المحراب } اى فى المحراب قيل بنى لها محرابا فى المسجد اى غرفة تصعد اليها بسلم او المحراب اشرف المجالس ومقدمها كانها وضعت فى اشراف موضع من بيت المقدس او كانت مساجدهم تسمى المحاريب - روى انها لا يدخل عليها الا هو وحده فاذا خرج غلق عليها سبعة ابواب فكلما دخل

{ وجد عندها رزقا } اى نوعا منه غير معتاد اذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها فى الصيف فاكهة الشتاء وفى الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثديا قط

{ قال } كأنه قيل فكاذا قال زكريا عليه السلام عند مشاهدة هذه الآية فقيل قال

{ يا مريم أنى لك هذا } اى من اين يجيء لك هذا الذى لا يشبه ارزاق الدنيا وهو آت فى غير حينه والابواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به اليك

{ قالت } مريم وهى صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب قيل تكلمت وهى صغيرة كما تكلم عليسى وهو فى المهد

{ هو من عند اللّه } فلا تعجب ولا تستبعد

{ ان اللّه يرزق من يشاء } ان يرزقه

{ بغير حساب } اى بغير تقدير لكثرته او بلا محاسبة او من حيث لا يحتسب وهو تعليل لكونه من عند اللّه اما من تمام كلامها فيكون فى محل النصب وما من كلامه عز وجل وفهو مستأنف

وفى الآية دليل على جواز الكرامة للاولياء ومن انكرها جعل هذا ارهاصا وتأسيسا لرسالة عليه السلام

عن النبى صلى اللّه عليه وسلم انه جاع فى زمن قحط فاهدت له فاطمة رضى اللّه عنها رغيفين وبضعة لحم اثرته بها فرجع بها اليها وقال ( هلمى يا بنية ) فكشفت عن الطبق فاذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت انها نزلت من عند اللّه فقال لها صلى اللّه عليه وسلم ( أنى لك هذا ) فقالت هو من عند اللّه ان اللّه يرزق من يشاء بغير حساب فقال صلى اللّه عليه وسلم ( الحمد للّه الذى جعلك شبهة بسيدة بنى اسرائيل ) ثم جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا والحسنين رضى اللّه عنهم وجمع اهل بيته عليه فاكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو فاوسعت فاطمة رضى اللّه عنها على جيرانها

وقد ظهر على السلف رضى اللّه عنهم من الصحابة والتابعين ثم على من بعدهم من الكرامات

قال سهل بن عبد اللّه رضى اللّه عنه اكبر الكرامات ان تبدل خلقا مذموما من اخلاقك

قال الشيخ ابو العباس رضى اللّه رحمه اللّه ليس من الشأن من تطوى له الارض فاذا هو بمكة وغيرها من البلدان انما الشأن من تطوى عنه اوصاف نفسه

وقيل لابى يزيد ان فلانا يمشى على الماء قال قال الحوت اعجب منه اذ هو شأنه فقيل له ان فلانا يمشى فى الهواء قال الطير اعجب ن ذلك اذ هو حاله تطوى له الارض كلها فى لحظة وهو فى لعنه اللّه فالطى الحقيقة ان تطوى مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة اقرب اليك منك لان الارض تطوى لك فاذا انت حيث شئت من البلاد لان هذا ربما جر الى الاغترار وذلك يؤدى للتلعق بالواحد القهار - وحكى - عن ابى عنوان الواسطى قال انكسرت السفينة وبقيت انا وامرأتى اياما على لوح وقد ولدت فى تلك الحالة صبية فصحات بى فقالت يقتلنى العطش فرفعت رأسى فاذا رجل فى الهواء جالس وفى يده سلسة من ذهب وفيها كوز من ياقوت احمر وقال هاك اشربا قال فاخذت الكوز وشربنا منه فاذا هو اطيل من المسك واحلى من العسل فقلت من انت يرحمك اللّه قال انا عبد لمولاك فقلت بم وصلت الى هذا فقال تركت هواى لمرضاته فاجلسنى فى الهواء ثم غاب عنى فلم اره وحج سفيان الثورى مع شيبان الراعى رضى اللّه عنهما فعرض لهما سبع فقال سفيان لشيان اما ترى هذا السبع فقال لا تخف واخذ شيبان ادنيه فعركهما فتبصبص وحرك ذنبه فقال سفيان ما هذه الشهرة فال لولا مخافة الشهرة لما وضعت زادى الاعلى ظهرى حتى آتى مكة

توهم كردن از حكم داور مبيج ... كه كردن نه بيددزحكم توهيج

محالست جون دوست داردترا ... كه دردست دشمن كذارد ترا

٣٨

{ هنالك } اى حيث كان قاعدا عند مريم فى المحراب ولما رأى زكريا عليه السلام حال مريم فى كرامتها على اللّه ومنزلتها رغب فى ان يكون له من ايشاع ولد مثل ولد اختها حنة فى النجابة والكرامة على اللّه وان كانت عاقرا عجوزا فقد كانت اختها كذلك

{ دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك } اى اعطنى من محض قدرتك من غير وسط معتاد

{ ذرية طيبة } اى ولدا صالحا باركا تقيا رضيا مرضيا. والذرية النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والانثى والمراد ههنا ولد واحد. والطيب هو الذى تستطاب افعاله واخلاقه فلا يكون فيه امر سيتخبث ويعاب

{ انك سميع الدعاء } اى مجيبه كما فى قولهم سمع اللّه لمن حمده وهذا لان من لن يجب فكأنه لم يسمع

فان قيل ان زكريا كان عاملا ان فى قدرة اللّه ذلك قبل رؤية حال مريم فهلا سأل قبل ذلك

قلنا قد يزداد الانسان رغبة فى الشىء اذا عاينه وان كان عالما به قبله

٣٩

{ فنادته الملائكة } اى جبرائيل وحكم الواحد من الجنس قد ينسب الى الجنس نفسه نحو فلان يركب الخيل وانما يركب واحدا من افرادها ولما كان جبرائيل رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيما له

{ وهو } حال من مفعول النداء اى والحال ان زكريا عليه السلام

{ قائم يصلى فى المحراب } اى فى المسجد او فى غرفة مريم

{ ان اللّه } مفعول ثان لنادته اى بان اللّه تعالى

{ يبشرك بيحيى } اى بولد اسمه يحى لانه حى به رحم امه ولانه تحى به المجالس من وعظة والتقدير بولادة ولد اسمه يحى فان التبشير لا يتعلق بالعايان

{ مصدقا بكلمة من اللّه } اى بعيسى عليه السلام. وانما سمى كلمة لانه وجد بكلمة كن من غير اب فشابه البديعيات التى هى عالن الامر وهو اول من آمن بعيسى وصدق بانه كلمة من اللّه وروح منه ويسمى روحا ايضا لانه تعالى احيى به من الضلالة كما يحيى الانسان بالروح

قال السدى لقيت ام يحيى ام عيسى فقالت يا مريم اشعرت بحبلى فقالت مريم وانا ايضا حبلى قالت فانى وجدت ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك فذلك قوله تعالى

{ مصدقا } الخ وكان يحيى اكبر من عيسى بستة اشهر ثم قتل يحيى قبل ان رفع عيسى الى السماء

{ وسيدا } عطف على مصدقا اى رئيسا يسود قومه ويفوقهم فى الشرف وكان فائقا للناس قاطبة فانه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيالها ما اسناها

{ وحصورا } اى مبالغا فى حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة - روى - انه مر فى صباه بصبيان فدعوه الى اللعب فقال ما للعب خلقت. والحصور الممتنع من النساء مع القدرة عليهن وقد تزوج مع ذلك ليكون اغض لبصره

{ ونبيا } اى يوحى اليع اذا بلغ هو مبلغه

{ من الصالحين } اى ناشءا منهم لانه كان ن اصلاب الانبياء عليهم السلام. والصلاح صفة تنتظم الخير كله والمراد به هنا ما فوق لصلاح الذى لابد منه فى منصب النبوة البتة من اقاصى مراتبه

٤٠

{ قال } عند نداء الملائكة ايها وبشارتهم له بالولد بالاستفهام متعجبا من حيث العادة ومسرورا بالولد

{ رب أنى يكون لى } اى كيف يحص لى

{ غلام } وفيه دلالة على انه خبر غلاما عند التبشير

{ وقد بلغنى الكبر } اى ادركنى كبر السن واثر فىّ

وفيه دلالة على ان كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للانسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعوم

{ وامرأتى عاقر } اى ذات عقر وعقيلم لا تلد

{ قال } اى اللّه

{ كذلك } اشارة الى مصدر يفعل فى قوله تعالى

{ اللّه يفعل ما يشاء } اى ما يشاء ان يفعله من تعاجيب الافاعيل الخارقة للعادات. فاللّه مبتدأ ويفعل خبره والكاف فى محل النصب على انها فى الاصل نعت لمصدر محذوف اى اللّه يفعل ما يشاء ان يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى هو خلق الولد من شيخ فان وعجوز عاقر

٤١

{ قال رب اجعل لى آية } اى علامة تدل اى تحقق المسئول او وقوع الحبل وانما سألها لان العلوق امر خفى لا يوقف عليه فاراد ان يطلعه اللّه عليه ليلتقى تلك النعمة الجليلة منه حين حصولها بالشكر ولا يؤخره الى ان يظهر ظهورا معتاد

{ قال آيتك } اى علامة حدوث الولد

{ ان لا تكلم الناس } اى ان لا تقدر على تكليمهم

{ ثلاثة ايام } اى متوالية مع ليالها فان ذكر الليالى او الايام يقتضى دخول الاخرى فيها لغة وعرفا وانما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر اللّه وشكره قضاء لحق النعمة

{ الا رمزا } اى اشارة يبد او راس او نحوهما وسمى الرمز كلاما لانه يؤدى ما يؤدى الكلام ويفهم منه ما يفهم من الكلام فلهذا جاز الاستثناء المتصل منه ثم امره تعالى بذكره لعدم منعه عن ذكر اللّه فقال

{ واذكر ربك } اى فى ايام الحبسة شكرا لحصول التفضل والانعام

{ كثيرا } اى ذكر كثيرا

{ وسبح بالعشى } اى سبحه تعالى اى من الزوال الى الغروب

{ والابكار } من طلوع الفجر الى الضحى قال الامام فى قوله تعالى

{ واذكر ربك كثيرا } فيه قولان. احدهما انه تعالى امر بحبس لسانه عن امرو الدنيا الا رمزا فاما فى الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيدا وكان ذلك من المعجزات الباهرة. والقول الثانى ان المراد منه الذكر بالقلب وذلك لان المستغرقين فى بحار معرفة اللّه تعالى عادتهم فى اول الامر ان يواظبوا على الذكر اللسانى مدة فاذا امتلأ القلب من نور ذكر اللّه سكتوا باللسان وبقى الذكر بالقلب ولذلك قالوا من عرف اللّه كل لسانه فكان زكريا عليه السلام امر بالسكون باللسان والاستحضار معا فى الذكر والمعرفة واستدامتهما انتهى

واعلم ان الذكر على مراتب والذكر اللسانى بالنسبة الى الذكر القلبى تنزل - روى - ان عيسى عليه السلام حين ترقى الى اعلى مراتب الذكر جاءه ابليس فقال يا عيسى اذكر اللّه فتعجب عيسى من امره بالذكر مع ان جبلته على المنع منه ثم ظهر انه اراد ان يغويه وينزله من مرتبة الذكرالقلبى الى مرتبة الذكر اللسانى وذلك كان تنزلا بالنسبة الى مقامه عليه السلام

فعلى العاقل ان يداوم على الاذكار آناء الليل واطراف النهار فان الذكر يدفع هو النفس فاذا طرد ذلك من الباطن فلا سبيل للشيطان ايضا فى الظاهر فتعلق ابواب المنهيات بالكليات ويتصفى القلب ويتكدر

بيا بى بيفشان ازآيينه كرد ... كه صقيل نكيرد جو زنكار خورد

قال القشيرى فذكر اللسان به يصل العبد الى استدامة ذر القلب والتأثير للذكر فاذا كان العبد ذاكرا بلسانه وقلبه فهو الكامل فى وصفه فى حال سلوكه

قال سهل بن عبد اللّه رضى اللّه عنه ما من يوم الا والجليل سبحانه ينادى عبدى ما انصفتنى اذكرك وتنسانى وادعوك الىّ وتذهب الى غيرى واذهب عنك البلايا وانت معتكف على الخطايا يا ابن آدم ما تقول غدا اذا جئتنى

وقال الحسين افتقدوا الحلاوى فى ثلاثة اشياء فى الصلاة والذكر والقراءة قان وجدتم ولا فاعملوا ان الباب مغلق

قيل اذا تمكن الذكر من القلب فان دنا منه الشيطان صرخ كما يصرخ الانسان اذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون ما لهذا فيقول قد مسه الانس

قال بعضهم وصف لى ذاكرا فى اجمة فأتيته فبينما هو جالس اذا سبع عظيم ضربه ضربة واستلب منه قطعة فغشى عليه وعلىّ فلما افقت قلت ما هذا فقال قيض اللّه هذا السبع لى فكلما داخلتنى فترة غضنى كما رايت اوصلنا اللّه واياكم الى مرتبة اليقين وشرفنا بمقام التمكين واذاقنا حلاوة الذكر فى كل حين وادخلنا الجنة المعنوية مع عباده الصالحين اجمعين

٤٢

{ واذ قالت الملائكة } اى اذكر وقت قول الملائكة وهو جبريل بدلالة قوله تعالى فى سورة مريم

{ فارسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا } اى سوى الخلق لتستأنس به وانما جمع تعظيما له لانه كان رئيس الملائكة

{ يا مريم } وكلام جبريل معها لم يكن وحيا اليها فان اللّه يقول

{ وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحى اليهم } ولا نبوة فى النساء بالجماع. فكلمهما شفاها كرامة لها وكرامات الاولياء حق او اوهاصا لنبوة عيسى عليه السلام وهو من الرهص بالكسر وهو الصف الاسفل من الجدار وفى الاصطلاح ان يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كظلال الغمام لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتكلم الحجر والكدر والرمى بالشهب وقصة الفيل وغير ذلك

{ ان اللّه اصطفيك } اولا حيث تقبلك من امك بقبلو حسن ولم يتقبل غيرك انى ورباك فى حجر زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية

{ وطهرك } من الكفر والمعصية ومن الافعال الذميمة والعادات القبيحة ومن مسيس الرجال ومن الحيض والنفاس قالوا كانت مريم لا تحيض ومن تهمة اليهود وكذبهم بانطاق الطفل

{ واصطفيك } آخر

{ على نساء العالمين } بان وهب لك عيسى عليه السلام من غير اب ولم يكن ذلك لاحد من النساء وجعلكما آية للعالمين

٤٣

{ يا مريم اقنتى لربك } اى قونى فى الصلاة واطبلى القيام فيها له تعالى

{ واسجدى واركعى مع الراكعين } امرت بالصلاة بالجماعة بذكر اركانها القنوت وهو طول القيام والسجود والركوع مبالغة فى ايجاب رعايتها وايذانا بفضيلة كل منها واصالته. وتقدبم السجود على الركوع اما لكون الترتيب فى شريعتهم كذلك

واما لكون السجود افضل اركان الصلاة واقصى مراتب الخضوع ولا يقتضى ذلك كون الترتيب الخارجى كذلك بل اللائق به الترقى من الادنى الى الاعلى

واما ليقترن اركعى بالراكعين للاشعار بان من لا ركوع فى صلاتهم ليسوا مصلين قيل لما امرت بذلك قامت فى الصلاة حتى تورم قدماها وسالت دما وقيحا

٤٤

{ ذلك } اى ما ذكرنا فى القصص من حديث حنة ومريم وعيسى وزكريا ويحيى

{ من انباء الغيب } اى من اخبار الغيب التى لا يوقف عليها الا بمشاهدة او قراءة كتاب او تعلم من عالم او بوحى من عند اللّه تعالى وانعدمت الثلاثة الاول فتعينت الرابعة وهو الوحى

{ نوحيه اليك } اى ننزله عليك دلالة على صحة نبوتك والزاما على من يحاجونك من الكفار. والوحى فى القرآن لمعان للارسال الى الانبياء قال تعالى

{ نوحى اليهم } وللالهام قال تعالى

{ واوحينا الى ام موسى } ولالقاء المعنى المراد قال تعالى

{ بان ربك اوحى لها } وللاشارة قال تعالى

{ فاوحى اليهم ان يسبحوه بكرة وعشيا } واصل ذلك كله الاعلام فى خفاء

{ وما كنت لديهم } اى عند الذين اختلفوا وتنازعوا فى تربية مريم وهو تقرير لكونه وحيا على طريقة التهكم بمنكريه اى انهم عالمون لا يشكون انك لم تقرأ كتابا ولم تصحب من علم تلك الانباء حتى تسمع منهم فلم يبق الا المشاهدة وهى منتفية بالضرورة فكأنهم ادعوا هذا المحال لكونه يلزم منانكارهم الوحى اى ان لم يكن بالوحى كما زعموا فلا بد من دعوى المشاهدة ولم تمكن قال ابن الشيخ فى حواشيه كأنه قيل ايها المنكرون لان اوحى اليه والمتهمون فى دعوى نبوته ليس لكم فى سبب الاتهام سوى احتمال المشاهدة والعيان وانه غاية السفاهة ونهاية الخذلان ومن اضل ممن عدل عن الاحتمال ادعى الى الضحك والاستهزاء والسخرية من حال هؤلاء انتهى

{ اذ يلقون اقلامهم } التى كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركا بها

{ ايهم يكفل مريم } متعلق بمحذوف دل عليه يلقون اقلامهم اى يلقونها ينظرون او ليعلموا ايهم يكفلها

{ وما كنت لديهم اذ يختصمون } اى فى شأنها تنافسا فى كفالتها وقد ذكر فيما سبق

فى الآية دلالة على فضيلة مريم حيث اصطفاها اللّه على نساء العالمين فان جميع ما ذكر من التربية الجسمانية الائقة بحال صغرها والتربية الروحانية المتعلقة بحال كبرها لم يتفق لغيرها من الاناث

وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة قم آسية )

وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون ) وهو يدل على ان هؤلاء الاربع افضل من سائر النساء

واعلم ان اهل الكمال من الرجال كثير ولم يكمل نم النساء غير هذه الاربع ومعنى الكمال التناهى فى الفضائل والبر والتقوى وحسن الخصائل والكمال فى شىء ما يكون حصوله للكامل اولى من غيره والنبوة ليست اولى للنساء لان مبناها على الظهور والدعوة وحالهن الاستتار ولا تكون النبوة فى حقهن كمالا بل الكمال فى حقهن الصديقية وهى قريب من النبوة والصديق من صدق فى جميع اقواله وافعاله واحواله فمن النساء كاملات عارفات واصلات الى مقام الرجال فهن رجال فى المعنى

وسئل بعضهم عن الابدال فقال اربعون نفسا فقيل له لم لا تقول اربعون رجلا فقال لان فيهم نساء :

قال بعضهم

ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للّهلال

ويناسب هذا ما حكى ان ام محمد والدة الشيخ ابى عبد اللّه بن اخفيف رحمهما اللّه تعالى كانت من العادات القانتات وكان ابنها ابو عبد اللّه يحيى العشر الاخيرة من رمضان ليدرك ليلة القدر ومن دابه الملازمة الى الصلاة فوق البيت وكانت والدته متوجهة الى اللّه فى البيت فليلة ان اخذت تظهر انواو ليلة القدر نادت ابنها ان يا محمد ان الذى تطلبه هو عندنا فتعال نزل الشيخ فرأى الانوار فخر الى قدم امه وكان يقول علمت قدر والدتى منذ شاهدت فهذه هى حال والدته فانظر كيف ارشدت ابنها وكيف تفوقت عليه فى الفضل والشرف مع كثرة رياضته واجتهاده ايضا فظهر ان من النساء من هى افضل من الرجال وذلك بالوصول الى جناب القدس وليس ذلك الا بحسن الاستعداد والهداية الخاصة من اللّه تعالى اسعدنا اللّه واياكم ونعو باللّه من نساء زماننا حيث لا يرى فيهن من هى من اهل التقوى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( صنفان من اهل النار لم ارهما ) يعنى فى عصره عليه السلام لطهارة ذلك العصر بل حدثا بعده ( قوم معهم سياط ) يعنى احدهم قوم فى ايديهم سياط جمع سوط ( كأذناب البقر يضربون بها الناس ) وهم الذين يضربون بها السارقين عراة او الطوافون على ابواب الظلمة كالكلاب يطردون الناس عنها بالضروب والسباب ( ونساء ) يعنى ثانيهما نساء ( كاسيات ) فى الحقيقة ( عاريات ) فى المعنى من لباس التقوى ( مميلات ) اى قلوب الرجال الى الفساد ( مائلات ) اى الى الرجال ( رؤسهن كأسنمة البخت ) يعنى يعظمن رؤسهن بالخمر والقلنسوة حتى تشبه اسنمة البخت ( المائلة ) من الميل لان اعلى السنام يميل لكثرة شحمه ( لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) اى يوجد من مسيرة اربعين عاما

٤٥

{ اذ قالت الملائكة } بدل من واذ قالت الملائكة منصوب بناصبه والمراد بالملائكة جبريل وجمع نعظيما له وقد مر

{ يا مريم ان اللّه يبشرك } اى يفرحك

{ بكلمة } كائنة

{ منه } عز وجل واطلق على عليسى لفظ الكلمة بطريق اطلاق السبب على المسبب لان ظهوره وحدوثه هو الكلمة الصادرة منه تعالى وهى كن وحدوث كل مخلوق وان كان بسبب هذه الكلمة لكن السبب المتعارف للحدوث لما كان مفقودا فى حق عيسى عليه السلام كان اسناد حدوثه الى الكلمة اتم واكمل فجعل عليه السلام بهذا الاعتبار كأنه نفس الكلمو

{ اسمه } اى اسم المسمى بالكملة عبارة عن مذكر

{ المسيح } لقب من الالقاب المشرف والفاروق واصله مشيحا بالعبرانية واصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك

{ عيسى } بدل من المسيح معرب من ايشوع

{ ابن مريم } صفة لعيسى وتوجه الخطاب الى مريم يقتضى ان يقال عيسى ابنك الا انه قيل عيسى ابن مريم تنبيها على ان الابناء ينسبون الى الآباء الى الامهات فاعلمت بنسبته اليها انه يولد من غير اب فلا ينسب الا الى امه وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين

فان قلت لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة اشياء الاسم منها عيسى

واما المسيح والابن فلقب وصفة قلت الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره فكانه قيل الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة

وفى التيسر اللقب اذا عرف صار كالاسم

{ وجيها } حال من الكلمة وصح انتصاب الحال منالنكرة لكونها موصوفة والوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف

{ فى الدنيا } بالنبوة والتقدم على الناس

{ والآخرة } بالشفاعة وعلو الدرجة فى الجنة

{ ومن المقربين } اى عند ربه بارتفاعه الى السماء وصحبة الملائكة فيها

٤٦

{ ويكلم الناس فى المهد وكهلا } اى يكلمهم حال كونه طفل وكهلا كلام الانبياء عليهم السلام من غير تفاوت يعنى ان تكمله فى حال الطفولية والكهولة على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت بان يكون كلامه فى حال الطفولية مثل كلام الانبياء والحكماء لا شك انه من اعظم المعجزات * قال مجاهد قالت مريم اذا خلوت انا وعيسى حدثنى وحدثته فاذ شغلنى عنه انسان يسبح فى بطنى وانا اسمع وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الاصوات والحروف - روى - انه لما بلغ عمره ثلاثين سنة ارسله اللّه الى بنى اسرائيل فمكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفع الى السماء او جاءه الوحى على راس ثلاثين سنة فمكث فى نبوته ثلاث سنين واشهرا ثم رفع

والكهل من تجاوز الثلاثين الى الاربعين وقارب الشيب من اكتهل النبت قارب اليبس فعلى هذا صح ان يقال انه بلغ سن الكهولة وكلم الناس فيه ثم رفع

واما على قول ما يقول ان اول سن الكهولة اربعون سنة فلا بد ان يقال انه رفع شابا ولا يكلم الناس كهلا الا بعد ان ينزل من الشماء فى آخر الزمان فانه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال

{ ومن الصالحين } هذه الاربعة احوال مقدرة من كلمة والمعنى يبشرك به موصوفا بهذه الصفات وذكر قوله ومن الصالحين بعدد ذكر الاوصاف المتقدمة دليل على انه لا رتبة اعظم من كون المرء صالحا لانه لا يكون المرء كذلك الا بان يكون فى جميع الافعال والتروك مواظبا على النهج الاصلح والطريق الاكمل ومعلوم ان ذلك يتناول جميع المقامات فى الدين والدنيا فى افعال القلوب وفى افعال الجوارح

٤٧

{ قالت } مريم متضرعة الى ربها

{ رب أنى يكون } اى كيف يكون اومن أين يكون

{ لى ولد } على وجه الاستبعاد العادى والتعجب مناستعظام قدرة اله فان البشرية تقتضى التعجب مما وقع على خلاف العادة اذ لم تجر عادة بان يولد ولد بلا اب

{ ولم يمسسنى بشر } آدمى وسمى بشرا لظهوره وهو كناية عن الجماع اى والحال انى على حالة منافية لولد

{ قال } اى اللّه عز وجل او جبريل عليه السلام

{ كذلك } اشارة الى مصدر يخلق فى قوله عز وجل

{ اللّه يخلق ما يشاء } ان يخلقه اى اللّه يخلق ما يشاء ان يخلقه خلقا مثل ذلك الخلق العجيب والاحداث البديع الذى هو خلق الولد من غير اب فالكاف فى محل النصب على انها فى الاصل نعت لمصدر محذوف

{ اذا قضى امرا } اى اراد شيأ واصل القضاء الاحكام اطلق على الارادة الالهية القطعية المتعلقة بوجود الشىء لايجابه اياه البتة

{ فانما يقول له كن فيكون } من غير ريث وهو تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما علم فيها من اطاعة المأمور المطيع للآمر القوى المطاع وبيان لانه تعالى كما يقدر على خلق الاشياء مدرجا باسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة الى شىء من الاسباب والمواد

قال ابن عباس رضى اللّه عنهما ان مريم رضى اللّه عنها كانت فى غرفة قد ضربت دونها سترا اذا هى برجل عليه ثياب بيض وهو جبريل تمثل لها بشرا سويا اى تام الخلق فلما رأته قالت اعوذ الرحمن منك ان كانت تقيا ثم نفخ فى جيب درعها حتى وصلت النفخة الى الرحم فاشتملت

قال وهب وكان معها ذو قرابة يقال له يوسف النجار وكان يوسف هذا يستعظم ذلك فاذا اراد ان يتهمها ذكر صلاحها واذا اراد ان يبئها رأى ما ظهر عليها فكان اول ما كلمها ان قال لها قد دخل فى صدرى شىء اردت كتمانه فغلبنى ذلك فرأيت الكلام اشقى لصدرى قالت قل قلا فحدثينى هل ينبت الزرع من غير بذر قالت نعم قال فهل انتب الزرع يوم خلقه من غير بذر والبذر يومئذ انما صار من الزرع الذى انتب اللّه من غير بذر ألم تعلم ان اللّه خلق آدم وحواء من غير انث ولا ذكر فلما قالت له ذلك وقع فى نفسه ان الذى بها شىء اكرمها اللّه به - روى - ان عيسى عليه السلام حفظ التوراة وهو فى بطن امه وكانت مريم تسمع عيسى وهو يدرس فى بطنها ثم لما شرف عالم الشهود اعطاه اللّه الزهادة فى الدنيا فانه كان يلبس الشعر ويتوسد الحجر ويستير القمر وكان له قدح يشرب فيه الماء ويتوضأ فيه فرأى رجلا يشرب بيده فقال لنفسه يا عيسى هذا ازهد منك فرمى القدح وكسره واستظل يوما فى ظل خيمة عجوز فكان قد لحقه حر شديد فخرجت العجوز فطردته فقام وهو يضحك فقال يا امة اللّه ما انت اقمتنى وانما اقامنى الذى لم يجعل لى نعيما فى الدنيا ولما رفع الى السماء وجد عنده ابة كان يرقع بها ثوبه فاقتضت الحكمة الآلهية نزوله فى السماء الرابعة وفيه اشارة الى ان السالك لا بد وان ينقطع عن كل ما سوى اللّه ويتجرد عن العوائق حتى يسير مع الملأ الاعلى ويطير الى مقام قاب قوسين او ادنى - وروى - ان موسى عليه السلام ناجى ربه فقال اللّهم ارنى وليا من اوليائك فاوحى اللّه تعالى اليه ان اصعد الى جبل كذا وادخل زاوية كذا فى كهف كذا حتى ترى ولى ففعل فرأى فيه رلا ميتا توسد بلبنة وفوق عورته خرقة وليس فيه شيء غيره فقال اللّهم سألتك ان ترينى وليك فأريتنى هذا فقا هذا هو ولي فوعزتى وجلالى لا ادخلة الجنة حتى احاسبه باللبنة والخرقة من اين وجدهما فحال اولياء اللّه الافتخار بالفقر وترك الدنيا والصبر على ما قدره اللّه

صبر باشد مشتهاى زيركان ... هست حلوا آرزوى كودكان

هركه صبر آورد كردون برود ... هركه حلوا خورداوبس تررود

فالقوة الروحانية التى بها يصير الانسان كالملائكة انما تحصل بالصبر عن المشتهيات فانظر الى حال عيسى عليه السلام يكفك فى هذا اعتبار ومن اللّه التوفيق الى الاعراض عن حطام الدنيا وقطع التعلق من الدارين قطعا

٤٨

{ ويعلمه } كلام مستأنف اى ويعلم اللّه عيسى

{ الكتاب } اى الكتابة والخط بالقلم بالالهم والوحى وكان احسن الناس خطا فى زمانه

{ والحكمة } اى العلوم العقلية والشرعية وتهذيب الاخلاق لان كمال الانسان فى ان يعرف الحق لذاته والخير لاجل العمل به مجموعها هو المسمى بالحكمة

{ والتواة والانجيل } فيحفظهما عن ظهر القلب وهذا الكلام اعنى يعلمه الخ سيق تطيبا لقلب مريم وازاحة لما اهما من خوف اللائمة لما عملت انها تلد من غير زوج

٤٩

{ و } يجعله

{ رسولا الى بنى اسرائيل } اى يكلمهم وقال بعض اليهود انه كان مبعوثا الى قوم مخصوصين وكان اول انبياء بنى اسرائيل يوسف وآخرهم عيسى عليهما السلام

{ انى قد جئتكم } معمول لرسول لما فيه من معنى النطق اى رسولا ناطقا بأنى قد جئتكم ملتبسا

{ بآية } عظيمة كائنة

{ من ربكم } وهو ما ذكر بعده من خلق الطير وغيره

{ انى اخلق } بدل من انى قد جئتكم اى اقدر واشكل لانه قد ثبت ان العبد لا يكون خالقا بمعنى التكوين والابداع فوجب ان يكون بمعنى التقدير والتسوية

{ لكم } اى لاجلكم بمعنى التحصيل لايمانكم ورفع تكذيبكم اياى

{ من الطين } شيأ

{ كهيئة الطير } اى مثل صورة الطير

{ فانفخ فيه } الضمير للكاف اى فى ذلك الشىء المماثل لهيئة الطير

{ فيكون طيرا } حيا طيارا كسائر الطيور

{ باذن اللّه } بامره تعالى اشار بذلك الى ان احياءه من اللّه تعالى لا منه لان اللّه هو الذى خلق الموت والحياة فهو يخلق الحياة فى ذلك الجسم بقدرته عند نفخ عيسى عليه السلام فيه على سبيل اظهار المعجزات - روى - ان عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة واظهر المعجرات طالبوه بخلق خفاش فاخذ طينا وصورة ثم نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء والارض

قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن اعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الخلق من فعل اللّه قيل انما طلبوا خلق الخفاش لانه اعجب من سائر الخلق ومن عجائبه انه لحم ودم يطير بغير ريس ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الحيوان من الطيور ويكون له الضرع ويخرج منه اللبن ولا يبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وانما يرى ف ساعتين ساعة بعد غروب الشمس وساعة بعد طلوع الفجر قبل ان يسفر جدا ويضحك كما يضحك الانسان وله اسنان ويحيض كما تحيض المرأة ولما دل القرآن على ان عيسى عليه السلام انما تولد من نفخ جبريل فى مريم وجبريل روح محض وروحانى محض فلا جرم كانت نفخة عيسى سببا للحيان والروح

{ وابرىء} اى اشفى واصحح { الاكمة } اى الذى ولد اعمى قال الزمخشرى لم يوجد فى هذه الامة اكمه غير قتادة بن دعامة السدوسى صاحب التفسير

{ والابرص } وهو الذى به برص اى بياض فى الجلد يتطير به واذا استحكم فلا برء له ولا يزول بالعلاج ولم تكن العرب تنفر من شىء نفرتها منه. وانما خصها بالذكر للشفاء لانهما مما اعى الاطباء فى تداويهما وكانوا فى غاية الحذاقة فى زن عيسى عليه السلام وسألوا الاطباء عنهماز فقال جالينوس واصحابه اذا ولد اعمى لا يبرأ بالعلاج وكذا الابرص اذا كان بحال لو غرزت الابرة فيه لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج فرجعوا الى عيسى وجاؤا بالاكمه والابرص فمسح يده بعد الدعاء عليهما فابصر الاعمى وبرىء الابرص فآمن له البعض وجحد البعض وقال هذا سحر - روى - انه ابرأ فى يوم واحد خمسين الفا من المرضى من اطاق منهم اتاه ومن لم يطق اتاه عيسى عليه السلام

{ واحى الموتى باذن اللّه } فسألوا جالينوس عنه فقال الميت لا يحيى بالعلاج فان كان هو يحيى الموتى فهو نبى وليس بطبيب فطلبوا ان يحيى الموتى فاحيى اربعة انفس احيى العازر وكان صديقا له فارسل اخته الى عيسى ان اخاك العازر يموت فأنته فكان وبينه وبينه مسيرة ثلاثة ايام فأتاه هو واصحابه فوجوده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقى لنا الى قبره فانطلقت معهم الى قبره وهو فى صخرة مطبقة فقال عيسى عليه السلام اللّهم رب السموات السبع والارضين السبع انك ارسلتنى الى بنى اسرائيل ادعوهم الى دينك واخبرهم انى احيى الموتى فاحيى العازر فقام العازر ووكده يقطر فخرج من قبره وبقى وولده واحيى ابن عجوز مربه ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا اللّه عيسى فجلس على سريره ونزل عن اعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع الى اهلة فبقى وولد له واحيى ابنة العاشر الذى يأخذ العشور قيل له احيها وقد ماتت امس فدعا اللّه تعالى فعاشت وبقيت وولدلها فقالوا يحيى من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل اصابتهم سكتة فاحى لنا سام بن نوح فقال عليسى دلونى على قبره فخرج والقوم معه حتى انتهى الى قبره فدعا اللّه تعالى بالاسم الاعظم فخرج من قبره وقد شاب راسه فقال عيسى كيف شاب رأسك ولم يكن فى زمانط شيب قال يا روح اللّه لما دعوتنى سمعت صوتا يقول اجب روح اللّه ان مرارته لم تذهب عن حنجرتى وقد كان من وقت موته اكثر من اربعة آلاف سنة فقال للقوم صدقوه فانه نبى فآمن به بعضهم وكذبه آخرون ثم قال له مت قال بشرط ان يعيدنى اللّه من سكرات الموت فدعا اللّه ففعل ثم طلبوا آية اخرى دالة على صدقه فقال

{ وانبئكم بما تأكلون } من انواع المآكل

{ وما تدخرون } اى وما تخبأون للغد

{ فى بيوتكم } فكان يخبر الرجل بما اكل قبل م بما يأكل بعد ويخبر الصبيان وهو فى المكتب بما يصنع اهلهم وبما يأكلون ويخبأون لهم وكان الصبى ينطلق الى اهله ويبكى عليهم حتى يعطوه ما خبأوا له ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم فى بيت فجاء عيسى عليه السلام كذلك يكونون فاذاهم خنازير

{ ان فى ذلك} اى ما ذكر من الخوارقو الامور العظام { لآية } عظيمة

{ لكم } دالة على صحة رسالتى دلالة واضحة

{ ان كنتم مؤمنين } انتفعتم بها

٥٠

{ ومصدقا } اى قد جئتكم ملتبسا بآية الخ ومصدقا

{ لما بين يدى } اى لما تقدمنة

{ من التوراة } اى موافقا على ما كان قبلى

{ و } جئتكم

{ لا حل لكم } لان ارخص لكم

{ بعض الذى حرم عليكم } اى فى شريعة موسى عليه السلام من لحوم السمك ولحوم الابل والشحوم والثروب جمع ثرب وهو شحم رقيق يتصل بالامعاء ولحم كل ذى ظفر فاحل لهم عيسى من السمك والطير ما لا اصطبة له وهى شوكة اللحائك التى يسوى السد او اللحمة

{ وجئتكم } ملتبسا

{ بآية من ربكم } ببرهان بين شاهد على صحة رسالتى

{ فاتقوا اللّه } فى عدم قبولها ومخالفة مدلولها

{ واطيعون } فيما آمركم له وانهاكم عنه بامر اللّه تعالى وتلك الآية هى قوله

٥١

{ ان اللّه ربى وربكم فاعبدوه } ولا تعصوه بالشرك

{ هذا } اى الايمان باللّه ورسوله والطاعة

{ صراط مستقيم } طريق سوى يؤدى صاحبه الى الجنة وهو الحق الصريح الى اجمع عليه الرسل قاطبة فتكون آية بينة على انه عليه السلام من جملتهم فقوله

{ ان اللّه ربى وربكم } اشارة الى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذى غايته التوحيد وقال

{ فاعبدوه } اشارة الى استكمال القوة العلمية فانه يلازم الطاعة التى هى الاتيان بالاوامر والانتهاء عن المناهى ثم قرر ذلك بان بين ان الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة ونظيره قوله صلى اللّه عليه وسلم ( قل آمنت ثم استقم ) فالعلم والعمل هو الطريق من مبادى الاستقامة فعليك بالتمسك بالحجة القوية وسئل الجنيد كيف السبيل الى الانقطاع الى اللّه فقال بتوبة تزيل الاصرار وخوف يزيل التسويف ورجاء يبعث على مسالك العمل وذكر اللّه تعالى على اختلاف الاوقات واهانة النفس بقريها من الاجل وبعدها من الامل قيل له فبماذا يصل العبد الى هذا فقال بقلب مفرد فيه توحيد مجرد

وقال الحسن البصرى رضى اللّه عنه ما طلب رجل هذا الخير يعن الجنة الا اجتهد ونحل وذبل واستمروا ستقام حتى يلقى اللّه تعالى اما ترى الى قوله تعالى

{ ان الذين قالوا ربنا اللّه ثم استقاموا } واعلم ان الاستقامة لا يطيقها الا الاكابر لانها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدى اللّه تعالى علىحقيقة الصدق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لا يكونن احدكم كالعبد السوء ان خاف عمل ولا كالاجير السوء ان لم يعط لم يعمل ) قيل ولا يصح رفع الهمة عن الحظوظ جملة لان ذلك مكابرة مع الربوبية وانما المراد ان لا يطلب بالعمل فعلامة العبد الاديب ان يستمر على الطاعة فى باب مولاه ولا يظر الى شىء سواه لا الى الجنة ولا الى النار فاذا جرد عمله وتوحيده عن الاغراض فقد استقام واتخذ الصراط المستقيم مذهبا والارشاد الى هذا الطريق اما يفيد لمن كان له استعداد ازلى وقابلية اصلية فبالتربية يصير العبد قابل انوار الصفات الالهية ويخرج من الظلمات البشرية فعليك بخدمة الكاملين والاستقامة فى طريق اليقين

زخود بهترى جوى وفرصت ... كه باجون خودى كم كنى روز كار

وفى الاتباع شرف عظيم قال تعالى مخاطبا لحبيبه عليه السلام

{ فبهداهم اقتده } وطاعة الرسول واتباعه من لوازم تقوى اللّه تعالى ألا ترى الى قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام

{ فاتقوا اللّه واطيعون } فاذا داوم العبد الاتباع يصل الى الاستقامة فانها ليست مما يحصل فىول الامر قال مولانا جلال الدين الرومى قدس سره العزيز

سالها بايد كه اندر آفتاب ... لعل يابد نك ورخشانى وتاب

٥٢

{ فلما } الفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملاءكئة وخروجه من القوة الى الفعل كأنه قيل فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت

{ احس عيسى } احس استعارة للعمل اليقينى الذى لا شبهة فيه كالاحساس وهو وجدان الشىء بالحاسة كأنه قبل فلما علم

{ منهم الكفر } علما لا شبهة فيه كما يدرك بالحواس من الضروريات منهم الكفر اى بنى اسرائيل وارادوا قتله وانهم لا يزدادون على رؤية الآيات الا الاصرار على الجحود

{ قال } لخلص اصحابه مستنصرا على الكفار

{ من انصارى } الانصار جمع نصير

{ الى اللّه } متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء اى من انصارى متوجها الى اللّه ملتجئا اليه ومن اعوانى على اقامة الدين

{ قال الحواريون } جمع حوارى يقال فلان حوارى فلان اى صفوته وخاصته وهم اثنا عشر بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادى السمك وبعضهم من القاصرين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لانهم كانوا انصار عيسى عليه السلام واعوانه والمخلصين فى محبته وطاعته

{ نحن انصار اللّه } اى انصار دينه ورسوله قال تعالى

{ ان تنصروا اللّه ينصركم } واللّه ينصر من ينصر دينه ورسله

{ آمنا باللّه } استئناف جار مجرى العلة لما قبله فان الايمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن اوليائه والمحاربة مع اعدائه

{ واشهد بانا مسلمون } مخلصون فى الايمان منقادون لما تريد من امر نصرتك طلبوا منه عليه السلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم تشهد الرسل عليهم السلام لأممهم ايذانا بان مرمى غرضهم السعادة الاخروية

٥٣

{ ربنا آمنا بما نزلت } من الانجيل على عيسى وهو تضرع الى اللّه تعالى وعرض لهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة فى اظهار امرهم

{ واتبعنا الرسول } اى عيسى على دينه فى كل ما يأتى ويذر من امور الدين فيدخل فيه الاتباع فى النصرة دخولا اوليا

{ فاكتبنا مع الشاهدين } اى مع الذين يشهدون بوحدانيتك او مع الانبياء الذين ييشهدون لاتباعهم او مع امة محمد صلى اللّه عليه وسلم فانهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا

وفيه اشارة الى ان كتاب الابرار انما يكون فى السموات مع الملائكة قال تعالى

{ كلا ان كتاب الابرار لفى عليين } فاذا كتب اللّه ذكرهم مع الشهداء المؤمنين كان ذكرهم مشهورا فى المأ الاعلى وعند الملائكة المقربين

٥٤

{ ومكروا } اى الذين علم عيسى كفركهم من اليهود بان وكلوا به من يقتله غلية وهو ان يخدعه فيذهب به الى موضع فاذا صار اليه قتله

{ ومكر اللّه } بان رفع عيسى عليه السلام والقى شبهة على من قصد اغتياله حتى قتل

{ واللّه خير الماكرين } باقواهم مكرا وانفذهم كيدا واقدرهم على ايصال الضرر من حيث لا يحتسب - روى - ان ملك بنى اسرائيل لما قصد قتله عليه السلام امره ان يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة الى السماء وكساه اللّه الريش والبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة حول العرش وكان انسيا سماويا ارضيا ثم قال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فقتله فدخل البيت فالقى اللّه عز وجل شبهه عليه السلام فخرج يخبرهم انه ليس فى البيت فقتلوه وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فان كان هذا عيسى فاين صاحبنا وان كان صاحبنا فابن عيسى فوقع بينهم مقال عظيم ولما صلب المصلوب فأنزل اللّه عيسى عليه السلام فجاءهما فقال على من تبكيان قالتا عليك فقال ان اللّه رفعنى ولم يصبنى الا خير وان هذا شىء شبه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال اللّه لعيسى اهبط الى المجدلانية على موضع فى جبلها فانه لم يبك عليك احد بكاءها ولم يحزن احد حزنها ثم استجمع الحواريين فبثهم اى فاجعلهم متفرقين فى الارض دعاة الى اللّه فاهبطه اللّه عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين فبثهم فى الارض دعاة ثم رفعه اللّه اليه وتلك الليلة هى الليلة التر تدخن فيها النصارى فلما اصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من ارسله عيسى اليهم فذلك قوله

{ ومكروا ةمكر اللّه واللّه خير الماكرين } والمكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة والمكر من اللّه استدراج العبد واخذه بغته من حيث لا يعلم فيها ايهالعبد خف من وجود احسان مولاكاليك ودوام اساءتك معه فى دوام الطفه بك وعطفه عليك ان يكون استدراجلك حتى تقف معها وتغتر لها وتفرح لما اوتيت فتؤخذ بغتة قال اللّه تعالى

{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قال سهل رضى اللّه عنه فى معنى هذه الآية نمدهم بالتهم وننسيهم الشكر عليها فاذا ركنوا الى انعمو وحجبوا عن المنعم اخذوا

وقال ابو العباس ابن عطاء يعنى كلما احدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وانسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة ومن جهل المريد بنفسه وبحق ربه ان يسيىء الادب باظهار دعوى او توريط فى بلو فتؤخر العقوبة عنه امهالا له فيظنه اهملال فيقول لو كان هذا سوء ادب لقطع الامداد واوجب الابعاد اعتبار بالظاهر من الامر نم غير تعريج على ما وراء ذلك وما ذاك الا لفقد نور بصيرته او ضعف نورها والا فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر حتى ربما ظن انه متوفر فى عين تقصير ولو لم يكن من قطع المدد الا منع المزيد لكان قطعا لان من لم يكن فى زيادة فهو فى نقصان قال عليه السلام

( من استوى يوما فهو مغبون ) ولو لم يكن من الابعاد الا ان يخليك وما تريد فيصرفك عنه بمرادك هذا والعياذ باللّه مكر وخسران

وعن ابن حنبل انه كان يوصى بعض اصحابه فقال خف سطوة العدر وارج رقة الفضل ولا تأمن من مكره تعالى ولو ادخلك الجنة ففى الجنة وقع لابيك آدم ما وقع وقد يقطع باقوام فيها فيقال لهم كلوا واشربوا هنيأ بما اسلفتم فى الايام الحالية فقطعهم بالاكل والشرب عنه وأى مكر فوق هذا وأى خسران اعظم منه

٥٥

{ اذ قال اللّه } اى اذكر وقت قوله اللّه

{ يا عيسى انى متوفيك } اى مستوفى اجلك ومعناه انى عاصمك من ان يقتلك الكفار ومؤخرك الى اجل كتبته لك ومميتك ختف انفك لا قتلا بايديهم

{ ورافعك } الآن

{ الى } اى الى محل كرامتى ومقر ملائكتى وجعل ذلك رفعا اليه للتعظيم ومثله قوله

{ انى ذاهب الى ربى } وانما ذهب ابراهيم عليه السلام من العراق الى الشام وقد يسمى الحاج زوار اللّه والمجاورون جيران اللّه وكل ذلك للتفخيم فانه تعالى يمتنع كونه فى المكان

{ ومطهرك } اى مبعدك ومنحيك

{ من الذين كفروا } اى من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم

قيل سينزل عيسى عليه السلام من السماء على عهد الدجال حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية فيفيض المال حتى لا يقبله احد ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الاسلام ويقتل الدجال ويتزوج بعد قتله امرأة من العرب وتلد منه ثم يموت هو بعد ما يعيش اربعين سنة من نزوله فيصلى عليه المسلمون لانه سأل ربه ان يجعله ن هذه الامة فاستجار اللّه دعاءه

{ وجاعل الذين اتبعوك } وهم المسلمون لانهم متبعوه فى اصل الاسلام وان اختلف الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى

{ فوق الذين كفروا } وهم الذين مكروا به عليه السلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فان اهل السلام فوقه ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة

{ الى يوم القيامة } غاية للجعل لا على معنى ان الجعل ينتهى حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى ان المسلمين يعلونهم الى تلك الغاية فاما بعدها فيفعل اللّه تعالى بهم ما يريد

{ ثم الى مرجعكم } اى رجوعكم بالبعث والضمير لعيسى عليه السلام وغيره من المتبعين له والكافرين له على تغيب المخاطب على الغائب فى ضمن الالتفات فانه ابلغ فى التبشير والانذار

{ فاحكم بينكم } يومئذ اثر رجوعكم الى

{ فيما كنتم فيه تختلفون } من امور الدين

٥٦

{ فاما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا فى الدنيا } بالسيف والسبى واخذ الجزية وايصال الامراض والمصائب فانها من العقوبات فى حق الكافر ومنالمثوبات فى حق المؤمن لانها ابتلاء محض له

{ والآخرة } بعذاب النار

{ ومالهم من ناصرين } يخلصونهم من عذاب اللّه فى الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع اى ليس لواحد منهم ناصر واحد

٥٧

{ واما الذين آمنوا } بما ارسلت به

{ وعملوا الصالحات } كما هو ديدن المؤمنين

{ فيوفيهم اجورهم } اى يعطيهم اجور اعمالهم كاملة ولعل الالتفات الى العيبة لليذان بما بين مصدرى التعذيب والاثابة من الاختلاف من حيث الجلا والجمال

{ واللّه لا يحب الظالمين } اى يبغضهم ولا يرضى عنهم

٥٨

{ ذلك } اشارة الى ما سلف مننبأ عيسى عليه السلام وغيره

{ نتلوه عليك } اى نقرأه عليك يا محمد واسند تلاوته الى نفسه مع ان التالى هو الملك المأمور بها على طريق اسناد الفعل الى السبب الآمر وفيه تعظيم بليغ وتشريف عظيم للملك وانما حسن ذلك لان تلاوة جبريل لما كانت بامره تعالى من غير تفاوت اصلا اضيف ذلك اليه تعالى

{ من الآيات } حال من الضمير المنصوب اى من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لانها اخبار لا يعلمها الا قارىء الكتاب او من يوحى اليه فظاهر انك لا تكتب ولا تقرأ فبقى ان ذلك من الوحى

{ والذكر } اى القرآن

{ الحكيم } اى المشتمل على الحكم او المحكم الممنوع من تطرق الخلل اليه والاشاة ان اللّه تعالى قال لعيسى عليه الاسلام يا عيسى

{ انى متوفيك } عن الصفات النفسانية والاوصاف الحيوانية

{ ورافعك الى } بجذبات العناية فمن لم يصر فانيا عما سوى اللّه لا يكون له وصول الى مقام معرفة اللّه فعيسى لما رفع الى السماء صارت له حالة كحال الملائكة فى زوال الشهوات والغضب والاخلاق الذميمة

فعلى السالك ان ينهى نفسه عن الهوى ويتبع طريق الهدى ويعتبر بالآيات والذكر الحكيم كى يصل الى النعيم المقيم ويجتنب الظلم فان اللّه تعالى قال

{ واللّه لا يحب الظالمين } اى الذين يظلمون على أنفسهم بانقضاء العمر فى طلب غير اللّه

خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند ازخدا جز خدا

فاهل الطريقة هم الذين يمحون نقش الغير عن صفحات القلب ويزكون نفوسهم عن الاوصاف المذمومة فانها مانعة من العروج الى سماء المعرفة وعلو الوصال : قال مولانا جلال الدين رومى قدس سره

آن يكى نحوى بكشتى درنشست ... روبكشتيبان نهاد آن خود برست

كفت هيج ازنخو حوادندى كفت لا ... كفت نيم عمر توشد درفنا

دل شكسته كشت كشتيبان زتاب ... ليك آندم كشت خواموش ازجواب

باد كشتى را بكر دابى فكند ... كفت كشتيبان بدان نحوى بلند

هيج دانى آشنا كردن بكو ... كفت نى اى خوش جواب خوب رو

كفت كل عمرت اى نحوى فناست ... زانك كشتى غرق اين كردا بهاست

محو مى بايد نه نحو انيجابدان ... كرتو محوى بيخطر درآب ران

آب درا مرده را بر سر نهد ... وربود زنده زدريا كى رهد

جون بمردى تو زاوصاف بشر ... بحر اسرارت نهد برفرق سر

فقد ظهر ان الذين يطلبون غير اللّه هم غرقى فى بحر الهوى والشهوات لا يقدرون على التصعد الى الاعلى

واما الذين تخلصوا من قشر الوجود ووصلوا بالفناء عن ذواتهم الى عالم الشهوج فههم يطيرون باجنحة انوار حالهم مع الملائكة المقربين لتخلصهم من الاثقال الدنيوية والاشغلا القالبية والبدنية قال تعالى

{ ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السموات والارض } اى بالتجرد عن الهيآت الجسمانيى والتعلقات البدنية

{ فانفذوا } لتنخرطوا فى سلك الارادة الملكوتية والنفوس الجبروتية وتصلوا الى الحضرة العلية

{ لا تنفذون الا بسلطان } اى بحجة بينة هى التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء فى اللّه تعالى قال عيسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] والولادة نوعان. اضطرارى يخلق اللّه تعالى ولا دخل فيه للكسب والاختيار وذلك ظاهر. واختيارى يحصل بالكسب وهو الذى اشار اليه عيسى عليه السلام وفقتا اللّه واياكم لما يجب ويرضى ويداوى بدواء افضاله هذه النفوس المرضى انه بكل شىء قدر وبتيسيره يسهل كل امر عسير

٥٩

{ ان مثل عيسى } اى شانه البيدع المنظيم لغرابته فى سلك الامثال

{ عند اللّه } اى فى تقديره وحكمه

{ كمثل آدم } اى كحاله العجيبة التى لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع

{ خلقه من تراب } تفسير للمثل لا محل له من الاعراب اى خلق قالب آدم من تراب

فان قيل الضمير فى خلقه راجع الى آدم وحين كان ترابا لم يكن آدم موجودا قلنا لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم قبل ذلك تسمية لما سيقغ بالواقع

{ ثم قال له كن } اى انشأ بشرا

{ فيكون } والمقتضى تن يقال فكان اى كان امره اللّه الا انه عدل الى المضارع حكاية للحال التى كان آدم عليها اى تصويرا لذلك الايجاد الكامل بصورة المشاه الذى يقع الآن - روى - ان وفد نجران قدموا المدينة وهو اربعة عشر رجلا من اشرافهم. منهم السيد وهو كبيرهم واسمه اهيبز والعاقب الذى بعده وهو صاحب رأيهم واسمه عبد المسيح. والثالث ابو حارثة ابن علقمة الاسقف وكان فى شرف وخطر عظيم وكان ملك الروم بنى له الكنائس وكان يبعث له بالكرامات فاقبلوا حتى قدموا على النبى عليه السلام فى مسجد المدينة بعد العصر عليهم ثياب حسان ولهم وجوه جسام فقاموا وصلوا واستقبلوا قبلتهم واراد اصحاب النبى صلى اللّه عليه وسلم ان يمنعوهم فقال صلى اللّه عليه وسلم ( دعوهم ) وقد كان نزل على النبى عليه السلام قبل قدومهم صدر آل عمران لمحاجتهم ثم انتهى ابو حارثة هذا وآخر معه الى النبى عليه السلام فقال لهما صلى اللّه عليه وسلم ( اسلما ) فقالا اسلمنا قبلك فقال صلى اللّه عليه وسلم ( كذبتما يمنعكما عن الاسلام ثلاث عبادتكما الصليب واكلكما الخنزير وزعمكما ان للّه ولدا ) قال يا محمد فلم تشتم صاحبنا عيسى قال ( وما اقول ) قالوا تقول انه عبد قال ( اجل هو عبد اللّه ورسوله وكلمته القاها الى العذراء البتول ) فغضبوا وقالوا هل رأيت انسانا من غير اب فحيث سلمت انه لا اب له من البشر وجب ان يكون هو اللّه فقال صلى اللّه عليه وسلم ( ان آدم عليه السلام ما كان له اب ولا ام ) وبم يلزم من ذلك كونه ابنا للّه تعالى فكذا حال عيسى عليه السلام فالوجود من غير اب وام اخرف للعادة من الوجود من غير اب فشبه الغريب بالاغرب ليكون اقطع لشبهة الخصم اذا نظر فيما هو اغرب مما استغربه

٦٠

{ الحق } اى ما قصصنا عليك من نبأ عيسى وامه هو الحق كائنا

{ من ربك } لاقول النصارى انه ابن اللّه وقولهم ولدت مريم آلها ونحو ذلك

{ فلا تكن من الممترين } اى من الشاكين فى ذلك الخطاب للنبى عليه السلام عل طريقة الالهاب والتهييج لزيادة التثبيت لان النهى عن الشىء حقيقة يقتضى ان يتصور صدور المنهى عنه من المنهى ولا يتصور كونه عليه السالم شاكل فى صحة ما انزل عليه والمعنى دم على يقينك وعلى ما انت عليه من الاطمئنان على الحق والتنزه عن الشك فيه قال الامام ابو منصور رحمه اللّه العصمة لا تزيل المحنة ولا ترفع النهى

٦١

{ فمن حاجك } اى من النصارى اذ هم المتصدون للمحاجة

{ فيه } اى فى شأن عيسى عليه السلام وامه زعما منهم انه ليس على الشأن المحكى

{ من بعد ما جاءك من العلم } اى ما يوجبه ايجابا قطعيا من الآيات البينات وسمعوا ذلك منك فلم يرعووا عماهم عليه من الضلال والغى

{ فقل } اى فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو ان تدعوهم الى الملاعنة فقل لهم

{ تعالوا } التعالى فى الاصل التصاعد كأن الداعى فى علو والمدعو فى سفل فامره ان يتعالى اليه ثم صار ذلك لكل مدعو اين كان اى هلموا بالرأى والعزيمة لا بالابدان لانهم مقبلون وحاضرون عنده باجسادهم

{ ندع ابناءنا وابناءكم } اكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم اعزمنهن.

واما النساء فتلقهن من جهة اخرى

{ ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم } اى ليدع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله وألصقهم بقلبه الى المباهلة ويحملهم عليها

{ ثم نبتهل } اى نتباهل بان نلعن الكاذب ونقول لعنة اللّه على الكاذب منا ومنكم

{ فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين } عطف على نبتهل مبين لمعناه - روى - انهم لما دعوا الى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر لما خلا بعضهم ببعض قالو لعبد المسيح ما ترى فقال واللّه لقد عرفت يا معشر النصارى ان محمد نبى مرسل ولقد جاءكم بالفصل من امر صاحبكم واللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكم فان ابيتم الا الف دينكم والاقامة على ما انتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلادكم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد خرج محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى وعلى خلفها رضى اللّه عنه وهو يقول ( اذا انا دعوت فأمنوا ) فقال اسقف نجران اى اعلمهم بامور دينهم وهو ابو حارثة يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو شاء اللّه تعالى ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصرانى الى يوم القيامة فقالوا يا ابا القاسم راينا ان لا نباهلك وان تترك على دينك ونثبت على ديننا قال صلى اللّه عليه وسلم ( فاذا ابيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين ) فألوا فقال ( فانى احاربكم ) فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على ان لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى اليك كل عاك الفى حلة الف فى صفر والف فى رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك وكتب لهم كتابا بذلك وقال ( والذى نفسى بيده ان الهلاك قد تدلى على اهل نجران ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادى نارا ولاستأصل اللّه نجران واهله حتى الطير على رؤس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا )

٦٢

{ ان هذا } اى ما قص من نبأ عيسى عليه السلام وامه

{ لهو القصص الحق } دون ما عداه من اكاذيب النصارى

{ وما من اله } ما اله

{ الا اللّه } صرح فيه بمن الاستغراقية تأكيد للرد على النصارى فى تثليثهم

{ وان اللّه لهو العزيز الحكيم } القادر على جميع المقدروات. الحكيم المحيط بالمعلومات لا احد يشاركه فى القدرة والحكمة ليشاركه فى الالوهية

٦٣

{ فان تولوا } اى اعرضوا عن قبول التوحيد والحق الذى قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج النيرة والبراهين الساطعة

{ فان اللّه عليم بالمفسدين } اى فاقطع كلامك علنهم وفوض امرهم الى اللّه فان اللّه عليم بفساد المفسدين مطلع على ما فى قلوبهم من الاغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم

واعلم ان المباهلة الانبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد اللّه اياهم به وهو المؤثر باذن اللّه فى العالم العنصر فيكون انفعال العالم العنصرى منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيآت الواردة عليها كالغضب والخوف والسرور والفكر فى احوال المعشوق وغير ذلك من تحريك الاعضاء عند حدوث الارادات والعزائم وانفعال النفوس الملكية تاثيرها فى العالم عند التوجه الاتصالى تأثير ما يتصل به فينفعل اجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية فيه بما اراد ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام قبل المباهلية بالخوف واحجمت عن المباهلة فطبت الموادغة بالجزية كذا فى التأويلات القاشانية وكذا الحال الولى اذا دعا على انسان يكون له تأثير بالمرض او الموت او غير ذلك من البلايا - روى - ان الشاعر البساطى رأى يوما الشيخ كمال الدين الخجندى فى مجلس الشعراء

فقال از كجايى از كجايى اى لوند ... فقال الشيخ فى جوابه على الفور

از خجندم از خجندم از خجند ... ولكنه تأذى من سوء به ومعاملته معه هكذا

وحمله على سكره فقال الغالب ان هذا الشاب سكران فسمعه الباسطى وقال بالبداهة

اى ملحد خجندى ريش بزرك دارى ... كزغايت بزركى ده ريش ميتوان كفت

فلما سمعه التألم منه تألما شديدا فدعا عليه فى ذلك المجلس فمات من ساعته من تأثير نفسه الشريف فى حقه فليجانب العاقل اذية الصلحاء فان مكره يعود اليه دونهم قال تعالى

{ ولا يحيق المكر السىء الا باهله } : قيل ونعم ما قيل

ناى كند ناله بدين قول راست ... از بير بترس اى جوان

فحفظ قلوب المشايخ وترك الخلاف عليهم سبب للترقى الى المطالب العالية وباعث للاحترام والاكرام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ما اكرم شاب شيخا لسنه الا قيض اللّه له من يكرمه عند سنه ) قال المشايخ عقوق الاستاذين لاتوبة منه - ويحكى - عن ابى الحسن الهمذانى قال كنت ليلة عند جعفر الخالدى وكنت امرت فى بيتى ان يعلق لى طير فى التنور وكان قلبى معه فقال لى جعفر اقم عند ن الليلة فتعللت بشىء ورجعت الى منزلى فاخرج الطير من التنور ووضع بين يدى فدخل كلب من الباب وحمل الطير عند تغافل الحاضرين واتى بالجوذاب الذى تحته فتعلق به ذيل الخادمة فانصب فلما اصبحت دخلت على جعفر فحين وقع بصره على قال من لم يحفظ قلوب المشايخ يسلط عليه كلب يؤذيه قال الشيخ ابو على الدقاق قدس سره لما نفى اهل بلخ محمد بن الفضل من البلد دعا عليهم وقال اللّهم امنعهم الصدق لم يخرج من بلخ بعده صديق عصمنا اللّه واياكم من المخالفة آمين

٦٤

{ قل يا اهل الكتاب } اى اليهود والنصارى

{ تعالوا } كان عليه السلام حريصا على ايمانهم فامره اللّه تعالى بان يعدل عن طريق المجادلة والاحتجاج الى نهج يشهد كل عقل سليم انه كلام مبنى على الانصاف وترك الجدال لا ميل فيه الى جانب حتى يكون فيه شائبة التعصب فهو كلام ثابت فى المركز نسبته الينا واليكم على سواء واعتدال فقال قل يا اهل الكتاب تعالوا اى هلموا والمراد تعيين ما دعوا اليه والتوجه الى النظر فيه وان لم يكن انتقالا منمكان الى مكان لان اصل اللفظ مأخوذ من التعالى حيث يدعى اليه

{ الى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها الرسل والكتب فبها انصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيها لاحد على صاحبه وهى

{ ان لا نعبد الا اللّه } اى نوحده بالعبادة ونخلص فيها

{ ولا نشرك به شيأ } ولا نجعل غيره شريكا فى استحقاق العبادة ولا نراه اهلا لان نعبدخ

{ ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون اللّه } بان نقول عزيز ابن اللّه والمسيح ابن اللّه ولا نطيع الاحبار فيما احدثوا من التحليل والتحريم لان كلا منهم بعضنا وبشر مثلنا وعن الفضيل لا ابالى اطعت مخلوقا فى معصية الخالق ام صليت لغير القبلة

{ فان تولوا } عما دعوتم اليه من التوحيد وترك الاشراك

{ فقولوا } اى قل لهم انت والمؤمنون

{ اشهد بانا مسلمون } اى لزمتكم الحجة فاعترفوا بانا مسلمون دونكم - روى - ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتب الى قيصر ( من محمد رسول اللّه الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى ادعوك برعاية الاسلام اسلم تسلم ) اى من السبى فى الدنيا ومن العذاب فى الآخرة ( واسلم يؤتك اللّه اجرك مرتين وان توليت فان عليك اثم الاريسيين ويا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا اللّه ولا نشرك به شيأ ) الى قوله ( فقولوا اشهدوا بانا مسلمون ) وجاء فى الخبر الصحيح ان هرقل سأل عن حال النبى عليه السلام وعرفها ممن جاء بكتابه فقال لو كنت عنده لقبلت قدميه لمعرفته صدق النبى عليه السلام بعلاماته المعلومة له من الكتب القديمة لكن خاف من ذهاب الرياسة

ثم انه كتب جواب كتابه عليه السلام انا نشهد انك نبى ولكنا لا نستطيع ان نترك الدين القديم الذى اصطفاه اللّه لعيسى عليه السلام فعجب النبى عليه السلام فقال ( لقد ثبت ملكهم الى يوم القيامة ابدا )

وكتب الى كسرى ملك فارس فمزق كتابه ورجع الرسول بعدما اراد قتله فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال خرق اللّه ملكهم فلا ملك لهم ابدا فكان كذلك

والاشارة فى الآية ان اصول الاديان كلها اخلاص العبودية كما قال تعالى

{ ان لا نعبد الا اللّه ولا نشرك به شيأ } يعنى كما لا نعبد الا اللّه لا نطلب منه غيره

{ ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون اللّه } فى طلب الرزق ورؤية الامور من الوسائط

{ فان تولوا } يعنىى من اعرض عن هذا الاصل

{ فقولوا } انتم لهم

{ اشهدوا بانا مسلمون } مستسلمون لما دعانا اللّه اليه من التوحيد والاخلاص فى العبودية ونفى الشرك والسر فى الاشهاد على السلام ليشهد الكفار لهم يوم القيامة على الاسلام والتوحيد كما يشهد لهم المؤمنون كما قال النبى عليه السلام لابى سعيد الخدرى رضى اللّه عنه ( انى اراك تحب الغنم والبادية فاذا كنت فى غنمك وباديتك فاذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فانه لا يسمع مدى الصوت المؤذن جن ولا انس ولا شىء الا شهد له يوم القيامة ) فيكون شهادة الكفار لهم بالتوحيد يوم القيامة حجة على انفسهم. فالتوحيد هى العروة الوثقى واصل الاصول يهب من جانب الغيب لمن اخلصه قبول القبول

فعلى العاقل ان لا يخالف كتاب اللّه بالاعراض عن فحاويه وعدم التدبر فى معانيه بل يسلك سبيل العلم والاعمال ويتجنب الجهل والغى والضلال قبل ان يهال عليه التراب ويلف فى الاكفان من الاثواب : قال الفاضل عبد ارحمن الجامى قدس سره

بيش كسرى زخردمند حكيمان ميرفت ... سخن ازسخت ترين موج درين لجه غم

آن يكى كفت كه بيمارى واندوه دراز ... وان در كفت كه نادارى وبيريست بهم

سبومين كفت كه قرب اجل وسوء عمل ... عاقبت رفت بترجيح سوم حكم حكم

يعنى اجتمع يوما فى مجلس تنوشروان ثلاثة من الحكماء فانجر الكلام الى ان اشد الشدائد ما هو. فقال الحكين الرومى هو الشيخوخة مع الفقر. وقال الحكيم الهندى المرض وعلة البدن مع كثرة الغموم والهموم. وقال الحكيم بزرجمهر هو قرب الاجل وسوء العمل فاتفقوا على قوله رزقنا اللّه واياكم حلاوة الطاعات وايدنا بتوفيه قبل قدوم هاذم اللذات آمين

٦٥

{ يا اهل الكتاب } من اليهود والنصارى

{ لم تحاجون } تجادلون

{ فى } ملة

{ ابراهيم } وشريعته تنازعت اليهود والنصارى فى ابراهيم عليه السلام وزعم كل واحد منهما انه عليه السلام وترافعا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت والمعنى لم تدعون انه عليه السلام كان منكم

{ وما انزلت التوراة } على موسى عليه السلام

{ والانجيل } على عيسى عليه السلام

{ الا من بعده } اى من بعد موته وانتم سميتم بالبهودية والنصرانية بعد نزل الكتاب

{ أفلا تعقلون } اى ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم فتجادلون بالجدال المحال لان بين ابراهيم وموسى الف سنة وبين موسى وعيسى الفى سنة فكيف يكون ابراهيم على دين لم يحدث الا بعد عهده بازمنة متطاولة

٦٦

{ ها انتم هؤلاء } جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستأنفة اشعارا بكمال غفلتهم اى انتم هؤلاء الحمقى حيث

{ حاججتم فيما لكم به علم } من التوراة والانجيل من نبوة محمد عليه السلام

{ فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } فيما لا ذكر له فى كتابكم ولا علم لكم به من دين ابراهيم اذ لا ذكر لدينه عليه السلام فى احد الكتابين قطعا

{ واللّه يعلم } ما حاججتم فيه فيعلمنا

{ وانتم لا تعملون } اى محل النزاع

٦٧

{ ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا } تصريح بما نطق به البرهان المقرر

{ ولكن كان حنيفا } اى مائلا عن العقائد الزائغة كلها

{ مسلما } اى منقادا للّه تعالى وليس المراد انه كان على ملة الاسلام والا لاشترك الالزام

{ وما كان من المشركين } تعرض بانهم مشركون بقولهم عزيز ابن اللّه والمسيح ابن اللّه ورد لادعاء المشركين انهم على ملته عليه السلام

٦٨

{ ان اولى الناس بابراهيم } اى ان احق الناس بدعواه انه على دين ابراهيم

{ للذين اتبعوه } فى زمانه

{ وهذا النبى } اى محمد المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وسلم لانه اتبعه

{ والذين آمنوا } باللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم من هذه الامة لموافقتهم فى اكثر ما شرعه لهم على الاصالة

{ واللّه ولى المؤمنين } ينصرهم ويجازيهم الحسنى بايمانهم

٦٩

{ ودت طائفة من اهل الكتاب } اى احبت

{ لو } اى ان

{ يضلونكم } يصرفونكم عن دين الاسلام الى دين الكفر وانما قال طائفة لان من اهل الكتاب امة قائمة يتولن آيات اللّه

{ وما يضلون الا انفسهم } جملة حالية جيىء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم اى وما يتخطاهم الاضلال ولا يعود وباله الا اليهم لما انه يضاعف به عذابهم

{ وما يشعرون } اى باختصاص وباله وضرره بهم

اعلم انه تعالى لما بين ان من طريقة اهل الكتاب العدول عن الحق والاعراض عن قبول الحجة بين انهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون فى اضلال من آمن بالرسول عليه السلام بالقاء الشبهات فعلى العاقل ان لا يضل عن الطريق القويم بالقاآت كل شيطان رجيم من ضلال الانس والجان اصلحهم اللّه الملك المنان وماذا بعد الحق الا الضلال قال ابن مسعود رضى اللّه عنه لما دنا فراق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمعنا فى بيت عائشة رضى اللّه عنها ثم نظر الينا فدمعت عيناه وقال ( مرحبا بكم حياكم اللّه رحمكم اللّه اوصيكم بتقوى اللّه وطاعته قددنا الفراق وحان المنقلب الى اللّه والى سدرة المنتهى والى جنة المأوى يغسلنى رجال اهل بيتى ويكفوننى فى ثيابى هذه ان شاؤا او فى حلة يمانية فاذا غسلتمونى وكفنتمونى ضعونى على سريرى فى بيتى هذا على شفير لحدى ثم اخرجوا عنى ساعة فاول من يصلى على حبييى جبريل عليه السلام ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم ملك الموت مع جنودهم ثم ادخلوا على فوجا فوجا صلوا على ) فلما سمعوا فراقة صاحوا وبكوا وقالا يا رسول اللّه انت رسول ربنا وشمع جمعنا وسلطان امرنا اذا ذهبت عنا فالى من تراجع فى امورنا قال ( تركتكم على المحجة البيضاء ) اى على طريق الواسع الواضح ليلها كنهارها فى الوضوخ ولا يزيغ بعدها الى غيرها الا هالك ( وتركت لكم واعظين ناطقا وصامتا فالناطق القرآن والصامت الموت فاذا اشكل عليكم امر فارجعوا الى القرآن والسنة واذا قسا قلبكم فلينوه بالاعتبار فى احوال الاموات )

جهان اى بسر جاويد نيست ... زدنيا وفادارى اميد نسيت

والناس فى الاعتقاد والعمل متفاوتون فمنهم من هو متين كالحصن الحصين لا يزول عما هو عليه وان اتفق الناس فى اضلاله وهو المرتبة القصوى فى باب الدين التى نالها الانبياء والاولياء والافراد من المؤمنين قال على كرم اللّه وجهه [ لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ] ولا يطرأ الشك فى المحسوس فكذا ما هو فى الحكمة. ومنهم من هو ضعيف لامتانة فيه تذروه رياح الهوى حيث شاءت بعد ان لم تساعد له العناية الازلية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( الناس كمعادن الذهب ولفضة ) يعنى ان الناس معادن الاعمال والاخلاق والاقوال ولكن يتفاوتون فيها كما تتفاوت معادن الذهب والفضة الى ان تنتهى الى الادنى فالادنى

قال فى شرح المصباح وفيه اشارة الى ان ما فى معادن الطباع من جواهر مكارم الاخلاق ينبغى ان تستخرج برياضة النفوس كما يستخرج الجواهر من المعادن بالمقاساة والتعب ولقد اجاد من قال

بقدر الكد تكتسب المعالى ... ومن طلب العلى سهر الليالى

تروم العز ثم تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب اللآلى

فلا بد من الاجتهاد والاستمداد من الابدال والاوتاج لعل اللّه يسهل سلوك هذا الطريق ويخلص من خطر هذا البحر العميق

بارى كه آسمان وزمين سركشبد ازان ... مشكل بود بياورىء جسم وجان كشيد

همت قوى كن ازمدد رهروان عشق ... كان باررا بقوت همت توان كشيد

٧٠

{ يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه } اى بما نطقت به التوارة والنجيل ودلت على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم

{ وانتم تشهدون } اى والحال انكم تشهدون انها آيات اللّه

٧١

{ يا اهل الكتاب لم تلبسون } اى تخلطون

{ الحق بالباطل } المراد بالحق كتاب اللّه الذى انزله على موسى وعيسى عليهما السلام. وبالباطل ما حرفوه وكتبوه بايديهم وبخلط احدهما بالآخر ابراز باطلهم فى صورة الحق بان يقولوا الكل من عند اللّه تعالى

{ وتكتمون الحق } اى نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته

{ وانتم تعملون } انه حق ثابت فى كتابكم

٧٢

{ وقالت طائفة من اهل الكتاب } وهم رؤساؤهم ومقتدرهم لا عقابهم

{ آمنوا بالذى } اى اظهروا الايمان بالقرآن الذى

{ انزل على الذين آمنوا } اى على المسلمين

{ وجه النهار } اى فى اوله لان اول النار هو اول ما ظهر منه كما ان الوجه اول ما يظهر من اعضاء الانسان عند الملاقاة

{ واكفروا آخره } اى اظهروا ما انتم علبه من الكفر به فى آخر النهار مرائين لهم انكم آمنتم به بادى الرأى من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الاول فرجعتم عنه

{ لعلهم } اى المؤمنين

{ يرجعون } عما هم عليه من الايمان به كما رجعتم. والمراد بالطائفة كعب بن الاشرف ومالك ابن الصيف قالا لاصحابهما لما حولت القبلو آمنوا بما انزل عليهم من الصلاة الى الكعبة وصلوا اليها اول النهار ثم صلوا الى الصخرة آخرة لعلهم يقولون هو اعلم منا وقد رجعوا فيرجعون

٧٣

{ ولا تؤمنوا } اى لا تقروا بتصديق قلبى

{ الا لمن تبع دينكم } اى لاهل دينكم لا لمن تبع محمد واسلم لما قالت الطائفة المتقدمة لاتباعهم اظهروا الايمان بالقرآن اول النهار كان من بقية كلامها لهم انكم لا تصدقوا بحقية الاسلام والقرآن بقلوبكم لكن لا تظهروه للمسلمين ولا تقروا بذلك الا لاهل دينكم

{ قل } يا محمد للرؤساء

{ ان الهدى هدى اللّه } يهدى به من يشاء الى الايمان ويثبته عليه فاذا كانت الهداية والتوفيق من اللّه فلا يضر كيدكم وحيلكم وهو اعتراض مقيد لكون كيدهم غير مجد لطائل

{ ان يؤتى احد مثل ما اوتيتم } علة بتقدير اللام لفعل محذوف اى قللتم ذلك القول ودبرتم الكيد لان يعطى احد مثل ما اعطيتم من فضل الكتاب والعلم لا لسىء آخر يعنى ما بكم من الحسد صار داعيالكم الى ان قلتم ما قلتم

{ او يحاجوكم } عطف على ان يؤتى وضمير الجمع عائد الى احد لانه فى معنى الجمع اى دبرتم ما دبرتم لذلك ولا يحاجوكم عند كفركم بما يؤتى احد من الكتاب مثل كتابكم

{ عند ربكم } يوم القيامة فيغلبوكم بالحجة فان من آتاه اللّه الوحى لا بد ان يحاج مخالفيه عند ربه

{ قل ان الفضل } اى الهدى والتوفيق وايتاء العلم والكتاب

{ بيد اللّه } اى بقدرته ومشيئته

{ يؤتيه من يشاء } من عباده

{ واللّه واسع } اى كامل القدرة

{ عليم } اى كامل العلم فلكمال القدرة يصح ان يتفضل على اى عبد يشاء بأى تفضل شاء ولكمال علمه لا يكون شىء من افعاله الا على وجه الحكمة والصواب

٧٤

{ يختص برحمته } اي يجعل رحمته مقصورة على

{ من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم } كلاهما تذييل لما قبله مقر لمضمونه

والاشارة فى تحقيق الآيات ان الحسد وان كان مركوزا فى جبلة الانسان ولكن له اختصاص بعالم يتعلم العلم ليمارى به السفهاء ويباهى له العلماء ويجعله وسيلة لجمع المال وحصول الجاه والقبول عند ارباب الدنيا فيحسد على كل عالم آتاه اللّه كلمة فهو ينشرها ويفيد الخلق كما قال عليه السلام ( لا حسد الا فى اثنين رجل آتاه اللّه مالا فسلطه على هلكه فى حق ورجل آتاه اللّه حكمة فهو يقضى بها ويعلمها ) اى لا حسد كحسد الحاسد على هذين الرجلين وكان حسد احبار اليهود على النبى عليه السلام من هذا القبيل

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ستة يدخلون النار قبل الحساب ) قيل يا رسول اللّه من هم قال ( الامراء من بعدى بالجور والعرب بالعصية والدهاقين بالكبر والتجار بالخيانة واهل الرستاق بالجهل واهل العلم بالحسد ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ثلاث هن اصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن اياكم والكبر فان ابليس حمله الكبر على ان لا يسجد لآدم ) قال المولى الجامى

لاف بى كبرى مزن كان ازنشان باى مور ... درشب تاريك برسنك سيه بنهان ترست

وزدرون كردن برون انرامكير آسان كزان ... كوه راكندن بسوزن اززمين آسان ترست

( واياكم والحرص فان آدم حمله الحرص على ان اكل من الشجرة ) وقال ايضا

درهم دلى كه عزقناعت نهاد باى ... ازهرجه بود حرص وطمع را ببست دست

هرجاكه عرضه كرد قناعت متاع حويش ... بازار حرص ومعركو آزرا شكست

( واياكم والحسد فان ابنى أدم انما قتل احدهما صاحبه حسدا ) قال الشيخ السعدى

توانم انكه نيازام اندرون كسى ... حسود راجه كنم كوز خود برنج درست

بميرتابرهى اى حسود كين رنجيست ... كه ازمشقت ان جزبمرك نتوان رست

وقال الاصمعى رأيت اعرابيا اتى عليه مائة وعشرون سنة فقلت ما طول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت وفى بعض الآثار ان فى السماء الخامسة ملكا يمر به عمل عبد له ضوء كضوء الشمس فيقول قف فانا ملك الحسد اضربوا به وجه صاحبه فانه حاسد.

وقيل من علامات الحاسد ان يتملق اذا شهد ويغتاب اذا غاب ويشمت بالمصيبة اذا نزلت وانشدوا

واذا اراد اله نشر فضيلة طويت ... اتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود

فالحسد من الاخلاق المذمومة للنفس فلا بد من ازالته عنها بكثرة التوحيد والاذكار ورؤية الآثار من اللّه الجبار فان تباين مقامات افراد الانسان فى العلم والعمل والخلق وسائر الصفات الفاضلة رحمة لهم ولم يكن ذلك الا بتقدير العزيز العليم فى الازل فالحاسد يسفه الحق سبحانه وانه انعم على من لا يستحق تعالى اللّه عما يقول الظالمون وقد ذم اللّه الحاسدين فى كتابه قال تعالى

{ ام يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله }

واما الغبطو فهة محمودة نسأل اللّه ان يحلينا بالصفات الشريفة والاخلاق اللطيفة ويخلينا من الرذائل النفسية آمين يا رب العالمين

٧٥

{ ومن اهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار } يقال امنته بكذا فالباء للاصاق بالامانة فان من ائتمن على شىء صار ذلك الشىء فى معنى الملصق به لقربه منه واتصاله بحفظه والمراد بالقنطار ههنا العدد الكثير

{ يؤده اليك } من غير جحد ونقص كعلد اللّه بن سلام استودعه قرشى الفا ومائتى اوقية ذهبا فادها اليه فاهل الامانة من اهل الكتاب هم الذين اسلموا

{ ومنهم من ان تأمنه بدينا } والمراد بالدينار ههنا العدد القليل

{ لا يؤده اليك } وهو كعب بن الاشرف استودعه رجل من قريش دينارا فلم يؤده وجحده فذمه تعالى فاهل الخيانة منهم هم الذين بقوا على اليهودية والنصرانية والمعنى ان فيهم من هو فى غاية الامانة حتى لو اؤتمن على الاموال الكثيرة ادى الامانة فيها ومنهم من هو فى غاية الخيانة حتى لو اؤتمن فى الشىء القليل فانه يخون

{ الم دمت عليه قائما } استثناء مفرغ من اعم الاحوال والاوقات اى لا يؤده اليك فى حال من الاحوال او فى وقت من الاوقات الا فى حال دوام قيامك او فى وقت قيامك على رأسه مبالغا فى مطالبته بالتقاضى واقامة البينة

{ ذلك } اى تركهم اداء الحقوق

{ بانهم } اى بسبب انهم

{ قالوا ليس علينا فى الاميين } اى فى شأن نم ليس من اهل الكتاب

{ سبيل } اى عتاب ومؤاخذة ونفى السبيل نفى المطالبة فان المطالب لا يتمكن من المطالبة الا اذا وجد السبيل الى المطلوب. والامى منسوب الى الام وسمى النبى عليه السلام اميا لانه كان لا يكتب وذلك لان الام اصل الشىء فمن لا يكتب فقد بقى على اصل حاله فى ان لا يكتب.

وقيل لانه عليه السلام نسب الى مكة وهى ام القرى

{ ويقولن على اللّه الكذب } بادعئهم ان ذلك فى كتابهم

{ وهم يعلمون } انهم كاذبون مفترون على اللّه وذلك لانهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل فى التوراة فى حقهم حرمة فقد كذبوا فى ذلك على اللّه فان اداء الامانة واجب فى الاديان كلها وحبس مال الغير والاضرار به والخيانة اليه حرام

٧٦

{ بلى } اثبات لما نفوه اى بلى عليهم فى الاميين سبيل

{ من اوفى بعهده } الضمير راجع الى من اى من أتم بعهد الوافى أو بعهد اللّه الذى عهده اليهم فى التوراة واخذ ميثاقهم عليه من الايمان بمحمد واداء الامانة

{ واتقى } اى الشرك والخيانة وجواب الشرط وهو من قوله

{ فان اللّه يحب المتقين } عن الغدر والخيانة ونقض العهد اى فان اللّه يحبه فقام عموم المتقين مقام الضمير الراجع من الجزاء الى من يعنى التقوى تعم وفاء ما عاهدوا اللّه عليه من الايمان بمحمد عليه السلام وبما جاء به مما يتعلق بتكميل القوة النظرية والعملية

ودلت الاية على تعظيم امر الوفاء بالعهد وذلك لان الطاعات مقصورة علىمرين التعظيم لامر اللّه تعالى والشفقة على خلق اللّه ولما امر اللّه به كان الوفاء به تعظيما لامر اللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اربع من كن فيه منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها اذا ائتمن ) اى جعل امينا ووضع عنده امانه ( خان واذا حدث كذب واذا عاهد غدر ) اى ترك الوفاء ( واذا خاصم فجر ) اى مال عن الحق قال صاحب التحفة وليس الغرض ان آية المنافق محصورة فيها بل كل من ابطن خلاف ما اظهر فهو من المنافقين فصدور العدد من حير الانام يكون باعتبار اقتضاء المقام والوفاء بالعهد كما يمكن ان يكون فى حق الغير يمكن ايضا فى حق النفس لان الوافى بعهد النفس هو الآتى بالطاعات والتارك للمحرمات لانه عند ذلك تفوز النفس لان الوافى بعهد النفس هو الآتى بالطاعات والتارك للمحرمات لانه عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب

فعلى العاقل ان يوفى بعهده فى السراء والضراء ويجتهد فى محافظته - حكى - ان شابا عقد مع اللّه عقدا ان لا ينظر الى شىء من مستحسنات الدنيا فمر يوما بسوق فراى منطقة مرصعة بالدر والجوهر فنظر اليها فاعجبته ثم مضى عنها وقد نظر اليه صاحبها فلما ذهب عنه افتقدها فلم يجدها فوثب مسرعا حتى تعلق بالشاب وقال يا عيار انت سارق منطقتى فحمله الى السلطان فلما نظر اليه قال ليس هذا من اهل السرقات فقال بل هو سارق منطقتى وصفتها كيت كيت فامر بتفتيشه فوجدوها على وسطه فقال له السلطان يا فتى أما تستحى تلبس لباس الاخيار وتعمل عمل الفجار فنظر الفتى الى المنطقة فقال مولاى الاقالة الاقالة الهى لا اعود الى مثلها فأمر السلطان ان يضرب فجر ليضربوه فاذاهم بصوت يسمع ولا يرىيقول دعوه ولا تضربوه انما اردنا تأديبه فوثب السلطان الى الفتى وقبله بين عينيه ثم قال اخبرنى عن قصتك فاخبره فتعجب من ذلك ثم قرأ

{ والموفون بعهدهم اذا عاهدوا } فقال صاحب المنطقة سالتك باله ألا ما قبلتها منى واجعلنى فى حل فقال اليك عنى ليس هذا من صنعتك انما الصنع لصاحب الصنع ولا مؤثر فى الوجود غير الحق وليس فى الدار غيره ديار

جه خوش كفت بهلول فرخنده خوى ... جو بكذشت بر عارفى جنك جوى

كر اين مدعى دوست بشناختى ... به بيكار دشمن نبرداختى

كر از هستىء حق خبر داشتى ... همه خلق را نيست بنداشتى

فاذا وقفت على هذالخبر فقم فى تربية نفسك الى ان تصل الى الهوية المطلقة مميطا لثام الاثنينية مشاهدا وجود الحق فى كل شىء رزقنا اللّه واياكم مشاهدته

٧٧

{ ان الذين يشترون } اى يستبدولن ويأخذون

{ بعهد اللّه } اى بدل ما عاهدوا عليه من الايمان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم والوفاء بالامانات

{ وايمانهم } وبما حلفوا به من قولهم لنؤمنن به ولننصرنه

{ ثمنا قليلا } هو حطام الدنيا

{ اولئك } الموصوفون بتلك الصفات القبيحة

{ لاخلاق } لا نصيب

{ لهم فى الآخرة } ولا فى نعيمها

{ ولا يكلمهم اللّه } وهو كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ باللّه من ذلك

{ ولا ينظر اليهم يوم القيامة } وهو مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم

{ ولا يزكيهم } اى لا يثنى عليهم كما يثنى على اوليائه مثل ثناء المزكى للشاهد والتزكية من اللّه تعالى قد تكون على ألسنة الملائكة كقوله تعالى

{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } وقد تكون بغير واسطة اما فى الدنيا فكقوله تعالى

{ التائبون العابدون }

واما فى الآخرو فكقوله تعالى

{ سلام قولا من رب رحيم } { ولهم عذاب أليم } على ما فعلو من المعاصى

والآية نزلت فى اليهود الذين حرفوا التوارة وبدلوا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واخذوا الرشوة على ذلك

٧٨

{ وان منهم } اى من اليهود المحرفين

{ لفريقا } ككعب بن الاشرف ومالك بن الصيف واضرا بهما

{ يلوون } من اللى وهو الفتل

{ ألسنتهم بالكتاب } اى يفتلونها بقراءته فيميلونها من المنزل الى المحرف

{ لتحسبوه } اى المحرف المدلول عليه يلوون

{ من الكتاب } اى من جملته

{ وما هو من الكتاب } حال من الضمير المنصوب اى والحال انه ليس منه فى نفس الامر وفى اعتقادهم ايضا

{ ويقولون } مع ما ذكر من اللى والتحريف على طريقة التصريح لا بالتوراة والتعريض

{ هو } اى المحرف

{ من عند اللّه } اى منزل من عند اله

{ وما هو من عند اللّه } اى والحال انه ليس من عنده تعالى فى اعتقادهم ايضا

{ ويقولن على الكذب وهم يعملون } انهم كاذبون ومفترون على اللّه وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على اللّه تعالى والتعمد فيه

وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الاشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم اخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب

والاشارة فى الآيتين

{ ان الذين يشترون بعهد اللّه } الذى عاهدهم اللّه به يوم الميثاق فى التوحيد وطلب الوحدة

{ وايمانهم } التى يحلفون بها ههنا

{ ثمنا قليلا } من متاع الدنيا وزخارفها مما يلائم الحواس الخمس والصفات النفسانية

{ اولئك لاخلاق لهم فى الآخرة } الروحانية من نسيم روائح الاخلاق الربانية

{ ولا يكلمهم اللّه } تقريبا وتكريما وتفهيما

{ ولا ينظر اليهم يوم القيامة } بنظر العناية والرحمة فيرحمهم ويزكيهم عن الصفات التى بها يستحقون دركات جهنم

{ ولا يزكيهم } عن الصفات الذميمة التى هى وقدود النار بالنار الى الابد ولا يتخلصون منها ابدا

{ ولهم عذاب اليم } فيما لا يكلمهم اللّه ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم

{ وان منهم } اى من مدعى اهل المعرفة

{ لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } اى بكلمات اهل المعرفة

{ لتحسبوه } من المعرفة

{ ما هو من الكتاب } الذى كتب اله فى قلوب العارفين

{ ويقولون هو من عند اللّه } يعنى من العلم اللدنى

{ وما هو من عند اللّه ويقولون على اللّه الكذب } باظهار الدعاوى عند فقدان المعانى

{ وهم يعلمون } ولا يعملون انهم يقولون ما لا يفعلون : قال اسعدى قدس سره

كرا جامه باكست وسيرت بليد ... در دور خش را نبايد كليد

يعنى يدخل جهنم من قبل ان يحاسب على ما فعله لان مآله الى النار والمحاسبة وان كانت نوعا من التعذيب الا ان عذاب جهنم اشد منها

اكر مردى ازمردىء خود مكوى ... نه هر شهسوارى بدر كوى

يعنى كل عابد لا يخلص ايمانه فى عاقبته بل من المتعيشين بالصلاح من يموت على الطلاح والعياذ باللّه

كسى سر بزركى نباشد بجيز ... كدو سر بزركست وبى مغز نيز

ميفر از كردن بدستار وريش ... كه دستار ينبه است وسبلت حشيش

اى النبات اليابس. فيا ارباب الدعاوى ابن المعانى. ويا ارباب المعرفة ابن المحبة اين الطاعة - روى - ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى ليلة المعراج نساء بيد كل واحدة منهن مقراض تقرض صدرها وتقطعه قطعة فسأل جبريل عليه السلام عنهن فقال هن اللاتى ولدن اولادا من الزنى مع وجود ازواجهن واولادهن قال الشيخ الصفى قدس سره ان الذين يعون المعرفة وتمكنهم فى مقام الارشاد ويراؤن جلبا لحطام الدنيا عذابهم اشد من عذاب هؤلاء النساء سبعين مرة فمن جعل اللقرآن وسيلةلجلب زخارف الدنيا اولى منه من يجلبها بالمعازف وآلات اللّهو مثل اذا كان فى محل رفيع خبز لا تصل اليه اليد وليس هناك غير مصحف وطنبور فالاولى ان يجعل الطنبور تحت القدم للوصول دون المصحف وهكذا فيما نحن فيه : قيل

دين فروشى مايه كردن هست خسران مبين ... سود مند آنكس كه دينا صرف كرد ودين خربد

فلو نظرت الى شيوخ الزمان وجدت اكثرهم مدعين مالم يتحققوا به يضلون الناس باكاذيب ويروون اساليب ليس فيها اثر من المعانى والحقيقة

فعلى العاقل ان لا يغتر بزاهرهم ولا يخرج عن المنهاج مقتفيا بآثارهم بل يجتهد الى ان يميز بين الحق والباطل والعارف والجاهل وماذا بعد الحق الا الضلال عصمنا اللّه واياكم من الزيغ وسيآت الاعمال آمين يا متعال

٧٩

{ ما كان لبشر } بيان لافترائهم على الانبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجران ان عيسى عليه السلام امرنا ان نتخذه ربا حاشاه عليه السلام

وجاء رجل من المسلمين فقال يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال ( معاذ اللّه ان تعبد غير اللّه او ان نأمر بعبادةغير اللّه ) اى ما صح وما استقام لاحد سواء كان بشرا اولا وانما قيل لبسر اشعارا بعلة الحكم فان البشرية منافية للامر الذى اسنده الكفرة اليهم

{ ان يؤتيه اللّه الكتاب } الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهى عن الاشراك كالتوارة والانجيل والقرآن

{ والحكم } اى الفهم والعلم

{ والنبوة } وايتاء الكتاب يستلزم ايتاء الحكم وهو الحكمة المعبر عنها باتقان العلم والعمل فلذك قدم الكتاب على الحكم لان المراد بالحكم هو العلم بالشريعة وفهم مقالد الكتاب واحكامه فان اهل اللغة والتفسير اتفقوا على ان هذا الحكم هوالعلم قال تعالى

{ وآتيناه الحكم صبيا } يعنى العلم والفهم. فالكتاب السماوى ينزل اولا ثم انه يحصل فى عقل النبى فهم ذلك الكتاب واسراره وبعدما حصل فهم الكتاب يبلغ النبى ذلك المفهوم الى الخلق وهو النبوة والاخبار فما احسن هذا الترتيب

{ ثم يقول } ذلك البشر بعدما شرفه تعالى بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق واطلعه على شؤونه العالية

{ للناس كونوا عبادا } كائنين

{ لى من دون اللّه } من متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل

{ ولكن } يقول لهم

{ كونوا ربانيين } الربانى منسوب الىلرب بزيادة الالف والنون كاللحيانى اذا وصف بطول اللحية ففيه دلالة على الكمال فى هذه الصفة واذا نسب الى اللحية من غير قصد المبالغة يقال لحوى فالربانى هو الكامل فى العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة اللّه تعالى ودينه كما يقال رجل آلهى اذا كان مقبلا على معرفة الاله وطاعته

{ بما كنتم تعلمون الكتاب ولما كنتم تدرسون } اى بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته اى قراءته وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها

٨٠

{ ولا يأمركم ان تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا } بالنصب عطف على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله تعالى

{ ما كان لبشر } ان يستنبئه اله تعالى ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين اربابا كما قال قريش والصابئون الملائكة بنات اللّه واليهود والنصارى عزيز ابن اللّه والمسيح ابن اللّه

{ أيأمركم بالكفر بعد اذ أنتم مسلمون } انكار لما نفى عن البشر والضمير له يعنى أيأمركم بعبادة الملائكة والسجدة للانبياء بعد كونكم مخلصين بالتوحيد للّه فانه لو امركم بذلك لكفر ونزع منه النبوة والايمان ومن اتاه اللع الكتاب والحكم والنبوة يكون اعلم الناس وافضلهم فيمنعه ذلك من ادعاء الالوهية فانه تعالى لا يؤتى الوحى والكتاب الا نفوسا طاهرة وارواحا طيبة فلا يجمع بشر بين النبوة وبين دعاء الخلق الى عبادة غير اللّه واعلم ان العلم والدراسة جعلا سببا للربانية التى هى قوة التمسك بطاعة اللّه وكفى هو دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكدّ روحه فى جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة الى العمل فكان مثل غرس شجرة حسناء تؤنقه اى تعجبه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها فالعمل بغير العلم والعلم بغير العمل لا يثبت كل منهما بانفراده النسبة الى الرب فعلم ان العالم الذى لا يعمل بعلمه منقطع النسبة الا للتمسك بالعمل المبنى على العلم

قال على رضى اللّه عنه قصم ظهرى رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك لان العالم ينفر الناس عن العلم بتهتكه والجاهل يرغب الناس فى الجهل بتنسكه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( نعوذ باللّه من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ) فعلى المعلم والمتعلم ان يطلب بعلمه مرضاة اللّه وبعمله الربانية فمن اشتغل بالتعليم والتعلم لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله

والاشارة ان من دأب اهل الحقيقة تربية الاتباع والمريدين ليكونا ربانين متخلقين باخلاق الربانية العاملين بما يعملون من الكتاب وبما كانوا يدرسون من العلوم ولا يقنعون على دراستها ولا يفترون بمقالات اخذوها من افواه القوم وبعض مدعى هذا الشان الذين غلبت عليهم اهواؤهم وصفات بشريتهم يدعون الشيخوخة من رعونة النفس قبل اوانها ويخدعون الخلق بانواع الحيل ويستتبعون بعض الجهلة ويصيدونهم بكلمات بان يمنعوهم من صحبة اهل الحق ومشايخ الطريقة ويأمرهم بالتسليم والرضى فيما يعاملونهم ولا يعرفون غيرهم فيعبدونهم من دون اللّه كما هو دأب اكثر مشايخ زماننا هذا فانه ليس من دأب من يؤتى الكتاب والحكم والنبوة : قال السعدى فى ذم امثال هؤلاء المشايخ

دمام بشوند جون كر به روى ... طمع كرده در صيد موشان كوى

رياضت كش ازبهر نام وغرور ... كه طبل تهى را رود بانك دور

يعنى يصل صوت الطبل الى البعيد ويسمع من البعيد لكونه خاليا فكذلك امثالهم يشتهر ذكرهم بين الناس وليس ذلك الا لكونهم خالين عن الحقيقة اذ المرء الصادق فى طلبه والواصل الى ربه يحب الخمول والنفرة عن الخلق فشأنه اتجنب من كل شىء سوى اللّه دون تشهير نفسه وجلب المال من ايدى الناس بل من الناس من يرغب عنه وهو مرغوب

كسى راكه نزديك ظنت بداوست ... جه دانى كه صاحب ولا يت خود اوست

در معرفت بر كسانيست باز ... كه درهاست برروى ايشان فرار

٨١

{ واذ اخذ اللّه ميثاق النبيين } قال قوم ان اللّه تعالى اخذ الميثاق من النبيين خاصة ان يصدق بعضهم بعضا واخذ العهد على كل نبى ان يؤمن بمن يأتى بعده من الانبياء وينصره ان ادركه وان لم يدركه ان يأمر قومه بالايمان به وبنصرته ان ادركوه فأخذ الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى ومن عيسى ان يؤمن بمحمد عليه السلام واذا كان هذا حكم الانبياء كان الامم بذلك اولى واحرى اى اذكر يا محمد وقت اخذ اللّه ميثاق الانبياء واممهم

{ لما آتيتكم } اللام موطئة لان اخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما مبتدأ موصولة وآتيتكم صلتها والعابد محذوف تقديره للذى آتيناكموه

{ من كتاب وحكمة } وهى بيان احكام الحلال والحرام والحدود حال من الموصول

{ ثم جاءكم رسول } عطف على الصلة والمعطوف على الصلة صلة فلا بد من الرابط فالتقدير رسول به

{ مصدق لما معكم } من الكتاب

{ لتؤمنن به ولتنصرنه } جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ اى واللّه لتصدقنه برسالته وتنصرنه على اعدائه لاظهار دين الحق

فان قيل ما وجه قوله تعالى

{ ثم جاءكم رسول } والرسول لا يجيىء الى النبيين وانما يجيىء الى الامم

والجواب ان حملنا قوله

{ واذ اخذ اللّه ميثاق النبيين } على اخذ ميثاق اممهم فقد اندفع الاشكال وان حملناه على اخذ ميثاق النبيين انفسهم كان معنى قوله

{ ثم جاءكم } اى جاء فى زمانك

{ قال } اى اللّه تعالى بعدما اخذ الميثاق

{ أاقررتم } اى بالايمان والنصر له والاستفهام للتقرير والتأكيد عليهم لاستحالة حقيقة الاستفهام فى حقه تعالى

{ واخذتم على ذلكم } الميثاق

{ اصرى } اى عقدى الذى عقدته عليكم والاصر الثقل الذى يلحق الانسان لاجل ما يلازمه من العلم والاصر ههنا العهد الثقيل لانه ثقل على صاحبه من حيث انه يمنع عن مخالفته اياه

{ قالوا اقررنا } بذلك او اكتفى به عن ذكر اخذهم الاصر

{ قال } سبحانه وتعالى

{ فاشهدوا } ايها الانبياء والامم باقرار بعضكم على بعض

{ وانا معكم من الشاهدين } اى وانا ايضا شاهد على اقراركم ذلك مصاحب لكم وادخال مع المخاطبين اما انهم المباشرون للشهادة حقيقة والمقصود منه التأكيد والتحذير من الرجوع اذا علموا شهادة اللّه وشهادة بعضهم على بعض

٨٢

{ فَمَنْ تَوَلَّى } اى اعرض عما ذكر

{ بعد ذلك } الميثاق والتوكيد بالقرار والشهادة

{ فاولئك هم الفاسقون } المتمردون الخالرجون عن الطاعة من الكفرة فان الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزا عن الحد

قال فى التيسير والتولى لا يقع من الانبياء ولا يوصفون بالفسق لكن له وجهان. احدهما ان الميثاق كان على الانبياء واممهم على التبعية والتولى من الامم خاصة. والثانى ان العصمة لا تزيل المحنة انتهى وهذا الميثاق لما كان مذكورا فى كتبهم وهم كانوا عارفين لذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد عليه السلام فى النبوة فلم يبق لكفرهم سبب الا مجر العداوة والحسد فصاروا كابليس الذى دعاه الحسد الى الكفر فاعلمهم اللّه تعالى انهم متى كانوا طالبين دينا غير دين اللّه ومعبودا سوى اللّه بقوله تعالى

٨٣

{ أفغير دين اللّه يبغون } عطف على مقدر اى يتولون فيبغون غير دين اللّه ويطلبونه

{ وله اسلم } اى اخلص وانقاد

{ من فى السموات والارض } اى اهلها

{ طوعا } وهم الموحدون

{ وكرها } اى باباء وهم الجاهدون بما فيهم من آثار الصنع ودلائل الحدوث وتصريفهم كيف يشاء الى صحة ومرض وغنى وفقر وسرور وحزن وسائر الاحوال فلا يمكنهم دفع قضائه وقدره

{ واليه يرجعون } اى من فيهما والمراد ان من خالفه فى العاجل فسيكون مرجعه اليه الى حيث لا يملك الضر والنفع سواه وهذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق

فعلى العاقل ان يطيع ربه ولا يعصيه بنقص ما عهد اليه يوم الميثاق. فعهد اللّه مع الانبياء والاولياء والمؤمنين التوحيد واقامة الدين وعدم التفرق فيه وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق الى الطاعة وتخصيص العبادة باللّه فاللّه تعالى لا يطلب من العبد الا الصدق فى العبودية والقيام بحقوق الربوبية

قال الشيخ الشاذلى قدس سره متى رزقك اللّه الطاعة والفناء به عنها فقد اسبغ عليك نعمه ظاهرة اذ أراح ظهرك من مخالفة امره. وباطنه اذ رزقك الاستسلام لقهره وهذا هو مطلب الحق منك قيل لابراهيم ابن ادهم قدس سره لو جلست لنا فى المسجد حتى نسمع منك شيأ فقال انى مشغول عنكم باربعة اشياء فلو تفرغت منها لجلست معكم قيل من هى يا ابا اسحق قال. اولها انى تذكرت حين اخذ اللّه الميثاق على آدم فقال هؤلاء الى الجنة ولا ابالى وهؤلاء الى النار ولا ابالى فلم ادر من اى الفريقين كنت. الثانىة انى تفكرت ان الولد اذا قضى اللّه سبحانه بخلقه فى بطن امه ونفخ فيه الروح فيقول الملك الموكل به يارب أشقى او سعيد فلم ادر كيف خرج جوابى فى ذلك الوقت. الثالث حين ينزل ملك الموت فاذا اراد ان يقبض الروح فيقول يا رب أقبضها مع الاسلام او مع الكفر فلا ادرى كيف يخرج جوابى فى ذلك الوقت. الرابع تفكرت فى قوله

{ وامتازوا اليوم ايها المجرمون } فلا ادرى من اى الفرين اكون ففى هذا شغل شغلنى عن الجلوس لكم والحديث معكم ففى هذا الاشارة الى ان العبد مع كونه مستسلما لقضاء اللّه لا بد وان يراعى وظيفة التكليف اذ الخير او الشر مقضى فى حقه ولكن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) فليجاهد العاقل فى تزكية نفسه اولا ثم الوصية الى عباد اللّه ولا يكلف المرء الا بقدر وسعه والناس فى المراتب مختلفون فطوبى لمن وصل الى اعلى المطالب

بقذر حوصله خويش دانه جيند مرغ بصعوه نتوان داد طمعه شهباز ...

وقيل للشيخ الصفى قدس سره اذا قطع الطالب المنازل فهل يبقى بعد ذلك مرتبة لم يصل اليها بعد قال بلى يبقى علم انه هل كان مقبر لا للرب تعالى اولا

وفى القشيرى ما حاصله ان الولى فى الحال يجوز ان يتغير حاله فى المآل ويجوز ان يكون من جملة كرامات الولى ان يعلم انه مأمون العاقبة عصمنا اللّه واياكم بحسن الخاتمة

همه عالم همى كويند هر آن ... كه يارب عاقبت محمود كردان

٨٤

{ قل آمنا باللّه } امر للرسول صلى اللّه عليه وسلم بان يخبر عن نفسه بالايمان بما ذرك وجمع الضمير فى آمنا لاظهار حلالة قدرة صلى اللّه عليه وسلم ورفعة محله بامره بان يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك

{ وما انزل علينا } وهو القرآن والنزول كما يعدى بالى لانتهائه الى الرسل يعدى بعلى لانه من فوق

{ وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط } من الصحف. والاسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدو يعقوب عليه السلام وابناؤه الاثنا عشر وذراريهم فانهم حفدة ابراهيم عليه السلام

{ وما اوتى موسى وعيسى } من التوراة والانجيل وسائر المعجزات الظاهرة بايديهما وتخصيصهما بالذكر لما ان الكلام مع اليهود والنصارى

{ والنبيون } اى وما اوتى النبيون من المذكورين وغيرهم

{ منربهم } من الكتب والمعجزات

{ لا نفرق بين احد منهم } كداب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة كل منهم وبحقية ما انزل اليهم فى زماهم قال الامام فى تفسيره اختلف العلماء فى كيفية الايمان بالانبياء المتقدمين الذين نسخت شرائعهم وحقيقة الخلاف ان شرعه لما صار منسوخا فهل تصير نبوته منسوخة فمن قال ان نبوته منسوخة قال نؤمن بانهم كانوا انبياء ورسلا ولا نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال ومن قال ان نسخ الشريعة لا يقتضى نسخ النبوة قال نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال ون قال ان نسخ الشريعة لا يقتضى نسخ النبوة قال نؤمن بانهم انبياء ورسل فى الحال فتنبه لهذا الموضع

{ ونحن له مسلمون } اى منقادون على ان يكون الاسلام بمعنى الاستسلام وهو الانقياد او مخلصون له تعالى انفسنا لا نجعل له شريكا فيها على ان يكون من السلامة. وفيه تعريض بايمان اهل الكتاب فانه بمعزل عن ذلك

٨٥

{ ومن يبتغ غير الاسلام } اى غير التوحيد والنقياد لحك اللّه تعالى كداب المشركين صريحا والمدعين للتوحيد مع اشراكهم كاهل الكتابين

{ دينا } ينتحل اليه وهو نصل علىنه مفعول ليبتغ وغير الاسلام حال منه لانه فى الالصل صفة له فلما قدم انتصب حالا

{ فلن يقبل } ذلك

{ منه } ابدا بل يرد اشدرد واقبحه

{ وهو فى الىخر ن الخاسرين } اى الواقعين فى الخسران بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته فى الديا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة فى الدنيا فى تقرير ذلك الدين الباطل. والمعنى ان المعرض عن الاسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرو السليمة التى فطر الناس عليها

واعلم ان ظاهر الآية يدل على ان الايمان هو الاسلام اذ لو كان غير الاسلام لوجب ان لا يكون الايمان مقبولا لقوله تعالى

{ ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه } والجواب انه ينفى قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره

٨٦

{ كيف يهدى اللّه } الى الحق

{ قوما كفروا بعد ايمانهم } قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعدما آمنوا ولحقوا بمكة وهو استبعاد لان يهدى قوما هم معاندون للحق مكابرون فيه غير خاضعين بان يخلق فيهم الاهتداء ويوفقهم لا كتساب الاهتادؤ وانما يخلق الاهتداء ويوفق على كسب ذلك ويقدر هم عليه اذا كانوا خاضعين متواضعين للحق راغبين فيه فالمراد من الهداية خلق الاهتداء وقد جرت سنة اللّه فى دار التكليف على ان كل فعل يقصد العبد الى تحصيله فان اللّه تعالى يحلقه عقب قصد العبد فكأنه تعالى قال كيق يخلق فيهم المعرفة والاهتداء وهو فصدوا تحصيل الكفر وارادوه

{ وشهدوا ان الرسول حق } اى صادق فيما يقول

{ وجاءهم البينات } اى الشاهد من القرآن على صدقه. قوله وشهدوا عطف على ايمانهم باعتبار انحلاله الى جملة فعليه فانه فى قوة ان يقال بعد ان آمنوا وبعد ان شهدوا وهو دليل على ان الاقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان ضرورة ان المعطوف مغاير للمعطوف عليه

{ واللّه لا يهدى القوم الظالمين } اى الذيمن زظلموا انفسهم بالاخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الايمان فكيف من جاء الحق وعرفه ثم اعرض عنه فان قيل ظاهر الآية يقتضى ان من كفر بعد اسلامه لا يهديه اللّه ومن كان ظالما لا يهديه اللّه وقد رأينا كثيرا من المرتدين اسلموا وهداهم وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم فالجواب ان معناه لا يهديهم ما داموا مقيمين على الرغبة فى الكفر وفى الثبات عليه ولا يقبلون على الاسلام

واما اذا تحروا اصابة الحق والهتداء بالادلة المنصوبة فحينئذ يهديهم اللّه بخلق الاهتداء فيهم

٨٧

{ اولئك } المذكورون باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة

{ جزاؤهم ان عليهم لعنة اللّه } وهم ابعاده من الجنة وانزال العقوبة والعذاب

{ والملائكة } ولعنهم بالقول كالناس

{ والناس اجمعين } والمراد بالناس المؤمنون لانه لو اريد به جميع الناس لزم ان يلعن كل واحد منهم جميع بنار على ان جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد فى نفسه انه ليس بمبطل ولا كافر فاذا لعن الكافر وكان هو فى علم اللّه كافرا فقد لعن نفسه وان كان لا يعلم ذلك

٨٨

{ خالدين فيها } خالمن الضمير فى عليهم اى فى اللعنة والعقوبة ومعنى الخلود فى اللعن انهم يوم القيامة لا تزال تعلنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم فى النار ولا يخلو شىء من احوالهم من اللعنة

{ لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } الانظار التأخير اى لا يجعل عذابهم اخف ولا يؤخر العقاب من وقت الى وقت فان العذاب الملحق بالكفار مضرة خالصة من شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ باللّه من ذلك وما يؤدى اليه

٨٩

{ الا الذين تابوا من بعد ذلك } اى من بعد الارتداد

{ واصلحوا } اى ما افسدوا

{ فان اللّه غفور رحيم } فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وعطف قوله

{ واصلحوا } على قوله

{ الا الذين تابوا } يدل على ان التوبة وحدها وهى الندم على ما مضى من الارتداد والعزم على تركه فى المستقبل لا تكفى بالمعاملات وهذا الندم والتوبة انما يحصل لمن لم ترسخ فيه بهد هيئة استيلاء النفس الامارة على قلبه ولم تصر رينا وبقى فيه من وراء حجاب صفات النفس مسكةمن نور استعداده فيتدارركه اللّه برحمته وتوفيقه فيندم ويواظب على الرياضات من باب التزكية والتصفية - يحكى - عن السرى السقطى قدس سره انه قال قلت يوما عجبت من ضعيف عصى قويا فلما كان الغداة وصليت الغداة اذا انا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابة فنزل وقال ايكم السرى السقطى فاومأ جلسائى الى فسلم على وجلس وقال سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قويا فما اردت به فقلت ما ضعيف اضعف من ابن آدم لا قوى أقوى من اللّه تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه الى معصية اللّه قال فبكى ثم قال يا سرى هل يقبل ربك غريقا مثلى قلت ومن ينقذ الغرقى الا اللّه تعالى قال يا سرى ان على مظالم كثيرة كيف اصنع قال اذا صححت الانقطاع الى اللّه ارضى عنك الخصوم بلغنا عن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( اذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولى اللّه تقول الملائكة لهم لا تروّعوا ولى اللّه فان الحق اليوم على اللّه فيهب اللّه لهم مقامات عالية بدل حقوقهم فيتجاوزون عن الولى ) قال فيكى ثم قال صف لى الطريق الى اللّه فقلت ان كنت تريد طريق المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وان كنت تريد طريق الاولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق فعلى السالك ان يتوب من جميع الآثام ولا يشغل سره سوى مشاهدة اللّه العلام

بهشت تن اسانى آنكه خورى ... كه بردوزخ نيستى بكذرى

يعنى لا تصل الى الحضور الباقى والحياة الابدية الا بافناء وجودك فى وجود الحق وتبديل الاخلاق الذميمة بالاخلاق الحميدة فاذا جاوزت هذا الصراط الادق وصلت الى الجناب المطلق وعن عبد اللّه بن عمر رضى اللّه عنهما انه قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يا عبداللّه كن فى الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل ) اى لا تركن اليها ولا تتخذها وطنا ولا نحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا بالاعتناء بها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب فى غير وطنه ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذى يريد الذهاب الى اهله

( وعد نفسك من اصحاب القبور ) وفيه اشارة الى الفناء عن اضافة الوجود الى نفسه بل الوجود كله للّه تعالى فالبدن للروح بمنزلة القبر للميت فكما ان الميت فى قبره يسلم لامر مولاه ولا يتعرض الى شىء اصلا كذلك ينبغى ان لا يتعرض العبد لشىء من الآفات البدنية والقلبية بل يدور حيث اوقفه اللّه من الفطرة الاصلية والشهود التام وقل من سلم من هذه الآفات الا ان العبد بالتوبة يتدراك ما فات فاياك ان ترخص لنفسك فى فعل شر فاذا قد فتحت بابه فاول الشر الخطرة كما ان اول السيل قطره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ما بال اقوام يشرفون المسرفين ويستخفون بالعابدين ويعملون بالقرآن ما وافق اهواءهم وما خالف اهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض يسعون فيما يدرك من القدر المحتوم والرزق المقسوم والاجل المكتوب ول يسعوم فيما لا يدرك الا بالسعى من الاجر الموفور والسعى المشكور والتجارة التى لا تبور ) فاذا وقفت على هذا جعلت سعيك للآخرة لا للدنيا بل لم تطلب من اللّه الا اللّه رزقنا اللّه واياكم ذلك آمين

٩٠

{ ان الذين } كاليهود

{ كفروا } بعيسى والانجيل

{ بعد ايمانهم } بموسى والتوراة

{ ثم ازدادا كفرا } حيث كفروا بمحمد عليه السلام والقرآن او كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالاصرار عليه والطعن فيه والصد عن الايمان ونقض الميثاق

{ لن تقبل توبتهم } لانهم لا يتبون الا عند اشرافهم على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا فى شأنهم وابرازا لحالهم فى صورة حال الآيسين من الرحمة او لان توبتهم لا تكون الا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا وذلك لم تدخل فيه الفاء

{ واولئك هم الضالون } على سيبل الكمال فهو من قبيل حصر الكمال والا فكل كافر ضال سوآء كفر بعد الايمان او كان كافرا فى الاصل ومن جملة كمالهم فى الضلال ثباتهم عليه وعدم كون الاهتداء متوقعا منهم

٩١

{ ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل } لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية دخلت الفاء ههنا ايذانا بسبية المبتدأ لخبره

{ من احدهم } فدية

{ ملء الارض ذهبا } تمييز اى ما يملؤها من شرقها الى غربها

{ ولو افتدى به } اى بملىء الارض ذهبا

فان قيل نفى قبول الافتداء يوهم ان الكافر يملك يوم القيامة من الذهب ما يفتدى به وهو لا يملك فيه تقيرا ولا قطميرا فضلا عن ان يملك ملىء الارض ذهبا

قلنا الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية من اعز الاشياء وكونه ملىء الارض كناية عن كونه فى غاية الكثرة والتقدير لو ان الكافر يوم القيامة قدر على أعز الاشياء بالغا الى غاية الكثرة وقدر على بذله لنيل اعز المطالب لا يقدر على ان يتوسل بذلك الى تخليص نفسه من عذاب اللّه تعالى المقصود بيان انهم آيسون من تخليص انفسهم من العقاب

{ اولئك } اشارة الى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة

{ لهم عذاب اليم } اى مؤلم

{ وما لهم من ناصرين } فى دفع العذاب عنهم او فى تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير اى ليس لواحد منهم ناصر واحد

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يقول اللّه لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الارض من شىء أكنت تفدى به فيقول نعم فيقول اردت منك اهون من هذا وانت فى صلب آدم ان لا تشرك بى شيأ فابيت الا ان تشرك بى )

قال الامام اعلم ان الكاف على ثلاثة اقسام احدها الذى يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذى ذكره اللّه فى قوله

{ الا الذين تابوا واصلحوا فان اللّه غفور رحيم } وثانيها الذى يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهوالذى ذكره اللّه تعالى فى الآية المتقدمة وقال

{ لن تقبل توبتهم } وثالثها الذى يموت على الكفرمن غير توبة البتة وهو المذكور فى هذه الآية

{ ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار } الآية انتهى وهم الذين رسخت هيئة استيلاء النفوس الامارة على قلوبهم وتمكنت وصارت رينا وتناهوا فى الشر والغى وتمادوا فى العناد وابغى فلن يقبل من احدهم ملىء الارض اذا لا يقبل هناك الا الامور الورانية الباقية لان الآخرة هى عالم النور والبقاء فلا وقع ولا خطر وللامور الظلمانية الفانية وهل كان سبب كفرهم احتجابهم الا محبة هذه العوائق الفانية فكيف تكون فداءهم وسبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وهى بعينها سب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم النفس والاعراض عن الحق

تراشهوت وكبر وحرص وحسد ... جوخون درركند وجوجان درجسد

يعنى كما ان الدم سارى فى العروق وجارى فيها وكذا الروح فى الجسد فكذلك هذه الصفات الذميمة محيطة بك

كراين دشمنان تقويت يافتند ... سر ازحكم ورى توبر تافتند

هوا وهوس را نماند ستيز ... جوبينند سريجه عقل تيز

يعنى اذا كان المرء تابعا للشرع وقضية العقل يكون غالبا على هواه فلا تجادله الصفات السبعية الشيطانية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اخوف ما اخاف على امتى اتباع الهوى وطو الامل فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق

واما طول الامل فينسى الآخرة )

قال ذو النون المصرى مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الاصابة مخالفة النفس والهوى ومخالفتها ترك شهواتها

قال جعفر بن نصير دفع الى الجنيد درهما فقال اشتربه التين الوزيرى فاشتريته فلما افطر اخذ واحدة ووضعها فى فيه ثم القاها وبكى وقال احمله فقلت له فى ذلك فقال هتف فى قلبى أما تستحى شهوة تركتها من اجله تعالى ثم تعود اليها

قال ابو سليمان الدارانى رحمه اللّه من احسن فى ليلة كوفى فى نهاره ومناحسن فى نهاره كوفى فى ليله ومنصدق فى ترك شهوة كفى مؤرنتها واللّه اكرم من ان يعذب قلبا ترك شهوة لاجله

واعلم ان النفس عين لطيفة هى معدن الاخلاق الذميمة مودعة بين جنبى الانسان اى جميع جسده وهى امارة بالسوء وهى مجبولة على صد الورحانية المخلوقة من الملكوت الاعلى فانهم يأمرون بالخير وينهون عن الشر وهى مخلوقة من الملكوت السفى كالشياطين وهم لا يأمرون الا بالشر ومنطبعهم التمرد والاباء والاستكبار ولهذا تأبى النفس من قبول اللموعظة وتظهر التمرد كما قال الشيخ فى قصيدة البردة

فان امارتى بالسوء ما اتعظت ... من جهلها بنذير الشيب والهرم

يعنى ان النفس الامارة بالسوء ما اقبلت الوعظ من نذير الشيب فتمادت فى غواية الجهل بعد الهرم وما كبحت عنان جماح الشهوة بايدى الندم وقد خلق اللّه النفس على صورة جهنم وخلق بحسب كل دركة فيها صفة لها وهى باب من جهنم يدخل فيها من هذا الباب الى دركة من دركاتها السبع وهى سبع صفات الكبر والحرص والشهوة والحسد والغضب والبخل والحقد فمن زكى نفسه عن هذه الصفات فقد عبر عن هذه الدركات السفلية ووصل الى درجات الجنان العلوية كما قال اللّه تعالى

{ قد افلح من زكاها } ومن لم يزك نفسه عن هذه الصفات بقى فى دركات جهنم خائبا خاسرا كما قال تعالى

{ وقد خاب من دساها } عصمنا اللّه واياكم من كيد النفس الامارة وشر الشيطان واصلح حالنا ما دامت الارواح فى الابدان آمين يا مستعان

٩٢

{ لن تنالوا البر } من ناله نيلا اذا اصابه اى لن تبلغوا ايها المؤمنون حقيقة البر الذى يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الابرار او لن تناولوا بر اللّه تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته

{ حتى تنفقوا } اى فى سبيل اللّه رغبة فيما عنده

{ مما تحبون } اى بعض ما تهوونه ويعجبكم من كرائم اموالكم واحبها اليكم او ما يعمها وغيرها من الاعمال والمهجة على ان المراد بالانفاق مطلق البذل. وفيه من الايذان بعزة منال البر ما لا يخفى

{ وما تنفقوا من شىء } اى اى شىء تنفقوا طيب تحبونه او خبيث تكرهونه فمحل الجار والمجرور النصب على التمييز

{ فان اللّه به عليم } تعليل لجواب الشرط واقع موقعه اى فمجازيكم بحسبه جيدا كان او رديئا فانه تعالى عليم بكل شىء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شىء من ذاته وصفاته. وفيه من الترغيب فى انفاق الجيد والتحذير من انفاق الرديىء ما لا يخفى فالوصول الى المطلوب لا يحصل الا بالانفاق المحبوب ولذلك كان السلف اذا احبوا شيأ جعلوه للّه ذخيرة ليوم يحتاجون اليه والانسان لا ينفق محبوبه الا اذا ايقن انه يتوصل بذلك الى وجدان محبوب اشرف من الاول فالانسان لا ينفق محبوبه فى الدنيا الا اذا تيقن بوجود الصانع العالم القادر وتيقن بالبعث والحساب والجزاء وان من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولزم منه ان الانسان لا يمكنه انفاق محبوبه فى الدنيا الا اذا كان مستجمعا لجميع الخصال المحمودة فى الدين فلا تقتضى الآية ان من انفق ما احب وصل الى الثواب العظيم وان لم يأت بسائر الطاعات روى انها لما نزلت جاء ابو طلحة فقال يا رسول اللّه ان احب اموالى الىّ بئر حاء وهو ضيعة له فى المدينة مستقبل مسجد النبى صلى اللّه عليه وسلم فضعها يا رسول اللّه حيث اراك اللّه فقال صلى اللّه عليه وسلم ( بخ بخ ذاك مال رابح او رائج فانى ارى ان تجعلها فى الاقربين فقسمها فى اقاربه ) وفيه دلالة على ان انفاق احب الاموال على اقرب الاقارب افضل وروى عن عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه انه كانت لزوجته جارية بارعة فى الجمال وكان عمر راغبا فيها وكان قد طلبها منها مرارا فلم تعطه اياها

ثم لما ولى الخلافة زينتها وارسلتهاليه فقالت وهبتكها يا امير المؤمنين فلتخدمك قال من اين ملكتها قالت جئت بها من بيت ابى عبد الملك ففتش عن تملكه اياها فقيل انه كان على فلان العامل ديون فلما توفى اخذت من تركته ففتش عن حال العامل واحضر ورثته وارضاهم جميعا باعطاء المال ثم توجه الى الجارية وكان يهواها هوى شديدا فقال انت حرة لوجه اللّه فقيل لم يا امير المؤمنين وقد ازجت عن امرها كل شبهة قال لست اذا ممن نهى النفس عن الهوى يحكى ان الربيع ضربه الفالج فكان السائل يقوم على بابه فيسأل فيقول الربيع اطعميه السكر فان الربيع يحب السكر يتأول قوله ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وطال به وجعه فاشتهى لحم دجاج فكف نفسه اربعين يوما فابت فقال لزوجته قد اشتهيت لحم دجاج منذ اربعين يوما فكففت نفسى رجاء ان تكف فابت فقالت امرأته سبحان اللّه وأى شىء هذا تكف نفسك عنه وقد احله اللّه تعالى لك فارسلت امرأته الى السوق فاشترت له دجاجة بدرهمين ودانقين فذبحتها وشوتها وخبزت له خبزا وجعلت له اصباغا ثم جاءت بالخوان فوضعته بين يديه فقام سائل على الباب فقال تصدقوا على بارك اللّه فيكم فكف عن الاكل وقال لامرأته خذى هذا وادفعيه اليه فقالت له امرأته سبحان اللّه قال افعلى ما آمرك به قالت فاصنع ما هو خير له قال وما هو قالت نعطيه ثمن هذا وتأكل انت شهوتك قال قد احسنت ائتنى بثمنه فجاءت بثمنه فقال ضعيه على هذا وخذيه وادفعيه جميعا ففعلت

باحسانى آسوده كردن دلى ... به ازالف ركعت بهر منزلى

وقيل فى هذا المعنى

دل بدست آوركه حج اكبرست ... از هزاران كعبه يك دل بهترست

كعبه بنياد خليل آزرست ... دل نظركاه جليل اكبرست

ويقال اذا كنت لا تصل الى البر الا بانفاق محبوبك فمتى تصل الى البار وانت تؤثر عليه حظوظك

قال القشيرى من اراد البر فلينفق بعض ما يحبه ومن اراد البار تعالى فلينفق جميع ما يحبه

قال نجم الدين الكبرى فى قوله تعالى

{ فان اللّه به عليم } فبقدر ما تكونون له يكون لكم كما قال ( من كان اللّه كان اللّه له فان الفراش ما نال من بر الشمع وهو شعلته حتى انفق مما احبه وهو نفسه )

قال القاشانى كل فعل يقرب صاحبه من اللّه فهو بر ولا يمكن التقرب اليه الا بالتبرى مما سواه فمن احب من دون اللّه شيأ فقد حجب به عن اللّه واشرك شركا خفيا لتعلق محبته بغير اللّه

تراهرجه مشغول دارد زدوست ... اكر راست خواهى دلارامت اوست

فلا يزول البعد ولا يحصل القرب الا ببذل المال والمهجة وقطع محبة غير اللّه وافناء النفس بالكلية عن صفاتها الرذيلة

اكر يارى از خويشتن دم مزن ... كه شركست بايار وباخويشتن

٩٣

{ كل الطعام } لما نزل قوله تعالى

{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم } الآية وقوله

{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر } الى قوله

{ ذلك جزيناهم ببغيهم } انكر اليهود وغاظهم ذلك وبرأوا ساحتهم من الظلم وجحدوا ما نطق به القرآن وقالوا لسنا باول من حرمت عليه تلك المطعومات وما هو الا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وابراهيم ومن بعده ولهم جرا حتى انتهى التحريم الينا وغرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالبغى والظلم والصد عن سبيل اللّه واكل الربا وما عدد من مساويهم التى كلما ارتكبوا منها كبيرة حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم فقيل كل المطعومات او كل انواع الطعام والطعام المطلق البر والعرف يشهد لكل ما يطعم حتى الماء

{ كان حلا لبنى اسرائيل } اى حلالا لهم والمراد اكله اذ لا يوصف بنحو الحل والحرمة الا افعال المكلف لا الاعيان فشرب الخمر حرام بالذات ونفسها حرام بالعرض

{ الا ما حرم اسرائيل على نفسه } استثناء متصل من اسم كان اى كان كل المطعومات حلالا لبنى اسرائيل الا ما حرم اسرائيل اى يعقوب عليه السلام على نفسه وهو الابل وألبانها روى ان يعقوب عليه السلام كان نذر ان وهب اللّه له اثنى عشر ولدا واتى بيت المقدس صحيحا ان يذبح آخرهم فتلقاه ملك من الملائكة فقال له يا يعقوب انك رجل قوى فهل لك فى الصراع فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ثم قال أما انى لو شئت ان اصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لانك كنت نذرت ان اتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولد لك وجعل اللّه لك بهذه الغمزة مخرجا من ذلك الذبح ثم ان يعقوب عليه السلام لما قدم بيت المقدس اراد ذبح ولده ونسى قول الملك فاتاه الملك فقال انما غمزتك للمخرج وقد وفى نذرك فلا سبيل لك الى ولدك ثم انه حين ابتلى بذلك المرض لقى من ذلك بلاء وشدة وكان لا ينام الليل من الوجع فحلف لئن شفاه اللّه لا يأكل احب الطعام اليه فحرم لحوم الابل وألبانها اما حمية الدين او حمية النفس وتحريم الحلال على نفسه جائز للكل وفيه كفارة اليمين

{ من قبل ان تنزل التوراة } متعلق بقوله كان حلا ولا ضير فى توسيط الاستثناء بينهما المعنى ان المطعومات كانت حلالهم قبل نزول التوراة ثم حرمت بسبب بغيهم وظلمهم فكيف يكون ذلك حراما على نوح وابراهيم وغيرهما. وظاهر الآية يدل على ان الذى حرمه اسرائيل على نفسه قد حرمه اللّه على بنى اسرائيل وهو رد على اليهود فى دعواهم البراءة من الظلم وتبكيت لهم فى منع النسخ والطعن فى دعوى الرسول صلى اللّه عليه وسلم موافقته لابراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الابل وألبانها

{ قل فائتوا بالتوراة فاتلوها } امره عليه السلام بان يحاجهم بكتابهم الناطق بان تحريم ما حرم تحريم حادث مرتب على ظلمهم وبغيهم ويكلفهم اخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم

{ ان كنتم صادقين } فائتوا بالتوراة فاتلوها فان صدقكم مما يدعوكم الى ذلك البتة روى انهم لم يجترئوا على اخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفى ذلك من الحجة النيرة على صدق النبى صلى اللّه عليه وسلم وجواز النسخ الذى يجحدونه ما لا يخفى

٩٤

{ فمن افترى على اللّه الكذب } اى اختلق عليه سبحانه بزعمه انه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بنى اسرائيل ومن تقدمهم من الامم

{ من بعد ذلك } اى من بعد ما ذكر من امرهم باحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والالزام

{ فاولئك } المصرون على الافتراء بعد ان ظهرت حقيقة الحال وضاقت عليهم حيلة المحاجة والجدال

{ هم الظالمون } المفرطون فى الظلم والعدوان المبعدون فيهما

٩٥

{ قل صدق اللّه } اى ظهر وثبت صدقه تعالى فيما انزل فى شان التحريم

{ فاتبعوا ملة ابراهيم } اى ملة الاسلام التى هى فى الاصل ملة ابراهيم عليه السلام فانكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون

{ حنيفا } حال من ابراهيم اى مائلا عن الاديان الزائغة كلها

{ وما كان من المشركين } اى فى امر من امور دينهم اصلا وفرعا وفيه تعريض باشراك اليهود وتصريح بانه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان ان النبى عليه السلام على دين ابراهيم فى الاصول لانه لا يدعو الا الى التوحيد والبراءة من كل معبود سواه سبحانه وتعالى

قال نجم الدين فى التأويلات الاشارة فى تحقيق الآيات ان اللّه تعالى خلق الخلق على ثلاثة اصناف. صنف منها الملك الروحانى العلوى اللطيف النورانى وجعل غذاءهم من جنسهم الذكر وخلقهم للعبادة. وصنف منها الحيوان الجسمانى السفلى الكثيف الظلمانى وجعل غداءهم من جنسهم الطعام وخلقهم للعبرة والخدمة. وصنف منها الانسان المركب من الملكى الروحانى والحيوانى الجسمانى وجعل غذاءهم من جنسهم لروحانيهم الذكر ولجسمانيهم الطعام وخلقهم للعبادة والمعرفة. فمنهم ظالم لنفسه وهو الذى غلبت حيوانيته على روحانيته فبالغ فى غذاء جسمانيته وقصر فى غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت حيوانيته اولئك كالانعام بل هم اضل

مرودربى هرجه دل خواهدت ... كه تمكين تن نورجان كاهدت

زدوران بسى نامرادى برى ... اكرهر جه باشد مرادت خورى

كند مردرا نفس اماره خوار ... اكرهو شمندى عزيزش مدار

دريغ آدمى زاده بر محل ... كه باشد جوانعام بل هم اضل

ومنهم مقتصد وهو الذى تساوت روحانيته وحيوانيته فغذى كل واحدة منهما غذاءها خلطوا عملا صالحا وآخر سيأ عسى اللّه ان يتوب عليهم. ومنهم سابق بالخيرات وهو الذى غلبت روحانيته على حيوانيته فبالغ فى غذاء روحانيته وهو الذكر وقصر فى غذاء حيوانيته وهو الطعام حتى ماتت نفسه واستوت قوى روحه اولئك هم خير البرية فكان كل الطعام حلالا لهم كما كان حلالا للحيوان الا ما حرم الانسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح

{ من قبل } ان ينزل عليه الوحى والالهام كما قيل المجاهدات تورث المشاهدات

{ فمن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك } بان يهتدى الى الحق من غير جهاد النفس

{ فاولئك هم الظالمون } الذين يضعون الشىء فى غير موضعه وقد قال تعالى

{ وجاهدوا فى اللّه حق جهاده } { قل صدق اللّه } فيما قال لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون

{ فاتبعوا ملة ابراهيم حنيفا } وكان ملته انفاق المال على الضيفان وبذل الروح عند الامتحان وتسليم القربان وهذه ملة الخلة

{ وما كان من المشركين } الذين يتخذون مع اللّه خليلا آخر ويجعلون الشركة فى الخلة

اكر جز بحق ميرود جاده ات ... در آتش فشانند سجاده اث

فالاولياء هم الذين يحبون اللّه ومن يحبه اللّه فان محبة اهل الحق محبة اللّه وليس فيها شرك

قال الفضيل ابن عياض قدس سره يقول اللّه تعالى يوم القيامة يا ابن آدم اما زهدك فى الدنيا فانما طلبت الراحة لنفسك فى الآخرة

واما انقطاعك الىّ فانما طلبت العز لنفسك ولكن هل عاديت لى عدوا او واليت لى وليا فى اللّه فعلامة اتباع ملة ابراهيم هو الاطاعة للحق والتبرى من كل دين سوى الاسلام ومحبة الاولياء وعداوة الاعداء ولو كان المرء آتيا بجميع الطاعات وليس فى قلبه خلوص المحبة فانما يضرب حديدا باردا واللّه تعالى لا يحب القلب المشترك بمحبة غيره من شهوة او غيرها

قال محمد ابن حسان رحمه اللّه بينما انا ادور فى جبل لبنان اذ خرج على شاب قد احرتقه السموم والرياح فلما رآنى ولى هاربا فتبعته وقلت عظنى بكلمة انتفع بها قال احذره تعالى فانه غيور لا يحب ان يرى فى قلب عبد سواه

فعلى العاقل ان يجتهد فى سلوك هذا الطريق الى ان يصل الى منزل التحقيق ومن اللّه التوفيق فى كل امر خفى وجلى دقيق

٩٦

{ ان اول بيت } البيت ما يبيت فيه احد ثم استعمل فى المكان مطلقا

{ وضع للناس } روى انه لما حولت القبلة الى الكعبة طعن اليهود فى نبوته عليه السلام وقالوا ان بيت المقدس افضل من الكعبة واحق بالاستقبال لانه وضع قبل الكعبة وهو ارض المحشر ومهاجر الانبياء وقبلتهم والارض المقدسة التى بارك اللّه فيها للعالمين وفيها الجبل الذى كلم اللّه عليه موسى عليه السلام فتحويل القبلة منه الى الكعبة باطل فنزلت اى

{ ان اول بيت وضع } لعباد وجعل متعبدا لهم والواضع هو اللّه تعالى

{ للذى ببكة } خبر لان اى للبيت الذى فى بكة وهو علم للبلد الحرام من بكه اذا زحمه لازدحام الناس فيه ولانها تبك اعناق الجبابرة اى تدقها لم يقصدها جبار الا قصمه اللّه عز وجل

وما ورى ان الحجاج حبس عبد اللّه بن الزبير رضى اللّه عنه فى المسجد الحرام وضرب المنجنيق على ابى قبيس ورمى به داخل المسجد وقتل عبد اللّه فليس ذلك اضرارا بالبيت وقصدا بالسوء لان مقصود الحجاج كان اخذ عبد اللّه روى انه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن اول بيت وضع للناس فقال ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس ) وسئل كم بينهما فقال ( اربعون سنة ) روى ان اللّه وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور وامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الارض ان يبنوا فى الارض بيتا على مثاله فبنوا وامر من فى الارض ان يطوفوا به كما يطوف اهل السماء بالبيت المعمور ِ وروى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بالفى عام فلما اهبط آدم الى الارض قالت له الملائكة طف حول هذا البيت فلقد طفنا حوله قبلك بالفى عام فطاف به ادم ومن بعده الى زمن نوح عليه السلام فلما اراد اللّه الطوفان حمل الى السماء الرابعة وهو البيت المعمور بحيال الكعبة يطوف به ملائكة السموات

وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه اول بيت بناه آدم فى الارض فنسبة بناء الكعبة الى ابراهيم على هذه الروايات ليس لانه عليه السلام بناها ابتداء بل لرفعه قواعدها واظهاره ما درس منها فان موضع الكعبة اندرس بعد الطوفان وبقى مختفيا الى ان بعث اللّه جبريل الى ابراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وامره بعمارته ولما كان الآمر بالبناء هو اللّه والمبلغ والمهندس هو جبريل عليه السلام والبانى هو الخليل والتلميذ المعين له اسماعيل عليهما السلام. قيل ليس فى العالم بناء اشرف من الكعبة

{ مباركا } حال من المستكن فى الظرف لان التقدير للذى ببكة هو اى كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف به وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب

{ وهدى للعالمين } لانه قبلتهم ومتعبدهم ولان فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته كما قال

٩٧

{ فيه آيات بينات } واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الاعصار ومخالطة ضوارى السباع الطيور فى الحرم من غير تعرض لها وقهر اللّه تعالى لكل جبار قصده بسوء كاصحاب الفيل

{ مقام ابراهيم } اثر قدميه عليه السلام فى الصخرة التى كان عليه السلام يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه او عند غسل رأسه على ما روى انه عليه السلام جاء زائرا من الشام الى مكة فقالت له امرأة اسماعيل عليه السلام انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الايمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شقى رأسه ثم حولته الى شقه الايسر حتى غسلت الشق الآخر فبقى اثر قدميه عليه وهو بدل من آيات بدل البعض من الكل

{ ومن دخله } اى حرم البيت

{ كان آمنا } من التعرض له وذلك بدعوة ابراهيم عليه السلام

{ رب اجعل هذا البلد آمنا } وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ الى الحرم لم يطلب ولذلك قال ابو حنيفة رحمه اللّه من لزمه القتل فى الحل بقصاص او ردة او زنى فالتجأ الى الحرم لم يتعرض له الا انه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايغ حتى يضطر الى الخروج وهذا فى حق من جنى فى الحل ثم التجأ الى الحرم

واما اذا اصاب الحد فى الحرم فيقام عليه فيه فمن سرق فيه قطع ومن قتل فيه قتل قال تعالى

{ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم } اباح لهم القتل عند المسجد الحرام اذا قاتلونا فعلى ذلك يقام الحد اذا اصاب وهو فيه واذا اصاب فى غيره ثم لجأ اليه لم يقم كما لا نقاتل اذا لم يقاتلونا او المعنى ومن دخله كان آمنا من النار. وفى الحديث ( من مات فى احد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا ) وعنه صلى اللّه عليه وسلم ( الحجون والبقيع يؤخذ باطرافهما وينشران فى الجنة ) وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال ( يبعث اللّه تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم سبعين الفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم فى سبعين الفا وجوههم كالقمر ليلة البدر ) وعنه صلى اللّه عليه وسلم ( من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتى عام )

{ وللّه على الناس } وهم المؤمنون دون الكفار فانهم غير مخاطبين باداء الشرائع عندنا خلافا للشافعى اى استقر للّه عليهم

{ حج البيت } اللام للعهد والحج بالفتح لغة اهل الحجاز والكسر لغة نجد واياما كان فهو القصد للزيارة على الوجه المخصوص المعهود يعنى انه حق واجب للّه فى ذمم الناس ولا انفكاك لهم عن ادائه والخروج من عهدته

{ من استطاع اليه سبيلا } فى محل الجر على انه بدل من الناس بدل البعض مخصص لعمومه فالضمير العائد الى المبدل منه محذوف اى من استطاع منهم وقدر واطاق الى البيت سبيلا اى قدر على الذهاب اليه واراد به قدرة سلامة الآلات والاسباب فالزاد والراحلة من اسباب الوصول وهذه القدرة تتقدم على الفعل والاستطاعة التى هى شرط لوجوب الفعل هى الاستطاعة بهذا المعنى لا الاستطاعة التى هى شرط حصول الفعل وهى لا تكون الا مع الفعل لانها علة وجود الفعل وسببه فلا تكون الا معه فالاستطاعة الاولى شرط الوجوب والثانية شرط حصول الفعل

{ ومن كفر } وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا لتاركه اى من لم يحج مع القدرة عليه فقد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج

{ فان اللّه غنى عن العالمين } وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا اوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( من لم يحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا او نصرانيا ) وانما خص هذين لان اليهود والنصارى هم الذين لا يرون الحج ولا فضل الكعبة

واعلم انه لا يؤثر الاكثار من التردد الى تلك الآثار الا حبيب مختار روى عن على بن الموفق رحمه اللّه انه حج ستين حجة قال فلما كنت بعد ذلك فى الحجر افكر فى حالى وكثرة تردادى الى ذلك المكان ولا ادرى هل قبل حجى او لا نمت فرأيت قائلا يقول يا ابن الموفق هل تدعو الى بيتك الا من تحب فاستيقظت وقد سرى عنى. ففيه اشارة الى ان من لم يحج مع القدرة عليه فقد ترك عن الدعوة الى ضيافة اللّه تعالى ولا يترك عنها الا من لا استحقاق له بها. وفيه تقبيح لحاله حيث لم يجتهد فى تحصيل الاستعداد بل اقام على البغى والفساد واقتضت حكمة اللّه تعالى توقان النفس كل عام الى تلك الاماكن النفيسة والمعاهد المقدسة المحروسة لاجابة دعوة ابراهيم عليه السلام حيث قال

{ فاجعل افئدة من الناس تهوى اليهم } اى تحن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( افضل الاعمال ايمان باللّه ورسوله ثم جهاد فى سبيله ثم حج مبرور ) قيل مغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة به مترتب على كون الحج مبرورا. وانما يكون مبرورا باجتماع امرين. فيه الاول الاتيان فيه باعمال البر والبر هو الاحسان للناس واطعام الطعام وافشاء السلام.

والثانى ما يكمل به الحج وهو اجتناب افعال الاثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصى

قال ابو جعفر الباقر ما يعبأ من يؤم هذا البيت اذا لم يأت بثلاث ورع يحجره اى يمنعه عن محارم اللّه وحلم يكف به غضبه وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج اليها من يسافر خصوصا الى الحج فمن كملها فقد كمل حجه فعلى السالك ان يخالق الناس بخلق حسن

ازمن بكوى حاجئ مردم كزايرا ... كاوبوستين خلق بازار مى درد

حاجى تونيستى شترست ازبراى آنك ... بيجاره خار ميخورد وبارميبرد

قال بعض المشايخ علامة الحج المبرور ان يرجع زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة

قال نجم الدين الكبرى فى تأويلاته والاشارة ان اللّه تعالى جعل البيت والحج اليه واركان الحج والمناسك كليها اشارات الى اركان السلوك وشرائط السير الى اللّه وآدابه. فمن اركانه الاحرام وهو اشارة الى الخروج عن الرسوم وترك المألوف والتجرد عن الدنيا وما فيها والتطهر من الاخلاق وعقد احرام العبودية بصحة التوجه. ومنها الوقوف بعرفة وهو اشارة الى الوقوف بعرفات المعرفة والعكوف على عقبه جبل الرحمة بصدق الالتجاء وحسن العهد والوفا. ومنها الطواف وهو اشارة الى الخروج عن الاطوار البشرية السبعية بالاطواف السبعة حول كعبة الربوبية. ومنها السعى وهو اشارة الى السير بين صفا الصفات ومروة الذات. ومنها الحلق وهو اشارة الى محو آثار العبودية بموسى انوار الالهية وعلى هذا فقس المناسك كلها. والحج يشير الى عين الطلب والقصد الى اللّه بخلاف سائر اركان الاسلام فان كل ركن منه يشير الى طرف من استعداد الطلب فاللّه تعالى خاطب العباد بقوله

{ وللّه على الناس حج البيت } وما قال فى شىء آخر من الاركان والواجبات وللّه على الناس وفائدته ان المقصود المشار اليه من الحج هو اللّه وفى سائر العبادات المقصود هو النجاة والدرجات والقربات والمقامات والكرامات

والاستطاعة فى قوله

{ من استطاع اليه سبيلا } هى جذبة الحق التى توازى عمل الثقلين ولا يمكن السير الى اللّه والوصول اليه لا بها

{ ومن كفر } اى لا يؤمن بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الطاف الرب ولا يتقرب بجذبات الالوهية كما يشير اليها اركان الحج

{ فان اللّه غنى عن العالمين } بان يستكمل بهم وانما الاستكمال للعالمين به ولا غنى بهم عنه تعالى جعلنا اللّه واياكم من الكاملين والواصلين الى كعبة اليقين والتمكين

٩٨

{ قل يا اهل الكتاب } هم اليهود والنصارى سموا بذلك فان الكتاب لا يختص بالمنزل فنسبوا الى ما كتبوا سواء كان من القاء الروح الامين او تلقاء النفس

{ لم تكفرون بآيات اللّه } توبيخ وانكار لا يكون لكفرهم بها سبب من الاسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التى من جملتها ما تلى فى شأن الحج وغيره وما فى التوراة والانجيل من شواهد نبوته صلى اللّه عليه وسلم

{ واللّه شيهد على ما تعملون } حال من فاعل تكفرون والمعنى لاىّ سبب تكفرون بآياته عز وجل والحال انه تعالى مبالغ فى الاطلاع على جميع اعمالكم وفى مجازاتكم عليها ولا ريب فى ان ذلك يسد جميع انحاء ما تأتونه ويقطع اسبابه بالكلية

٩٩

{ قل يا اهل الكتاب لم تصدون } اى تصرفون

{ عن سبيل اللّه } اى دينه الحق الموصل الى السعادة الابدية وهو التوحيد وملة الاسلام

{ من آمن } مفعول تصدون كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من اراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون ان صفته صلى اللّه عليه وسلم ليست فى كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم

{ تبغونها } بحذف الجار وايصال الفعل الى الضمير اى تبغون لها لان البغى لا يتعدى الا الى مفعول يقال بغيت المال والضمير للسبيل وهو يذكر ويؤنث اى تطلبون سبيل اللّه التى هى اقوم السبل

{ عوجا } اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة بان تلبسوا على الناس حتى توهموهم ان فيها عوجا بقولكم ان شريعة موسى لا تنسخ وبتغييركم صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون. والعوج بكسر العين وفتحها الميل والانحراف لكن المكسور يختص بالمعانى والمفتوح بالاعيان تقول فى دينه وكلامه عوج بالكسر وفى الجدار والقناة والشجر عوج بالفتح

{ وانتم شهداء } حال من فاعل تصدون باعتبار تقيده بالحال الاولى اى والحال انكم شهداء تشهدون بانها سبيل اللّه لا يحوم حولها شائبة اعوجاج وان الصد عنها اخلال

{ وما اللّه بغافل عما تعملون } اى من الصد عن سبيل وكتمان الشهادة لنبيه

ولما وبخ اهل الكتاب بصد المؤمنين نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين فقال

١٠٠

{ يا ايها الذين آمنوا ان تطيعوا فريقا } طائفة وانما خص فريقا لان منهم من آمن

{ من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد ايمانكم كافرين } قوله كافرين مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير

قال عكرمة نزلت فى شاس ابن قيس اليهودى رأى منتدى محتويا على زخام من اوس وخزرج فغاظه الفتهم فارسل شابا ينشدهم اشعار يوم بغاث وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيان المذكوران وكان الظفر فيه للاوس فنعر عرق الداء الدفين فتشاجروا فاخبر النبى عليه السلام فخرج يصلح ذات بينهم

١٠١

{ وكيف تكفرون } انكار وتعجب

{ وانتم تتلى عليكم آيات اللّه } اى القرآن

{ وفيكم رسوله } والمعنى من اين يتطرق اليكم الكفر والحال ان القرآن المعجز يتلى عليكم على لسان الرسول غضا طريا وبين اظهركم رسول اللّه ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم فالعدول عن الايمان والدخول فى الكفر مع تحقق هذه الامور ابعد واعجب

{ ومن يعتصم باللّه } اى ومن يتمسك بدينه الحق الذى بينه بآياته على لسان رسوله عليه السلام وهو الاسلام والتوحيد المعبر عنه فيما سبق بسبيل اللّه

{ فقد هدى } جواب الشرط. وقد لافادة معنى التحقق كأن الهدى حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع فيه ظاهر فان المعتصم به تعالى متوقع للّهدى كما ان قاصد الكريم متوقع للندا اى وفق وارشد

{ الى صراط مستقيم } موصل الى المطلوب

واعلم ان ظاهر الخطاب مع اهل الكتاب وباطنه مع العلماء السوء الذين يبيعون الدين بالدنيا ولا يعملون بما يعملون فهم الذين يكفرون بما جاء به القرآن من الزهد فى الدنيا والورع والتقوى ونهى النفس عن الهوى وايثار ما يفنى على ما يبقى والاعراض عن الخلق والتوجه الى الحق وبذل الوجود لنيل المقصود واللّه شهيد على ما تعملون حاضر معهم ناظر الى نياتهم فى اعمال الخير والشر فيجازيهم بها وهم يصرفون بحرصهم على الدنيا واتباعهم الهوى المؤمنين الذين يتبعونهم بحسن الظن ويحسبون ان اعمالهم واحوالهم على قاعدة الشريعة ومنهاج الطريقة عن سبيل اللّه وطريق الحق الذى امر الانبياء بدعوة الخلق اليه وهم يطلبون اعوجاج طريق الحق بالسير فى طريق الباطل وقد وصى اللّه المؤمنين بقوله

{ يا ايها الذين آمنوا } الآية حتى لا يرتدوا عن طريق الهداية بعد الايمان بالاتباع بسيرتهم وهواهم قال تعالى

{ ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } قال بعض المشايخ خير العلم ما كانت الخشية معه وذلك لان الخشية انما تنشأ عن العلم بصفات الحق فشاهد العلم الذى هو مطلوب اللّه الخشية وشاهد الخشية موافقة الامر.

واما العلم الذى تكون معه الرغبة فى الدنيا والتملق لاربابها وصرف الهمة لاكتسابها والجمع والادخار والمباهاة والاستكثار وطول الامل ونسيان الآخرة فما ابعد من هذا العلم علمه من ان يكون من ورثة الانبياء وهل ينتقل الشىء الموروث الى الوارث الا بالصفة التى كان بها عند الموروث وما مثل من هذه الاوصاف اوصافه من العلماء الا كمثل الشمعة تضىء على غيرها وهى تحرق نفسها

ترك دنيا بمردم آموزند ... خويشتن سيم وغله اندوزند

عالمى راكه كفت باشد وبس ... جون بكوبد نكيرد اندركس

عالم آنكس بود كه بد نكند ... نه بكويد بخلق وخود نكند

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه قلوبهم خربة من الهدى ومساجدهم عامرة بابدانهم شر من تظل السماء يومئذ علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود )

وعن فضيل بن عياض بلغنا ان الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الاوثان

فعلى العاقل ان لا يغتر بظاهر حالهم بل ينظر الى وهن اعتقادهم وفساد بالهم فيعتبر كل الاعتبار ويتجنب من هذه سيرتهم ويسلك طريق الاخيار ويعتصم باللّه بالانقطاع عما سواه ويتمسك بالتوحيد الحقيقى حتى يهتدى الى الصراط المستقيم فمن انقطع اليه بالفناء فى الوحدة كان صراطه صراط اللّه فلا يصده عنه احد ولا يضره شىء ولا يضله كيد عدوه وشره فان من كان مع اللّه كان اللّه معه فهو حافظه وناصره وهذا الاستمساك ليس من شأن كل السلاك لكن اللّه تعالى قادر على ان يأخذ بيد عبده ويوصله الى مراده واذا صح الطلب من العبد فلا يحرم الاجابة البتة فان من طلب وجدّ وجد ومن قرع باب ولج عصمنا اللّه واياكم من كيد الشيطان ومكر النفس الامارة بالسوء كل آن آمين يا مستعان

١٠٢

{ يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه } الاتقاء افتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة

{ حق تقاته } اى حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع فى القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم ونحوها فاتقوا اللّه ما استطعتم يريد بالغوا فى التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيأ

{ ولا تموتن الا وانتم مسلمون } اى مخلصون نفوسكم للّه عز وجل لا تجعلون فيها شركة لما سواه اصلا وهو استثناء مفرغ من اعم الاحوال اى لا تموتن على حال من الاحوال الا حال تحقق اسلامكم وثباتكم عليه فهو فى الصورة نهى عن موتهم على غير هذه الحالة والمراد دوامهم على الاسلام

١٠٣

{ واعتصموا بحبل اللّه } اى بدين الاسلام او بكتابه فلفظ الحبل مستعار لاحد هذين المعنيين فان كل واحد منهما يشبه الحبل فى كونه سببا للنجاة من الردى والوصول الى المطلوب فان من سلك طريقا صعبا يخاف ان تزلق رجله فيه فاذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق امن من الخوف كذلك طريق السعادة الابدية ومرضاة الرب طريق زلق ودواعى الضلال عنها متكثرة زلق رجل اكثر الخلق فيها. فمن اعتصم بالقرآن العظيم وبقوانين الشرع القويم وبينات الرب الكريم فقد هدى الى صراط مستقيم وامن من الغواية المؤدية الى نار الجحيم كما يأمن المتمسك بالحبل من العذاب الاليم

{ جميعا } حال من فاعل اعتصموا اى مجتمعين فى الاعتصام

{ ولا تفرقوا } اى لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب

{ واذكروا نعمة اللّه عليكم } متعلق بنعمة

{ اذ كنتم } ظرف له اى اذكروا انعامه عليكم وقت كونكم

{ اعداء } فى الجاهلية بينكم الاحن والعداوة والحروب المتواصلة

وقيل هم الاوس والخزرج كانوا اخوين لاب وام فوقعت بين اولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة

{ فالف بين قلوبكم } بتوفيقكم للاسلام

{ فاصبحتم } اى فصرتم

{ بنعمته } التى هى ذلك التألف

{ اخوانا } خبر اصبحتم اى اخوانا متحابين مجتمعين على الاخوة فى اللّه متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق

{ وكنتم على شفا حفرة من النار } شفا الحفرة وشفتها حرفها وجانبها اى كنتم مشرفين على الوقوع فى نار جهنم لكفركم اذ لو ادرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها تمثيل لحياتهم التى تتوقع بعد الوقوع فى النار بالقعود على حرفها مشرفين على الوقوع فيها

{ فانقذكم } اى خلصكم ونجاكم بان هداكم للاسلام

{ منها } اى الحفرة

{ كذلك } اشارة الى مصدر الفعل الذى بعده اى مثل ذلك التبيين الواضح

{ يبين اللّه لكم آياته } اى دلائله

{ لعلكم تهتدون } طلبا لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه

والاشارة ان اهل الاعتصام طائفتان. احداهما اهل الصورة وهم المتعلقون بالاسباب لان مشربهم الاعمال. والثانية اهل المعنى وهم المنقطعون عن الاسباب لان مشربهم الاحوال فقال تعالى لهم

{ واعتصموا باللّه هو مولاكم } اى مقصودكم. وقال للمتعلقين بالاسباب

{ واعتصموا بحبل اللّه جميعا } وهو كل سبب يتوسل به الى اللّه فالمعتصم بحبل اللّه هو المتقرب الى اللّه باعمال البر ووسائط القربة واذا وجد الاعتصام وجد عدم التفرق بخلاف عدم الاعتصام فانه سبب للتفرق فى الظاهر والباطن. فاما فى الظاهر فيلزم منه مفارقة الجماعة فاقتلوه كائنا من كان.

واما فى الباطن فيظهر منه الاهواء المختلفة التى توجب تفرق الامة كما قال عليه السلام ( ستفترق امتى اثنتين وسبعين فرقة الناجية منهم واحدة ) قالوا يا رسول اللّه ومن الفرقة الناجية قال

( من كانوا على ما انا عليه واصحابى )

واعلم انه تعالى امر المؤمنين اولا بالتقوى وثانيا بالاعتصام وثالثا بتذكر النعمة لان فعل الانسان لا بد وان يكون معللا اما بالرهبة

واما بالرغبة والرهبة متقدمة على الرغبة لان دفع الضرر مقدم على جلب النفع كما ان التخلية قبل التحلية فقوله

{ اتقوا اللّه حق تقاته } اشارة الى التخفيف من عقاب اللّه ثم جعله سببا للامر بالتمسك بدين اللّه ثم اردفه بالرغبة وهى قوله تعالى

{ واذكروا نعمة اللّه عليكم } فعلى العاقل الانقياد لامر اللّه والطاعة لحكمه والاعتصام بحبله وعدم التفرق فى الدين والتقوى حق التقى من اللّه سبحانه قيل ونعم ما قيل

متقى را بود جهار نشان ... حفظ احكام شرع اول دان

ثانيا انجه دست رس باشد ... بر فقيران و بيكسان بخشد

عهدرا با وفا كند بيوند ... هرجه باشد ازان شود خرسند

وهذا معنى قول الشيخ النصر آبادى علامة المتقى اربعة. حفظ الحدود. وبذل المجهود. والوفاء بالعهود. والقناعة بالموجود

قال القشيرى رحمه اللّه حق التقوى ان يكون على وفق الامر لا يزيد من قبل نفسه ولا ينقص. وحى التقوى اولا اجتناب الزلة. ثم اجتناب الفضلة. ثم التوقى عن كل خلة. ثم التنقى عن كل علة فاذا اتقيت عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتقيت حق تقواك انتهى. فمن بقى فيه شىء من اثر الوجود فقد اشرك شركا خفيا ولم يصل الى حقيقة الشهود

حضورى كرهمى خواهى ازوغائب مشو حافظ ... متى ماتلق من تهوى دع الدنيا واهملها

قال ابو مدين رحمه اللّه شتان بين من همته الحور والقصور ومن همته رفع الستور ودوام الحضور فطوبى لمن سار اليه بالجذبات الالهية على قدم التحقيق وطار بتجلى الصفات الربانية وجناح التوفيق

قال سهل رضى اللّه عنه ليس للعبد الا مولاه واحسن احواله ان يرجع الى مولاه اذا عصى قال يا رب استر على فاذا ستر عليه قال يا رب تب على فاذا تاب قال يا رب وفقنى حتى اعمل فاذا عمل قال يا رب وفقنى حتى اخلص فاذا اخلص قال يا رب تقبل منى

فعلى العاقل ان يتمسك بهذا الحبل المتين

١٠٤

{ ولتكن منكم } اى لتوجد منكم

{ امة يدعون الى الخير } جماعة داعية الى الخير اى الى ما فيه صلاح دينى ودنيوى فالدعاء الى الخير عام فى التكليف من الافعال والتروك ثم عطف عليه الخاص ايذانا بفضله فقال

{ ويأمرون بالمعروف } وهو ما استحسنه الشرع والعقل وهو الموافقة

{ وينهون عن المنكر } وهو ما استقبحه الشرع والعقل وهو المخالفة

{ واولئك } الموصوفون بتلك الصفات الكاملة والافراد فى كاف الخطاب لان المخاطب كل من يصلح للخطاب

{ هم المفلحون } اى هم الاخصاء بكمال الفلاح. وهم ضمير فصل يفيد اختصاص المسند بالمسند اليه ثم ان من فى قوله منكم للتبعيض وتوجيه الخطاب الى الكل مع اسناد الدعوة الى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وانها واجبة على الكل لكن بحيث ان اقامها البعض سقطت عن الباقين ولو اخل بها الكل اثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل اقامتها ولانها من عظائم الامور وعزائمها التى لا يتولاها الا العلماء باحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية اقامتها فان الجاهل ربما نهى عن معروف وامر بمنكر وربما عرف الحكم فى مذهبه وجهله فى مذهب صاحبه فنهاه عن منكر وقد يفلظ فى موضع اللين ويلين فى موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده انكاره الا تماديا او على من الانكار عليه عبث كالانكار على اصحاب المآصر والجلادين واضرابهم.

وقيل من للتبيين وكان ناقصة اى كونوا امة يدعون الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة فرض عين فان الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطاب للعامة

عن النبى عليه السلام انه سئل وهو على المنبر من خير الناس قال ( آمرهم بالمعروف وانهاهم عن المنكر واتقاهم للّه واوصلهم للرحم ) وقال عليه السلام ( من امر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه فى ارضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه )

وعن حذيفة يأتى على الناس زمان يكون فيهم جيفة الحمار احب اليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر

وعن سفيان الثورى اذا كان الرجل محبا فى جيرانه محمودا عند اخوانه فاعلم انه مداهن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( مثل المداهن فى حدود اللّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم فى اسفلها وصار بعضهم فى اعلاها فكان الذى فى اسفلها يمر بالماء على الذين فى اعلاها فتأذوا به فأخذ فاسا فجعل ينقر اسفل السفينة فأتوه فقالوا مالك قال تأذيتم بى ولا بد لى من الماء فان اخذوا على يديه انجوه وانجوا انفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكو انفسهم ) قال صلى اللّه عليه وسلم ( ان الناس اذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعذابه )

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يحشر يوم القيامة ناس من امتى من قبورهم الى اللّه على صورة القردة والخنازير بما داهنوا اهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون ) فلا بد من توطين النفس على الصبر وتقليل العلائق وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( عذب اهل قرية فيها ثمانية عشر الفا عملهم عمل الانبياء عليهم السلام ) قالوا يا رسول اللّه كيف قال ( لم يكونوا يغضبون للّه ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ) ثم الامر بالمعروف تابع للمأمور به ان كان واجبا فواجب وان كان ندبا فندب

واما النهى عن المنكر فواجب كله لان جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح وطريق الوجوب السمع والعقل وعند البعض السمع وحده وشرط النهى بعد معرفة المنهى عنه ان لا يكون ما ينهى عنه واقعا لان الواقع لا يحسن النهى عنه وانما يحسن الذم عليه والنهى عن المعاودة الى مثله وان يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو ان يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر باعداد آلاته وان لا يغلب على ظنه ان انكر لحقته مضرة عظيمة

فان قلت كيف يباشر الانكار قلت يبدأ بالسهل فان لم ينفع ترقى الى الصعب لان الغرض كف المنكر قال تعالى

{ فأصلحوا بينهما } ثم قال

{ فقاتلوا } والمباشر كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه وقد اجمعوا ان من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الانكار لانه معلوم قبحه لكل احد

واما الانكار الذى بالقتال فالامام وخلفاؤه اولى لانهم اعلم بالسياسة ومعهم عدتها

فان قلت فمن يؤمر وينهى قلت كل مكلف وغير المكلف اذا هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين وينهى الصبيان عن المحرامات حتى لا يتعودوها كما يؤمرون بالصلاة ليمرنوا عليها والعاصى يجب عليه النهى عما ارتكبه اذ يجب عليه تركه والانكار لا يجب فلا يسقط بترك احدهما وجب شىء منهما قال النبى عليه السلام ( ان اللّه ليؤيد هذا الدين باهل الفسوق ) والتوبيخ فى قوله تعالى

{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم } انما هو على نسيان انفسهم لا على امرهم بالبر

وعن السلف مروا بالخير وان لم تفعلوا

وعن بعض الصحابة ان الرجل اذا لم يستطع الانكار على منكر رآه فليقل ثلاث مرات اللّهم ان هذا منكر واذا فعل ذلك فقد فعل ما عليه

كرت نهى منكر بر آيد زدست ... نشايد جوبى دست وبايان نشست

جودست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمايند مردى رجال

يعنى اذا لم يستطع ان يغير المنكر بلسانه ويده فلينكره بقلبه فان الرجال يرون الرجولية بالهمة ويتضرعون الى اللّه فى دفع ما لا يقدرون على فدعه

والاشارة فى الآية ان الامة التى يدعون الى الخير بالافعال دون الاقوال هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه والذى يدل عليه ما روى اسامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال سمعته يقول

( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتزلق اقتابه فى النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع اهل النار عليه فيقولون اى فلان ما شأنك ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ) والداعى الى الخير فى الحقيقة شيوخ الطريقة فان من لم يعرف اللّه لم يعرف الخير اذا الخير المطلق هو الكمال المطلق الذى يكون للانسان بحسب النوع من معرفة الحق والوصول اليه والمعروف كل ما يقرب اليه والمنكر كل ما يبعد عنه فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة لم يكن له مقام الدعوة فغير المستقيم وان كان موحدا ربما امر بما هو معروف عنده منكر فى نفس الامر وربما نهى عما هو منكر عنده معروف فى نفس الامر كمن بلغ فى مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق فكثيرا ما يستحل محرما ويحرم حلالا فهم اهل الحجاب واهل الفلاح المطلق هم الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء اللّه فى ارضه اوصلنا اللّه واياكم الى معرفة حقيقة الحال وشرفنا بالوصول الى جنابه المتعال

١٠٥

{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا } هم اهل الكتابين حيث تفرقت اليهود فرقا والنصارى فرقا

{ واختلفوا } باستخراج التأليفات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما اخلدوا اليه من حطام الدنيا الدنية

قال الامام تفرقوا بابدانهم بان صار كل واحد من اولئك الاحبار رئيسا فى بلد ثم اختلفوا بان صار كل واحد منهم يدعى انه على الحق وان صاحبه على الباطل. واقول انك اذا أنصفت علمت ان اكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل اللّه العفو والرحمة انتهى

{ من بعد ما جاءهم البينات } اى الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة

{ واولئك لهم عذاب عظيم } فى الآخرة بسبب تفرقهم فانه يدوم ولا ينقطع ولما امر اللّه هذه الامة بان يكونوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وذلك لا يتم الا اذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغلبين ولا تحصل هذه القدرة الا اذا حصلت الالفة والمحبة بين اهل الحق والدين فلا جرم حذرهم اللّه عن التفرقة والاختلاف لكيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف. فعلى المؤمنين ان لا يكونوا ناشئين بمقتضى طباعهم غير متابعين لامام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعهم على طريقة واحدة فان لم يكن لهم مقتدى وامام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته وتتفق كلمتهم فى الآخرة على محسوس اوضح من ظهوره فى الدنيا ممن دعا الى اللّه على بصيرة كالرسول واتباعه الذين الحقهم اللّه بدرجات الدنيا فى الدعاء اليه على بصيرة كلماتهم وعاداتهم واهوائهم لمحبته وطاعته كانوا مهملين منفرقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب ولهذا قال امير المؤمنين على رضى اللّه عنه لا بد للناس من امام بار او فاجر ولم يرسل نبى اللّه رجلين فصاعدا لشأن الاوامر احدهما على الآخر وامر الآخر بمتابعته وطاعته ليتحد الامر وينتظم والا وقع الهرج والمرج واضطرب امر الدين والدنيا واختل نظام المعاش والمعاد قال عليه السلام ( من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة ) وقال ( يد اللّه مع الجماعة ) فان الشيطان مع الفذ هو من الاثنين ابعد لا يرى ان الجمعية الانسانية اذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت الى الفساد والتفرق الموجب لخسار الدنيا والآخرة ولما نزل قوله تعالى

{ وان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } خط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا فقال ( هذا سبيل الرشد ) ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال ( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه ) فعلى العاقل ان يسلك الى صراط التوحيد ولوازمه وحقوقه ويجتنب عن سبل الشيطان واسباب الدخول فيها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( امرت ان اقاتل الناس ) الى ان ( وحسابهم على اللّه ) اراد بقوله وحسابهم على اللّه انه لا يعلم انهم قالوها معتقدين لها فالمشرك لا قدم له على صراط التوحيد وله قدم على صراط الوجود والمعطل لا قدم له على صراط الوجود فالمشرك ما وحد اللّه هنا فهو من الموقف الى النار مع المعطلة ومن هو من اهل النار الا المنافقين فلا بد لهم ان ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم فيطمعون فذلك نصيبهم من الجنان ثم يصرفون الى النار وهذا من عدل اللّه فقوبلوا باعمالهم فالشرع هنا هو الصراط المستقيم ولا تزال فى كل ركعة من الصلاة نقول اهدنا الصراط المستقيم فهو احدّ من السيف وادق من الشعر وظهوره على علم وكشف

قال على كرم اللّه وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فمن تمسك بالشرع المتين والقرآن المبين واهتدى الى هذا الصراط المستقيم وتخلص من التفرق الموجب للعذاب الاليم فليس عليه حساب ولا صراط فى الآخرة بل هو مع الانبياء والاولياء فى النعيم المقيم ومن زلت قدمه عن الشرع فى الدنيا بارتكاب المحظورات زلت فى الآخرة ايضا اذ من كان فى الدنيا اعمى محجوبا غير واصل كان فى الآخرة ايضا كذلك والعياذ باللّه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( الزالون على الصراط كثير واكثر من يزل عنه النساء ) وقال ( رأيت النار واكثر اهلها النساء فانهن يكثرن اللعن ويكفرن العشير فلو احسنت الى احداهن الدهر كله ثم اذا رأت منك شيأ قالت ما رأيت منك خيرا قط ) فانظر كيف زلت اقدامهن عن الصراط فى الآخرة وما ذلك الا لكونها زالة عن صراط الشرع فى الدنيا بالاعتقاد والاعمال : ونعم ما قال الجامى

عقل زن ناقص است ودينش نيز ... هر كزش كامل اعتقاد مكن

كر بدست ازوى اعتبار مكير ... ورنكو بروى اعتماد مكن

فاذا وقفت على هذا التفصيل فاجتهد ايها العبد الذليل فى طريق المتابعة والموافقة للانبياء والكاملين وتمسك بذيل شيخ واصل الى اليقين لعله يجمع باذن اللّه شملك بعدما تبدد وصلك وتفرق حالك فان الطريق المجهول لا بد له من مرشد والا فالهلاك عصمنا اللّه واياكم من الخلاف والاختلاف واسلكنا طريق الاخيار من الاسلاف وثبتنا فيه الى آخر الآجال وحشرنا باهل الفضل والكمال

١٠٦

{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } اى اذكروا ايها المؤمنون يوم تبيض وجوه كثيرة وتسود وجوه كثيرة. وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكمون الخوف فيه يقال لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه اى استبشر ولمن وصل اليه مكروه اغبر لونه وتبدلت صورته. فمعنى الآية ان المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فان كان ذلك من الحسنات استبشر بنعم اللّه وفضله واذا رأى الكافر اعماله القبيحة اشتد حزنه وغمه.

وقيل بياض الوجه وسواده حقيقتان فيوسم اهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة واشراق البشرة وسعى النور بين يديه ويمينه واهل الباطل باضداد ذلك والحكمة فى ظهورهما فى الوجوه حقيقة ان السعيد يفرح بان يعلم قومه انه من اهل السعادة قال تعالى مخبر عنه

{ يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين } والشقى يغتم بعكس ذلك

{ فاما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم

{ أكفرتم بعد ايمانكم } الهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم والظاهر انهم اهل الكتابين وكفرهم بعد ايمانهم كفرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ايمانهم به قبل مبعثه عليه السلام او جميع الكفرة حيث كفروا بعد ما اقروا بالتوحيد يوم الميثاق

{ فذوقوا العذاب } المعهود الموصوف بالعظم

{ بما كنتم تكفرون } بالقرآن ومحمد عليه السلام

{ واما الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة اللّه } اى الجنة والنعيم المقيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيها على ان المؤمن وان استغرق عمره فى طاعة اللّه تعالى فانه لا يدخل الجنة الا برحمته تعالى

{ هم فيها خالدون } كانه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون ولا يظعنون عنها ولا يموتون

والاشارة ان الذين تبيض وجوههم يوم القيامة هم الذين ابيضت قلوبهم اليوم بنور الايمان والجمعية والوفاق مع اللّه والذين تسود وجوههم يومئذ هم الذين اسودت قلوبهم بالكفر والتفرق والاختلاف من اللّه وذلك لان الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله تعالى

{ يوم تبلى السرائر } اى يجعل ما فى الضمائر على الظواهر

زر اندود كانرا بآتش برند ... بديد آيد آنكه كه مس يازرند

{ فاما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم

{ أكفرتم بعد ايمانكم } وهم ارباب الطلب السائرون الى اللّه الذين انقطعوا فى بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على اعقابهم القهقرى

{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } تسترون الحق بالباطل وتعرضون عن الحق فى طلب الباطل وكنتم معذبين بنار الهجران والقطيعة فى الدنيا ولكن ما كنتم تذوقون عذابها لان الناس نيام والنائم لا يذوق ألم الجراحات حتى ينتبه فاذا ماتوا انتبهوا فيذوقوا ألم جراحات الانقطاع والاعراض عن اللّه

١٠٧

{ واما الذين ابيضت وجوههم } هم

{ ففى رحمة } الجمعية والوفاق مع

{ اللّه } فى الدنيا و

{ هم فيها خالدون } فى الآخرة لانه يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يبعث كل عبد على ما مات عليه )

وقال ( من مات سكران فانه يعاين ملك الموت سكران ويعاين منكر ونكير سكران ويبعث يوم القيامة سكران الى خندق فى وسط جهنم يسمى السكران فيه فيه عين يجرى ماؤها دما لا يكون له طعام ولا شراب الا منه )

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اخبرنى جبريل عليه السلام ان لا اله الا اللّه انس للمسلم عند موته وفى قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم وينفضون عن رؤسهم التراب هذا يقول لا اله الا اللّه والحمد للّه فيبيض وجهه وهذا ينادى يا حسرتا على ما فرطت فى جنب اللّه مسودة وجوههم )

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( النياحة على الميت من امر الجاهلية وان النائحة اذا لم تتب قبل ان تموت فانها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار ) وفى التنزيل

{ الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان } قال اهل التأويل كلهم يبعث كالمجنون عقوبة لهم وتمقيتا عند اهل الحشر فجعل اللّه هذه العلامة لاكلة الربا وذلك انه ارباه فى بطونهم فاثقلهم فهم اذا خرجو من قبورهم يقومون ويسقطون لعظم بطونهم وثقلها عليهم نسأل اللّه الستر فى الدنيا والآخرة وهو الموفق للصالحات من الاعمال والافعال

١٠٨

{ تلك } اشارة الى الآيات المشتملة على تنعيم الابرار وتعذيب الكفار وهو مبتدأ

{ آيات اللّه } خبره

{ نتلوها } جملة حالية من الآيات

{ عليك } اى نقرأها عليك يا محمد بواسطة جبريل

{ بالحق } حال مؤكدة من فاعل نتلوها او من مفعوله اى ملتبسين او ملتبسة بالحق والعدل ليس فى حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن او بزيادة عقاب المسيئ او بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم باعمالهم بموجب الوعد والوعيد

{ وما اللّه يريد ظلما } اى شيأ من الظلم

{ للعالمين } لاحد من خلقه كيف والظلم تصرف فى ملك الغير وهو تعالى انما يتصرف فى ملك نفسه او انه وضع الشىء فى غير موضعه وذلك قد يكون بمنع حق المستحق منه وقد يكون بفعل ما منع منه ولا ينبغى له ان يفعله وكل ذلك لا يتصور فى حقه تعالى فيستحيل تصور الظلم من اللّه فانه لا حق لاحد فيظلم بمنعه ولا يمنع عن شىء فيظلم بفعله بل هو المالك على الاطلاق وافعاله محض حكمة وعدل

١٠٩

{ وللّه ما فى السموات وما فى الارض } اى له تعالى وحده من غير شركة اصلا ما فيهما من المخلوقات الفائتة للحصر ملكا وخلقا احياء واماتة اثابة وتعذيبا وايراد كلمة ما اما لتغليب غير العقلاء على العقلاء

واما لتنزيلهم منزلة غيرهم اظهارا لحقارتهم فى مقام بيان عظمته تعالى

{ والى اللّه } اى الى حكمه وقضائه لا الى غيره شركه واستقلالا

{ ترجع الامور } اى امورهم فيجازى كلا منهم بما وعد له واوعده من غير دخل فى ذلك لاحد قط

فان قيل الرجوع اليه يكون بعد الذهاب عنه ولم يكن فلم قال ذلك قلنا كانت كالذاهبة بهلاكها ثم اعادتها لان فى الدنيا يملك بعض الخلق بالتدبير وفى القيامة يكون كل ذلك للّه تعالى

١١٠

{ كنتم خير امة } كنتم من كان الناقصة التى تدل على تحقق شىء بصفة فى الزمان الماضى من غير دلالة على عدم سابق او لاحق ويحمل على الدوام او الانقطاع بحسب معونة المقام ودلالة القرائن فقولك كان زيد قائما محمول على الانقطاع وقوله تعالى

{ وكان اللّه غفورا رحيما } محمول على الدوام ومنه قوله تعالى

{ كنتم خير امة } { اخرجت للناس } صفة لامة اظهرت لاجلهم ومصلحتهم ونفعهم

{ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } جملة مستأنفة بين بها كونهم خير امة كأنه قيل السبب فى كونهم خير الامم هذه الخصال الحميدة والمقصود بيان علة تلك الخيرية كقولك زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم لان ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يشعر بالعلية

{ وتؤمنون باللّه } اى ايمانا متعلقا بكل ما يجب ان يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء

{ ولو آمن اهل الكتاب لكان خيرا لهم } اى لو آمنوا كايمانكم لكان ذلك خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة واستباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الايمان من ايتاء الاجر مرتين

{ منهم المؤمنون } كأنه قيل هل منهم من آمن او كلهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد اللّه بن سلام واصحابه

{ واكثرهم الفاسقون } المتمردون فى الكفر الخارجون عن الحدود

١١١

{ لن يضروكم الا اذى } استثناء مفرغ من المصدر العام اى لن يضروكم ابدا ضررا ما الا ضرر اذى لا يبالى به من طعن وتهديد لا اثر له

{ وان يقاتلوكم } اى ان خرجوا الى قتالكم

{ يولوكم الادبار } مفعول ثان ليولوكم اى يجعلوا ظهورهم ما يليكم ويرجعوا الى ادبارهم منهزمين من غير ان ينالوا منكم شيأ من قتل او اسر

{ ثم لا ينصرون } عطف على الشرطية وثم للتراخى فى المرتبة اى لا ينصرون من جهة احد ولا يمنعون منكم قتلا واخذا وفيه تثبيت لمن آمن منهم فانهم كانوا يؤذونهم بالتهلى بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بانهم لا يقدرون على ان يتجاوزوا الاذى بالقول الى ضرب يعبأ به مع انه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وان عاقبة امرهم الخذلان والذل فلا ينهضون بجناح ولا ترجع اليهم قوة ونجاح كما كان من حال بنى قريظة والنضير وقينقاع ويهود خيبر

١١٢

{ ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا } اى فى اى مكان وأى زمان وجدوا فى دار الاسلام الزموا الذل اى هدر النفس والمال والاهل بحيث صار كشىء يضرب على الشىء فيحيط به

{ الا بحبل من اللّه وحبل من الناس } استثناء من اعم الاحوال اى ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هى عليه فى جيع الاحوال الا حال كونهم معتصمين بذمة اللّه وذمة المسلمين واستعير الحبل للعهد لانه سبب للنجاة والفوز بالمراد. وعطف قوله

{ وحبل من الناس } على قوله

{ بحبل من اللّه } يقتضى المغايرة

قال الامام فى وجهه الامان الحاصل للذمى قسمان. احدهما الذى نص اللّه عليه وهو الامان الحاصل له باعطاء الجزية عن يد وقبوله اياها. والثانى الامان الذى فوض الى رأى الامام واجتهاده فيعطيهم الامان مجانا تارة وببدل زائد او ناقص اخرى على حسب اجتهاده فالاول هو المسمى بحبل اللّه والثانى هو المسمى بحبل المؤمنين فالامانان واقعان بمباشرة المسلمين الا انهما متغايران بالاعتبار

{ وباؤا بغضب من اللّه } اى رجعوا بغضب كائن منه تعالى مستوجبين له

{ وضربت عليهم المسكنة } اى زى الافتقار فهى محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود فى غالب الامر فقراء اما فى نفس الامر

واما انهم يظهرون من انفسهم الفقر وان كانوا غنياء موسرين فى الواقع

{ ذلك } اشارة الى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم

{ بانهم كانوا يكفرون بآيات اللّه } اى ذلك الذى ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات اللّه الناطقة بنبوة محمد عليه السلام وتحريفهم لها ولسائر الآيات القرآنية

{ ويقتلون الانبياء بغير حق } اى فى اعتقادهم ايضا وهؤلاء المتأخرون وان لم يصدر عنهم قتل الانبياء لكنهم كانوا راضين بفعل اسلافهم مصوبين لهم فى تلك الافعال القبيحة وطالبين للقتل لو ظفروا به فكانوا بذلك كأنهم فعلوه بانفسهم فلذا اسند القتل اليهم

{ ذلك } اشارة الى ما ذكر من الكفر والقتل

{ بما عصوا وكانوا يعتدون } اى كان بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود اللّه تعالى على الاستمرار فان الاصرار على الصغائر يفضى الى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدى الى الكفر فان من توغل فى المعاصى والذنوب واستمر عليها لا جرم تتزايد ظلمات المعاصى على قلبه حالا فحالا ويضعف نور الايمان فى قلبه حالا فحالا ولم يزل الامر كذلك الى ان يبطل نور الايمان وتحصل ظلمة الكفر نعوذ باللّه من ذلك واليه الاشارة بقوله تعالى

{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } فقوله تعالى

{ ذلك بما عصوا } اشارة الى علة العلة ولهذا المعنى قال ارباب المعاملات من ابتلى بترك الادب وقع فى ترك السنن ومن ابتلى بترك السنن وقع فى ترك الفريضة ومن ابتلى بترك الفريضة وقع فى استحقار الشريعة ومن ابتلى بذلك وقع فى الكفر

فعلى المؤمن ان لا يفتح باب المعصية على نفسه خوفا مما يؤدى اليه بل ويترك ايضا بعض ما ابيح له فى الشرح وذلك هو كمال التقوى قال عليه السلام ( لا يبلغ العبد ان يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( لا يبلغ العبد ان يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به البأس ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام كالراعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه ) الحديث فمنع من الاقدام على الشبهات مخافة الوقوع فى المحرمات وذلك سد للذريعة والعارف متى قصد مخالفة امره تعالى يجد من قلبه استحياء منه تعالى فينتهى عما نوى وعزم ويجتهد فى عبادة ربه

قال الجنيد رحمه اللّه العبادة على رؤوس العارفين كالتيجان على رؤوس الملوك ورؤى فى يده سبحة فقيل له انت مع شرفك تأخذ فى يدك سبحه فقال طريق وصلنا به الى ما وصلنا لا نتركه ابدا

قال الشيخ ابو طالب رحمه اللّه مداومة الاوراد من اخلاق المؤمنين وطريق العابدين وهى مزيد الايمان وعلامة الايقان

قال الشيخ ابو الحسن رحمه اللّه سألت استاذى عن ورد المحققين فقال اسقاط الهوى ومحبة المولى ابت المحبة ان تستعمل محبا لغير محبوبه وقال الورد ردّ النفس بالحق عن الباطل فى عموم الاوقات فليواظب العبد على الاوراد والطاعات وليجانب المعاصى والسيآت قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ذات يوم لاصحابه ( استحيوا من اللّه حق الحياء ) قالوا انا نستحيى يا رسول اللّه والحمد للّه قال ( ليس ذلك ولكن من استحيى من اللّه حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن اراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من اللّه حق الحياء )

مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتى قبله ديكر ست

قال بعض المشايخ لو ان رجلا عاش مائتى سنة ولا يعرف هذه الاربعة فليس شىء احق به من النار احدها معرفة اللّه تعالى فى السر والعلانية وان لا معطى ولا مانع غيره. والثانى معرفة عمل اللّه بان يعرف ان اللّه تعالى لا يقبل من العمل الا ما كان خالصا لرضى اللّه تعالى. والثالث معرفة نفسه بان يعرف ضعفه انه لا يستطيع ان يرد شيأ مما قضى اللّه عليه. والرابع معرفة عدو اللّه وعدو نفسه فيحاربه بالمعرفة حتى يكسره فان المعرفة سلاح العارف فمن كان عنده المعرفة الحقيقية كان غالبا على اعدائه الظاهرة والباطنة ووصل الى مراده والنفس عين العدو فعليك بالاحتراز من شره ومحاربته كل آن بالذكر والفكر والعمل الصالح عصمنا اللّه واياكم من الشرور

١١٣

{ ليسوا سواء } اى ليس اهل الكتاب جميعا مستوين متعادلين فى المساوى والقبائح والمراد بنفى المساواة نفى المشاركة فى اصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفى المساواة فى مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة فى اصل الاتصاف بها

{ من اهل الكتاب امة قائمة } كلام مستأنف لبيان عدم استوائهم وتمام الكلام يقتضى ان يقال ومنهم امة مذمومة الا انه اضمر بناء على ان ذكر احد الضدين يغنى عن الآخر اى من اهل الكتاب جماعة قائمة اى مستقيمة عادلة مناقمت العود فقام بمعنى استقاموا وهم الذين اسلموا منهم كعبد اللّه بن سلام وغيره

نزلت حين قالت احبار اليهود لعبد اللّه بن سلام وغيره من الذين اسلموا من اليهود ما آمن بمحمد الا شرارنا فلو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم او نزلت فى قوم يصلون صلاة الاوابين وهى اثنتا عشرة ركعة بعد صلاة المغرب

{ يتلون آيات اللّه } اى القرآن صفة اخرى لامة

{ آناء الليل } ظرف ليتلون اى فى ساعاته جمع أنى كعصا

{ وهم يسجدون } الجملة حال من فاعل يتلون اى يصلون اذ لا تلاوة فى السجود وقال عليه الصلاة والسلام ( ألا انى نهيت ان اقرأ راكعا وساجدا ) وتخصيص السجود بالذكر من سائر اركان الصلاة لكونه ادل على كمال الخضوع والمراد بصلاتهم التهجد اذ هو ادخل فى مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فانها فى المكتوبة وظيفة للامام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح

١١٤

{ يؤمنون باللّه واليوم الآخر } على الوجه الذى نطق به الشرع تعريض بان ايمان اليهود به مع قولهم عزير ابن اللّه وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الايمان بهما فى شىء اصلا

{ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } تعريض بمداهنتهم فى الاحتساب بل بتعكيسهم فى الامر باضلال الناس وصدهم عن سبل اللّه فانه امر بالمنكر ونهى عن المعروف

{ ويسارعون فى الخيرات } المسارعة فى الخير فرط الرغبة فيه لان من رغب فى الامر سارع فى توليه والقيام به وآثر الفور على التراخى اى يبادرون مع كمال الرغبة فى فعل اصناف الخيرات اللازمة والمتعدية تعريض بتباطئ اليهود فيها بل بمبادرتهم الى الشر

{ واولئك } المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب اتصافهم بها

{ من الصالحين } اى من جملة من صلحت احوالهم عند اللّه تعالى واستحقوا رضاه وثناءه

١١٥

{ وما يفعلوا من خير } كائنا ما كان مما ذكر او لم يذكر

{ فلن يكفروه } فلن يضيع ولا ينقص ثوابه البتة وسمى منع الثواب ونقصه كفرانا مع انه لا يجوز ان يضاف الكفران الى اللّه تعالى اذ ليس لاحد عليه تعالى نعمة حتى يكفرها نظرا الى انه تعالى سمى ايصال الجزاء والثواب شكرا حيث قال

{ فان اللّه شاكر عليم } فلما جعل الشكران مجازا عن توفية الثواب جعل الكفران مجازا عن منعه وتعديته الى مفعولين وهما ما قام مقام الفاعل والهاء لتضمنه معنى الحرمان

{ واللّه عليم بالمتقين } بشارة لهم بجزيل الثواب واشعار بان التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وان الفائز عند اللّه هو اهل التقوى

والاشارة فى قوله

{ وما يفعلوا من خير } اى من خير يقربهم اليه فاللّه يشكره بتقربه اليهم اكثر من تقربهم اليه كما قال ( من تقرب الىّ شبرا تقربت اليه باعا ) وقال ( انا جليس من ذكرنى وانيس من شكرنى ومطيع من اطاعنى ) اى كما اطعمتمونى بتصفية الاستعداد والتوجه نحوى اطعتكم بافاضة الفيض على حسبه والاقبال اليكم

{ واللّه عليم بالمتقين } بالذين اتقوا ما يحجبهم عنه فتجلى لهم بقدر زوال الحجاب

قال ابو بكر الكتانى رأيت فى المنام شابا لم ار احسن منه فقلت من انت فقال التقوى قلت فاين تسكن قال فى كل قلب حزين ثم التفت الىّ فاذا امرأة سوداء اوحش ما يكون فقلت من انت فقالت الضحك فقلت اين تسكنين فقالت فى كل قلب فرح مرح قال فانتبهت واعتقدت ان لا اضحك الا غلبة فعلى السالك ان يتمسك بحبل التقوى ويأنس به فى الدنيا لعل اللّه يجعله انيسا له فى قبره وحشره فالتقوى من ديدن الصلحاء وهم الذين يسارعون الى الخيرات ما داموا فى الحياة

قال الشيخ ابو الحسن رحمه اللّه افضل ما يسأل العبد من اللّه خيرات الدين ففى خيرات الدين خيرات الآخرة وفى خيرات الآخرة خيرات الدنيا وفى خيرات الدنيا ظهور خصائص الاولياء وهى اربعة اوصاف العبودية ونعوت الربوبية والاشراف على ما كان ويكون والدخول على اللّه فى كل يوم سبعين مرة والخروج كذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( انه ليغان على قلبى فاستغفر اللّه فى اليوم سبعين مرة ) واستغفاره عليه الصلاة والسلام من نقص ما رقى عنه باعتبار ما ترقى اليه اذ ذلك الاستغفار من مقتضى البشرية التى لا يمكن دفعها ووجه الاستغفار منه عليه السلام التفريق بين حالين كان فيهما بالعبودية اذ لا يلحق النبى نقص بوجه ولا فتور بحال لثبوت عصمته ولكن حسنات الابرار سيآت المقربين فينبغى للانسان ان يأخذ على نفسه ان لا يضيع لحظة حتى يأخذها بالذكر والشكر ومتى رأى خللا رفعه بالاستغفار وذكر اللّه تعالى علم الايمان وبراءة من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( لما بعث اللّه يحيى بن زكريا عليهما السلام الى بنى اسرائيل امره ان يأمرهم بخمس خصال ويضرب لكل خصلة مثلا. امرهم ان يعبدوا اللّه ولا يشركوا به شيأ وضرب لهم مثل الشرك كرجل اشترى عبدا من ماله ثم اسكنه دارا وزوجه ودفع اليه مالا وامره ان يتجر فيه ويأكل منه ما يكفيه ويؤدى اليه فضل الربح فعمد العبد الى فضل فجعل يعطيه لعدو سيده ويعطى لسيده منه شيأ يسيرا فايكم يرضى بفعال هذا العبد. وامرهم بالصلاة وضرب لهم مثلا للصلاة كمثل رجل استأذن على ملك من الملوك فاذن له فدخل عليه فاقبل عليه الملك بوجهه ليستمع مقالته ويقضى حاجته فالتفت يمينا وشمالا ولم يهتم لقضاء حاجته فاعرض عنه الملك فلم يقض حاجته. وامرهم بالصيام وضرب لهم مثلا فقال مثل الصائم كمثل رجل لبس جبة للقتال واخذ سلاحه فلم يصل اليه عدوه ولم يعمل فيه سلاح عدوه. وامرهم بالصدقة وضرب لهم مثلا للمتصدق فقال مثل المتصدق كمثل رجل اسره عدوه فاشترى منهم نفسه بثمن معلوم فجعل يعمل فى بلادهم ويؤدى اليهم من كسبه القليل والكثير حتى يفتدى منهم نفسه فعتق وفك رقبته. وامرهم بذكر اللّه تعالى وضرب لهم مثلا للذكر فقال مثل الذكر كمثل قوم لهم حصن وبقربهم عدو لهم فدخلوا حصنهم واغلقوا بابه وحصنوا انفسهم من العدو ) قال النبى صلى اللّه عليه وسلم ( وانا آمركم بالخصال الخمس التى امر اللّه بها يحيى عليه السلام وآمركم بخمس اخرى امرنى اللّه بها عليكم بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد ) فليسارع العبد الى الخيرات والحسنات وجميع الحالات ولا يتيسر ذلك الا لارباب الارادات واصحاب المجاهدات

نيايد نكوكارى از بدركان ... محالست دوزند كى از سكان

توان باك كردن ز زنك آينه ... وليكن نيايد ز سنك آينه

بكوشش نرويد كل از شاخ بيد ... نه زنكى بكرما به كردد سفيد

١١٦

{ ان الذين كفروا } اى بما يجب ان يؤمن به

{ لن تغنى عنهم } اى لن تدفع عنهم

{ اموالهم ولا اولادهم من اللّه } اى من عذابه تعالى

{ شيأ } اى شيأ يسيرا منه او شيأ من الاغناء رد للكفار كافة حيث فاخروا بالاموال والاولاد قائلين نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين وكانوا يعيرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واتباعه بالفقر ويقولون لو كان محمد على الحق لما تركه ربه فى الفقر والشدة. وخص الاموال والاولاد بالذكر لان الانسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالاولاد فانفع الجمادات هو المال وانفع الحيوانات هو الولد فالكافر اذا لم ينتفع بهما فى الآخرة البتة دل ذلك على عدم انتفاعه بسائر الاشياء بالطريق الاولى

{ واولئك اصحاب النار } اى مصاحبوها على الدوام وملازموها

{ هم فيها خالدون } ابدا ولما بين ان اموال الكفار لا تغنى عنهم شيأ ثم انهم ربما انفقوا اموالهم فى وجوه الخيرات فيخطر ببال الانسان انهم ينتفعون بذلك فازال اللّه بهذه الآية تلك الشبهة وبين انهم لا ينتفعون بتلك الانفاقات وان كانوا قد قصدوا بها وجه اللّه فقال

١١٧

{ مثل ما ينفقون فى هذه الحيوة الدنيا } اى حال ما ينفقه الكفرة قربة او مفاخرة وسمعة وطلبا لحسن الذكر بين الناس وعداوة لاهل الاسلام كما انفق ابو سفيان واصحابه مالا كثيرا على الكفار يوم بدر واحد

{ كمثل ريح فيها صر } اى برد شديد مهلك فانه فى الاصل مصدر وان شاع اطلاقه على الريح البارد كالصرصر

{ اصابت حرث قوم } اى زرع قوم

{ ظلموا انفسهم } بالكفر والمعاصى فباؤا بغضب من اللّه وانما وصفوا بذلك لان الاهلاك عن سخط اشد وافظع

{ فاهلكته } عقوبة لهم ولم تدع منه اثرا ولا عثيرا والمراد تشبيه ما انفقوا فى ضياعه وذهابه بالكلية من غير ان يعود اليهم نفع مّا بحرث كفار ضربته صرّ فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة بوجه من الوجوه فهو من التشبيه المركب

{ وما ظلمهم اللّه } بما بين من ضياع ما انفقوا من الاموال

{ ولكن انفسهم يظلمون } لما انهم اضاعوها بانفاقها لا على ما ينبغى وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص

واعلم ان انفاق الكفار اما ان يكون لمنافع الدنيا او لمنافع الآخرة فان كان لمنافع الدنيا لم يبق منه اثر البتة فى الآخرة فى حق المسلم فضلا عن الكافر وان كان لمنافع الآخرة ولعلهم انفقوا اموالهم فى الخيرات ببناء الرباطات والقناطر والاحسان الى الضعفاء والايتام والارامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الانفاق خيرا كثيرا فاذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات وكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كثيرا فاصابه ريح فاحرقه ولا يبقى معه الا الحزن والاسف هذا اذا انفقوا الاموال فى وجوه الخيرات. اما اذا انفقوها فيما ظنوا انه من الخيرات لكنه كان من المعاصى مثل انفاق الاموال فى ايذاء الرسول وفى قتل المؤمنين وتخريب ديارهم فالذى قلنا فيه اشد واشد ونظير هذه الآية

{ وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } ويدخل فيه ما ينفقه بعض صاحبى الغرض لنفى رجل صالح من بلده او قتله او ايذائه ونعوذ باللّه من ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن اربع عن عمره فيم افناه وعن جسده فيم ابلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه ) فليبادر العاقل الى الانفاق من ماله والاخلاص فى عمله قال عليه الصلاة والسلام ( يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدى اللّه عز وجل فيقول اللّه تعالى للملائكة القوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا الا خيرا فيقول وهو اعلم ان هذا كان لغيرى ولا اقبل اليوم من العمل الا ما ابتغى به وجهى )

زعمرو اى بسر جشم اجرت مدار ... جو در خانه زيد باشى بكار

جه قدر آورد بنده حورديس ... كه ز ير قبا دارد اندام ييس

قال منصور بن عمار رحمه اللّه كان لى اخ فى اللّه يعتقدنى ويزورنى فى شدتى ورخائى وكان كثير العبادة والتهجد والبكاء ففقدته ايامام فقيل لى هو ضعيف مريض فاتيت بابه فطرقته فخرجت ابنته فدخلت فوجدته فى وسط الدار وهو مضطجع على فراشه وقد اسود وجهه وازرقت عيناه وغلظت شفتاه فقلت له يا اخى اكثر من قول لا اله الا اللّه ففتح عينيه ونظر الىّ شزرا ثم وثم حتى قلت له لئن لم تقلها لا غسلتك ولا كفتك ولا صليت عليك فقال يا اخى منصور هذه كلمة قد حيل بينى وبينها فقلت لا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم فاين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام فقال يا اخى كل ذلك كان لغير وجه اللّه انما كنت افعل ذلك ليقال واذكر به واذا خلوت بنفسى غلقت الابواب وارخيت الستور وبارزت ربى بالمعاصى

ور آوازه خواهى در اقليم فاش ... برون حله كن درون حشو باش

فلا غرور للعاقل بكثرة الاعمال والاولاد والاموال اذا لم تكن نيته صحيحة فيما يجرى عليه من الاحوال فاين الذين آثروا العقبى بل المولى على كل ما سواه فوجدوا الفقر اعز من الغنى والذل الذ من العزة وبذلوا اموالهم وارواحهم فى سبيل اللّه لعمرى قوم عزيز الوجود وقليل ما هم وقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{ الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } ثم قال ( يقول ابن آدم مالى وهل لك من مالك الا ما اكلت فافنيت واو لبست فابليت او تصدقت فامضيت ) قال عليه الصلاة والسلام ( يا عائشة ان اردت اللحوق بى فليكفك من الدنيا كزاد الراكب واياك ومجالسة الاغنياء ولا تستخلقى ثوبا حتى ترقعيه ) وقال عليه السلام ( اللّهم من احبنى فارزقه العفاف والكفاف ومن ابغضنى فاكثر ماله وولده ) فقد وقفت ايها العبد على حقيقة الحال وان المال لا يغنى عن المرء شيأ فعليك بالقناعة وتقليل الدنيا ولا تغتر باصحاب الاموال والجاه

از بى ذكر وشوق حق مارا ... در دو عالم دل وز بانى بس

وز طعام ولباس اهل جهان ... كهنه دلقى ونيم نانى بس

١١٨

{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت فى قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهاهم اللّه عن ذلك بقوله

{ لا تتخذوا بطانة } بطانة الرجل صاحب وليجته من يعرف اسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب التى تلى بطنه كما شبه بالشعار قال عليه السلام ( الابصار شعار والناس دثار )

{ من دونكم } اى من دون المسلمين متعلق بلا تتخذوا

{ لا يألونكم خبالا } يقال ألا فى الامر اذا قصر فيه ثم استعمل معدى الى مفعولين فى قولهم لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع اى لا امنعك نصحا والخبال الفساد اى لا يقصرون لكم فى الفساد بالمكر والخديعة ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر

{ ودوا ما عنتم } اى تمنوا عنتكم اى مشقتكم وشدة ضرركم فى امور دينكم ودنياكم فان عجزوا عن ذلك فحب ذلك وتمنيه غير زائل من قلوبهم

{ قد بدت البغضاء من افواههم } البغضاء شدة البغض اى قد ظهرت علامة العداوة فى كلامهم الخارج من افواههم لما انهم لا يتمالكون مع مبالغتهم فى ضبط انفسهم وتحاملهم عليها ان ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين

{ وما تخفى صدورهم اكبر } مما بدا لان بدوه ليس عن روية واختيار

{ قد بينا لكم الآيات } الدالة على وجوب الاخلاص فى الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين

{ ان كنتم تعقلون } ما بينا لكم فتعملون به والظاهر ان الجمل من قوله لا يألونكم الى هنا تكون مستأنفات على وجه التعليل للنهى عن اتخاذهم بطانة

١١٩

{ ها انتم اولاء } اى انتم ايها المؤمنون اولاء المخطئون فى موالاتهم

{ تحبونهم ولا يحبونكم } لما بينكم من مخالفة الدين

{ وتؤمنون بالكتاب كله } اى بجنس الكتاب جميعا وهو حال من الضمير المفعول فى لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال انكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بانهم فى باطلهم اصلب منكم فى حقكم

{ واذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقا

{ واذا خلوا } فكان بعضهم مكان بعض

{ عضوا عليكم الانامل من الغيظ } اى من اجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا الى التشفى سبيلا. والانامل جمع انملة بضم الميم وهو الطرف الاعلى من الاصبع. والغيظ شدة الغضب

قال الامام والمعنى انه اذا خلا بعضهم ببعض اظهروا شدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة الى عض الانامل كما يفعل ذلك احدنا اذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال فى الغضبان انه يعض يده غيظا وان لم يكن هناك عض وانما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم

{ قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الاسلام واهله الى ان يهلكوا به او باشتداده الى ان يهلكهم فالمراد اللعن والطرد لا على وجه الايجاب والا لماتوا من ساعتهم

{ ان اللّه عليم بذات الصدور } اى قل لهم ان اللّه عليم بعداوة الصدور فيعلم ما فى صدوركم من البغضاء والحنق

 

١٢٠

{ ان تمسسكم حسنة } اى تصبكم ايها المؤمنون حسنة بظهوركم على عدو لكم وغنيمة تنالونها وتتابع الناس فى الدخول فى دينكم وخصب فى معاشكم

{ تسؤهم } اى تحزنهم حسدا الى ما نلتم من خير ومنفعة

{ وان تصبكم سيئة } مساءة باخفاق سرية لكم او اصابة عدو منكم او اختلاف يكون بينكم او جدب ونكبة

{ يفرحوا بها } يشمتون مما اصابكم من ضرر وشدة وذكر المس مع الحسنة والاصابة مع السيئة للايذان بان مدار مساءتهم ادنى مراتب اصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام اصابة السيئة

{ وان تصبروا } على عداوتهم او على مشاق التكاليف

{ وتتقوا } ما حرم اللّه عليكم ونهاكم عنه

{ لا يضركم كيدهم } مكرهم وحيلتهم التى دبروها لاجلكم. والكيد حيلة لظيفة تقرب وقوع المكيد به فيها

{ شيأ } نصب على المصدرية اى لا يضركم شيأ من الضرر بفضل اللّه وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولان المجد فى الامر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئا على الخصم

{ ان اللّه بما يعملون } فى عداوتكم من الكيد

{ محيط } علما فيعاقبهم على ذلك. والاحاطة ادراك الشىء بكماله

فينبغى للمرء ان يجانب اعداء اللّه ويصبر على اذاهم فانه امتحان له من اللّه مع انهم لا يقدرون على غير القدح باللسان كما قال تعالى

{ لن يضروكم الا اذى } والطعن لم يتخلص منه الانبياء والاولياء فكيف انت يا رجل وكلنا ذلك الرجل

توروىزبر ستيدن حق مييج ... مهل تانكيرند خلقت بهيج

رهايى نيابدكس ازدست كس ... كرفتاررا جاره صبرست وبس

وفى قوله تعالى

{ لا تتخذوا بطانة من دونكم } اشارة الى ان الحامل لاسرار الرجل ينبغى ان يكون من جنسه معتمدا عليه مؤتمنا وربما يفشى الرجل سره الى من لم يجربه فى كل حاله فيفتضح عند الناس

ان الرجال صناديق مقفلة ... ومفاتيحها الا التجاريب

فلا تغتر بظاهر انسان حتى تعرف سريرته

قال الامام الغزالى ولا تعول على مودة من لم تختبره حق الخبرة بان تصحبه مدة فى دار أو موضع واحد فتجربه فى عزله وولايته وغناه وفقره او تسافر معه او تعامله فى الدينار والدرهم او تقع فى شدة فتحتاج اليه فان رضيته فى هذه الاحوال فاتخذه أبا لك ان كان كبيرا او ابنا ان كان صغيرا او اخا ان كان مثلا لك واذا بلغك من الاخوان غيبة او رأيت منهم شرا او اصابك منهم ما يسوءك فكل امرهم الى اللّه ولا تشغل نفسك بالمكافاة فيزيد الضرر ويضيع العمر لشغله

ومن بلاغات الزمخشرى ما قدع السفيه بمثل الاعراض وما اطلق عنانه بمثل العراض اى المعارضة : ونعم ما قيل

اصبر على مضض الحسو ... د فان صبرك قاتله

والنار تأكل نفسها ... ان لم تجد ما تأكله

فالمجاملة من سير الصالحين

وكان ابراهيم بن ادهم فى جماعة من اصحابه فكان يعمل بالنهار وينفق عليهم ويجتمعون بالليل فى موضع وهم صيام فكان يبطىء فى الرجوع من العلم فقالوا ليلة تعالوا بنا نجعل فطورنا دونه حتى يعود بعد هذا اسرع فأفطروا وناموا فلما رجع ابراهيم وجدهم نياما فقال مساكين لعلهم لم يكن لهم طعام فعمد الى شىء من الدقيق هناك فعجنه وأوقد النار وطرح الملة فانتبهوا وهو ينفخ فى النار واضعا محاسنه على التراب فقالوا له فى ذلك فقال قلت لعلكم لم تجدوا فطورا فنمتم فاحببت ان تستيقظوا والملة قد ادركت فقال بعضهم لبعض ابصروا اى شىء عملنا وما الذى به يعاملنا

بدى را بدى سهل باشد جزا ... اكر مردى احسن الى من اساء

قال ذو النون رحمه اللّه لا تصحب مع اللّه الا بالموافقة ولا مع الخلق الا بالمناصحة ولا مع النفس الا بالمخالفة ولا مع الشيطان الا بالعداوة فليسارع العبد الى تحصيل حسن الخلق وتوطين النفس على الصبر على المكاره حتى يفوز مع الفائزين

قال بعضهم كنت بمكة فرأيت فقير اطاف بالبيت واخرج من جيبه رقعة ونظر فيها ومر فلما كان بالغد فعل مثل ذلك فترقبته اياما وهو يفعل مثله فيوما من الايام طاف ونظر فى الرقعة وتباعد قليلا وسقط ميتا فأخرجت الرقعة من جيبه واذا فيها واصبرلحكم ربك فانك بأعيننا

قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فى وصيته لابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما ان استطعت ان تعمل للّه بالرضى فى اليقين فافعل والا ففى الصبر على ما تكره خير كثير ومقاساة المجاهدات ومخالفة النفس وترك الشهوات واللذات والتزام الفقر والصبر على المكروهات من ديدن السلف الصالحين واهل النفس الامارة وان كان يبدو من فمه علامات البغض لأمثال هؤلاء الاخيار لكنه فى الحقيقة يعود ضرره الى نفسه والمرء بالصبر على ما جاء به من مكاره اعتراضه الفاسد يكون مأجورا ومثابا عند اللّه تعالى وتباين الناس بالصلاح والفساد وغير ذلك خير محض يعتبره العاقل ويزكى نفسه به في أيها الصلحاء ان الاشرار متسلطون على الاخيار بالطعن وقصد الاضرار ولكن المتقى فى حصن اللّه الملك الجبار

١٢١

{ واذ غدوت } اى اذكر لهم يا محمد وقت خروجك غدوة اى اول النهار الى احد ليتذكروا ما وقع فيه من الاحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلموا انهم ان لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة

{ من اهلك } من منزل عائشة رضى اللّه عنها فى المدينة وهذا نص على ان عائشة رضى اللّه عنها كانت اهلا للنبى صلى اللّه عليه وسلم قال تعالى

{ الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } فدل هذا على انها كانت مطهرة مبرأة من كل قبيح ألا يرى ان ولد نوح لما كان كافرا قال

{ انه ليس من اهلك } وكذا امرأة لوط

{ تبوىء المؤمنين } اى تنزلهم

{ مقاعد } كائنة ومهيئة

{ للقتال } او متعلق بقوله تبوىء اى لاجل القتال. والمقاعد جمع مقعد وهو اسم لمكان القعود عبر عن تلك الاماكن التى عينت لكل واحد من الصحابة ان يبيت فى ما عين له من تلك الاماكن اما بان يتسع فى استعمال القعود لمجرد المكان مع قطع النظر عن كونه مكان القعود كما فى قوله تعالى

{ فى مقعد صدق }

واما لان كل مكان انما عين لصاحبه لان يقعد وينتظر فيه الى ان يجيئ العدو فيقوموا عند الحاجة الى المحاربة فسميت تلك الاماكن بالمقاعد لهذا الوجه روى ان المشركين نزلوا باحد يوم الاربعاء فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اصحابه ودعا عبد اللّه بن ابى بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد اللّه واكثر الانصار يا رسول اللّه اقم بالمدينة ولا تخرج اليهم فواللّه ما خرجنا منها الى عدو قط الا اصاب منا ولا دخلها علينا الا اصبنا منه فكيف وانت فينا فدعهم فان اقاموا اقاموا بشر محبس وان دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة وان رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم يا رسول اللّه اخرج بنا الى هؤلاء الاكلب لا يرون انا قد جبنا عنهم وقال عليه السلام ( انى رأيت فى منامى بقرا مذبحة حولى ) اى قطيعا منها ( فاولتها خيرا ورأيت فى ذبان سيفى ثلما ) اى كسرا ( فاولته هزيمة ورأيت كأنى ادخلت يدى فى درع حصينة فاولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم ) فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر واكرمهم اللّه بالشهادة يوم احد اخرج بنا الى اعدائنا طلبا لسعادة الشهادة وطمعا فى الحسنى والزيادة فلم يزالوا به عليه الصلاة والسلام حتى دخل ولبس لامته اى درعه فلما رأوا ذلك ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول اللّه والوحى يأتيه وقالوا اصنع يا رسول اللّه ما رأيت فقال ( ما ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل ) وكان قد اقام المشركون باحد يوم الاربعاء والخميس فخرج رسول اللّه عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة وصلى على رجل من الانصار مات فيه فاصبح بالشعب من احد يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فمشى على راحلته فجعل يصف اصحابه للقتال كانما يقوم بهم القدح ان رأى صدرا خارجا قال تأخر وكان نزوله فى عدوة الوادى اى طرفه وجانبه وجعل ظهره وعسكره الى احد وامر عبد اللّه بن جبير على الرماة وقال لهم

( انضحوا عنا بالنبل ) اى ادفعوا العدو عنا بالسهم حتى لا يأتونا من ورائنا ( ولا تبرحوا مكانكم فاذا عاينوكم وولوكم الادبار فلا تطلبوا المدبرين ) ثم ان الرسول صلى اللّه عليه وسلم لما خالف رأى عبد اللّه بن ابى وكان من قدماء اهل المدينة ورئيس المنافقين شق عليه ذلك وقال اطاع الولدان وعصانى ثم قال لاصحابه ان محمدا انما يظفر بعدوه بكم وقد وعد اصحابه ان اعداءهم اذا عاينوهم انهزموا فاذا رأيتم اعداءهم فانهزموا فسيتبعونكم ويصير الامر على خلاف ما قاله محمد عليه الصلاة والسلام فلما التقى الفريقان انهزم عبد اللّه بالمنافقين وكان عليه السلام قد خرج فى الف رجل او تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا الشوط رجع ابن ابىّ بثلاثمائة وبقيت سبعمائة فقال لقومه يا قوم علام نقتل انفسنا وأولادنا فتبعهم ابو جابر السلمى وقال انشدكم اللّه فى نبيكم وانفسكم فقال عبد اللّه لو نعلم قتالا لاتبعناكم وكان الحيان من الانصار بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الاوس جناحى عسكر رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهما باتباع عبد اللّه فعصمهم اللّه فمضوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقواهم اللّه تعالى حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم طمعوا ان تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين فتركوا الموضع الذى امرهم النبى عليه السلام بالثبات فيه ثم اشتغلوا بطلب الغنائم وخالفوا امر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فاراد اللّه ان يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وليعلموا ان ظفرهم انما حصل يوم بدر ببركة طاعتهم للّه ولرسوله ومتى تركهم اللّه مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع اللّه الرعب من قلوب المشركين وكانوا ثلاثة آلاف رجل فحملوا على المؤمنين وتفرق العسكر عن رسول اللّه عليه السلام حتى بقى معه سبعة من الانصار ورجلان من قريش فلما قصد الكفار النبى عليه الصلاة والسلام شجوا رأسه وكسروا رباعيته وثبت معه عليه السلام يومئذ طلحة ووقاه بيده فشلت اصبعاه وصار مجروحا فى اربعة وعشرين موضعا ولما اصابه عليه السلام ما اصاب من الشجة وكسر الرباعية وغلب عليه الغشى احتمله طلحة ورجع القهقرى وكلما ادركه واحد من المشركين كان يضعه عليه السلام ويقاتله حتى اوصله الى الصحة وكان عليه السلام يقول

( اوجب طلحة ) ووقعت الصيحة فى العسكر ان محمد قد قتل وكان فى جملة الصحابة رجل من الانصار يكنى ابا سفيان نادى الانصار وقال هذا رسلو اللّه فرجع اليه المهاجرون والانصار فشمل عز الشهادة اثنين وسبعين من المؤمنين واختص بشرائف نعم اللّه وجلائل كرمه حمزة سيد الشهداء وهنيئا له ان مثل به اذ مثل به وكثر فيهم الجراح فقال عليه الصلاة والسلام ( رحم اللّه رجلا ذب عن اخوانه وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى واعانهم اللّه حتى هزموا الكفار ) ثم ان كل ذلك يؤكد قوله تعالى

{ وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيأ } وان المقبل من اعانه اللّه والمدبر من خذله اللّه ومن اللّه العصمة

{ واللّه سميع عليم } لما شاور النبى عليه السلام اصحابه فى ذلك الحرب وقال بعضهم اقم بالمدينة وقال آخرون اخرج اليهم وكان لكل احد غرض فى قوله فمن موافق ومن منافق قال تعالى انا سميع لما يقولون عليم بما يسرون

١٢٢

{ اذ همت } بدل من اذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير. والهم تعلق الخاطر بماله قدر

{ طائفتان منكم } ايها المؤمنون وهما بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الاوس

{ ان تفشلا } اى بان تجبنا وتضعفا وترجعا لظنهما الصواب فيه. والفشل الضعف والظاهر ان همهما ليس بمعنى العزم والقصد المصمم وانما هو خطرات وحديث نفس كما لا تخلو النفس عند الشدائد من بعض الهلع ثم يردها صاحبها الى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه

{ واللّه وليهما } اى عاصمهما من اتباع تلك الخطرات والجملة اعتراض

{ وعلى اللّه } وحده دون ما عداه مطلقا استقلالا واشتراكا

{ فليتوكل المؤمنون } فى جميع امورهم فانه حسبهم وفيه اشعار بان وصف الايمان من دواعى التوكل وموجباته والتوكل الاعتماد على الغير واظهار العجز

قال الامام وفى الآية اشارة الى انه ينبغى ان يدفع الانسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على اللّه وان يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل

قال سهل بن عبد اللّه التسترى جملة العلوم ادنى باب من التعبد وجملة التعبد ادنى باب من الورع وجملة الورع ادنى باب من الزهد وجملة الزهد ادنى باب من التوكل

وقال ايضا علامة المتوكل ثلاث لا يسأل ولا يرد ولا يحبس

وكان ابراهيم الخواص رحمه اللّه مجردا فى التوكل وكان لا يفارقه ابرة وخيوط وركوة ومقراض فقيل له يا ابا اسحق لم تحمل هذا وانت ممتنع من كل شىء فقال مثل هذا لا ينقص التوكل لان للّه علينا فرائض والفقير لا يكون عليه غير ثوب واحد فربما يتمزق ثوبه فاذا لم يكن معه ابرة وخيوط تبدو عورته فتفسد عليه صلاته

قال ابو حمزة الخراسانى حججت سنة من السنين فبينما انا امشى فى الطريق اذ وقعت فى بئر فنازعتنى نفسى ان استغيث فقلت لا واللّه لا استغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال احدهما للآخر تعالى حتى نسدّ رأس هذه البئر لئلا يقع فيها احد فاتوا بصب وطمسوا البئر فهممت ان اصيح ثم قلت فى نفسى اشكو الى من هو اقرب منهما فسكت فبينما انا بعد ساعة اذا انا بشىء قد جاء وكشف عن رأس البئر وادخل رجله وكأنه يقول لى تعلق بى فى هينمة له كنت اعرف ذلك منها فتعلقت به فاخرجنى فاذا هو سبع فمر وهتف بى هاتف يا ابا حمزة أليس هذا احسن نجيناك من التلف بالتلف فمشيت

قال بعضهم من وقع فى ميدان التفويض يزف اليه المراد كما تزف العروس الى اهلها

ولما زج بابراهيم عليه السلام فى المنجنيق واتاه جبريل فقال ألك حاجة قال اما اليك فلا

واما الى اللّه فبلى قال سله قال حسبى من سؤالى علمه بحالى وقد قال نبينا عليه السلام

( يقول اللّه تعالى فمن شغله ذكرى عن مسألتى اعطيته افضل ما اعطى السائلين ) فعلى السالك ان يتوكل على اللّه ويفوض امره اليه فان كل ما قضى وقدر لا يرد البتة وان تعدت نفسك فى ذلك

قضا كشتى آنجا كه خواهد برد ... وكرنا خدا جامه برتن درد

يكفيك علم اللّه بحالك فاقطع نظرك عن الاسباب والفتح ليس الا من مفتح الابواب

مكن سعديا ديده بردست كس ... كه بخشنده بروردكارست وبس

اكر حق برستى زدرها بسست ... كه كروى بداند نخواند كسست

١٢٣

{ ولقد نصركم اللّه ببدر } تذكير ببعض ما افادهم التوكل. وبدر بئر ماء بين مكة والمدينة حافرها رجل اسمه بدر فسمى به وكانت وقعة بدر فى السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة

{ وانتم اذلة } حال من الضمير جمع ذليل وانما قال اذلة ولم يقل ذلائل بجمع الكثرة ليدل على انهم على ذلتهم كانوا قليلا وذلتهم ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب وذلك انهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم الا فرس واحد للمقداد بن الاسود وهو اول من قاتل على فرس فى سبيل اللّه وتسعون بعيرا وست ادرع وثمانية سيوف وقلتهم انهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ستة وسبعون من المهاجرين وبقيتهم من الانصار وكان عدوهم فى حال كثرة زهاء الف مقاتل ومعهم مائة فرس والشكة والشوكة وكان صاحب راية رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم على بن ابى طالب رضى اللّه عنه وصاحب راية الانصار سعد بن عبادة رضى اللّه عنه

{ فاتقوا اللّه } فى الثبات مع رسوله كما اتقيتم يومئذ

{ لعلكم تشكرون } اى راجين ان تشكروا بما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة

١٢٤

{ اذ تقول } ظرف لنصركم وقت قولك

{ للمؤمنين } حين اظهروا العجز عن المقاتلة

{ ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } الكفاية سد الخلة والقيام بالامر. والامداد اعانة الجيش بالجيش والمعنى انكار عدم كفاية الامداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة ان للاشعار بانهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرته

{ منزلين } اى حال كونهم نازلين من السماء باذنه تعالى. قيل امدهم اللّه اولا بالف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة وانما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويتقووا بنصر اللّه

١٢٥

{ بلى } ايجاب لما بعد ان وتحقيق له اى بلى يكفيكم ذلك ثم وعدهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقال

{ ان تصبروا } على لقاء العدو ومناهضتهم

{ وتتقوا } معصية اللّه ومخالفة نبيه صلى اللّه عليه وسلم

{ ويأتوكم } اى ان يجيئكم المشركون

{ من فورهم هذا } اى من ساعتهم هذه

{ يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة } فى حال اتيانهم لا يتأخر نزولهم عن اتيانهم يريد ان اللّه يعجل نصرتكم ويسهل فتحكم ان صبرتم واتقيتم

{ مسومين } من التسويم الذى هو اظهار سيما الشىء اى معلمين انفسهم او خيلهم فى اذنابها ونواصيها بالصوف الابيض قال عليه السلام ( لاصحابه تسوموا فان الملائكة قد تسومت ) روى ان الملائكة كانوا بعمائم بيض الا جبريل عليه السلام فانه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام ونزلوا على الخيل البلق موافقة لفرس المقداد واكراما له

١٢٦

{ وما جعله اللّه } عطف على مقدر اى فامدكم به وما جعل اللّه ذلك الامداد بانزال الملائكة عيانا بشىء من الاشياء

{ الا بشرى لكم } بانكم تنصرون

{ ولتطمئن قلوبكم به } اى بالامداد وتسكن اليه من الخوف كما كانت السكينة لبنى اسرائيل

{ وما النصر الا } كائن

{ من عند اللّه } لا من العدة والعدد وهو تنبيه على انه لا حاجة فى نصرهم الى مدد وانما امدهم بشارة لهم وربطا على قلوبهم من حيث ان نظر العامة الى الاسباب اكثر فينبغى للمؤمن ان لا يركن الى شىء من ذلك فان ترتب النصر عليها ليس الا بطريق جرى العادة

{ العزيز } الذى لا يغالب فى حكمه وقضيته

{ الحكيم } الذى يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة

١٢٧

{ ليقطع } متعلق بنصركم اى نصركم اللّه يوم بدر ليهلك وينقص

{ طرفا من الذين كفروا } اى طائفة منهم بقتل واسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديهم سبعون واسر سبعون

{ او يكبتهم } اى يخيزهم ويغيظهم بالهزيمة فان الكبت شدة غيظ او وهن يقع فى القلب من كبته بمعنى كبده اذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة واو للتنويع دون الترديد

{ فينقلبوا خائبين } غير ظافرين بمبتغاهم وينهزموا منقطعى الآمال. والخيبة هو الحرمان من المطلوب والفرق بينها وبين اليأس ان الخيبة لا تكون الا بعد التوقع

واما اليأس فانه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر

١٢٨

{ ليس لك من الامر شىء } اعتراض

{ او يتوب عليهم او يعذبهم } عطف على قوله او يكبتهم والمعنى ان اللّه مالك امرهم على الاطلاق فاما ان يهلكهم او يكبتهم او يتوب عليهم ان اسلموا او يعذبهم تعذيبا شديدا اخرويا ان اصروا وليس لك من امرهم شىء وانما انت عبد مأمور لانذارهم وجهادهم

{ فانهم ظالمون } قد استحقوا التعذيب بظلمهم

١٢٩

{ وللّه ما فى السموات وما فى الارض } من الموجودات خلقا وملكا لا مدخل فيه لاحد اصلا فله الامر كله

{ يغفر لمن يشاء } ان يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح

{ ويعذب من يشاء } ان يعذبه وقدم المغفرة لسبق رحمته تعالى غضبه وهذا صريح فى نفى وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافى له

{ واللّه غفور رحيم } لعباده والمقصود بيان انه وان حسن كل ذلك منه الا ان جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والاحسان

فليبادر العاقل الى الاعمال التى يستوجب بها رحمة اللّه تعالى ولا ييأس من روح اللّه انه لا ييأس من روح اللّه الا القوم الكافرون

اوحى اللّه تعالى الى داود عليه السلام [ يا داود بشر المذنبين وانذر الصديقين ] قال يارب فكيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين قال [ بشر المذنبين بانى لا يتعاظمنى ذنب الا اغفره وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم وانى لا اضع عدلى وحسابى على احد الا اهلكه ]

وروى عن عمر رضى اللّه تعالى عنه انه دخل على النبى عليه السلام فوجده يبكى فقال ما يبكيك يا رسول اللّه قال ( جاءنى جبريل فقال ان اللّه يستحيى ان يعذب احدا قد شاب فى الاسلام فكيف لا يستحيى من شاب فى الاسلام ان يعصى اللّه )

فالواجب على الشيخ ان يعرف هذه الكرامة ويشكر اللّه ويستحيى منه ومن الكرام الكاتبين ويمتنع من المعاصى ويكون مقبلا على طاعة ربه فانه فى ساحل بحر المنون روى ان الحجاج لما اقام بالعراق يرهب ويفتك حتى استوثقت له الامور خرج عليه عبد الرحمن بن الاشعث باهل العراق فامده عبد الملك باهل الشام فكانوا شيعته واستمرت بينه وبين ابن الاشعث الوقائع حتى هزمه الحجاج بدير الجماجم بعد ثمانين وقعة فى ستة اشهر وكان مع ابن الاشعث اكثر من مائتى الف فلما هزموا قال الحجاج لاصحابه اتركوهم فليتبددوا ولا تتبعوهم ثم نادى مناديه من رجع فهو آمن ودخل الكوفة وجاء الناس من المنهزمين يبايعونه فكان يقول لمن جاء يبايعه اشهد على نفسك بالكفر وخروجك عن الجماعة ثم تب فان شهد والا قتله فاتاه رجل من خثعم فقال اشهد على نفسك بالكفر فقال ان كنت عبدت ربى ثمانين سنة ثم اشهد على نفسى بالكفر لئبس العبد انا واللّه ما بقى من عمرى الا ظمئ حمار واننى انتظر الموت صباحا ومساء فامر به فضرب عنقه وقدم بعده شيخ فقال الحجاج ما اظن الشيخ يشهد على نفسه بالكفر فقال يا حجاج اخادعى انت عن نفسى انا اعرف بها منك وانى لأكفر من فرعون وهامان فضحك الحجاج وخلى سبيله فانظر الى ضعف ايمانه كيف ارتكب هذا القبح بعد ما جاوز حد الشباب الذى ليس له بعده الا انتظار الموت صباحا ومساء من اقراره بالكفر مع غاية شيبه ومن لم تتداركه العناية الازلية لم يجىء منه شىء.

فعلى السالك ان يطمئن قلبه بالايمان ويجتهد الى ان يصل الى قوة اليقين ومن قوة اليقين التوحيد وهو ان يرى الاشياء كلها من مسبب الاسباب ويرى الوسائط مسخرة لحكمه ولا ريب ان قوة اليقين بتصفية القلب عن كدورات النفس

جو باك آفريدت بهش باش باك ... كه ننكست ن باك رفتن بخاك

بيابى بيفشان از آيينه كرد ... كه صيقل نكيرد جو زنكار خورد

وجلاء القلب انما يحصل بذكر اللّه وتلاوة القرآن والصلاة على النبى عليه السلام وخير الاذكار كلمة التوحيد وهى العروة الوثقى

قال ابراهيم الخواص قدس سره دواء القلب خمسة. تلاوة القرآن بالتدبر. وخلاء البطن. وقيام الليل. والتضرع الى اللّه تعالى عند السحر. ومجالسة الصالحين. فعليك بالمواظبة لهذه الخصال لعلك تصل الى التزكية ودرجة الكمال بعون اللّه الملك العزيز المتعال

١٣٠

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

١٣١

{ واتقوا النار التى اعدت للكافرين } بالتحرز عن متابعتهم وتعاطى ما يتعاطونه وفيه تنبيه على ان النار بالذات معدة للكفار وبالعرض للعصاة. وكان ابو حنيفة رحمه اللّه يقول هى اخوف آية فى القرآن حيث اوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اصناف محارمه

١٣٢

{ واطيعوا اللّه } فى كل ما امركم به ونهاكم عنه

{ والرسول } الذى يبلغكم اوامره ونواهيه

{ لعلكم ترحمون } راجين لرحمته ولعل وعسى فى امثال ذلك دليل عزة التوصل الى ما جعل خبرا له

قال القاشانى ولا يخفى على الفطن ما فيه من المبالغة فى التهديد على الربا حيث اتى بلعل فى فلاح من اتقاه واجتنبه لان تعليق امكان الفلاح ورجاءه بالاجتناب منه يستلزم امتناع الفلاح لهم اذا لم يجتنبوه ويتقوه مع ايمانهم. ثم اوعد عليه بالنار التى اعدت للكافرين مع كونهم مؤمنين فما اعظمها من مصيبة توجب عقاب الكفار للمؤمنين وما اشده من تغليظ عليه ثم امد التغليظ بالامر بطاعة اللّه رسوله تعريضا بان آكل الربا منهمك فى المعصية لا طاعة له ثم علق رجاء المؤمنين بطاعة اللّه ورسوله اشعارا بانه لا رجاء للرحمة مع هذا النوع من العصيان فهو يوجب اليأس من رحمته للمؤمنين لامتناعها لهم معه فانظر كيف درج التغليظ فى التهديد حتى الحقه بالكفار فى الجزاء والعقاب انتهى بعبارته

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لعن اللّه آكل الربا ومكله وشاهده وكاتبه والمحلل ) والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال على الوجه الذى نهى اللّه عنه وهو قسمان ربا النسيئة وربا الفضل. اما ربا النسيئة فهو ما كان يتعارفه اهل الجاهلية ويتعاملون به وقد سبق آنفا.

واما ربا الفضل اى اخذ الفضل عند مقابلة الجنس بالجنس نقدا فهو ان يباع منّ من الحنطة بمين منها وما اشبه ذلك وقد اتفق جمهور العلماء على تحريم الربا فى القسمين

واعلم ان الربا يؤدى الى الحرص على طلب الدنيا اضعافا مضاعفة الى ما لا يتناهى كما قال عليه الصلاة والسلام ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى اليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ) والحرص درك من دركات النيرات فلذا قال { واتقوا النار التى اعدت للكافرين }

قناعت كن اى نفس بد اند كى ... كه سلطان ودرويش بينى يكى

فالحرص على الدنيا وسعيها وجمعها مذموم منهى عنه والبذل والايثار وترك الدنيا والقناعة فيها محمود مأمور به يدل عليه قوله تعالى

{ يمحق اللّه الربوا ويربى الصدقات } فمن اخذ الربا لتكثير المال بلا احتياج كان كمن يقع على امه نعوذ باللّه روى عن عبد اللّه بن سلام للربا اثنان وسبعون حوبا اصغرها كمن اتى امه فى الاسلام كذا فى تنبيه الغافلين. واذا اخذه بوجه شرعى مع الاحتياج يجوز فى الفتوى ولكن التقوى فوق امر الفتوى والحيلة الشرعية فيه ذكرها قاضيخان حيث قال رجل له على رجل عشرة دراهم فاراد ان يجعلها ثلاث عشر قالوا قالوا يشترى من المديون شيأ بتلك العشرة ويقبض المبيع ثم يبيعه من المديون بثلاثة عشر الى سنة فيقع التحرز عن الحرام ومثل هذا مروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واذا احتاج الى الاستقراض فاستقرض من رجل فلم يعطه الا بالربا فالاثم على آخذ الربا دون معطيه لانه له فيه ضرورة وهذا اذا كان الآخذ غنيا كما عرفت فالمرء الصالح يتباعد عن مثل هذه المعاملات فان الربا يضر بايمان المؤمنين وهو وان كان زيادة فى الحال لكنه نقصان فى الحقيقة فان الفقراء الذين يشاهدون ان المرابى يأخذ اموالهم بسبب الربا يلعنونه ويدعون عليه وذلك يكون سببا لزوال الخير والبركة عنه فى نفسه وماله بل عما يتفرع من نقص عرضه وقدره وتوجه مذمة الناس اليه وسقوط عدالته وزوال امانته وفسق القلب وغلظته.

وآخذ الربا لا يقبل اللّه منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلاة وقد ثبت فى الحديث ( ان الاغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسائة عام ) فاذا كان الغنى من الوجه الشرعى الحلال كذلك فام ظنك بالغنى من الوجه الحرام. فالانسان مع فقره وحاجته اذا توكل على اللّه واحسن الى عبيده فاللّه تعالى لا يتركه ضائعا جائعا فى لادنيا بل يزيد كل يوم فى جاهه وذكره الجميل ويميل قلوب الناس اليه.

واما اذا كان بخلاف ذلك فيكون امره عسيرا فى الدنيا والآخرة والعمل السوء ينزع به الايمان عند الموت فيستحق به صاحبه الخلود فى النار كالكفار نعوذ باللّه من ذلك

وروى ابو بكر الوراق عن ابى حنيفة رحمه اللّه اكثر ما ينزع الايمان لاجل الذنوب من العبد عند الموت واسرعها نزعا للايمان ظلم العباد فاتق ايها المؤمن من اللّه ولا تظلم عباد اللّه باخذ اموالهم من ايديهم بغير حق فانه حوب كبير عصمنا اللّه واياكم

١٣٣

{ وسارعوا } اى بادروا واقبلوا الى

{ مغفرة } كائنة

{ من ربكم وجنة } الى ما يستحقان به كالاسلام والتوبة والاخلاص واداء الواجبات وترك المنهيات

{ عرضها السموات والارض } اى كعرضهما صفة لجنة وذكر العرض للمبالغة فى وضعها بالسعة على طريقة التمثيل فان العرض فى العادة ادنى من الطول

{ اعدت للمتقين } اى هيئت لهم صفة اخرى لجنة. وفيه دليل على ان الجنة مخلوقة الآن وانها خارجة عن هذا العالم.

اما الاول فلدلالة لفظ الماضى.

واما الثانى فلأن ما يكون عرضه كعرض جميع هذا العالم لا يكون داخلا فيه روى ان رسول هرقل سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انك تدعو الى جنة عرضها السموات والارض فأين النار فقال عليه السلام ( سبحان اللّه فأين الليل اذا جاء النهار ) والمعنى واللّه اعلم اذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم والليل فى ضد ذلك الجانب فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل

١٣٤

{ الذين ينفقون } كل ما يصلح للانفاق وهو صفة مادحة للمتقين

{ فى السراء والضراء } اى فى حالتى الرخاء والشدة اى الغنى والفقر واليسر والعسر وفى الاحوال كلها اذ الانسان لا يخلو عن مسرة او مضرة اى لا يخلون فى حال ما بانفاق ما قدروا عليه من قليل او كثير

{ والكاظمين الغيظ } عطف على الموصول والكظم الحبس والغيظ توقد حرارة القلب من الغضب اى الممسكين عليه الكافين عن امضائه مع القدرة عليه

{ والعافين عن الناس } اى التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته

{ واللّه يحب المحسنين } الذين عمت فواضلهم وتمت فضائلهم. ولامه يصلح للجنيس فيدخل تحته هؤلاء والعهد فتكون الاشارة اليهم

واعلم ان الاحسان الى الغير اما ان يكون بايصال النفع اليه او بدفع الضرر عنه. اما ايصال النفع اليه فهو المراد بقوله

{ الذين ينفقون فى السراء والضراء } ويدخل فيه انفاق العلم وذلك بان يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين. ويدخل فيه انفاق المال فى وجوه الخيرات والعبادات قال عليه الصلاة والسلام ( السخى قريب من اللّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من اللّه بعيد من الناس قريب من النار )

واما دفع الضرر عن الغير فهو اما فى الدنيا وهو ان لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة اخرى وهو المراد بكظم الغيظ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من كظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملأ اللّه قلبا امنا وايمانا )

واما فى الآخرة وهو ان يبرئ ذمته من التبعات والمطالبات فى الآخرة وهو المراد بقوله

{ والعافين عن الناس } روى انه ينادى مناد يوم القيامة اين الذين كانت اجورهم على اللّه فلا يقوم الا من عفا وعن النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ان هؤلاء فى امتى قليل الا من عصمه اللّه وقد كانوا كثيرا فى الامم التى مضت ) فهذه الآية دالة على جميع جهات الاحسان الى الغير ولما كانت هذه الامور الثلاثة مشتركة فى كونها احسانا الى الغير ذكر ثوابها فقال

{ واللّه يحب المحسنين } فان محبة اللّه العبد اعظم درجات الثواب

قال الفضيل بن عياض الاحسان بعد الاحسان مكافأة والاساءة بعد الاساءة مجازاة والاحسان بعد الاساءة كرم وجود والاساءة بعد الاحسان لؤم وشؤم حكى ان خادما كان قائما على رأس الحسن بن على رضى اللّه عنهما وهو مع اضيافه فى المائدة فانحرفت قصعة كانت فى يد الخادم فسقط منها شىء على الحسن فقال

{ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } قال قد عفوت عنك فقال

{ واللّه يحب المحسنين } قال أنت حر لوجه اللّه وقد زوجتك فلانة فتاتى وعلىّ ما يصلحكما : قال الفاضل الجامى

جوانمردا جوانمردى بياموز ... زمردان جهان مردى بياموز

جرون ازكين كين جويان نكه دار ... زبان از طعن بد كويان نكه دار

نكويى كن بآن كوباتوبد كرد ... كزان بدر خنه دراقبال خود كرد

جو آيين نكو كارى كنى ساز ... نكردد جزبتو آن نكويى باز

فعلى العاقل ان يسارع الى العمل بالحسنات من الاحسان وانواع الخيرات سريعا قبل الفوات لان فى التأخير آفات

كنون وقت تخمست اكربرورى ... كراميد دارى كه خرمن برى

يعنى ان كنت تأمل الجنة فاعبد ربك بانواع العبادات ما دمت فى الحياة فان الفرصة غنيمة والمتأخر عن السير اللّه مغبون قيل بياساقى كه فى التأخير آفات ومن اضاع عمره فى الهوى فلا يلحقه يوم القيامة الا الحسرة والندامة

بمايه توان اى بسر سود كرد ... جه سود آيد آنراكه سرمايه خورد

واللّه تعالى خلق الانسان لدخول الجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ثم ارسل المرسلين مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار وحث بالاتقاء والحذر عن النار كما قال

{ واتقوا النار التى اعدت للكافرين } وحرض على المسارعة الى الجنة بقوله

{ وسارعوا الى مغفرة من ربكم } اى سارعوا بقدم التقوى الى مقام من مقامات قرب ربكم

{ وجنة عرضها السموات والارض } يعنى طولها فوق السموات والارض

والاشارة فيه ان الوصول اليها بعد العبور من ملك السموات والارض وهو المحسوسات التى تدركها الحواس الخمس والعبور عنها انما يكون بقدم التقوى الذى هو تزكية النفس عن الاخلاق الذميمة كما قال

{ اعدت للمتقين } فان قدم التقوى الذى يولج به فى عالم الملكوت هو التزكية ويدل عليه ما قال عيسى عليه الصلاة والسلام [ لن يلج ملكوت السموات والارض من لم يولد مرتين ] فالولادة الثانية هى الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها وولوج الملكوت وهو التحلية بالصفات الروحانية وقوله

{ اعدت للمتقين } اى هم مخصوصون بها ومراتبهم فى الدرجات العلى وهو بقدر تقوى النفوس وتزكيتها عصمنا اللّه واياكم من الشرور والاوزار وشرفنا بمقامات الابرار والاخيار

١٣٥

{ والذين اذا فعلوا فاحشة } اى فعلة بالغة فى القبح كالزنى

{ او ظلموا انفسهم } بان اذنبوا اى ذنب كان مما يؤاخذ به الانسان او الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك

{ ذكروا اللّه } تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء او وعيده

{ فاستغفروا لذنوبهم } بان يندموا على ما مضى مع العزم على ترك مثله فى السمتقبل

واما مجرد الاستغفار باللسان فلا اثر له فى ازالة الذنب وانما هو حظ اللسان من الاستغفار وهو توبة الكذابين

{ ومن } استفهام انكارى اى لا

{ يغفر الذنوب } اى جنس الذنوب احد

{ الا اللّه } بدل من الضمير المستكن فى يغفر وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه تصويبا للتائبين وتطييبا لقلوبهم وبشارة لهم بوصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة واجلالا لهم واعلاء لقدرهم بانهم علموا ان لا مفزع للمذنبين الا فضله وكرمه وان من كرمه ان التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له وان العبد اذا التجأ اليه فى الاعتذار والتنصل باقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن الذنوب وان جلت فان عفوه اجل وكرمه اعظم وتحريضا للعباد على التوبة وبعثا عليها وعلى الرجاء وردعا عن اليأس والقنوط

{ ولم يصروا } عطف على فاستغفروا اى لم يقيموا

{ على ما فعلوا } من الذنوب فاحشة كانت او ظلما غير مستغفرين لقوله عليه السلام ( ما صر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة ) و ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار ) اى الصغيرة مع الاصرار كبيرة

{ وهم يعلمون } حال من فاعل يصروا اى لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه وبالنهى عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما انه قد يعذر من لا يعلم ذلك اذا لم يكن عن تقصير فى تحصيل العلم به

١٣٦

{ اولئك } اى اهل هذه الصفات

{ جزاؤهم } اى ثوابهم

{ مغفرة } كائنة

{ من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } اى لهم ذخر لا يبخس واجر لا يوكس وجنات لا تنقضى ولذات لا تمضى

{ ونعم اجر العاملين } المخصوص بالمدح محذوف اى ونعم اجر العاملين ذلك اى ما ذكر من المغفرة والجنات والتعبير عنهما بالاجر المشعر بانهما تستحقان بمقابلة العمل وان كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب فى الطاعات والزجر عن المعاصى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ربه تبارك قال ( ابن آدم انك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك ما كان منك. ابن آدم انك ان تلقنى بقراب الارض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة بعد ان لا تشرك بى شيأ. ابن آدم انك ان تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرنى اغفر لك ) قال ثابت البنانى بلغنى ان ابليس بكى حين نزلت هذه الآية وهى قوله

{ والذين } الآية وقال صلى اللّه عليه وسلم ( ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم ويصلى ثم يستغفر اللّه الا غفر اللّه له ) روى ان اللّه تعالى اوحى الى موسى عليه السلام [ ما اقل حياء من يطمع فى جنتى بغير عمل يا موسى كيف اجود برحمتى على من يبخل طاعتى ]

وعن شهر بن حوشب طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة

وعن رابعة البصرية انها كانت تنشد

ترجو النجاة ولم تسك مسالكها ... ان السفينة لا تجرى على اليبس

قال القشيرى رحمه اللّه اوحى اللّه سبحانه الى موسى عليه السلام [ قل للظلمة حتى لا يذكرونى فانى اوجبت ان اذكر من يذكرنى وذكرى للظلمة باللعنة ]

واعلم ان العمدة هى الايمان وذلك انما يحصل بالتوحيد المنافى للشرك وهو المؤدى الى التوبة والاستغفار ولكونه عمدة عد المؤمن الموحد من المتقين وصار سببا لدخول الجنة

فينبغى للعبد ان يصرف اختياره الى جانب الامتثال للامر والاجتناب عن النهى فاللّه تعالى خالقه وان كان التوفيق الى جانب العمل ايضا من عنايته تعالى

نخست او ارادت بدل درنهاد ... بس اين بنده برآستان سرنهاد

وفقنى اللّه واياكم الى ما يحب ويرضى ويداوى بلطفه وكرمه هذه القلوب المرضى فان بيده مفاتيح الاصلاح والفوز بالبغية والظفر بالفلاح

شنيدستم كه ابراهيم ادهم ... شبى بر تخت دولت خفت خرم

زسقف خودشنيد آوازبايى ... زجا برجست جون آشفته رايى

بتندى كفت او كين كيست بربام ... كه دارد بر سبهر قصر ما كام

جواب آمد كه اى شاه جهانكير ... شتركم كرده مرد مفلسم بير

زخنده كشت شه برجاى خودست ... كه بربام آدمى هركز شترجست

دكربار باسخ آمد كاى جوان بخت ... خدا جويى بود بر كوشه بام

جوبشنيد اين بيام ازهاتف غيب ... فراغت كرد از دنيا بلا ريب

رسيد از راه تجريدى بمنزل ... بس از ادبارشد مقبول ومقبل

فالواجب على طالب الحق ان يحفظ الادب حتى يرتقى بذلك الى اعلا الرتب ألا ترى الى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كيف كان يستغفر كل يوم سبعين مرة مع ان ذنبه كان مغفورا وبكمال ادبه وصل الى ما وصل حتى صار اتباعه سببا لمحبة اللّه تعالى كما قال تعالى

{ قل ان كنتم تحبون اللّه فاتبعونى يحببكم اللّه } ومع ذلك كان خوفه واجلاله فى غاية الكمال وهكذا ينبغى لمن اقتدى به. ورتبة المحسن وان كانت اولى ولكن التدارك احسن من الاصرار فطوبى لمتدارك وصل الى الاحسان واجير نال الى المحبوبية عند اللّه الرحمن

١٣٧

{ قد خلت من قبلكم سنن } اصل الخلو الانفراد والمكان الخالى هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل ايضا فى الزمان الماضى لان ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الامم الخالية والسنن الوقائع اى قد مضت من قبل زمانكم وقائع سنها اللّه فى الامم المكذبة اى وضعها طريقة يسلكها على وفق الحكمة فالمراد بسنن اللّه تعالى معاملات اللّه فى الامم المكذبة بالهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }

{ فسيروا فى الارض } اى ان شككتم فى ذلك فسيروا وليس المراد الامر بالمسافرة فى الارض بسير الاقدام لا محالة بل المقصود تعرف احوالهم فان حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ولعل اختيار لفظ سيروا مبنى على ان اثر المشاهدة اقوى من اثر السماع كما قيل ليس الخبر كالمعاينة وفى هذا المعنى قيل

ان آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا الى الآثار

{ فانظروا } بنظر العين والمشاهدة

{ كيف } خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة فى محل النصب بعد نزع الخافض لان الاصل استعماله بالجال

{ كان عاقبة المكذبين } رسلى واوليائى

١٣٨

{ هذا } اشارة الى ما سلف من قوله قد خلت الخ

{ بيان للناس } وهم المكذوبن اى ايضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فان الامر بالسير والنظر وان كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين ايضا على ان ينظروا الى عواقب ما قبلهم من اهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارهم وان لم يكن الكلام مسوقا لهم والبيان هو الدلالة على الحق فى اى معنى كان بازالة ما فيه من الشبهة

{ وهدى } اى زيادة بصيرة وهو مختص بالدلالة والارشاد الى طريق الدين القويم والصراط المستقيم ليتدين به ويسلك

{ وموعظة } وهو الكلام الذى يفيد الزجر عما لا ينبغى فى الدين

{ للمتقين } اى لكم والاظهار للايذان بعلة الحكم فان مدار كونه هدى وموعظة لهم انما هو تقواهم

واعلم ان الامم الماضية خالفوا الانبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم اثر وبقى عليهم اللعن فى الدنيا والعقاب فى الآخرة فرغب اللّه تعالى امة محمد صلى اللّه عليه وسلم المصدقين فى تأمل احوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الانابة والاعراض عن الاغترار بالحظوظ الفانية واللذات المقتضية فان الدنيا لا تبقى مع المؤمن ولا مع الكافر فالمؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل فى الدنيا والثواب الجزيل فى العقبى والكافر بخلافه فاللائق ان يجتهد فيما هو خير وابقى ولا ينظر الى زخارف الدنيا. ثم فى هذا تسلية للمؤمنين فيما اصابهم يوم احد فان الكفار وان نالوا من المؤمنين بعض النيل لحكمة اقتضته فالعاقبة للمؤمنين قال تعالى

{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون } و

{ ان الارض يرثها عبادى الصالحون } ولو كانت الغلبة كل مرة للمؤمنين لصار الايمان ضروريا وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة الآلهية. فعلى العاقل ان يفوض الامر الى اللّه ويعتبر بعين البصيرة فى الامور الخفية والجلية وقد قال اللّه تعالى { فاعتبروا يا اولى الابصار }

نرود مرغ سوى دانه فراز ... جون دكر مرغ بيند اندر بند

بندكير ازمصائب دكران ... تانكيرند ديكران زتو بند

والخوف من العاقبة من الصفات السنية للصلحاء روى انه يعذب الرجل فى النار الف سنة ثم يخرج منها الى الجنة قال الحسن البصرى رحمه اللّه يا ليتنى كنت ذلك الرجل وانما قال الحسن ذلك لانه يخاف عاقبة امره وهكذا كان الصالحون يخافون عاقبة امرهم وكان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يكثر ان يقول ( يا مقلب القلوب ثبت قلبى على طاعتك ) قالت عائشة رضى اللّه عنها يا رسول اللّه انك لتكثر القول بهذا الدعاء فهل تخشى قال صلى اللّه عليه وسلم ( ما يؤمننى يا عائشة وقلوب العباد بين اصبعين من اصابع الرحمن فاذا اراد ان يقلب قلبا قلبه )

قال السدى انى لأنظر فى المرآة كل يوم مرارا مخافة ان يكون قد اسود وجهى

والاشارة فى الآيتين ان اللّه خص السائرين الى اللّه بالمهاجرة عن الاوطان والمسافرة الى البلدان بمقارقة الخلان والاخدان ومصاحبة الاخوانغير الخوّان ليعتبروا من سنن اهل لسنن فقال تعالى

{ قد خلت من قبلكم سنن } اى امم لهم سنن

{ فسيروا } على سنن اهل السنة

{ فى الارض } فى ارض نفوسكم الحيوانية بالعبور عن اوصافها الدنية واخلاقها الردية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية وتتخلقوا بالاخلاق الربانية

{ فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } اى كيف صار حاصل امر النفوس الكذبة بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية عند الوصول اليها

{ هذا بيان للناس } اى لاهل الغفلة والغيبة الناسين عهد الميثاق

{ وهدى وموعظة للمتقين } اى وعيان لاهل الهداية والشهود الذاكرين للعهود الذين اتعظوا بالتجارب والتقوى عما سوى اللّه تعالى

قال بعض العلماء يا مغرور امسك وقس يومك بامسك واتعظ بمن مضى من ابناء جنسك فانك بك قد خللت فى رسمك أين من اسخط مولاه بنيل ما يهواه أين من افنى عمره فى خطاياه فتذكر انت أيها الغافل مصارعهم وانظر مواضعهم هل نفعهم رفيق رافقوه او منعهم اما خلوا بخلالهم اما انفردوا باعمالهم فستصير فى مصيرهم فتدبر أمرك وستسكن فى مثل مساكنهم فاعمر قبرك يا مسرورا بمنزلة الرحب الانيق ستفارقه يا مشمئزا من التراب ستعانقه اعتبر بمن سبقك فانت لاحقه واذكر العهد الازلى فزك نفسك حياء من اللّه لعلك تصل الى ما تهواه من جنات وعيون ومقام كريم ووصال الصالحين وهل ترضى لنفسك يا مسكين ان تقف فى مقام الجهال المعتدين اما علمت انك غدا تدان كما تدين اصلح اللّه احوالنا وصحح اقوالنا وافعالنا واعطانا آمالنا وختمنا بالخير اذا بلغنا آجالنا

١٣٩

{ ولا تهنوا } من الوهن وهو الضعف اى لا تضعفوا عن الجهاد بما اصابكم من الجراح يوم احد

{ ولا تحزنوا } على من قتل منكم وهى صيغة نهى ورد للتسكين والتصبير لا النهى عن الحزن

{ وانتم الاعلون } اى والحال انكم الاعلون الغالبون دون عدوكم فان مصير امرهم الى الدمار حسبما شاهدتم فى احوال اسلافهم لان الباطل يكون زهوقا واصله اعليون فكرهوا الجمع بين اخت الكسرة والضمة

{ ان كنتم مؤمنين } والجواب محذوف دل عليه المذكور اى ان كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فان الايمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع اللّه وقلة المبالاة باعدائه ولا يتعلق بالنهى المذكور لان الجزاء لا يتقدم على الشرط لكونهما كالكلمة الواحدة

١٤٠

{ ان يمسسكم } اى يصبكم

{ قرح } فتحا وضما اى جراحة

{ فقد مس القوم } اى الكفار ببدر

{ قرح مثله } قيل قتل المسلمون من الكافرين ببدر سبعين واسروا سبعين وقتل الكافرون من المسلمين باحد سبعين واسروا سبعين والمعنى ان نالوا منكم يوم احد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فانتم اولى بان لا تضعفوا فانكم ترجون من اللّه ما لا يرجون

{ وتلك الايام } اشارة الى الايام الجارية فيما بين الامم الماضية والآتية كافة لا الى المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم احد بل هى داخلة فيها دخولا اوليا والمراد بها اوقات الظفر والغلبة

{ نداولها بين الناس } ونصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء اخرى كقول من قال

فيوما علينا ويوما لنا ... ويوما نساء ويوما نسرّ

والمداولة نقل الشىء من واحد الى واحد وقالوا تداولته الايدى اى تناقلته واليس المراد من هذه المداولة ان اللّه تعالى تارة ينصر المؤمنين واخرى ينصر الكافرين وذلك لان نصره تعالى منصب شريف فلا يليق بالكفار بل المراد انه تعالى تارة يشدد المحنة على الكفار واخرى على المؤمنين وانه لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الاوقات وازالها عن المؤمنين فى جميع الاوقات لحصل العلم الضرورى والاضطرارى بان الايمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط اللّه المحنة على اهل الايمان واخرى على اهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الاسلام فيعظم ثوابه عند اللّه ولان المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى فيكون اما تشديد المحنة عليه فى الدنيا ادبا له

واما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من اللّه

{ وليعلم اللّه الذين آمنوا } عطف على علة محذوفة اى نداولها بينكم ليكون من المصالح مالا يعلم وهو اما من باب التمثيل اى ليعاملكم معاملة من يريد ان يعلم المخلصين الثابتين على الايمان من غيرهم او العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب اى ليميز الثابتين على الايمان من غيرهم او هو على حقيقة معتبرة من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث انه موجود بالفعل اذ هو الذى يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث انه موجود بالقوة فالمعنى ليعلم اللّه الذين آمنوا علما يتعلق به الجزاء

{ ويتخذ منكم شهداء } جمع شهيد اى ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء احد

{ واللّه لا يحب الظالمين } ونفى المحبة كناية عن البغض اى يبغض الذين يضمرون خلاف ما يظهرون او الكافرين وهو اعتراض.

وفيه تنبيه على انه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وانما يغلبهم احيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين

١٤١

{ وليمحص اللّه الذين آمنوا } عطف على يتخذ اى ليصفيهم ويطهرهم من الذنوب ان كانت الدولة عليهم

{ ويمحق الكافرين } ويهلكهم ان كانت عليهم. والمحق نقص الشىء قليلا قليلا والمراد بهم الذين حاربوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم احد واصروا على الكفر وقد محقهم اللّه عز وجل جميعا

قال القاشانى ومن فوائد الابتلاءخروج ما فى استعداداتهم من الكمالات الى الفعل كالصبر والشجاعة وقوة اليقين وقلة المبالاة بالنفس واستيلاء القلب عليها والتسليم لامر اللّه وامثالها

قال نجم الدين الكبرى

{ ولا تهنوا } يا سائرين الى اللّه فى السير اليه

{ ولا تحزنوا } على ما فاتكم من التنعمات الدنيوية والكرامات الاخروية

{ وانتم الاعلون } من اهل الدنيا والآخرة فى المقام عند ربكم

{ ان كنتم مؤمنين } مصدقين بهذه الاخبار تصديق الائتمار به

{ ان يمسسكم قرح } فى اثناء السير من المجاهدات وانواع البلاء والابتلاء

{ فقد مس القوم } من الانبياء والاولياء

{ قرح } من المحن

{ مثله وتلك الايام } وايام المحن والبلاء والابتلاء والامتحان

{ نداولها بين الناس } بين السائرين يوما نعمة ويوما نقمة ويوما منحة ويوما محنة

{ وليعلم اللّه الذين آمنوا } وليختبرهم اللّه بالامتحان ويجعلهم مستعدين لمقام الشهادة

{ ويتخذ منكم شهداء } يا مبتلين بالنعمة والنقمة فى اثناء السير ارباب الشهود والمشاهدة

{ واللّه لا يحب الظالمين } الذين يصرفون استعدادهم فى طلب غير الحق والسير اليه

{ وليمحص اللّه الذين آمنوا ويمحق الكافرين } يعنى ان كل غم وهم ومصيبة تصيب المؤمنين فى اللّه يكون تكفيرا لذنوبهم وتطهيرا لقلوبهم وتخليصا لارواحهم وتمحيصا لاسرارهم وما يصيب الكافرين من نعمة ودولة وحبور يكون سببا لكفرانهم ومزيدا لطغيانهم وعمى لقلوبهم وتمردا لنفوسهم ومحقا لارواحهم وسحقا لاسرارهم فاهل المحبة والمعرفة لا يخلون عن الابتلاء بقلة او ذلة او علة فان مقتضى الحكمة ذلك ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام ( اشد البلاء على الانبياء ثم الاولياء ثم المثل فالامثل ) حكى ان عيسى عليه السلام اجتاز جبلا فيه عابد يعبد اللّه عند عين من ماء لطهارته وشربه وبستان ينبت له الهندباء لقوته فسلم عليه المسيح فرد السلام عليه فقال له منذ كم انت ههنا تعبد اللّه قال منذ ثمانين سنة اسأل حاجة من اللّه فلم يقضها لى فقال عيسى وما هى قال ان يسكن قلبى ذرة من معرفته ومحبته فلا يفعل وانت نبيه فسل لى هذه الحاجة فتوضأ عيسى من العين وصلى ركعتين وسأل حاجته ثم مضى وبقى ما بقى فى سفره فلما رجع الى ذلك المكان رآه خاليا والعين غائرة والبستان خراب فقال يا رب سألتك له المعرفة والمحبة قبضت روحه فاوحى اللّه اليه يا عيسى أما علمت ان خراب الدنيا فى محبتى ومعرفتى ومن عرفنى واحبنى لا يسكن الا الىّ ولا يقر قرارا فان احببت ان تراه فاشرف عليه فى هذا الوادى فاشرف عليه فاذا هو جالس قد ذهل وتحير وخرج لسانه على صدره شاخصا ببصره نحو السماء فناداه عيسى والعابد لا يسمع فناداه وحركه فلم يشعر فاوحى اللّه الى عيسى فوعزتى وجلالى لو قطعته بالسيف ما شعر به لانى اسكنت قلبه معرفتى ومحبتى وهو اقل من ذرة ولو زدته ادنى شىء لطار بين السماء والارض وطاش فانظر الى اهل اللّه كيف تكون دنياهم خرابا لا يخلون من البلايا فاجتهد انت ايضا ايها العبد فى تصحيح الدين لعلك تصل مقام اليقين والتمكين والمجاهدة تورث المشاهدة

جو يوسف كسى در صلاح وتميز ... بسى سال بايدكه كردد عزيز

١٤٢

{ أم حسبتم } ام منقطعة والهمزة للانكار والاستبعاد والحسبان الظن والخطاب للذين انهزموا يوم احد اى بل أظننتم

{ ان تدخلوا الجنة } وتفوزوا بنعيمها

{ ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم } حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للانكار فان رجاء الاجر بغير عمل بعيد ممن يعلم انه منوط به مستعبد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم اى لما تجاهدوا لان وقوع الشىء يستلزم كونه معلوما للّه ونفى اللازم يستلزم نفى الملزوم فنزل نفى العلم منزلة نفى الجهاد للتأكيد والمبالغة لان انتفاء اللازم برهان على انتفاء الملزوم وفيه اشعار بان علمه بالاشياء على ما هى عليه ضرورى يقول الرجل ما علم اللّه فى فلان خيرا يريد ما فيه خير حتى يعلمه ولما بمعنى لم الا ان فيه ضربا من التوقع فدل على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل تقول وعدنى ان يفعل كذا ولما يفعل اى لم يفعل وانا اتوقع فعله

{ ويعلم الصابرين } نصب باضمار ان والواو بمعنى الجمع والمعنى ام حسبتم ان تدخلوا الجنة والحال انه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر على الشدائد اى الجمع بينهما فلا ينبغى ان تحسبوا دخولها كما دخل الذين قتلوا وبذلوا مهجتهم وثبتوا على ألم الجراح والضرب من غير ان تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم ومن البعيد ان يصل الانسان الى السعادة والجنة مع عدم اعمال هذه الطاعة

١٤٣

{ ولقد كنتم تمنون الموت } اى الحرب فانها من مبادى الموت او الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون ان يشهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشهدا لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك

{ من قبل ان تلقوه } اى من قبل ان تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته

{ فقد رأيتموه } اى ما تتمنونه من اسباب الموت او الموت بمشاهدة اسبابه

{ وانتم تنظرون } معاينين مشاهدين له حين قتل بين ايديكم من قتل من اخوانكم واقاربكم وشارفتم ان تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة بناء على ان فى تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم لان قصد متمنى الشهادة الى نيل كرامة الشهداء من غير ان يخطر بباله شىء غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة كما ان من يشرب دواء الطبيب النصرانى يقصد الى حصول المأمول من الشفاء ولا يخطر بباله ان فيه جر منفعة واحسانا الى عدو اللّه وتنفيقا لصناعته

واعلم ان حاصل الكلام ان حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد احدهما ينتقص الآخر وذلك لان سعادة الدنيا لا تحصل الا باشتغال القلب بطلب الدنيا وسعادة الآخرة لا تحصل الا بفراغ القلب من كل ما سوى اللّه وامتلائه من حب اللّه وهذان الامران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد فى هذه الآية من اجتماعهما

وايضا حب اللّه وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من اقر بدين اللّه كان صادقا ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحرمات فان الحب هو الذى لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فان بقى الحب عند تسلط اسباب البلاء ظهر ان ذلك الحب كان حقيقيا فلهذه الحكمة قال

{ ام حسبتم ان تدخلوا الجنة } بمجرد تصديقكم الرسول قبل ان يبتليكم اللّه بالجهاد وتشديد المحنة

قال القشيرى رحمه اللّه من ظن انه يصل الى محل عظيم دون مقاساة الشدائد القته امانيه فى مهواة الهلاك وان من عرف قدر سهل عليه بذل مجهوده قال الشاعر

وما جاد دهر بلذاته ... على من يضن بخلع العذار

فالدولة العظمى هى سعادة الآخرة فانها باقية ودولة الدنيا فانية كما قيل

جهان مثال جراغيست دركذركه باد ... غلام همت آنم كه دل بروننهاد

وسئل الشبلى عن نعت العارف فقال لسانه بذكر اللّه ناطق وقلبه بحجة اللّه صادق وسره بوعد اللّه واثق وروحه الى سبيل اللّه سابق وهو ابدا على اللّه عاشق فلا بد لان يكون المرء من العارفين من ترك الدعوى والاقبال الى المولى وبذل الروح فى طريقه حكى عن حاتم الاصم انه قال لقينا الترك وكان بيننا صولة فرمانى تركى بوهق فاقبلنى عن فرسى ونزل عن دابته وقعد على صدرى واخذ بلحيتى هذه الوافرة واخرج من خفه سكينا ليذبحنى قال فوحق سيدى ما كان قلبى عنده ولا عند سكينه وانا ساكت متحير اقول سيدى اسلمت نفسى اليك ان قضيت على ان يذبحنى هذا فعلى الرأس والعين اما انا لك وملكك فبينا انا اخاطب سيدى وهو قاعد على صدرى اذ رماه بعض المسلمين بسهم فما اخطأ حلقه فسقط عنى فقمت انا اليه فاخذت السكين من يده فذبحته بها فيا هؤلاء لتكن قلوبكم عند السيد حتى ترون من عجائب لطفه ما لا ترون من الآباء والامهات واعلموا ان من صبر واستسلم ظفر ومن فرّ اتبع فلم يتخلص ونعم العون الصبر عند الشدائد

تحمل جو زهرت نمايد نخست ... ولى شهد كردد جو در طبع رست

زعلت مدار اى خردمند بيم ... جوداروى تلخت فرستد حكم

ثبتنا اللّه واياكم

١٤٤

{ وما محمد } هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الامد فى الكمال واكرم اللّه نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله محمد واحمد

{ الا رسول } روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خرج الى الشعب من احد فى سبعمائة رجل جعل عبد اللّه بن جبير على الرجالة وكانوا خمسين راجلا وقال ( اقيموا باصل الجبل وادفعوا عنا بالنبل لا يأتوننا من خلفنا ولا تنتقلوا من مكانكم حتى ارسل اليكم فلا نزال غالبين ما دمتم فى مكانكم ) فجاء المشركون ودخلوا فى الحرب مع النبى عليه السلام واصحابه حتى حميت الحرب فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيفا وقال ( من يأخذه بحقه ) فأخذه ابو دجانة فقاتل فى نفر من المسلمين قتالا شديدا وقاتل على بن ابى طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن ابى وقاص رضى اللّه عنه وكان النبى عليه السلام يقول لسعد ( ارم فداك ابى وامى ) فحمل هو واصحابه على المشركين فانزل اللّه نصره عليهم فهزموا المشركين فلما نظر الرماة الى قوم هاربين اقبلوا على النهب بترك مركزهم فقال لهم عبد اللّه بن جبير لا تبرحوا مكانمكم فقد عهد اليكم نبيكم فلم يلفتوا الى قوله فجاؤا لاجل الغنيمة فبقى عبد اللّه بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتى فارس من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقى من الرماة ودخلوا خلف اقفية المسلمين فهزموهم ورمى ابن قميئة النبى عليه السلام بحجر فكسر رباعيته وشجه وفيه يقول حسان بن ثابت

ألم تر ان اللّه ارسل عبده ... ببرهانه واللّه اعلى وامجد

وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد

وتفرق عنه اصحابه وحمل ابن قميئة لقتل النبى عليه السلام فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية يومئذ فقتله ابن قميئة ورجع فظن انه كان قتل النبى عليه السلام فقال قتلت محمد وصرخ صارخ ألا ان محمدا قد قتل وكان ذلك ابليس فرجع اصحابه منهزمين متحيرين فاقبل انس بن النضر عم انس بن مالك الى عمر بن الخطاب رضى عنه وطلحة بن عبد اللّه فى رجال من المهاجرين والانصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم فقال ما تصنعون فى الحياة بعده موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم ثم اقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل قال كعب بن مالك انا اول من عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المسلمين رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران ينادى باعلى صوته

( الىّ عباد اللّه الىّ عباد اللّه ) فاجتمعوا اليه فلامهم رسول اللّه على هزيمتهم فقالوا يا رسول اللّه فديناك بآبائنا وامهاتنا اتانا خبر سوء فرعبت قلوبنا له فولينا مدبرين فوبخهم اللّه تعالى بقوله

{ وما محمد الا رسول } كسائر الرسل

{ قد خلت من قبله الرسل } فسيخلوا كما خلوا وكما ان اتباعهم بقوا متمكسين بدينهم بعد خلوهم فعليكم ان تتمسكوا بدينه بعد خلوه لان الغرض من بعثة الرسول الرسالة والزام الحجة لا وجوده بين اظهر قومه

{ أفأن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم } انكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوه عليه السلام بموت او قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به

{ ومن ينقلب على عقبيه } بادباره عما كان يقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من امر الجهاد وغيره

{ فلن يضر اللّه } بما فعل من الانقلاب

{ شيأ } اى شيأ من الضرر وانما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب واللّه منزه عن النفع والضرر

{ وسيجزى اللّه الشاكرين } اى الثابتين على دين الاسلام الذى هو اجل نعمة واعز معروف سموا بذلك لان الثبات عليه شكر له وايفاء لحقه وفيه ايماء الى كفران المنقلبين

ولما توفى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش ومنهم من اقعد فلم يطق القيام ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ومنهم من انكر موته بالكلية حتى غفل عمر رضى اللّه عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته صلى اللّه عليه وسلم وقام فى الناس فقال ان رجالا من المنافقين يزعمون انه عليه السلام توفى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه اربعين ليلة ثم رجع واللّه ليرجعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولأقطعن ايدى رجال وارجلهم يزعمونه ان رسول اللّه مات ولم يزل يكرر ذلك الى ان قام ابو بكر فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال ايها الناس من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد اللّه فان اللّه حى لا يموت ثم تلا

{ وما محمد الا رسول } قال الراوى واللّه لكأن الناس لم يعلموا ان هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول فكيف بقلوب المؤمنين ولما فقده الجذع الذى يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حن اليه وصاح كما يصيح الصبى فنزل اليه فاعتنقه فجعل يهدى كما يهدى الصبى الذى يسكن عند بكائه وقال ( لو لم اعتنقه لحن الى يوم القيامة ) ما امرّ عيش من فارق الاحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الالباب ولما نقل النبى عليه السلام جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضى اللّه عنها واكرب ابتاه فقال لها ليس على ابيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت يا ابتاه اجاب ربا دعاه يا ابتاه جنة الفردوس مأواه فلما دفن قالت فاطمة يا انس اطابت انفسكم ان تحثوا على نبيكم التراب وعاشت فاطمة بعد موته صلى اللّه عليه وسلم سته اشهر ثم ماتت

جهان اى برادر نماند بكس ... دل اندرجهان آفرين بندوبس

فعلى العاقل ان يتدارك حاله قبل منيته حتى لا يفتضح عند رؤوس الخلائق يوم القيامة وكيف لا يسارع الى الاعمال الصالحة من يعلم ان يوم القيامة يوم يفزع فيه الانبياء والاولياء

دران روز كزفعل برسند وقول ... اولو العزم را تن بلرزد زهول

بجايى كه وحشت خورد انبيا ... توعذر كنه را جه دارى بيا

يعنى بأى عذر ترتكب الآثام ولا تبالى بحالك ثم ان الخلاص والفوز بالمرام فى الايمان التحقيقى

قال الشيخ نجم الدين الكبرى الاشارة فى الآية ان الايمان التقليدى لا اعتبار له فينقلب المقلد عن ايمانه عند عدم المقلد به فمن كان ايمانه بتقليد الوالدين او الاستاذ او اهل البلد ولما يدخل الايمان فى قلبه ولم ينشرح صدره بنور الاسلام فعند انقطاعه بالموت عن هذه الاسباب المقلدة يعجز عن جواب سؤال الملكين فى قولهما من ربك فيقول هاه لا ادرى واذ يقولان ما تقول فى هذا لارجل فيقول هاه لا ادرى كنت اقول فيه ما قال الناس فيقولان له لا دريت ولا تليت

ردانند كان بشنو امروز قول ... كه فردا نكيرت بيرسد بهول

غنيمت شمار اين كرامى نفس ... كه بيمرغ قيمت ندارد قفس

يعنى البدن ليس له قدر بدون الروح فلا بد ان يغتم العاقل انفاسه قبل ان يخرج الروح من قفصه

١٤٥

{ وما كان لنفس ان تموت الا بإذن اللّه } استثناء مفرغ من اعم الاسباب اى وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الاسباب الا بمشئيته تعالى او الا باذنه لملك الموت فى قبض روحها والمعنى ان لكل نفس اجل مسمى فى علمه تعالى وقضائه لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون بالاحجام عن القتال والاقدام عليه. وفيه تحريض وتشجيع على القتال ووعد الرسول بالحفظ وتأخير الاجل ورد على المنافقين قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا قالمجاهد لا يموت بغير اجله والمتخلف عنه لا يسلم مع حضور اجله

بروز اجل نيزه جوشن درد ... ز بيراهن بى اجل نكذرد

{ كتابا } مصدر مؤكد لما قبله اذ المعنى كتب الموت كتابا

{ مؤجلا } موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وبعد تحقيق ان مدار الموت والحياة على محض مشيئة اللّه من غير ان يكون فيه مدخل لاحد اصلا اشير الى ان توفية ثمرات الاعمال دائرة على ارادتهم ليصرفوها عن الاعراض الدنية الى المطالب السنية فقيل

{ ومن يرد } اى بعمله

{ ثواب الدنيا نؤته منها } اى من ثوابها ما نشاء ان نؤتيه اياه. وفيه تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم احد

{ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } اى من ثوابها ما نشاء من الاصناف حسبما جرى به الوعد الكريم

{ وسنجزى الشاكرين } نعمة الاسلام الثابتين عليه الصارفين ما آتاهم اللّه من القوى والقدر الى ما خلقت هى لاجله من طاعة اللّه لا يلويهم عن ذلك صارف اصلا

ويدخل فى جنس الشاكرين المجاهدون المعهودون من الشهداء فى احد وغيرهم والآية وان وردت فى الجهاد خاصة لكنهاعامة فى جميع الاعمال وذلك لان المؤثر فى طلب الثواب والعقاب المقصود والدواعى لا ظواهر الاعمال فان من وضع الجبهة على الارض فى صلاة الظهر والشمس قدامه فان قصد بذلك السجود عبادة اللّه كان ذلك من اشرف دعائم الاسلام وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من اعظم دعائم الكفر

وروى ابو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام ( ان اللّه تعالى يقول يوم القيامة لمن قتل فى سبيل اللّه فيماذا قتلت فيقول امرت بالجهاد فى سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول اللّه تعالى كذبت بل اردت ان يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ثم ان اللّه تعالى يأمر به الى النار ) فالمقاتل فى سبيل اللّه تحقيقا هو الذى يقاتل لتكون كلمة اللّه هى العليا لا للذكر الجميل واراءة المكان واصابة الغنيمة

عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست

بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا درتوانى فروخت

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( من كانت نيته طلب الآخرة جعل اللّه غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل اللّه الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها الا ما كتب له ) وقال ايضا ( انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته الى اللّه ورسوله فهجرته الى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه ) فمن عمل شوقا الى الجنة فقد رأى نعمة الجنة فثوابه فى الآخرة ومن عمل شوقا الى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم فثوابه فى الدنيا لانه حاضر لا غيبة له قريب لا يبعد وهو معكم اينما كنتم وقال ( ألا من طلبنى وجدنى ومن تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا )

خليلىّ هل ابصرتما او سمعتما ... باكرم من مولى تمشى الى عبد

اتى زائر من غير وعد وقال لى ... اجلك عن تعذيب قلبك بالوعد

فعلى السالك ان يهاجر الى اللّه ويجاهد من غير ان يخاف لومة لائم حتى يصل الى اللّه ويتخلص من الاضطرار

قال القاشانى فى تأويلاته من كان موقنا لسر القدر شاهدا لمعنى قوله تعالى

{ وما كان لنفس ان تموت الا باذن اللّه } كان من اشجع الناس حكى عن حاتم الاصم انه شهد مع شقيق البلخى بعض غزوات خراسان قال فلقينى شقيق وقد حمى الحرب فقال كيف تجد قلبك يا حاتم قلت كليلة الزفاف لا افرق بين الحالتين فوضع سلاحه وقال اما انا فهكذا ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى غطيطه وهذا غاية فى سكون القلب الى اللّه تعالى ووثوقه به انتهى فاذا صحح العبد باطنه يسهل اللّه عليه كل عسير ويسخر له كل ما يخاف منه حكى عن ابراهيم الرقى انه قال قصدت ابا الخير الخراسانى مسلما عليه فصلى صلاة المغرب فلم يقرأ الفاتحة مستويا فقلت فى نفسى ضاعت سفرتى فلما سلمت خرجت للطهارة فقصدنى السبع فعدت اليه وقلت ان الاسد قصدنى فخرج وصاح على الاسد وقال ألم اقل لك لا تتعرض لاضيافى فتنحى فتطهرت فلما رجعت قال اشتغلتم بتقويم الظواهر فخفتم الاسد واشتغلنا بتقويم القلب فخافنا الاسد

اوليا محبوب اللّه است دان ... كس نيازارد حبيبش درجها

١٤٦

{ وكأين } اصله اى دخلت الكاف عليها فحدث فيها معنى التكثير فهى بمعنى كم الخبرية

{ من نبى } تمييز لها والغالب فى تمييزها ان يكون مجرورا بمن ولم يجىء فى التنزيل الا كذا وجره ممتنع لان آخره تنوين وهو لا يثبت مع الاضافة

{ قاتل معه ربيون كثير } خبر لقوله كأين لانها مبتدأ والفعل مسند الى ظاهره. والربى منسوب الى الرب كالربانى وكسر الراء من تغييرات النسب فان العرب اذا نسبت شيأ الى شىء غيرت كما قالوا بصرى فى النسبة الى بصرة او منسوب الى الربة وهى الجماعة والمعنى كثير من الانبياء قاتل معه لاعلاء كلمة اللّه واعزاز دينه علماء اتقياء او جماعات كثيرة

{ فما وهنوا } عطف على قاتل اى فما فتروا وما انكسرت همتهم

{ لما اصابهم } فى اثناء القتال وهو علة للمنفى دون النفى

{ فى سبيل اللّه } ان جعل الضميران لجميع الربيين فما فى ما اصابهم عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره اللاحقة للكل وان جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون فهى عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل اخوانهم والخوف والحزن وغير ذلك

{ وما ضعفوا } عن العدو او الجهاد او فى الدين

{ وما استكانوا } اى وما خضعوا للعدو. واصله استكن من السكون لان الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والالف لاشباع الفتحة. او استكون من الكون لانه يطلب ان يكون لم يخضع له وهذا تعريض بما اصابهم من الوهن والانكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والارجاف بقتل النبى عليه السلام وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين ارادوا ان يعتضدوا بابن ابى المنافق فى طلب الامان من ابى سفيان

{ واللّه يحب الصابرين } اى على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره فى سبيل اللّه فينصرهم ويعظم قدرهم

١٤٧

{ وما كان قولهم } بالنصب خبرا لكان واسمها ان وما بعدها فى قوله تعالى

{ الا ان قالوا } والاستثناء مفرغ من اعم الاشياء اى ما كان قولا لهم عند لقاء العدو واقتحام مضايق الحرب واصابة ما اصابهم من فنون الشدائد والاهوال شىء من الاشياء الا ان قالوا

{ ربنا اغفر لنا ذنوبنا } اى صغائرنا

{ واسرافنا فى امرنا } اى تجاوزنا الحد فى ارتكاب الكبائر اضافوا الذنوب والاسراف الى انفسهم مع كونهم ربانيين برآء من التفريط فى جنب اللّه هضما لها واستقصارا لهم واسنادا لما اصابهم الى اعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الاهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم

{ وثبت اقدامنا } اى فى مواطن الحرب بالتقوى والتأييد من عندك او ثبتنا على دينك الحق

{ وانصرنا على القوم الكافرين } تقريبا له الى حيز القبول فان الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة اقرب الى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير ان يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل فى مواقف الحرب ومراصد الدين. وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى

١٤٨

{ فآتاهم اللّه } بسبب دعائهم ذلك

{ ثواب الدنيا } اى النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل

{ وحسن ثواب الآخرة } اى وثواب آخرة الحسن وهى الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للايذان بفضله ومزيته وانه المعتد به عنده تعالى

{ واللّه يحب المحسنين } ومحبة اللّه للعبد عبارة عن رضاه عنه وارادة الخير به فهى مبدأ لكل سعادة

والاشارة ان اللّه تعالى لما زاد لخواص عباده كرامة التخلق باخلاقه ابتلاهم بقتال العدو وثبتهم عند الملاقاة فاستخرج من معادن ذواتهم جواهر صفاته المكنونة فيها المكرمة بها بنوا آدم والصبر والاحسان من صفات اللّه واللّه تعالى يحب صفاته ويحب من تخلق بصفاته ولهذا قال { واللّه يحب الصابرين } { واللّه يحب المحسنين} قال الامام فى قوله تعالى

{ واللّه يحب المحسنين } فيه لطيفة دقيقة وهى ان هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا فى امرنا فلما اعترفوا بذلك سماهم اللّه محسنين كأنه تعالى يقول لهم اذا عرفت باساءتك وعجزك فانا اصفك بالاحسان واجعلك حبيبا لنفسى حتى يعلم انه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة اللّه الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز

كنون بايدت عذر تقصير كفت ... نه جون نفس ناطق ز كفتن بخت

توبيش ازعقوبت درعفو كوب ... كه سودى ندارد فغان زير جوب

حكى ان آصف بن برخيا اذنب ذنبا يوما من الايام فأتى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فقال له ادع اللّه ان يغفر لى فدعا فغفر له ثم فعل ثانيا فغفر بدعائه ثانيا ثم وثم الى ان اوحى اللّه الى سليمان عليه السلام ان لا اجيب دعوتك فى حقه ان عاد بعد فلم يمكث ان فعل مرة اخرى فجاء الى سليمان عليه السلام لكى يدعو فاخبره بان اللّه لا يغفر له فرفع الرجل العصا وخرج الى الصحراء وضرب العصا الى الارض ورفع يده وقال يا رب انت انت وانا انا انت العائد بالمغفرة وانا العائد بالمعصية انا الضعيف المجرم وانت الغفور الرحيم ان لم تعصمنى من الذنوب فلأعودن ثم لأعودن كررها حتى غشىعليه فاوحى اللّه تعالى الى سليمان عليه السلام ان قل لابن خالتك ان عدت فأغفر لك ثم اغفر لك ثم اغفر لك ثم اغفر لك وانا الغفار

كنونت كه جشمست اشكى ببار ... زبان دردهانست عذرى بيار

فراشو جوينى در صلح باز ... كه ناكه درتوبه كردد فراز

مرو زير باركنه اى بسر ... كه حمال عاجز بوددر سفر

فلا يغرنك الشيطان بتزيين الدنيا عليك فانك تعلم فناءها

واوحى اللّه الى داود عليه السلام [ انى منزلك وذريتك الى دار بنيتها على اربعة اركان. احدها ان اخرب ما تعمرون. والثانى ان اقطع ما تصلون. والثالث ان اميت ما تلدون. والرابع ان افرق ما تجمعون ] ومن اللّه العصمة والتوفيق الى سواء الطريق

١٤٩

{ يا ايها الذين آمنوا } نزلت فى قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا الى دينكم واخوانكم ولو كان نبيا لما غلب وقتل فقال تعالى يا ايها المؤمنون

{ ان تطيعوا الذين كفروا } وهم المنافقون وصفوا بالكفر قصدا الى مزيد التنفير عنهم والتحذير من طاعتهم

{ يردوكم على اعقابكم } يدخلوكم فى دينهم اضاف الرد اليهم لدعائهم اليه والارتداد على العقب علم فى انتكاس الامر ومثل فى الحور بعد الكور

{ فتنقلبوا خاسرين } كرامة الدنيا وسعادة الآخرة اما الاولى فلان اشق الاشياء على العقلاء فى الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له واظهار الحاجة اليه

واما الثانية فلانه يحرم من الثواب المؤيد ويقع فى العذاب المخلد

١٥٠

{ بل اللّه مولاكم } اى ليسوا انصاركم حتى تطيعوهم بل اللّه ناصركم لا غيره فاطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم

{ وهو خير الناصرين } فخصوه بالطاعة والاستعانة

١٥١

{ سنلقى فى قلوب الذين كفروا الرعب } وهو ما قذف فى قلوبهم من الخوف يوم احد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة. والرعب خوف يملأ القلب

{ بما اشركوا باللّه } اى بسبب اشراكهم به تعالى فانه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم

{ ما لم ينزل به } اى باشراكه

{ سلطانا } اى حجة وبرهانا وما مفعول بوقوع اشركوا عليه اى آلهة ليس على اشراكها حجة ولم ينزل عليهم به سلطانا واصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته وسلطان المدعى حجته وبها يقوى على دفع المبطل. وفيه ايذان بان المتبع فى الباب هو البرهان السماوى دون الآراء والاهواء الباطلة

{ ومأواهم } اى ما يأوون اليه فى الآخرة

{ النار } لا ملجأ لهم غيرها

{ وبئس مثوى الظالمين } والمخصوص بالذم حذوف اى النار وفى جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز الى خلودهم فيها فان المثوى مكان الاقامة المنبئة عن المكث

واما المأوى فهو المكان الذى يأوى اليه الانسان

والاشارة ان اللّه تعالى هو الذى يلقى الرعب والامن والرغبة والرهبة وغير ذلك فى قلوب العباد كما قال عليه السلام ( قلوب العباد بيد اللّه يقلبها كيف يشاء ) وقال ( ما من قلب الا بين اصبعين من اصابع الرحمن ان شاء اقامه وان شاء ازاغه ) فعلى العبد ان يتضرع الى اللّه ويسأل منه الغلبة على النفوس الكافرة خصوصا النفس الامارة فانه ان اتبع هواها واطاعها فى مشتهاها ترده الى اسفل سافلين البشرية فينقلب خاسرا

نمى تازد اين نفس سركش جنان ... كه عقلش تواند كرفتن عنان

كه بانفس وشيطان بر آيد بزور ... مصاف بلنكان نيايد زمور

قال الشيخ ابو على الروذبادى قدس سره دخلت الآفة من ثلاثة. سقم الطبيعة. وملازمة العادة. وفساد الصحبة. فقيل له ما سقم الطبيعة قال اكل الحرام. فقيل وما ملازمة العادة قال النظر والاستماع بالحرام والغيبة. فقيل فما فساد الصحية قال كلما هاج فى النفس شهوة تتبعها ومن لم يصحبه فى هذا الباب توفيق من ربه كان متروكا فى ظلمة نفسه ألا ترى الى قوله تعالى

{ بل اللّه مولاكم } اى يخرجكم من ظلمات البشرية الى انوار الربوبية فمن اتبع هواه وجعله مولى لنفسه فكيف يصاحبه الخروج من الظلمات وانما سببه ان ينقطع العبد الى مولاه الحقيقى ولا يعبد الا اياه حكى عن الاصمعى انه قال ان فتى جميلا خرج فى سفر له فوقع فى فلاة من الارض وصاحبته امرأة فعشقته فقالت ايها الفتى هل تحسن شيأ من الشعر قال نعم قالت قل فانشد

ولست من النساء وسن منى ... ولا ابغى الفجور الى الممات

فلا لا تطمعى فيما لدينا ... ولو قد طال سير فى الفلاة

فان اللّه يبصر فوق عرش ... ويغضب للفعال الموبقات

قالت دعنا من شعرك هل تقرأ شيأ من القرآن قال نعم قالت قل فقرأ قول اللّه تعالى

{ الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } قالت دعنى من قراءتك هذه فرجعت وهى خائبة فانظر الى حال الفتى وتوقيه عن شهوته كيف صبر عن المعصية واللّه يحب الصابرين

جوان جست مى بايدكه از شهوت بيرهيزد ... كه بيرسست رغبت را خود آلت برنمى خيزد

ولذلك قال بعض المشايخ من لم يكن فى بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة وذلك لان الزهد بعد الاربعين بارد لا يثمر نفعا كثيرا ولا يغرنك هذا الخبر ويحملك على التكاسل فان المرء لا يصل الى حيث يسقط عنه الامر والنهى والغرض هو العبادة الى ان يأتى اليقين فالشبان والشيوخ فى باب التكليف متساوون وربما يتدارك فى الشيخوخة ما لا يتدارك فى الشباب : قال الحافظ الشيرازى

اى دل شباب رفت ونجيدى كلى زعمر ... بيرانه سربكن هنرى ننك ونام را

١٥٢

{ ولقد صدقكم اللّه وعده } نصب على انه مفعول ثان لصدق صريحا او بنزع الجار اى فى وعده

نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم الى المدينة من اين اصابنا هذا وقد وعدنا اللّه بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم من النصر حيث قال للرماة لا تبرحوا مكانكم فانا لا نزال غالبين ما دمتم فى هذا المكان وقد كان كذلك فان المشركين لما اقبلوا جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربون بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى

{ اذ تحسونهم } اى تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه اذا ابطل حسه وذلك يكون بالقتل وهو ظرف لصدقكم

{ بإذنه } ملتبسين بمشيئته وتيسيره وتوفيقه حال من فاعل تحسونهم

{ حتى } ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية

{ اذا فشلتم } اى جبنتم وضعف رأيكم او ملتم الى الغنيمة فان الحرص من ضعف القلب

{ وتنازعتم فى الامر } اى فى امر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على اعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا هذا وقال رئيسهم عبد اللّه بن جبير لا نخالف امر الرسول عليه الصلاة والسلام فثبت مكانه فى نفر دون العشرة من اصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى

{ وعصيتم من بعد ما اراكم ما تحبون } اى من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا امير الرماة ومن معه من اصحابه وقد سبق وقيد العصيان بما بعده تنبيها على عظم المعصية لانهم لما شاهدوا ان اللّه تعالى اكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم ان يمتنعوا عن المعصية وجواب اذا محذوف وهو منعكم نصره

{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذى تركوا المركز واقبلوا على النهب قال ابن مسعود رضى اللّه عنه ما علمت ان احدا منا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية

{ ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذى ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة

{ ثم صرفكم عنهم } عطف على الجواب المحذوف كما اشير اليه اى ردكم عن الكفار وكفكم بالهزيمة بعد ان اظفركم عليهم فحالت الريح دبورا بعدما كانت صبا

{ ليبتليكم } اى يعاملكم معاملة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان عندها

{ ولقد عفا عنكم} تفلا او لما علم من ندمكم على المخالفة

{ واللّه ذو فضل على المؤمنين } اى شأنه ان يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم فى جميع الاحوال اديل لهم او اديل عليهم اذ الابتلاء ايضا رحمة بحسب اقتضاء احوالهم

١٥٣

{ اذ تصعدون } متعلق بصرفكم. والاصعاد الذهاب والابعاد فى الارض

{ ولا تلوون على احد } اى لا تلتفتون الى ما وراءكم ولا يقف واحد منك لواحد

{ والرسول يدعوكم } كان صلى اللّه عليه وسلم يدعوهم الىّ عباد اللّه انا رسول اللّه من يكرّ فله الجنة امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهو الانهزام وترك قتال الكفار لا استعانة بهم

{ فى اخراكم } فى ساقتكم وجماعتكم الاخرى والمعنى انه عليه السلام كان يدعوهم وهو واقف فى آخرهم لان القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه

{ فاثابكم } عطف على صرفكم اى فجازاكم اللّه بما صنعتم

{ غما } موصولا

{ بغم } من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والارجاف بقتل النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم او غما بمقابلة غم اذقتموه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعصيانكم له

{ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما اصابكم } اى لتتمرنوا على الصبر فى الشدائد وتعتادوا تجرع الغموم فلا تحزنوا على نفع فات او ضرّ آت

{ واللّه خبير بما تعملون } اى عالم باعمالكم وبما قصدتم بها

واعلم ان الصبر واليقين والتوكل على اللّه والاتقاء عن ميل الدنيا وزخارفها ومخالفة الرسول مستلزم لامداد النصر والظفر والفشل والتنازع والميل الى الدنيا وعصيان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم موجب للابتلاء والصرف عن العدو فمن اراد النصرة على الاعداء الظاهرة والباطنة لا يسلك طريقا غير ما عينه الشارع ويرضى بالابتلاء ولا يغتم لآخرته بل يجد غم طلب الحق ألذ من نعيم الدنيا والآخرة ويصبر على مقاساة الشدائد فى باب الدين

صبر آرد آرزورانى شتاب ... صبر كن واللّه اعلم بالصواب

قال ذو النون قدس سره العزيز ان أدنى منازل المريد أن اللّه تعالى لو ادخله النار واحاط به عذابه مع هذه الارادة لم يزدد قلبه الا حبا له وانسا به وشوقا اليه وكانت الجنة عنده اصغر فى جنب ارادته من خردلة بين السماء والارض فعلى السالك ان يذيق نفسه مرارة الطاعة ويدخلها فى باب التسليم ليكون عند اللّه مما له قدر وسبق حكى عن على كرم اللّه وجهه انه قال قلت لخليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابى بكر الصديق رضى اللّه عنه يا خليفة رسول اللّه بم بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا سبقا فقال بخمسة اشياء. اولها وجدت الناص صنفين مريد الدنيا ومريد العقبى فكنت انا مريد المولى. والثانى مذ دخلت فى الاسلام ما شبعت من طعام الدنيا لان لذة معرفة اللّه شغلتنى عن لذائذ طعام الدنيا. والثالث مذ دخلت فى الاسلام ما رويت من شراب الدنيا لان محبة اللّه شغلتنى عن شراب الدنيا. والرابع كلما استقبلنى عملان عمل الدنيا وعمل الآخرة اخترت عمل الآخرة على عمل الدنيا.

والخامس صحبت النبى صلى اللّه عليه وسلم فاحسنت صحبته اقول ولذلك لم ينفك عن ملازمة صحبته ساعة حتى دخل معه فى الغار وقاسى ولم يهم بمخالفته اصلا كما وقع ذلك من بعض الصحابة كما فى المنهزمين

كيست دانى صوفىء صافى زرنك تفرقه ... آنكه دارد روبيك رنكى درين كاخ دورنك

نكسلد سررشته سرش زجانان كربفرض ... روبرو كيرد زيك سوشير وديكر سوبلنك

اوحى اللّه الى ابراهيم عليه السلام ان يا ابراهيم انت خليلى وانا خليلك فانظر فى ان لا تشغل سرك بغيرى وانا انظر فى سرك فأراه مشتغلا بغيرى فتقطع خلتى منك لان الصادق فى دعوى خلتى من لو احرق بالنار لم يجعل سره الى غيرى اجلالا لحرمتى لان كل سر انفصل ساعة عن مشاهدتى لا يصلح لمحادثتى ونظرى ثم قال له اسلم قال اسلمت لرب العالمين ثم ابتلاه حين رمى بالمنجنيق فى النار ولم يجزع على ما اصابه بل فوض امره الى اللّه حتى شرفه اللّه بالخلة وجعل النار له بردا وسلاما فحسن الرضى على ما جاء من عند اللّه يوصل العبد الى المقامات العلية والحالات السنية والعمدة هو التوحيد وبه تسهل قوة اليقين والوصول الى مقام الولاية

وسئل يحيى بن معاذ عن صفة الولى فقال الصبر شعاره والشكر دثاره والقرآن معينه والحكمه علمه والتوكل صابونه والفقر منيته والتقوى مطيته والغربة ملازمته والحزن رفيقه والذكر جليسه واللّه تعالى انيسه

قوت روح اوليا ذكر حقست ... بيشه ايشان شكر مطلقست

كرخبردارى زاسرار خدا ... روبراه ذكر وطاعت حقيا

١٥٤

{ ثم انزل عليكم } عطف على قوله فاثابكم وانزل مجاز اى اعطى ووهب لكم ايها المؤمنون

{ من بعد الغم } المذكور

{ امنة } اى امنا نصب على المفعولية

{ نعاسا } بدل منها وهو الوسن

قال ابو طلحة رفعت رأسى يوم احد فجعلت لا ارى احدا من القوم الا وهو يميد تحت جحفته من النعاس وكنت ممن القى عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدى فآخذه ثم يسقط السوط فآخذه وفيه دلالة على ان من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله تعالى

{ يغشى طائفة منكم } وهم المهاجرون وعامة الانصار ولا يقدح ذلك فى عموم الانزال للكل والجملة فى محل النصب على انها صفة لنعاسا

{ وطائفة } مبتدأ وهم المنافقون

{ قد اهمتهم انفسهم } اى اوقعتهم فى الهموم والاحزان او ما بهم الا همّ انفسهم وقصد خلاصها

{ يظنون باللّه } حال من ضمير اهمتهم

{ غير الحق } غير الظن الحق الذى يجب ان يظن به سبحانه

{ ظن الجاهلية } بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية واهلها

{ يقولون } بدل من يظنون اى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على صورة الاسترشاد

{ هل لنا من الامر } اى من امر اللّه تعالى ووعده من النصر والظفر

{ من شىء } من نصيب قط

{ قل ان الامر كله للّه } اى الغلبة بالآخرة للّه تعالى ولاوليائه فان حزب اللّه هم الغالبون

{ يخفون فى انفسهم ما لا يبدون لك } حال من ضمير يقولون اى مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الانكار والتكذيب

{ يقولون } كأنه قيل اى شىء يخفون فقيل يحدثون انفسهم او يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية

{ لو كان لنا من الامر شىء } كما وعد محمد صلى اللّه عليه وسلم من ان الغلبة للّه ولاوليائه وان الامر كله للّه

{ ما قتلنا ههنا } ما غلبنا او ما قتل من قتل منا فى هذه المعركة على ان النفى راجع الى نفس القتل لا الى وقوعه فيها فقط او لو كان لنا اختيار فى الخروج وتدبير لم نبرح كما كان رأى ابن ابى وغيره

{ قل } يا محمد تكذيبا لهم وابطالا لمعاملتهم

{ لو كنتم فى بيوتكم } اى لو لم تخرجوا الى احد وقعدتم بالمدينة كما تقولون

{ لبرز } اى لخرج

{ الذين كتب عليهم القتل } اى فى اللوح المحفوظ بسبب من الاسباب الداعية الى البروز

{ الى مضاجعهم } الى مصارعهم التى قدره اللّه تعالى فيها وقتلوا هناك البتة ولم تنفع العزيمة على الاقامة بالمدينة قطعا فان قضاء اللّه لا يرد وحكمه لا يعقب

{ وليبتلى ما فى صدوركم } علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها اخرى مطوية للايذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلى اى ليعاملكم معاملة من يبتلى ما فى صدروكم من الاخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر

{ وليمحص ما فى قلوبكم } من مخفيات الامور ويكشفها او يخلصها من الوساوس

{ واللّه عليم بذات الصدور } اى السرائر والضمائر التى لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها

١٥٥

{ ان الذين تولوا } اعرضوا

{ منكم يوم التقى الجمعان } من المسلمين والكافرين وهم الذين انهزموا يوم احد

{ انما استزلهم الشيطان } اى انما كان سبب انهزامهم ان الشيطان طلب منهم الزلل ودعاهم اليه

{ ببعض ما كسبوا } من الذنوب والمعاصى التى هى مخالفة امر النبى عليه السلام وترك المركز والحرص على الغنيمة والحياة فحرموا التأييد وقوة القلب

{ ولقد عفا اللّه عنهم } لتوبتهم واعتذارهم

{ ان اللّه غفور } للذنوب

{ حليم } لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والنكتة فيه ان الشيطان خلق من النار فالبشيطان ونار وسوسته استخرج من معدن الانسان حديد ما كسبوا من التولى ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم وهذا قوله عليه الصلاة والسلام ( لو لم تذنبوا لجاء اللّه بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) ليعلم ان اللّه تعالى فى كل شىء من الخير والشر اسرار لا يبلغ كنهها الا هو ولا يحيطون بشىء من علمه الا بما شاء والشيطان لا يقدر على اغواء المخلصين من اهل اليقين والنورانيين وما لم يكن فى القلب ظلمة وشوب من الهوى بسبب ارتكاب الذنوب لم يكن له مجال للوسوسة قالسالكون الذين نجوا من ظلمات النفس لا يقدر الشيطان ان يقرب منهم فضلا عن وسوستهم قيل رأى الجنيد ابليس فى منامه عريانا فقال ألا تستحيى من الناس فقال هؤلاء ناس. الناس اقوام فى مسجد الشونيزية افنوا جسدى واحرقوا كبدى قال الجنيد فلما انتبهت غدوت الى المسجد فرأيت جماعة وضعوا رؤسهم على ركبهم متفكرين فلما رأونى قالوا لا يغرنك حديث الخبيث فاذا تنور القلب بنور المعرفة لا يحوم حوله بالوسوة الشيطان النارى

وعن ابى سعيد الخراز قدس سره قال رأيت ابليس فى المنام فاخذت عصاى لاضربه فقيل لى انه لا يفزع من هذا انما يخاف من نور يكون فى القلب

قال حجة الاسلام الغزالى فى الاحياء حكى ان ابليس بث جنوده فى وقت الصحابة فرجعوا اليه مخسورين فقال ما شأنكم قالوا ما رأينا مثل هؤلاء ما نصيب منهم شيأ وقد اتعبونا فقال انكم لا تقدرون عليهم وقد صحبوا نبيهم وشهدوا نزول الوحى ولكن سيأتى بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا اليه منكسرين فقالوا ما رأينا اعجب من هؤلاء نصيب منهم الشىء بعد الشىء من الذنوب فاذا آن آخر النهار اخذوا فى الاستغفار فتبدل سيآتهم حسنات فقال انكم لن تنالوا من هؤلاء شيأ لصحة توحيدهم واتباعهم لسنة نبيهم محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ولكن سيأتى بعد هؤلاء قوم تقر اعينكم بهم تلعبون لعبا وتقودونهم بازمة اهوائهم كيف شئتم لا يستغفرون فيغفر لهم فلا يتوبون فتبدل سيآتهم قال فجاء قوم بعد القرون الاولى فبث فيهم الاهواء وزين لهم البدع فاستحلوها واتخذوها دينا لا يستغفرون منها ولا يتوبون عنها فسلط ابليس عليهم الاعداء وقادوهم حيث شاؤا

نه ابليس درحق ماطعنه زد ... كزينان نيايد بجز كار بد

فغان ازبديها كه درنفس ماست ... كه ترسم شود ظن ابليس راست

جو ملعون بسند آمدش قهرما ... خدايش بر انداخت ازبهرما

كجا بر سر آريم ازين عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك

من بستان السعدى

١٥٦

{ يا ايها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الامر شىء ما قتلنا ههنا

{ وقالوا لاخوانهم } لاجل اخوانهم وفى حقهم ومعنى الاخوة اتفاقهم نسبا او مذهبا وعقيدة

{ اذا ضربوا فى الارض } اى سافروا فيها وابعدوا للتجارة وسائر المهام فماتوا فى سفرهم

{ او كانوا } اى اخوانهم

{ غزّى } جمع غازى كعفى جمع عافى وسجد جمع ساجد اى اذا اخرجوا الى الغزو فقتلوا

{ لو كانوا عندنا } اى مقيمين بالمدينة

{ ما ماتوا } فى سفرهم

{ وما قتلوا } فى الغزو وليس المقصود بالنهى عدم مماثلتهم فى النطق بهذا القول بل فى الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه

{ ليجعل اللّه ذلك حسرة فى قلوبهم } متعلق بقالوا على ان اللام لام العاقبة كما فى قوله ربيته ليؤذننى وليست لام العلة والغرض لانهم لم يقولون لذلك وانما قالوه لتثبيط المؤمنين عن الجهاد والمعنى انهم قالوا ذلك القول واعتقدوه لغرض من اغراضهم فكان عاقبة ذلك القول ومصيره الى الحسرة وهى اشد الندامة التى تقطع القوة والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك اصلا ووجه كون تكلم ذلك الكلام حسرة فى قلوبهم زاعمين ان من مات او قتل منهم انما مات او قتل بسبب تقصيرهم فى منع هؤلاء القتلى عن السفر والغزو ومن اعتقد ذلك لا شك انه تزداد حسرته وتلهفه

واما المسلم الذى يعتقد ان الموت والحياة لا يكون الا بتقدير اللّه وقضائه لا يحصل فى قلبه هذ الحسرة

{ واللّه يحيى ويميت } رد لقولهم الباطل اى هو المؤثر فى الحياة والممات وحده من غير ان يكون للاقامة او للسفر مدخل فى ذلك فانه تعالى قد يحيى المسافر والغازى مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لاسباب السلامة

اى بسا اسب تيزروكه بماند ... كه خرلنك جان بمنزل برد

بس كه درخاك تن درستان را ... دفن كردندو زحم خورده نمرد

{ واللّه بما تعملون بصير } فلا تكونوا مثل هؤلاء المنافقين

١٥٧

{ ولئن قتلتم فى سبيل اللّه او متم } فى سبيله وانتم مؤمنون واللام هى الموطئة للقسم المحذوف وجوابه قوله تعالى

{ لمغفرة من اللّه ورحمة } وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده لكونه دالا عليه والمعنى ان السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الاجل اصلا ولئن وقع ذلك بامر اللّه تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من اللّه تعالى بمقابلة ذلك

{ خير مما يجمعون } اى الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة اعمارهم

فان قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بانها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون اصلا

قلنا ان الذى يجمعونه فى الدنيا قد يكون من باب الحلال الذى يعد خيرا وايضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم ان تلك الاموال خيرات فقيل المغفرة خير من هذه الاشياء التى تظنونها خيرات

١٥٨

{ ولئن متم او قتلتم } اى على اى وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الارادة الآلهية

{ لالى اللّه } اى الى المعبود بالحق العظيم الشان الواسع الرحمة الجزيل الاحسان

{ تحشرون } لا الى غيره فيوفى اجوركم ويجزل لكم عطاياكم

واعلم ان هذه الآيات على ترتيب انيق فانه قال فى الآية الاولى

{ لمغفرة من اللّه } وهى التجاوز عن السيآت وذلك اشارة الى من يعبد اللّه خوفا من عقابه ثم قال

{ ورحمة } وهى التفضل بالمثوبات وهو اشارة الى من يعبده ثوابه ثم قال فى آخر الآية

{ لالى اللّه تحشرون } وهو اشارة الى من يعبد اللّه لمجرد الربوبية والعبودية وهذا على المقامات : قال عبد الرحمن الجامى

جانا زدرتو دور نتوانم بود ... قانع ببهشت وحور نتوانم بود

سربر در توبحكم عشقم نه بمزد ... زين درجه كنم صبور نتوانم بود

فبين الحشر الى مغفرة اللّه والحشر الى اللّه فرق كثير روى ان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام مر باقوام نحفت ابدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال ماذا تطلبون فقالوا نخشى عذاب اللّه فقال هو اكرم من ان لا يخلصكم من عذابه ثم مر باقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسالهم فقالوا نطلب الجنة والرحمة فقال هو اكرم من ان يمنعكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم اكثر فسألهم فقالوا نعبده لانه الهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال انتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون

كركند جاى بدل عشق جمال ازلت ... جشم اميد بحوران بهشتى ننهى

كى مسلم شودت عشق جمال ازلى ... تابر آفاق همه تهمت زشتى ننهى

حكى ان امرأة قالت لجماعة ما السخاء عندكم قالوا بذل المال قالت هو سخاء اهل الدنيا والعوام فما سخاء الخواص قالوا بذل المجهود فى الطاعة قالت ترجون الثواب قالوا نعم قالت تأخذون العشرة بواحد لقوله تعالى

{ فمن جاء بالحسنة فله عشر امثالها } فاين السخاء قالوا فما عندك قالت العمل للّه لا للجنة ولا للنار ولا للثواب وخوف العقاب وذلك لا يمكن الا بالتجريد والتفريد والوصول الى حقيقة الوجود

فعلى السالك ان يعرض عن الدنيا والآخرة ويقبل على اللّه حتى يكشف عن وجهه الحجاب ويصل الى رب الارباب

قال الامام فى تفسيره الانسان اذا توجه الى الجهاد اعرض قلبه عن الدنيا واقبل على الآخرة فاذا مات فكأنه تخلص من العدو ووصل الى المحبوب واذا جلس فى بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق والقى فى دار الغربة ولا شك فى كمال سعادة الاول وكمال شقاوة الثانى انتهى فحشر الغافلين بالحجاب وحشر الواصلين باظهار الجناب فمن كان فى هذه الدنيا اعمى بحب المال والمنال كان فى الآخرة محجوبا عن مشاهدة الجمال

١٥٩

{ فبما رحمة من اللّه لنت لهم } ما مزيدة للتأكيد اى فبرحمة عظيمة لهم كائنة من اللّه تعالى وهى ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الاخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بعدما كان منهم ما كان من مخالفة امرك واسلامك للعدو

{ ولو } لم تكن كذلك بل

{ كنت فظا } جافيا فى المعاشرة قولا وفعلا

{ غليظ القلب } قاسيه غير رقيق. فالفظ سيىء الخلق وغليظ القلب هو الذى لا يتأثر قلبه من شىء فقد لا يكون الانسان سيىء الخلق ولا يؤذى احدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم فظهر الفرق بينهما

{ لانفضوا من حولك } اى لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا اليك وتردوا فى مهاوى الردى

{ فاعف عنهم } فيما يتعلق بحقوقك كما عفا اللّه عنهم

{ واستغفر لهم } فيما يتعلق بحقوقه تعالى اتماما للشفقة عليهم واكمالا للبرّ بهم

{ وشاورهم فى الامر } اى ستخرج آراءهم واعلم ما عندهم فى امر الحرب اذ هو المعهود او فيه وفى امثاله مما تجرى فيه المشاورة عادة استظهارا بآرائهم وتطييبا لقلوبهم ورفعا لاقدارهم وتمهيدا لسنة المشاورة للامة

{ فاذا عزمت } اى عقيب المشاورة على شىء واطمأنت به نفسك

{ فتوكل على اللّه } فى امضاء امرك على ما هو ارشد واصلح فان ما هو اصلح لك لا يعلمه الا اللّه لا انت ولا من تشاور

{ ان اللّه يحب المتوكلين } عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم الى ما فيه خير لهم وصلاح والتوكل تفويض الامر الى اللّه والاعتماد على كفايته

قال الامام دلت الآية على انه ليس التوكل ان يهمل الانسان نفسه كما يقوله بعض الجهال والا لكان الامر بالمشاورة منافيا للامر بالتوكل بل التوكل هو ان يراعى الانسان الاسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحكمة

واعلم ان اللّه تعالى بين ان اصحاب النبى عليه الصلاة والسلام يتفرقون عنه لو كان فظا غليظا مع ان اتباعه دين وفراقه كفر فكيف يتوقع من يعامل الناس على خشونة اللفظ مع قسوة القلب ان ينقاد الناس كلهم له ويتابعوه ويطاوعوه فاللين فى القول انفذ فى القلوب واسرع الى الاجابة وادعى الى الطاعة ولذلك امر اللّه موسى وهارون به فقال { فقولا له قولا لينا }

بنرمى زدشمي توان كند بوست ... جو بادوست سختى كنى دشمن اوست

جو سندان كسى سخت رويى نبرد ... كه خايسك تأديب بر سر نخورد

قال الامام فى تفسيره اللين والرفق انما يجوز اذا لم يفض الى اهمال حق من حقوق اللّه فاما اذا ادى الى ذلك لم يجز قال اللّه تعالى

{ يا ايها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال للمؤمنين فى اقامة حد الزنى { ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين اللّه }

والتحقيق ان طرفى الافراط والتفريط مذمومان والفضيلة فى الوسط فورود الامر بالتغليظ مرة واخرى بالنهى عنه انما كان لاجل ان يتباعد عن الافراط والتفريط فيبقى على الوسط الذى هو الصراط المستقيم ولهذا السر مدح اللّه تعالى الوسط فقال

{ وكذلك جعلناكم امة وسطا } قال عليه السلام ( لا تكن مرّا فتعقى ولا حلوا فتسترط )

جو نرمى كنى خصم كردد دلير ... و كرخشم كيرى شوند ازتوسير

درشتى ونرمى بهم در بهست ... جورك زن كه جراح ومرهم نهست

واعلم ان المقصود من البعثة ان يبلغ الرسول تكليف اللّه الى الخلق وهذا المقصود لا يتم الا اذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا لا يتم الا اذا كان كريما رحيما يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن اساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الاسباب وجب ان يكون الرسول متبرئا من سوء الخلق وحيث يكون كذلك وجب ان يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل الى اعانة الضعفاء كثير القيام باعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح عن زلاتهم فلهذا المعنى قال

{ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وهكذا ينبغى ان يكون علماء الآخرة الوارثون والمشايخ فان الناس على دين متبوعهم فى الظاهر والباطن وقلما يوجد من يتصف بالاخلاق الحسنة من المشايخ والعلماء فى هذا الزمان الا من عصمه اللّه وهداه الى التمسك بالشريعة والتحقق بآداب الحقيقة وهذه الحال ليست الا لواحد بعد واحد روى انه خلا باحنف المضروب به المثل فى الحلم رجل فسبه سبا قبيحا فقام الاحنف وهو يتبعه فلما وصل الى قومه وقف وقال يا اخى ان كان قد بقى من قولك فضلة فقل الآن ولا يسمعك قومى فتؤذى فانظر الى خلق الاحنف كيف عامل مع الرجل وجامل وقال له رجل دلنى على المروة فقال عليك بالخلق الفسيح والكف عن القبيح

قال نجم الدين الكبرى فى تأويلاته كل لين يظهر فى قلوب المؤمنين بعضهم على بعض فهو رحمة اللّه ونتيجة لطفه مع عباده لا من خصوصية انفسهم فان النفس لامارة بالسوء وان كانت نفس الانبياء عليهم السلام انتهى

وفى هذا الكلام تنبيه على ان الانبياء وان كان سلوكهم من النفس المطمئنة الى الراضية والمرضية والصافية الى ان بلغوا مبلغ النبوة والرسالة لكن نفوسهم متصفة بالامارية كسائر الناس ولكن اللّه يعصمهم من مقتضاها فافهم فانه محل اعتبار وامعان

١٦٠

{ ان ينصركم اللّه } النصر نوعان معونة ومنع اى ان يعنكم اللّه ويمنعكم من عدوكم كما فعل ذلك يوم بدر

{ فلا غالب لكم } فلا احد يغلبكم

{ وان يخذلكم } الخذلان القعود عن النصرة والاسلام للّهلكة اى ان يترككم فلم ينصركم كما فعله يوم احد

{ فمن ذا الذى ينصركم } استفهام انكارى مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة بطريق المبالغة

{ من بعده } اى من بعد خذلانه وهذا تنبيه على ان الامر كله للّه ولذا امر بالتوكل عليه فقال

{ وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون } فليخصوه بالتوكل عليه لما علموا ان لا ناصر سواه وآمنوا به من قبل ومن التوكيل ان لا تطلب لنفسك ناصرا غير اللّه تعالى ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعلمك شاهدا غيره

وعن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يدخل سبعون الفا من امتى الجنة بغير حساب ) قيل يا رسول اللّه من هم قال ( هم الذين لا يكتدون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقال عكاشة بن محصن يا رسول اللّه ادع اللّه ان يجعلنى منهم قال ( انت منهم ) ثم قام آخر فقال يا رسو اللّه ادع اللّه ان يجعلنى منهم فقال ( سبقك بها عكاشة ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( لو انكم تتوكلون على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا )

وعن بعضهم قال كنت فى البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدّامى واحدا فسارعت حتى ادركته فاذا هو امرأة بيدها ركوة وعكازة تمشى على الرعدة فظننت انها اعيت فادخلت يدى فى جيبيى فاخرجت عشرين درهما فقلت خذى هذه وامكثى حتى تلحقك القافلة فتكترى بها ثم ائتنى الليلة حتى اصلح امرك فقالت بيدها هكذا فى الهواء فاذا فى كفها دنانير فقالت انت اخذت الدراهم من الجيب وانا اخذت الدراهم من الغيب : قال الحافظ الشيرازى

برو ازخانه كردون بدرونان ... مطلب كاين سيه كاسه در آخر بكشد مهمانرا

قال القشيرى حقيقة النصر ان ينصرك على نفسك فانها اعدى عدوك وهى ان يهدم عنك دواعى نتنها بعواصم رحمته حتى ينفض جنود الشهوات بهجوم وفور المنازلات فتبقى الولاية للّه تعالى خالصة من رعونات الدواعى التى هى اوصاف البشرية وشهوات النفوس وان يخذلكم فالخذلان التخلية بينه وبين المعاصى فمن نصره قبض على يده عندا لهم بتعاطى المكروه ومن خذله القى حبله على غاربه ووكله الى سوء اختياره فيهيم على وجهه فى فيافى البعد فتارة يشرق غير محتشم وتارة يغرب غير محترم ومن سيبه الحق فلا آخذ ليده ولا جابر لكسره وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون فى وجدان الامان من هذه الاخطار عند صدق الابتهال واسباب ثوب العفو على الاجرام عند خلوص الالتجاء بالتبرى من الحول والقوة ولا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم

جهان آفرين كر نه يارى كند ... كجابنده برهيز كارى بود

١٦١

{ وما كان لنبى } اى وما صح لنبى من الانبياء عليهم السلام وما استقام له

{ ان يغلّ } اى يخون فى المغنم فان الغلول هو اخذ شىء من مال الغنيمة خفية وخيانة لكونها سببا للعار فى الدنيا وللنار فى العقبى تنافى منصب النبوة التى هى اعلى المناصب الانسانية والمراد اما تنزيه ساحة رسول اللّه عليه السلام عما ظن به الرماة يوم احد حتى تركوا المركز وافاضوا فى الغنيمة وقالوا نخشى ان يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اخذ شيأ فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم صلى اللّه عليه وسلم ( ألم اعهد اليكم ان لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى ) فقالوا تركنا بقية اخواننا وقوفا فقال صلى اللّه عليه وسلم ( بل ظننتم انا نغل ولا نقسم بينكم )

واما المبالغة فى النهى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما روى انه بعث طلائع فغنم النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعدهم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيأ فنزلت والمعنى ما كان لنبى ان يعطى قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه ان يقسم بين الكل بالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظا وتقبيحا لصورة الامر

{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيمة } اى يأت بالذى غل بعينه يحمله على عنقه فيفتضح به على رؤوس الاشهاد وهو كقوله عليه السلام ( من غصب قدر شبر من الارض طوقه اللّه يوم القيامة من سبع ارضين ) قال عليه السلام ( من بعثناه على عمل فغل شيأ جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ) وقال صلى اللّه عليه وسلم ( هدايا الولاة غلول ) اى قبول الولاة الهدايا غلول لانه فى معنى الرشوة

وروى انه صلى اللّه عليه وسلم ( قال ألا لا اعرفن احدكم يأتى ببعير له رغاء وببقر له خوار وشاة لها ثغاء فينادى يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من اللّه شيأ فقد بلغتك )

وقيل لابى هريرة رضى اللّه عنه كيف يأتى بما غل وهو كثير كبير بان غل اموالا جمة فقال أرأيت من كان ضرسه مثل احد وفخذه مثل ودقان وساقه مثل جبل ومجلسه ما بين المدينة وريدان يحمل مثل هذا ويجوز ان يراد بما احتمل من وباله واثمه

{ ثم توفى كل نفس ما كسبت } اى تعطى وافيا جزاء ما كسبت خيرا او شرا كثيرا أو يسيرا او كان اللائق بما قبله ان يقال ثم يوفى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه فانه اذا كان كل كاسب مجزيا بعمله فالغال مع عظم جرمه بذلك اولى

{ وهم } اى كل الناس المدلول عليهم بكل نفس

{ لا يظلمون } بزيادة عقاب او بنقص ثواب

١٦٢

{ أفمن اتبع رضوان اللّه } الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف والتقدير أمن اتقى فاتبع رضوان اللّه اى سعى فى تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان يفعل الطاعات ويترك المنكرات كالنبى ومن يسير بسيرته

{ كمن باء } اى رجع

{ بسخط } غضب عظيم لا يقادر قدره كائن

{ من اللّه } بسبب معاصيه كالغال ومن تدين بدينه والمراد انهما لا يستويان

{ ومأواه } اى مأوى من باء بسخط من اللّه

{ جهنم وبئس المصير } والفرق بينه وبين المرجع ان المصير يجب ان يخالف الحالة الاولى ولا كذلك المرجع

١٦٣

{ هم } راجع الى الموصولين باعتبار المعنى

{ درجات عند اللّه } اى طبقات مختلفة متفاوتة فى علمه وحكمه تعالى شبهوا فى تفاوت الاحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وايذانا بأن بينهم تفاوتا ذاتيا كالدرجات ومراتب الخلق فى اعمال المعاصى والطاعات متفاوتة فوجب ان تتفاوت مراتبهم فى درجات العقاب والثواب لقوله تعالى

{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } والمعنى ذو درجات

{ واللّه بصير بما يعملون } من الاعمال ودرجاتها فمجازيهم بحسبها

واعلم ان الغلول من الكبائر والغال خائن ومن حاله ان يكون الغالب عليه النفس وهواها والانبياء منسلخون عن صفات البشرية متصفون بصفات الربوبية معصومون من الرذائل وصفات النفس ودواعى الشيطان قائمون باللّه فلا يمكن صدور امثال ذلك منهم فالنبى فى جنة الصفات ومقام الرضوان والغال فى جحيم النفس وهاوية الهوى فلا يساوى حال الغال احوال الانبياء ولذلك قال { هم درجات عند اللّه }

فعلى العاقل ان يسارع الى تكميل الدرجات والوصول الى احسن الحالات

قالوا اهل الجنة اربعة اصناف. الرسل والانبياء. ثم الاولياء وهم اتباع الرسل على بصيرة وبينة من ربهم. ثم المؤمنون وهم المصدقون بهم عليهم السلام. ثم العلماء بتوحيد اللّه انه لا اله الا هو من حيث الادلة العقلية وهم المراد باولى العلم فى قوله تعالى

{ شهد اللّه } وفيهم يقول اللّه

{ يرفع اللّه الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات } وهؤلاء الطوائف الاربع يتميزون فى جنات عدن عند رؤية الحق فى الكثيب الابيض وهم فيه على اربعة مقامات. طائفة منهم اصحاب منابر وهى الطبقة العليا الرسل والانبياء. والطائفة الثانية هم الاولياء ورثة الانبياء قولا وعملا وحالا وهم اصحاب الاسرة والعرش. والطبقة الثالثة العلماء باللّه من طريق النظر البرهانى العقلى وهم اصحاب الكرسى. والطبقة الرابعة هم المؤمنون المقلدون فى توحيدهم ولهم المراتب وهم فى المحشر مقدمون على اصحاب النظر العقلى وهم فى الكثيب يتقدمون على المقلدين

قيامت كه نيكان باعلى رسند ... زقعر ثرا بر ثريا رسند

تراخود بماندسر ازننك بيش ... كه كردت برآيد عملهاى خويش

قيامت كه بازار مينونهند ... منازل باعمال نيكونهد

والخلق متفاوتون فى الاعمال وتفاضلهم على مراتب. فمنها بالسن ولكن فى الطاعة والاسلام فيفضل الكبير السن على الصغير السن اذا كانا على مرتبة واحدة من العمل. ومنها بالزمان فان العمل فى رمضان وفى يوم الجمعة وفى ليلة القدر وفى عشر ذى الحجة وفى عاشوراء اعظم من سائر الايام والازمان. ومنها بالمكان فالصلاة فى المسجد الحرام افضل منها فى مسجد المدينة وهى من الصلاة فى المسجد الاقصى وهى منها فى سائر المساجد. ومنها بالاحوال فان الصلاة بالجماعة افضل من صلاة الشخص وحده. ومنها بنفس الاعمال فان الصلاة افضل من اماطة الاذى.

ومنها فى العمل الواحد فالمتصدق على رحمه صاحب صلة رحم وصدقة وكذا من اهدى هدية لشريف من اهل البيت افضل من ان يهدى لغيره واحسن اليه ومن الناس من يجمع فى الزمن الواحد اعمالا كثيرة فيصرف سمعه وبصره ويده فيما ينبغى فى زمان صومه وصدقته بل فى زمان صلاته فى زمان ذكره فى زمان نيته من فعل وترك فيؤجر فى الزمان الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس كذلك

بضاعت بجندانكه آرى برى ... اكر مفلسى شر مسارى برى

قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( ليس من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه يا ابن آدم انا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك غدا شهيد فاعمل فىّ خيرا اشهد لك به غدا فانى لو قد مضيت لم ترنى ابدا ويقول الليل مثل ذلك ) فاعمل يا اخى عمل من يعلم انه راجع الى اللّه وقادم عليه يجازى على الصغير والكبير والقليل والكثير وقد قال تعالى

{ واللّه بصير بما يعملون } فينبغى ان لا يغفل الانسان فى كل ساعاته

١٦٤

{ لقد منّ اللّه على المؤمنين } جواب قسم محذوف اى واللّه لقد انعم اللّه على من آمن مع الرسول عليه السلام من قومه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للاسود والاحمر لزيادة انتفاعهم بها

{ اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم } اى من نسبهم او من جنسهم عربيا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله فى الصدق والامانة مفتخرين به وفى ذلك شرف عظيم لهم قال اللّه تعالى

{ وانه لذكر لك ولقومك } وقرىء من انفسهم اى اشرفهم فانه صلى اللّه تعالى عليه وسلم كان من اشرف قبائل العرب وبطونها

{ يتلوا عليهم آياته } اى القرآن بعدما كانوا جهالا لم يسمعوا الوحى

{ ويزكيهم } اى يطهرهم من دنس الطباع وسوء العقائد والاعمال واوضار الاوزار

{ ويعلمهم الكتاب والحكمة } اى القرآن والسنة

{ وان كانوا من قبل } اى من قبل بعثته صلى اللّه عليه وسلم وتزكيته وتعليمه

{ لفى ضلال مبين } بين لا ريب فى كونه ضلالا. وان هى المخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية

واعلم ان اللّه تعالى ارسل محمدا الى اقوام عتاة اشراس فذلل منهم كل من عتا وعاس ونكس بمولده الاصنام على الرأس وانشق ايوان كسرى وسقطت منه اربع عشرة شرافة بعدد من سيملك من الناس وخمدت نار فارس وبحيرة ساوة غاضت على غير القياس واختاره مولاه وقدمه على الخلق فهو بمنزلة العين من الرأس وايام دولته كايام التشريق وليلات الاعراس فتعجبت قريش من غنى بالفضل بعد فقر الافلاس فرماهم القرآن بسهام الجدل لا عن اقواس أكان للناس عجبا ان اوحينا الى رجل منهم ان انذر الناس فهو رحمة عامة للانام وله خطر جليل عند الخواص والعوام وفيما خطب به ابو طالب فى تزويج خديجة رضى اللّه عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر ( الحمد للّه الذى جعلنا من ذرية ابراهيم وزرع اسماعيل وضئضئ معدّ وعنصر مضر وجعلنا خضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم ابن اخى هذا محمد بن عبد اللّه من لا يوزن به فتى من قريش الا رجح به وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل ) وعن عائشة رضى اللّه عنها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( قال لى جبريل يا محمد قلبت الارض مشارقها ومغاربها فلم اجد رجلا افضل من محمد ولم اجد بنى اب افضل من بنى هاشم آدم ومن دونه تحت اللواء ) زانكه بهر اوست خلق ما سوا وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان قريشا كانت نورا بين يدى اللّه قبل ان يخلق آدم بالفى عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق اللّه آدم القى ذلك النور فى صلبه نور بهار عالم نور بهار آدم وذكر ان عبد المطلب جد النبى صلى اللّه عليه وسلم بينا هو نائم فى الحجر انتبه مذعورا قال العباس فتبعته وانا يومئذ غلام اعقل ما يقال فأتى كهنة قريش فقال رأيت كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهرى ولها اربعة اطراف طرف قد بلغ مشارق الارض وطرف قد بلغ مغاربها وطرف قد بلغ عنان السماء وطرف قد جاوز الثرى فبينا انا انظر عادت شجرة خضراء لها نور فبينا انا كذلك قام على شيخان فقلت لاحدهما من انت قال انا نوح نبى رب العالمين وقلت للآخر من انت قال ابراهيم خليل رب العالمين ثم انتبهت قالوا ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك نبى يؤمن به اهل السموات واهل الارض ودلت السلسلة على كثرة اتباعه وانصاره وقوتهم لتداخل حلق السلسلة ورجوعها شجرة تدل على ثبات امره وعلو ذكره وسيهلك من لم يؤمن به كما هلك قوم نوح وستظهر به ملة ابراهيم والى هذا وقعت اشارة النبى عليه الصلاة والسلام يوم حنين حيث قال انا النبى لا كذب انا ابن عبد المطلب كأنه يقول انا ابن صاحب تلك الرؤيا مفتخرا بها لما فيها من علم نبوته وعلو كلمته ثم انه لا نهاية لاوصافه الشريفة واخلاقه الحميدة وانما الكلام فى ان يكون المرء ممتلئا بمحبته مقتفيا بآثار سنته حتى يكون من امته حقيقة والخدمة فى عتبة بابه من جهة الشريعة والطريقة من اقوى الوسائل الى الوصول حكى ان مريدا مدعيا قال ان شيخى يعرف مقامى فى هذه الطريقة واستحقاقى للخلافة والنصب فى مقام الارشاد فما له لا يجيزنى بالخلافة فسمع ذلك شيخه فاستخدمه اياما فاظهر ذلك الصوفى الكسل فى خدمته ولم يخدمه بالشوق والاجتهاد فرأى حاله الشيخ فقال منكرا لما ادعاه من لا يقدر على خدمة الخلق كيف يقدر على خدمة الخالق فانظر كيف جعل خدمة الخلق من اسباب خدمة الخالق والوصول اليه وهكذا من كان فى قلبه ميل الى وصول الحق فلا بد له ان يرجع اولا الى خدمة شريعة النبى صلى اللّه عليه وسلم وسننه حتى يحبه النبى عليه الصلاة والسلام فيحبه اللّه تعالى

محالست سعدى كه راه صفا ... توان رفت جز دربى مصطفا

شرفنا اللّه واياكم برعاية سننه وآدابه والاقتفاء بآثار آله واصحابه انه المنان جزيل الاحسان واسع الغفران فى كل زمان

١٦٥

{ أو لما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا } الواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف الى ما بعده وقد اصبتم فى محل الرفع على انه صفة لمصيبة والمراد بها ما اصابهم يوم احد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما اصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم واسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم والمعنى أحين اصابكم من المشركين نصف ما قد اصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من اين اصابنا هذا فالهمزة للتقرير والتقريع على قولهم لو كان رسولا من عند اللّه لما انهزم عسكره من الكفار يوم احد وادى ذلك الى ان قالوا من اين هذه المغلوبية للمشركين فكيف صاروا منصورين علينا مع رشكهم وكفرهم باللّه ونحن ننصر رسول اللّه ودين الاسلام وهو استفهام على سبيل الانكار فامر اللّه تعالى رسوله عليه السلام بان يجيب عن سؤالهم الفاسد فقال

{ قل هو من عند انفسكم } اى هذا الانهزام انما حصل بشئوم عصيانكم حيث خالفتم الامر بترك المركز والحرص على الغنيمة

{ ان اللّه على كل شىء قدير } ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة اصابكم منه تعالى ما اصابكم

١٦٦

{ وما اصابكم يوم التقى الجمعان } اى جمعكم وجمع المشركين يريد يوم احد

{ فبإذن اللّه } اى فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سماها اذنا لانها من لوازمه { وليعلم المؤمنين}

١٦٧

{ وليعلم المؤمنين} {وليعلم الذين نافقوا } اى وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر ايمان هؤلاء وكفر هؤلاء

{ وقيل لهم } عطف على نافقوا داخل معه فى هذه الصلة وهم عبد اللّه بن ابى واصحابه حيث انصرفوا يوم احد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت لهم عبد اللّه بن حرام اذكركم اللّه ان تخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم الى القتال وذلك قوله تعالى

{ تعالوا قاتلوا فى سبيل اللّه او ادفعوا } عنا العدو بتكثير سوادنا ان لم تقاتلوا معنا فان كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه

{ قالوا } حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين

{ لو نعلم قتالا لاتبعناكم } اى لو نعلم ما يصح ان يسمى قتالا لاتعناكم فيه لكن ما انتم عليه ليس بقتال بل القاء النفس الى التهلكة او لو نحسن قتالا لاتبعناكم وانما قالوه دخلا واستهزاء

{ هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان } ومعنى كون قربهم الى الكفر ازيد يومئذ من قربهم الى الايمان انهم كانوا قبل ذلك الوقت كاتمين للنفاق فكانوا فى الظاهر أبعد من الكفر فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمون صاروا اقرب للكفر فان كل واحد من انخذالهم برجوعهم عن معاونة المسلمين وكلامهم المحكى عنهم يدل على انهم ليسوا من المسلمين

{ يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم } يظهرون خلاف ما يضمرون لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالايمان وأضافة القول الى الافواه تأكيد وتصوير فان الكلام وان كان يطلق على السانى والنفسانى الا ان القول لا يطلق الا على ما يكون باللسان والفم فذكر الافواه بعده تأكيد كقوله تعالى

{ ولا طائر يطير بجناحيه } وتصوير لحقيقة القول بصورة فرده الصادر عن آلته التى هى الفرد

{ واللّه اعلم بما يكتمون } من النفاق وما يخلو به بعضهم الى بعض فانه يعلمه مفصلا بعلم واجب وانتم تعلمونه مجملا بامارات

١٦٨

{ الذين قالوا } مرفوع على انه بدل من واو يكتمون

{ لاخوانهم } لاجل اخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم احد أو اخوانهم فى النسب وفى سكنى الدار فيندرج فيهم بعض الشهدآء

{ وقعدوا } حال من ضمير قالوا بتقدير قد اى قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذا

{ لو اطاعونا } اى فيما امرناهم ووافقونا فى ذلك

{ ما قتلوا } كما لم نقتل وفيه ايذان بأنهم امروهم بالانخذال حين انخذلوا واغووهم كما غووا

{ قل } تبكيتا لهم واظهارا لكذبهم

{ فادرأوا } اى ادفعوا

{ عن انفسكم الموت ان كنتم صادقين } جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله اى ان كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من انكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن انفسكم الموت الذى كتب عليكم معلقا بسبب خاص موقتا بوقت معين بدفع سببه فان اسباب الموت فى امكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وانفسكم اعز عليكم من اخوانكم وامرها اهم لديكم من امرهم والمعنى ان عدم قتلكم كان بسبب انه لم يكن مكتوبا لا بسبب انكم دفعتموه بالقعود مع كتابته عليكم فان ذلك مما لا سبيل اليه بل قد يكون القتال سببا للنجاة والقعود مؤديا الى الموت

زبيش خطر تاتوانى كريز ... وليكن مكن باقضا بنجه تبز

كرت زندكانى نبشتست دير ... نه مارت كز آيدنه شمشير وتير

واعلم ان الموت ليس له سن معلوم ولا اجل معلوم ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على اهبة من ذلك مستعدا لذلك وكان بعض الصالحين ينادى بالليل على سور المدينة الرحيل الرحيل فلما توفى فقد صوته امير تلك المدينة فسأل عنه فقيل انه مات فقال

ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى اناخ ببابه الجمال

فأصابه متيقظا متشمرا ... ذا أهبة لم تلهه الآمال

انه مر دانيال عليه السلام ببرية فسمع مناديا يا دانيال قف ساعة تر عجبا فلم ير شيأ ثم نادى الثانية قال فوقفت فاذا بيت يدعونى الى نفسه فدخلت فاذا سرير مرصع بالدر والياقوت فاذا النداء من السرير اصعد يا دانيال تر عجبا فارتقيت لاسرير فاذا فراش من ذهب مشحون بالمسك والعنبر فاذا عليه شاب ميت كأنه نائم واذا عليه من الحلى والحلل ما لا يوصف وفى يده اليسرى خاتم من ذهب وفوق رأسه تاج من ذهب وعلى منطقته سيف اشد خضرة من البقل فاذا النداء من السرير أن احمل هذا السيف واقرأ ما عليه قال فاذا مكتوب عليه هذا سيف صمصام بن عوج بن عنق بن عاد بن ارم وانى عشت الف عام وسبعمائة وافتضضت اثنى عشر الف جارية وبنيت اربعين الف مدينة وهزمت سبعين الف جيش وفى كل جيش قائد مع كل قائد اثنا عشر الف مقاتل وباعدت الحكيم وقربت السفيه وخرجت بالجور والعنف والحمق عن حد الانصاف وكان يحمل مفاتيح الخزائن اربعمائة بغل وكان يحمل الى خراج الدنيا فلم ينازعنى احد من اهل الدنيا فادعيت الربوبية فاصابنى الجوع حتى طلبت كفا من ذرة بالف قفيز من درّ فلم اقدر عليه فمت جوعا يا اهل الدنيا اذكروا امواتكم ذكرا كثيرا واعتبروا بى ولا تغرنكم الدنيا كما غرتنى فان اهلى لم يحملوا من وزرى شيأ

فعلى العاقل ان لا يركن الى الدنيا ويتذكر مرجعه ويتجنب عن المنافقة والظلم والجور ويتصف بالاخلاص والعدل والاحسان فانه هو المفيد : قال ابن الكمال

برده دارى ميكند در طاق كسرى عنكبوت ... بوم نوبت ميزند بر قلعه افراسياب

تخم احسانراجه دارى برفشان اى بى خبر ... جونكه دانى دانه عمرت خورداين آسياب

جعلنا اللّه واياكم من المتيقظين الواصلين الى ذروة اليقين قبل حلول الاجل والحين

١٦٩

{ ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل اللّه امواتا } المراد بهم شهداء احد وكانوا سبعين رجلا اربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمرو وعثمان بن شهاب وعبد اللّه بن جحش وباقيهم من الانصار

قال القاشانى الافصح الابلغ ان يجعل الخطاب فى

{ ولا تحسبن } لكل احد لانه امر خطير يجب ان يبشر به كل واحد لتتوفر دواعيهم الى الجهاد وليتيقنوا بحسن الجزاء وان كان للرسول صلى اللّه عليه وسلم فالمراد به نهى الامة وتنبيهم على حالهم والا فرسول اللّه اجل مرتبة من ذلك الحسبان

{ بل احياء } اى بل هم احياء

{ عند ربهم } خبر ثان للمبتدأ المقدر والعندية المكانية مستحيلة فتعين حملها على انهم مقربون منه تعالى قرب التكريم والتعظيم

{ يرزقون } من ثمار الجنة وتحفها وفيه تأكيد لكونهم احياء وتحقيق لمعنى حياتهم

١٧٠

{ فرحين بما آتاهم اللّه من فضله } وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الابدية والزلفى من اللّه تعالى والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا

{ ويستبشرون } معطوف على قوله فرحين عطف الفعل على الاسم لكون الفعل فى تأويل الاسم كأنه قيل فرحين ومستبشرين وبناء استفعل ليس للطلب بل هو بمعنى المجرد نحو استغنى اللّه اى غنى وقد سمع بشر الرجل بكسر العين فيكون استبشر بمعناه

وقيل هو مطاوع ابشر نحو أراحه فاستراح فان البشرى حصلت لهم بابشار اللّه تعالى واليه اشار الزمخشري فى الكشاف بقوله بشرهم اللّه بذلك فهم مستبشرون به والبيضاوى بقوله يسرون بالبشارة

{ بالذين لم يلحقوا بهم } اى باخوانهم الذين لم يقتلوا بعده فى سبيل اللّه فيلحقوا بهم

{ من خلفهم } متعلق بيلحقوا والمعنى انهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم

{ ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال اخوانهم لا بذواتهم وان هى المحففة اى يفرحون بما بشر لهم وبين من حيث حال اخوانهم الذين تركوهم وهو انهم اذا ماتوا او قتلوا يفوزون بحياة ابدية لا يدركها خوف وقوع محذور ولا حزن فوت مطلوب والخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل فى المستقبل والحزن يكون بسبب فوت المنافع التى كانت موجودة فى الماضى فبين اللّه انه لا خوف عليهم مما سيأتيهم من اهوال القيامة واحوالها ولا حزن لهم مما فاتهم من نعم الدنيا ولذاتها

١٧١

{ يستبشرون بنعمة } كائنة

{ من اللّه } كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهى ثواب اعمالهم

{ وفضل } اى زيادة عظيمة كما فى قوله تعالى

{ للذين احسنوا الحسنى وزيادة } { وان اللّه لا يضيع اجر المؤمنين } كافة سواء كانوا شهداء او غيرهم وهو بفتح ان عطف على فضل منتظم معه فى سلك المستبشر به

قال الامام الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم من استبشارهم بسعادة انفسهم لان الاستبشار الاول فى الذكر هو باحوال الاخوان وهذا تنبيه من اللّه على ان فرح الانسان بصلاح حال اخوانه ومتعلقه يجب ان يكون اتم واكمل من فرحه وصلاح احوال نفسه

واعلم ان ظاهر الآية يدل على ان هؤلاء المقتولين وان فارقت ارواحهم من اجسادهم الا انهم احياء فى الحال. واختلف القائلون بحياتهم فى الحال انها للروح او للبدن ولا بد ههنا من تقديم مقدمة ليتضح بها المقام وهى ان الانسان المخصوص ليس عبارة عن مجموع هذه البنية المخصوصة بل هو شىء مغاير لها وذلك لان اجزاء هذه البنية فى الذوبان والانحلال والتبدل والتغير بالسمن وضده والصغر وخلافه والانسان المخصوص شىء واحد باق من اول عمره الى آخره والباقى مغاير للمتبدل فثبت ان الانسان مغاير لهذا البدن المخصوص ثم بعد هذا يحتمل ان يكون جسما مخصوصا ساريا فى هذه الجثة سريان النار فى الفحم والدهن فى السمسم وماء الورد فى الورد ويحتمل ان يكون جوهرا قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال فى الجسم وعلى كلا المذهبين لا يبعد ان ينفصل ذلك الشىء حيا عند موت البدن فيثاب ويعذب على حسب اعماله والدلائل العقلية والنقلية الدالة على بقاء النفوس بعد موت الاجساد كثيرة متعاضدة فوجب المصير اليه وبه تزول الشبهات الواردة على القول بثواب القبر كما فى هذه الآية وعلى القول بعذاب القبر كما فى قوله تعالى

{ اغرقوا فادخلوا نارا } اذا لم تمت النفوس بموت الابدان او قلنا بانه تعالى اماتها ثم اعاد الحياة اليها كما يدل عليه ما روى فى بعض الاخبار انه قال صلى اللّه عليه وسلم فى صفة الشهداء ( ان ارواحهم فى اجواف طير خضر وانها ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح فى الجنة حيث شاءت وتأوى الى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مطعمهم ومسكنهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع اللّه بنا كى يرغبوا فى الجهاد فقال اللّه تعالى انا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا ) فانزل اللّه هذه الآية

والذين اثبتوا هذه الحياة للاجساد اختلفوا.

فقال بعضهم انه تعالى تصعد اجساء هؤلاء الشهداء الى السموات الى قناديل تحت العرش ويوصل انواع السعادات والكرامات اليها. ومنهم من قال يتركها فى الارض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها كذا فى تفسير الامام ولابن سينا رسالة فى علم النفس ولعمرى قد بلغ القصوى فى التحقيق فليطلبها من اراد

وفضائل الشهداء لا نهاية لها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( الشهيد لا يجد ألم القتل الا كما يجد احدكم ألم القرصة وله سبع خصال يغفر له فى اول قطرة قطرت من دمه ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الاكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار لياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج بثلاث وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع فى سبعين من اقربائه ) ويروى انه اذا كان يوم القيامة يقول اللّه تعالى ادعوا الى خيرتى من خلقى فيقولون يا رب من هم فيقول الشهداء الذين بذلوا دماءهم واموالهم وانفسهم فيمرون على رب العزة وسيوفهم على اعناقهم فيدخلون مساكنهم فى الجنة وينصب يوم القيامة لواء الصدق لأبى بكر وكل صديق يكون تحت لوائه ولواء العدل لعمر وكل عادل يكون تحت لوائه ولواء السخاوة لعثمان وكل سخى يكون تحت لوائه ولواء الشهداء لعلى وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل وكل زاهد تحت لواء ابى ذر وكل فقير تحت لواء ابى الدرداء وكل مقرىء تحت لواء ابى بن كعب وكل مؤذن تحت لواء بلال وكل مقتول ظلما تحت لواء الحسين بن على رضى اللّه عنهما فذلك قوله تعالى

{ يوم ندعو كل اناس بامامهم } قيل ارواح الشهداء وان كانت فى عليين الا انها تزور قبورها كل جمعة على الدوام ولذلك يستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة قال عليه السلام ( ما من احد يمر بمقبر اخيه المؤمن كان يعرفه فى الدنيا فيسلم عليه الا عرفه ورد عليه )

قال الجنيد قدس سره من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فانه ينتقل من حياة الطبع الى حياة الاصل وهى الحياة الحقيقة واذا كان القتيل بسيف الشريعة حيا مرزوقا فكيف من قتل بسيف الصدق والحقيقة

هركز نميرد آنكه دلش زنده شد بعشق ... ثبتست بر جريده عالم دوام ما

قال القاشانى المقتول فى سبيل اللّه صنفان. مقتول بالجهاد الاصغر وبذلك النفس طلبا لرضى اللّه كما هو الظاهر. ومقتول بالجهاد الاكبر وكسر النفس وقتلها بسفرة الحب وقمع الهوى كما روى عن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم انه قال عند رجوعه من بعض الغزو ( رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر ) وكلا الصنفين ليسوا باموات بل احياء عند ربهم بالحياة الحقيقة مجردين من دنس الطبائع مقربين فى حضرة القدس يرزقون فى الجنة الصورية كما يرزق الاحياء او من كليهما فان للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ولكل منهما درجات على حسب المعارف والعلوم والمكاسب والاعمال.

فالمعنوية جنة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها بحسب تفاضل المعارف والترقى فى الملكوت والجبروت والصورية جنة الافعال وتفاوت درجاتها بحسب تفاوت الاعمال والتدرج فى مراتب عالم الملك من السموات العلى والجنات المحتوية على جميع المنى وما روى من الحديث فى شهداء احد فالطير الخضر فيه اشارة الى الاجرام السماوية والقناديل هى الكواكب اى تعلقت بالنيرات من الاجرام السماوية لنزاهتها وانهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ثمارها الاحوال والكشوف والمعارف او الانهار والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية او الصورية فان كل ما وجد فى الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات موجود فى الآخرة فى عالم المثال وفى طبقات السماء الذ واصفى مما فى الدنيا يستبشرون بنعمة الامن من العقاب اللازم للنقص والتقصير والنجاة من الحزن على فوات نعمة الدنيا لحصول ما هو اشرف واصفى والذ وابقى من جنات الافعال وفضل هو زيادة جنات الصفات المشار اليها بالرضوان او نعمة جنة الصفات وفضل جنة الذوات وان اجر ايماهم من جنة الافعال لا يضيع مع ذلك انتهى كلامه فلا بد للسالك من بذل المال والبدن والروح حتى يحصل لهم انواع الفتوح

دلا طمع مبراز لطف بى نهايت دوست ... جولاف عشق زدى سربباز جابك وجست

١٧٢

{ الذين استجابوا للّه والرسول } اى اجابوا واطاعوا فيما امروا به ونهوا عنه كما فى قوله تعالى

{ فليستجيبوا } { من بعد ما اصابهم القرح } اى الجرح فى غزوة احد

{ للذين احسنوا منهم } يدخل تحته الاتيان بجميع المأمورات

{ واتقوا } يدخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات

{ اجر عظيم } ثواب عظيم وجملة قوله للذين خبر مقدم مبتدأه اجر عظيم والجملة فى محل الرفع خبر الذين استجابوا وكلمة من فى قوله منهم ليست للتبعيض لان الذين استجابوا للّه والرسول كلهم قد احسنوا لا بعضهم بل هى لبيان الجنس ومحصل المعنى حينئذ الذين استجابوا للّه والرسول لهم اجر عظيم الا انهم وصفوا بوصفى الاحسان والتقوى مدحا لهم وتعليلا لعظم اجرهم بحسن فعالهم لا تقييدا روى ان ابا سفيان واصحابه لما رجعوا من احد فبلغوا الروحاء وهو موضع بين مكة والمدينة ندموا وهموا بالرجوع حتى يستأصلوا ما بقى من المؤمنين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فندب اصحابه للخروج فى طلب ابى سفيان وقال لا يخرجن معنا الا من حضر يومنا بالامس اى وقعتنا والعرب تسمى الوقائع اياما وذكرهم بايام اللّه فخرج رسول اللّه عليه السلام اراءة من نفسه ومن اصحابه جلدا وقوة ومعه جماعة حتى بلغوا حمراء الاسد وهى من المدينة على ثمانية اميال وكان باصحابه القرح فتحاملوا على انفسهم اى حملوا المشقة على انفسهم كيلا يفوتهم الاجر والقى اللّه الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا فنزلت فهذه هى غزوة حمراء الاسد متصلة بغزوة احد

واما غزوة بدر الصغرى فقد وقعت بعدها بسنة واليها الاشارة بقوله تعالى

١٧٣

{ الذين قال لهم الناس } يعنى الركب استقبلوهم من عبد قيس او نعيم بن مسعود الاشجعى واطلاق الناس عليه لما انه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد او لانه انضم اليه ناس من المدينة واذاعوا كلامه

{ ان الناس } يعنى ابا سفيان واصحابه

{ قد جمعوا لكم } اى اجتمعوا

{ فاخشوهم } روى ان ابا سفيان لما عزم على ان ينصرف من المدينة الى مكة نادى يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى لقابل نقتتل بها ان شئت فقال صلى اللّه عليه وسلم ( ان شاء اللّه ) فلما كان القابل خرج ابو سفيان فى اهل مكة حتى نزل مر الظهران فالقى اللّه فى قلبه الرعب وبدا له ان يرجع فمر به ركب من بنى عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب ان ثبطوا المسلمين او لقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال يا نعيم انى واعدت محمدا أن نلتقى بموسم بدر الا ان هذا العام عام جدب ولا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لى ان ارجع ولكن ان خرج محمد ولم اخرج زاده ذلك جراءة فاذهب الى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الابل وضمنها سهيل بن عمرو فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم ما هذا بالرأى اتوكم فى دياركم فلم يفلت منكم احد اى لم يتخلص الا شريد وهو الفار النافر المبعد أفترون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد فاثر هذا الكلام فى قلوب قوم منهم فلما عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك منهم قال ( والذى نفسى بيده لاخرجن ولولم يخرج معى احد فخرج فى سبعين راكبا كلهم يقولون حسبنا اللّه ونعم الوكيل )

{ فزادهم } القول

{ ايمانا } والمعنى لم يلتفتوا الى ذلك بل ثبت به يقينهم باللّه وازداد اطمئنانهم واظهروا حمية الاسلام واخلصوا النية عنده

{ وقالوا حسبنا اللّه } اى محسبنا وكافينا من احسبه اذا كفاه

{ ونعم الوكيل } اى الموكول اليه هو اى اللّه

١٧٤

{ فانقلبوا بنعمة من اللّه } الفاء فصيحة اى خرجوا اليهم ووافوا الموعد فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها كائنة من اللّه تعالى وهى العافية والثبات على الايمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم

{ وفضل } اى ربح فى التجارة عظيم

{ لم يمسسهم سوء } سالمين من السوء اى لم يصبهم اذى ولا مكروه روى انه صلى اللّه عليه وسلم وافى بجيشه بدرا الصغرى وكانت موضع سوق لبنى كنانة يجتمعون فيها كل عام ثمانية ايام ولم يلق صلى اللّه تعالى عليه وسلم واصحابه هناك احدا من المشركين واتوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا اريا وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا الى المدينة سالمين غانمين ورجع ابو سفيان الى مكة فسمى اهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا انما خرجتم لتشربوا

{ واتبعوا } فى كل ما اتوا من قول وفعل وهو عطف على انقلبوا

{ رضوان اللّه } الذى هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم وخروجهم

{ واللّه ذو فضل عظيم } حيث تفضل بالتثبيت وزيادة الايمان والتوفيق للمبادرة الى الجهاد والتصلب فى الدين واظهار الجرأة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم مع اصابة النفع الجليل. وفيه تحسير لمن تخلف عنهم واظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروى انهم قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم اللّه ثواب الغزو ورضى عنهم

١٧٥

{ انما ذلكم } اى المثبط ايها المؤمنون وهو مبتدأ

{ الشيطان } خبره

{ يخوف اولياءه } المنافقين غلبة المشركين وقهرهم ليقعدوا عن قتالهم فهم المنافقون الذين فى قلوبهم مرض وقد تخلفوا عن رسول اللّه فى الخروج والمعنى ان تخويفه بالكفار انما يتعلق بالمنافقين الذين هم اولياؤه

واما انتم ايها المؤمنون فاولياء اللّه وحزبه الغالبون لا يتعلق بكم تخويفه

{ فلا تخافوهم } اى الشيطان واولياء من ابى سفيان وغيره

{ وخافون } فى مخالفة امرى

{ ان كنتم مؤمنين } فان الايمان يقتضى ايثار خوف اللّه عز وجل على خوف غيره ويستدعى الامن من شر الشيطان واوليائه

والخوف على ثلاثة اقسام. خوف العام وهو من عقوبة اللّه. وخوف الخاص وهو من بعد اللّه. وخوف الاخص وهو من اللّه والى هذه المراتب اشار النبى عليه السلام بقوله ( اعوذ بعفوك من عقابك واعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك )

فعلى السالك ان يفنى عن نفسه وصفاتها ولا يرى فى الكون وجودا غير وجوده فلا يخاف الا منه فانه هو القاهر فوق عباده وهو الكافى جميع الامور

قال نجم الدين الكبرى قدس سره آخر مقام الخلة ان يكبر على نفسه وجميع المكونات اربع تكبيرات ويتحقق له ان اللّه حسبه من كل شىء وهو نعم الوكيل عن نفسه وما سواه : قال الحافظ الشيرازى

من همان دمكه وضو ساختم ازجشمه عشق ... جار تكبير زدم يكسره برهر جه كه هست

يشير الى انه وقت قيامه بالعشق رأى وجود غير اللّه ميتا بمنزلة الجماد وقد قال كل شىء هلاك الا وجهه وصلاة الميت باربع تكبيرات لا غير وهذا هو الفناء عن نفسه وعن المكونات حققنا اللّه تعالى بحقيقة التوحيد

قال ابو يزيد كنت اثنتى عشرة سنة حدادا لنفسى وخمسين سنة مرآة قلبى وسنة انظر فيها فاذا فى وسطى زنار ظاهر فعملت فى قطعه اثنتى عشرة سنة ثم نظرت فاذا فى باطنى زنار فعملت فى قطعه خمس سنين انظر كيف اقطع فكشف لى فنظرت الى الخلق فرأيتهم موتى فكبرت عليهم اربع تكبيرات

وقيل لابى يزيد البسطامى بعد وفاته كيف كان حالك مع منكر ونكير فقال لما قالا لى من ربك قلت لهما اسألا ربى فان قال هو عبدى يكفى ولا فلو قلت انا عبده مرارا لا يفيد بلا قبوله وحقيقة العبودية بالتبرى من جميع ما سوى اللّه ولو من صومه وصلاته وسائر عباداته روى ان ابا يزيد فى آخر عمره دخل محرابه وقال الهى لا أذكر صومى ولا صلاتى ولا غيرهما بل اقول افنيت عمرى فى الضلالة فالآن قطعت زنارى وجئت بابك بالاستسلام وهو الاسلام وهذا هو الانصفا من نفسه حقيقة

قال الشيخ السعدى فى حق شيخه السهروردى

شبى دائم ازهول دروزخ تخفت ... بكوش آمدم صبحكا هى كه كفت

جه بودى كه دوزخ زمن برشدى ... مكر ديكرانرا رهايى بدى

فالعاقل لا يزكى نفسه ولا يراها محلا لكرامة اللّه بل يتواضع بحيث يرى اعماله السيئة كثيرة بالنسبة الى اعماله الصالحة بل ولا يرى فى نفسه الا العدم المحض

واعلم ان من شعار المسلمين وعادة المؤمنين ان يجاهدوا فى سبيل اللّه ولا يخافوا لومة اللائمين ألا يرى ان اللّه تعالى كيف مدح قوما حالهم كذلك بقوله

{ يجاهدون فى سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم } فمن كان مع اللّه فهو يعصمه وينصره على اعدائه خصوصا عدو النفس الامارة

كسى رادانم اهل استقامت ... كه باشد برسر كوى ملامت

زاوصاف طبيعت باك مرده ... باطلاق هويت جان سبرده

برفته سايه وخرشيد مانده ... تمام ازكرد خوددا من فشانده

اوصلنا اللّه واياكم الى الخلوص واليقين والتمكين آمين

١٧٦

{ ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر } اى يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وهم المنافقون المتخلفون الذين يسارعون الى ما ابطنوه من الكفر مظاهرة للكفار وسعيا فى اطفاء نور اللّه

{ انهم لن يضروا اللّه شيأ } اى لن يضروا بذلك اولياء اللّه ودينه البتة شيأ من الضرر

{ يريد اللّه ان لا يجعل لهم حظا فى الآخرة } اى يريد اللّه بذلك ان لا يجعل لهم الآخرة نصيبا ما من الثواب ولذلك تركهم فى طغيانهم يعمهون الى ان يهلكوا على الكفر. وفى ذكر الارادة اشعار بان كفرهم بلغ النهاية حتى اراد ارحم الراحمين ان لا يكون لهم حظ من رحمته وان مسارعتهم الى الكفر لانه تعالى لم يرد لهم ان يكون لهم حظ فى الآخرة

{ ولهم } مع ذلك الحرمان الكلى بدل الثواب

{ عذاب عظيم } لا يقادر قدره

١٧٧

{ ان الذين اشتروا الكفر بالايمان } اى اخذوه بدلا منه رغبة فيما اخذوه واعراضا عما تركوه

{ لن يضروا اللّه شيأ ولهم عذاب اليم } ولما جرت العادة باغتباط المشترى بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالايلام مراعاة لذلك

١٧٨

{ ولا يحسبن الذين كفروا } الموصول مع صلته فاعل لا يحسبن

{ انما } بما فى حيزها سادة مسد مفعوليه لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبى بالنسبة بين المبتدأ والخبر وما مصدرية او موصولة حذف عائدها وكان حقها فى قياس علم الخط ان تكتب مفصولة ولكنها وقعت فى مصحف عثمان رضى اللّه تعالى متصلة فلا يخالف وتتبع سنة الامام فى خط المصاحف

{ نملى لهم } الاملاء الامهال واطالة المدة والملى مقصورا الدهر والملوان الليل والنهار لتعاقبهما اى ان املاءنا لهم او ان ما نمليه لهم

{ خير لانفسهم } من منعهم عن اراداتهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم

{ انما } كافة حقها الاتصال

{ نملى لهم ليزدادوا اثما } اللام لام الارادة عند اهل السنة القائلين بانه تعالى فاعل الخير والشر مريد لهما فان الاملاء الذى هو اطالة العمر لا شك انه من افعاله تعالى وانه ليس بخير لهم لانهم يتوسلون به الى ازدياد الاثم والطغيان فهو تعالى لما امهلهم واطال عمرهم بارادته واكتسبوا بذلك مآثم من الكفر والطغيان كان خالقا لتلك المآثم ايضا ولا تخلق الا بالارادة فهو مريد لها كما انه مريد لاسبابها المؤدية اليها وليست لام العلة لان افعاله تعالى ليست معللة بالاغراض وعند المعتزلة لام العاقبة

{ ولهم عذاب مهين } اى يهانون به فى الآخرة قال عليه السلام ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله )

ودلت الآية على ان اطالة عمر الكافر والفاسق وايصاله الى مراداته فى الدنيا ليس بخير بل هى نعمة فى الصورة ونقمة فى الحقيقة ألا يرى ان من اطعم انسانا خبيصا مسموما لا يعد ذلك نعمة عند الحقيقة لافضائه الى الهلاك والعقوبة فينبغى للعبد ان لا يغتر بطول العمر وامتداده ولا بكثرة امواله ولا اولاده

غره مشو بآن كه جهانت عزيز كرد ... اى بس عزيز راكه جهان كردزودخوار

مارست اين جهان وجها نجوى ماركير ... وزماركير مار برآرد كهى دمار

قال اللّه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة المعراج ( ان من نعمى على امتك انى قصرت اعمارهم كيلا تكثر ذنوبهم واقللت اموالهم كيلا يشتد فى القيامة حسابهم واخرت زمانهم كيلا يطول فى القبور حبسهم ) وقال ايضا ( يا احمد لا تتزين بلين اللباس وطيب الطعام ولين الوطاء فان النفس مأوى كل شر وهى رفيق سوء كلما تجرها الى طاعة تجرك الى معصية وتخالفك فى الطاعة وتطيع لك فى المعصية وتطغى اذا شبعت وتتكبر اذا استغنت وتنسى اذا ذكرت وتغفل اذا امنت وهى قرينة للشيطان )

وقيل مثل النفس كمثل النعامة تأكل الكثير واذا حملت عليها لا تطير واذا قيل انت طائر قالت انا بعير وهذه رجلى واذا حملت عليها شيأ قالت انا طائر وهذا جناحى فكثرة المال وكمال الاستغناء تغر النفس قال تعالى

{ كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى }

مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتش قبله ديكرست

قال السعدى قدس سره

شنيده ام كه بقصاب كوسفندى كفت ... دران زمانكه بخنجر سرش زتن ببريد

جزاى هر بن خارى كه خورده ام ديدم ... كسى كه بهلوى جربم خوردجه خواهدديد

وعن عائشة رضى اللّه عنها انها قالت قلت يا رسول اللّه ألا تستطعم اللّه فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الحجر من السغب فقال ( يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربى ان يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لاجراها حيث شئت من الارض ولكنى اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها. يا عائشة ان الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد ) قال عليه السلام ( الدنيا والآخرة ضرتان فمن يطلب الجمع بينهما فهو ممكور ومن يدعى الجمع بينهما فهو مغرور ) فمن رام مع متابعة الهوى البلوغ الى الدرجات العلى فهو غريق فى الغفلة فاللّه تعالى يمهله فى طغيان النفس بالحرص على الدنيا حتى يتجاوز فى طلبها حد الاحتياج اليها ويفتح ابواب المقاصد الدنيوية عليه ليستغنى بها وبقدر الاستغناء يزيد طغيانه

بناز ونعمت دنيا منه دل كه دل ... بر داشتن كاريست مشكل

فيا ايها الاخوان الذين مضوا قبلنا من الامم قد عاشوا طويلا وجمعوا كثيرا فتذكروا موتهم ومصارعهم تحت التراب وتأملوا كيف تبددت اجزاؤهم وكيف ارملوا نساءهم وايتموا اولادهم وضيعوا اموالهم وهلكت بعدهم صغراهم وكبارهم وانقطت آثارهم وديارهم فلم يرجع من كفر بنعمة اللّه الا الى العذاب والخسران ولم يصر الا الى دركات النيران فمن كانت غفلته كغفلتهم فسيصير الى ما صاروا اليه وان عاش طويلا فان اللّه يمهل ولا يهمل قال تعالى

{ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم الى عذاب غليظ } وما الحياة والتمتع بها الا قليل. فالدنيا ساعة فاجعلها طاعة لعلك تلحق بالجماعة من اهل الوصول وارباب القبول

وجميع الطاعات من اسباب الفلاح خصوصا الصلاة افضل العبادات واعلاها واشرف الطاعات واسناها. والصوم سبب الولوج فى ملكوت السموات وواسطة الخروج من رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما اشير اليه بقول عليسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء واليه يشير الحديث القدسى وهو قوله جل شانه ( الصوم لى وانا اجزى به ) يعنى انا جزاؤه ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال فى مخاطبة عيسى عليه السلام [ تجوع ترانى ]

همى آيد ازحق ندا متصل ... تجوع ترانى تجرد تصل

رزقنا اللّه واياكم

١٧٩

{ ما كان اللّه } مريدا

{ ليذر } لان يترك

{ المؤمنين } المخلصين

{ على ما انتم عليه } الخطاب لعامة المخلصين والمنافقين فى عصره

{ حتى يميز الخبيث من الطيب } ماز الشىء يميزه ميزا عزله وافرزه والمعنى ما كان اللّه ليذر المخلصين منكم على الحال التى انتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض وانه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعا حتى يميز المنافق من المخلص بالوحى الى نبيه باحوالكم او بالجهاد او بالهجرة

{ وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب } اى وما كان اللّه ليؤتى احدكم علم الغيب فيطلع على ما فى القلوب من كفر وايمان

{ ولكن اللّه يجتبى } يصطفى

{ من رسله من يشاء } فيوحى اليه ويخبره ببعض المغيبات او ينصب له ما يدل عليها

{ فآمنوا باللّه ورسله } بصفة الاخلاص او بان تعلموه وحده مطلعا على الغيب وتعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون الا ما علمهم اللّه ولا يعلمون الا ما اوحى اليهم

{ وان تؤمنوا } حق الايمان

{ وتتقوا } النفاق

{ فلكم } بمقابلة ذلك الايمان والتقوى

{ اجر عظيم } لا يبلغ كنهه وهذا الاجر على قدر عظم التقوى فان السير الى المقصد الاعلى والوصول الى منازل الاجتباء لا يتهيأ الا بقدمى التقى

قدم بايد اندر طريقت نه دم ... كه اصلى ندارد دم بى قدم

قال ابراهيم بن ادهم بت ليلة تحت صخرة بيت المقدس فلما كان بعض الليل نزل ملكان فقال احدهما لصاحبه من ههنا فقال الآخر ابراهيم بن ادهم فقال ذلك الذى حط اللّه درجة من درجاته فقال لم قال لانه اشترى بالبصرة التمر فوقعت تمرة على تمره من تمر البقال قال ابراهيم فمضيت الى البصرة واشتريت التمر من ذلك الرجل واوقعت تمرة على تمره ورجعت الى بيت المقدس وبت فى الصخرة فلما كان بعض الليل اذا انا بملكين قد نزلا من السماء فقال احدهما لصاحبه من ههنا فقال احدهما ذلك الذى رد التمرة الى مكانه فرفعت درجته فهذا هو التقوى على الحقيقة ومراعاة الحقوق على الوجه اللائق ولا يتيسر ذلك الا بالتوسل الى جناب رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فان غيب الحقائق والاحوال لا ينكشف بلا واسطة الرسول واليه الاشارة بقوله تعالى

{ وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب ولكن } الخ وكيف يترقى الى حقيقة التقوى وعالم الاطلاق من تقيد برأيه واختياره قال اللّه تعالى

{ وابتغوا اليه الوسيلة } فلا بد من متابعة النبى عليه السلام

حقا كه بى متابعت سيد رسل ... هر كز كسى بمنزل مقصود ره نيافت

ازهيج او بهيج درى ره نمى دهند ... انران كه زآستانه او روى دل بتافت

فالايمان باللّه وبرسوله هو التصديق القلبى والارادة والتمسك بالشريعة والنجاة فيه لا فى غيره روى ان المؤمن اذا ورد النار بمقتضى قوله تعالى

{ وان منكم الا واردها } يصير اللّه ثواب التوحيد سفينة والقرآن حبلها والصلاة شراعها ويكون المصطفى عليه السلام ملاحها والمؤمنون يجلسون عليها ويكبرون اللّه وتجرى السفينة على بحر نار جهنم بريح طيبة فيعبرون عنها سالمين. فيا اخى لا تضيع ايامك فان ايامك رأس مالك وانك ما دمت قابضا على رأس مالك فانك قادر على طلب الربح فاجتهد فى تحصيله بالتوغل فى الطاعات والعبادات واحياء سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والصلاة عليه قبل الموت والفوت فان الموتى يتمنون ان يؤذن لهم بان يصلوا ركعتين او يقولوا مرة لا اله الا اللّه او يسبحوا مرة فلا يؤذن لهم ويتعجبون من الاحياء كيف يضيعون ايامهم فى الغفلة

اكر مرده مسكين زبان داشتى ... بفرياد وزارى فغان داشتى

كه اى زنده هست امكان كفت ... لب زاذ كرجون مرده برهم مخفت

جومارا بغفلت بشد روز كار ... توبارى دمى جند فرصت شمار

قال عليه السلام ( الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا ) فتميز المنافق من المخلص كما يكون فى الدنيا بالاقوال والافعال وغيرهما كذلك يكون فى الآخرة ببياض وجه هذا وسواد وجه ذلك كما قال تعالى

{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } فعلى العاقل ان يتحمل مشاق الطاعات والتكاليف والامتحانات الآلهية لعله يفوز بالمرام ويظفر بالبغية يوم يخيب المعرضون والمنافقون ويخسرون

خوش بود كر محك تجربه آيدبميان ... باسيه روى شود هر كه دروغش باشد

قال بعض الكبار وعند الامتحان يكرم الرجل او يهان عصمنا اللّه واياكم من المخالفة

١٨٠

{ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله } الموصول فاعل لا يحسبن والمفعول الاول محذوف لدلالة يبخلون عليه اى ولا يحسبن البخلاء بخلهم

{ هو } ضمير فصل لا محل له من الاعراب

{ خيرا لهم } من انفاقهم مفعول ثان للفعل المذكور

{ بل هو } اى البخل

{ شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم

{ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيمة } بيان لقوله هو شر لهم اى سيلزمون وبال ما بخلوا به الزام الطوق اذ لا طوق ثمة فيكون من قبيل الاستعارة التمثيلية شبه لزوم وبال البخل واثمه بهم بلزوم طوق نحو الحمامة بها فى عدم زوال كل واحد منهما عن صاحبه فعبر عن لزوم الوبال بهم بالتطويق واشتق منه يطوقون كما يقال منة فلان طوق فى رقبة فلان

وقيل هو على حقيقته وانهم يطوقون حية او طوقا من نار استدلالا بالحديث وسيجيئ

{ وللّه } وحده لا لاحد غيره استقالا واشتراكا

{ ميراث السموات والارض } اى ما يتوارثه اهلهما من مال وغيره من الرسالات التى يتوارثها اهل السموات فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه فى سبيله او انه يورث منهم ما يمسكونه ولا نفقونه فى سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة

{ واللّه بما تعملون } من المنع والاعطاء

{ خبير } فيجازيكم على ذلك

واعلم ان البخل عبارة عن امتناع اداء الواجب والامتناع عن التطرع لا يكون بخلا ولذلك قرن به الوعيد والذم والواجب كثير كالانفاق على النفس والاقارب الذين يلزمه مؤونتهم والصدقة على الغير حال المخمصة وفى حال الجهاد عند الاحتياج الى التقوية بالمال

ثم ان فى الآية اشارة الى ان البخل اكسير الشقاوة كما ان السخاء اكسير السعادة وذلك لان اللّه تعالى سمى المال فضله كما قال

{ من فضله } والفضل لاهل السعادة فباكسير البخل يصير الفضل قهرا والسعادة شقاوة كما قال

{ هو خيرا لهم بل هو شر لهم } يعنى باكسير البخل يجعون خيرية ما آتاهم اللّه من فضله شرا لهم ولو انهم طرحوا على ما هو فضله اكسير السخاء لجعلوه خيرا لهم فصيروه سعادة ولصاروا بها اهل الجنة ولن يلج الجنة الشحيح ثم عبر عن آفة حب الدنيا والمال بالطوق لانها تحيط بالقلب ومنها تنشأ معظم الصفات الذميمة مثل البخل والحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب وغير ذلك ولهذا قال النبى عليه السلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) فبمنع الزكاة يصير الروح الشريف العلوى النورانى محفوفا بهذه الصفات الخسيسة السفلية الظلمانية مطوقا بآفاتها وحجبها وعذابها يوم القيامة وبعد المفارقة فانه من مات فقد قامت قيامته

نه منعم بمال از كسى بهترست ... خررا جل اطلس بيوشد خرست

هنر بايد وفضل ودين وكمال ... كه كه آيد و كه رود جاه ومال

بسنديده رأيى كه بخشيد وخورد ... جهان ازبى خويشتن كرد كرد

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من آتاه اللّه ما لا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ) يعنى بشدقيه ( ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا ولا يحبسن الذين يبخلون ) الآية

وفى رواية ( يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها فى عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه الى قدمه وتنقر رأسه وتقول انا مالك )

وقال صلى اللّه عليه وسلم ( ما من رجل يكون له ابل او بقر او غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة اعظم ما تكون واسمنه تطأه باخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت اخراها ردت عليه اولاها حتى يقضى بين الناس )

قال ابو حامد. مانع زكاة الابل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم. ومانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم. ومانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء وثقل يعدل الجبل العظيم والرغاء والخوار والثغاء كالرعد القاصف. ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله اعدالا قد ملئت من الجنس الذى كان يبخل به بر كان او شعيرا اثقل ما يكون ينادى تحته بالويل والثبور. ومانع زكاة المال يحمل شجاعا اقرع له زبيبتان وذنبه قد انساب فى منخريه واستدار بجيده وثقل على كاهله كأنه طوق بكل رحى فى الارض وكل واحد ينادى ما هذا فيقول الملائكة هذا ما بخلتم به فى الدنيا رغبة فيه وشحا عليه فمنع الزكاة سبب للعقاب فى العقبى كما ان ايتاءها سبب للثواب فى الاخرى وحصن لماله فى الدنيا

قال صلى اللّه عليه وسلم ( حصنوا اموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة واستقبلوا البلايا بالدعاء ) قال عليه السلام ( لا صلاة لمن لا زكاة له )

روى ان موسى عليه السلام مرّ برجل وهو يصلى مع حضور وخشوع فقال يا رب ما احسن صلاته قال اللّه تعالى ( لو صلى فى كل يوم وليلة الف ركعة واعتق الف رقبة وصلى على الف جنازة وحج الف حجة وغزا الف غزوة لم ينفعه حتى يؤدى زكاة ماله )

وقال عليه الصلاة والسلام ( ملعون مال لا يزكى كل عام وملعون بدن لا يبتلى فى كل اربعين ليلة ومن البلاء العثرة والنكبة والمرضة والخدشة واختلاج العين فما فوق ذلك ) فاذا سمعت هذه الاخبار وقفت على وزر من وقف على الاصرار ولم يؤد زكاة ماله بطيبة النفس وصفاء البال الى ان يرجع فقيرا ميتا بعدما ساعدته الاحوال والاموال

بريشان كن امروز كنجينه جست ... كه فردا كليدش نه دردست تست

تو باخود ببر توشه خويشتن ... كه شفقت نيايد ز فرزند وزن

بخيل توانكر بدينار وسيم ... طلسمست بالاى كنجى مقيم

ازان سالها مى بماند زرش ... كه لرزد طلسمى جنين بر سرش

بسنك اجل ن كهان بشكنند ... بآسودكى كنج قسمت كنند

جو در زندكانى بدى باعيال ... كرت مرك خواهند از ايشان منال

تو غافل در انديشه سود مال ... كه سر مايه عمر شد بايمال

بكن سرمه غفلت از جشم باك ... كه فردا شوى سرمه درجشم خاك

١٨١

{ لقد سمع اللّه قول الذين قالوا ان اللّه فقير ونحن اغنياء } قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى

{ من ذا الذى يقرض اللّه قرضا حسنا } وروى انه عليه الصلاة والسلام كتب مع ابى بكر رضى اللّه تعالى عنه الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الاسلام والى اقام الصلاة وايتاء الزكاة وان يقرضوا اللّه قرضا حسنا فدخل ابو بكر رضى اللّه عنه ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتعوا الى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ومعه حبر آخر يقال له اشيع فقال ابو بكر لفنحاص اتق اللّه واسلم فواللّه انك لتعلم ان محمدا رسول اللّه قد جاءكم بالحق من عند اللّه تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة فآمن وصدق واقرض اللّه قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فنحاص يا ابا بكر تزعم ان ربنا يستقررض اموالنا وما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان اللّه اذا لفقير ونحن اغنياء وانه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما اعطانا الربا فغضب ابو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو اللّه فذهب فنحاص الى النبى صلى اللّه عليه وسلم فشكاه وجحد ما قاله فنزلت ردا عليه وتصديقا لابى بكر والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضى الباقين بذلك والمعنى انه لم يخف عليه تعالى واعد له من العقاب كفاءه والتعبير عنه بالسماع للايذان بانه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بان يسمعه سامع

{ سنكتب ما قالوا } اى سنكتب ما قالوه من الخطة الشنعاء فى صحائف الحفظة او سنحفظه ونثبته فى علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب. والسين للتأكيد اى لن يفوتنا ابدا تدوينه واثباته لكونه فى غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر باللّه تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم عليه السلام

{ وقتلهم الانبياء } عطف عليه ايذانا بانهما فى العظم اخوان وتنبيها على انه ليس باول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وان من اجترأ على قتل الانبياء لم يبعد منه امثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الانبياء رضاهم بفعل اسلافهم

{ بغير حق } متعلق بمحذوف وقع حالا من قتلهم اى كائنا بغير حق وجرم فى اعتقادهم ايضا كما هو فى نفس الامر

{ ونقول } عند الموت او عند الحشر او عند قراءة الكتاب

{ ذقوا عذاب الحريق } اى وننتقم منهم بعد الكتبة بان نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق كما اذقتم المرسلين الغصص

١٨٢

{ ذلك } اشارة الى العذاب المذكور

{ بما قدمت ايديكم } بسبب ما اقترفتموه من قتل الانبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصى والتعبير عن الانفس بالايدى لان اكثر الاعمال يزوال بهن فجعل كل عمل كالواقع بالايدى على سبيل التغليب

{ وان اللّه ليس بظلام للعبيد } محله الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلى مقررة لمضمون ما قبلها اى والامر انه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفى الظلم مع ان تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة اهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الاثابة على الاعمال باضاعتها مع ان الاعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بابراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى صورة المبالغة فى الظلم

والاشارة فى تحقيق الآيتين ان العبد اذا غلبت عليه الصفات الذميمة واستولى عليه الهوى والشيطان ومات قلبه تكاملت الصفة الامارية لنفسه فما ينطق الا عن الهوى ان هو الا وحى يوحيه اليه الشيطان كقوله تعالى

{ ان الشياطين ليوحون الى اوليائهم } والنفس اذا تكملت بالهوى تدعى الربوبية كما ادعى فرعون وقال انا ربكم الاعلى فيكون كلامها من صفات الربوبية وان من صفات الربوبية قوله

{ واللّه الغنى وانتم الفقراء } فاذا تم فساد حال النفس الامارة بالسوء اثبتت صفات الربوبية لنفسها وصفات العبودية لربها كقوله

{ لقد سمع اللّه قول الذين قالوا ان اللّه فقير ونحن اغنياء } اثبتوا لنفسهم صفات الربوبية وهى الغنى واثبتوا للّه صفة العبودية وهى الفقر

{ سنكتب ما قالوا } اى سنميت قلوبهم باقوالهم هذه كما امتناها بافعالهم

{ و } هى

{ قتلهم الانبياء بغير حق } يشير الى ان جزاء هذه الاقوال فى حق اللّه مثل جزاء هذه الافعال فى الانبياء عليهم الصلاة والسلام

{ ونقول ذوقوا عذاب } القلب الميت

{ الحريق } بنار القهر والقطيعة

{ ذلك بما قدمت ايديكم } اى بشؤم معاملاتكم القولية والفعلية على وفق الهوى والطبيعة وخلاف الرضى والشريعة

{ وان اللّه ليس بظلام للعبيد } بان يضع الشىء فى غير موضعه يعنى لا يجعل المصلح منهم مظهر صفة قهره ولا المفسد منهم مظهر صفة لطفه كما قال تعالى

{ اللّه اعلم حيث يجعل رسالته } وهذا كما يقال

ندهد هوشمند روشن رأى ... بفرومايه كارهاى خطير

بوريا باف اكرجه بافنده است ... نبرندش بكار كاه حرير

واذا كان للعبد حسن الاستعداد يتحول القهر فى حقه الى اللطف بشرط ان يجتهد ويبذل ما فى وسعه وطاقته وكم من مؤمن يصير فى مآله كافرا وكم من عكسه فاذا جاء حين السعادة انقلب الحال وكذا الشقاوة

قال بعض المشايخ العباد على قسمين فى اعمارهم فرب عمر اتسعت آماده وقلت امداده كاعمار بنى اسرائيل اذ كان الواحد منهم يعيش الالف ونحوها ولم يحصل على شىء مما تحصل لهذه الامة مع قصر اعمارها ورب عمر قليلة آماده كثيرة امداده كعمر من فتح عليه من هذه الامة فوصل الى عناية اللّه بلمحة

فقد قال احمد بن ابى الحوارى رحمه اللّه قلت لابى سليمان الدارانى انى قد غبطت بنى اسرائيل قال بأى شىء قلت بثمانمائة سنة حتى يصيروا كالشنان البالية وكالحنايا وكالاوتار قال ما ظننت الا وقد جئت بشىء واللّه ما يريد اللّه منا ان ييبس جلودنا على عظامنا ولا يريد منا الا صدق النية فيما عنده هذا اذا صدق فى عشرة ايام نال ما ناله ذلك فى عمره الطويل فاذن من بورك له فى عمره ادرك فى يسير من منن اللّه تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الاشارة لكثرته وعظمه ودقته ورفعته

وقد قال الشيخ الشاذلى رحمه اللّه فى كتاب تاج العروس من قصر عمره فليذكر بالاذكار الجامعة مثل سبحان اللّه عدد خلقه ونحو ذلك ويعنى بقصر العمر واللّه اعلم ان يكون رجوعه الى اللّه فى معترك المنايا ونحوها من الامراض المخوفة والاعراض المهولة واذا كان الامر على ما ذكر فالخذلان كل الخذلان ان تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه اليه بصدق النية حتى يفتح عليك بما لا تصل الهمم اليه وتقل عوائقك ثم لا ترحل اليه عن عوالم نفسك والاستئناس بيومك وامسك فقد جاء خصلتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ومعناه واللّه اعلم ان الصحيح ينبغى ان يكون مشغولا بدين او دنيا والا فهو مغبون فيهما عصمنا اللّه واياكم من الغبن والخذلان والخسران

مهل كه عمر به بيهوده بكذرد حافظ ... بكوش وحاصل عمر عزيزرا درياب

قيل الدنيا غنيمة الاكياس وغفلة الجهال

١٨٣

{ الذين } اى الذين

{ قالوا } وهم كعب بن الاشرف ومالك بن الصيف وحيى بن اخطب وفنحاس بن عازوراء ووهب بن يهودا

{ ان اللّه عهد الينا } اى امرنا فى التوراة واوصانا

{ ان لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فيكون دليلا على صدقه. والقربان كل ما يتقرب به العبد الى اللّه من نسيكة وصدقة وعمل صالح وهو فعلان من القربة

قال عطاء كانت بنوا اسرائيل يذبحون للّه تعالى فيأخذون الثروب واطايب اللحم فيضعونها وسط البيت والسقف مكشوف فيقوم النبى عليه السلام فى البيت ويناجى ربه وبنوا اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لا دخان لها ولها دوىّ وهفيف حين تنزل من السماء فتأكل ذلك القربان اى تحيله الى طبعها بالاحراق فيكون ذلك علامة القبول واذا لم يقبل بقى على حاله وهذا من مفترياتهم واباطيلهم لان اكل القربان النار لم يوجب الايمان الا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولما كان محصل كلامهم الباطل ان عدم ايمانهم برسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لعدم اتيانه بما قالوا ولو تحقق الاتيان به لتحقق الايمان رد عليهم بقوله تعالى

{ قل } اى تبكيتا لهم واظهارا لكذبهم

{ قد جاءكم } اى جاء اسلافكم وآباءكم

{ رسل } كثيرة العدد كبيرة المقدار

{ من قبلى بالبينات } اى المعجزات الواضحة

{ وبالذى قلتم } بعينه من القربان الذى تأكله النار فقتلتموهم

{ فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين } اى فيما يدل عليه كلامكم من انكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فان زكريا ويحيى وغيرهما من الانبياء عليهم السلام قد جاؤكم بما قلتم فى معجزات اخر فما لكم لم تؤمنوا حتى اجترأتم على قتلهم

١٨٤

{ فان كذبوك } شروع فى تسلية رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم

{ فقد كذب رسل من قبلك } تعليل لجواب الشرط اى فتسل واصبر فقد كذب الخ

{ جاؤا بالبينات } المعجزات الواضحات صفة لرسل

{ والزبر } جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته اذا حسنته او الزبر المواعظ والزواجر من زبرته اذا زجرته

{ والكتاب المنير } اى التوراة والانجيل والزبور. والكتاب فى عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والاحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين فى عامة المواقع. والمنير اى المضيىء البين بالامر والنهى

والاشارة ان اللّه تعالى كما قدر ان بعض الامم يغلبون بعض انبيائهم ويقتلونهم قبل الايمان او بعد الايمان بهم كذلك قدر ان بعض الصفات النفسانية يغلب على بعض الالهامات الربانية والواردات الرحمانية فيمحوها كما قال تعالى

{ يمحو اللّه ما يشاء ويثبت } قبل انقيادها لها او بعدما انقادت لها ليقضى اللّه امرا كان مفعولا وبالجملة ان الروح يصير بمجاورة الصفات النفسانية كالنفس فى الدناءة فتصير الصفات الذميمة غالبة عليه كما تغلب على الالهامات فعلى السالك ان يتجنب عن مصاحبة المفسدين ومجاورة صفات النفس

نفس ازهم نفس بكيرد خوى ... بر حذر باش ازلقاى خبيث

باد جون بر فضاى بد كذرد ... بوى بدكيرد ازهواى خبيث

فطوبى لعبد طهر نفسه من الصفات الرذيلة والعناد والاصرار ورأى الحق حقا والباطل باطلا وانقطع عن ميل الدنيا واتباع الهوى وموافقة غير اللّه روى ان عيسى عليه السلام مر بقرية فاذا اهلها موتى فى الافنية والطرق فقال يا معشر الحواريين ان هؤلاء ماتوا على سخط ولو ماتوا على غير ذلك لتدافنوا فقالوا يا روح اللّه وددنا انا علمنا خبرهم فسأل ربه فاوحى اللّه اليه اذا كان الليل فنادهم يجيبوك فلما كان الليل اشرف على الموتى ثم نادى يا اهل القرية فاجابه مجيب لبيك يا روح اللّه فقال ما حالكم وما قصتكم قال بتنا فى عافية واصبحنا فى هاوية قال وكيف ذلك قال لحبنا الدنيا وطاعتنا اهل المعاصى قال وكيف كان حبكم الدنيا قال كحال حب الصبى لامه اذا اقبلت فرحنا واذا ادبرت حزنا قال فما بالك اصحابك لم يجيبونى قال لانهم ملجمون بلجام من نار بايدى ملائكة غلاظ شداد قال كيف اجبتنى من بينهم قال لانى كنت فيهم ولم اكن منهم فلما نزل بهم العذاب اصابنى فانا معلق على شفير جهنم لا ادرى أانجو منها ام اكبكب فيها

واعلم ان الانكار والتكذيب من حب الدنيا والميل اليها لان الانبياء والاولياء يدعون الى الجنة والمولى وحفت الجنة بالمكاره والانسان اذا رأى ما يكرهه يتنفر عنه ثم اذا اقدم على الاتيان به واكره يأخذ بالانكار قال اللّه تعالى

{ وعسى ان تكرهوا شيأ وهو خير لكم } وقد وصى الحكماء الآلهية ان لا يجالس المريد اهل الانكار بل لا يلتفت اليهم اصلا اذ للمجاورة تأثير عظيم كما قيل

عدوى البليد الى الجليد سريعة ... والجمر يوضع فى الرماد فيخمد

بابدان يار كشت همسر لوط ... خاندان نبوتش كم شد

سك اصحاب كهف روزى جند ... بى مردم كرفت ومردم شد

قال مولانا جلال الدين قدس سره فى هذا المعنى

كرتوسنك وصخره ومرمر شوى ... جون بصاحب دل رسى كوهر شوى

ساقنا اللّه واياكم الى طريقة اوليائه ومجالسة احبائه آمين

١٨٥

{ كل نفس ذائقة الموت } اى تخرج وتنفك من البدن بادنى شىء من الموت فكنى بالذوق عن القلة وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب من حيث انه كناية عن ان هذه الدار بعدها دار اخرى يتميز فيها المحسن من المسيىء ويتوفر على كل احد ما يليق به من الجزاء وفى الحديث ( لما خلق اللّه آدم اشتكت الارض الى ربها لما اخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما اخذ منها فما من احد الا ويدفن فى التربة التى خلق منها )

{ وانما توفون اجوركم } اى تعطون جزاء اعمالكم خيرا كان او شرا تاما وافيا

{ يوم القيمة } اى يوم قيامكم من القبور وفى لفظ التوفية اشارة الى ان بعض اجورهم يصل اليهم قبله كما ينبىء عنه قوله عليه السلام ( القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران )

{ فمن زحزح عن النار } اى بعد عنها يومئذ ونجى. والزحزحة فى الاصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة

{ وادخل الجنة فقد فاز } بالنجاة ونيل المراد. والفوز الظفر بالبغية وعن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( من احب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر ويأتى الى الناس بما يحب ان يؤتى به اليه )

{ وما الحيوة الدنيا } اى لذاتها وزخارفها

{ الا متاع الغرور } شبهها بالمتاع الذى يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة ومن آثر الآخرة عليها فهى له متاع بلاغ اى تبليغ الى الآخرة وايصال اليها فلذلك سماه اللّه خيرا حيث قال

{ وانه لحب الخير لشديد } فالعاقل لا يغتر بالدنيا فانها لين مسها قاتل سمها ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور

ترا دنيا همى كويد شب وروز ... كه هان از صحبتم برهيز وبرهيز

مده خودرا فريب از رنك وبويم ... كه هست اني خنده من كريه آمين

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( يقول اللّه اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا ان شئتم فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون وان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها واقرأوا ان شئتم وظل ممدود ولموضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما عليها واقرأوا ان شئتم فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وما الحيوة الدنيا الا متاع الغرور )

بناز ونعمت دنيا منه دل ... كه دل برادشتن كاريست مشكل

فمن اتى بالطاعات واجتنب عن السيآت واعرض عن الدنيا ولذاتها فاز بالجنة ودرجاتها ومن عكس الامر عوقب بالحرمان فى دركات النيران روى ان جبريل عليه السلام جاء النبى صلى اللّه عليه وسلم متغير اللون فسأله النبى صلى اللّه عليه وسلم عن تغير لونه فقال جئتك وقد امر اللّه ان ينفخ فى نار جهنم فقال عليه السلام صف لى جهنم فقال لما خلق اللّه جهنم اوقد عليها الف سنة حتى احمرت ثم اوقد عليها الف سنة حتى اصفرت ثم اوقد عليها الف سنة حتى اسودت والذى بعثك بالحق نبيا لو ان جمرة منها وقعت لاحترقت اهل الدنيا ولو ان ثوبا من اثوابها علق بين السماء والارض لماتوا من نتن رائحته لها سبعة ابواب بعضها اسفل من بعض فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم من سكان هذه الابواب فقال الباب الاول فيه المنافقون واسمه الهاوية والباب الثانى فيه المشركون واسمه الجحيم والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سقر والباب الرابع فيه ابليس واتباعه والمجوس واسمه لظى والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحطمة والباب السادس فيه النصارى واسمه السعير والباب السابع فيه عصاة موحدين واسمه النار يدخلونها ثلاثة ايام فاخبر سلمان حال النبى عليه السلام لفاطمة فسألت النبى فاخبرها النبى عليه السلام فقالت فاطمة رضى اللّه عنها كيف يدخلونها فقال صلى اللّه عليه وسلم اما الرجال فباللحى

واما النساء فبالذوائب ثم انهم يخرجون من النار بشفاعة النبى عليه السلام فتبين ان من زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز وانزل اللّه على بعض انبيائه يا ابن آدم تشترى النار بثمن قال ولا تشترى الجنة بثمن رخيص قيل فى معناه ان فاسقا يتخذ ضيافة للفساق بمائة درهم او مائتين فيشترى النار ولو اتخذ ضيافة للفقراء بدرهم او درهمين يكون ثمن الجنة

غم وشادمانى نماند وليك ... جزاى عمل ماند ونام نيك

كرم باى دارد نه ديهيم وتخت ... بده كز تو اين ماند اى نيكبخت

مكن تكيه برملك وجاه وحشم ... كه بيش ازتو بودست وبعد ازتوهم

واعلم ان البعد عن النار ودخول الجنة بالاجتناب عن المعاصى والمسارعة الى الطاعة وذلك بالهرب عن مقام النفس والدخول فى مقام القلب فان من دخل حرم القلب كان آمنا كما قال تعالى

{ ومن دخله كان آمنا } فمن وصل الى ذلك الحرم فقد خلص من انواع الألم فهو جنة عاجلة

قال بعضهم للعارف جنة عاجلة وهى جنة المعرفة

ثم ان اعظم اسباب دخول الجنة كلمة الاخلاص والتوحيد وفقنا اللّه واياكم

ثم اعلم ان النفوس على ثلاثة اقسام. قسم منها يموت ولا حشر له للبقاء كسائر الحيوانات. وقسم يموت فى الدنيا ويحشر فى الآخرة كنفوس الانسان والملائكة والجن والشاطين. وقسم منها يموت فى الدنيا ويحشر فى الدنيا والآخرة جميعا وهى نفوس خواص الانسان كما قال عليه الصلاة والسلام ( المؤمن حى فى الدارين )

على ان لها موتا معنويا فى الدنيا كما اشار اليه عليه السلام بقوله ( موتوا قبل ان تموتوا ) وهو الفناء فى اللّه باللّه للّه ولها حياة معنوية فى الدنيا كما قال تعالى

{ أومن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس } وهو البقاء بنور اللّه ففى قوله

{ كل نفس ذائقة الموت } اشارة الى ان كل نفس مستعدة للفناء فى اللّه فلا بد لها من موت فمن كان موته بالاسباب تكون حياته بالاسباب ومن كان فناؤه فى اللّه يكون بقاؤه باللّه

{ وانما توفون اجوركم } على قدر تقواكم وفجوركم

{ فمن زحزح عن النار } اى عن نار القطيعة واخرج من جحيم الطبيعة على قدمى الشريعة والطريقة

{ وادخل الجنة } الحقيقية

{ فقد فاز فوزا عظيما وما الحيوة الدنيا } ونعيمها

{ الا متاع الغرور } اى متاع يغتر به المغرور والممكور

١٨٦

{ لتبلون } اصل الابتلاء الاختبار اى تطلب الخبرة بحاله المختبر بتعريضه لامر يشق عليه غالبا ملابسة او مفارقة وذلك انما يتصور ممن لا وقوف له على عواقب الامور

واما من جهة العليم الخبير فلا يكون الا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار احد الامرين او الامور قبل ان يرتب عليه شيأ هو من مباديه العادية. والجملة جواب قسم محذوف اى واللّه لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والاعمال الحنسة

{ فى اموالكم } بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية الى الهلاك

{ وانفسكم } بالقتل والاسر والجراح وما يرد عليها من اصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك

{ ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } اى من قبل ايتئاكم القرآن وهم اليهود والنصارى

{ ومن الذين اشركوا } من العرب كأبى جهل والوليد وابى سفيان وغيرهم

{ اذى كثيرا } من الطعن فى الدين الحنيف والقدح فى احكام الشرع الشريف وصد من اراد ان يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف واصحابه من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحو ذلك مما لا خير فيه اخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا انفسهم على الصبر والاحتمال على المكروه ويستعدوا للقائها فان هجوم الاوجال مما يزلزل اقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب

{ وان تصبروا } على تلك الشدائد والبلوى عند ووردها وتقابلوها بحسن التقابل

{ وتتقوا } اى تتبتلوا الى اللّه تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه

{ فان ذلك } يعنى الصبر والتقوى

{ من عزم الامور } من معزوماتها التى تنافس فيها المتنافسون اى مما يجب ان يعزم عليه كل احد لما فيه من كمال المزية والشرف او مما عزم اللّه تعالى عليه وامر به وبالغ فيه يعنى ان ذلك عزمة من عزمات اللّه لا بد ان تصبروا وتتقوا

واعلم ان مقابلة الاساءة تفضى الى ازدياد الاساءة فامر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا وامر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة فالآية جامعة لآداب الدنيا والآخرة

فعلى العاقل ان يتخلق باخلاق الانبياء والاولياء ويتأدب بآدابهم فانهم كانوا يصبرون على الاذى ولا يقابلون السفيه بمثل مقابلته واذا مروا باللغو مروا كراما

بدى را بدى سهل باشد جزا ... كر مردى احسن الى من اساء

وقد مدح اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بقوله

{ وانك لعلى خلق عظيم } قالت عائشة رضى اللّه عنها كان خلق النبيى صلى اللّه عليه وسلم القرآن يعنى تأدب بآداب القرآن قيل مدار عظم الخلق بذل المعروف وكف الأذى اى احتماله ورسول اللّه عليه الصلاة والسلام كان موصوفا بها وقد انزل اللّه فى معروفه

{ ولا تبسطها كل البسط } وتحمل الاذى انما يكون بصبر قوى وهو عليه السلام كان صبورا لتحمل الاذى اكثر من ان يحصى قال عليه السلام ( صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن الى من اساء اليك ) وما امر عليه السلام غيره بها الا بعد ان تخلق بها وامته لا بد ان تتبعه فى تحمل الاذى وغيرها لا تسمع بدون الحجة القوية والابتلاآت التى ترد من طرف الحق كلها لتصفية النفس وتوجيهها من الخلق الى الخالق ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( ما اوذى نبى مثل ما اوذيت ) كأنه قال ما صفى نبى مثل ما صفيت

وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادع اللّه على المشركين فقال ( انما بعثت رحمة ولم ابعث عذابا ) فالابتلاء رحمة ونعمة : قال جلال الدين قدس سره

درد بشتمداد حق تامن زخواب ... بر جهم در نيم شب باسوز وتاب

تانخسبم جمله شب جون كاوميش ... دردها بخشيد حق از لطف خويش

والاشارة فى الآية

{ لتبلون فى اموالكم وانفسكم } بالجهاد الاصغر هل تجاهدون بها وتنفقونها فى سبيل اللّه وبالجهاد الاكبر اما الاموال فهل تؤثرون على انفسكم ولو كان بكم خصاصة

واما الانفس فهل تجاهدون فى اللّه حق جهاده اولا

{ ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } يعنى اهل العلم الظاهر

{ ومن الذين اشركوا } اى اهل الرياء من القراء والزهاد

{ اذى كثيرا } بالغيبة والملامة والانكار والاعتراض

{ وان تصبروا } على جهاد النفس وبذل المال واذية الخلق

{ وتتقوا } باللّه عما سواه

{ فان ذلك من عزم الامور } الذى هو من امور اولى العزم كما قال

{ فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل } ومن لم يحافظ على هذه الامور كان من المدعين

مشكل آيد خلق را تغيير خلق ... آنكه بالذات است كى زائل شود

اصل طبع است وهمه اخلاق فرع ... فرع لابد اصل را مائل شود

فظهر ان من لم يهد اللّه لا يهتدى الى مكارم الاخلاق وحسان الخصال وسنيات الاحوال

١٨٧

{ واذ اخذ اللّه } اى اذكر يا محمد وقت اخذه تعالى

{ ميثاق الذين اوتوا الكتاب } وهم علماء اليهود والنصارى وذلك اخذ على لسان الانبياء عليهم السلام

{ لتبيننه } حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب قسم ينبئ عنه اخذ الميثاق كأنه قيل لهم باللّه لتبينه

{ للناس } وتظهرنّ جميع ما فيه من الاحكام والاخبار التى من جملتها امر نبوته صلى اللّه عليه وسلم وهو المقصود بالحكاية

{ ولا تكتمونه } عطف على الجواب وانما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا كما فى قولك واللّه لا يقوم زيد

{ فنبذوه } النبذ الرمى والابعاد اى طرحوا ما اخذ منهم من الميثاق الموثوق بفنون التأكيد والقوه

{ وراء ظهورهم } ولم يراعوه ولم يلتفتوا اليه اصلا فان نبذ الشىء وراء الظهر مثل فى الاستهانة به والاعراض عنه بالكلية كما ان جعله نصب العين علم فى كمال العناية

{ واشتروا به } اى بالكتاب الذى امروا ببيانه ونهوا عن كتمانه والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموا اى تركوا ما امروا به واخذوا بدله

{ ثمنا قليلا } اى شيأ تافها حقيرا من حطام الدنيا واعراضها وهو ما تناولوه من سفلتهم فلما كرهوا ان يؤمنوا فينقطع ذلك عنهم كتموا ما علموا من ذلك وامروهم ان يكذبوه

{ فبئس ما يشترون } ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفة والمخصوص بالذم محذوف اى بئس شيأ يشترونه ذلك الثمن وظاهر الآية وان دل على نزولها فى حق اليهود والنصارى الذين كانوا يخفون الحق ليتوسلوا بذلك الى وجدان شىء من الدنيا الا ان حكمهما يعم من كتم من المسلمين احكام القرآن الذى هو اشرف الكتب وانهم اشراف اهل الكتاب

قال صاحب الكشاف وكفى به دليلا على انه مأخوذ على العلماء ان يبينوا الحق للناس وما علموه وان لا يكتموا منه شيأ لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم او لجر منفعة من حطام الدنيا لنفسه مما لا دليل عليه ولا امارة أو لبخل بالعلم وغيرة ان ينسب الى غيرهم انتهى بعبارته فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيأ من هذه الامور دخل تحت وعيد الآية كذا فى تفسير الامام

فعلى المرء ان يحسن نيته حال الاضمار والاظهار ويطهر سريرته من لوث الاعراض والاوزار والانكار

زيان مى كند مرد تفسير دان ... كه علم وادب ميفروشد بنان

بدين اى رومايه دنى مخر ... جوخر بانجيل عيسى مخر

يعنى لا تشتر بالعلم والقرآن ما تربى به نفسك من شهواتك ولا تخف من الخلق فى اظهار الاحكام واصدع بما امرت به حكى ان الحجاج ارسل الى الحسن وقال ما الذى بلغنى عنك فقال ما كل الذى بلغك قلته ولا كل ما قلته بلغك قال انت الذى قلت ان النفاق كان مقموعا فاصبح قد تعمم وتقلد سيفا فقال نعم فقال وما الذى حملك على هذا ونحن نكرهه قال لان اللّه اخذ ميثاق الذين اوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه

قال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبرا فوعاه قال صلى اللّه عليه وسلم ( من كتم علما على اهله الجم بلجام من نار )

قال الفضيل رحمه اللّه لو ان اهل العلم اكرموا انفسهم وشحوا على دينهم واعزوا العلم وصانوه وانزلوه حيث انزله اللّه لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعا وعز الاسلام واهله ولكنهم اذلوا انفسهم ولم يسألوا ما نقص من دينهم اذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك مما فى ايدى الناس فذلوا وهانوا على الناس

وعن الفضيل ايضا قال بلغنى ان الفسقة من العلماء ومن حملة القرآن يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الاصنام فيقولون ربنا ما بالنا فيقول اللّه ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فى خسران مبين ولا يخفى ان مداره على حب الدنيا ساقنا اللّه واياكم الى طريق القناعة حكى ان ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على ابوابهم يقتاتون بنبات الارض ويشتغلون بالطاعة فارسل ذو القرنين الى رئيسهم فقال مالى حاجة الى صحبة ذى القرنين فجاء ذو القرنين فقال ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم قال ليس للدنيا طالب عندنا لانها لا تشبع احدا فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم اخذ قخف انسان وقال هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه اللّه تعالى وبقى عليه السيآت ثم اخرج آخر وقال هذا ايضا رأس ملك عادل مشفق فقبضه واسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذى القرنين وقال اى الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين وقال ان رغبت فى صحبتى شاطرتك مملكتى وسلمت اليك وزارتى فقال هيهات فقال ذو القرنين ولم قال لان الناس اعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم احبابى بسبب القناعة

نيرزد عسل جان من زخم نيش ... قناعت نكوتر بدوشاب خويش

كدايى كه هر خاطرش بند نيست ... به ازباد شاهى كه خرسند نيست

اكربادشا هست اكر بينه دوز ... جو خفتند كردد شب هردوروز

١٨٨

{ لا تحسبن } يا محمد او الخطاب لكل احد ممن يصلح له

{ الذين يفرحوا بما اوتوا } اى بما فعلوا من التدليس وكتمان الحق

{ ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا } من الوفاء بالميثاق واظهار الحق والاخبار بالصدق

{ فلا تحسبنهم } تأكيد لقوله لا تحسبن والمفعول الثانى له قوله

{ بمفازة من العذاب } اى ملتبسين بنجاة منه

{ ولهم عذاب اليم } بكفرهم وتدليسهم

١٨٩

{ وللّه } اى خاصة

{ ملك السموات والارض } اى السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيف يشاء ويريد ايجادا واعداما احياء واماتة تعذيبا واثابة من غير ان يكون لغيره شائبة دخل فى شىء من ذلك بوجه من الوجوه وهو يملك امرهم ويعذبهم بما فعلوا لا يخرجون عن قبضة قدرته ولا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء

{ واللّه على كل شىء قدير } فيقدر على عقابهم وكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر روى انه عليه السلام سأل اليهود عن شىء مما فى بالتوراة فاخبروه بخلاف ما كان فيه واروه انهم قد صدقوا وفرحوا بما فعلوا فنزلت

وقيل هم المنافقون كافة وهو الانسب بظاهر قوله تعالى

{ ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا } فانهم كانوا يفرحون بما فعلوه من اظهار الايمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون الى المسلمين بالايمان وهم عن فعله بالف منزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم فى الغاية القاصية من العداوة والاولى اجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتى بشىء من الحسنات فيفرح به فرح اعجاب ويود ان يمدحه الناس بما هو عار من الفضائل من يأتى بشىء من الحسنات فيفرح به فرع اعجاب ويود ان يمدحه بما هو عار من الفضائل وانواع البر وكون السبب خاصا لا يقدح فى عمومية حكم الآية

واعلم ان الفرح بمتاع الدنيا وحب مدح الناس من صفات ارباب النفس الامارة المغرورين بالحياة الدنيا وتمويهات الشيطان المحجوبين عن السعادات الاخروية والقربات المعنوية

قال الامام فى تفسيره وانت اذا انصفت عرفت ان احوال اكثر الخلق كذلك فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل فى تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان مطلوبهم ثم يحبون ان يحمدوا بانهم من اهل العفاف والصدق والدين

اى برادر ازتو بهتر هيج كس نشناسدت ... زانجه هستى يك سرمو خويش را افزون منه

كرفزون از قد رتو بشناسدت تابخردى ... قدر خود شناس وباى ازحد خود بيرون منه

فعلى العاقل ان لا يتعدى طوره ولا يفرح بما ليس فيه فانه لا يغنى عنه شيأ

قال بعض المشايخ الناس يمدحونك لما يظنون فيك من الخير والصلاح اعتبارا بما يظهر من ستر اللّه عليك فكن انت ذاما لنفسك لما تعلمه منها من القبائح والمؤمن اذا مدح استحيى من اللّه ان يثنى عليه بوصف لا يشهده من نفسه واجهل الناس من يترك اليقين ما عنده من صفات نفسه التى لا شك فيها لظن ما عند الناس من صلاحية حاله

قال الحارث بن المحاسبى رحمه اللّه الراضى بالمدح بالباطل كمن يهزأ به ويقال ان العذرة التى تخرج من جوفك لها رائحة كرائحة المسك ويفرح بذلك ويرضى بالسخرية

بحبل ستايش فراجه مشو ... جو حاتم اصم باش وعيبت شنو

يعنى لا تغتر بالمدح حتى لا تقع فى بئر الهلاك وكن كالشيخ حاتم الاصم صورة فان الخلق اذا ظنوك يتكلمون فى حقك ما لا ترضى به من القول لو سمعت فأذن تسمع عيوبك منهم وفى ذلك فائدة عظيمة لك لان المرء اذا عرف عيبه يجتهد فى قمعه والتحلى بالاوصاف الجميلة والعارف هو الذى يستوى قلبه فى المدح والذم لا ينقبض من الذم ولا ينبسط من المدح وكيف ينبسط بما يتحقق به مما يقوله الخلق من هو اعرف بحال نفسه وان انبسط فهو المغرور والمدعى هو الذى يرى نفسه صادقا فى الاحوال والمعاملات وكل الحالات كأنه لا يتعرض لشىء من الدنيا اصلا وحاله شاهدة عليه فى هذا الباب فان المرء له محك فى اقواله وافعاله واحواله قال عليه السلام ( انما مثل صاحب الدنيا كمثل الماشى فى الماء ) هل يستطيع الذى يمشى فى الماء ان لا تبل قدماه فمن هذا يعرف جهالة الذين يزعمون انهم يخوضون فى نعيم الدنيا بابدانهم وقلوبهم عنها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة الشيطان بل هم لو اخرجوا مما هم فيه لكانوا اعظم المتفجعين بفراقها فكما ان المشى فى الماء يقتضى بللا لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضى علاقة وظلمة فى القلب بل علاقة القلب مع الدنيا تمنع حلاوة العبادة

قال الشيخ ابو عبد اللّه القرشى رحمه اللّه شكا بعض الناس لرجل من الصالحين انه لا يعمل البر ولا يجد حلاوته فى القلب فقال لان عندك ابنة ابليس فى قلبك وهى الدنيا ولا بد للاب ان يزور ابنته فى بيتها وهو قلبك ولا يؤثر دخوله الا فسادا قال اللّه تعالى [ يا داود ان كنت تحبنى فاخرج حب الدنيا من قلبك فان حبى وحبها لا يجتمعان فى قلب ابدا ]

وروى ان عيسى عليه السلام قال لاصحابه لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم قالوا ومن الموتى قال الراغبون فى الدنيا المحبون لها

برمرد هشيار دنيا خسست ... كه هرمدتى جاى ديكر كسست

منه برجهان دل كه بيكانه ايست ... جو مطرب كه هروزدر خانه ايست

نه لايق بود عشق بادلبرى ... كه هر بامدادش بود شو هرى

عصمنا اللّه واياكم

١٩٠

{ ان فى خلق السموات والارض } وذلك ان اهل مكة سألوا رسول اللّه عليه الصلاة والسلام ان يأتيهم بآية لصحة دعواهم لانه كان يدعوهم الى عبادة اللّه وحده فنزل

{ ان فى خلق السموات والارض } خلقين عظيمين ويقال فيما خلق اللّه فى السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق اللّه فى الارض من الجبال والبحار والاشجار والوحوش والطيور

{ واختلاف الليل والنهار } يعنى ذهاب الليل ومجيئ النهار ويقال فى اختلاف لونيهما او فى تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة الينا قربا وبعدا بحسب الازمنة

{ لآيات لاولى الالباب } لعبرات كثيرة لذوى العقل الخالص من شوائب الاوهام والخيالات. واللب خالص العقل فان العقل له ظاهر وله لب ففى اول الامر يكون عقلا وفى حال كماله ونهاية امره يكون لبا

١٩١

{ الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبهم } نعت لاولى الالباب اى يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين فان الانسان لا يخلو عن هذه الهيآت غالبا

{ ويتفكرون فى خلق السموات والارض } يعنى يعتبرون فى خلقهما. وانما خصص التفكر بالخلق لقوله عليه السلام ( تفكروا فى الخلق ولا تتفكروا فى الخالق ) وانما نهى عن التفكر فى الخالق لان معرفة حقيقته المخصوصة غير ممكنة للبشر فلا فائدة لهم فى التفكر فى ذات الخالق. ولما كان الانسان مركبا من النفس والبدن كانت العبودية بحسب النفس وبحسب البدن فاشار الى عبودية البدن بقوله

{ الذين يذكرون اللّه } الخ فان ذلك لا يتم الا باستعمال الجوارح والاعضاء واشار الى عبودية القلب والروح بقوله { ويتفكرون فى خلق السموات والارض }

وعن عطاء بن ابى رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد اللّه بن عمر على عائشة رضى اللّه عنها فسلمت عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبيد اللّه بن عمر فقالت مرحبا بك يا عبيد اللّه بن عمر مالك لا تزورنا فقال عبيد اللّه زر غبا تزدد حبا قال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا باعجب ما رأيت من رسول اللّه عليه السلام فبكت بكاء شديدا فقالت كل امره عجيب اتانى فى ليلتى فدخل فى فراشى حتى الصق جلده بجلدى فقال ( يا عائشة أتأذنين لى ان اتعبد لربى ) فقلت واللّه انى لاحب قربك وهواك قد اذنت لك فقام الى قربة من ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى بلغ الدموع حقويه حتى اتكأ على شقه الايمن ووضع يده اليمنى تحت خده الايمن فبكى حتى ادرّت الدموع وبلغت الارض ثم اتاه بلال بعدما اذن للفجر فلما رآه يبكى قال لم تبكى يا رسول اللّه وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال ( يا بلال أفلا اكون عبدا شكورا ومالى لا ابكى وقد انزلت على الليلة ان فى خلق السموات والارض الى قوله فقنا عذاب النار ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) وفى الحديث ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة )

وفى التفضيل وجهان. احدهما ان التفكر يوصلك الى اللّه والعبادة توصلك الى ثواب اللّه والذى يوصلك الى اللّه خير مما يوصلك الى غير اللّه. والثانى ان التفكر عمل القلب والطاعة عمل الجوارح والقلب اشرف من الجوارح فكان عمل القلب اشرف من عمل الجوارح

ثم شرع فى تعليم الدعاء تنبيها على ان الدعاء انما يجدى ويستحق الاجابة اذا كان بعد تقديم الوسيلة وهى اقامة وظائف العبودية من الذكر والفكر فقال

{ ربنا } يعنى يتفكرون ويقولون ربنا { ما خلقت هذا }

اى السموات والارض وتذكير الضمير لما انهما باعتبار تعلق الخلق بهما فى معنى المخلوق

{ باطلا } اى خلقا باطلا عبثا ضائعا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه اوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها ان يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم الى معرفة احوال المبدأ والمعاد حسبما افصحت عنه الرسل والكتب الآلهية

{ سبحانك } اى ننزهك عما لا يليق بك من الامور التى من جملتها خلق ما لا حكمة فيه

{ فقنا عذاب النار } اى من عذاب النار الذى هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك وفائدة الفاء هى الدلالة على ان علمهم بما لاجله خلقت السموات والارض حملهم على الاستعاذة

وفيه اشارة الى عظم ذكر اللّه واشارة الى ثلاث مراتب. اولاها الذكر باللسان وثانيتها التفكر بالقلب. وثالثتها المعرفة بالروح لان ذكر اللسان يوصل صاحبه الى ذكر القلب فهو التفكر فى قدرة اللّه وذكر القلب يوصل الى مقام الروح فيعرف فى ذلك حقائق الاشياء ويشاهد الحكم الآلهية فى خلق اللّه فيقول بعد المشاهدة

{ ربنا ما خلقت هذا باطلا } فينبغى للمؤمن ان يلازم ذكر اللّه بلسانه فى جميع الاحوال حتى يصل بسبب الذكر باللسان الى ذكر القلب ثم الى ذكر الروح ويحصل له اليقين والمعرفة ويخلص من ظلمة الجهل ويتنور بنور المعرفة

قال بعضهم معنى لا اله الا اللّه للعوام لا معبود الا اللّه. ومعناها للخواص لا محبوب ولا مقصود الا اللّه. ومعناها لأخص الخواص لا موجود الا اللّه فانه يكون فى تلك الحالة مستهلكا فى بحر الشهود فلا يشعر بشىء سوى اللّه ولا يرى موجودا

وفى تفسير الحنفى منقول فى التوحيد اربع مراتب وهو ينقسم الى لب والى لب اللب والى قشر والى قشر القشر. وتمثيل ذلك تقريبا الى الافهام الضعيفة بالجوز فى قشرتيه العليا والسفلى فان له قشرتين وله لب وللب دهن وهو لب اللب. فالمرتبة الاولى من التوحيد ان يقول الانسان باللسان لا اله الا اللّه وقلبه غافل عنه او منكر له كتوحيد المنافق. والثانية ان يصدق بمعناه قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد. والثالثة ان يشاهد ذلك بواسطة نور آلهى وذلك ان يرى الاشياء صادرة من الواحد القهار. والرابعة انه لا يرى فى الوجود الا وجودا وهو مشاهدة الصديقين وهو الفناء فى التوحيد بمعنى انه فنى عن رؤية نفسه. فالاول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه فى الدنيا من السيف والسنان. والثانى موحد بمعنى انه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال من التكذيب بما انعقد عليه قلبه وهو عقد على القلب ليس فيه انشراح وانفتاح ولكنها تحفظ صاحبها من العذاب فى الآخرة ان توفى عليها ولم يضعف بالمعاصى عقدتها ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة.

والثالث موحد بمعنى انه لم يشاهد الا فاعلا واحدا اذا انكشف له لا فاعل بالحقيقة كما هى عليه لانه كلف قلبه ان يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فان ذلك رتبة العوام والمتكلمين اذ لا فرق بينهما فى الغاية القصوى فى التوحيد. فالاول كالقشرة العليا من الجوز. والثانى كالقشرة السفلى. والثالث كاللب. والرابع كالدهن المستخرج من اللب وكما ان القشرة العليا لا خير فيها بل ان اكل فهو مر المذاق وان نظر الى باطنه فهو كريه المنظر وان اخذ حطبا اطفأ النار واكثر الدخان وان ترك فى البيت ضيق المكان ولا يصلح الا ان يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى فكذلك التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن لكنه ينفع مدة فى حفظ القشرة السفلى الى وقت الموت والقشرة السفلى هى البدن فيصون من السيف وانما يتجرد عند الموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده وكما ان القشرة السفلى ظاهرة النفع بالاضافة الى القشرة العليا فانه يصون اللب ويحرسه من الفساد عند الادخار واذا فصل امكن ان ينتفع به حطبا لكونه لا قدر له بالنسبة الى اللب فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالاضافة الى مجرد نطق اللسان ناقص القدر بالاضافة الى الكشف والمجاهدة التى تحصل بانشراح الصدر وانفتاحه واشراق نور الحق فيه اذ ذلك الشرح

{ فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره للاسلام } وكما ان اللب نفيس بالاضافة الى القشرة لانه المقصود لكن لا يخلو عن شوب بالنسبة الى الدهن كذلك هذا التوحيد لا يخلو عن ملاحظة الغير والالتفات الى الكثرة بالاضافة الى من لم ير سوى الواحد الحق انتهى ما فى الحنفى

واعلم ان الآية تدل على جواز ذكر اللّه تعالى قائما ولهذا قال المشايخ ولا بأس ان يقوموا ترويحا لقلوبهم ولا يتحركوا فى ذلك ولا يستظهروا بحال ليس عندهم منه حقيقة

والحاصل ان التوحيد اذا قرن بالآداب فليس له وضع مخصوص يجوز قائما وقاعدا ومضطجعا ولكن ورد فى الاحاديث ما يدل على استحباب الاخفاء فى ذكر اللّه وذكر شارح الكشاف ان هذا بحسب المقام والشيخ المرشد يأمر المبد برفع الصوت لتنقلع عن قلبه الخواطر الراسخة فيه كذا فى شرح المشارق ويوافقه ما ذكر فى المظهر حيث قال الذكر برفع الصوت جائز بل مستحب اذا لم يكن عن رياء ليغتنم الناس باظهار الدين ووصول بركة الذكر الى السامعين فى الدور والبيوت والحوانيت ويوافق الذاكر من سمع صوته ويشهد له يوم القيامة كل رطب ويابس سمع صوته وبعض المشايخ اختار الاخفاء لانه ابعد عن الرياء وهذا يتعلق بالنية فمن كانت نيته صادقة فرفع صوته بقراءة القرآن والذكر اولى لما ذكرنا ومن خاف من نفسه الرياء فالاولى له اخفاء الذكر لئلا يقع فى الرياء انتهى قيل اذا كان وحده فان كان من الخواص فالاخفاء فى حقه اولى وان كان من العوام فالجهر فى حقه اولى واذا كانوا مجتمعين على الذكر فالاولى فى حقهم رفع الصوت بالذكر والقوة فانه اكثر تأثيرا فى رفع الحجب ومن حيث الثواب فلكل واحد ثواب ذكر نفسه وسماع ذكر رفقائه قال اللّه تعالى

{ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة او اشد قسوة } شبه القلوب بالحجارة ومعلوم ان الحجر لا ينكسر الا بقوة فقوة ذكر جماعة مجتمعين على قلب واحد اشد من قوة ذكر شخص واحد كذا فى ذخرة العابدين : قال حسين الواعظ الملقب بالكاشفى

كفت وكوى عاشقان دركار رب ... جوشس عشقست نه ترك ادب

هركه كرد ازجام حق يك جرعه نوش ... نه ادب ماند درو نه عقل و هوش

والمقصود ان السالك اذا سلب اختياره عند التوحيد بغلبة الوجد فلا دخل لشىء من اوضاعه وحركاته فانه اذا ليس فى يده فلا يرد ما قيل

كار نادان كوته انديشست ... ياد كردن كسى كه دبيشست

فان الجهر وحركات الموحد بالنسبة الى مقامه وحاله ممدوحة جدا

واما المتصلفون المتكلفون فحركاتهم وافعالهم من عند انفسهم وقد نهى المشايخ فى كتبهم عن امثال هؤلاء وافعالهم واقوالهم

فعلى العاقل ان يراعى الآداب والاطوار ولا ينفك لحظة عن ذكر الملك الغفار

١٩٢

{ ربنا انك من تدخل النار فقد اخزيته } غاية الاخزاء ونظيره قولهم ( من ادرك مرعى الصمان فقد ادرك ) اى المرعى الذى لا مرعى بعده والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه وفيه اشعار بان العذاب الروحانى افظع

{ وما للظالمين من انصار } اراد بهم المدخلين وجمع الانصار بالنظر الى جمع الظالمين اى وما لظالم من الظالمين نصير من الانصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس فى الآية دلالة على نفى الشفاعة لانها هى الدفع بطريق اللين والمسألة فنفى النصرة لا يستلزم نفى الشفاعة

١٩٣

{ ربنا اننا سمعنا مناديا ينادى للايمان } اوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه والمراد به الرسول عليه السلام فانه ينادى ويدعو الى الايمان حقيقة قال تعالى

{ ادع الى سبيل ربك } { ان آمنوا } اى آمنوا على انّ ان تفسيرية او بان آمنوا على انها مصدرية

{ بربكم } بمالككم ومتولى اموركم ومبلغكم الى الكمال

{ فآمنا } اى فامتثلنا بامره واجبنا نداءه

{ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } اى كبائرنا فان الايمان يجب ما قبله

{ وكفر عنا سيآتنا } اى صغائرنا فانها مكفرة عن مجتنب الكبائر

{ وتوفنا } اى اقبض ارواحنا

{ مع الابرار } اى مخصوصين بصحبتهم مغتنمين بجوارهم معدودين من زمرتهم فالمراد من المعية ليس المعية الزمانية لان ذلك محال ضرورة ان توفيهم انما هو على سبيل التعاقب بل المراد المعية فى الاتصاف بصفة الابرار حال التوفى

وفيه اشعار بانهم كانوا يحبون لقاء اللّه ومن احب لقاء اللّه احب اللّه لقاءه فمن جعل اللّه ممن آمن بداعى الايمان فقد اكرمه مع اوليائه فى الجنان فطوبى للذين يستمعون القول فيتبعون احسنه وطوبى لمن اتعظ بالموعظة الحسنة : قال الحافظ

نصيحت كوش كن جانا كه ازجان دوست تردارند ... جوانان سعاد تمند بند بيردانارا

قال الشيخ السعدى

بكوى آنجه دانى سخن سود مند ... وكر هيج كس را نيايد بسند

كه فردا بشيمان بر آرد خروش ... كه اوخ جراحق نكردم بكوش

قال ابو عامر الواعظ بينما انا جالس بمسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذ جاءنى غلام واعطانى رقعة فاذ فيها اسعدك اللّه يا اخى ابا عامر بلغنى قدومك واشتقت الى رؤيتك فذهبت مع الغلام فوصلنا الى بيت فى خربة له باب من جريد النخل واذا فيه شيخ مقعد مستقبل القبلة محزون من الخشية قد ذهبت عيناه من البكاء فسلمت عليه فرد على السلام فقال يا ابا عامر لم يزل قلبى الى استماع موعظتك مشتاقا وبى داء قد اعيى الواعظين علاجه فقلت ايها الشيخ ارم ببصر قلبك فى ملكوت السماء وتنقل بحقيقة ايمانك الى جنة المأوى تر ما اعد اللّه فيها للاولياء ثم انظر فى نار لظى تر ما اعد اللّه للاشقياء فشتان ما بين الدارين وليس الفريقان على السواء فلما سمع قولى انّ وصاح صيحة ثم قال واللّه لقد وقع دواؤك على الداء زدنى رحمك اللّه فقلت ان اللّه عالم بسريرتك فيطلع عليك عند استتارك ومبارزتك فلما سمع صاح صيحة اعظم من الاولى فخر ميتا فعند ذلك خرجت جارية عليها مدرعة وخمار من صوف قد ذهب السجود بجبهتها فقالت احسنت يا مداوى قلوب العارفين ان هذا الشيخ كان والدى وهو مبتلى بالسقم منذ عشرين سنة وكان يتمناك من اللّه ويقول حضرت مجلس ابى عامر فاحيى قلبى وطر عنى غفلتى وان سمعته ثانية قتلنى فجزاك اللّه خيرا ثم اكبت على والدها وجعلت تقبل بين عينيه وتبكى فقلت لها يا أيتها الباكية ان اباك نحبه قد مضى وورد دار الجزاء فان كان محسنا فله الزلفى فان كان مسيئا فوارد دار من اساء فصاحت ثم ماتت فبقيت حزينا عليهما فرأيتهما فى المنام فى احسن مقام عليهما حلتان خضراوتان فسألت عن حاليهما فقال الشيخ

انت شريكى فى الذى نلته ... فقم وشاهد يا ابا عامر

وكل من ايقظ ذا غفلة ... فنصف ما يعطاه للآمر

ثم قال قدمت على رب كريم غير غضبان فاسكننى الجنان وزوجنى من الحور الحسان فاحرص يا أبا عامر على كثرة الدعاء والاستغفار الى اللّه الملك الغفار وطلب المغفرة آناء الليل واطراف النهار من شيم الاخيار والابرار

واعلم ان من تنصح بكلمة فقد آمن بمنادى الحق على لسان عبده فنجا من نيرانه ووصل الى المغفرة والرحمة فى جنانه روى ان حدادا كان يمسك الحديد المحمى بيده فسئل عنه فقالت عشقت امرأة فراودتها وعرضت عليها مالا فقالت ان لى زوجا لا احتاج الى المال ثم مات زوجها فطلبت ان أتزوجها فامتنعت وقالت لا اريد اذلال اولادى ثم بعد زمان احتاجت فارسلت الى فقلت لا اعطيك شيأ حتى تعطينى مرادى فلما دخلت معها موضعا ارتعدت فقلت مالك فقالت اخاف اللّه السميع البصير فتركتها فقالت انجاك اللّه من النار فمن ذلك الوقت لا تحرقنى نار الدنيا وارجو من اللّه تعالى ان لا تحرقنى نار الآخرة فمن خشى الرحمن وذكر انه بمحضر من اللّه فهو لا يجترىء على الذنب والآثام فيسلم من عذاب النار ويتنعم فى دار السلام عن ابن عباس رضى اللّه عنهما عن النبى صلى اللّه عليه وسلم ( من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كل همّ فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب )

واما الدعاء فهو مخ العبادة وينفع فى الدنيا فيدفع الآفات

واما فى الآخرة فان اللّه يعطيه هدايا على ايدى الملائكة ويقول ان هذه فى مقابلة دعائك فى الدنيا

از آستان حضرت حق سرجراكشم ... دولت درين سرا وكشايش درين درست

قال الحافظ

هركه خواهد كوبيا وهرجه خواهد كوبكو ... كبروناز وحاجب ودربان درين دركاه نيست

حقق اللّه رجاءنا وقبل دعاءنا واعطانا ما هو خير لنا فى الدنيا والآخرة

١٩٤

{ ربنا وآتنا } اعطنا

{ ما وعدتنا على رسلك } على تصديق رسلك او على ألسنة رسلك من الثواب والكرامة

{ ولا تخزنا } لا تهنا

{ يوم القيمة } بان تعصمنا مما يقتضيه

{ انك لا تخلف الميعاد } اسم مصدر بمعنى الوعد وهذا الدعوات وما فى تضاعيفها من كمال الضراعة والابتهال ليست لخوفهم من اخلاف الميعاد بل لخوفهم ان لا يكونوا من جملة الموعودين لسوء عاقبة او قصور فى الامتثال فمرجعها الى الدعاء بالتثبيت او للمبالغة فى التبعد والخشوع. ثم قوله

{ ولا تخزنا يوم القيمة } شبيه بقوله

{ وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون } فانه ربما ظن الانسان انه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم انه يوم القيامة يظهر له ان اعتقاده كان ضالا وعمله كان ذنبا فهناك تحصل الحجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد وذلك هو العذاب الروحانى وهو اشد من العذاب الجسمانى ومما يدل على هذا انه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين انهم طلبوا فى هذه الانواع الخمسة من الدعاء اشياء فاول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسمانى وهو قوله

{ فقنا عذاب النار } وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحانى وهو قوله

{ ولا تخزنا يوم القيمة } ذلك يدل على ما قلنا ولذلك قالوا الفرقة اشد من الحرقة : قال مولانا جلال الدين رومى قدس سره

جور دوران وهر آن رنجى كه هست ... سهلتز از بعد حق وغفلتست

كر جهاد وصوم سختست وخشن ... ليك اين بهتر زبعد اى ممتحن

فليسارع المؤمن الى الطاعات ليدخل فى زمرة من وعد اللّه لهم من الكرامات

عن جابر رضى اللّه عنه كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ( ألا احدثكم بغرف الجنة ) قلنا بلى يا رسول اللّه قال ( ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها وفيها من النعيم واللذات ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ) قلت يا رسول اللّه لمن هذه الغرف قال ( لمن افشى السلام واطعم الطعام وادام الصيام وصلى بالليل والناس نيام )

وعن ابى بكر الوراق رحمه اللّه طلبنا اربعة فوجدناها فى اربعة. وجدنا رضى اللّه فى طاعته. وسعة الرزق فى صلاة الضحى. وسلامة الدين فى حفظ اللسان. ونور القبر فى صلاة الليل. وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه ان الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال ( آخر من يدخل الجنة رجل يمشى مرة ويسقط اخرى وتأخذه النار فاذا جاوزها التفت اليها ويقول سبحان من نجانى منك قد اعطانى شيأ ما اعطاه لأحد من الاولين والآخرين فيرفع له شجرة عظيمة الظل فيشتاق الى ظلها فيقول اى رب ادننى منها ولا اسألك غيرها فيدنيه منها ويشرب من مائها ثم يرفع له شجرة اعظم من الاولى فيقول اى رب ادننى منها ويعاهد ان لا يسأل غيرها فيدنيه منها فيرفع له شجرة اعظم مما تقدم فيسأله ان يدنيه فاذا ادنى سمع اصوات اهل الجنة ويقول اى رب لو أوصلتها لا اسألك فيقول اللّه يا ابن آدم ما اغدرك كم تعاهد وتكذب أترضى ان اعطيك مثل الدنيا ومثلها فيقول أتستهزئ بى وانت رب العالمين ) ثم ضحك ابن مسعود فقالوا مم تضحك فقال هكذا ضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا مم ضحك رسول اللّه قال من ضحك رب العالمين

( فيقول اللّه لا استهزئ ولكنى على ما اشاء قدر ) حكى ان عجوزا كافرة كانت تطعم الطير ذرة فى ايام الشتاء فرآها ذو النون المصرى فقال ان اللّه تعالى لا يقبل من عدو ثم رآها فى الكعبة قد اسلمت فقالت يا ذا النون انه اعطانى الاسلام بما رأيته

بى كرم آدمى نه از بشرست ... از شجر بلكه از حجر بترست

شجرى كان نمى دهد ثمرى ... معتبر نيست لائق تبراست

عصمنا اللّه تعالى واياكم من النار وادخلنا الجنة مع الاسخياء والابرار

١٩٥

{ فاستجاب لهم ربهم } الى طلبتهم وهو اخص من اجاب فان اجاب معناه اعطاه الجواب وهو قد يكون بتحصيل المطلوب وبدونه واستجاب انما يقال لتحصيل المطلوب ويعدى بنفسه وباللام

{ انى } اى بانى

{ لا اضيع عمل عامل منكم } وهو ما حكى عنهم من المواظبة على ذكر اللّه تعالى فى جميع حالاتهم والتفكر فى مصنوعاته استدلالا واعتبارا والثناء على اللّه بالاعتراف بربوبيته وتنزيهه عن العبث وخلق الباطل والاشتغال بالدعاء وجعل هذه الاعمال سببا للاستجابة يدل على ان استجابة الدعاء مشروطة بهذه الشروط وبهذه الامور فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا لا جرم كان الشخص الذى يكون مجاب الدعاء عزيزا

{ من ذكر او انثى } بيان لعامل وتأكيد لعمومه وهذا يدل على انه لا تفاوت فى الاجابة وفى الثواب بين الذكر والانثى اذا كانا جميعا فى التمسك بالطاعة على التوبة والفضل فى باب الدين بالاعمال لا بسائر صفات العالمين لان كون بعضهم ذكرا او انثى او من نسب خسيس او شريف لا تأثير له فى هذا الباب

{ بعضكم من بعض } لان الذكر من الانثى والانثى من الذكر

قال الامام فيه وجوه احسنها ان يقال من بمعنى الكفا اى بعضكم كبعض فى الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية

قال القفال هذا من قولهم فلان منى اى على خلقى وسيرتى وهى معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال روت ام سلمة قالت يا رسول اللّه انى اسمع اللّه يذكر لارجال فى الهجرة ولا يذكر النساء فنزل قوله تعالى

{ انى لا اضيع } الى آخره اى كما ان بعضكم من بعض كذلك انتم فى ثواب العمل تثاب المرأة المعاملة كما يثاب الرجل العامل وبالعكس فلا اثيب بعضا واحرم آخر

{ فالذين هاجروا } تفصيل لاعمال العمال منهم وما اعد لهم من الثواب على المدح والتعظيم كأنه قال فالذين عملوا هذه الاعمال السنية الفائقة وهى المهاجرة من مبتدأ او طانهم فارّين الى اللّه بدينهم من دار الفتنة

{ واخرجوا من ديارهم } اى اضطروا الى الخروج من ديارهم التى ولدوا فيها ونشأوا بايذاء المشركين

قال الامام المراد من قوله

{ الذين هاجروا } الذين اختاروا المهاجرة من اوطانهم فى خدمة الرسول والمراد من الذين اخرجوا من ديارهم الذين الجأهم الكفار ولا شك ان رتبة الاولين افضل لانهم اختاروا خدمة الرسول وملازمته على الاختيار فكانوا افضل

{ واوذوا فى سبيلى } فى سبيل الحق ودين التوحيد بسبب ايمانهم باللّه ومن اجله وهو متناول لكل اذية نالتهم من قبل المشركين

{ وقاتلوا } اى الكفار فى سبيل اللّه

{ وقتلوا } استشهدوا فى القتال

{ لأكفرن عنهم سيآتهم } اى واللّه لأمحوّن عنهم سيآتهم

{ ولأدخلنهم جنات جرى من تحتها الانهار ثوابا } الثواب فى الاصل اسم لما يثاب به كالعطاء اسم لما يعطى الا انه قد يوضع موضع المصدر فهو مصدر مؤكد بمعنى اثابة لان تكفير السيآت وادخال الجنة فى معنى الاثابة اى لأثيبنهم بذلك اثابة

{ من عند اللّه } صفة له اى كائنة من عند اللّه قصد بتوصيفة به تعظيم شأنه فان السلطان العظيم الشان اذا قال لعبده ألبسك خلعة من عندى دل ذلك على كون تلك الخلعة فى غاية الشرف واكد كون ذلك الثواب فى غاية الشرف بقوله

{ واللّه عنده حسن الثواب } اى حسن الجزاء على الطاعات قادر عليه وهو نعيم الجنة الباقى لا كنعيم الدنيا الفانى

نعيم آخرت باقيست اى دل ... خنك آنكس كه باشد عبد مقبل

ولا يخفى ان هذا الجزاء العظيم والاجر الجسيم للذين جمعوا بين المهاجة والاخراج من الاوطان والتأذى فى سبيل اللّه والقتال والمقتولية

فعلى السالك ان يهاجر من وطن النفس والعمل السيىء والخلق الذميم ويخرج من ديار الطبيعة الى عالم الحقيقة حتى يدخل مقام العندية الخاصة فان ثمرات المجاهدات المشاهدات والعمل الصالح يستدل به على حسن العاقبة روى ان صفوان بن سليم كان يجتهد فى العبادة والقيام وكان يبيت على السطح فى ايام الشتاء لئلا يستريح من البرد وفى الصيف ينزل الى بيته ليعذب نفسه بحر الهوآء وكان عادته ذلك الى ان مات فى سجدته ووصل الى رحمة اللّه وجنته فهذا هو الاجتهاد فعليك به فان احتالت نفسك عليك فى ذلك فحدثها باخبار السلف واحوالهم وحكاياتهم كى ترغب فى الطاعة والاجتهاد فان فى ذلك نفعا كليا وتأثيرا عظيما : قال الفاضل الجامى قدس سره

هجوم نفس وهوا كزسباه شيطانند ... جو زور بردل مرد خدا برست آرد

بجز جنود حكايات رهنمايا خود ... جه تاب آنكه بران رهزنان شكست آرد

فان قالت النفس انهم كانوا رجالا اقويا كيف يدانى بهم فى الطاعة من خلفهم فحدثها باخبار النساء كيف كن اناثا ومع ذلك لم يتخلفن عن مجاهدات الرجال حتى وصلن الى ما وصلوا اليه كرابعة العدوية وغيرها :

قال بعضهم

ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال

فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للّهلال

قال الشيخ السعدى قدس سره

زنانى كى طاعت برغبت برند ... زمردان ن بارسا بكذرند

تراشرم نايد زمردىء خويش ... كه باشد زنانرا قبول ازتوبيش

قال الحسن البصرى رحمه اللّه يا عجبا لأقوام بلا زاد وقد نودوا بالرحيل وحبس اولهم لآخرهم وهم قعود يلعبون حكى ان ملك الموت دخل على بعض الصالحين ليقبض روحه فقال مرحبا انا واللّه منذ خمسين سنة أتأهب لك

ولما بلغ عبد اللّه بن المبارك النزع فتح عينه ثم ضحك فقال لمثل هذا فليعمل العاملون

قال بعض العلماء من اراد ان ينال الجنة فعليه ان يداوم على خمسة اشياء.

الاول ان يمنع نفسه من المعاصى قال اللّه تعالى

{ ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هى المأوى } والثانى ان يرضى باليسير من الدنيا لانه روى فى الخبر ( ان ثمن الجنة الطاعة وترك الدنيا ) والثالث ان يكون حريصا على الطاعات ويتعلق بكل طاعة فلعل تلك الطاعة تكون سبب المغفرة ووجوب الجنة قال اللّه تعالى

{ وتلك الجنة التى اورثتموها بما كنتم تعملون } والرابع ان يحب الصالحين واهل الخير ويخالطهم ويجالسهم فان الصالح اذا غفر له يشفع لاخوانه واصحابه. والخامس ان يكثر الدعاء ويسأل اللّه تعالى ان يرزقه ويختم له بخير والحاصل انه لا بد للعاقل من التأهب لمعاده بتزكية النفس واصلاح القلب

قال القاشانى فى تأويلاته

{ انى لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر } القلب من الاعمال القلبية كالاخلاص واليقين والمكاشفة

{ او انثى } النفس من الاعمال القالبية كالطاعات والمجاهدات والرياضيات

{ بعضكم من بعض } يجمعكم اصل واحد وحقيقة واحدة هى الروح اى بعضكم منشأ من بعد فلا اثيب بعضا واحرم آخر

{ فالذين هاجروا } من اوطان مألوفات النفس

{ واخرجوا من ديارهم } من ديار صفاتها او هاجروا من احوالهم التى التذوا بها واخرجوا من مقاماتهم التى يسكنون اليها

{ وأوذوا فى سبيلى } اى ابتلوا فى سلوك سبيل افعالى بالبلاء والمحن والشدائد والفتن ليتمرنوا بالصبر ويفوزوا بالتوكل او فى سلوك سبيل صفاتى بسطوات تجليات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا الى مقام الرضى

{ وقاتلوا } البقية بالجهاد فى

{ وقتلوا } فى الحب فى بالكلية

{ لأكفرن عنهم سيآتهم } كلها من صغائر ظهور افعالهم وصفاتهم وكبائر بقايا ذواتهم فى تلويثاتهم

{ ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الانهار } الجنات الثلاث المذكورة

{ ثوابا من عند اللّه } اى عوضا عما اخذت منهم من الوجودات الثلاثة

{ واللّه عنده حسن الثواب } ولا يكون عند غيره الثواب المطلق الذى لا ثواب وراءه ولهذا قال واللّه لانه اسم الذات الجامع لجميع الصفات فلم يحسن ان يقع غيره من الرحمن او الرحيم او سائر الاسماء موقعه

١٩٦

{ لا يغرنك } الخطاب للنبى عليه السلام لان العصمة لا تزيل النهى فانه لو زال النهى عنه بذلك لبطلت العصمة فان العصمة هى الحفظ من الخلاف واذا زال النهى لم يكن خلاف فلا تكون عصمة فالمراد تثبيته على ما هو عليه من عدم التفاته على الدنيا او الخطاب له والمراد امته كما يخاطب سيد القوم ومقدمهم والمراد به كلهم كأنه قيل لا يغرنكم

{ تقلب الذين كفروا فى البلاد } والنهى فى المعنى للمخاطب وانما جعل للتقلب تنزيلا للسبب وهو التقلب منزلة المسبب وهو اغترار المخاطب للمبالغة والمعنى لا تمدن عينيك ولا تستشرف نفسك الى ما هم عليه من سعة الرزق واصابة حظوظ الدنيا ولا تغتر بظاهر حالهم من التبسط فى الارض والتصرف فى البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون روى ان بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين فى رخاء ولين عيش فيقولون ان اعداء اللّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت

١٩٧

{ متاع قليل } اى ذلك التقلب متاع قليل لا قدر له فى جنب ما اعد اللّه للمؤمنين قال عليه السلام ( ما الدنيا فى الآخرة الا مثل ما يجعل احدكم اصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع ) فاذا لا يجدى وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه

{ ثم مأواهم } اى مصيرهم الذى يأوون اليه لا يبرحونه

{ جهنم } التى لا يوصف عذابها يعنى انه مع قلته سبب الوقوع فى نار جهنم ابد الآباد والنعمة القليلة اذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة

{ وبئس المهاد } اى بئس ما يمهدون لأنفسهم جهنم

١٩٨

{ لكن الذين اتقوا ربهم } اى خافوه فلم يخالفوا مره ولا نهيه

{ لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها } وجه الاستدراك انه تعالى لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم فى البلاد لاجل التجارة وجاز ان يتوهم متوهم ان قلة النفع من لوازم التقلب من حيث هو استدرك ان المتقين وان تقلبوا واصابوا ما اصابه الكفار او لم يصيبوا لهم مثوبات حسنى لا يقادر قدرها

{ نزلا من عند اللّه } حال من جنات لتخصصها بالوصف. والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما

{ وما عند اللّه } لكثرته ودوامه

{ خير للابرار } مما يتقلب فيه الفجار لقلته وسرعة زواله

وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه ما من نفس برة ولا فاجرة الا والموت خير لها ام البرة فان اللّه تعالى يقول

{ وما عند اللّه خير للابرار }

واما الفاجرة فانه يقول

{ انما نملى لهم ليزدادوا اثما } وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه جئت فاذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى مشربة وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شىء وتحت رأسه وسادة من ادم حشوها ليف وان عند رجليه قرظا مصبورا وعند رأسه اهب معلقة فرأيت اثر الحصير فى جنبه فبكيت فقال

{ ما يبكيك } فقلت يا رسول اللّه ان كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ( أما ترضى ان يكون لهما الدنيا ولنا الآخرة )

ازبى ذكر وشوق حق مارا ... دردو عالم دل وزبانى بس

وزطعام ولباس اهل جهان ... كهنه دلقى ونيم نانى بس

ومما وجد فى خزائن الاسكندر مكتوبا بالذهب الاحمر حركات الافلاك لا تبقى على احد نعمة فاذا اعطى العبد مالا او جاها او رفعة فلتكن همته فى انتهاز الفرصة وتقليد المنن اعناق الرجال فان الدنيا والجاه والرفعةتزول اما ندم طويل او مدح جزيل فاكرموا من له حسب فى الاصل او قدم فى المروءة ولا يغرنكم تقلب الزمان باهله فان للدهر عثرات يجبر كما يكسر ويكسر كما يجبر والامر الى اللّه تعالى : قال جلال الدين الرومى قدس سره

جند كويى من بكيرم عالمى ... اين جهانرا بركنم ازخود همى

كرجهان بريرف كرددسر بسر ... تاب خور بكدازدش ازيك نظر

وعن الحسن قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم على اصحابه فقال ( هل منكم من يريد ان يذهب اللّه عنه العمى ويجعله بصيرا. ألا انه من رغب فى الدنيا وطال امله فيها اعمى اللّه قلبه على قدر ذلك ومن زهد فى الدنيا وقصر امله اعطاه اللّه تعالى علما بغير تعلم وهدى بغير هداية. ألا انه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك الا بالقتل والتجبر ولا الغنى الا بالفخر والبخل ولا المحبة الا باتباع الهوى. ألا فمن ادرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك الا وجه اللّه تعالى اعطاه تعالى ثواب خمسين صديقا )

قال ابن عباس رضى اللّه عنهما يؤتى بالدنيا يوم القيامة فى صورة عجوز شمطاء زرقاء وانيابها بادية مشوهة خلقها وتشرف على الخلائق فيقال أتعرفون هذه فيقولون نعوذ باللّه من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التى تفاخرتم عليها بها تقاطعتم الارحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم تقذف فى جهنم فتنادى يا رب اين اتباعى واشياعى فيقول اللّه تعالى الحقوا بها اتباعها قال عليه السلام ( يحشر اقوام يوم القيامة واعمالهم كجبال تهامة ويؤمر بهم الى النار ) قالوا يا رسول اللّه مصلين قال ( نعم كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل فاذاعرض لهم شىء من الدنيا وثبوا عليه ) قالت عائشة رضى اللّه عنها قلت يا رسول اللّه ألا تستطعم اللّه فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع وشد الجر على بطنه من السغب فقال ( يا عائشة والذى نفسى بيده لو سألت ربى ان يجرى معى جبال الدنيا ذهبا لاجراها حيث شئت من الارض ولكنى اخترت جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة ان الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد ) وروى انه عليه السلام عرض عليه عشار من النوق وهى الحوامل منها فاعرض عنها وغض بصره مع انها من احب الاموال اليهم وانفسها عندهم لانها كانت تجمع الظهر واللحم واللبن ولعظمتها فى قلوبهم قال اللّه عز وجل

{ واذا العشار عطلت } فلما لم يلتفت اليها قيل له يا رسول اللّه هذه انفس اموالنا فلم لا تنظر اليها قال ( قد نهى اللّه عن ذلك ) تلا قوله تعالى

{ ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به } الآية هذا معاملته مع الدنيا. وفى التوجه الى الآخرة ما كان يريد الا الرفيق الاعلى قال صلى اللّه عليه وسلم ( انا حبيب اللّه ولا فخر وانا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم ومن دونه ولا فخر وانا اول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر ) والمقصود ان فى الفقر والقناعة فضيلة وان الفقراء يدخلون الجنة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل الاغنياء

اى قناعت توانكرم كردان ... كه وراى توهيج نعمت نيست

كنج صبر اختيار لقمانست ... هركرا صبر نيست حكمت نيست

فعلى العبد العاقل ان يجتنب عن الدنيا واخوانها ويرغب فى الآخرة وجنانها بل يترقى الى الوصول الى اللّه تعالى

قال ابو يزيد البسطامى قدس سره فى عباد اللّه عبد لو اعطى الجنات بزينتها لهرب كما يهرب اهل النار من النار وهو الذى غلب عليه محبة اللّه فلا يميل الى غيره ومن ذلك المقام قال ابو يزيد غاب قلبى عنى ثمانين سنة فلما اردت ان آخذه قيل أتطلب غيرنا وحكى عن بعض الصالحين انه رأى فى المنام معروف الكرخى شاخصا بصره نحو العرش قد اشتغل عن الحور العين وقصور الجنة فسأل رضوان من هذا قال معروف الكرخى مات مشتاقا الى اللّه فاباح له ان ينظر اليه فمطمح نظر العارف الجنة المعنوية وهى جنة معرفة اللّه ووصوله التى هى خير من جنة الفردوس واعلى عليين فليسارع السالك الى وصول هذه الجنة ودخولها قبل ادراك منيته وانقضاء عمره ومجيئ اجله

حضورى كرهمى خواهى ازوغائب مشو حافظ ... متى ما تلق من تهوى دع الدنيا واهملها

١٩٩

{ وان من اهل الكتاب لمن يؤمن باللّه } نزلت فى عبد اللّه بن سلام واصحابه

وقيل فى اربعين من نجران واثنين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فاسلموا

وقيل فى اصحمة النجاشى فانه لما مات نعاه جبريل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى اليوم الذى مات فيه فقال صلى اللّه عليه وسلم لاصحابه ( اخرجوا فصلوا على اخ لكم مات بغير ارضكم ) فقالوا من هو قال ( النجاشى ) فخرج الى البقيع وكشف له الى ارض الحبشة فابصر سرير النجاشى فصلى عليه وكبر اربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا الى هذا يصلى على علج نصرانى حبشى لم يره قط وليس على دينه فانزل اللّه هذه الآية

{ وما انزل اليكم } من القرآن

{ وما انزل اليهم } من الكتابين

{ خاشعين للّه } اى متواضعين له من خوف عذابه ورجاء ثوابه وهو حال من فاعل يؤمن لان من فى معنى الجمع

{ لا يشترون } لا يأخذون

{ بآيات اللّه } المكتوبة فى التوراة والانجيل من نعت النبى عليه السلام

{ ثمنا قليلا } اى عرضا يسيرا من حطام الدنيا خوفا على الرسالة كفعل من لم يسلم من احبارهم وكبارهم والجملة حال مما قبله

{ اولئك } اى اهل هذه الصفة

{ لهم اجرهم } اى المختص بهم الموعود لهم فى قوله تعالى

{ اولئك يؤتون اجرهم مرتين } { عند ربهم } نصب على الحالية من اجرهم والمراد به التشريف

{ ان اللّه سريع الحساب } لنفوذ علمه بجميع الاشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الاجر من غير حاجة الى تأمل ووعى صدر وكتب يد والمراد ان الاجر الموعود سريع الوصول اليهم فان سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء

والاشارة فى قوله تعالى

{ ان اللّه سريع الحساب } الى ان العلماء المتقين الذين يؤمنون بالواردات والالهامات والكشوف بارباب القلوب والخواطر الرحمانية وهم الحكماء الآلهية يعجل اللّه فى جزاء اعمالهم بحسب نياتهم لتبليغهم الى مقاماتهم فى القرب قبل وفاتهم ولا يؤجل الى ما بعد وفاتهم فان من كان فى هذه اعمى فهو فى الآخرة اعمى والانسان يموت كما يعيش ويبعث على ما مات عليه وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان جبريل عليه السلام جاء الى النبى صلى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد ان ربك يقرئك السلام وهو يقول مالى اراك مغموما حزينا قال عليه السلام ( يا جبريل طال تفكرى فى امتى يوم القيامة ) قال فى امر اهل الكفر ام فى اهل الاسلام فقال ( يا جبريل فى امر اهل لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه ) فاخذ بيده حتى اقامه الى مقبرة بنى سلمة ثم ضرب بجناحه الايمن على قبر ميت فقال قم باذن اللّه فقام رجل مبيض الوجه وهو يقول لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فقال جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم ضرب بجناحه الايسر فقال قم باذن اللّه فخرج رجل مسود الوجه ازرق العينين وهو يقول واحسرتاه واندامتاه فقال له جبريل عد الى مكانك فعاد كما كان ثم قال يا محمد على هذا يبعثون يوم القيامة وعند ذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

( تموتون كما تعيشون وتبعثون كما تموتون ) فظهر ان اللّه سريع الحساب يوصل الى كل جزاء عمله. فاما الواصلون فهم فى الجنة المعنوية فى الدنيا يتنعمون.

واما الغافلون فهم فى نار البعد والفراق ولكنهم لا يحسون الالم قبل وفاتهم فاذا ماتوا انقلب الحال من المعنى الى الحس عصمنا اللّه واياكم من نار البعد وعذاب السعير وشرفنا بنعيم وصاله ورؤية جماله المنير

كنون بايد اى خفته بيدار بود ... جومرك اندر آرد زخوابت جه سود

توباك آمدى بر حذر باش وباك ... كه ننكست ن باك رفتن بخاك

كنون بايد اين مرغ را باى بست ... نه آنكه كه سر رشته بردت زدست

وذكر ان ابراهيم بن ادهم رحمه اراد ان يدخل الحمام فمنعه الحمامى وقال لا تدخل الا باجرة فبكى ابراهيم وقال لا يؤذن لى ان ادخل بيت الشياطين محانا فكيف بالدخول الى بيت النبيين والصديقين مجانا فظهر ان من كان فى الدنيا غافلا فهو فى الآخرة مع الغافلين وحسابه فى الآخرة على مقدار عمله فمن لم يعمل صالحا كان هناك خاليا عن المثوبات

برفتندو هركس درود أنجه كشت ... نماند بجز نام نيكو وزشت

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( ان فى الجنة حوراء يقال لها لعبة لو بصقت فى البحر بصقة لعذب البحر مكتوب على نحرها من احب ان يكون له مثلى فليعمل بطاعة ربى ) ونعم ما قيل

بقدر الكد تكتسب المعالى ... ومن طلب العلى سهر الليالى

تروم العز ثم تنام ليلا ... يغوص البحر من طلب اللآلى

فلا بد من تدارك امر الآخرة

وتوفيت امرأة الفرزدق فخرج فى جنازتها وجوه اهل البصرة وخرج فيها الحسن البصرى فقال الحسن للفرزدق يا ابا فراس ما اعددت لهذا اليوم قال شهادة ان لا اله الا اللّه منذ ثمانين سنة فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها وانشد هذه الابيات

اخاف وراء القبر ان لم يعافنى ... اشد من القبر التهابا واضيقا

اذا جاءنى يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يسوق الفرزدقا

لقد خاب من اولاد آدم من مشى ... الى النار مغلول القلادة ازرقا

وعن انس بن مالك رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من سأل اللّه الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللّهم ادخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار اللّهم اجره من النار ) فنسأل اللّه سبحانه ان يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة مع الابرار ويوفقنا للاعمال الصالحة المنجية ويجعلنا من الفرقة الناجية بحق النبى الذى به وصل من وصل الى اللّه عز وجل فى المشارق والمغارب وانتهى الى منازل المقاصد والمآرب

٢٠٠

{ يا ايها الذين آمنوا اصبروا } على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد كالمرض والفقر والقحط والخوف وغير ذلك من المشاق

{ وصابروا } وغالبوا اعداء اللّه فى الصبر على شدائد الحرب واعدى عدوكم فى الصبر على مخالفة الهوى. والمصابرة نوع خاص من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصا لشدته وصعوبته وكونه اكمل وافضل من الصبر على ما سواه والصبر هو حبس النفس عما لا يرضاه اللّه واوله التصبر وهو التكلف لذلك ثم المصابرة وهى معارضة ما يمنعه عن ذلك ثم الاصطبار والاعتبار والالتزام ثم الصبر وهو كماله وحصوله من غير كلفة

{ ورابطوا } ابدانكم وخيولكم فى الثغور مترصدين وانفسكم على الطاعة كما قال عليه السلام ( ألا أدلكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويرفع به الدرجات ) قالوا بلى يا رسول اللّه قال ( اسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط )

{ واتقوا اللّه لعلكم تفلحون } واتقوه بالتبرى مما سواه لكى تفلحوا غاية الفلاح او اتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتبة التى هى الصبر على مضض الطاعات ومصابرة النفس فى رفض العادات ومرابطة السر على جناب الحق لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة فعلم من هذا ان الصبر دون المصابرة والمصابرة دون المرابطة قيل

توكز سراى طبيعت نميروى بيرون ... كجا بكوى طريقت كذر توانى كرد

ولا بد من السلوك حتى يتجاوز العبد عن الاحوال والمقامات الى اقصى النهايات وحكى عن ابراهيم بن ادهم انه كان يسير الى بيت اللّه راجلا فاذا اعرابى على ناقة فقال يا شيخ الى اين فقال ابراهيم الى بيت اللّه قال كيف وانت راجل لا راحلة لك فقال ان لى مراكب كثيرة فقال ما هى قال اذا نزلت علىّ بلية ركبت مركب الصبر واذا نزلت علىّ نعمة ركبت مركب الشكر واذا نزل بى القضاء ركبت مركب الرضى واذا دعتنى النفس الى شىء علمت ان ما بقى من العمر اقل مما مضى فقال الاعرابى انت الراكب وانا الراجل سر فى بلاد اللّه فالاشتغال طول العمر بالمجاهدة لازم حتى تنقلع الاخلاق الذميمة من النفس وتتبدل بالاوصاف الشريفة من الصبر وغيره ومثل هذه المجاهدة هى المرابطة روى ان واحدا من الصلحاء كان يختم كل ليلة ويجتهد فى العبادة فقيل له انك تتعب نفسك وتوقعها فى المشقة فقال كم عمر الدنيا فقيل سبعة آلاف سنة فقال وكم مقدار يوم القيامة فقيل خمسون الف سنة فقال لو عمر المرء بعمر الدنيا لحق له ان يجتهد فى العبادة لهذا اليوم الطويل فانه اسهل بالنسبة اليه

وكانت معاذة العدوية امرأة صالحة كانت اذا جاء النهار تقول هذا اليوم يوم موتى فتشتغل بالعبادة الى المساء فاذا جاء الليل تقول هذه الليلة ليلة موتى فتحييها الى الصباح الى ان ماتت على هذه النمط قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( من رابط يوما وليلة فى سبيل اللّه كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته الا لحاجة ) فهذا فى الجهاد الاصغر فكيف الحال فى الجهاد الاكبر يعنى ان المثوبات والدرجات اكثر فى حفظ النفس ومراقبتها وحبسها على الطاعات والعبادات

نكه دار فرصت كه عالم دميست ... دمى بيش دانابه ازعالميست

سراز جيب غفلت بر آور كنون ... كه فردا نمانى بخجلت نكون

قال الحافظ

داناكه زدتفرج اين جرخ حقه باز ... هنكامه بازجيد ودركفت وكوببست

قال ابو زيد البسطامى رحمه اللّه العارف من كان همه هما واحدا ولم ينتقل قلبه الى ما رأت عيناه وسمعت اذناه روى او زاهدا كان يجتهد فى العبادة فرآه رجل قد صار لباسه ذا وسخ فقال أيها العابد لم لا تغسل ثوبك قال العابد لانه ان غسلته يتوسخ ثانيا قال الرجل فاغسله مرة اخرى قال العابد ان اللّه لم يخلقنا لأن نغسل ثيابنا ويذهب عمرنا بهذا العمل بل للطاعة والعبادة : قال مولانا جلال الدين قدس سره

اول استعداد جنت بايدت ... تاز جنت زندكانى زايدت

تداركنا اللّه تعالى بلطفه

وجاء اعرابى الى النبى صلى اللّه عليه وسلم فقال انى اصوم شهر رمضان واصلى كل يوم خمس صلوات ولا ازيد على هذا لانى فقير ليس على زكاة ولا حج فاذا قامت القيامة ففى اى دار اكون انا فضحك النبى صلى اللّه وقال ( اذا حفظت عينيك عن اثنين عن النظر الى المحرمات والنظر الى الخلق بعين الاحتقار وحفظت قلبك عن اثنين عن الغل والحسد وحفظت لسانك عن اثنين عن الكذب والغيبة تكون معى فى الجنة )

﴿ ٠