تفسير روح البيان إسماعيل حقى بن مصطفى بروسوي الإستانبولي الحنفي الجلوتي (ت ١١٣٧ هـ ١٧٢٥ م) سُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ آيَةً ١ { يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الايفاء يقال وفى بالعهد وفاء واوفى به ايفاء اذا اتى ما عهد به ولم يغدر والنقل الى باب افعل لا يفيد سوى المبالغة والعقد هو العهد الموثق المشبه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود ما يعم جميع ما الزمه اللّه تعالى عباده وعقده عليهم من التكاليف والاحكام الدينية وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الامانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به او يحسن دينا ان حملنا الامر على معنى يعم الوجوب والندب. واحتج ابو حنيفة رحمه اللّه بهذه الآية على ان من نذر صوم يوم العيد او ذبح الولد يجب عليه ان يصوم يوما يحل فيه الصوم ويذبح ما يحل ان يتقرب بذبحه لانه عهد والزم نفسه ذلك فوجب عليه الوفاء بما صح الوفاء به. واحتج بها ايضا على حرمة الجمع بين الطلقات لان النكاح من العقود فوجب ان يحرم رفعه لقوله تعالى { اوفوا بالعقود } وقد ترك العمل بعمومه فى حق الطلقة الواحدة بالاجماع فبقى فيما عداها على الاصل وفى الحديث ( ما ظهر الغلول فى قوم الا القى اللّه فى قلوبهم الرعب ولا فشا الزنى فى قوم الا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان الا قطع عنهم الرزق ولا حكم قوم بغير حق الا فشا فيهم الدم ولا ختر قوم بالعهد الا سلط اللّه عليهم العدو ) هركه اونيك ميكند يابد ... نيك وبد هرجه ميكند يابد ثم انه تعالى لما امر المؤمنين بان يوفوا جميع ما اوجبه عليهم من التكاليف شرع فى ذكر التكاليف مفصلة فبدأ بذكر ما يحل ويحرم من المطعومات فقال عز وجل من قائل { احلت لكم بهيمة الانعام } البهيمة كل ذات اربع واضافتها الى الانعام للبيان كثوب الخز وافرادها لارادة الجنس اى احل لكم اكل البهيمة من الانعام وهى الابل والبقر والضأن والمعز وذكر كل واحد من هذه الانواع الاربعة زوج بانثاه وانثاه زوج بذكره فكان جميع الازواج ثمانية بهذا الاعتبار من الضأن اثنين ومن المعز ثنين ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين على التفصيل المذكور فى سورة الانعام فالبهيمة اعم من الانعام لان الانعام لا تتناول غير الانواع الاربعة من ذوات الاربع والحق بالانعام الظباء وبقر الوحش ونحوهما { الا ما يتلى عليكم } استثناء من بهيمة الانعام بتقدير المضاف اى الا محرم ما يتلى عليكم اى الا الذمى حرمه المتلو من القرآن من قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } بعد هذه الآية او بتقدير نائب الفاعل اى الا ما يتلى عليكم فيه آية كريمة { غير محلى الصيد } الصيد بمعنى المصدر اى الاصطياد فى البر او المفعول اى اكل صيده بمعنى مصيده وهو نصب على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدم احلالهم له تقرير حرمته عملا واعتقادا وهو شائع فى الكتاب والسنة { وانتم حرم } اى محرمون حال من الضمير فى محلى. والحرم جمع حرام بمعنى محرم يقال احرم فلان اذا دخل فى الحرم او فى الاحرام وفائدة تقييد احلال بهيمة الانعام بما ذكر من عدم احلال الصيد حال الاحرام اتمام النعمة واظهار الامتنان باحلالها بتذكير احتياجهم اليه فان حرمة الصيد فى حالة الاحرام من مظان حاجتهم الى احلال غيره حينئذ كأنه قيل احلت لكم الانعام مطلقا حال كونكم ممتنعين عن تحصيل ما يغنيكم عنها فى بعض الاوقات محتاجين الى احلالها { ان اللّه يحكم ما يريد } من تحليل وتحريم على ما توجبه الحكمة ومعنى الايفاء بهما الجريان على موجبهما عقدا وعملا والاجتناب عن تحليل المحرمات وتحريم المحللات والاشارة فى الآية { اوفوا بالعقود } التى جرت بيننا يوم الميثاق وعلى عهود العشاق وعقودهم على بذل وجودهم لنيل مقصودهم عاقدوا على عهد يحبهم ويحبونه ولا يحبون دونه فالوفاء بالعهد الصبر على الجفاء والجهد فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عنه بذل وجوده { احلت لكم بهيمة الانعام } اى ذبح بهيمة النفس التى هى كالانعام فى طلب المرام { الا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وانتم حرم } يعنى الا النفس المطمئنة اذا تليت عليها ارجعى الى ربك فانها تنفرت من الدنيا وما فيها فانها كالصيد فى الحرم وانتم حرم بالتوجه الى كعبة الوصال باحرام الشوق الى حضرة الجمال والجلال متجردين عن كل مرغوب ومرهوب منفردين من كل مطلوب ومحبوب { ان اللّه يحكم } بذبح النفس اذا كانت موصوفة بصفة البهيمة ترفع فى مراتع الحيوان السفلية بترك ذبحها ويخاطبها بالرجوع الى حضرة الربوبية عند اطمئنانها مع ذكر الحق واتصافها بالصفات الملكية العلوية { ما يريد } كما يريد كذا فى التأويلات النجمية ٢ { يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه } نزلت فى الخطيم واسمه شريح بن ضبيعة البكرى اتى المدينة من اليمامة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبى صلى اللّه عليه وسلم فقال له الى ما تدعو الناس فقال ( الى شهادة ان لا اله الا اللّه واقام الصلاة وايتاء الزكاة ) فقال حسن ألا ان لى امراء لا اقطع امرا دونهم لعلى اسلم وآتى بهم وقد كان النبى عليه السلام قال لاصحابه ( يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان ) ثم خرج شريح من عنده فقال عليه السلام ( لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ) فمر بسرح المدينة فاستاقه فانطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجا فى حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلدوا الهدى فقال المسلمون للنبى عليه السلام هذا الخطيم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه فقال النبى عليه السلام ( انه قد قلد الهدى ) فقالوا يا رسول اللّه هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية فابى النبى عليه السلام فانزل اللّه هذه الآية وكان المشركون يحجون ويهدون فاراد المسلمون ان يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك. والشعائر جمع شعيرة وهى اسم لما اشعر اى جعل شعائر اى علما للنسك من مواقف الحج ومرامى الجمار والمطاف والمسعى والافعال التى هى علامات الحاج يعرف بها من الاحرام والطواف والسعى والحلق والنحر والمعنى لا تتهاونوا بحرمتها ولا تقطعوا اعمال من يحج بيت اللّه ويعظم مواقف الحج { ولا الشهر الحرام } اى ولا تستحلوا القتل والغارة فى الشهر الحرام وهو شهر الحج والاشهر الاربعة الحرم وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب والافراد لارادة الجنس { ولا الهدى } بان يتعرض له بالغصب او بالمنع من بلوغ محله وهو ما اهدى الى الكعبة من ابل او بقر او شاة تقربا الى اللّه تعالى جمع هدية { ولا القلائد } اى ذوات القلائد من الهدى بتقدير المضاف وعطفها على الهدى للاختصاص فانها اشرف الهدى اى ولا تحلوا ذوات القلائد منها خصوصا وهى جمع قلادة وهى ما يشد على عنق البعير وغيره من نعل او لحاء شجرة او غيرهما ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له { ولا آمين البيت الحرام } اى ولا تحلوا قوما قاصدين زيارة الكعبة بان تصدوهم عن ذلك بأى وجه كان { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } حال من المستكن فى آمين اى قاصدين زيارته حال كونهم طالبين الرزق بالتجارة والرضوان اى على زعمهم لان الكافر لا نصيب له فى الرضوان اى رضى اللّه تعالى ما لم يسلم قال فى الارشاد انهم كانوا يزعمون انهم على سداد من دينهم وان الحج يقربهم الى اللّه تعالى فوصفهم اللّه بظنهم وذلك الظن الفاسد وان كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى لكن لا بعد فى كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصهم من المكاره العاجلة لا سيما فى ضمن مراعاة حقوق اللّه تعالى وتعظيم شعائره انتهى وهذه الآية الى ههنا منسوخة بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وبقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فلا يجوز ان يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدى والقلائد قال الشعبى لم ينسخ من سورة المائدة الا هذه الآية { واذا حللتم فاصطادوا } تصريح بما اشير اليه بقوله تعالى { وانتم حرم } من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجبها والامر للاباحة بعد الحظر كأنه قيل واذا حللتم من الاحرام فلا جناح عليكم فى الاصطياد { ولا يجرمنكم } يقال جرمنى فلان على ان صنعت كذا اى حملنى والمعنى لا يحملنكم { شنآن قوم } اى شدة بعضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت اضيف الى المفعول او الفاعل فالمعنى على الاول بغضكم لبعض فحذف الفاعل وعلى الثانى بغض قوم اياكم فحذف المفعول { ان صدوكم عن المسجد الحرام } اى لان منعوكم عن زيارته والطواف به للعمرة عام الحديبية { ان تعتدوا } ثانى مفعولى يجرمنكم اى لا يحملنكم شدة بغضكم لهم لصدهم اياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفى { وتعاونوا } اى ليعن بعضكم بعضا { على البر والتقوى } اى على العفو والاغضاء ومتابعة الامر ومجانبة الهوى { ولا تعاونوا على الاثم والعدوان } اى لا يعن بعضكم بعضا على شىء من المعاصى والظلم للتشفى والانتقام وليس للناس اى يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى اذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب ان يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى. واصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذف منه احدى التاءين تخفيفا وانما اخر للنهى عن الامر مع تقدم التخلية مسارعة الى ايجاب ما هو مقصود بالذات فان المقصود من ايجاب ترك التعاون على الاثم والعدوان انما هو تحصيل التعاون على البر والتقوى وسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر والاثم فقال ( البر حسن الخلق والاثم ما حاك فى نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس ) { واتقوا اللّه } فى جميع الامور التى من جملتها مخالفة ما ذكر من الاوامر والنواهى فثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهانى { ان اللّه شديد العقاب } فانتقامه اشد لمن لا يتقيه واعلم ان شعائر اللّه فى الحقيقة هى مناسك الوصول الى اللّه وهى معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة باشارة ارباب الحقيقة فان حقيقة البر هو التفرد للحق وحقيقة التقوى هو الخروج عما سوى اللّه تعالى فالوصول لا يمكن الا بهما لكنهما خطوتان لا يمكن للمريد الصادق ان يتخطى بها الا بمعاونة شيخ كامل مكمل واصل موصل فانه دليل هذا الطريق : قال الحافظ بكوى عشق منه بى دليل راه قدم ... كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد وقال ايضا شبان وادائ ايمن كهى رسد بمراد ... كه جند سال بجان خدمت شعيب كند وفى الآية اشارة الى تعظيم ما عظمه اللّه من الزمان والمكان والاخوان وقد فضل الاشهر والايام والاوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والامم بعضها على بعض لتتسارع القلوب الى احترامها وتتشوق الارواح الى احيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق فى فضائلها وفضل الامكنة بعضها على بعض ليعظم الاجر بالاقامة فيها وخلق اللّه الناس سعيدا وشقيا والعبرة بالخاتمة وكل مخلوق من حيث انه مخلوق اللّه حسن حتى انه ينبغى ان يكون النظر الى الكافر من حيث انه مخلوق اللّه لا من حيث كفره وان لم يرض بكفره فعلى الناظر بنظر التوحيد ان يحسن النظر ولا يحقر احدا من خلق اللّه ولا يشتغل بالعداوة والبغضاء : قال السعدى قدس سره دلم خانه مهر يارست وبس ... ازان مى نكنجد دروكين كس ومن كلمات اسد اللّه كرم اللّه وجهه العداوة شغل يعنى من اشتغل بالعداوة ينقطع عن الاشتغال بالامور المفيدة النافعة لان القلب لا يسع الاشتغالين المتضادين هركه بيشه كند عداوت خلق ... از همه جيزها جدا كردد كه دلش خسته عنا باشد ... كه تنش بسته بلا كردد وكان صلى اللّه عليه وسلم موصوفا بمكارم الاخلاق ومحاسن الاعمال فعليك ان تقتدى به ولما مدح اللّه الانبياء عليهم السلام ووصف كل نبى بصفة قال له تعالى { فبهداهم اقتده } ففعل فصار مستجمعا لكمال خصال الخير وكان كل واحد منهم مخصوصا بخصلة مثل نوح بالشكر وابراهيم بالحلم وموسى بالاخلاص واسماعيل بصدق الوعد ويعقوب وايوب بالصبر وداود بالاعتذار وسليمان بالتواضع وعيسى بالزهد فلما اقتدى بهم اجتمع له الكل فانت ايها المؤمن من امة ذلك الرسول صلى اللّه عليه وسلم فاتق اللّه واستحى من رسول اللّه كى تنجو من العقاب الشديد والعذاب المديد وتظفر بالخلد الباقى بالنعيم المقيم وتنال ما نال اليه ذو القلب السليم ٣ { حرمت عليكم الميتة } اى تناولها فان التحليل والتحريم انما يتعلقان بالافعال دون الاعيان والميتة ما فارقه الروح من غير ذبح { والدم } اى الدم المسفوح اى المصبوب كالدماء التى فى العروق لا الكبد والطحال وكان اهل الجاهلية يصبونها فى امعاء ويشوونها ويقولون لم يحرم من فزدله اى فصدله { ولحم الخنزير } لعينه لا لكون ميتة حتى لا يحل تناوله مع وجود الذكاة فيه وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذكر دون لحم الكلب وسائر السباع ان كثيرا من الكفار الفوا لحم الخنزير فخص بهذا الحكم وذلك ان سائر الحيوانات المحرم اكلها اذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء اذا وقع فيه وان لم يحل اكله بخلاف لحم الخنزير قال فى التنوير وليس الكلب بنجس العين قال العلماء الغذاء يصير جزأ من جوهر المغتذى ولا بد وان يحصل للمغتذى اخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا فى الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة فى المشتهيات فحرم اكله على الانسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية ومن جملة خبائث الخنزير انه عديم الغيرة فانه يرى الذكر من الخنازير ينزو على انثى له ولا يتعرض له لعدم غيرته فاكل لحمه يورث عدم الغيرة { وما اهل لغير اللّه به } اى رفع الصوت لغير اللّه عند ذبحه كقولهم باسم اللات والعزى قال الفقهاء ولو سمى الذابح النبى عليه السلام مع اللّه فقال باسم اللّه ومحمد حرمت الذبيحة وفى الحديث ( لعن اللّه من لعن والديه ولعن اللّه من ذبح لغير اللّه ) قال النووى المراد به الذبح باسم غير اللّه كمن ذبح للصنم او لموسى او لغيرهما ذكر الشيخ الماوردى ان ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا اليه افتى اهل بخارى بتحريمه لانه مما اهل به لغير اللّه وقال الرافعى هذا غير محرم لانهم انما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم كذا فى شرح المشارق لابن ملك { والمنخنقة } اى التى ماتت بالخنق وهو احتباس النفس بسبب انعصار الحلق واكل المنخنقة حرام سواء حصل اختناقها بفعل آدمى اولا مثل ان يتفق ان تدخل البهيمة برأسها بين عودين من شجرة فتخنق فتموت وكان اهل الجاهلية يخنقون الشاة فاذا ماتت اكلوها وهذه المنخنقة من جنس الميتة لانها ماتت من غير تذكية { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب او حجر حتى تموت من وقذته اذا ضربته قال قتادة كانوا يضربونها بالعصى فاذا ماتت اكلوها وهى فى معنى المنخنقة ايضا لانها ماتت ولم يسل دمها { والمتردية } التى تردت من مكان عال او فى بئر فماتت قبل الذكاة. والتردى هو السقوط مأخوذ من الردى وهو الهلاك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعدى بن حاتم ( اذا تردت رميتك من جبل فوقعت فى ماء فلا تأكل فانك لا تدرى اسهمك قتلها ام الماء ) فصار هذا الكلام اصلا فى كل موضع اجتمع فيه معنيان احدها حاظر والآخر مبيح انه يغلب جهة الحظر ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهة فدع ما يريبك الى ما يريبك ألا وان لكل ملك حمى وان حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه ) وعن عمر رضى اللّه عنه انه قال كنا ندع تسعة اعشار الحلال مخافة الربا { والنطيحة } التى نطحتها اخرى فماتت بالنطح وهو بالفارسية ( سروزدن ) والتاء فى هذه الكلمات الاربع لنقلها من الوصفية الى الاسمية وكل ما لحقته هذه التاء يستوى فيه المذكر والمؤنث وقيل التاء فيها لكونها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة بالذكر لكونها اعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الاعم الاغلب ويكون المراد الكل { وما اكل السبع } اى وما أكل منه السبع فمات وكان اهل الجاهلية يأكلونه. والسبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الانسان والدواب ويفترسها كالاسد وما دونه وهو يدل على ان جوارح الصيد اذا اكلت مما اصطادته لم يحل { الا ما ذكيتم } اى الا ما ادركتم ذكاته من هذه الاشياء وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح فانه يحل لكم فاما ما صار بجرح السبع الى حالة المذبوح فهو فى حكم الميتة فلا يكون حلالا وان ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة اذا ادركتها حية قبل ان تصير الى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى الى صيد فى الهواء واصابه فسقط على الارض ومات كان حلالا لان الوقوع على الارض من ضرورته وان سقط على جبل او شجر ثم تردى منه فمات فلا يحل وهو من المتردية الا ان يكون السهم اصاب مذبحه فى الهواء فيحل كيف ما وقع لان الذبح قد حصل باصابة السهم المذبح واما ما ابين من الصيد قبل الذكاة فهو ميتة. والذكاة فى الشرع بقطع الحلقوم والمرى وهو اسم لما اتصل بالحلقوم وهو الذى يجرى فيه الطعام والشراب واقل الذكاة فى الحيوان المقدور عليه قطع الحلقوم والمرى وكماله ان يقطع الودجان معهما ويجوز بكل محدد من حديد او قصب او زجاج او حجر او نحوها فان جمهور العلماء على ان كل ما افرى الاوداج وانهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والظفر والعظم ما لم يكن السن والظفر منزوعين لان الذبح بهما يكون خنقا واما المنزوعان منهما اذا افريا الاوداج فالذكات جائزة بهما عندهم والذكاة كالذبح التام الذى يجوز معه الاكل ولا يحرم لان اصل الذكاة اتمام الشىء ومنه الذكاء فى الفهم اذا كان تام العقل وفى الحديث ( الذكاة ما بين اللبة واللحيين ) فعلى هذا اللحم القديد الذى يجيىء الى دار الاسلام من دار افلاق لا يجوز اكله لانهم يضربون رأس البقر ونحوه بفأس ومثله فيموت فلا توجد الذكاة { وما ذبح على النصب } النصب واحد الانصاب وهى احجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة قال الامام من الناس من قال النصب هى الاوثان وهذا بعيد لان هذا معطوف على قوله وما اهل لغير اللّه به وذلك هو الذبح على اسم الاوثان ومن حق المعطوف ان يكون مغايرا للمعطوف عليه وقال ابن جريج النصب ليس باصنام فان الاصنام احجار مصورة منقوشة وهذه النصب احجار كانوا نصبوها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للاصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون يا رسول اللّه كان اهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ونحن احق ان نعظمه وكان عليه السلام لم يكره ذلك فانزل اللّه تعالى { لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها } الى هنا كلام الامام { وان تستقسموا بالازلام } جمع زلم وهو القدح اى وحرم عليكم الاستقسام بالقداح وذلك انهم اذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة قداح مكتوب على احدها امرنى ربى وعلى الآخر نهانى ربى والثالث غفل اى خال عن الكتابة فان خرج الامر مضوا على ذلك وان خرج الناهى اجتنبوا عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بواسطة ضرب القداح وقيل هو استقسام الجزور بالقداح على الانصباء المعلومة اى طلب معرفة كيفية قسمة الجزور وقد تقدم تفصيله عند تفسير قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } فى سورة البقرة { ذلكم } اشارة الى الاستقسام بالازلام { فسق } اى تمرد وخروج عن الحد ودخول فى علم الغيب وضلال باعتقاد انه طريق اليه وافتراء على اللّه سبحانه ان كان هو المراد بقولهم ربى وشرك وجهالة ان كان هو الصنم فظاهر هذه الآية يقتضى ان العمل على قول المنجمين لا تخرج من اجل نجم كذا واخرج من اجل نجم كذا فسق لان ذلك دخول فى علم الغيب ولا يعلم الغيب الا اللّه كذا فى تفسير الحدادى واعلم ان استعلام الغيب بالطريق الغير المشروع كاستعلام الخير والشر من الكهنة والمنجمين منهى عنه بخلاف استعلام الغيب بالاستخارة بالقرآن وبصلاة الاستخارة ودعائها وبالنظر والرياضة لانه استعلام بالطريق المشروع وان طلب ما قسم له من الخير ليس منهيا عنه مطلقا بل المنهى عنه هو الاستقسام بالازلام وفى الحديث ( العيافة والطرق والطيرة من الجبت ) والمراد بالطرق الضرب بالحصى وفى الحديث ( من تكهن او استقسم او تطير طيرة ترده من سفره لم ينظر الى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) { اليوم } اللام للعهد والمراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الازمنة الماضية والآتية ونظيره قولك كنت بالامس شابا واليوم قد صرت شيخا فانك لا تريد بالامس اليوم الذى قبل يومك ولا باليوم اليوم الذى انت فيه. وقيل اراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة يوم عرفة حجة الوداع والنبى عليه السلام واقف بعرفات على العضباء فكادت عضد الناقة تندق لثقلها فبركت واياما كانت فهو منصوب عليه انه ظرف لقوله تعالى { يئس الذين كفروا من دينكم } اى من ابطالكم اياه ورجوعكم عنه بان تحللوا هذه الخبائث بعد ان جعلها اللّه محرمة او من ان يغلبوكم عليه لما شاهدوا من ان اللّه عز وجل وفى بوعده حيث اظهره على الدين كله وهو الانسب بقوله تعالى { فلا تخشوهم } اى من ان يظهروا عليكم { واخشون } واخلصوا الى الخشية { اليوم اكملت لكم دينكم } بالنصر والاظهار على الاديان كلها او بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع وقوانين الاجتهاد { واتممت عليكم نعمتى } بالهداية والتوفيق او باكمال الدين والشرائع او بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكها والنهى عن حج المشركين وطواف العريان { ورضيت لكم الاسلام دينا } اى اخترته لكم من بين الاديان وهو الدين عند اللّه لا غير. فقوله دينا نصب حالا من الاسلام ويجوز ان يكون رضيت بمعنى صيرت فقوله دينا مفعول ثان له قال جابر بن عبد اللّه سمعت رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يقول قال ( جبريل عليه السلام قال اللّه عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسى ولن يصلحه الا السخاء وحسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه ) وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ان رجلا من اليهود قال له يا امير المؤمنين آية فى كتابكم تقرأونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال اى آية قال { اليوم اكملت } الخ قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى نزلت فيه على النبى عليه السلام وهو قائم بعرفة يوم الجمعة اشار عمر الى ان ذلك اليوم كان عيدا لنا قال ابن عباس رضى اللّه عنهما كان ذلك اليوم خمسة اعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولم تجتمع اعياد اهل الملل فى يوم قبله ولا بعده وروى انه لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضى اللّه عنه فقال النبى عليه السلام ( ما يبكيك يا عمر ) قال ابكانى انا كنا فى زيادة من ديننا فاذا كمل فانه لم يكمل شىء الا نقص قال ( صدقت ) فكانت هذه الآية تنعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاش بعدها احدى وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة احدى عشر من الهجرة. وقيل توفى يوم الثانى عشر من شهر ربيع الاول وكانت هجرته فى الثانى عشر منه : قال السعدى قدس سره جهان اى برادر نماند بكس ... دل ندرجهان آفرين بندوبس جهان اى بسر ملك جاويد نيست ... زدنيا وفا دارى اميد نيست منه دل برين سال خورده مكان ... كه كنبد نبايد بر وكرد كان { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها وهو ان تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والاسلام المرضى والمعنى فمن اضطر الى تناول شىء من هذه المحرمات { فى مخمصة } اى مجاعة يخاف منها الموت او مباديه { غير متجانف لاثم } حال من فاعل الجواب المحذوف اى فليتناول مما حرم غير ماثل ومنحرف اليه بان يأكلها تلذذا او مجاوزا حد الرخصة او ينتزعها من مضطر آخر كقوله تعالى { غير باغ ولا عاد } { فان اللّه غفور رحيم } لا يؤاخذه باكلها وهو تعليل للجواب المقدر وروى ان رجلا يا رسول اللّه انا نكون بارض فتصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة فقال ( ما لم تصطبحوا او تغتبقوا او تجنفوا بها بقلا فشانكم بها ) ومن امتنع من الميتة حال المخمصة او صام ولم يأكل حتى مات اثم بخلاف من امتنع من التداوى حتى مات فانه لا يأثم لانه لا يقين بان هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج والاشارة فى الآيات ان ظاهرها خطاب لاهل الدنيا والآخرة وباطنها عتاب لاهل اللّه وخاصته { حرمت عليكم } يا اهل الحق { الميتة } وهى الدنيا باسرها : قال فى المثنوى درجهان مرده شان آرام نيست ... كين علف جز لايق انعام نيست هركرا كلشن بود بزم ووطن ... كى خورد اوباده اندلا كولخن { والدم ولحم الخنزير } يعنى حلالها وحرامها قليلها وكثيرها وذلك لان من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة الى اللحم قليل واللحم بالنسبة الى الدم كثير { وما اهل لغير اللّه به } يعنى كل طاعة وعبادة وقراءة ودراسة ورواية تظهرون به لغير اللّه { والمنخنقة والموقوذة } يعنى الذين يخنقون نفوسهم بالمجاهدات ويقذفونها بانواع الرياضات بنهيها عن المرادات وزجرها عن المخالفات للرياء والسمعة { والمتردية والنطيحة } الذين يردون نفوسهم من اعلى عليين الى اسفل سافلين بالتناطح مع الاقران والمماراة مع الاخوان والتفاخر بالعلم والزهد بين الاخدان وفى قوله { وما اكل السبع الا ما ذكيتم } اشارة الى انه فيما تحتاجون اليه من القوت الضرورى كونوا محترزين من اكيلة السباع وهم الظلمة الذين يتهاوشون فى جيفة الدنيا تهاوش الكلاب ويتجاذبونها بمخالب الاطماع الفاسدة الا ما ذكيتم بكسب حلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال { وما ذبح على النصب } يشير الى ما ذبح عليه النفس بانواع الجد والاجتهاد من المطالب الدنيوية والاخروية { وان تستقسموا بالازلام ذلكم فسق } يعنى لا تكونوا مترددين متفئلين فى طلب المرام مبتغين لحصول المقصود متهاونين فى بذل الوجود فاذا انتهيتم عن هذه المناهى وتخلصتم من هذه الدواهى واخلصتم للّه فى اللّه باللّه وخرجتم من سجن الانانية وسجين الانسانية بالجذبات الربانية فقد عادت ليلتكم نهارا وظلمتكم انوارا { اليوم يئس الذين كفروا } من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها { من دينكم } وتيقنوا ان ما بقى لكم الرجوع الى ملتهم ولا الصلاة الى قبلتهم { فلا تخشوهم } فانكم خلصتم من شبكة مكايدهم ونجوتم من عقد مصايدهم { واخشونى } فان كيدى متين وصيدى مهين وبطشى شديد وحبسى مديد { اليوم } اشارة الى الازل { اكملت لكم دينكم } اى جعلت الكمالية فى الدين من الازل نصيبا لكم من جميع اهل الملل والاديان { واتممت عليكم نعمتى } التى انعمت بها عليكم فى الازل من الكمالية الآن باظهار دينكم على الاديان كلها فى الظاهر واما فى الحقيقة فسيجيىء شرحه { ورضيت لكم الاسلام دينا } تستكملون به الى الابد بحيث من يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وذلك لان حقيقة الدين هى سلوك سبيل اللّه بقدم الخروج من الوجود المجازى للوصول الى الوجود الحقيقى والانسان مخصوص به من سائر الموجودات ولهذه الامة اختصاص بالكمالية فى السلوك من سائر الامم فالدين من عهد آدم عليه السلام كان فى التكامل بسلوك الانبياء سبيل الحق الى عهد النبى عليه الصلاة والسلام فكل نبى سلك فى الدين مسلكا انزله بقربه من مقامات القرب ولكن ما خرج احد منهم بالكلية من الوجود المجازى للوصول الى الوجود الحقيقى بالكمال فقيل للنبى عليه السلام { اولئك الذين هدى اللّه فبهداهم اقتده } فسلك النبى جميع المسالك التى سلكها الانبياء باجمعهم فلم يتحقق له الخروج ايضا بقدم السلوك من الوجود المجازى بالكلية حتى تداركته العناية الازلية لاختصاصه بالمحبوبية بجذبات الربوبية واخرجته من الوجود المجازى ليلة اسرى بعدما عبر به على الانبياء كلهم وبلغ فى القرب الى الكمالية فى الدنو وهو سر او ادنى فاستسعد سعادة الوصول الى الوجود الحقيقى فى سر فاوحى الى عبده ما اوحى وفى الحقيقة قيل له فى تلك الحالة { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى } ولكن فى حجة الوداع فى يوم عرفة عند وقوفه بعرفات اظهر على الامة عند اظهاره على الاديان كلها وظهور كمالية الدين بنزول الفرائض والاحكام بالتمام فقال { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا } ويدل على هذا التأويل ما روى ابو هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( مثلى ومثل الانبياء من قبلى كمثل رجل ابتنى بيوتا فاحسنها واجملها واكملها الا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيات فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤها ) قال محمد صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( فانا اللبنة ) متفق على صحته فصح ما قرر من مقامات الانبياء وتكامل الدين بهم وكماليته بالنبى عليه السلام وبخروجه من الوجود المجازى بالكلية وان الانبياء لم يخرجوا منه بالكلية ويدل عى هذا المعنى ايضا ان الانبياء كلهم يوم القيامة يقولون نفسى نفسى لبقية الوجود والنبى عليه السلام امتى امتى لفناء الوجود فافهم جدا ومن كرامة هذه الامة اشتراكهم فى كمالية الدين مع النبى بمتابعته وقال {واتممت عليكم نعمتى } وهى اسبال تحصيل الكمال ومعظمها بعثة النبى عليه الصلاة والسلام { ورضيت لكم الاسلام دينا } وهو استسلام الوجود المجازى الى النبى وخلفائه بعده ليطرح عليه اكسير المتابعة فيبدل الوجود المجازى المحبى بالوجود الحقيقى المحبوبى كما قال تعالى { قل ان كنتم تحبون اللّه فاتبعونى يحببكم اللّه ويغفر لكم ذنوبكم } يعنى ويغفر بالوجود الحقيقى ذنوب الوجود المجازى فافهم جدا وتنبه { فمن اضطر فى مخمصة } يعنى فمن ابتلى بالتفاته الى شىء من الدنيا والآخرة مضطرا اليه فى غاية الاضطرار والابتلاء لسر التربية { غير متجانف لاثم } يعنى غير مائل اليه للاعراض عن الحق ولكن من فترة تقع للصادقين او وقفة تكون للسالكين ثم يتداركونها بصدق الالتجاء الى الحق وارواح المشايخ والاستعانة بهم وطلب الاستغفار من ولاية البنين واعانتهم { فان اللّه غفور } لما ابتلاهم به { رحيم } بان يهديهم الى الصراط المستقيم باقامة الدين القويم كذا فى التأويلات النجمية ٤ { يسألونك ماذا احل لهم } ما للاستفهام وذا بمعنى الذى والمعنى ما الذى احل لهم من المطاعم ان قلت مفعول يسأل انما يكون مفردا فكيف وقع على الجملة قلت لتضمن السؤال معنى القول { قل احل لكم الطيبات } اى ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر منه كما فى قوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } والطيب فى اللغة المستلذ المشتهى فالتقدير كل ما يستلذ ويشتهى والعبرة فى الاستلذاذ والاستطابة باهل المروءة والاخلاق الجميلة فان اهل البادية يستطيبون اكل جميع الحيوانات كذا قال الامام فى تفسيره { وما علمتم } عطف على الطيبات بتقدير المضاف على ان ما موصولة والعائد محذوف اى وصيد ما علمتموه { من الجوارح } حال من الموصول جمع جارحة بمعنى كاسبة قال تعالى { ويعلم ما جرحتم بالنهار } وجوارح الانسان اعضاؤه التى يكتسب بها ويحتمل ان يكون من الجرح بمعنى تفريق الاتصال فان الجوارح تجرح الصيد غالبا. والمراد بالجوارح فى الآية كل ما يكسب الصيد على اهله من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب ومن سباع الطير كالصقر والبازى والعقاب والنسر والباشق والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم فان صيد جميعها حلال { مكلبين } اى معلمين لها الصيد والمكلب مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد ومضريها عليه مشتق من الكلب وذكر الكلب لكونه اقبل للصيد والتأديب فيه وانتصابه على الحالية من فاعل علمتم فان قلت يلزم ان يكون المعنى وصيد ما علمتم معلمين ولا فائدة قلت فائدتها المبالغة لما ان سام المكلب لا يقع الا على النحرير فى علمه فكأنه قيل وما علمتم ماهرين فى تعليم الجوارح حاذقين فيه مشتهرين به { تعلمونهن } حال ثانية { مما علمكم اللّه } من الحيل وطرق التعليم والتأديب فان العلم به الهام من اللّه تعالى او مكتسب بالعقل الذى هو منحة منه او مما علمكم ان تعلموه من اتباع الصيد بارسال صاحبه وان ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه قال صاحب الكشاف قوله تعالى { تعلمونهن مما علمكم اللّه } فيه تنبيه على ان كل من يأخذ علما ينبغى ان يأخذه ممن هو متبحر فى ذلك العلم غواص فى بحار لطائفه وحقائقه وان احتاج فى ذلك الى ارتكاب سفر بعيد قال عليه السلام ( اطلبوا العلم ولو بالصين ) فكم من آخذ من غير متقن ضيع ايامه وعض عند لقاء النحارير انامله { فكلوا مما امسكن عليكم } من تبعيضية لما ان البعض مما لا يتعلق به الاكل كالجلود والعظام والريش وما موصولة حذف عائدها وعلى متعلقة بامسكن على انفسهن لقوله عليه السلام لعدى بن حاتم ( وان اكل منه فلا تأكل انما امسكه على نفسه ) واليه ذهب اكثر الفقهاء وقال بعضهم ومنهم ابو حنيفة يؤكل مما بقى من جوارح الطير ولا يؤكل مما بقى من الكلب والفرق ان يمكن ان يؤدب الكلب على الاكل بالضرب ولا يؤدب البازى على الاكل { واذكروا اسم اللّه عليه } الضمير لما فى ما علمتم اى سموا عليه عند ارساله او لما فى ما امسكن اى سموا عليه اذا ادركتم ذكاته وعن ابى ثعلبة قال قلت يا نبى اللّه انا بارض قوم اهل كتاب أفنأكل فى آنيتهم وبارض صيد اصيد بقوسى وبكلبى الذى ليس بمعلم وبكلبى المعلم فما يصلح لى قال ( اما ما ذكرت من آنية اهل الكتاب فان وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اللّه عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فادركت ذكاته فكل ) وعن انس رضى اللّه عنه ان النبى صلى اللّه عليه وسلم كان يضحى بكبشين املحين اقرنين يطأ على صفاحهما ويذبحهما بيده ويقول بسم اللّه واللّه اكبر كذا فى تفسير البغوى. والمستحب ان يقول بسم اللّه اللّه اكبر بلا واو لان ذكر الواو يقطع نور التسمية كما فى شرح مختصر الوقاية وكره ترك التوجه الى القبلة وحلت كذا فى الذخيرة ومتروك التسمية عمدا حرام لانه ميتة بخلاف متروكها نسيانا فانه حلال { واتقوا اللّه } فى شأن محرماته { ان اللّه سريع الحساب } سريع اتيان حسابه او سريع تمامه اذا شرع فيه يتم فى اقرب ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين انه يؤاخذكم سريعا فى كل ما جل ودق ودلت الآية على اباحة الصيد قال فى الاشباه الصيد مباح الا للتلهى او حرفة كذا فى البزازية وعلى هذا فاتخاذه حرفة كصيادى السمك حرام يحكى عن ابراهيم ابن ادهم انه قال كان ابى من ملوك خراسان فركبت الى الصيد فاثرت ارنبا اذ هتف بى هاتف يا ابراهيم ألهذا خلقت ام بهذا امرت ففزعت ودفعت ثم اخذت ففعلت ثانيا ثم هتف بى هاتف من قربوس السرج واللّه ما لهذا خلقت ولا بهذا امرت فنزلت فصادفت راعى ابى ولبست جبته وتوجهت الى مكة ولما نزلت هذه الآية اذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى اقتناء الكلاب التى ينتفع بها ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها وامر بقتل الكلب العقور وبما يضر ويؤذى ورفع عما سواها مما لا ضرر فيه وفى الحديث ( من اتخذ كلبا الا كلب ماشية او صيد او زرع انتقص من اجره كل يوم قيراط ) والحكمة فى ذلك انه ينبح الضيف ويروع السائل كذا فى تفسير الحدادى وفى الحديث ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب ) والمراد بالملائكة ملائكة الرحمة والاستغفار اى النازلون بالبركة والرحمة والطائفون على العباد للزيارة واستماع الذكر لا الكتبة فانهم لا يفارقون المكلفين طرفة عين والمراد بالصورة صورة ذى الروح لمشابهته بيوت الاصنام وبعض الصور يعبد فابغض الاشياء الى الخواص ما عصى اللّه به. واما الكلب فلانه نجس فاشبه المتبرز وزاد فى بعض الاحاديث ولا جنب الا ان يتوضأ قال فى الترغيب والترهيب ورخص للجنب اذا نام او اكل او شرب ان يتوضأ ثم قيل هذا فى حق كل من اخر الغسل لغير عذر ولعذر اذا امكنه الوضوء فلم يتوضأ او قيل هو الذى يؤخره تهاونا وكسلا ويتخذ ذلك عادة انتهى قال فى الشرعة وشرحها لابن السيد على وينام بعد الوطء نومة خفيفة فانه اروح للنفس لكن السنة فيه ان يتوضأ اولا وضوءه للصلاة ثم ينام وكذا اذا اراد الاكل جنبا ولو اراد العود فليتوضأ والمراد به التنظف بغسل الذكر واليدين لا الوضوء الشرعى كما ذهب اليه بعض المالكية والاشارة فى الآية ان ارباب الطلب واصحاب السلوك { يسألونك ماذا احل لهم } او حرم عليهم من الدنيا والآخرة كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( الدنيا حرام على اهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وهما حرامان على اهل اللّه تعالى ) { قل احل لكم الطيبات } وهى ما لا يقطع عليكم طريق الوصول الى اللّه فان اللّه طيب لا يقبل الا الطيب وكل مأكول ومشروب وملبوس ومقول ومعقول ومعمول طلبتموه بحظ من الحظوظ فقد لوثتموه للوث داعى الوجود فهو من الخبيثات لا يصلح الا للخبيثين وما طلبتموه بالحق للقيام باداء الحقوق مطيبا بنفحات الشهود فهو من الطيبات لا يصلح الا للطيبين وفى قوله { ان اللّه سريع الحساب } اشارة الى انه تعالى يحاسب العباد على اعمالهم قبل ان يفرغوا منها ويجازيهم فى الحال بالاحسان احسان القربة ورفعة الدرجة وجذبة العناية وبالاساءة اساءة البعد والطرد الى السفل والخذلان : ونعم ما قيل [ هركه كند بخود كند ورهمه نيك بد كند ] قال الصائب جرازغيرشكايت كنم كه همجوحباب ... هميشه خانه خراب هواى خويشتنم ٥ { اليوم } اراد به الزمان الحاضر وما يتصل به من الازمنة الماضية والآتية او يوم النزول { احل لكم الطيبات } وهى ما لم تستخبثه الطباع السليمة وهى طباع اهل المروءة والاخلاق الجميلة او ما لم يدل نص شارع ولا قياس مجتهد على حرمته { وطعام الذين اوتوا الكتاب } اى اليهود والنصارى والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها { حل لكم } اى حلال وعن ابن عباس انه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس وهو قول عامة التابعين وبه اخذ ابو حنيفة واصحابه. وحكم الصابئين حكم اهل الكتاب عنده وقال صاحباه صنفان صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من اهل الكتاب واما المجوس فقد سن بهم سنة اهل الكتاب فى اخذ الجزية منهم دون اكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه السلام ( سنوا بهم سنة اهل الكتاب غيرنا كحى نسائهم ولا آكلى ذبائحهم ) ولو ذبح يهودى او نصرانى على اسم غير اللّه كالنصرانى يذبح باسم المسيح فذهب اكثر اهل العلم الى انه يحل فان اللّه قد احل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وقال الحسن اذا ذبح اليهودى او النصرانى فذكر اسم غير اللّه وانت تسمع فلا تأكله واذا غاب عنك فقد احل اللّه لك { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم ان تطعموهم وتبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك { والمحصنات من المؤمنات } رفع على انه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما تقدم عليه اى حل لكم ايضا والمراد بهن الحرائر والعفائف وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو الاولى لا لنفى ما عداهن فان نكاح الاماء المسلمات صحيح بالاتفاق وكذا غير العفائف منهن واما الاماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند ابى حنيفة خلافا للشافعى { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } اى هن ايضا حل لكم وان كن حربيات وقال ابن عباس رضى اللّه عنهما لا تحل الحربيات قال الحدادى واستدل بعض الفقهاء بظاهر الآية على انه لا يجوز للمسلم نكاح الامة الكتابية والصحيح انه يجوز بظاهر قوله تعالى { باذن اهلهن } بدليل حل ذبائحهن وانما خص اللّه المحصنات باباحة نكاحهن مع جواز نكاح غيرهن لان الآية خرجت مخرج الامتنان والمنة فى نكاح الحرائر العفائف اعظم واتم يدل على ذلك انه لا خلاف فى جواز النكاح بين المسلم والامة المؤمنة وان كان فى الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات والافضل لمن اراد النكاح ان لا يعدل عن نكاح الحرائر الكتابيات مع القدرة عليهن وذلك ان نكاح الامة يؤدى الى ارقاق الولد لان الولد يتبع امه فى الرق والحرية ولا ينبغى لاحد ان يختار رق ولده كما لا ينبغى ان يختار رق نفسه { اذا آتيتموهن اجورهن } اى مهورهن وتقييد الحل بايتائها لتأكيد وجوبها والحث على الاولى واذا ظرفية عاملها حل المحذوف { محصنين } حال من فاعل آتيتمونهن اى حال كونكم اعفاء بالنكاح وكذا قوله { غير مسافحين } اى غير مجاهرين بالزنى { ولا متخذى اخدان } اى ولا مسرين به والخدن الصديق يقع على الذكر والانثى قال الشعبى الزنى ضربان السفاح وهو الزنى على سبيل الاعلان واتخاذ الخدن وهو الزنى فى السر واللّه تعالى حرمهما فى هذه الآية واباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان { ومن يكفر بالايمان } اى ومن ينكر شرائع الاسلام التى من جملتها ما بين ههنا من الاحكام المتعلقة بالحل والحرمة ويمتنع عن قبولها { فقد حبط عمله } اى بطل عمله الصالح الذى عمله قبل ذلك { وهو فى الآخرة من الخاسرين } هو مبتدأ من الخاسرين خبره وفى متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق قال الحدادى فقد بطل ثواب عمله وهو فى الآخرة من المغبونين غبن نفسه ومنزله وصار الى النار لا يغنى عن المرأة الكتابية اسلام زوجها ولا ينفعها ذلك ولا يضر المسلم كفر زوجته الكتابية : قال السعدى برفتند وهركس درود آنجه كشت ... نماند بجزنام نيكو و زشت واعلم ان الكفر اقبح القبائح كما ان الايمان احسن المحاسن وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال ( لما خلق اللّه جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمى فقالت قد افلح المؤمنون ثلاثا ) وعن كعب الاحبار ان نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنه ساما من بين اولاده وقال اوصيك باثنتين وانهاك عن اثنتين. فاما الاوليان فاحداهما شهادة ان لا اله الا اللّه فانها تخرق السموات السبع ولا يحجبها شىء ولو وضعت السموات والارض وما فيهن فى كفة ووضعت هى فى الاخرى لرجحت. واما الثانية فان تكثر من قول سبحان اللّه والحمد للّه فانها جامعة للثواب. واما الاخريان فالشرك باللّه والاتكال على غير اللّه قال القاضى عياض انعقد الاجماع على ان الكفار لا تنفعهم اعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب لكن بعضهم يكون اشد من بعض بحسب جرائمهم واما حسناتهم فمقبولة بعد اسلامهم على ما ورد فى الحديث قال فى نصاب الاحتساب ما يكون كفرا بلا خلاف يوجب احباط العمل ويلزمه اعادة الحج ان كان قد حج ويكون وطؤه مع امرأته حراما والولد المتولد فى هذه الحالة يكون ولد الزنى وان كان اتى بكلمة الشهادة بعد ذلك اذا كان الاتيان على وجه العادة ولم يرجع عما قال لان الاتيان بكلمة الشهادة على وجه العادة لا يرفع الكفر وما كان فى كونه كفرا اختلاف فان قائله يؤمر بتجديد النكاح والتوبة والرجوع عن ذلك بطريق الاحتياط واما ما كان خطأ من الالفاظ ولا يوجب الكفر فقائله مؤمن على حاله ولا يؤمر بتجديد النكاح ويؤمر بالاستغفار والرجوع عن ذلك انتهى كلام النصاب. والرجل والمرأة فى ذلك سواء حتى لو تكلمت المرأة بما يكون كفرا تبين من زوجها فعلى العبد الصالح ان يختار من النساء صالحة عفيفة متقية قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لا تعطى الولاية لولد الزنى قال واشكر اللّه تعالى على ان جعلنى اول ولد ولدته امى فانه ابعد من ان يصدر الفاظ الكفر من احدى ابوى قال وارثه الاكبر الشيخ الشهير بالهدايى قدس سره قلت والفقير كذلك والاشارة فى الآية { احل لكم } يا ارباب الحقيقة فى اليوم الذى قدر كمالية الدين فيه لكم فى الازل جميع { الطيبات } التى تتعلق بسعادة الدارين بل احل لكم التخلق بالاخلاق الطيبات وهى اخلاق اللّه المنزهات عن الكميات والكيفيات المبرءات من النقائص والشبهات { وطعام الذين اوتوا الكتاب } وفى الحقيقة هم الانبياء عليهم السلام { حل لكم } اى غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة من حملتى الشريعة والحقيقة { وطعامكم حل لهم } يعنى منبع لبن النبوة والولاية واحد وان كان الثدى اثنين فشربتم لبان الطافنا من مشرب الولاية وشرب الانبياء لبان افضالنا من مشرب النبوة قد علم كل اناس مشربهم وللنبى عليه السلام شركة فى المشارب كلها وله اختصاص فى مجلس المقام المحمود من المحبوب بمشرب ( ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبىء مرسل ) { و } كذلك حل لكم { المحصنات من المؤمنات } وهى ابكار حقائق القرآن التى احصنت من افهام الازواج المؤمنات بها وهى ازواج العلماء وخواص هذه الامة { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } وهى ابكار حقائق الكتب المنزلة على الامة السالفة التى احصنت من الذين انزل عليهم الكتب وادرجت فى القرآن واخفيت لكم كما قال تعالى { فلا تعلم نفس ما اخفى لهم } يعنى فى القرآن { من قرة اعين } وهى ابكار حقائق جميع الكتب المنزلة فافهم جدا كلها لكم { اذا آتيتموهن اجورهن } اى مهور هذه الابكار وهى بذل الوجود { محصنين } يعنى متعففين فى بذل الوجود فيكون على وجه الحق وبتصرف المشايخ الواصلين { غير مسافحين } على وفق الطبع وخلاف الشرع وبتصرف الهوى { ولا متخذى اخدان } يعنى فى بذل الوجود لا يكون ملتفتا الى شىء من الكونين ولا الى احد فى الدارين سوى اللّه ليكون هو المشرب ومنه الشراب وهو الحريف والساقى { ومن يكفر بالايمان } بهذه المعاملات والكمالات اذ حرم من العيان من هذه السعادات { فقد حبط عمله } الذى عمله على العمياء والتقليد { وهو فى الآخرة من الخاسرين } الذين خسروا الدنيا والعقبى والمولى كذا فى التأويلات النجمية ٦ { يا ايها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلوة } المراد بالقيام اما القيام الذى هو من اركان الصلاة فالتقدير اذا اردتم القيام لها بطريق اطلاق اسم المسبب على السبب لان الجزاء لا بد وان يتأخر عن الشرط يعنى صحة قيام الصلاة بالطهارة واما القيام الذى هو من مقدمات مباشرة الصلاة فالتقدير اذا قصدتم الصلاة اطلاقا لاسم احد لازميها على لازمها الآخرة فالوضوء من شرائط القيام الاول دون الثانى وهذا الخطاب خاص بالمحدثين بقرينة دلالة الحال فلا يلزم الوضوء على كل قائم الى الصلاة سواء كان محدثا ام لا كما يقتضيه ظاهر الآية { فاغسلوا وجوهكم } الغسل اجراء الماء على المحل وتسييله سواء وجد معه الدلك ام لا والوجه ما يواجهك من الانسان وحده من قصاص الشعر الى اسفل الذقن طولا ومن شحمة الاذن الى شحمة الاذن عرضا يجب غسل جميعه فى الوضوء ويجب ايصال الماء الى ما تحت الحاجبين واهداب العينين والشارب والعذار والعنفقة وان كانت كثيفة وعند الامام لا يجب غسل ما تحت الشعر ففرض اللحية عنده مسح ما يلاقى الوجه دون ما استرسل من الذقن لانه لما سقطت فرضية غسل ما تحت اللحية انتقلت فرضيته الى خلفه وظاهر الآية ان المضمضة والاستنشاق غير واجبين فى الوضوء لان اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن فهما من السنن { وايديكم الى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين فى المغسول ولذلك قيل الى بمعنى مع كقوله تعالى { ا تأكلوا اموالهم الى اموالكم } والمرافق جمع مرفق وهو مجتمع طرفى الساعد والعضد ويسمى مرفقا لانه الذى يرتفق به اى يتكأ عليه من اليد { وامسحوا برؤسكم } الباء مزيدة كما القى بيده. والمسح الاصابة وقدر الواجب عند ابى حنيفة ربع الرأس لانه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع فان للرأس جوانب اربعة ناصية وقذال وفودان والقذال مؤخر الرأس خلف الناصية وفودا الرأس جانباه فى الواقعات المحمودية قال حضرت الشيخ الشهير بافتاده افندى انكشف لى وجه الاختلاف فى مقدار مسح الناصية وهو ان بدن الانسان مربع فبالقياس اليه ينبغى ان يكون الممسوح ربع الرأس واما اعتبار قدر ثلاثة اصابع فالبنظر الى حال نفس الرأس فانه مسدس والسدس فيه قدر ثلاثة اصابع قال المرحوم حضرة محمود الهدايى قلت فحينئذ ينبغى ان يكون الاعتبار الاخير اولى لانه بالنظر الى حال نفسه بخلاف الاول لانه بالقياس على البدن فقال حضرة الشيخ افتاده وجه اولوية الاول ان البدن اكثر من الرأس فاتباع الاقل بالاكثر اولى انتهى قال الحدادى واما مسح الاذنين فهو سنة فيمسح ظاهر اذنيه بابهاميه وظاهرهما بمسبحتيه بماء الرأس واما مسح الرقبة فمستحب. وفى الحديث ( من مسح رقبته فى الوضوء امن من الغل يوم القيامة ) { وارجلكم الى الكعبين } بالنصب عطفا على وجوهكم ويؤيده السنة الشائعة وعمل الصحابة وقول اكثر الائمة والتحديد اذ المسح لم يعهد محدودا وانما جاء التحديد فى المغسولات قال فى الاشباه غسل الرجلين افضل من المسح على الخفين لمن يرى جوازه والا فهو افضل وكذا بحضرة من لا يراه انتهى وذهبت الروافض الى ان الواجب فى الرجلين المسح ورووا فى المسح خبرا ضعيفا شاذا قال صاحب الروضة خف الروافض مثل فى السعة لانه لا يرى المسح على الخف ويرى المسح على الرجلين فيوسعه ليتمكن من ادخل يده فيه ليمسح برجله وعن ابن المغيرة عن ابيه قال كنت مع النبى صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة فى سفر فقال ( أمعك ماء ) قلت نعم فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عنى فى سواد الليل ثم جاء فافرغت عليه من الاداوة فغسل وجه ويديه وعليه جبة من الصوف فلم يستطع ان يخرج ذراعيه منها حتى اخرجهما من اسفل الجبة فغسل ذراعيه ثم مسح برأسه ثم اهويت لانزع خفيه فقال ( دعهما فانى ادخلتهما طاهرين ) فمسح عليهما كذا فى تفسير البغوى واطبق العلماء على ان وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية ومن سنته النية فينوى رفع الحدث او اقامة الصلاة ليقع قربة واستعمال السواك فى غلظة الخنصر وطول الشبر حالة المضمضة تكميلا للانقاء او قبل الوضوء وعند فقده يعالج بالاصابع وينال بالاصبع ثواب السواك وفى الهداية الاصح ان السواك مستحب وعن مجاهد قال ابطأ جبريل عليه السلام على النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم اتاه فقال له النبى عليه السلام ( ما حبسك يا جبريل ) قال وكيف آتيكم وانتم لا تقصون اظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ { وما نتنزل الا بامر ربك } والبراجم مفاصل الاصابع والعقد التى على ظاهرها يجتمع فيها من الوسخ وفى الحديث ( نقوا براجمكم ) فامر بتنقيتها لئلا تدرن فتبقى فيها الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة وفى الحديث ( انظفوا لثاتكم ) جمع لثة بالتخفيف وهى اللحمة التى فوق الاسنان دون الاسنان فامر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وحل الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى الملكان لانه طريق القرآن ومقعد الملكين وتنفر الملائكة من الرائحة الكريهة وفى الحديث ( ان العبد اذا تسوك ثم قام يصلى قام الملك خلفه فيستمع لقراءته فيدنوا منه حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شىءي من القرآن الا صار فى جوف الملك فطهروا افواهكم للقرآن ) وفى الحديث ( ركعتان بسواك افضل من سبعين ركعة بغير سواك ) ويقول المتوضى بعد التسمية [ الحمد اللّه الذى جعل الماء طهورا ]. وعند المضمضة [ اللّهم اسقنى من حوض نبيك كأسا لا اظمأ بعدها ابدا اللّهم اعنى على ذكرك وشكرك وتلاوة كتابك ]. وعند الاستنشاق [ اللّهم لا تحرمنى من رائحة نعيمك وجنانك ] او يقول [ اللّهم ارحنى رائحة الجنة ولا ترحنى رائحة النار ]. وعند غسل الوجه [ اللّهم بيض وجهى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ] او يقول [ اللّهم بيض وجهى بنورك يوم تبيض وجوه اوليائك ولا تسود وجهى بذنوبى يوم تسود وجوه اعدائك ]. وعند غسل اليد اليمنى [ اللّهم اعطنى كتابى بيمينى وحاسبني حسابا يسيرا ] وعند غسل اليد اليسرى [ اللّهم لا تعطنى كتابى بشمالى ولا من وراء ظهرى ]. وعند مسح الرأس [ اللّهم حرم شعرى وبشرى على النار واظلنى تحت ظل عرشك يوم لا ظل الا ظلك اللّهم غشنى برحمتك وانزل على من بركاتك ]. وعند مسح الاذنين [ اللّهم اجعلنى من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه ]. وعند مسح رقبته [ اللّهم اعتق رقبتى من النار ]. وعند غسل الرجل اليمنى [ اللّهم ثبت قدمى على الصراط يوم تزل فيه الاقدام ]. وعند غسل الرجل اليسرى [ اللّهم اجعل لى سعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعملا مقبولا وتجارة لن تبور ] ويقول بعد الفراغ [ اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله اللّهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين واجعلنى من عبادك الصالحين الذين انعمت عليهم واجعلنى من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] والحكمة فى تخصيص الاعضاء الاربعة فى الوضوء ان آدم عليه السلام لما توجه الى الشجرة بالوجه وتناولها باليد ومشى اليها بالرجل ووضع يده على رأسه امره بغسل هذه الاعضاء تكفيرا للخطايا وقد جاء فى الحديث ( ان العبد اذا غسل وجهه خرجت خطاياه حتى تخرج من تحت اشفار عينيه ) وكذلك فى بقية الاعضاء. وقيل خص بغسل هذه الاعضاء الامة المحمدية ليكونوا غرا محجلين بين الامم كما روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتى المقبرة فقال ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وانا ان شاء اللّه بكم لاحقون وددت انا قد رأينا اخواننا ) قالوا أولسنا اخوانك يا رسول اللّه قال ( انتم اصحابى واخواننا الذين يأتون بعد ) قالوا كيف تعرف من يأتون بعد من امتك يا رسول اللّه فقال ( أرأيتم لو ان رجلا له خيل غر محجلة بين اظهر خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ) قالوا بلى يا رسول اللّه قال ( فانهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وانا فرطهم على الحوض ) واعلم ان النبى صلى اللّه عليه وسلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد فقال عمر رضى اللّه عنه صنعت شيأ لم تكن تصنعه فقال عليه السلام ( عمدا فعلته يا عمر ) يعنى بيانا للجواز غير انه يستحب تجديد الوضوء لكل فرض وفى الحديث ( من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات ) وللتجديد اثر ظاهر فى تنوير الباطل. وكان بعض اهل اللّه يتوضأ عند الغيبة والكذب والغضب لظهور غلبة النفس وتصرف الشيطان فالوضوء هو النور الذى به تضمحل ظلمات النفس والشيطان. وكان على وجه بعضهم قرح لم يندمل اثنتى عشرة سنة لضرر الماء له. وكان مع ذلك لم يدع تجديد الوضوء عند كل فريضة. ونزل فى عين بعضهم ماء اسود فقال الكحال لا بد من ترك الوضوء اياما والا فلا يعالج فاختار ذهاب بصره على ترك الوضوء. ودوام الطهارة مستجلب لمزيد الرزق كما قال عليه السلام ( دم على الطهارة يوسع عليك الرزق ) والسنة ان يصلى بعد الوضوء ركعتين تسمى شكر الوضوء روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لبلال ( يا بلال حدثنى بارجى عمل عملته فى الاسلام فانى سمعت دق نعليك بين يدى فى الحنة ) قال ما عملت عملا ارجى عندى من انى لم اتطهر طهورا فى ساعة من ليل او نهار الا صليت بذلك الطهور ما كتب لى ان اصلى قال فى الاسرار المحمدية لابن فخر الدين الرومى ويصلى شكر الوضوء وان فى الاوقات المكروهة لا الاوقات المحرمة كما قبل صلاة الفجر وبعدها وبعد صلاة العصر ايضا لانها من الصلوات ذوات الاسباب واما الاوقات المحرمة كطلوع الشمس وزوالها وغروبها فلا تجوز فيه اصلا فيصبر الى وقت اباحة الصلاة فيصليها حينئذ الا اذا كان بمكة عن جبير ان النبى عليه السلام قال ( يا بنى عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية شاء من ليل او نهار ) وعن جندب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس الا بمكة الا بمكة الا بمكة ) انتهى كلام الاسرار والاشارة فى الآية ان الخطاب فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا } هو خطاب مع الذين آمنوا ايمانا حقيقيا عند خطاب ألست بربكم بقولهم بلى. وهم اهل الصف الاول يوم الميثاق آمنوا بعدما عاينوا. واهل الصف الثانى آمنوا اذ شاهدوا. واهل الصف الثالث آمنوا اذ سمعوا الخطاب. واهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا لانهم ما عاينوا ولا شاهدوا ولا سمعوا خطاب الحق بسمع الفهم والدراية بل سمعوا سماع القهر والنكاية فتخيروا حتى سمعوا جواب اهل الصفوف الثلاثة اذ قالوا بلى فقالوا بتقليدهم بلى فلا جرم ههنا ما آمنوا وهم الكفار وان آمنوا ما آمنوا على التحقيق بل بالتقليد او بالنفاق وهم المنافقون. واهل الصف الثالث هم المسلمون وعوام المؤمنين فكما آمنوا هناك بسماع الخطاب فكذلك ههنا آمنوا بسماع كقوله تعالى { اننا سمعنا مناديا ينادى للايمان ان آمنوا بربكم فآمنا } واما اهل الصف الثانى وهم خواص المؤمنين وعوام الاولياء فكما انهم آمنوا هناك اذ شاهدوا فكذلك ههنا آمنوا بشواهد المعرفة كما قال { واذا سمعوا ما انزل الى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا } ومن ههنا قال بعضهم ما نظرت فى شىء الا ورأيت اللّه فيه. واما اهل الصف الاول وهم الانبياء وخواص الاولياء فكما آمنوا هناك اذ عاينوا فكذلك ههنا آمنوا اذ عاينوا كقوله تعالى { آمن الرسول بما انزل اليه من ربه } وذلك فى ليلة المعراج اذ اوحى الى عبده ما اوحى قال آمن الرسول بما انزل اليه من ربه وكان ايمان موسى عليه السلام نوعا من هذا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين. وقال على رضى اللّه عنه لم اعبد ربا لم اره. وقال بعضهم رأى قلبى ربى وقال آخر ما نظرت فى شىء الا ورأيت اللّه فيه فخاطب اهل الصف الاول بقوله يا ايها الذين آمنوا تحقيقا ثم اهبطوا عن ممالك القرب الى مهالك البعد ومن رياض الانس الى سباخ الانس { اذا قمتم } من نوم الغفلة انتبهتم من رقدة الفرقة { الى الصلوة } هى معراجكم للرجوع الى مقام قربكم كما قال { واسجد واقترب } { فاغسلوا وجوهكم } التى توجهتم بها الى الدنيا ولطختموها بالنظر الى الاغيار بماء التوبة والاستغفار { وايديكم الى المرافق } اى واغسلوا ايديكم عن التمسك بالدارين والتعلق بما فى الكونين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق { وامسحوا برؤسكم } ببذل نفوسكم { وارجلكم الى الكعبين } اى واغسلوا ارجلكم عن طين طينتكم والقيام بانانيتكم كذا فى التأويلات النجمية : قال الحافظ قدس سره من هماندم كه وضو ساختم ازجشمه عشق ... جار تكبير زدم يكسره برهرجه كه هست { وان كنتم جنبا فاطهروا } اى فتطهروا ادغمت تاء التفعل فى الطاء لقرب مخرجهما واجتلبت همزة الوصل ليمكن الابتداء فقيل اطهروا وهذا التطهر عبارة عن الاغتسال والاطهار هو التطهر بالتكلف والمبالغة فلا يكون الا بغسل جميع ظاهر البدن حتى لو بقى العجين بين اظفاره ويبس لم يجز غسله لان الماء لا يصل تحته ولو بقى الدرن جاز الا ان ما تعذر ايصال الماء اليه كداخل العين ساقط بخلاف باطن الانف والفم حيث يمكن غسلهما ولا ضرر فيه فيجب. والدلك ليس بفرض لانه متمم فيكون مستحبا وليس البدن كالثوب لان النجاسة تخللت فيه دون البدن. ففرض الغسل غسل الفم والانف وسائر البدن. وسنته غسل يديه لكونهما آلة التطهر. وفرجه لانه مظنة النجاسة ونجاسة حقيقية ان كانت على سائر بدنه لئلا تتلاشى عند اصابة الماء. والوضوء وضوءه للصلاة الا انه يؤخر غسل رجليه الى ما بعد صب الماء على جميع بدينه ان كانت فى مستنقع الماء تحرزا على الماء المستعمل وتثليث الغسل المستوعب هكذا حكى غسل رسول اللّه. ويبتدىء بمنكبه الايمن ثم الايسر ثم الرأس فى الاصح. وليس على المرأة نقض ضفيرتها ولا بلها ان بل اصلها لان كون الشعر من البدن باعتبار اصوله فيكتفى ببل اصوله فيما فيه حرج وفيما لا حرج فيه يجب ايصال الماء الى جميعه كالضفيرة المفتولة وحكم المنقوضة ليس كذلك بل يجب ايصال الماء الى جميعها لعدم الحرج فيها. والرجل يجب عيه ايصال الماء الى جميع شعره والفرق ان حلق الشعر للمرأة مثلة دون الرجل والحرج مندفع عنه بغير الضفيرة وادنى ما يكفى من الماء فى الغسل صاع وفى الوضوء مد والصاع ثمانة ارطال والمد رطلان لما روى ان النبى عليه السلام كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ثم اختلفوا هل المد من الصاع او من غيره فهذا ليس بتقدير لازم حتى لو اسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك جاز ولو اغتسل باكثر منه جاز ما لم يسرف فهو المكروه كذا فى الاختيار شرح المختار. والجنب الصحيح فى المصر اذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم فى قولهم. واما المحدث فى المصر اذا خاف الهلاك من التوضىء اختلفوا فيه على قول ابى حنيفة رحمه اللّه والصحيح انه لا يباح له التيمم كذا فى فتاوى قاضى خان. والمرأة اذا وجب عليها الغسل ولم تجد سترة من الرجال تؤخره والرجل اذا لم يجد سترة من الرجال لا يؤخره ويغتسل. وفى الاستنجاء اذا لم يجد سترة يتركه والفرق ان النجاسة الحكمية اقوى والمرأة بين النساء كالرجل بين الرجال كذا فى الاشباه وفى الحديث ( ثلاثة لا تقربهم الملائكة جيفة الكافر والمتضمخ بالخلوف والجنب الا ان يتوضأ ) وفى الحديث ( لا ينقع بول فى طست فى البيت فان الملائكة لا تدخل بيتا فيه بول منتقع ولا تبولنّ فى مغتسلك ) وفى الاغتسال منافع بدنية وفوائد دينية. منها مخالفة الكفار فانهم لا يغتسلون وازالة الدنس والابخرة الرديئة النفسانية التى تورث بعض الامراض وتسكين حرارة الشهوات الطبيعية قال الشيخ النيسابورى فى كتاب اللطائف فوائد الطهارة عشر طهارة الفؤاد وهو صرفه عما سوى اللّه تعالى. وطهارة السر المشاهدة. وطهارة الصدر الرجاء والقناعة. وطهارة الروح الحياء والهيبة. وطهارة البطن أكل الحلال والعفة عن اكل الحرام والشبهات. وطهارة البدن ترك الشهوات وازالة الادناس. وطهارة اليدين الورع والاجتهاد. وطهارة اللسان الذكر والاستغفار قال الثعلبى فى تفسير هذه الآية قال على رضى اللّه عنه اقبل عشرة من احبار اليهود فقالوا يا محمد لماذا امر اللّه بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط. وهما اقذر من النطفة فقال صلى اللّه عليه وسلم ( ان آدم لما اكل من الشجرة تحول فى عروقه وشعره فاذا جامع الانسان نزل من اصل كل شعرة فافترضه اللّه علىّ وعلى امتى تطهيرا وتكفيرا وشكرا لما انعم اللّه عليهم من اللذة التى يصيبونها ) قال فى بدائع الصنائع فى احكام الشرائع انما وجب غسل جميع البدن بخروج المنى ولم يجب بخروج البول والغائط وانما وجب غسل الاعضاء المخصوصة لا غير لوجوه. احدها ان قضاء الشهوة بانزال المنى استمتاع بنعمة يظهر اثرها فى جميع البدن وهى اللذة فامر بغسل جميع البدن شكرا لهذه النعمة وهذا لا يتقدر فى البول والغائط. والثانى ان الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره وباطنه لان الوطء الذى هو سببها لا يكون الا باستعمال جميع ما فى البدن من القوة حتى يضعف الانسان بالاكثار منه ويقوى بالامتناع عنه واذن اخذت الجنابة جميع البدن الظاهر والباطن بقدر الامكان ولا كذلك الحدث فانه لا يأخذ الا الظاهر من الاطراف لان سببه يكون بظواهر الاطراف من الاكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فاوجب غسل ظاهر الاطراف من الاكل والشرب ولا يكون باستعمال جميع البدن فاوجب غسل ظاهر الاطراف لا سائر البدن. والثالث ان غسل الكل او البعض وجب وسيلة الى الصلاة التى هى خدمة الرب سبحانه والقيام بين يديه وتعظيمه فيجب ان يكون المصلى على اطهر الاحوال وانظفها ليكون اقرب الى التعظيم واكمل فى الخدمة وكمال تعليم النظافة يحصل بغسل جميع البدن وهذا هو العزيمة فى الحديث ايضا الا ان ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى منه باكثر النظافة وهى تنقية الاطراف التى تنكشف كثيرا ويقع عليها الابصار ابدا واقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعا للحرج وتيسيرا وفضلا من اللّه ورحمة ولا حرج فى الجنابة لانها لا تكثر فبقى الامر فيها على العزيمة انتهى كلام البدائع هذا غسل الحى واما غسل الميت فشريعة ماضية لما روى أن آدم عليه السلام لما قبض نزل جبريل بالملائكة وغسلوه وقالوا لأولاده هذه سنة موتاكم وفى الحديث ( للمسلم على المسلم ستة حقوق ومن جملتها ان يغسله بعد موته ) ثم هو واجب عملا بكلمة على ولكن اذا قام به البعض سقط عن الباقين لحصول المقصود واريد بالسنة فى حديث آدم الطريقة ولو تعين واحد لغسله لا يحل له اخذ الاجرة عليه وانما وجب غسل الميت لانه تنجس بالموت كسائر الحيوانات الدموية الا انه يطهر بالغسل كرامة له ولو وجد ميت فى الماء فلا بد من غسله لان الخطاب بالغسل توجه لبنى آدم ولم يوجد منهم فعل. وقيل ان الميت اذا فارقته الروح وارتاح من شدة النزع انزل فوجب على الاحياء غسله كذا فى حل الرموز وكشف الكنوز والفرق بين غسل الميت والحى انه يستحب البداءة بغسل وجه الميت بخلاف الحى فانه يبدأ بغسل يديه ولا يمضمض ولا يستنشق بخلاف الحى ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف الحى ان كان فى مستنقع الماء ولا يمسح رأسه فى وضوء الغسل بخلاف الحى فى رواية كذا فى الاشباه والاشارة فى الآية { وان كنتم جنبا } بالالتفات الى غيرنا { فاطهروا } بالنفوس عن المعاصى وبالقلوب عن رؤية الطاعات وبالاسرار عن رؤية الاغيار وبالارواح عن الاسترواح من غيرنا وبسر السر عن لوث الوجود فلا بد من الطهارة مطلقا : قال الحافظ جون طهارت نبود كعبه وبتخانه يكيست ... نبود خيردران خانه كه عصمت نبود وفى وجوب الغسل اشارة وتنبيه الى وجوب الغسل الحقيقى لوجود القلب والروح ولتلوثه بحب الدنيا وشهواتها فيجب غسلها بماء التوبة والندامة والاخلاص فهو اوجب الواجبات وآكدها واستقصاء اهل اللّه فى تطهير الباطن اكثر واشد من استقصائهم فى طهارة الظاهر وقد يكون فى بعض متصوفة الزمان تشدد فى الطهارة فلو اتسخ ثوبه يغسله ولا يبالى بما فى باطنه من الغل وسائر الصفات الذميمة : قال السعدى قدس سره كراجامه باكست وسيرت بليد ... دردوزخش را نبايد كليد والقرآن لا يمسه الا المطهرون { وان كنتم مرضى } مرضا يخاف منه الهلاك او ازدياده باستعمال الماء { او } كنتم مستقرين { على سفر } طال او قصر { او جاء احد منكم من الغائط } هو المكان الغائر المطمئن والمجيىء منه كناية عن الحدث لان المعتاد ان من يريده يذهب اليه ليوارى شخصه عن اعين الناس { او لا مستم النساء } ملامسة النساء مماسة بشرة الرجل بشرة المرأة وهى كناية عن الجماع ومثل هذه الكناية من الآداب القرآنية اذ التصريح مستهجن { فلم تجدوا ماء } المراد من عدم وجدان الماء عدم التمكن من استعماله لان ما لا يتمكن من استعماله كالمفقود { فيتمموا صعيدا طيبا } اى فتعمدوا شيأ من وجه الارض طاهرا فالصعيد هو وجه الارض ترابا او غيره سمى صعيدا لكونه صاعدا طاهرا والطيب بمعنى الطاهر سواء كان منبثا ام لا حتى لو فرضنا صخرا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه وسمح كان ذلك كافيا عند ابى حنيفة رحمه اللّه { فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه } اى من ذلك الصعيد اى الى المرفقين لما روى انه صلى اللّه عليه وسلم تيمم ومسح يديه الى مرفقيه ولانه بدل من الوضوء فيقدر بقدره والباء مزيدة ومن لابتداء الغاية والمعنى فانقلوا بعد وضعهما على الصعيد الى الوجوه والايدى من غير ان يتخللّها ما يوجب الفصل { ما يريد اللّه } بالامر بالطهارة للصلاة او الامر بالتيمم { ليجعل عليكم من حرج } اى تضييقا عليكم فى الدين { ولكن يريد ليطهركم } اى لينظفكم او ليطهركم من الذنوب فان الوضوء مكفر لها كما روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( ايما رجل قام الى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئة كفيه مع اول قطرة فاذا تمضمض نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع اول قطرة واذا غسل وجهه ويديه الى المرفقين ورجليه الى الكعبين سلم من كل ذنب هو عليه وكان كيوم ولدته امه ) او ليطهركم بالتراب اذا اعوزكم التطهير بالماء { وليتم } بشرعه ما هو مطهرة لابدانكم ومكفرة لذنوبكم { نعمته عليكم } فى الدين اوليتم برخصته انعامه عليكم بعزائمه والرخصة ما شرع بناء على الاعذار والعزيمة ما شرع اصالة { لعلكم تشكرون } نعمته واعلم ان المقصود من طهارة الثوب وهو القشر الخارج البعيد ومن طهارة البدن وهو القشر القريب طهارة القلب وهو لب الباطن وطهارة القلب من نجاسات الاخلاق اهم الطهارات ولكن لا يبعد ان يكون لطهارة الظاهر ايضا تأثير فى اشراق نورها على القلب فاذا اسبغت الوضوء واستشعرت نظافة ظاهرك صادفت فى قلبك انشراحا وصفاء كنت لا تصادفه قبله وذلك لسر العلاقة التى بين عالم الملك وعالم الملكوت فان ظاهر البدن من عالم الشهادة والقلب من عالم الملكوت وكما ينحدر من معارف القلب آثار الى الجوارح فكذلك قد يرتفع من احوال الجوارح التى هى من عالم الشهادة آثار الى القلب ولذلك امر اللّه بالصلاة مع انها حركات الجوارح التى من عالم الشهادة ولذلك جعلها رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فى الدنيا ومن الدنيا فقال ( حبب الى من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عينى فى الصلاة ) ولا يستبعد ان يفيض من الطهارة الظاهرة اثر على الباطن وان اردت لذلك دليلا من الشرع فتفكر فى قول رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( خمس بخمس اذا اكل الربا كان الخسف والزلزلة واذاجار الحكام قحط المطر واذا ظهر الزنى كثر الموت واذا منعت الزكاة هلكت الماشية واذا تعدى على اهل الذنة كانت الدولة لهم ) وان كنت تطلب لهذا مثلا من المحسوسات ايضا فانظر الى ما يفيض اللّه من النور بواسطة المرآة المحاذية للشمس على بعض الاجسام المحاذية للمرآة وبالجملة ان اللّه تعالى جعل الوضوء والتيمم من اسباب الطهارة فلا بد من الاجتهاد فى تحصيل الطهارة مطلقا وان كان التوفيق من اللّه تعالى : كما قال الحافظ فيض ازل بزورزر ار آمدى بدست ... آب خضر نصيبه اسكندر آمدى والاشارة فى الآية { وان كنتم مرضى } بمرض حب الدنيا { او على سفر } فى متابعة الهوى { او جاء احد منكم من الغائط } فى قضاء حاجة شهوة من الشهوات { او لامستم النساء } وهى الدنيا فى تحصيل لذة من اللذات { فلم تجدوا ماء } التوبة والاستغفار { فتيمموا صعيدا طيبا } فتمعكوا فى تراب اقدام الكرام فانه طهور للذنوب العظام { وامسحوا بوجوهكم } من تراب اقدامهم وشمروا لخدمتهم { وايديكم منه } لان فيه شفاء لقساوة القلوب ودواء لمرض الذنوب { ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج } بهذه الذلة والصغار { ولكن يريد ليطهركم } من الذنوب الكبار واكبر الكبائر الشرك باللّه واعظم الشركاء الوجود مع وجود المعبود وهذا ذنب لا يغفر الا بالتمرغ فى هذا التراب ولوث لم يطهر الا بالالتجاء الى هذه الابواب { وليتم نعمته عليكم } بعد ذوبان نحاس انانيتكم بنار تصرفات هممهم العالية بطرح اكسير انوار الهوية { لعلكم تشكرون } اذ تهتدون بانوار الهوية الى رؤية انوار النعمة كذا فى التأويلات النجمية ٧ { واذكروا نعمة اللّه عليكم } بالاسلام لتذكركم المنعم وترغبكم فى شكره فان قيل ذكر نعمة الاسلام مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل من المسلم ان ينساها مع اشتغاله باقامة وظائف الاسلام على التوالى والدوام قلنا المواظبة على وظائف الشىء تنزل منزلة الامر الطبيعى المعتاد فينسى كونها نعمة الهية فتكون اقامة وظائفه اتباعا لمقتضى الطبيعة فلا تكون عبادة وانما تكون شكرا لو وقع اتباعا للامر { وميثاقه الذى واثقكم به } اى عهده المؤكد الذى اخذه عليكم وقوله تعالى { اذ قلتم سمعنا واطعنا } ظرف لواثقكم به وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذى اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة فى حال اليسر والعسر والمنشط والمكره { واتقوا اللّه } فى نسيان نعمه ونقض ميثاقه { ان اللّه عليم بذات الصدور } اى بخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لاطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بجليات الاعمال واعلم ان اول النعم التى انعم اللّه بها على المؤمنين اخراجهم من ظلمة العدم الى نور الوجود قبل كل موجود وخلقهم فى احسن تقويم لقبول الدين القويم وهدايتهم الى الصراط المستقيم واستماع الست بربكم وجواب بلى وتوفيقهم للسمع والطاعة ولو لم تكن نعمة التوفيق لقالوا سمعنا وعصينا كما قال اهل الخذلان والعصيان وعن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الاشجعى قال كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسعة او ثمانية او سبعة فقالوا ألا تبايعون رسول اللّه وكنا حديثى عهد ببيعته فقلنا قد بايعناك يا رسول اللّه قال ( ألا تبايعون رسول اللّه ) فبسطنا ايدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول اللّه فعلام نبايعك قال ( ان تعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيأ وتصلوا الصلوات الخمس وتطيعوا اوامره جلية وخفية ولا تسألوا الناس ) فلقد رأيت بعض اولئك النفر يسقط سوط احدهم فما يسأل احدا يناوله اياه حتى يكون هو ينزل فيأخذه وعن ابى ذر رضى اللّه عنه قال بايعنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسا واوثقنى سبعا واشهد اللّه على سبعا ان لا اخاف فى اللّه لومة لائم وعنه قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( اوصيك بتقوى اللّه بسر امرك وعلانيتك واذا اسأت فاحسن ولا تسألن احدا شيأ وان سقط سوطك ولا تقبض امانة ) قال الحافظ الشيرازى وفا وعهد نكو باشد اربياموزى ... وكرنه هركه توبينى ستمكرى داند اللّهم اجعلنا من الموفين بعودهم آمين ٨ { يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه } مقيمين لاوامره ومتمسكين بها معظمين لها مراعين لحقوقها { شهداء بالقسط } اى بالعدل خبر بعد خبر { ولا يجرمنكم } اى ولا يحملنكم { شنآن قوم } اى شدة بغضكم للمشركين { على ان لا تعدلوا } اى على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيا مما فى قلوبكم { اعدلوا هو } اى العدل { اقرب للتقوى } التى امرتم بها واذا كان وجوب العدل فى حق الكفار بهذه المثابة فما ظنك بوجوبه فى حق المسلمين { واتقوا اللّه } فانه ملاك الامر وزاد سفر الآخرة { ان اللّه خبير بما تعملون } من الاعمال فيجازيكم بذلك وحيث كان مضمون هذه الجملة التعليلية منبئا عن الوعد والوعيد عقب بالوعد لمن يخاف على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يخل بها فقيل ٩ { وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات } التى من جملتها العدل والتقوى والمفعول الثانى لوعد محذوف وهو الجنة كما صرح به فى غير هذا الموضع { لهم مغفرة } لذنوبهم { واجر عظيم } اى ثواب عظيم فى الجنة وهذه الجملة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب فان الجنة مسببة عن المغفرة وحصول الاجر فلا محل لها من الاعراب ١٠ { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } التى من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالامر بالعدل والتقوى { اولئك } الموصوفن بما ذكر من الكفر وتكذيب الآيات { اصحاب الجحيم } ملابسوها ملابسة مؤبدة وفيه مزيد وعد للمؤمنين لان الوعيد اللاحق باعدائهم مما يشفى صدورهم ويذهب ما كانوا يجدونه من اذاهم فان الانسان يفرح بان يهدد اعداؤ واعلم ان اللّه تعالى صرح للمؤمنين الامر بالعدل وبين انه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور وبين انه مقتضى الهوى لكون الحامل عليه البغض والشنآن فعلى المؤمن العدل فى حق الاولياء والاعداء خصوصا فى حق نفسك واهلك واولادك لما ورد ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) ووجد فى سرير انوشروان مكتوبا الملك لا يكون الا بالامارة والامارة لا تكون الا بالرجال ولا تكون الرجال الا بالاموال ولا تكون الاموال الا بالعمارة ولا تكون العمارة الا بالعدل بين الرعايا والسلطان شريك رعاياه فى كل خير عملوه : قال الحافظ شاه را به بود از طاعت صدساله وزهد ... قدريك ساعت عمرى كه درو دادكند وفى ترجمة وصايا الفتوحات لمحمد بن واسع [ ازا كابردين است روزى بر بلال بن برده كه والىء وقت بود در آمد واودر عيش بود وبيش اوبرف نهاده وبتنعم تمام تشسته محمد بن واسع راكفت يا ابا عبد اللّه اين خانه مارا جون بينى كفت اين خانه خوش است وليكن بهشت ازين خواشتراست وذكر آتش دوزخ از امثال اين غافل كرداند برسيدكه جه ميكويى درباب قدر كفت در همراز كان توكه درين مقابر مدفونند فكرى بكن تا از قدر برسيدن مشغول شوى كفت براى من دعا كن كفت دعاى من جه ميكنى وبر دركاه توجندين مظلومند همه برتو دعا ميكنند ودعاى ايشان بيشتر بالاميرود ظلم مكن وبدعاء من حاجت نيست ] ومن كلمات بهلول لهارون حين قال له من انا قال انت الذى لو ظلم احد فى المشرق وانت فى المغرب سألك اللّه عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون وفى عين المعانى العالم لا يدخل على الظلمة تحاميا عن الدعاء لهم بالبقاء فورد من دعا لظالم بالبقاء فقد احب ان يعصى اللّه فى ارضه فلا بد من النصيحة وترك المداهنة وفى الحديث ( ما ترك الحق لعمر من صديق ) وقال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر لما ادمت النصح والتحقيقا ... لم يتركا لى فى الوجود صديقا قال السعدى قدس سره بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... وكر هيج كس را نيايد بسند وبالجملة ان العدل من احسن الاخلاق وحكى ان انوشروان لما مات كان يطاف بتابوته فى جميع مملكته وينادى منادى من له علينا حق فليأت فلم يوجد احد فى ولايته عليه حق من درهم ولذا اشتهر بالعدل اشتهار حاتم بالجود حتى صار العادل لقبا له فلفظ العادل انما يطلق عليه لعدم جوره وظهور عدله لمجرد المدح والثناء عليه. واما سلاطين الزمان فلظهور جورهم وعدم اتصافهم بالعدل منعوا عن اطلاق العادل عليهم اذ اطلاقه عليهم حينئذ انما يكون لمجرد المدح لهم والثناء عليهم فيكون كذبا وكفرا فجواز اطلاق العادل على الكافر المنصف وعدم جواز اطلاقه على المسلمين الجائرين ليس بالنظر الى متانة العدل بل ذاك ليس الا ان العدل والجور متناقضان فلا يجتمعان قال فى زهرة الرياض اذا كان يوم القيامة ينصب لواء الصدق لابى بكر رضى اللّه عنه وكل صديق يكون تحت لوائه. ولواء العدل لعمر رضى اللّه عنه وكل عادل يكون تحت لوائه. ولواء السخاوة لعثمان رضى اللّه عنه وكل سخى يكون تحت لوائه. ولواء الشهداء لعلى رضى اللّه عنه وكل شهيد يكون تحت لوائه وكل فقيه تحت لواء معاذ بن جبل. وكل زاهد تحت لواء ابى ذر. وكل فقير تحت لواء ابى الدرداء. وكل مقرىء تحت لواء ابى بن كعب. وكل مؤذن تحت لواء بلال. وكل مقتول ظلما تحت لواء الحسين بن على فذلك قوله تعالى { يوم ندعو كل اناس بامامهم } الآية. والعدل فى الحقيقة هو الوسط المحمود فى كل فعل وقول وخلق وهو المأمور به فى قوله تعالى { فاستقم كما امرت } ولقد صار من نال اليه كالكبريت الاحمر والمسك الاذفر ومن اللّه الهداية والتوفيق آمين ١١ { يا ايها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم } متعلق بنعمة اللّه { اذ همّ قوم } ظرف لنفس النعمة اى اذكروا انعامه عليكم فى وقت همهم وقصدهم { ان يبسطوا اليكم ايديهم } اى بان يبطشوا بكم بالقتل والاهلاك يقال بسط اليه يده اذا بطش به وبسط اليه لسانه اذا شتمه { فكف ايديهم عنكم } عطف على هم وهو النعمة التى اريد تذكيرها وذكر الهم ايذان بوقوعها عند مزيد الحاجة اليها والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها اى منع ايديهم ان يمدوا اليكم عقيب همهم بذلك لا انه كفها عنكم بعدما مدوها اليكم وفيه من الدلالة على كمال النعمة من حيث انها لم تكن مشوبة بضرر الخوف والانزعاج الذى قلما يعرى عنه الكف بعد المد ما لا يخفى مكانه وذلك ما روى ان المشركين رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واصحابه بعسفان فى غزوة ذى انمار وغزوة ذات الرقاع وهى السابعة من مغازيه عليه السلام قاموا الى الظهر معا فلما صلوا ندم المشركون على ان لا كانوا قد اكبوا عليهم فقالوا ان لهم بعدها صلاة هى احب اليهم من آبائهم وابنائهم يعنون صلاة العصر وهموا ان يوقعوا بهم اذا قاموا اليها فردهم اللّه تعالى بكيدهم بان انزل صلاة الخوف وقيل هو ما روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتى بنى قريظة ومعه الشيخان وعلى رضى اللّه عنهم يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن امية الضمرى خطأ يحسبهما مشركين فقالوا انعم يا ابا القاسم اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما سألت فاجلسوه فى صفة وهموا بقتله وعمد عمرو بن جحاش الى رحى عظيمة يطرحها عليه فامسك اللّه تعالى يده ونزل جبريل فاخبر فخرج النبى عليه السلام وقيل هو ما روى انه صلى اللّه عليه وسلم نزل منزلا وتفرق اصحابه فى الفضى يستظلون بها فعلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيفه بشجرة فجاء اعرابى فاخذه وسله فقال من يمنعك منى فقال عليه السلام ( اللّه ) فاسقطه جبريل عليه السلام من يده فاخذه الرسول عليه السلام فقال ( من يمنعك منى ) فقال لا احج اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمدا رسول اللّه { واتقوا اللّه } عطف على اذكروا اى اتقوه فى رعاية حقوق نعمته فلا تخلوا بشكرها { وعلى اللّه } اى عليه تعالى خاصة دون غيره استقلالا واشتراكا { فليتوكل المؤمنون } فانه يكفيهم فى ايصال كل خير ودفع كل شر واعلم ان التوكل عبارة عن الاعتصام باللّه تعالى فى جميع الامور ومحله القلب والحركة بالظاهر لا تنافى توكل القلب بعدما تحقق للعبد ان التقدير من قبل اللّه فان تعسر شىء فبتقديره. واعلى مراتب التوكل ان يكون بين يدى اللّه تعالى كالميت بين يدى الغاسل تحركه القدرة الازلية وهو الذى قوى يقينه ألا ترى الى ابراهيم عليه السلام لما هم نمرود وقومه ان يبسطوا اليه ايديهم فرموه فى النار جاءه جبريل وهو فى الهواء فقال ألك حاجة قال أما اليك فلا وفاه بقوله حسبى اللّه ونعم الوكيل وانظر الى حقيقة توكل النبى عليه السلام حيث كف اللّه عنه وعن اصحابه ايدى المشركين رأسا فلم يقدروا ان يتعرضوا له بل ابتلوا فى اغلب الاحوال بما لا يخطر ببالهم من البلايا جزاء لهم على همهم بالسوء : وفى المثنوى قصه عاد وثمود از بهر جيست ... تابدانى كه ابيارا ناز كيست فالتوكل من معالى درجات المقربين فعلى المؤمن ان يتحلى بالصفات الحميدة ويسير فى طريق الحق بسيرة حسنة ودخل حكيم على رجل فرأى دارا متجددة وفرشا مبسوطة ورأى صاحبها خاليا من الفضائل فتنحنح فبزق على وجهه فقال ما هذا السفه ايها الحكيم فقال بل هو عين الحكمة لان البصاق لزق الى اخس ما كان فى الدار ولم ار فى دارك اخس منك لخلوك عن الفضائل الباطنة فنبه بذلك على دناءته وقبحه لكونه مسترسلا فى لذاته مستغرقا اوقاته لعمارة ظاهره : قال الحافظ رحمه اللّه قلندران حقيقت بنيم جو نخرند ... قباى اطلس آنكس كه از هنر عاريست ثم اعلم ان كل شىء بقضاء اللّه تعالى وان اللّه يختبر عباده بما اراد فعليهم ان يعتمدوا عليه فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعن ابى عثمان قال كان عيسى عليه السلام يصلى على رأس جبل فاتاه ابليس فقال انت الذى تزعم ان كل شىء بقضاء قال نعم قال الق نفسك من الجبل وقل قدر علىّ قال يا لعين اللّه يختبر العباد وليس العباد يختبرون اللّه وما على العبد الا التوكل والشكر على الانعام. ومن جملة انعام اللّه تعالى الاخراج من ظلمة العدم الى نور الوجود بامر كن واللّه يعلم ان رجوع العباد الى العدم ليس بهم ولا اليهم كما لم يكن خروجهم بهم فان خروجهم كان بجذبة امر كن فكذلك رجوعهم لا يكون الا بجذبة امر ارجعى فعليهم ان يكونوا واثقين بكرم اللّه وفضله مسارعين فى طلب مرضاة اللّه جاهدين على وفق الاوامر والنواهى فى اللّه ليهديهم الى جذبات عنايته ولطفه ١٢ { ولقد اخذ اللّه ميثاق بنى اسرائيل } اى باللّه قد اخذ اللّه عهد طائفة اليهود والالتفات فى قوله تعالى { وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا } للجرى على سنن الكبرياء او لان البعث كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتى اى شاهدا من كل سبط ينقب عن احوال قومه ويفتش عنها او كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما امروا به وقد روى ان النبى عليه السلام جعل للانصار ليلة العقبة اثنى عشر نقيبا وفائدة النقيب ان القوم اذا علموا ان عليهم نقيبا كانوا اقرب الى الاستقامة. والنقيب العريف نظيران وقيل النقيب فوق العريف قال فى شرح الشرعة العريف فعيل بمعنى مفعول وهو سيد القوم والقيم بامور الجماعة من القبيلة والمحلة يلى امورهم ويتعرف الامير منه احوالهم وهو دون الرئيس والعرافة كالسيادة لفظا ومعنى وفى الحديث ( العرافة حق ولا بد للناس من عرفاء ولكن العرفاء فى النار ) يعنى ان سيادة القوم جائزة فى الشرع لان بها ينتظم مصالح الناس وقضاء اشغالهم فهى مصلحة ورفق للناس تدعوا اليها الضرورة. وقوله ولكن العرفاء فى النار اى اكثرهم فيها اذ المجتنب عن الظلم منهم يستحق الثواب لكن لما كان الغالب منهم خلاف ذلك اجراه مجرى الكل كذا فى شرح المصابيح : قال السعدى رياست بدست كسانى خطاست ... كه از دستشان دستهابر خداست مكن تاتوانى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش نماند ستمكار بد روزكار ... بماند برو لعنت بايدار مها زرومندى مكن بركهان ... كه بريك نمط مى نماند جهان دل دوستان جمع بهتركه كنج ... خزينه تهى به كه مردم برنج بقومى كه نيكى بسندد خداى ... دهد خسرو عادل نيك راى جوخواهدكه ويران كند عالمى ... كند ملك دربنجه ظالمى { وقال اللّه } اى لبنى اسرائيل فقط اذ هم المحتاجون الى الترغيب والترهيب { انى معكم } اى بالعلم والقدرة والنصرة اسمع كلامكم وارى اعمالكم واعلم ضمائركم فاجازيكم بذلك وتم الكلام هنا ثم ابتدأ بالجملة الشرطية فقال مخاطبا لبنى اسرائيل ايضا { لئن اقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلى } اى بجميعهم واللام موطئة للقسم المحذوف { وعزرتموهم } اى نصرتموهم وقويتموهم واصله الذب وهو المنع والدفع ومنه التعزير ومن نصر انسانا فقد ذب عند عدوه يقال عزرت فلانا اى فعلت به ما يرده عن القبيح ويمنعه عنه { واقرضتم اللّه } بالانفاق فى سبيل الخير او بالتصدق بالصدقات المندوبة فظهر الفرق بين هذا الاقراض وبين اخراج الزكاة فانها واجبة { قرضا حسنا } وهو ان يكون من حلال المال وخياره برغبة واخلاص لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يكدرها من ولا اذى وانتصابه يحتمل ان يكون على المصدرية لانه اسم مصدر بمعنى اقراضا كما فى انبتها نباتا حسنا بمعنى انباتا ويحتمل ان يكون على المفعولية على انه اسم للمال المقرض { لاكفرن عنكم سيآتكم } جواب للقسم المدلول عليه باللام ساد مسد جواب الشرط { ولادخلنكم جنات } اى بساطين { تجرى من تحتها } اى من تحت اشجارها ومساكنها { الانهار } الاربعة واخره لضرورة تقدم التخلية على التحلية { فمن كفر } اى برسلى وبشىء مما عدد فى حيز الشرط والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب والترهيب { بعد ذلك } الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم الموجب للايمان قطعا { منكم } متعلق بمضمر وقع حالا من فاعل كفر { فقد ضل سواء السبيل } اى وسط الطريق الواضح ضلالا بينا واخطأ خطأ فاحشا لا عذر معه اصلا بخلاف من كفر قبل ذلك اذ ربما يمكن ان يكون له شبهة ويتوهم له معذرة روى ان بنى اسرائيل لما استقروا بمصر بعد مهلك فرعون امرهم اللّه تعالى بالمسير الى اريحا من ارض الشام وهى الارض المقدسة وكانت لها الف قرية فى كل قرية الف بستان وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم انى كتبتها لكم دارا قرارا فاخرجوا اليها وجاهدوا من فيها وانى ناصركم وامر موسى عليه السلام ان يأخذ من كل سبط نقيبا امينا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما امروا به توثقة عليهم فاختار النقباء واخذ الميثاق على بنى اسرائيل وتكفل لهم النقباء وسار بهم فلما دنا من ارض كنعان بعث النقباء يتجسسون له الاخبار ويعلمون علمها فرأوا اجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا فرجعوا وحدثوا قومهم بما رأوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاق الا كالب بن يوقنا نقيب سبط يهودا ويوشع بن نون نقيب سبط افرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام قيل لما توجه النقباء الى ارضهم للتجسس لقيهم عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار الحرب فيشويه بعين الشمس يرفعه اليها ثم يأكله ويروى ان الماء طبق ما على الارض من جبل فى طوفان نوح وما جاوز ركبتى عوج وكانت امه عنق احدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الارض فلما لقى عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب اخذ الاثنى عشر نقيبا وجعلهم فى الحزمة فانطلق بهم الى امرأته وقال انظرى الى هؤلاء الذين يزعمون قتالنا فطرحهم بين يديها وقال ألا اطحنهم برجلى فقالت لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك وروى انه جعلهم فى كمه واتى بهم الملك فنشرهم بين يديه فقال ارجعوا الى قومكم فاخبروهم بما رأيتم وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم الا خمسة انفس او اربعة بينهم فى خشبة ويدخل فى شطر رمانة اذا نزع حبها خمسة انفس فجعلوا يتعرفون باحوالهم فلما رجعوا قال بعضهم لبعض انكم ان اخبرتم بنى اسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبى اللّه ولكن اكتموه الا عن موسى وهارون فيكونان هما يريان رأيهما فاخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم انصرفوا الى موسى عليه السلام وكان معهم حبة من عنبهم وقر جمل فنكثوا عهدهم وجعل كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى الا كالب ويوشع وكان معسكر موسى فرسخا فى فرسخ فجاء عوج حتى نظر اليهم ثم رجع الى جبل فقوّر منه صخرة عظيمة على قدر المعسكر ثم حملها على رأسه ليطبقها عليهم فبعث اللّه الهدهد فقوّر من الصخرة وسطها المحاذى لرأسه فانتقبت فوقعت فى عنق عوج فطوقته فصرعته واقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة اذرع وكذا طول العصا فترامى فى السماء عشرة اذرع فما اصاب العصا الا كعبه وهو مصروع فقتله قالوا فاقبلت جماعة ومعهم الخناجر حتى جذروا رأسه وهكذا سنة اللّه فيما اراد حيث ينصر اولياءه بما لا يخطر ببالهم وللّه فى كل فعله حكمة تامة ومصلحة شاملة واعلم ان اللّه تعالى كما جعل فى امة موسى من النقباء المختارين المرجوع اليهم عند الضرورة اثنى عشر كذلك جعل من كمال عنايته فى هذه الامة من النجباء البدلاء واعزة الاولياء اربعين رجلا فى كل حال وزمان كما قال النبى عليه السلام ( يكون فى الامة اربعون على خلق ابراهيم وسبعة على خلق عيسى وواحدة على خلقى ) فهم على مراتب درجاتهم ومناصب مقاماتهم امنة هذه الامة كما قال عليه السلام ( بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم يدفع اللّه البلاء ) قال ابو عثمان المغربى البلداء اربعون والامناء سبعة والخلفاء من الائمة ثلاثة والواحد هو القطب عارف بهم جميعا ومشرف عليهم ولا يعرفه احد ولا يشرف عليه وهو امام الاولياء الثلاثة الذين هم الخلفاء من الائمة وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه والخلفاء الثلاثة يعرفون السبعة الذين هم الامناء ولا يعرفهم اولئك السبعة والسبعة يعرفون الاربعين الذين هم البدلاء ولا يعرفهم البدلاء الاربعون وهم يعرفون سائر الاولياء من الامة ولا يعرفهم من الاولياء احد فاذا نقص من الاربعين واحد جعل مكانه واحد من الاولياء واذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الاربعين واذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة واذا مضى القطب الذى هو الواحد فى العدد وبه قوام اعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا الى ان يأذن اللّه تعالى فى قيام الساعة كما فى التأويلات النجمية وقال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر القطب يحفظ المركز والامام الايمن يحفظ عالم الارواح والامام الايسر يحفظ عالم الاجساد والاوتاد الاربعة يحفظون الشرق والغرب والجنوب والشمال والابدال السبعة يحفظون اقاليم الكرة علوا وسفلا انتهى كلامه فى كتاب العظيمة ويقول الفقير جامع هذه المجالس اللطائف سمعت من حضرة شيخى وسندى الذى بمنزلة روحى فى جسدى ان قطب الوجود اذا انتقل الى الدار الآخرة يكون خليفته فى الجانب الايسر من الافراد دون الجانب الايمن وذلك لان يسار الامام يمين ويمينه يسار حين الاستقبال الى القوم واليه الاشارة بقوله تعالى { واصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة واصحاب المشأمة ما اصحاب المشأمة } فان لفظة ما عند اهل التحقيق نافية واهل اليسار اهل الجلال والفناء واهل اليمين اهل الجمال والبقاء فافهم هذا السر البديع وكن ممن القى سمعه وهو شهيد فان المنكر الغافل طريد عن الحق بعيد بسر وقت شان خلق كى ره برند ... كه جون آب حيوان بظلمت درند قال الصائب سخن عشق باخرد كفتن ... بر رك مرده نيشتر زدنست ثم تحقيق قوله تعالى { لئن اقمتم الصلوة } ان اقامة الصلاة فى ادامتها بان تجعل الصلاة معراجك الى الحق وتديم العروج بدرجاتها الى ان تشاهد الحق كما شاهدت يوم الميثاق ودرجاتها اربع القيام والركوح والسجود والتشهد على حسب دركات نزلت بها من اعلى عليين وجوار رب العالمين الى اسفل السافلين القلب وهى العناصر الاربعة التى خلق منها قالب الانسان فالمتولدات منها على اربعة اقسام ولكل قسم منها ظلمة وخاصية تحجبك عن مشاهدة الحق وهى الجمادية وخاصيتها التشهد ثم النباتية وخاصيتها السجود ثم الحيوانية وخاصيتها الركوع ثم الانسانية وخاصيتها القيام يشير اليك بالتخلص من حجب اوصاف الانسانية واعظمها الكبر وهو من خاصية النار والركوع يشير اليك بالتخلص من حجب صفات الحيوانية واعظمها الشهوة وهى من خاصية الهواء والسجود يشير اليك بالتخلص من حجب طبع النباتية واعظمها الحرص على الجذب للشىء والنمو وهو من خاصية الماء والتشهد يشير اليك بالتخلص من حجب طبع الجمادية واعظمها الجمودية وهى من خاصية التراب ومن هذه الصفات الاربع تنشأ بقية صفات البشرية فاذا تخلصت من هذه الدركات والحجب ورجعت بهذه المدارج الاربعة الى جوار رب العالمين وقربه فقد اقمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما قال صلى اللّه عليه وسلم ( اعبد اللّه كأنك تراه ) كذا فى التأويلات النجمية ١٣ { فبما نقضهم ميثاقهم } اى فبسب نقض اليهود عهدهم وهو انهم كذبوا الرسل بعد موسى وقتلوا الانبياء ونبذوا الكتاب وضيعوا فرائضه وما مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه فى النفس { لعناهم } اى طردناهم وابعدناهم من رحمتنا او مسخناهم قردة وخنازير او اذللناهم بضرب الجزية عليهم { وجعلنا قلوبهم قاسية } اى غليظة شديدة بحيث لا تتأثر من الآيات والنذر وحجر قاس اى صلب غير لين { يحرفون الكلم عن مواضعه } استئناف لبيان قسوة قلوبهم فانه لا قسوة اشد من تغيير كلام اللّه والافتراء عليه والمراد بالتحريف اما تبديلهم نعت النبى صلى اللّه عليه وسلم واما تبديلهم بسوء التأويل وقد سبق فى سورة البقرة { ونسوا حظا } اى وتركوا نصيبا وافرا { مما ذكروا به } من التوراة او من اتباع محمد عليه السلام والمعنى انهم حرفوا التوراة وتركوا حظهم مما انزل عليهم فلم ينالوه وقيل معناه انهم حرفوها فتركت بشؤمه اشياء منها عن حفظهم لما روى عن ابن مسعود رضى اللّه عنه قال قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية روى ان اللّه تعالى غير العلم على امية بن ابى الصلت وكان من بلغاء الشعراء كان نائما فاتاه طائر وادخل منقاره فى فيه فلما استيقظ نسى جميع علومه : قال الحافظ نه من زبى عملى درجهان ملولم وبس ... ملالت علما هم زعلم بى عملست واعلم ان العلماء العاملين والمشايخ الواصلين لا يزالون يذكرون الناس كل عصر يوم الميثاق ومخاطبة الحق اياهم تشويقا لهم الى تلك الاحوال فمن سامع ومن معرض فالسامع لكونه معرضا عن الدنيا والعقبى وصل الى جوار المولى فكان مقبولا مرحوما والمعرض لكونه مقبلا على ما سوى المولى لم ينل شيأ فكان مردودا ملعونا لانه نقض عهده مع اللّه سبحانه وتعالى : وفى المثنوى بى وفايى جون سكانرا عاربود ... بى وفايى جون رو ادارى نمود حق تعالى فخر آورد ازوفا ... كفت من اوفى بعهد غيرنا { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } اى خيانة على انها مصدر كاللاغية والكاذبة قال اللّه تعالى { لا تسمع فيها لاغية } اى لغوا والمعنى ان الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولاسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها او يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم { الا قليلا منهم } لم يخونوا وهم الذين آمنوا منهم كعبد اللّه بن سلام واضرابه وهو استثناء من الضمير المجرور فى منهم { فاعف عنهم واصفح } اى اعرض عنهم ولا تتعرض لهم بالمعاقبة والمؤاخذة ان تابوا وآمنوا او عاهدوا والتزموا الجزية وقيل مطلق نسخ بآية السيف وهو قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر } { ان اللّه يحب المحسنين } تعليل للامر بالصفح وحث على الامتثال وتنبيه على ان العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن العفو عن غيره : قال السعدى ١٤ { ومن الذين قالوا انا نصارى اخذنا ميثاقهم } اى واخذنا من النصارى ميثاقهم كما اخذنا ممن قبلهم من اليهود ومن متعلقة باخذنا والتقديم للاهتمام وانما قال قالوا انا نصارى ولم يقل ومن النصارى تنبيها على انهم نصارى بتسميتهم انفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة اللّه بقولهم لعيسى عليه السلام نحن انصار اللّه وليسوا موصوفين بانهم نصارى بتوصيف اللّه اياهم بذلك ومعنى اخذ الميثاق هو ما اخذ اللّه عليهم فى الانجيل من العهد المؤكد باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم وبيان صفته ونعته { فنسوا حظا } اى تركوا نصيبا وافرا { مما ذكروا به } فى تضاعيف الميثاق من الايمان وما يتفرع عليه من افعال الخير { فاغرينا } اى الزمنا والصقنا من غرى بالشىء اذا لزمه ولصق به واغراه غيره { بينهم } ظرف لاغرينا { العداوة } وهى تباعد القلوب والنيات { والبغضاء } اى البغض { الى يوم القيامة } غاية للاغراء او للعداوة والبغضاء اى يتعادون ويتباغضون الى يوم القيامة { وسوف ينئبهم اللّه } اى يخبرهم فى الآخرة { بما كانوا يصنعون } وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده ساخبرك بما فعلت اى يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والتعبير عن العمل بالصنع للايذان برسوخهم فى ذلك قيل الذى القى العداوة بين النصارى رجل يقال له بولس وكان بينه وبين النصارى قتال قتل منهم خلقا كثيرا فاراد ان يحتال بحيلة يلقى بينهم القتال فيقتل بعضهم بعضا فجاء الى النصارى وجعل نفسه اعور وقال لهم ألا تعرفوننى فقالوا انت الذى قتلت ما قتلت منا وفعلت ما فعلت فقال قد فعلت ذلك كله والآن تبت لانى رأيت عيسى عليه الصلاة والسلام فى المنام نزل من السماء فلطم وجهى لطمة فقأ عينى فقال اى شىء تريد من قومى فتبت على يده ثم جئتكم لاكون بين ظهرانيكم واعلمكم شرائع دينكم كما علمنى عيسى عليه السلام فى المنام فاتخذوا له غرفة فصعد تلك الغرفة وفتح كوة الى الناس فى الحائط وكان يتعبد فى الغرفة وربما كانوا يجتمعون اليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة وربما يأمرهم بان يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة ويقول لهم قول كان فى الظاهر منكرا وينكرون عليه فكان يفسر ذلك القول تفسيرا يعجبهم ذلك فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به فقال يوما من الايام اجتمعوا عندى فقد حضرنى علم فاجتمعوا فقال لهم أليس خلق اللّه تعالى هذه الاشياء فى الدنيا كلها لمنفعة بنى آدم قالوا نعم فقال لم تحرمون على انفسكم هذه الاشياء يعنى الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما فى الارض جميعا فاخذوا قوله فاستحلوا الخمر والخنزير فلما مضى على ذلك ايام دعام وقال حضرنى علم فاجتمعوا فقال لهم من اى ناحية تطلع الشمس فقالوا من قبل المشرق فقال ومن اى ناحية يطلع القمر والنجوم فقالوا من قبل المشرق فقال ومن يرسلهم من قبل المشرق قالوا اللّه تعالى فقال فاعلموا انه تعالى فى قبل المشرق فان صليتم له فصلوا اليه فحول صلاتهم الى المشرق فلما مضى على ذلك ايام دعا بطائفة منهم وامرهم بان يدخلوا عليه فى الغرفة وقال لهم انى اريد ان اجعل نفسى الليلة قربانا لاجل عيسى وقد حضرنى علم فاريد ان اخبركم فى السر لتحفظوا عنى وتدعوا الناس الى ذلك بعدى ويقال ايضا انه اصبح يوما وفتح عينه الاخرى ثم دعاهم وقال لهم جاءنى عيسى الليلة وقال قد رضيت عنك فمسح يده على عينى فبرئت والآن اريد ان اجعل نفسى قربانا له ثم قال هل يستطيع احد ان يحيى الموتى ويبرىء الاكمه والابرص الا اللّه تعالى فقالوا لا فقال ان عيسى قد فعل هذه الاشياء فاعلموا انه هو اللّه تعالى فخرجوا من عنده ثم دعا بطائفة اخرى فاخبرهم بذلك ايضا وقال انه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة واخبرهم بذلك ايضا وقال انه ثالث ثلاثة واخبرهم انه يريد ان يجعل نفسه الليلة قربانا فلما كان بعض الليالى خرج من بين ظهرانيهم فاصبحوا وجعل كل فريق يقول قد علمنى كذا وكذا وقال الفريق الآخر انت كاذب بل علمنى كذا وكذا فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقا كثيرا وبقيت العداوة بينهم الى يوم القيامة وهم ثلاث فرق منهم النسطورية قالوا المسيح ابن اللّه والثانية الملكانية قالوا ان اللّه تعالى ثالث ثلاثة المسيح وامه واللّه والفرقة الثالثة اليعقوبية قالوا ان اللّه هو المسيح : قال جلال الدين رومى قدس سره درتصور ذات اورا كنج كو ... تادر آيد درتصور مثل او كربغايت نيك وكربد كفته اند ... هرجه زوكفتند ازخود كفته اند مى مكن جندين قياس اى حق شناس ... زانكه نايد ذات بيجون درقياس فعلى المؤمن ان يلاحظ قوله تعالى { وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون } وان يشتغل بنفسه عن غيره وفى الحديث ( ما منكم من احد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم وينظر اشأم منه فلا يرى الا ما قدم فينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ) يعنى من لم يجد شيأ يتقى به النار فليتق منها بقول حسن يطيب به قلب المسلم فان الكلمة الطيبة من الصدقات والاشارة فى الآية ان اللّه تعالى اخذ الميثاق من اليهود والنصارى على التوحيد كما اخذ من هذه الامة يوم الميثاق ولكنه لما وكل الفريقين الى انفسهم نسوا ما ذكروا به فما بقى لهم حظ من ذلك الميثاق بابطال الاستعداد الفطرى لكمال الانسانية فصاروا كالانعام بل هم اضل اى بل كالسباع يتحارشون ويتناوشون بالعداوة والبغضاء الى يوم القيامة فان ارباب الغفلة لا الفة بينهم وان اصحاب الوفاق لا وحشة بينهم واما هذه الامة لما ايدت بتأييد الاله اذ كتب فى قلوبهم الايمان بقلم خطاب ألست بربكم يوم الميثاق وايدهم بروح منه ما نسوا حظا مما ذكروا به وقيل لنبيهم عليه الصلاة والسلام { وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين } وقال تعالى خطابا لهم اذ لم ينسوا حظهم ولم ينقضوا ميثاقهم { فاذكرونى اذكركم } على ان ذكره اياهم كان قبل وجودهم وذكرهم اياه حين ذكرهم المحبة وقال { يحبهم ويحبونه } كذا فى التأويلات النجمية ١٥ { يا اهل الكتاب } يعنى اليهود والنصارى والكتاب جنس شامل للتوراة والانجيل { قد جاءكم رسولنا } الاضافة للتشريف والايذان بوجوب اتباعه { يبين لكم } حال من رسولنا اى حال كونه مبينا لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة { كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } اى كثيرا كائنا من الذى كنتم تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب اى التوراة والانجيل الذى انتم اهله والمتمسكون به كنعت محمد عليه السلام وآية الرجم فى التوراة وبشارة عيسى باحمد عليهما السلام فى الانجيل { ويعفوا عن كثير } مما تخفونه اى لا يظهره ولا يخبره اذا لم يضطر اليه امر دينى صيانة لكم عن زيادة الافتضاح { قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين } المراد بالنور والكتاب هو القرآن لما فيه من كشف ظلمات الشرك والشك وابانة ما خفى على الناس من الحق او الاعجاز الواضح والعطف المنبىء على تغاير الطريفين لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات وقيل المراد بالاول هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم وبالثانى القرآن ١٦ { يهدى به اللّه } وحد الضمير لان المراد بهما واحد بالذات او لانهما فى حكم الواحد فان المقصود منهما دعوة الخلق الى الحق احدهما رسول آلهى والآخر معجزته وبيان ما يدعو اليه من الحق { من اتبع رضوانه } اى رضاه بالايمان به { سبل السلام } اى طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب على ان يكون السلام بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة او سبيل اللّه تعالى وهو شريعته التى شرعها للناس على ان يكون السلام هو اللّه تعالى وانتصاب سبل بنزع الخافض فان يهدى انما يتعدى الى الثانى بالى او باللام كما فى قوله تعالى { ان هذا القرآن يهدى للتى هى اقوم } { ويخرجهم } الضمير لمن والجمع باعتبار المعنى كما ان الافراد فى اتبع باعتبار اللفظ { من الظلمات } اى ظلمات فنون الكفر والضلال { الى النور } الى الايمان وسمى الايمان نورا لان الانسان اذا آمن ابصر به طريق نجاته فطلبه وطريق هلاكه فحذره { باذنه } اى بتيسيره وارادته { ويهديهم الى صراط مستقيم } اى طريق هو اقرب الطرق الى اللّه تعالى ومؤد اليه لا محالة وهذه الهداية عين الهداية الى سبل السلام وانما عطف عليها تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى كما فى قوله تعالى { فلما جاء امرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمه منا ونجيناهم من عذاب غليظ } واعلم ان اللّه تعالى بعث النبى صلى اللّه عليه وسلم نورا يبين حقيقة حظ الانسان من اللّه تعالى وانه تعالى سمى نفسه نورا بقوله تعالى { اللّه نور السموات والارض } لانهما كانتا مخفيتين فى ظلمة العدم فاللّه تعالى اظهرهما بالايجاد وسمى الرسول نورا لان اول شىء اظهره الحق بنور قدرته من ظلمة العدم كان نور محمد صلى اللّه عليه وسلم كما قال ( اول ما خلق اللّه نورى ) ثم خلق العالم بما فيه من نوره بعضه من بعض فلما ظهرت الموجودات من وجود نوره سماه نورا وكل ما كان اقرب الى الاختراع كان اولى باسم النور كما ان عالم الارواح اقرب الى الاختراع من عالم الاجسام فلذلك سمى عالم الانوار والعلويات نورانيا بالنسبة الى السفليات فاقرب الموجودات الى الاختراع لما كان نور النبى عليه السلام كان اولى باسم النور ولهذا كان يقول ( انا من اللّه والمؤمنون منى ) وقال تعالى { قد جاءكم من اللّه نور } وروى عن النبى عليه السلام انه قال ( كنت نورا بين يدى ربى قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام وكان يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق اللّه آدم القى ذلك النور فى صلبه ) وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما عن النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم انه قال ( لما خلق اللّه آدم اهبطنى فى صلبه الى الارض وجعلنى فى صلب نوح فى السفينة وقذفنى فى صلب ابراهيم ثم لم يزل تعالى ينقلنى من الاصلاب الكريمة والارحام الطاهرة حتى اخرجنى بين ابوى لم يلتقيا على سفاح قط ) قال العرفى فى قصيدته النعتية اين بس شرف كوهر تومنشى تقدير ... آن روزكه بكذاشتى اقليم قدم را تاحكم نزول تودرين دارنوشته است ... صدره بعبث باز تراشيد قلم را وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( لما اعترف آدم بالخطيئة قال يا رب اسألك بحق محمد ان تغفر لى فقال اللّه يا آدم كيف عرفت محمدا ولم اخلقه قال لانك لما خلقتنى بيدك ونفخت فى من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فعرفت انك لم تضف الى اسمك الا اسم احب الخلق اليك فقال اللّه تعالى صدقت يا آدم انه لأحب الخلق الى فغفرت لك ولولا محمد لما خلقت ) رواه البيهقى فى دلائله ١٧ { لقد كفر الذين قالوا ان اللّه هو المسيح ابن مريم } لا غير كما يقال الكرم هو التقوى نزلت فى نصارى نجران وهم اليعقوبية القائلون بانه تعالى قد يحل فى بدن انسان معين او فى روحه { قل } يا محمد تبكيتا لهم ان كان الامر كما تزعمون { فمن } استفهامية انكارية { يملك } الملك الضبط والحفظ التام عن حزم اى يمنع { من اللّه } اى من قدرته وارادته { شيأ } وحقيقته فمن يستطيع ان يمسك شيأ منها { ان اراد ان يهلك المسيح ابن مريم وامه ومن فى الارض جميعا } احتج بذلك على فساد قولهم وتقريره ان المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الالوهية وكيف يكون آلها من لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه ولا عن غيره والمراد بالاهلاك الامانة والاعدام مطلقا لا بطريق السخط والغضب ولعل انظم امه فى سلك من فرض ارادة اهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها انموذجا لحال بقية من فرض اهلاكه كأنه قيل قل فمن يملك من اللّه شيأ ان اراد ان يهلك المسيح ابن مريم وامه ومن فى الارض وقد اهلك امه فهل مانعه احد فكذا حال من عداها من الموجودين { وللّه ملك السموات والارض وما بينهما } اى ما بين قطرى العالم الجسمانى لا بين وجه الارض ومقعر فلك القمر فقط فيناول ما فى السموات من الملائكة وما فى اعماق الارض والبحار من المخلوقات وهو تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته اثر الاشارة الى كون البعض اى من فى الارض كذلك اى له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها ايجادا واعداما واحياء واماتة لا لاحد سواه استقلالا ولا اشتراكا فهو تحقيق لاختصاص الالوهية به تعالى اثر بيان انتفائها عن كل ما سواه { يخلق ما يشاء } اى يخلق ما يشاء من انواع الخلق والايجاد على ان ما نكرة موصوفة محلها النصب على المصدرية لا على المفعولية كأنه قيل يخلق اى خلق يشاؤه فتارة يخلق من غير اصل كخلق السموات والارض واخرى من اصل كخلق السموات والارض واخرى من اصل كخلق ما بينهما فينشىء من اصل ليس من جنس كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن اصل يجانسه اما من ذكر وحده كخلق حواء او انثى وحدها كخلق عيسى او منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شىء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى معجزة له واحياء الموتى وابراء الاكمه والابرص وغير ذلك فينسب كل اليه تعالى لا الى من اجرى ذلك على يده { واللّه على كل شىء قدير } اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله : وفى المثنوى دامن او كير اى يار دلير ... كومنزه باشد از بالا وزير نى جو عيسى سوى كردون برشود ... نى جو قارون درزمين اندر رود ربى الاعلاست ورد آن مهان ... رب ادنى خوراين ابلهان وعن عبادة من الصامت رضى اللّه عنه عن النبى عليه السلام قال ( من شهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ادخله اللّه الجنة على ما كان من عمل ) وعن الحارث الاشعرى رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ( ان اللّه تعالى اوحى الى يحيى بن زكريا عليهما السلام بخمس كلمات ان يعمل بهن ويأمر بنى اسرائيل ان يعملوا بهن فكأنه ابطأ بهن فاتاه عيسى فقال ان اللّه امرك بخمس كلمات ان تعمل بهن وتأمر بنى اسرائيل ان يعملوا بهن فاما ان تخبرهم واما ان اخبرهم فقال يا اخى لا تفعل فانى اخاف ان سبقتنى بهن ان يخسف بى او اعذب قال فجمع بنى اسرائيل ببيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقعدوا على الشرفات ثم خطبهم فقال ان اللّه اوحى الى بخمس كلمات ان اعمل بهن وآمر بنى اسرائيل ان يعلموا بهن. اولاهن ان لا تشركوا باللّه شيأ فان مثل من اشرك باللّه كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب او ورق ثم اسكنه دارا فقال اعمل وارفع الى فجعل يعمل ويرفع الى غير سيده فأيكم يرضى ان يكون عبده كذلك فان اللّه خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيأ واذا قمتم الى الصلاة فلا تلتفتوا فان اللّه يقبل بوجهه الى وجه عبده ما لم يلتف. وآمركم بالصيام ومثل ذلك كمثل رجل فى عصابة معه صرة من مسك كلهم يحب ان يجد ريحها وان الصيام عند اللّه اطيب من ريح المسك. وآمركم بالصدقة ومثل ذلك كمثل رجل اسره العدو فاوثقوا يده الى عنقه وقربوه ليضربوا عنقه فجعل يقول هل لكم ان اقدى نفسى منكم فجعل يعطى القليل والكثير حتى فدى نفسه. وآمركم بذكر اللّه كثيرا ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا فى اسره حتى اتى حصنا حصينا فاحرز نفسه فيه وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان الذى هو اكبر الاعداء الا بذكر اللّه ) قال فى المثنوى ذكر حق كن بانكه غولانرا بسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز ذكر حق باكست جون باكى رسيد ... رخت بر بندد برون آيد بليد مى كريزد ضدها از ضدها ... شب كريزد جون برافروزد ضيا جون در آيد نام باك اندر دهان ... نى بليدى ماند ونى آندهان قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( وانا آمركم بخمس اللّه امرنى بهن بالسمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فانه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه الا ان يراجع ) والربقة بكسر الراء وفتحها وسكون الباء الموحدة واحدة الربق وهى عرى فى حبل يشد به اليهم وتستعار لغيره ١٨ { وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء اللّه واحباؤه } اى قالت اليهود نحن اشياع ابنه عزير وقالت النصارى نحن اشياع ابنه المسيح كما يقول اقارب الملوك عند المفاخرة نحن الملوك او المعنى نحن من اللّه بمنزلة الابناء للآباء وقربنا من اللّه كقرب الوالد لولده وحبنا اياه كحب الوالد لولده وغضب اللّه علينا كغضب الرجل على ولده والوالد اذا سخط على ولده فى وقت يرضى عنه فى وقت آخر وبالجملة انهم كانوا يدعون ان لهم فضلا ومزية عند اللّه على سائر الخلق فرد عليهم ذلك وقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { قل } الزاما لهم وتبكيتا { فلم يعذبكم بذنوبكم } اى ان صح ما زعمتم فلأى شىء يعذبكم فى الدنيا بالقتل والاسر والمسح وقد اعترفتم بانه سيعذبكم فى الآخرة اياما معدودة بعدد ايام عبادتكم العجل ولو كان الامر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع { بل } اى لستم كذلك { انتم بشر ممن خلق } اى من جنس ما خلق اللّه تعالى من غير مزية لكم عليهم { يغفر لمن يشاء } ان يغفر له من اولئكم المخلوقين وهم الذين آمنوا باللّه تعالى وبرسله { ويعذب من يشاء } ان يعذبه منهم وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله { وللّه ملك السموات والارض وما بينهما } من الموجودات لا ينتمى اليه تعالى شىء منها الا بالمملوكية والعبودية والكل تحت مملوكيته يتصرف فيه كيف يشاء ايجادا واعداما واماتة واثابة وتعذيبا فانى لهم ادعاء ما زعموا { واليه المصير } فى الآخرة خاصة لا الى غيره استقلالا ولا اشتراكا فيجازى كلا من المحسن والمسيىء بما يستدعيه عمله من غير مانع يمنعه وليست المحبة بالدعوى بل لها علامات وللّه در من قال تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... ان المحب لمن يحب مطيع واللّه تعالى لا يحب من خالف شيأ من شريعة النبى عليه السلام من سننها وفروضها وحلالها وحرامها وانما يحب من اطاع امره ولا فوق بين الناس من حيث الصورة البشرية وانما تفاوتهم من حيث العلم والعمل والتقرب الى اللّه تعالى : قال السعدى قدس سره ره راست بايد نه بالاى راست ... كه كافرهم از روى صورت جو ماست وانما يظهر التفاوت فى الآخرة لانها دار الجزاء فطوبى لعبد تفكر فى حاله ومصيره فرغب فى الزهد والطاعة قبل مضى الوقت : قال فى المثنوى كربينى ميل خود سوى سما ... بردولت بركشا همجون هما ور بينى ميل خود سوى زمين ... نوحه ميكن هيج منشين ازحنين عاقلان خود نوحها بيشين كنند ... جاهلان آخر بسر بر مى زنند رابتداء كار آخررا ببين ... تانباشى تو بشيمان روز دين وحكى ان رجلا جاء الى صائغ يسأل منه الميزان ليزن رضاض ذهب له فقال الصائغ اذهب فانه ليس لى غربال فقال الرجل لا تسخر بى آت الميزان فقال الصائغ ليس لى مكنسة ثم قال اطلب منك الميزان ايها الصائغ وانت تجيبنى بما يضحك منه فقال انما قلت ما قلت لانك شيخ مرتعش فعند الوزن يتفرق رضاضك من يدك بسبب ارتعاشك ويسقط الى التراب فتحتاج الى المكنسة والغربال للتخليص فبسبب فكرى لعاقبة امرك قلت ما قلت من زاول ديدم آخررا تمام ... جاى ديكر رو ازينجا والسلام واعلم ان احباء اللّه هم اولياء اللّه على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم. فمنهم عوام. ومنهم خواص. ومنهم اخص ولكل منهم مقام معلوم من المحبة ورأى بعضهم معروفا الكرخى تحت العرش وقد قال اللّه تعالى لملائكته من هذا فقالوا انت اعلم يا رب فقال هذا معروف الكرخى سكر من حبى فلا يليق الا للقائى وكمال الحب انما يحصل بعد تزكية النفس فان النفس اذا كانت مغضوبة لا تتم الرحمة فى حقها وصاحبها انما يحب اللّه تعالى من وراء حجاب اللّهم اجعلنا ممن يحبك حبا شديدا ويسلك فى محبتك طريقا سديدا ١٩ { يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } حال كونه { يبين لكم } الشرائع والاحكام الدينية المقرونة بالوعد والوعيد { على فترة } كائنة { من الرسل } مبتدأة من جهتهم وعلى متعلق بجاءكم على الظرفية اى جاءكم على حين فتور من الارسال وانقطاع من الوحى ومزيد احتياج الى بيان الشرائع والاحكام الدينية يقال فتر الشىء يفتر فتورا اذا سكنت حركته وصارت اقل مما كانت عليه وسميت المدة بين الانبياء فترة لفتور الدواعى فى العمل بتلك الشرائع ونبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم بعث بعد انقطاع الرسل لان الرسل كانت متواترة بعضها فى اثر بعض الى وقت رفع عيسى عليه السلام { ان تقولوا } تعليل لمجيئ الرسول بالبيان على حذف المضاف اى كراهة ان تقولوا معتذرين عن تفريطكم فى مراعاة احكام الدين { ما جاءنا من بشير } يبشرنا بالجنة { ولا نذير } يخوفنا بالنار وقد انطمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت اخبارها { فقد جاءكم بشير ونذير } متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة وتبين انه معلل به اى لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير ى بشير ونذير اى نذير على ان التنوين للتفخيم وفى الآية امتنان عليهم بان بعث اليهم حين انطمست آثار الوحى وكانوا احوج ما يكون اليه { واللّه على كل شىء قدير } فيقدر على الارسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما الف وسبعمائة سنة والف نبى وعلى الارسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما السلام حيث كان بينهما ستمائة سنة وتسع وتسعون سنة او خمسمائة وست واربعون سنة واربعة انبياء على ما روى الكلبى ثلاثة من بنى اسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسى وقيل لم يكن بعد عيسى الا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الانسب بما فى تنوين فترة من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بان الرسول قد بعث اليهم عند كمال حاجتهم اليه بسبب مضى دهر طويل بعد انقطاع الوحى ليعدوه اعظم نعمة من اللّه وفتح باب الى الرحمة وتلزمهم الحجة فلا يتعللوا غدا بانه لم يرسل اليهم من ينبههم من غفلتهم كذا فى الارشاد وفى الحديث ( انا اولى الناس بعيسى ابن مريم فانه ليس بينى وبينه نبى ) قال ابن الملك بطل بهذا قول من قال الحواريون كانوا انبياء بعد عيسى عليه السلام انتهى ومعنى قوله نبى اى نبى داع للخلق الى اللّه وشرعه واما خالد بن سنان فان اظهر بدعواه الانباء عن البرزخ الذى بعد الموت وما اظهر نبوته فى الدنيا وقصته انه كان مع قومه يسكنون بلاد عدن فخرجت نار عظيمة من مغارة فاهلكت الزرع والضرع فالتجأ اليه قومه فاخذ خالد يضرب تلك النار بعصاه حتى رجعت هاربة منه الى المغارة التى خرجت منها ثم قال لاولاده انى ادخل المغارة خلف النار لاطفئها وامرهم ان يدعوه بعد ثلاثة ايام تامة فانهم ان نادوه قبل ثلاثة ايام فهو يخرج ويموت وان صبروا ثلاثة ايام يخجر سالما فلما دخل صبروا يومين واستفزهم الشيطان فلم يصبروا فظنوا انه هلك فصاحوا به فخرج خالد من المغارة وعلى رأسه ألم حصل من صياحهم فقال ضيعتمونى واضعتم قولى ووصيتى واخبرهم بموته وامرهم ان يقبروه ويرقبوه اربعين يوما فانه يأتيهم قطيع من الغنم يتقدمه حمار ابتر مقطوع الذنب فاذا حاذى قبره ووقف فلينبشوا عليه قبره فانه يقوم ويخبرهم باحوال البرزخ والقبر عن يقين ورؤية فانتظروا اربعين يوما فجاء القطيع وتقدمه حمار ابتر فوقف حذاء قبره فهمّ مؤمنوا قومه قومه ان ينبشوا عليه فابى اولاده خوفا من العار لئلا يقال لهم اولاد المنبوش قبره فحملتهم الحمية الجاهليةعلى ذلك فضيعوا وصيته واضاعوه فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم جاءته بنت خالد فقال عليه السلام ( مرحبا بابنة نبى اضاعه قومه ) وانما امر خالد ان ينبش عليه ليسأل ويخبر ان الحكم فى البرزخ على صورة الحياة الدنيا فيعلم بذلك الاخبار صدق الرسل كلهم بما اخبروا به فى حياتهم الدنيا فكان غرض خالد عليه السلام ايمان العالم كله بما جاءت به الرسل من احوال القبر والمواطن والمقامات البرزخية ليكون رحمة للجميع فانه تشرف بقرب نبوته من نبوة محمد عليه السلام وعلم خالد ان اللّه ارسله رحمة للعالمين ولم يكن خالد برسول فاراد ان يحصل من هذه الرحمة فى الرسالة المحمدية على حظ اوفر ولم يؤمر بالتبليغ فاراد ان يحطى فى البرزخ بذلك التبليغ من مقام الرسالة ليكون اقوى فى العلم فى حق الخلق اى ليعلم قوة علمه باحوال الخلائق فى البرزخ فاضاعه قومه وانما وصف النبى قومه بانهم اضاعوا نبيهم اى وصية نبيهم حيث لم يبلغوه مراده من اخباره احوال القبر كذا فى الفصوص وشروحه واتفق العلماء على انه صلى اللّه عليه وسلم ولد بمكة عام الفيل فى عاشر شهر ربيع الاول فى ليلة يوم الاثنين منه فلما تشرف العالم وجوده الشريف وعنصره اللطيف اضاءت قلوب الخلق واستنارت فهداهم اللّه به عليه السلام فابصره من ابصر وعمى من عمى وبقى فى الكفر والضلال دركار خانه عشق ازكفرنا كزيرست ... آتش كرابسوزد كر بولهب نباشد وانما اضاف تعالى الرسول الى نفسه وقال رسولنا وما اضاف اليهم لان فائدة رسالته لم تكن راجعة اليهم ولما خاطب هذه الامة واخبرهم عن مجيىء الرسول ما اضافه الى نفسه وانما جعله من انفسهم فقال { لقد جاءكم رسول من انفسكم } ان فائدة رسالته كانت راجعة الى انفسهم كما فى التأويلات النجمية فعلى المؤمن ان يقتفى اثر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ويتفكر فى الوعد والوعيد فقد جاء البشير والنذير بحيث لم يبق للاعتذار مجال اصلا وروى ان جبير بن مطعم قال كنا مع النبى صلى اللّه عليه وسلم بالجحفة فقال ( أليس تشهدون ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له وانى رسول اللّه وان القرآن جاء من عند اللّه ) فقلنا بلى قال ( فابشروا فان هذا القرآن طرفه بيده اللّه وطرفه بايديكم فتمسكوا به فانكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده ابدا ) ٢٠ { واذ قال موسى لقومه } اى اذكر يا محمد لاهل الكتاب ما حدث وقت قول موسى لبنى اسرائيل ناصحا لهم { يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم } اى انعامه عليكم { اذ جعل فيكم انبياء } فى قوت جعله فيما بينكم من اقربائكم انبياء فارشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث فى امة من الامم ما بعث فى بنى اسرائيل من الانبياء وكثرة الاشراف والافاضل فى القوم شرف وفضل لهم ولا شرف اعظم من النبوة { وجعلكم ملوكا } اى جعل فيكم او منكم ملوكا كثيرة فانه قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الانبياء وجعل الكل فى مقام الامتنان عليهم ملوكا لما ان اقارب الملوك يقولون عند المفاخرة نحن الملوك وقال السدى وجعلكم احرار تملكون انفسكم بعدما كنتم فى ايدى القبط فى مملكة فرعون بمنزلة اهل الجزية قال ابن عباس رضى اللّه عنهما يعنى اصحاب خدم وحشم وكانوا اول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وقال بعضهم من له امرأة يأوى اليها ومسكن يسكنه وخادم يخدمه فهو من الملوك وكذا من كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك { وآتاكم ما لم يؤت احدا من العالمين } من البحر واغراق العدو وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وغير ذلك مما آتاهم اللّه من الامور العظام والمراد بالعالمين الامم الخالية الى زمانهم ٢١ { يا قوم ادخلوا الارض المقدسة } هى ارض بيت المقدس ظهرت من الشرك وجعلت قرار الانبياء ومسكن المؤمنين { التى كتب اللّه لكم } اى كتب فى اللوح المحفوظ انها تكون مسكنا لكم ان آمنتم واطعتم لقوله تعالى لهم بعدما عصوا فانها محرمة عليهم { ولا ترتدوا } لا ترجعوا { على ادباركم } اى مدبرين خوفا من الجبابرة فهو حال من فاعل لا ترتدوا ويجوز ان يتعلق بنفس الفعل اى ولا ترجعوا على اعقابكم بخلاف ما امر اللّه { فتنقلبوا } فتنصرفوا حال كونكم { خاسرين } اى مغبونين بفوت ثواب الدارين ٢٢ { قالوا } اى بنوا اسرائيل عند امر موسى ونهيه غير ممتثلين لذلك { يا موسى ان فيها قوما جبارين } اى متغلبين لا تتأتى مقاومتهم والجبار العالى الذي يجبر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان فعال من جبره على الامر اى اجبره عليه وذلك ان النقباء الاثنى عشر الذين خرجوا لتجسس الاخبار وانتهوا الى مدينة الجبارين لما رجعوا الى موسى واخبروه بما عاينوا من قوتهم وشوكتهم وطول قدودهم وعظم اجسامهم وان الرجل من بنى اسرائيل ليدخل تحت قدمهم لعظمه ووسعته قال لهم موسى اكتموا شأنهم ولا تخبروا به احدا من اهل المعسكر فيفشلوا فاخبر كل واحد منهم قريبه وابن عمه الا رجلين وفيا بما قال لهما موسى احدهما يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف فتى موسى والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى على اخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهودا فشاع الخبر بين بنى اسرائيل فلذا قالوا ان فيها قوما جبارين { وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } من غير صنع من قبلنا فانه لا طاقة لنا باخراجهم منها { فان يخرجوا منها } بسبب من الاسباب التى لا تعلق لنا بها { فانا داخلون } حينئذ ٢٣ { قال رجلان } كانه قيل هل اتفقوا على ذلك او خالفهم البعض فقيل قال رجلان وهما كالب ويوشع { من الذين يخافون } اللّه تعالى دون العدو ويتقونه فى مخالفة امره ونهيه وهو صفة لرجلان { انعم اللّه عليهما } بالتثبيت والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده وهو صفة ثانية لرجلان { ادخلوا عليهم الباب } اى باب بلد الجبارين وهو اريحا وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لان المقصود انما هو دخول الباب وهم فى بلدهم اى باغتوهم وضاغتوهم فى المضيق وامنعوهم من البروز الى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا { فاذا دخلتموه } اى باب بلدهم وهم فيه { فانكم غالبون } من غير حاجة الى القتال فانا قد رأيناهم وشاهدناهم ان قلوبهم ضعيفة وان كانت اجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم فى المضايق فانهم لا يقدرون فيها على الكر والفر { وعلى اللّه } خاصة { فتوكلوا } بعد ترتيب الاسباب ولا تعتمدوا عليها فانها بمعزل من التأثير وانما التأثير من عنايته العزيز القدير { ان كنتم مؤمنين } به تعالى مصدقين لوعده فان ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما ٢٤ { قالوا } غير مبالين بقول ذينك الرجلين مصرين على القول الاول { يا موسى انا لن ندخلها } اى ارض الجبابرة { ابدا } اى دهرا طويلا { ما داموا فيها } اى فى ارضهم وهو بدل من ابدا بدل البعض لان الابد يعم الزمن المستقبل كله ودوام الجبارين فيها بعض منه { فاذهب } الفاء فصيحة اى فاذا كان الامر كذلك فاذهب { انت وربك فقاتلا } اى فقاتلاهم انما قالوا ذلك استهانة واستهزاء به تعالى وبرسوله وعدم مبالاة بهما لا انهم قصدوا ذهابهما حقيقة لان من هو فى صورة الانسان يستبعد منه انه يجوز حقيقة الذهاب والمجيىء على اللّه تعالى الا ان يكون من المجسمة { انا ههنا قاعدون } اراد بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر ٢٥ { قال } موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريقة البث والحزن والشكوى الى اللّه تعالى مع رقة القلب التى بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة { رب انى لا املك الا نفسى واخى } اى الا طاعة نفسى واخى { فافرق بيننا } يريد نفسه واخاه والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله { وبين القوم الفاسقين } الخارجين عن طاعتك المصرين على عصيانك بان تحكم لنا بما نستحقه وعليهم بما يستحقون ٢٦ { قال } اللّه تعالى { فانها } اى الارض المقدسة { محرمة عليهم } تحريم منع لا تحريم تعبد وتكليف لا يدخلونها ولا يملكونها لان كتابتها لهم كانت مشروطة بالايمان والجهاد وحيث نكصوا على ادبارهم حرموا ذلك وانقلبوا خاسرين { اربعين سنة } ظرف لمحرمة فالتحريم موقت بهذه المدة لا مؤبد فلا يكون مخالفا لقوله تعالى { كتب اللّه لكم } فالمراد بتحريمها عليهم انه لا يدخلها احد منهم فى هذه المدة لكن لا بمعنى ان كلهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقى { يتيهون فى الارض } اى يتحيرون فى البرية استئناف لبيان كيفية حرمانهم { فلا تأس } فلا تحزن والاسى الحزن { على القوم الفاسقين } روى انه عليه السلام ندم على دعائه عليهم فقيل لا تندم ولا تحزن عليهم فانهم احقاء بذلك لفسقهم فلبثوا اربعين سنة فى ستة فراسخ وهم ستمائة الف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فاذا امسوا كانوا فى الموضع الذى ارتحلوا منه وكان الغمام يظللّهم من حر الشمس ويطلع بالليل عمود من نور يضيىء لهم وينزل عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورهم واذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطوله وماؤهم من الحجر الذى يحملونه وهذه الانعامات عليهم مع انهم معاقبون لما ان عقابهم كان بطريق الفرك والتأديب واصح الاقاويل ان موسى وهارون كانا معهم فى التيه ولكن كان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لابراهيم وملائكة العذاب قال فى التأويلات النجمية والتعجب فى ان موسى وهارون بشؤم معاملة بنى اسرائيل بقيا فى التيه اربعين سنة وبنوا اسرائيل ببركة كرامتهما ظلل عليهم الغمام وانزل عليهم المن والسلوى فى التيه ليعلم اثر بركة صحبة الصالحين واثر شؤم صحبة الفاسقين انتهى : قال الحافظ ملول همرهان بودن طريق كاردانى نيست ... بكش دشوارىء منزل بياد عهد آسانى روى ان موسى عليه السلام خرج من التيه بعد اربعين سنة وسار بمن بقى من بنى اسرائيل الى اريحا وكان يوشع بن نون على مقدمته فحارب الجبابرة وفتحها واقام بها ما شاء اللّه ثم قبضه اللّه ولا يعلم قبره الا اللّه وهذا أصح الاقاويل لاتفاق العلماء على ان عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام قال السدى فى وفاة هارون ان اللّه اوحى الى موسى انى متوفى هارون فائت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فاذا هما بشجرة لم ير مثلها فاذا بيت مبنى وفيه سرير عليه فرش واذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون الى ذلك اعجبه وقال يا موسى انى احب ان انام على هذا السرير قال فنم عليه فلما نام جاء ملك الموت فقال يا موسى خدعتنى فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به الى السماء فلما رجع موسى الى بنى اسرائيل وليس معه هارون قالوا ان موسى قتل هارون وحسده على حب بنى اسرائيل اياه فقال لهم موسى ويحكم كان اخى أفترونى اقتل اخى فلما كثروا عليه صلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير حتى نظروا اليه بين السماء والارض فصدقوه وعن على بن ابى طالب رضى اللّه عنه قال صعد موسى وهارون الجبل فقال بنوا اسرائيل انت قتلته فآذوه فامر اللّه الملائكة فحملوه حتى مروا به على بنى اسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرفت بنوا اسرائيل انه قد مات فبرأه اللّه مما قالوا ثم ان الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره احد الا الرخم فجعله اللّه اصم وأبكم وقال عمرو بن ميمونة مات هارون وموسى فى التيه مات هارون قبل موسى وكانا خرجا الى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف الى بنى اسرائيل فقالوا قتلته لحبنا اياه وكان محببا فى بنى اسرائيل فتضرع موسى الى ربه فاوحى اللّه اليه ان انطلق بهم الى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينقض رأسه فقال انا قتلتك فقال لا ولكننى مت قال فعد الى مضجعك وانصرفوا واما وفاة موسى عليه الصلاة والسلام قال ابن اسحق كان صفى اللّه موسى قد كره الموت واعظمه فاراد اللّه ان يحبب اليه الموت فنبىء يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى يا نبى اللّه ما احدث اللّه اليك فيقول له يوشع يا نبى اللّه ألم اصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت اسألك عن شىء مما احدث اللّه اليك حتى تكون انت الذى تبثه به وتذكره ولا يذكر له شيأ ولما رأى موسى ذلك كره الحياة واحب الموت وفى الحديث ( جاء ملك الموت الى موسى فقال له اجب ربك قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت الى اللّه تعالى فقال انك ارسلتنى الى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عينيى قال فرد اللّه اليه عينه وقال ارجع الى عبدى فقل له الحياة تريد فان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعرة فانك تعيش بها سنة قال ثم ماذا قام ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب ادننى من الارض المقدسة قد رمية حجر ) قال رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( لو انى عنده لأريتكم قبره الى جانب الطريق عند الكثيب الاحمر ) قال محمد بن يحيى قد صح حديث ملك الموت وموسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا يرده الا كل مبتدع كذا فى تفسير الثعلبى وفى حديث آخر ( ان ملك الموت كان يأتى الناس عيانا حتى اتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فجاء ملك الموت بعد ذلك خفية ) وقال وهب خرج موسى لبعض حاجاته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيأ قط احسن منه ومثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة اللّه لمن يحفر هذا القبر فقالوا لعبد كريم على ربه فقال ان هذا العبد من اللّه بمنزل ما رأيت مضجعا احسن من هذا قالوا يا كليم اللّه أتحب ان يكون لك قال وددت قال فانزل واضطجع فيه وتوجه الى ربك قال فاضطجع فيه وتوجه الى ربه ثم تنفس اسهل نفس قبض اللّه روحه ثم سوت الملائكة عليه التراب وقيل ان ملك الموت اتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه وروى ان يوشع رآه بعد موته فى المنام فقال كيف وجدت الموت قال كشاة تسلخ وهى حية وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى وانقضت الاربعون بعث اللّه يوشع نبيا فاخبره ان اللّه قد امره بقتال الجبابرة فصدقوه وتابعوه فتوجه ببنى اسرائيل الى اريحا معه تابوت الميثاق فاحاط بمدينة اريحا ستة اشهر فلما كان السابع نفخوا فى القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بنى اسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم البقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال اللّهم اردد الشمس على وقال للشمس انك فى طاعة اللّه تعالى وانا فى طاعة اللّه فسأل الشمس ان تقف والقمر ان يقيم حتى ينتقم من اعداء اللّه قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد فى النهار ساعة حتى قتلهم اجمعين وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم احدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع ارض الشام وصارت الشام كلها لبنى اسرائيل وفرق عماله فى نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فأوحى اللّه الى يوشع ان فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال هلم ما عندك فاتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر وكان قد غله فجعله فى القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فاكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن فى جبل افرائيم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة وتدبيره امر بنى اسرائيل بعد موتى موسى سبعا وعشرين سنة جهان اى برادر نماند بكس ... دل اندر جهان آفرين بيندوبس ٢٧ { واتل عليهم } اى على اهل الكتاب { نبأ ابنى آدم } اى خبر ابنى ابى البشر وهما قابيل وهابيل { بالحق } اى تلاوة ملتبسة بالحق والصحة ذكر العلماء ان حواء كانت تلد فى كل بطن ولدين ذكرا وانثى الا شيثا فانها ولدته منفردا فولدت اول بطن قابيل واخته اقليما ثم ولدت فى البطن الثانية هابيل واخته ليوذا فلما ادركوا أوحى اللّه الى آدم انه يزوج كلا منهما توأمة الآخر لانه لم يكن يومئذ الا اختاهما وكانت توأمة قابيل اجمل فحسد عليها اخاه وسخط وزعم ان ذلك ليس من عند اللّه بل من جهة آدم فقال لهما قربا قربانا فمن ايكما قبل تزوجها ففعلا فنزلت نار على قربان هابيل فاكلته ولم تتعرض لقربان قابيل فازداد قابيل حسدا وسخطا وفعل ما فعل { اذ قربا قربانا } ظرف لنبأ والقربان اسم لما يتقرب به الى اللّه تعالى من ذبيحة او صدقة وتوحيده لما انه فى الاصل مصدر والتقدير اذ قرب كلا منهما قربانا { فتقبل من احدهما } هو هابيل وكان صاحب ضرع وقرب جملا سمينا او كبشا ولبنا وزبدا فنزلت نار من السماء بيضاء لا دخان لها فاكلته بعد دعاء آدم عليه السلام وكانت القرابين اذا كانت مقبولة نزلت من السماء نارا فاكلتها وان لم تكن مقبولة لم تنزل النار واكلتها الطير والسباع وقيل ما كان فى ذلك الوقت فقير يدفع اليه ما يتقرب به الى اللّه تعالى فكانت علامة قبوله ما ذكر من مجيىء النار والاكل وروى سعيد بن جبير وغيره نزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ورفع بها الى الجنة فلم يزل يرعى الى ان فدى به الذبيح عليه السلام { ولم يتقبل من الآخر } وهو قابيل كان صاحب زرع وقرب اردأ ما عنده من القمح ولم تتعرض له النار اصلا لانه سخط حكم اللّه ولم يخلص النية فى قربانه وقصد الى اخس ما عنده فنزلا عن الجبل الذى قربا عليه وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد فى نفسه الى ان اتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم اتى قابيل هابيل وهو فى غنمه فعند ذلك { قال } اى من لم يتقبل قربانه لاخيه { لاقتلنك } اى واللّه لاقتلنك قال ولم قال لان اللّه قبل قربانك ورد قربانى وتنكح اختى الحسناء وانكح اختك الدميمة فيحدث الناس انك خير منى ويفخر ولدك على ولدى { قال } الذى تقبل قربانه وما ذنبى { انما يتقبل اللّه } اى القربان { من المتقين } لا من غيرهم وانما تقبل قربانى ورد قربانك لما فينا من التقوى وعدمه اى انما ديت من قبل نفسك لا من قبلى فلم تقتلنى والتقوى من صفات القلب لقوله عليه السلام ( التقوى ههنا ) واشار الى القلب وحقيقة التقوى ان يكون العامل على خوف ووجل من تقصير نفسه فيما اتى به من الطاعات وان يكون فى غاية الاحتراز من ان يأتى بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة اللّه وان يكون فيه شركة لغير اللّه تعالى ٢٨ { لئن بسطت الىّ يدك لتقتلنى ما انا بباسط يدى اليك لاقتلك } اى واللّه لئن مددت الى يدك وباشرت قتلى حسبما اوعدتنى به وتحقق ذلك منك ما انا بفاعل مثله لك فى وقت من الاوقات ثم علل ذلك بقوله { انى اخاف اللّه رب العالمين } قيل كان هابيل اقوى ولكن تحرّج عن قتله واستسلم له خوفا من اللّه تعالى لان القتل للدفع لم يكن مباحا فى ذلك الوقت قال البغوى وفى الشرع جائز لمن اريد قتله ان ينقاد ويستسلم طلبا للاجر كما فعل عثمان رضى اللّه عنه ٢٩ { انى اريد ان تبوء باثمى واثمك } تعليل آخر لامتناعه عن المعارضة على انه غرض متأخر عنه كما ان الاول باعث متقدم عليه وانما لم يعطف تنبيها على كفاية كل منهما فى العلية والمعنى انى اريد باستسلامى لك وامتناعى عن التعرض لك ان ترجع باثمى اى بمثل اثمى لو بسطت يدك اليك وباثمك ببسط يدك الىّ كما فى قوله صلى اللّه عليه وسلم ( المستبان ما قالا فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم ) اى على البادىء عين اثم سبه ومثل سبه صاحبه بحكم كونه سببا له وكلاهما نصب على الحالية اى ترجع ملتبسا بالاثمين حاملا لهما ولعل مراده بالذات انما هو عدم ملابسته للاثم لا ملابسة اخيه له { فتكون من اصحاب النار } فى الآخرة { وذلك } اشارة الى كونه من اصحاب النار { جزاء الظالمين } اى عقوبة من لم يرض بحكم اللّه تعالى ٣٠ { فطوعت له نفسه قتل اخيه } من طاع له المرتع اذا اتسع اى وسعته وسهلته اى جعلته سهلا وهوّنته وتقدير الكلام فصورت له نفسه ان قتل اخيه طوع له سهل عليه ومتسع له لا ضيق فيه ولا حرج فان قتل النفس بغير حق لا سيما قتل الاخ اذا تصوره الانسان يجده شيأ عاصيا نافرا كل النفرة عن دائرة الشرع والعقل بعيدا عن الاطاعة والانقياد البتة ثم ان النفس الامارة اذا استعملت القوة السبعية الغضبية صار ذلك الفعل اسهل عليها فكأن النفس صيرته كالمطيع لها بعد ان كان كالعاصى المتمرد عليها ويتم الكلام بدون اللام بان يقال فطوعته نفسه قتل اخيه الا انه جيىء باللام لزيادة الربط كما فى قولك حفظت لزيد ماله مع تمام الكلام بان يقال حفظت مال زيد { فقتله } قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابين فتمثل ابليس طائرا او حية ووضع رأسه على الحجر ثم شدخها بحجر آخر وقابيل ينظر فتعلم منه فوضع رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصى عليه او اغتاله وهو نائم وغنمه ترعى وذلك عند جبل ثور او عقبة حراء او بالبصرة فى موضع المسجد الاعظم وكان لهابيل يوم قتله عشرون سنة وعن بعض الكبار ان آدم لما هبط الى الارض تفكر فيما اكل فاستقاء فنبتت شجرة السم من قيئه فاكلت الحية ذلك السم ولذا صارت مؤذية مهلكة وكان قد بقى شىء مما اكل فلما غشى حواء حصل قابيل ولذا كان قاتلا باعثا للفساد فى وجه الارض { فاصبح من الخاسرين } خسر دينه ودنياه قال ابن عباس رضى اللّه عنهما حسر دنياه وآخرته اما الدنيا فانه اسخط لوالديه وبقى مذموما الى يوم القيامة واما الآخرة فهو العقاب العظيم { فبعث اللّه غرابا } ارسله { يبحث فى الارض } البحث بالفارسية ( بكندن ) { ليريه } المستكن الى اللّه تعالى او للغراب واللام على الاول متعلقة ببعث حتما وعلى الثانى بيبحث ويجوز تعلقها ببعث ايضا { كيف يوارى } يستر { سوأة اخيه } اى جسده الميت فانه مما يستقبح انه يرى وقيل عورته لانه كان قد سلب ثيابه. وكيف حال من ضمير يوارى والجملة ثانى مفعولى يرى روى انه لما قتله تركه بالعراء اى الارض الخالية عن الاشجار ولم يدر ما يصنع به لانه كان اول ميت على وجه الارض من بنى آدم فخاف عليه السباع فحمله فى جراب على ظهره اربعين يوما او سنة حتى اروح وعفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمى به فتأكله فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل احدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة فالقاه فيها وواراه وقابيل ينظر اليه وكأنه قيل فماذا قال عند مشاهدة حال الغراب فقيل { قال يا ويلتا } هى كلمة جزع وتحسر والالف بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتى احضرى فهذا اوانك والنداء وان كان اصله لمن يتأتى منه الاقبال وهم العقلاء الا ان العرب تتجوز وتنادى ما لا يعقل اظهارا للتحسر ومثله يا حسرة على العباد والويل والويلة الهلكة { أعجزت ان اكون } اى عن ان اكون { مثل هذا الغراب فاوارى سوأة اخى } تعجب من عدم اهتدائه الى ما اهتدى اليه الغراب وقوله فاوارى بالنصب عطف على اكون اى اعجزت عن كونى مشبها بالغراب فمواريا { فاصبح من النادمين } اى على قتله لما كان من التحير فى امره وحمله على رقبته مدة طويلة وغير ذلك فلما كان ندمه لاجل هذه الاسباب لا للخوف من اللّه بسبب ارتكاب المعصية لم يكن ندمه توبة ولم ينتفع بندمه روى انه لما قتل ابن آدم اخاه رجفت الارض بما عليها سبعة ايام ثم شربت الارض دمه كشرب الماء فناداه اللّه اين اخوك هابيل قال ما ادرى ما كنت عليه رقيبا فقال اللّه تعالى ان دم اخيك لينادينى من الارض فلم قتلت اخاك قال فاين دمه ان كنت قتله فحرم اللّه تعالى على الارض يومئذ ان تشرب دما بعده ابدا قال مقاتل كان قبل ذلك يستأنس السباع والطيور والوحوش فلما قتل قابيل هابيل نفروا فلحقت الطيور بالهواء والوحوش بالبرية والسباع بالغياض واشتاك الشجر وتغيرت الاطعمة وحمضت الفواكه وامر الماء واغبرت الارض فقال آدم قد حدث فى الارض حدث فاتى الهند فاذا قابيل قد قتل هابيل وكان جسد قابيل ابيض قبل ذلك فاسود فسأله آدم عن اخيه فقال ما كنت عليه وكيلا قال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم حزينا على قتل ولده مائة سنة لا يضحك وانشأ يقول وهو اول من قال الشعر تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الارض مغبر قبيح تغير كل ذى لون وطعم ... وقال بشاشة الوجه الصبيح وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما من قال ان آدم قال شعرا فقد كذب ان محمدا والانبياء كلهم فى النهى عن الشعر سواء ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سريانى فلما قال آدم مرثية قال لشيث يا بنى انك وصيى احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل الى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو اول من خط بالعربي وكان يقول الشعر فنظر فى المرثية فرد المقدم الى المؤخر والمؤخر الى المقدم فوزنه شعرا وزيد فيه ابيات منها ومالى لا اجود بسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضريح ارى طول الحياة على نقما ... فهل انا من حياتى مستريح وروى عن انس رضى اللّه عنه انه قال سئل النبى صلى اللّه عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال ( يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم اخاه ) فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا وتفسيره هبة اللّه يعنى انه خلف من هابيل علمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار واعلمه عبادة الخلق فى كل ساعة منها وانزل عليه خمسين صحيفة وصار وصى آدم وولى عهده. واما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فاخذ بيد اخته اقليما وهرب بها الى عدن من ارض اليمن فاتاه ابليس فقال له انما اكلت النار قربان هابيل لانه كان يعبد النار فانصب انت ايضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار وهو اول من عبد النار وكان لا يمر به احد الا رماه فاقبل ابن له اعمى ومعه ابن له فقال للاعمى ابنه هذا ابوك قابيل فرمى الاعمى اباه بحجارة فقتله فقال ابن الاعمى قتلت اباك فرفع يده فلطم ابنه فمات فقال الاعمى ويل لى قتلت ابى برميتى وقتلت ابنى بلطمتى قال مجاهد فعقلت احدى رجلى قابيل الى فخذها وساقها وعلقت من يومئذ الى يوم القيامة وجهه الى الشمس حيثما دارت عليه فى الصيف حظيرة من نار وفى الشتاء حظيرة من ثلج وهو اول من عصى اللّه فى الارض من ولد آدم وهو اول من يساق الى النار وفى الحديث ( لا تقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاول كقل من دمها ) لانه اول من سن القتل وهو اب يأجوج ومأجوج شر اولاد توالدوا من شر والد قالوا واتخذ اللّهو شرب الخمر وعبادة النار والزنى والفواحش حتى غرقهم اللّه بالطوفان ايام نوح وبقى نسل شيث وفى التواريخ لما ذهب قابيل الى سمت اليمن كثروا وخلفوا وطفقوا يتحاربون مع اولاد آدم يسكنون فى الجبال والمغارات والغياض الى زمن مهلاييل بن قينان بن انوش بن شيث ففرقهم مهلاييل الى اقطار الارض وسكن هو فى ارض بابل وكان كيومرث اخاه الصغير وهو اول السلاطين فى العالم فاخذوا يبنون المدن والحصون واستمر الحرب بينهم الى آخر الزمان واعلم ان الكدر لا يرتفع من الدنيا وانما يرتفع التكدر عن قلوب اهل اللّه تعالى كالنار والماء لا يرتفعان ابدا لكن يرتفع احراق النار لبعض كما وقع لابراهيم عليه السلام واغراق الماء لبعض كما وقع لموسى عليه السلام والدنيا تذهب على هذا فطوبى لمن رضى وصبر : قال الحافظ دربن جمن كل بيخار كس نجيد آرى ... جراغ مصطفوى باشرار بولهبيست وله مكن زغصه شكايت كه در طريق طلب ... براحتى ترسيد آنكه زحمتى نكشيد والاشارة فى الآيات ان آدم الروح بازدواجه مع حواء القلب ولد قابيل النفس وتوأمته اقليما الهوى فى بطن اولا ثم ولد هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل وكان اقليما الهوى فى غاية الحسن لان القلب يميل على طلب المولى وما عنده وهو محبب اليه وكان ليوذا العقل فى نظر هابيل القلب فى غاية القبح والدمامة لان القلب به يعقل عن طلب الحق والفناء فى اللّه ولهذا قيل العقل عقيلة الرجال وفى نظر قابيل النفس ايضا فى غاية القبح لان النفس به تعقل عن طلب الدنيا والاستهلاك فيها فاللّه تعالى حرم الازدواج بين التوأمين كليهما وامر بازدواج توأمة كل واحد منهما الى توأم الاخرى لئلا يعقل القلب عن طلب الحق بل يحرضه الهوى على الاستهلاك والفناء فى اللّه ولهذا قال بعضهم لولا الهوى ما سلك احد طريقا الى اللّه فان الهوى اذا كان قرين النفس يكون حرصا فيه تنزل النفس الى اسفل سافلين الدنيا وبعد المولى واذا كان قرين القلب يكون عشقا فيه يصعد القلب الى اعلى عليين العقبى وقرب المولى ولهذا سمى العشق هوى كما قال الشاعر اتانى هواها قبل ان اعرف الهوى ... فصادف قلبى فارغا فتمكنا ولتعقل النفس عن طلب الدنيا بل يحرضها العقل على العبودية وينهاها عن متابعة الهوى فذكر آدم الروح لولديه ما امر اللّه به فرضى هابيل القلب وسخط قابيل النفس وقال هى اختى يعنى اقليما الهوى ولدت معى فى بطنى وهى احسن من اخت هابيل القلب يعنى ليوذا العقل وانا احق بها ونحن من ولائد جنة الدنيا وهما من ولائد ارض العقبى فانا احق باختى فقال له ابوه انها لا تحل لك يعنى اذ كان الهوى قرينك فتهلك فى اودية حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها فابى ان يقبل قابيل النفس هذا الحكم من آدم الروح وقال اللّه تعالى لم يأمر به وانما هذا من رأيه فقال لهما آدم الروح قربا قربانا فايكما يقبل قربانه فهو احق بها فخرجا ليقربا وكان قابيل النفس صاحب زرع يعنى مدبر النفس النامية وهى القوة النباتية فقرب طعاما من اردى زرعه وهو القوة الطبيعية وكان هابيل القلب راعيا يعنى مواشى الاخلاق الانسانية والصفات الحيوانية فقرب جملا يعنى الصفة البهيمية وهى احب الصفات اليه لاحتياجه اليها لضرورة التغذى والبقاء ولسلامتها بالنسبة الى الصفات السبعية الشيطانية فوضعها قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فاكلت جمل الصفة البهيمية لانها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس حبة لانها ليست من حطبها بل هى من حطب نار الحيوانية فهذا تحقيق قوله تعالى { واتل عليهم } الآية والاشارة فى قوله { فطوعت له نفسه } اى نفس قابيل النفس طوعت له وجوزت { قتل اخيه } وهو القلب لان النفس اعدى عدو القلب { فقتله فاصبح من الخاسرين } يعنى فى قتل القلب خسارة النفس فى الدنيا والآخرة اما فى الدنيا فتحرم عن الواردات والكشوف والعلوم الغيبية التى منشأها القلب وعن ذوق المشاهدات ولذة المؤانسات فتبقى فى خسران جهولية الانسان كقوله تعالى { والعصر ان الانسان لفى خسر } واما فى الآخرة فتخسر الدخول فى جنات النعيم ولقاء الرب الكريم والنجاة من الجحيم والعذاب الاليم وفى قوله ٣١ { فبعث اللّه } اشارات منها ليعلم ان اللّه قادر على ان يبعث { غرابا } او غيره من الحيوان الى الانسان ليعلمه ما لم يعلم كما يبعث الملائكة الى الرسل والرسل الى الامم ليعلموهم ما لم يعلموا. ومنها لئلا يعجب الملائكة والرسل انفسهم باختصاصهم بتعليم الحق فانه يعلمهم بواسطة الغراب كما يعلمهم بواسطة الملائكة والرسل. ومنها ليعلم الانسان انه محتاج فى التعلم الى غراب ويعجز ان يكون مثل غراب فى العلم. ومنها ان للّه تعالى فى كل حيوان بل فى كل ذرة آية تدل على وحدانيته واختياره حيث يبدى المعاملات المعقولة من الحيوانات الغير العاقلة. ومنها اظهار لطفه مع عباده فى اسباب التعيش حتى اذا اشكل عليهم امر كيف يرشدهم الى الاحتيال بلطائف الاسباب لحله كذا فى التأويلات النجمية { من اجل ذلك } شروع فيما هو المقصود بتلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بنى اسرائيل ومعاصيهم وذلك اشارة الى عظم شأن القتل وافراط قبحه اى من اجل كون القتل على سبيل العدوان مشتملا على انواع المفاسد من خسارة جميع الفضائل الدينية والدنيوية وجمع السعادات الاخروية كما هى مندرجة فى اجمال قوله { فاصبح من الخاسرين } ومن الابتلاء بجميع ما يوجب الحسرة والندامة من غير ان يكون لشىء منه ما يدفعه البتة كما هو مندرج فى اجمال قوله { فاصبح من النادمين } ٣٢ {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} واجل فى الاصل مصدر اجل شرا اذا جناه وهيجه استعمل فى تعليل الجنايات اى فى جعل ما جناه الغير علة لامر يقال فعلته من اجلك اى بسبب ان جنيت ذلك وكسبته ثم اتسع فيه واستعمل فى كل تعليل ومن لابتداء الغاية متعلقة بقوله تعالى { كتبنا على بنى اسرائيل } وتقديمها عليه للقصر اى من ذلك ابتدىء الكتب ومنه نشأ لا من شىء آخر اى قضينا عليهم فى التوارة وبينا { انه من قتل نفسا } واحدة من النفوس { بغير نفس } اى بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص { او فساد فى الارض } اى فساد يوجب اهدار دمها كالشرك وقطع الطريق وهو عطف على ما اضيف اليه غير بمعنى نفى كلا الامرين معا كما فى قولك من صلى بغير وضوء وهو عطف على ما اضيف اليه غير بمعنى نفى كلا الامرين معا كما فى قولك من صلى بغير وضوء او تيمم بطلت صلاته لانفى احدهما كما فى قولك من صلى بغير وضوء او ثوب بطلت صلاته { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث انه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه او من حيث ان قتل الواحد والجميع سواء فى استجلاب غضب اللّه والعذاب العظيم وقوله جميعا حال من الناس او تأكيد { ومن احياها } اى تسبب لبقاء حياتها بعفو او منع عن القتل او استنقاذ من بعض اسباب الهلكة { فكأنما احيى الناس جميعا } فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا والمقصود من التشبيه المبالغة فى تعظيم امر القتل بغير حق والترغيب فى الاحتراز عنه { ولقد جاءتهم } اى اهل الكتاب { رسلنا بالبينات } اى وباللّه لقد جاءتهم رسلنا حسبما ارسلناهم بالآيات الواضحة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليهم { ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك } اى بعد ما ذكر من الكتب وتأكيد الامر بارسال الرسل تترى وتجديد العهد مرة بعد اخرى وثم للتراخى فى الرتبة والاستبعاد { فى الارض لمسرفون } فى القتل غير مبالين به والاسراف فى كل امر التباعد عن حد الاعتال مع عدم مبالاة به. قوله بعد ذلك وقوله فى الارض يتعلقان بقوله لمسرفون وهو خبر انّ وبهذا اى بقوله تعالى { ولقد جاءتهم رسلنا } اتصلت القصة بما قبلها وفى التأويلات النجمية اعلم ان كل شىء ترى فيه آية من اللّه تعالى فهو فى الحقيقة رسول من اللّه اليك ومعه آية بينة ومعجزة ظاهرة يدعوك بها الى اللّه ثم ان كثيرا من الذين شاهدوا الآيات وتحققوا البينات بعد رؤية الآيات فى الارض لمسرفون اى فى ارض البشرية مجاوزون حد الشريعة والطريقة بمخالفة اوامر اللّه ونواهيه انتهى واعلم ان اهل الغفلة يشاهدون الآثار لكنهم غافلون عن الحقيقة فهم كأنهم لا بصر لهم بل غيرة الحق تمنعهم من الرؤية الصحيحة لكونهم اغيارا غير لائقين بالدخول فى المجلس الخاص : قال الحافظ معشوق عيان ميكذردبرتو وليكن ... اغيار همى بيند ازان بسته نقابست وكل ذرة من ذرات الكائنات وان كانت قائمة بالحق وبنوره فى الحقيقة الا ان الدنيا خيال يحتاج السالك الى العبور عن مسالكه الى ان ينتهى الى الحق : وفى المثنوى اين جهانرا كه بصورت قائمست ... كفت بيغمبر كه حلم نائمست ازره تقليد توكردى قبول ... سالكان اين ديده بيدا بى رسول روز درخوابى مكوكين خواب نيست ... سايه فرعست اصل جزمهتاب نيست خواب بيداريت آن دان اى عضد ... كه نبيند خفته كو در خواب شد او كمان برده كه اين دم خفته ام ... بى خبرزان كوست درخواب دوم وهذه اى اليقظة من المنام على الحقيقة لا تتيسر الا لارباب المكاشفة الصحيحة واصحاب المشاهدة الواضحة اللّهم افض علينا من هذا المقام ٣٣ { انما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله } اى يحاربون اولياءهما وهم المسلمون جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما لهم والمراد بالمحاربة قطع الطريق وهو انما يكون من قوم اجتمعوا فى الصحراء وتعرضوا لدماء المسلمين واموالهم وازواجهم وامائهم ولهم قوة وشوكة تمنعهم ممن ارادهم { ويسعون فى الارض فسادا } حال من فاعل يسعون اى مفسدين. نزلت فى قوم هلال بن عويمر الاسلمى وكان وادعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ان لا يعينه ولا يعين عليه ومن اتاه من المسلمين فهو آمن لا يهاج ومن مر بهلال الى رسول اللّه فهو آمن لا يهاج فمر قوم من بنى كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ حاضرا فقطعوا عليهم وقتلوهم واخذوا اموالهم فان قلت بنفس ارادة الاسلام لا يخرج الشخص عن كونه حربيا والحد لا يجب بقطع الطريق عليه وان كان مستأمنا قلت معناه تعلم احكام الاسلام فانهم كانوا مسلمين او يقال جاؤا على قصد الاسلام فهم بمنزلة اهل الذمة والحد واجب بالقطع على اهل الذمة ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى من القتل بدون اخذ المال ومن القتل مع اخذه ومن اخذه بدون قتل ومن الاخافة بدون قتل واخذ شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق التوزيع فقيل { ان يقتلوا } اى حدا من غير صلب ان افردوا القتل ولو عفا الاولياء لا يلتفت الى ذلك لانه حق الشرع ولا فرق بين ان يكون القتل بآلة جارحة او لا { او يصلبوا } اى يصلبوا مع القتل ان جمعوا بين القتل والاخذ بان يصلبوا احياء وتبعج بطونهم برمح الى ان يموتوا ولا يصلبوا بعدما قتلوا لان الصلب حيا ابلغ فى الردع والزجر لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية { او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف } اى ايديهم اليمنى من الرسغ وارجلهم اليسرى من الكعب ان اقتصروا على اخذ مال من مسلم او ذمى وكان فى المقدار بحيث لو قسم عليهم اصاب كلا منهم عشرة دراهم او ما يساويها قيمة اما قطع ايديهم فأخذ المال واما قطع ارجلهم فلاخافة الطريق بتفويت امنه { او ينفوا من الارض } ان لم يفعلوا غير الاخافة والسعى للفساد والمراد بالنفى عندنا هو الحبس فانه نفى عن وجه الارض بدفع شرهم عن اهلها ويعزرون ايضا لمباشرتهم منكر الاخافة وازالة الامن { ذلك لهم خزى } كائن { فى الدنيا } اى ذل وفضيحة. قوله ذلك مبتدأ ولهم خبر مقدم على المبتدأ وهو الخزى والجملة خبر لذلك { ولهم فى الآخرة } غير هذا { عذاب عظيم } لا يقادر قدره لغاية عظم جنايتهم. فقوله تعالى لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفى الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا من عذاب لانه فى الاصل صفة له فلما قدم انتصب حالا اى كائنا فى الآخرة ٣٤ { الا الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم } استثناء مخصوص بما هو من حقوق اللّه عز وجل كما ينبىء عنه قوله تعالى { فاعلموا ان اللّه غفور رحيم } أما ما هو من حقوق الآدميين فانه لا يسقط بهذه التوبة فان قطاع الطريق ان قتلوا انسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قتلهم حدا وكان ولى الدم على حقه فى القصاص والعفو وان اخذوا مالا ثم تابوا قبل القدرة عليهم يسقط بهذه التوبة وجوب قطع ايديهم وارجلهم من خلاف وكان حق صاحب المال باقيا فى ماله وجب عليهم رده واما اذا تاب بعد القدرة عليه فظاهر الآية ان التوبة لا تنفعه ويقام الحد عليه فى الدنيا كما يضمن حقوق العباد وان سقط عنه العذاب العظيم فى العقبى والآية فى قطاع المسلمين لان توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها يعنى ان المشرك المحارب لو آمن بعد القدرة عليه فلا سبيل عليه بشىء من الحدود ولا يطالب بشىء مما اصاب فى حال الكفر من دم او مال كما لو آمن قبل القدرة عليه. واما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل القدرة عليه اى قبل ان يظفر به الامام سقطت عنه العقوبة التى وجبت حقا للّه ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فان كان قد قتل فى قطع الطريق سقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل ويبقى عليه القصاص لولى القتل ان شاء عفا عنه وان شاء استوفاه وان كان قد اخذ المال يسقط عنه القطع وان كان جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب ويجب ضمان المال وقال بعضهم اذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد تبعة فى دم ولا مال الا ان يوجد معه مال بعينه فيرده على صاحبه روى عن على رضى اللّه عنه ان الحارث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق ويسفك الدماء ويأخذ الاموال فقبل توبته ولم يجعل عليه تبعة اصلا واما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شىء من الحقوق اعلم ان قطع الطريق واخافة المسافرين من اقبح السيآت كما ان دفع الاذى عن الطريق من احسن الصالحات وفى الحديث ( عرضت على اعمال امتى حسنها وسيئها فوجدت فى محاسن اعمالها الاذى يماط عن الطريق ووجدت فى مساوى اعمالها النخاعة تكون فى المسجد لا تدفن ) وفى الحديث ( من اشار الى اخيه ) اى اخيه المسلم والذمى فى حكمه ( بحديدة ) اى بما هو آلة القتل لانه جاء فى رواية ( بسلاح ) مكان بحديدة ( فان الملائكة تلعنه ) يعنى تدعو عليه بالبعد عن الجنة اول الامر لانه خوف مسلما باشارته وهو حرام لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل لمسلم ان يروع المسلم ) او لانه قد يسبقه السلاح فيقتله كما صرح به فى رواية مسلم ( لا يشر احدكم الى اخيه فانه لا يدرى لعل الشيطان ينزغ فى يده وان كان اخاه ) اى المشير اخا المشار اليه ( لابيه وامه ) يعنى فان كان هازلا ولم يقصد ضربه كنى به عنه لان الاخ الشقيق لا يقصد قتل اخيه غالبا والاشارة فى الآية ان محاربة اللّه ورسوله معاداة اولياء اللّه فان فى الخبر الصحيح حكاية عن اللّه تعالى ( من عادى لى وليا فقد بارزنى بالحرب وانى لأغضب لاوليائى كما يغضب الليث لجروه ) ألا يرى ان بلعم بن باعوراء فى زمن موسى عليه السلام كان بحيث اذا نظر رأى العرش فلما مال الى الدنيا واهلها ميلة واحدة ولم يترك لولى من اوليائه حرمة واحدة سلب اللّه معرفته وجعله بمنزلة الكلب المطرود فجزاء مثل هذا المحارب ان يقتل بسكين الخذلان او يصلب بحبل الهجران على جذع الحرمان او تقطع ايديه عن اذيال الوصال وارجله من خلاف عن الاختلاف او ينفى من ارض القربة والائتلاف فله فى الدنيا بعد وهوان وفى الآخرة عذاب القطيعة والهجران الا الذين تابوا الى اللّه واستغفروا واعتذروا عن اولياء اللّه من قبل ان تقدروا عليهم برد الولاية ايها الاولياء فان ردكم رد الحق وقبولكم قبول الحق وان مردود الولاية مفقود العناية : قال الحافظ كيد كنج سعادت قبول اهل دلست ... مبادكس كه درين نكته شك وريب كند وفى المثنوى لا جرم آنراه بر تو بسته شد ... جون دل اهل دل ازتوخسته شد زود شان درياب واستغفار كن ... همجو ابرى كريها وزار كن تاكلستان شان سوى توبشكفد ... ميو هاى بخته بر خود واكفد هم بران دركردكم ازسك مباش ... باسك كهف ارشدستى خواجه تاش ٣٥ { يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه } اى اخشوا عذابه واحذروا معاصيه { وابتغوا } اى اطلبوا لانفسكم { اليه } اى الى ثوابه والزلفى منه { الوسيلة } اى القربة بالاعمال الصالحة قوله تعالى اليه متعلق بالوسيلة قدم عليها للاهتمام وليست بمصدر حتى يمتنع ان يتقدم معمولها عليها بل هى فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب الى اللّه تعالى من وسل الى كذا تقرب اليه والجمع الوسائل وقال عطاء الوسيلة افضل درجات الجنة وفى الحديث ( سلوا اللّه لى الوسيلة فانها درجة فى الجنة لا ينالها الا عبد واحد وأرجو من اللّه ان يكون هو انا ) وفى الحديث ( من قال حين يسمع النداء اللّهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذى وعدته حلت له شفاعتى يوم القيامة ) قال المولى الفنارى فى تفسير الفاتحة اما الوسيلة فهى اعلى درجة فى جنة عدن وهى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حصلت له بدعاء امته فعل ذلك الحق سبحانه لحكمة اخفاها فانا بسببه نلنا السعادة من اللّه وبه كنا خير امة اخرجت للناس وبه ختم اللّه بنا الامم كما ختم به النبيين وهو صلى اللّه عليه وسلم مبشر كما امر ان يقول ولنا وجه خاص الى اللّه تعالى نناجيه منه ويناجينا وكذا كل مخلوق له وجه خاص الى ربه فامرنا عن امر اللّه ان ندعو له بالوسيلة حتى ينزل فيها بدعاء امته وهذا من باب الغيرة الالهية انتهى { وجاهدوا فى سبيله } بمحاربة الاعداء الظاهرة والباطنة { لعلكم تفلحون } بالوصول الى اللّه والفوز بكرامته والاشارة فى الآية ان اللّه تعالى جعل الفلاح الحقيقى فى اربعة اشياء. احدها الايمان وهو اصابة رشاشة النور فى بدء الخلقة وبه يخلص العبد من حجب ظلمة الكفر. وثانيها التقوى وهو منشأ الاخلاق المرضية ومنبع الاعمال الشرعية وبه يخلص العبد من ظلمة المعاصى. وثالثها ابتغاء الوسيلة وهو فناء الناسوتية فى بقاء اللاهوتية وبه يتخلص العبد من ظلمة اوصاف الوجود. ورابعها الجهاد فى سبيل اللّه وهو اضمحلال الانانية فى اثبات الهوية وبه يتخلص العبد من ظلمة الوجود ويظفر بنور الشهود فالمعنى الحقيقى { يا ايها الذين آمنوا } باصابة النور { اتقوا اللّه } بتبديل الاخلاق الذميمة { وابتغوا اليه الوسيلة } فى افناء الاوصاف { وجاهدوا فى سبيله } ببذل الوجود { لعلكم تفلحون } بنيل المقصود من المعبود كذا فى التأويلات النجمية واعلم ان الآية الكريمة صرحت بالامر بابتغاء الوسيلة ولا بد منها البتة فان الوصول الى اللّه تعالى لا يحصل الا بالوسيلة وهى علماء الحقيقة ومشايخ الطريقة : قال الحافظ قطع اين مرحله بى همرهىء خضر مكن ... ظلماتست بترس از خطر كمراهى والعمل بالنفس يزيد فى وجودها واما العمل وفق اشارة المرشد ودلالة الانبياء والاولياء فيخلصها من الوجود ويرفع الحجاب ويوصل الطالب الى رب الارباب قال الشيخ ابو الحسن الشاذلى كنت انا وصاحب لى قد أوينا الى مغارة لطلب الدخول الى اللّه واقمنا فيها ونقول يفتح لنا غدا او بعد غد فدخل علينا يوما رجل ذو هيبة وعلمنا انه من اولياء اللّه فقلنا له كيف حالك فقال كيف يكون حال من يقول يفتح لنا غدا او بعد غد يا نفس لم لا تعبدين اللّه للّه فتيقظنا وتبنا الى اللّه وبعد ذلك فتح علينا فلا بد من قطع التعلق من كل وجه لينكشف حقيقة الحال : قال الحافظ فداى دوست نكرديم عمر مال دريغ ... كه كار عشق زما اين قدر نمى آيد وفى صحبة الاخيار والصلحاء شرف عظيم وسعادة عظمى وحكى ان خادم الشيخ ابى يزيد البسطامى كان رجلا مغربيا فجرى الحديث عنده فى سؤال منكر ونكير فقال المغربى واللّه ان يسألانى لأقولهن لهما فقالوا له ومن اين يعلم ذلك فقال اقعدوا على قبرى حتى تسمعونى فلما انتقل المغربى جلسوا على قبره فسمعوا المسألة وسمعوه يقول أتسألوننى وقد حملت فروة ابى يزيد على عنقى فمضوا وتركوه ولا تستبعد امثال هذا فان جواب المجيب المدقق يذهب معه من هنا فحصل مثل هذا الزاد : وفى المثنوى كنج زرى كه جو خسبى زيرريك ... باتو باشد آن نباشد مرد ريك ييش بيش آن جنازت مىرود ... مونس كور وغريبى ميشود ٣٦ { ان الذين كفروا لو ان لهم } اى لكل واحد منهم { ما فى الارض } اى من اصناف اموالها وذخائرها وسائر منافعها وهو اسم ان ولهم خبرها { جميعا } توكيد للموصول او حال منه { ومثله } عطف على الموصول اى ضعفه { معه } ظرف وقع حالا من المعطوف والضمير راجع الى الموصول { ليفتدوا به } متعلق بما تعلق به خبر ان اعنى الاستقرار المقدر فى لهم وبه متعلق بالافتداء والضمير راجع الى الموصول ومثله معا وتوحيده لاجرائه مجرى اسم الاشارة كأنه قيل بذلك { من عذاب يوم القيمة } متعلق بالافتداء ايضا اى لو ان ما فى الارض ومثله ثابت لهم لجعلوه فدية لانفسهم من العذاب الواقع يومئذ وافتدوا به { ما تقبل منهم } ذلك وهو جواب لو ولو بما فى حيزه خبر ان والجملة تمثيل للزوم العذاب لهم واستحالة نجاتهم منه بوجه من الوجوه المحققة والمفروضة وفى الحديث ( بجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملىء الارض ذهبا أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقال له انك كنت سئلت ما هو الايسر من ذلك ) اى ما هو أسهل من الافتداء المذكور وهو ترك الاشراك باللّه تعالى واتيان كلمة الشهادة { ولهم عذاب اليم } وجيع يخلص وجعه الى قلوبهم ٣٧ { يريدون } كأنه قيل فكيف يكون حالهم او ماذا يصنعون فقيل انهم يريدون { ان يخرجوا من النار } له وجوه الاول انهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج فيلفحهم لهب النار ويرفعهم الى فوق فهناك يريدون الخروج ولات حين مناص والثانى انهم يكادون يخرجون منها لقوة النار وزيادة رفعها اياهم والثالث انهم يتمنون ويريدون بقلوبهم { وما هم } اى يريدون ذلك والحال انهم ليسوا { بخارجين منها } لانهم كلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها { ولهم عذاب مقيم } اى دائم لا ينقطع وهو تصريح بعدم تناهى مدته بعد بيان شدته وفى الحديث ( يقال لاهل الجنة لكم خلود ولا موت ولاهل النار يا اهل النار خلود ولا موت ) اى لكم خلود فى النار روى ان هذين القولين يكونان بعد ان يؤتى بالموت فى صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار وانما يمثل الموت بهذا المثال ليشاهدوا باعينهم ويستقر فى انفسهم ان الموت ارتفع فيزداد اهل الجنة فرحا واهل النار ترحا وتخصيص صورة الكبش لانه لما كان فداء عن اسماعيل الذى نبينا عليه السلام من نسله كان فى المعنى فداء عن جميع الاحياء فى الدنيا لانهم خلقوا لاجله فناسب ان يكون فداء عنهم فى دار الآخرة ايضا كذا فى شرح المشارق لابن الملك واعلم ان الكفر وجزاءه وهو الخلود فى النار اثر اخطاء رشاش النور الالهى فى عالم الارواح وقد انعم اللّه تعالى على المؤمنين باصابة ذلك النور : وفى المثنوى مؤمنان كان عسل زنبور وار ... كافران خودكان زهرى همجومار جنبش خلق ازقضا ووعده است ... تيزىء دندان زسوز معده است نفس اول راند بر نفس دوم ... ماهى ازسر كنده باشدنى زدم تونميدانى كزين دوكيستى ... جهدكن جندانكه بينى جيستى جون نهى بريشت كشتى باررا ... بر توكل ميكنى آن كاررا تو نميدانى كه از هر دوكىء ... غرقه اندر سفر ياناجىء جونكه بربوكست جمله كارها ... كار دين اولى كزين يابى رها قال بعض الصلحاء رأيت فى منامى كانى واقف على قناطر جهنم فنظرت الى هول عظيم فجعلت افكر فى نفسى كيف العبور على هذه فاذا قائل يقول يا عبد اللّه ضع حملك واعبر قلت ما حملى قال دع الدنيا : قال الحافظ تا كى غم دنياى دنى اى دل دانا ... حيفست زخوبى كه شود عاشق زشتى وفى الحديث ( يؤتى بانعم اهل الدنيا ) الباء فيه للتعدية وانعم افعل تفضيل من النعمة اى باكثرهم نعمة ( من اهل النار يوم القيامة فيصبغ فى النار صبغة ) يعنى يغمس فيها مرة اراد من الصبغ الغمس اطلاقا للملزوم على اللازم لان الصبغ انما يكون بالغمس غالبا ثم اراد من غمسه فيها اصابة نفحة من النار به ( ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا واللّه يا رب ) شدة العذاب انسته ما مضى عليه من نعم الدنيا ( ويؤتى باشد الناس بؤسا ) اى شدة وبلاء فى الدنيا ( من اهل الجنة فيصبغ صبغة من الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا واللّه ما مر بى بؤس قط ولا رأيت شدة قط ) كذا فى شرح المشارق لابن ملك هر جند غرق بحر كناهم زصدجهت ... كر آشناى عشق شوم زاهل رحمتم ٣٨ { والسارق والسارقة } وهو مبتدأ محذوف الخبر اى حكم السارق والسارقة ثابت فيما يتلى عليكم فقوله تعالى { فاقطعوا ايديهما } بيان لذلك الحكم المقدر فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ولذلك اتى بها فيه لانه هو المقصود مما قبلها ولو لم يأت بالفاء لتوهم انه اجنبى وانما قدر الخبر لان الامر انشاء لا يقع خبرا الا باضمار وتأويل والمراد بايديهما ايمانها ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى { فقد صغت قلوبكما } اكتفاء بتثنية المضاف اليه وتفضيل ما يتعلق بالسرقة سيجىء فى آخر المجلس { جزاء بما كسبا نكالا من اللّه } منصوبان على المفعول له والمعنى فاقطعوهما مكافاة لهما على ما فعلا من فعل السرقة وعقوبة رادعة لهما من العود ولغيرهما من الاقتداء بهما وبما متعلق بجزاء ومن اللّه صفة نكالا اى نكالا كائنا منه تعالى. والنكال اسم بمعنى التنكيل مأخوذ من النكول وهو الامتناع { واللّه عزيز } غالب على امره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه { حكيم } فى شرائعه لا يحكم الا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح ٣٩ { فمن تاب } من السراق الى اللّه تعالى { من بعد ظلمه } اى من بعد ان ظلم غيره باخذ ماله والتصريح به مع ان التوبة لا تتصور قبله لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته { واصلح } اى امره بالتفصى عن تبعات ما باشره والعزم على ان لا يعود الى السرقة { فان اللّه يتوب عليه } اى يقبل توبته فلا يعذبه فى الآخرة واما القطع فلا تسقطه التوبة عندنا لان فيه حق المسروق منه قال الحدادى لا تقطع يده اذا رد المال قبل المرافعة الى الحاكم واما اذا رفع الى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب فان كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له كما ان اللّه تعالى ابتلى الصالحين والانبياء بالبلايا والمحن والامراض زيادة لهم فى درجاتهم وان لم تكن توبته حقيقة كان الحد عقوبة له على ذنبه وهو مؤاخذ فى الآخرة ان لم يتب { ان اللّه غفور رحيم } مبالغ فى المغفرة والرحمة ولذلك يقبل التوبة ٤٠ { ألم تعلم ان اللّه له ملك السموات والارض } الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمراد به الجميع والاستفهام الانكارى لتقرير العلم والمراد بذلك الاستشهاد على قدرته تعالى على ما سيأتى من التعذيب والمغفرة على ابلغ وجه واتمه اى ألم تعلم ان اللّه له السلطان القادر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما وفيما فيهما ايجادا واعداما واحياء واماتة الى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته { يعذب من يشاء } ان يعذبه ولو على الذنب الصغير وهو عدل منه { ويغفر لمن يشاء } ان يغفر له ولو كان الذنب عظيما وهو الفضل منه اى يعذب لمن توجب الحكمة تعذيبه ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته { واللّه على كل شىء قدير } فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة قال ابن الشيخ انه تعالى لما اوجب قطع يد السارق وعقاب الآخرة لمن مات قبل التوبة ثم ذكر انه يقبل توبته ان تاب اردفه ببيان انه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء يحسن منه التعذيب تارة والمغفرة اخرى لانه مالك جميع المحدثات وربهم وآلههم والمالك له ان يتصرف فى ملكه كيف شاء واراد لا كما زعمت المعتزلة من ان حسن افعاله تعالى ليس لاجل كونه آلها للخلق ومالكا بل لاجل كونها على وفق مصالح الخلق ومتضمنة لرعاية ما هو الاصلح لهم انتهى واعلم ان السرقة هى اخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة من حرز لا ملك له فيه ولا شبهته فاحترز بالمكلف عن اخذ صبى ومجنون وبالخفية وهو ركن السرقة عن الغصب وقطع الطريق. وقوله قدر عشرة دراهم اى عينا او قيمة وهذا نصباب السرقة فى حق القطع واما فى حق العيب فاخذ ما دون العشرة يعد سرقة ايضا شرعا ويعد عيبا حتى يرد العبد به على بائعه وعند الشافعى نصاب السرقة ربع دينار ولنا قوله عليه السلام ( لا قطع الا فى ربع دينا او فى عشرة دراهم ) والاخذ بالاكثر اولى احتيالا لدرء الحد والمعتبر فى هذه الدراهم ما يكون عشرة منها وزن سبعة مثاقيل واحترز بالمضروبة عما قيمته دونها حتى اذا سرق تبرا عشرة لا يساوى عشرة مضروبة لا يجب القطع وقوله من حرز اى من مال ممنوع من ان يصل اليه يد الغير سواء كان المانع بناء او حافظا قال البغوى اذا سرق شيأ من غير حرز كثمر فى حائط لا حارس له او حيوان فى برية لا حافظ له او متاع فى بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه وقيد بقوله ولا شبهته لانه لو كان له شبهة فى المسروق كما اذا سرق من بيت المال اوفى الحرز كما اذا سرق من بيت اذن للناس بالدخول فيه كالحمام والرباط لا يقطع لان القطع يندرىء بالشبهة وكذا لا قطع بسرقة مال سيده لوجود الاذن بالدخول عادة وكذا بسرقة مال زوجته او زوجها ولو من حرز خاص لآخر لا يسكنان فيه لان اليد المبسوطة لكل من الزوجين فى مال الآخر ثابتة وهو مانع عن القطع وكذا لا قطع بسرقة مال من بينهما قرابة ولاء لجريان الانبساط بين الاصول والفروع بالانتفاع فى المال والدخول فى الحرز ولا بسرقة من بيت ذى رحم محرم ولو كان المسروق مال غيره لعدم الحرز ويقطع يمين السارق من زنده وهو مفصل الذراع فى الكف ويحسم بان يدخل فى الدهن الحار بعد القطع لقطع الدم لانه لو لم يحسم لافضى الى التلف والحد زاجر لا متلف ولهذا لا يقطع فى الحر الشديد والبرد الشديد وان سرق ثانيا بعدما قطعت يده اليمنى تقطع رجله اليسرى من المفصل وان سرق ثالثا لا يقطع بل يحبس حتى يتوب ويظهر عليه سيما الصالحين والتائبين لقول على رضى اللّه عنه فيمن سرق ثلاث مرات انى لاستحيى من اللّه ان لا ادع له يدا يأكل بها ويستنجى ورجلا يمشى عليها وفى الحديث ( اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه ) وفيه دليل على ان التوبة يعلم اثرها وتثبت السرقة بما يثبت به شرب الخمر اى بالشهادة او بالاقرار مرة ونصابها رجلان لان شهادة النساء غير مقبولة فى الحدود وطلب المسروق منه شرط القطع لان الخيانة على ملك الغير لا تظهر الا بخصومته ولا فرق فى القطع بين الشريف والوضيع وعن عائشة رضى اللّه عنها قالت سرقت امرأة مخزومية فاراد النبى صلى اللّه عليه وسلم ان يقطع يدها فاستشفع لها اسامة بن زيد وكان النبى عليه الصلاة والسلام يحبه فلم يقبل وقال ( يا اسامة أتشفع فى حد من حدود اللّه انما اهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه واذا شرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد وايم اللّه لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) وفى الحديث نهى عن الشفاعة فى الحدود بعد بلوغ الامام ولهذا رد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شفاعة اسامة واما قبله فالشفاعة من المجنى عليه جائزة والستر على الذنب مندوب اذا لم يكن صاحب شر واذى : قال السعدى بس برده بيند عملهاى بد ... هم او برده بوشد ببالاى خود وفى الحديث ايضا دلالة على وجوب العدل فى الرعية واجراء الحكم على السوية قال الامام ابو منصور فان قيل ما الحكمة فى قطع يد قيمتها الوف بسرقة عشرة دراهم فكيف يكون قطعها جزاء لفعل السارق وقد قال تعالى { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها } قلنا جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء وللّه تعالى ان يمتحن بما شاء ابتداء اى من غير ان يكون ذلك جزاء على كسب العبد ولان القطع ليس بجزاء ما اخذ من المال ولكن لما هتك من الحرمة ألا يرى انه قال جزاء بما كسبا فيجوز ان يبلغ جزاء هتك تلك الحرمة قطع اليد وان قصر على العشرة علم ذلك لان مقادير العقوبات انما يعلمها من يعلم مقادير الجنايات واذا كان الامر كذلك فالحق التسليم والانقياد انتهى. ونعم ما قال يونس بن عبيد فى باب الترهيب لا تأمن من قطع فى خمسة دراهم خير عضو منك ان يكون عذابه هكذا غدا كما فى منهاج العابدين فعلى العاقل ان يتوب عن الزلل وينقطع عن الحيل ويتوجه الى اللّه الاعلى الاجل : وفى المثنوى حيلهاو جارهاكر ازدهاست ... بيش الا اللّه آنها جمله لاست قفل زفتست وكشانيده خدا ... دست درتسليم زن اندر رضا ثم ان اللّه تعالى انما بدأ بالسارق فى هذه الآية قبل السارقة وفى آية الزنى بدأ بالزانية لان السرقة تفعل بالقوة والرجل اقوى من المرأة والزنى يفعل بالشهوة والمرأة اكثر شهوة والمرأة ادعى من الرجل الى نفسها منه اليها ولهذا لو اجتمع جماعة على امرأة لم يقدروا عليها الا بمرادها ولهذا قيل قال اللّه تعالى { وعصى آدم ربه فغوى } ولم يقل وعصت حواء مع انها اكلت قبل آدم ودعته الى الاكل وقيل انما قطعت يد السارق لانها باشرت ولم يقطع ذكر الزانى للمباشرة خوفا لقطع النسل وتحصل ايضا لذة الزنى بجميع البدن قال النيسابورى قطعت يد السارق لانها اخذت المال الذى هو يد الغنى وعماده كأنه اخذ يد انسان فجزوا يده لتناولها حق الغير وقيل قال اللّه تعالى { وللّه خزائن السموات والارض } فكل ما عند العبد من مال فهو خزانة الحق عنده والعبد خازنه فمهما تعدى خزانة مولاه بغير اجازة استحق السياسة بقطع آلة التعدى الى خيانة خزانته وهى اليد المتعدية ثم ان السرقة كما تكون من المال كذلك تكون من العبادات وفى الحديث ( اسوء الناس سرقة الذى يسرق من صلاته ) قالوا يا رسول اللّه كيف يسرق من صلاته قال ( لا يتم ركوعها ولا سجودها ) وفى الحديث ( ان الرجل ليصلى ستين سنة وما تقبل له صلاة ) لعله يتم الركوع ولا يتم السجود ويتم السجود ولا يتم الركوع كذا فى الترغيب والترهيب فمثل هذا المصلى يقطع يمينه عن نيل الوصال فلا يصل الى مراده بل يبقى فى الهجران والقطيعة اذ هو اساء الادب بل قصر فيما امر الرب سبحانه وتعالى ٤١ { يا ايها الرسول } خاطبه صلى اللّه عليه وسلم بعنوان الرسالة للتشريف { لا يحزنك الذين } اى صنع الذين فان الذوات مع قطع النظر عن العوارض لا توجب الحزن والفرح { يسارعون فى الكفر } اى يقعون فى الكفر سريعا فى اظهاره اذا وجدوا منه فرصة والمقصود نهيه عليه السلام عن ان يتحزن بصنيعهم بناء على انه تعالى ناصره عليهم والمعنى لا تحزن ولا تبال بتهافتهم فى الكفر سريعا { من الذين } بيان للمسارعين فى الكفر { قالوا آمنا بافواههم } متعلق بقالوا والفائدة فى بيان تعلقه بالافواه مع ان القول لا يكون الا بالفم واللسان الاشارة الى ان ألسنتهم ليست معبرة عما فى قلوبهم وان ما يجرون على ألسنتهم لا يجاوز افواههم وانما نطقوا به غير معتقدين له بقلوبهم { ولم تؤمن قلوبهم } جملة حالية من ضمير قالوا جىء بها للتصريخ بما اشار اليه بقوله بافواههم { ومن الذين هادوا } عطف على من الذين قالوا وبه يتم بيان المسارعين فى الكفر بتقسيمهم الى قسمين المنافقين واليهود { سماعون } خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم اى المنافقون واليهود سماعون { للكذب } اللام اما لتقوية العمل واما لتضمن السماع معنى القبول واما لام كى والمفعول محذوف والمعنى هم مبالغون فى سماع الكذب او فى قبول ما تفتريه احبارهم من الكذب على اللّه سبحانه وتحريف كتابهم او سماعون اخباركم واحاديثكم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص والتبديل فان منهم من يسمع من الرسول عليه السلام ثم يخرج ويقول سمعت منه كذا وكذا ولم يسمع ذلك منه { سماعون لقوم آخرين } خبر ثان للمبتدأ المقدر مقرر للاول ومبين لما هو المراد بالكذب على الوجهين الاولين واللام مثل اللام فى سمع اللّه لمن حمده فى الرجوع الى معنى من اى قبل منه حمده والمعنى مبالغون فى قبول كلام قوم آخرين { لم يأتوك } صفة اخرى لقوم اى لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وافراطا فى البغضاء قيل هم يهود خيبر والسماعون بنوا قريظة { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } صفة اخرى لقوم اى يميلونه ويزيلونه عن مواضعه بعد ان وضعه اللّه فيها اما لفظا باهماله او تغيير وصفه واما بحمله على غير المراد واجرائه فى غير مورده { يقولون } صفة اخرى لقوم اى يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند القائهم اليهم اقاويلهم الباطلة مشيرين الى كلامهم الباطل { ان اوتيتم } من جهة الرسول { هذا } المحرف { فخذوه } واعملوا بموجبه فانه الحق { وان لم تؤتوه } بل اوتيتم غيره { فاحذروا } قبوله واياكم واياه روى ان شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين وحدهما الرجم فى التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فارسلوهما مع رهط منهم الى بنى قريظة فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير فقالوا لهم انكم خبير بهذا الرجل ومعه فى بلده وقد حدث فينا فلان وفلانة فجرا وقد احصنا فنحب ان تسألوا لنا محمدا عن قضائه فيه فقالت لهم قريظة والنضير اذا واللّه يأمركم بما تكرهون ثم انطلق قوم منهم كعب ابن الاشرف وكعب بن اسد وكنانة بن ابى الحقيق وغيرهم الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد اخبرنا عن الزانى والزانية اذا احصنا ما حدهما فى كتابك فقال ( هل ترضون بقضائى ) قالوا نعم فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فاخبرهم بذلك فابوا ان يأخذوا به فقال له جبريل اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال عليه السلام ( هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا ) قالوا نعم فقال ( اى رجل هو فيكم ) قالوا هو اعلم يهودى بقى على وجه الارض بما انزل اللّه على موسى فى التوراة قال ( فارسلوا اليه ) ففعلوا فاتاهم فقال عليه السلام ( انت ابن صوريا ) قال نعم قال ( وأنت اعلم يهودى ) قال كذلك يزعمون قال ( أتجعلونه بينى وبينكم ) قالوا نعم قال له النبى عليه السلام ( انشدك باللّه الذي لا اله الا هو الذى انزل التوراة على موسى واخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وانجاكم واغرق آل فرعون والذى ظلل عليكم الغمام وانزل عليكم المن والسلوى وانزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من احصن ) قال ابن صوريا نعم والذى ذكرتنى به لولا خشيت ان تحرقنى التوراة ان كذبت او غيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال ( اذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم ) فقال ابن صوريا والذى انزل التوراة على موسى هكذا انزل اللّه فى التوراة على موسى فقال له النبى عليه السلام ( فماذا كان اول ما ترخصتم به فى امر اللّه تعالى ) قال كنا اذا اخذنا الشريف تركناه واذا اخذنا الضعيف اقمنا عليه الحد فكثر الزنى فى اشرافنا حتى زنى ابن عم ملكنا فلم يرجم ثم زنى رجل آخر فى اسوة من الناس فاراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه وقالوا واللّه لا ترجمه حتى ترجم فلانا ابن عمك فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيأ دون الرجم يكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو ان يجلد اربعين جلدة بحبلى مطلى بالقار ثم تسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم فقالت اليهود لابن صوريا ما اسرع ما اخبرته به وما كنت لما اثنينا عليك باهل ولكن كنت غائبا فكرهنا ان نغتابك فقال لهم انه قد نشدنى بالتوراة ولولا خشية التوراة ان تهلكنى لما اخبرته فامر بهما النبى صلى اللّه عليه وسلم فرجما عند باب المسجد وقال ( اللّهم انى اول من احيى امرك اذ أماتوه ) فانزل اللّه تعالى { يا ايها الرسول } الآية { ومن } شرطية { يرد اللّه فتنته } اى ضلالته او فضيحته كائنا من كان { فلن تملك له } فلن تستطيع له { من اللّه شيأ } فى دفعها { اولئك } المنافقون واليهود { الذين لم يرد اللّه ان يطهر قلوبهم } اى من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما واصرارهم عليهما واعراضهم عن صرف اختيارهم الى تحصيل الهداية بالكلية { لهم } اى للمنافقين واليهود { فى الدنيا خزى } اما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم فيما بين المسلمين واما خزى اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم فى كتمان نص التوراة { ولهم فى الآخرة } اى مع الخزى الدنيوى { عذاب عظيم } هو الخلود فى النار ٤٢ { سماعون للكذب } تكرير لما قبله { اكالون للسحت } اى الحرام كالرشى من سحته اذا استأصله لانه مسحوت البركة { فان جاؤك } الفاء فصيحة اى واذا كان حالهم كما شرح فان جاؤك متحاكمين اليك فيما شجر بينهم من الخصومات { فاحكم بينهم او اعرض عنهم وان تعرض عنهم } بيان لحال الامرين اثر التخيير { فلن يضروك شيأ } من الضرر بان يعادوك لاعراضك عنهم فان اللّه يعصمك من الناس { وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط } بالعدل الذى امرت به كما حكمت بالرجم { ان اللّه يحب المقسطين } العادلين فيحفظهم من كل مكروه ومحذور ويعظم شأنهم وفى الحديث ( المقسطون عند اللّه على منابر من نور ) ٤٣ {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللّه } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحال ان الحكم منصوص عليه فى كتابهم الذى يدعون الايمان به وتنبيه على انهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق واقامة الشرع وانما طلبوا به ما اهون عليهم وان لم يكن ذلك حكم اللّه على زعمهم وفيها حكم اللّه حال من التوراة او رفعها بالظرف وان جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه { ثم يتولون } عطف على يحكمونك داخل فى حكم التعجب وثم للتراخى فى الرتبة { من بعد ذلك } اى من بعد ما حكموك وهو تصريح بما علم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجب اى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوا بحكمك { وما اولئك } الموصوفون بما ذكر { بالمؤمنين } اى بكتابهم لاعراضهم عنه اولا وعن حكمك الموافق لكتابهم ثانيا او بك وبه. وفى الآيات ذم للظلم ومدح للعدل وقدح فى الحرام والرشوة وفى الحديث ( كل لحم انبته السحت فالنار اولى به ) وفيه ( لعن اللّه الراشى والمرتشى والرائش ) واراد بالرائش الذى يمشى بينهما : وفى المنثوى اى بسا مرغى برنده دانه جو ... كه بريده حلق اوهم حلق او اى بسا ماهىدرآب دور دست ... كشته ازحرص كلو مأخوذ شست اى بسا مستور دربرده بده ... شومى فرج وكلو رس اشده اى بسا قاضىء حبر نيك خو ... ازكلوى رشوتى اوزرد رو بلكه درهاروت وماروت آن شراب ... ازعروج جر خشان شد سد باب ذكر فى ادب القاضى للخصاف الرشوة على اربعة اوجه اما ان يرشوه لانه قد خوفه فيعطيه الرشوة ليدفع الخوف عن نفسه او يرشوه ليسوى امره بينه وبين السلطان او يرشوه ليتقلد القضاء من السلطان او يرشو القاضى ليقضى له. ففى الوجه الاول لا يحل الاخذ لان الكف عن التخويف كف عن الظلم وانه واجب حقا للشرع فلا يحل اخذه لذلك ويحل للمعطى الاعطاء لانه جعل المال وقاية للنفس وهذا جائز موافق للشرع. وفى الوجه الثانى ايضا لا يحل الاخذ لان القيام بامور المسلمين واجب بدون المال فلا يحل له الاخذ. وفى الوجه الثالث لا يحل له الاخذ والاعطاء واما الرابع فحرام الاخذ سواء كان القضاء بحق او ظلم. اما الظلم فلوجهين. احدهما انه رشوة. والثانى انه سبب للقضاء بالجور. واما الحق فلوجه واحد وهو انه اخذ المال لاقامة الواجب. واما العطاء فان كان بجور لا يجوز وان كان بحق جاز قال ابن مسعود رضى اللّه عنه من شفع شفاعة يرد بها حقا او يدفع بها ظلما فاهدى له فقبل فهو سحت وفى نصاب الاحتساب ان المحتسب او القاضى اذا اهدى اليه ممن يعلم انه يهدى لاحتياجه الى القضاء والحسبة لا يقبل ولو قبل كان رشوة واما ممن يعرف انه يهدى للتودد والتحبب لا للقضاء والحسبة فلا بأس به وكان الصحابة رضى اللّه عنهم يتوسعون فى قبول الهدايا بينهم وهذا لان الهدية كانت عادتهم وكانوا لا يلتمسون منهم شيأ وانما كانوا يهدون لاجل التودد والتحبب وكانوا يستوحشون برد هداياهم فلا يكون فيه معنى الرشوة فلهذا كانوا يقبلونها قال قوم ان صلات السلاطين نحل للغنى والفقير اذا لم يتحقق انها حرام وانما التبعة على المعطى قالوا لان النبى صلى اللّه عليه وسلم قبل هدية المقوقس ملك الاسكندرية واستقرض من اليهود مع قوله اللّه تعالى { اكالون للسحت } واما حال السوق فمتى علمت ان الحرام هو الاكثر فلا تشتر الا بعد التفتيش وان كان كثيرا وليس بالاكثر فلك السؤال ولقد كان النبى عليه الصلاة والسلام واصحابه يشترون من الاسواق مع علمهم بان فيهم اهل الربا والغصب والغلول قال الحدادى ومن السحت ثمن الخمر والخنزير والميتة وعسب الفحل واجرة النائحة والمغنية والساحر وهدية الشفاعة ومهر البغى وحلوان الكاهن هكذا قال عمر وعلى وابن عباس رضى اللّه عنهم قالوا والمال الذى يأخذه المغنى والقوال ونحوهما حكم ذلك اخف من الرشوة فان صاحب المال اعطاه عن غير اختيار بغير عقد قال ابن كيسان سمعت الحسن يقول اذا كان لك على رجل دين فاكلت فى بيته فهو سحت. فعليك ايها المؤمن المتقى بالاحتياط فى امورك حتى لا تقع فى الشبهات بل فى الحرام وانما تحصل التصفية للقلب باكل الغذاء الحلال : قال الحافظ صوفى شهربين كه جون لقمه شبهه ميخورد ... باردمش درازباد اين حيوان خوش علف والمقصود من البيت تشبيه الذى لا يحترز عن الشبهات بالحيوان فى الاكل من كل ما يجده من غير تفرقة ولان تناول الشبهات من كمال الحرص لانه لو لم يكن له حرص لكان له قناعة بالحلال ولو قليلا والحيوان يعظم من كثرة الاكل والشرب والنوم وهى حكم الطبيعة ٤٤ { انا انزلنا التوراة } حال كونها { فيها هدى } تهدى شرائعها واحكامها الى الحق وترشد الناس اليه { ونور } تكشف ما انبهم من الاحكام وما يتعلق بها من المستورة بظلمات الجهل { يحكم بها النبيون } اى انبياء بنى اسرائيل اى يحكمون باحكامها ويحملون الناس عليها { الذين اسلموا } ان قلت النبيون اعظم من الاسلام فكيف يمدح نبى بانه رجل مسلم وما الوصف به بعد الوصف بالنبوة لا تنزل من الاعلى الى الادنى قلت قد يذكر الوصف مدحا للوصف ففائدة التوصيف تنويه شأن الصفة والتنبيه على عظم قدرها حيث وصف بها عظيم كما وصف الانبياء بالصلاح والملائكة بالايمان وقد قيل اوصاف الاشراف اشراف الاوصاف : قال ما ان مدحت محمدا بمقالتى ... لكن مدحت مقالتى بمحمد { للذين هادوا } متعلق بيحكم اى يحكمون فيما بينهم واللام لبيان اختصاص الحكم بهم اعم من ان يكون لهم او عليهم كانه قيل لاجل الذين هادوا { والربانيون والاحبار } عطف على النبيون اى هم ايضا يحكمون باحكامها وهم الزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود { بما استحفظوا من كتاب اللّه } اى بالذى استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم ان يحفظوها من التضييع والتحريف على الاطلاق ولا ريب فى ان ذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم فى اجراء احكامها من غير اخلال بشىء منها والباء سببية متعلقة بيحكم اى ويحكم الربانيون والاحبار ايضا بسبب ما حفظوه من كتاب اللّه حسبما وصاهم به انبياؤهم وسألوهم ان يحفظوه { وكانوا عليه شهداء } اى رقباء لا يتركونهم ان يغيروا فهو من الشهود بمعنى الحضور { فلا تخشوا الناس } كائنا من كان ايها الرؤساء والاحبار واقتدوا فى مراعاة احكامها وحفظها بمن قبلكم من الانبياء واشياعهم { واخشون } فى الاخلال بحقوق مراعاتها فيف بالتعرض لها بسوء نهوا ان يخشوا غير اللّه فى حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم او مراقبة كبير ودلالة الآية تتناول حكام المسلمين { ولا تشتروا بآياتى } الاشتراء استبدال السلعة بالثمن اى اخذها بدلا منه ثم استعير لاخذ شىء بدلا مما كان له عينا كان او معنى اخذا منوطا بالرغبة فيما اخذ والاعراض عما اعطى ونبذ اى لا تستبدلوا بآياتى التى فيها بان تخرجوها منها او تتركوا العمل بها وتأخذوا لانفسكم بدلا منها { ثمنا قليلا } من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية فانها وان جلت قليلة مسترذلة فى نفسها لا سيما بالنسبة الى ما فات عنهم بترك العمل بها آن جهان جيفه است ومردار ورخيص ... بر جنين مردار جون باشم حريص بس حيات ماست موقوف فطام ... اندك اندك جهد كن تم الكلام ولما كان الاقدام على التحريف لدفع ضرر كما اذا خشى من ذى سلطان او لجلب نفع كما اذا طمع فى الحظوظ الدنيوية نهوا عن كل منهما صريحا { ومن لم يحكم بما انزل اللّه } مستهينا به منكرا له كائنا من كان يقتضيه ما فعلوه من التحريف { فاولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بان حكموا بغيره ولذلك وصفهم بقوله الظالمون والفاسقون فكفرهم بانكاره وظلمهم بالحكم على خلافه وفسقهم بالخروج عنه ٤٥ { وكتبنا } فرضنا عطف على انزلنا التوراة { عليهم } اى على الذين هادوا { فيها } اى فى التوراة { ان النفس بالنفس } اى تقاد بها اذا قتلها بغير حق { والعين } تفقأ { بالعين } اذا فقئت بغير حق { والانف } تجذم { بالانف } المقطوعة بغير حق { والاذن } تصلم { بالاذن } المقطوعة ظلما { والسن } تقلع { بالسن } المقلوعة بغير حق { والجروح قصاص } اى ذات قصاص بحيث تعرف المساواة واما مالا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم او جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه لانه لا يمكن الوقوف على نهايته ففيه ارش او حكومة { فمن تصدق } اى من المستحقين { به } اى بالقصاص اى فمن عفا عنه فالتعبير بالتصدق للمبالغة فى الترغيب فيه { فهو } اى التصدق { كفارة له } اى للمتصدق يكفر اللّه تعالى بها ما سلف من ذنبه واما الكافر اذا عفا فلا يكون عفوه كفارة له مع اقامته على الكفر وفى الحديث ( من اصيب بشىء من جسده فتركه للّه كان كفارة له ) وفى الحديث ( ثلاث من جاء بهن يقوم القيامة مع الايمان دخل الجنة من اى ابواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من عفا عن قاتله ومن قرأ دبر كل صلاة مكتوبة قل هو اللّه احد عشر مرات ومن ادى دينا خفيا ) وقال بعضهم الهاء كناية عن الجارح والقاتل يعنى اذا عفا المجنى عليه من الجانى فعفوه كفارة لذنب الجانى لا يؤخذ به فى الآخرة كما ان القصاص كفارة له فاما اجر العافى فعلى اللّه { ومن لم يحكم بما انزل اللّه } من الاحكام والشرائع { فاولئك هم الظالمون } المبالغون فى الظلم المتعدون لحدوده تعالى الواضعون للشىء فى غير موضعه ٤٦ { وقفينا على آثارهم } عطف على انزلنا التوراة اى آثار النبيين المذكورين { بعيسى ابن مريم } اى ارسلناه عقيبهم وجئنا به بعدهم يقال قفوت اثره قفوا وقفّوا اى اتبعته فهو يتعدى الى واحد واذا قلت قفيت على اثره بفلان يكون المعنى اتبعته اياه وحقيقة التقفية الاتيان بالشىء فى قفا غيره والتضعيف فيه ليس للتعدية فان فعل المضعف قد يكون بمعنى فعل المجرد كقدّر وقدر وانما تعدى الى الثانى بالباء فمفعوله الاول محذوف اى اتبعنا النبيين الذين ذكرناهم بعيسى وجعلناه ممن يقفوهم فحذف المفعول وجعل على آثارهم كالقائم مقامه { مصدقا لما بين يديه من التوراة } حالة من عيسى { وآتيناه الانجيل } عطف على قفينا { فيه هدى ونور } كما فى التوراة وهو فى محل النصب على انه حال من الانجيل اى كائنا فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هدى ونور { ومصدقا لما بين يديه من التوراة } عطف عليه داخل فى حكم الحالية وتكرير ما بين يديه من التوراة زيادة تقرير { وهدى وموعظة للمتقين } عطف على مصدقا منتظم معه فى سلك الحالية جعل كله هدى بعدما جعل مشتملا عليه حيث قيل فيه هدى وتخصيص كونه هدى وموعظة للمتقين لانهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه : قال الحافظ كرانكشت سليمانى نباشد ... جه خاصيت دهدنقش نكينى فكما ان الانتفاع بالخاتم انما يكون لمن كان له مشرب سليمانى كذلك الانتفاع بالكتاب انما يكون لمن له تقوى رجحانى ٤٧ { وليحكم اهل الانجيل بما أنزل اللّه فيه } اى آتيناه الانجيل وقلنا ليحكم اهل الانجيل بما انزل اللّه فيه { ومن لم يحكم بما انزل اللّه } منكرا له مستهينا به { فاولئك هم الفاسقون } المتمردون الخارجون عن الايمان وفيه دلالة على ان الانجيل مشتمل على الاحكام وان عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الاحكام قلت او كثرت لا بما فى التوراة خاصة وفيه تهديد عظيم للحكام وفى الحديث ( يؤتى بالقاضى العدل يوم القيامة فيلقى من شدة العذاب ما يتمنى انه لم يفصل بين احد فى تمرتين ) فاذا كان هذا حال القاضى العدل فما ظنك بالجائر والمرتشى بوحنيفه قضانكرد وبمرد ... توبميرى اكر قضانكنى وفى الحديث ( القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة قاض قضى بغير حقا وهو يعلم فذاك فى النار وقاض قضى وهو لا يعلم فاهلك حقوق الناس فذاك فى النار وقاض قضى بحق فذاك فى الجنة ) كذا فى المقاصد الحسنة للامام السخاوى حكى ان بنى اسرائيل كانوا ينصبون لاجراء الاحكام بينهم حكاما ثلاثة حتى اذا رفع الخصم الامر الى واحد منهم فلم يرض به الآخر ترافعا الى الثانى ثم الى الثالث ليطمئن قلبه فذات يوم تصور ملك بصورة انسان يريد امتحان هؤلاء الحكام فركب على رمكة وقام على رأس بئر فاذا رجل اتى ببقرة له مع عجلها ليسقيهما فلما سقاهما واراد الرجوع اشار الملك الى العجل فجاء الى جنب الرمكة فكلما نادى صاحبه ودعاه لم يستمع ولم يذهب الى الام فجاء الرجل ليسوقه بأى وجه يمكن فقال الملك يا هذا الرجل ان العجل قد ولدته رمكتى هذه فاذهب وخلنى وعجلى فقال الرجل يا عجبا العجل ملكى قد ولدته بقرتى هذه فتنازعا وترافعا الى القاضى الاول فسبق الملك الرجل الى القاضى وقال ان قضيت لى بالعجل دفعت لك كذا فقبله القاضى فلما تحاكما حكم بالعجل للملك فلم يرض به الرجل فترافعا الى الثانى فحكم هو ايضا بالعجل للملك فلم يرض به الرجل ايضا فترافعا الى الثالث فلما عرض الملك الرشوة عليه قال لا استطيع هذا الحكم فانى قد حضت فقال الملك ايش تقول هل تحيض الرجال والحيض من خواص النساء فقال القاضى له تتعجب من كلامى ولا تتعجب من كلامك فكما ان الرجال لا تحيض فكذلك الرمكة لا تلد عجلا فقال الملك هناك قاضيان فى النار وقاض فى الجنة وهذا الكلام منقول من لسانه كذا ذكر البعض نقلا عن فم حضرة الشيخ الشهير بهدائى الاسكدارى قدس سره ٤٨ { وانزلنا اليك } يا محمد { الكتاب } اى القرآن حال كونه ملتبسا { بالحق } والصدق حال كونه { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } اى مصدقا لما تقدمه من جنس الكتب المنزلة من حيث انه نازل حسبما نعت فيه وموافقا له فى التوحيد والعدل واصول الشرائع { ومهيمنا عليه } اى رقيبا على سائر الكتب المحفوظة عن التغير فانه يشهد لها بالصدق والصحة والثبات وتقرر اصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين احكامها المنسوخة ببيان انتهاء مشروعيتها المستفادة من تلك الكتب وانقضاء وقت العمل بها ولا ريب ان تمييز احكامها الباقية على المشروعية ابدا عما انتهى وقت مشروعيته وخرج عنها من احكام كونه مهيمنا عليها { فاحكم بينهم } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها اى اذا كان شأن القرآن كما ذكر فاحكم بين اهل الكتاب عند تحاكمهم اليك { بما انزل اللّه } اى بما انزل اليك فانه مشتمل على جميع الاحكام الشرعية الباقية فى الكتب الآلهية { ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق } بالانحراف عنه الى ما يشتهونه فعن متعلقة بلا تتبع على تضمني معنى العدول ونحوه كأنه قيل لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا اهواءهم { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } الخطاب بطريق الالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين ايضا بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدى لواحد وهو اخبار بجعل ماض لا انشاء وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين كل والمعنى لكل امة كائنة منكم ايها الامم الباقية والخالية جعلنا اى عينا ووضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الامة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التى عينت لها فالأمة من مبعث موسى الى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة والتى كانت من مبعث عيسى الى مبعث النبى عليهما السلام شرعتهم الانجيل واما انتم ايها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس الا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشرعة والشريعة هى الطريقة الى الماء شبه بها الدين الذى شرعه اللّه اى سنه من نحو الصوم والصلاة والحج والنكاح وغير ذلك من وجوه الصلاح لكونه سبيلا موصلا الى ما هو سبب للحياة الابدية كما ان الماء سبب للحياة الفانية والمنهاج الطريق الواضح فى الدين من نهج الامر اذا وضح قيل فيه دليل على انا غير متعبدين بشرائع من قبلها والتحقيق انا متعبدون باحكامها الباقية من حيث انها احكام شريعتنا لا من حيث انها شرعة للاولين { ولو شاء اللّه } ان يجعلكم امة واحدة { لجعلكم امة واحدة } اى جماعة واحدة متفقة على دين واحد فى جميع الاعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الامم فى شىء من الاحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل { ولكن } لم يشأ ذلك اى ان يجعلكم امة واحدة بل شاء ما عليه ألسنة الالهية الجارية فيما بين الامم { ليبلوكم } اى ليعاملكم معاملة من يبتليكم { فيما آتاكم } من الشرائع المختلفة المناسبة لاعصارها وقرونها هل تعملون بها مذعنين معتقدين ان اختلافها بمقتضى المشيئة الآلهية المبنية على اساس الحكم البالغة والمصالح النافعة لكم فى معاشكم ومعادكم او تزيغون عن الحق وتتبعون الهوى وتستبدلون المضرة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى : وفى المثنوى كربسوزد باغت انكورت دهد ... درميان ماتمى سورت دهد لانسلم واعتراض از مابرفت ... جون عوض مى آيداز مفقودزفت { فاستبقوا الخيرات } اى اذا كان الامر كما ذكر فسارعوا الى ما هو خير لكم فى الدارين من العقائد الحقية والاعمال الصالحة المندرجة فى القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة واحراز المسابقة الفضل { الى اللّه مرجعكم جميعا } اى مرجع من آمن ومن لم يؤمن جميعا حال من ضمير الخطاب { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } اى فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم تختلفون فيه فى الدنيا من امر الدين والشريعة وانما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع ازالة الاختلاف التى هى وظيفة الاخبار ٤٩ { وان احكم بينهم بما انزل اللّه ولا تتبع اهواءهم } عطف على الكتاب اى انزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه { واحذرهم } مخافة { ان يفتنوك عن بعض ما انزل اللّه اليك } اى يضلوك ويصرفوك عن بعضه ولو كان اقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق فالمراد بالفتنة ههنا الميل عن الحق والوقوع فى الباطل كما فى قوله عليه السلام ( اعوذ بك من فتنة المحيا ) اى العدول عن الطريق المستقيم وكل من صرف من الحق الى الباطل واميل عن القصد فقد فتن روى ان احبار اليهود قالوا اذهبوا بنا الى محمد فلعلنا نفتنه عن دينه فذهبوا اليه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فقالوا يا ابا القاسم قد عرفت انا احبار اليهود وانا ان اتبعناك اتبعك اليهود كلهم وان بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم اليك فاقض لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك فابى ذلك رسول اللّه فنزلت واستدل العلماء بهذه الآية على ان الخطأ والنسيان جائز على الرسل لانه تعالى قال { واحذرهم ان يفتنوك عن بعض ما انزل اللّه اليك } والتعمد فى مثل هذا غير جائز على الرسل فلم يبق الا الخطأ والنسيان { فان تولوا } اى اعرضوا عن الحكم بما انزل اللّه وارادوا غيره { فاعلم انما يريد اللّه } اى فاعلم ان اعراضهم من اجل ان اللّه يريد { ان يصيبهم ببعض ذنوبهم } اى يعجل لهم العقوبة فى الدنيا بان يسلطك عليهم ويعذبهم فى الدنيا بالقتل والجلاء والجزية ويجازيهم بالباقى فى الآخرة فالمراد ببعض ذنوبهم ذنب توليهم عن حكم اللّه تعالى وانما عبر عنه بذلك تنبيها على ان لهم ذنوبا كثيرة هذا مع عظمه واحد من جملتها { وان كثيرا من الناس لفاسقون } اى متمردون فى الكفر مصرون عليه خارجون عن الحدود المعهودة فلذا يتولون عن حكم اللّه ٥٠ { أفحكم الجاهلية يبغون } انكار وتعجب من حالهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام اى أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وهى الملة الجاهلية التى هى هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع الى وحى { ومن احسن من اللّه حكما } انكار لان يكون احد حكمه احسن من حكمه تعالى او مساو له وان كان ظاهر السبك غير متعرض لنفى المساواة وانكارها يرشدك اليه العرف المطرد والاستعمال الناشىء فانه اذا قيل من اكرم من فلان او الافضل من فلان فالمراد به حتما انه اكرم من كل كريم وافضل من كل فاضل وحكما نصب على التمييز من احسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن حكمه احسن من حكم اللّه { لقوم يوقنون } اى عندهم واللام للبيان فيتعلق بمحذوف كما فى سقيا لك فان سقيا دعاء للمخاطب بان يسقيه اللّه فيكون لك بيانا له اى هذا الاستفهام لقوم يوقنون فانهم الذين يتدبرون الامور بانظارهم فيعلمون يقينا ان حكم اللّه عز وجل احسن الاحكام واعدلها وليست اللام متعلقة بقوله { حكما } لان حكم اللّه لا يخص قوما دون قوم فقد دلت الآيات على ان الدين واحد من حيث الاصول مختلف من جهة الفروع وللّه ان يحكم فى كل عصر وزمان بما اراد ففيه حكم ومصالح فعلينا بالتسليم والانقياد وترك الاعتراض والمسارعة الى الخيرات قبل الموت والفوت وفى الحديث ( اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك ) لان الرجل يقدر على الاعمال فى حال شبابه ما لا يقدر عليه فى حال هرمه ولان الشاب اذا تعود فى المعصية لا يقدر على الامتناع منها فى هرمه ( وصحتك قبل سقمك ) لان الصحيح نافذ الامر فى ماله ونفسه لانه اذا مرض ضعف بدنه عن الطاعة وقصرت يده عن ماله الا فى مقدار ثلثه ( وفراغك قبل شغلك ) يعنى فى الليل تكون فارغا وبالنهار تكون مشغولا فينبغى ان تصلى بالليل فى حال فراغك وتصوم بالنهار فى وقت شغلك خصوصا فى ايام الشتاء لان الصوم فى الشتاء غنيمة المؤمن كما قال عليه السلام ( الشتاء غنيمة المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه ) وفى رواية اخرى ( الليل طويل فلا تقصره بمنامك والنهار مضيىء فلا تكدره بآثامك ) ( وغناك قبل فقرك ) يعنى اذا كنت راضيا بما اعطاك اللّه من القوت فاغتنم ذلك ولا تطمع فيما فى ايدى الناس ( وحياتك قبل مماتك ) لان الرجل ما دام حيا يقدر على العمل فاذا مات انقطع عمله ولهذا تتمنى الموتى ان يعودوا الى الدنيا فيتهللوا مرة او يصلوا ركعة فالفرصة غنيمة والعمر قليل : قال الحافظ بكذشتن فرصت اى برادر ... دركرم روى جوميغ باشد درياب كه عمربس عزيزست ... كر فوت شود دريغ باشد وقال السيد الشريف لابنه نصيحت همينست جان يدر ... كه عمرت عزيزست ضايع مكن فينبغى للعاقل ان لا يضيع ايامه : قال الحكيم : بكودكى بازى. بجوان مستى به بيرى سسنى. خداراكى برستى. فاذا تم شغلك بالشريعة فاجتهد فى الطريقة وهى باطن الشريعة واقتد باولى الالباب فانه كما ان لكل نبى شرعة ومنهاجا كذلك لكل ولى طريقة مسلوكة مخصوصة وقد ضل من ضل منارهم ٥١ { يا ايها الذين آمنوا } خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم وان كان سبب وروده بعضا منهم اذ روى ان عبادة بن الصامت رضى اللّه عنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وانى ابرأ الى اللّه ورسوله من ولايتهم واوالى اللّه ورسوله فقال عبد اللّه بن ابى انى رجل اخاف الدوائر لا ابرأ من ولاية موالىّ وهم يهود بنى قينقاع فقال تعالى { لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء } اى لا تتخذوا احدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الاحباب ومعاشرتهم لا بمعنى لا تجعلوهم اولياء لكم حقيقة فانه امر ممتنع فى نفسه لا يتعلق به النهى { بعضهم اولياء بعض } اى بعض كل فريق من ذينك الفريقين اولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر لانه لا موالاة بين فريقى اليهود والنصارى رأسا والكل متفقون على الكفر مجمعون على مضارتكم ومضاركم فيكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة { ومن يتولهم منكم } اى من يتخذهم اولياء { فانه منهم } اى هو على دينهم ومعهم فى النار وهذا اذا تولاهم لدينهم واما الصحبة لمعاملة شراء شىء منهم او طلب عمل منهم مع المخالفة فى الاعتقاد والامور الدينية فليس فيه هذا الوعيد قال المولى ابو السعود وفيه زجر شديد للمؤمنين عن اظهار صورة الموالاة لهم وان لم تكن موالاة فى الحقيقة { ان اللّه لا يهدى القوم الظالمين } تعليل لكون من يتولاهم منهم اى لا يرشد الذين ظلموا انفسهم بترك اخوانهم المؤمنين وبموالاة اعداء اللّه بل يخليهم وشأنهم فيقعون فى الكفر والضلالة اللّهم لا تكلنى الى نفسى طرفة عين ولا اقل من ذلك : قال الحافظ درره عشق ازان سوى فناصد خطرست ... تانكوى كه جوعمرم بسر آمدرستم ٥٢ { فترى } يا محمد او كل من له اهلية للخطاب رؤية بصرية { الذين فى قلوبهم مرض } اى مرض النفاق ورخاوة العقد فى الدين { يسارعون فيهم } حال من الموصول اى مسارعين فى موالاتهم ومعاونتهم وايثار فى على الى للدلالة على انهم مستقرون فى الموالاة وانما مسارعتهم من بعض مراتبها الى بعض آخر منها والمراد بهم عبد اللّه بن ابى واضرابه الذين كانوا يسارعون فى موادة اليهود والنصارى نجران وكانوا يعتذرون الى المؤمنين بانهم لا يؤمنون ان تصيبهم صروف الزمان كما قال تعالى { يقولون } معتذرين { نخشى ان تصيبنا دائرة } وهو حال من ضمير يسارعون والدائرة من الصفات الغالبة التى لا يذكر معها موصوفها اى يدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دوله بان ينقلب الامر وتكون الدولة للكفار وقيل نخشى ان يصيبنا مكروه من مكاره الدهر كالجدب والقحط فلا يعطونا الميرة والقرض ولعلهم كانوا يظهرون للمؤمنين انهم يريدون بالدوائر المعنى الاخير ويضمرون فى انفسهم المعنى الاول { فعسى اللّه ان يأتى بالفتح } رد من جهة اللّه تعالى لعللّهم الباطلة وقطع لاطماعهم الفارغة وتبشير للمؤمنين بالظفر فان عسى منه سبحانه وعد محتوم لما ان الكريم اذا اطمع اطعم لا محالة فما ظنك باكرم الاكرمين. والمراد بالفتح فتح مكة او فتح قرى اليهود من خيبر وفدك او هو القضاء الفصل بنصره عليه السلام على من خالفه واعزاز الدين قال الحدادى وسمى النصر فتحا لان فيه فتح الامر المغلق { او امر من عنده } بقطع شأفة اليهود من القتل والاجلاء. والشأفة قرحة تخرج فى اسفل القدم فتكوى وتذهب يقال فى المثل استأصل اللّه شأفته اى اذهبه اللّه كما ذهب تلك القرحة بالكى { فيصبحوا } اى اولئك المنافقون المتعللون بما ذكر { على ما اسروا فى انفسهم نادمين } وهو ما كانوا يكتمون فى انفسهم من الكفر والشك فى امره صلى اللّه عليه وسلم ٥٣ { ويقول الذين آمنوا } عند ظهور ندامة المنافقين وهو كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة اى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين الى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة فى السراء والضراء عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم وانعكاس تقريرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبون ويتعللون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم { أهؤلاء الذين اقسموا باللّه جهد ايمانهم انهم لمعكم } اى بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حكى عنهم { ولئن قوتلتم لننصرنكم } فاسم الاشارة مبتدأ وما بعده خبره والمعنى انكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم فى ذلك والخطاب فى معكم لليهود من جهة المؤمنين. وجهد الايمان اغلظها وهو فى الاصل مصدر ونصبه على تقدير واقسموا باللّه يجهدون جهد ايمانهم فحذف الفعل واقيم المصدر مقامه ولا يبالى بتعريفه لفظا لانه مأول بنكرة اى مجتهدين فى ايمانهم او على المصدر اى اقسموا اقسام اجتهاد فى اليمين { حبطت اعمالهم فاصبحوا خاسرين } جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والاقسام على المعية فى المنشط والمكره اثر الاشارة الى بطلانه بالاستفهام الانكارى اى بطلت اعمالهم التى عملوها فى شأن الموالاة وسعوا فى ذلك سعيا بليغا حيث لم يكن لليهود دولة فغبنوا بما صنعوا من المساعى وتحملوا من مكاره المشاق : قال الحافظ اسم اعظم بكندكار خود اى دل خوش باش ... كه بتلبيس وحيل ديو سليمان نشود واعلم ان للحق دولة وللباطل صولة والباطل يفوز ثم يغور. فعلى المؤمن ان لا يميل الى جانب الباطل واهله اصلا كائنا من كان روى عن ابى موسى الاشعرى انه قال قلت لعمر بن الخطاب ان لى كاتبا نصرانيا فقال مالك قاتلك اللّه ألا اتخذت حنيفا اما سمعت قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء } قلت له دينه ولى كتابه قال لا تكرموهم اذ اهانهم اللّه ولا تأتمنوهم اذ خونهم اللّه ولا تدنوهم اذ اقصاهم اللّه وروى انه قال لا قوام للبصرة الا به فقال مات النصرانى والسلام يعنى هب انه مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره قال الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر شاهدت دمشق ان الرجال والنساء كانوا يوالون النصارى ويسامحون فى المعاملة ويذهبون باطفالهم وصغارهم الى الكنائس ويرشون عليهم بطريق التبرك من ماء المعمودية وهذا كفر والعياذ باللّه والمعمودية ماء للنصارى اصفر كانوا يغمسون فيه اولادهم ويعتقدون انه تطهير للمولود كالختان لغيرهم وقس عليه تعظيم نوروز النصارى واهداء شىء فى ذلك اليوم اليهم والمشاركة معهم ويلزم الحسبة فى بعض الامور قطعا لعرق الموالاة وفى ملتقطة الناصرى ولا ادع المشرك يضرب البربط قال محمد كل شىء امنع من المسلم فانى امنع من المشرك الا الخمر والخنزير ولكن يمنع اهل الكفر من ادخال الخمور والخنازير فى الاسواق على سبيل الشهرة لان فيها استخفافا للمسلمين وما صالحناهم ليستخفوا بالمؤمنين وان حضر لهم عيد لا يخرجون فيه صليبهم ويمنعون من اظهار بيع المزامير والطنبور واظهار الغناء وغير ذلك مما منع منه المسلم ويمنعون من احداث الكنيسة قال عليه الصلاة والسلام ( لا خصاء فى الاسلام ولا كنيسة ) والمراء بالخصاء خصاء بنى آدم فيجوز خصاء البهائم وبه نقول فكما يجوز ذبح الحيوان لحاجة الناس الى لحمه فكذلك يجوز خصاء الحيوان اذا كان فى ذلك منفعة للناس فان قلت لم لا يجوز خصاء بنى آدم وفيه منفعة ايضا قيل لا منفعة فيه لانه لا يجوز للخصى ان ينظر الى النساء كما لا يجوز للفحل كذا فى بستان العارفين ثم اعلم ان النفس والشيطان والقوى الشريرة فى وجود الانسان كاليهود والنصارى فكما انه يلزم مجانبتهم وعدم موالاتهم لان اللّه تعالى عاداهم وامر بمعاداتهم فكذلك ما ذكر من النفس وغيرها لا يجوز موالاتها والحمل على هواها لانها تسوق الى النار نار جهنم ونار القطيعة فالمؤمن مأمور بالمعاداة لمن عادى اللّه تعالى مطلقا والا لم يصح ايمانه : وفى المثنوى آنجه در فرعون بود اندر توهست ... ليك ازدرهات محبوس جهست جه خرابت ميكند نفس لعين ... دور مى اندازدت سخت اين قرين آتشت را هيزم فرعون نيست ... زانكه جون فرعون اوراعون نيست يعنى ان فرعون ساعده اسباب الدعوى والهوى ولذلك قال ما قال وفعل ما فعل واما انت فليس لك الاسباب مساعدة ولا تجد عونا فى هواك ولذا لا تظهر صورة ما اظهره ٥٤ { يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } هذا من الكائنات التى اخبر عنها القرآن قبل وقوعها روى انه ارتد عن الاسلام احدى عشرة فرقة ثلاث فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنوا مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو اسود العنسى كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده حتى اخرج عمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل معاذ بن جبل وسادات اليمن فكتب عليه السلام الى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وامرهم ان يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض الى حرب الاسود فقتله فيروز الديلمى على فراشه قال ابن عمر فأتى الخبر النبى عليه السلام من السماء الليلة التى قتل فيها فقال عليه الصلاة والسلام ( قتل الاسود البارحة قتله رجل مبارك ) قيل ومن هو قال ( فيروز ) فبشر عليه السلام اصحابه بهلاك الاسود وقبض عليه السلام من الغد واتى خبر مقتل العنسى المدينة فى آخر شهر ربيع الاول وكان ذلك اول فتح جاء ابا بكر رضى اللّه عنه والفرقة الثانية من المرتدين بنوا حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبأ فى حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى آخر سنة عشر من الهجرة زعم انه اشرك مع رسول اللّه فى النبوة وكتب الى النبى عليه السلام من مسلمة رسول اللّه الى محمد رسول اللّه اما بعد فان الارض نصفها لى ونصفها لك وبعث بذلك الكتاب رجلين من اصحابه فقال لهما رسول اللّه عليه السلام ( لولا ان الرسل لا تقتل لضربت اعناقكما ) ثم اجاب ( من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب اما بعد فان الارض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) فمرض عليه السلام وتوفى فبعث ابو بكر خالد بن الوليد الى مسيلمة الكذاب فى جيش كثير حتى اهلكه اللّه على يدى وحشى غلام مطعم بن عدى قاتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشى يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية وشر الناس فى السلام يريد فى جاهليتى واسلامى. والفرقة الثالثة بنوا اسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتد وادعى النبوة فى حياة رسول اللّه عليه السلام واول من قوتل بعد وفاته عليه السلام من اهل الردة فبعث ابو بكر خالد بن الوليد فهزمهم خالد بعد قتال شديد وافلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام ثم انه اسلم بعد ذلك وحسن اسلامه ثم ان اللّه تعالى لما قبض نبيه عليه السلام ارتد عامة العرب الا اهل مكة واهل المدينة واهل البحرين من عبد القيس فقال المرتدون اما الصلاة فنصلى واما الزكاة فلا نغصب اموالنا فكلم ابو بكر فى ذلك فقال واللّه لا افرق بين ما جمع اللّه تعالى بقوله { اقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } واللّه لو منعونى عتودا مما ادوا الى رسول اللّه لقاتلتهم عليه فبعث اللّه عز وجل عصائب مع ابى بكر رضى اللّه عنه فقاتل على ما قاتل عليه نبى اللّه حتى اقروا بالزكاة المفروضة قال انس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكاة قالوا هم اهل القبلة فتقلد ابو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على اثره وقال ابن مسعود رضى اللّه عنه كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه فى الانتهاء وقيل ما ولد بعد النبيين مولود افضل من ابى بكر لقد قام مقام نبى فى قتال اهل الردة : قال الشيخ العطار فى نعت ابى بكر رضى اللّه عنه هرجه بود از باركاه كبريا ... ريخت در صدر شريف مصطفا آن همه درسينه صديق ريخت ... لاجرم تابود ازوتحقيق ريخت وقال الحسن لولا ما فعل ابو بكر لالحد الناس فى الزكاة الى يوم القيامة قال فى الاشباه المعتمد فى المذهب عدم الاخذ كرها قال فى المحيط ومن امتنع عن اداء الزكاة فالساعى لا يأخذ منه كرها ولو أخذ لا يقع المأخوذ عن الزكاة لكونها بلا اختيار ولكن يجبره بالحبس ليؤدى بنفسه { فسوف يأتى اللّه } مكانهم بعد اهلاكهم { بقوم يحبهم } اى يريد بهم خير الدنيا والآخرة { ويحبونه } اى يريدون اطاعته ويتحرزون عن معاصيه قيل هم اهل اليمن قال عليه السلام ( الايمان يمان والحكمة يمانية ) وانما نسب الايمان اليهم اشعارا بكماله فيهم لان من اتصف بشىء وقوى قيامه به نسب ذلك الشىء اليه لا ان يكون فى ذلك نفى له عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام ( الايمان فى اهل الحجاز ) ثم ان المراد بذلك الموجودون منهم فى ذلك الزمان لا كل اهل اليمن فى كل الاحيان كذا فى شرح المشارق لابن الملك وقيل هم الانصار رضى اللّه عنهم وقيل هم اهل فارس وفى الحديث ( لو كان الايمان معلقا بالثريا لناله ابناء فارس ) وفيه فضيلة لهذه القبيلة { اذلة على المؤمنين } جمع ذليل اى ارقاء ورحماء متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى لتضمين معنى العطف والحنو { اعزة على الكافرين } اى اشداء متغلبين عليهم من عزه اذا غلبه { يجاهدون فى سبيل اللّه } صفة اخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مع ما بعدها لكيفية عزتهم { ولا يخافون لومة لائم } عطف على يجاهدون بمعنى انهم جامعون بين المجاهدة فى سبيل اللّه وبين التصلب فى الدين. وفيه تعريض بالمنافقين فانهم اذا خرجوا فى جيش المسلمين خافوا اولياءهم اليهود فلا يكادون يعملون شيأ يلحقهم فيه لوم من جهتهم واللومة المرة من اللوم وفيها وفى تنكير لائم مبالغتان كأنه قيل لا يخافون من شىء من اللومات الواقعة من اى لائم كان فالمبالغة الاولى انتفاء الخوف من جميع اللومات والثانية انتفاء الخوف من جميع اللوام كل ذلك لان النكرة فى سياق النفى تعم { ذلك } اشارة الى ما تقدم من الاوصاف الجليلة التى وصف بها القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة فى سبيل اللّه وانتفاء خوف اللوم من كل واحد { فضل اللّه } اى لطفه واحسانه لا انهم مستقلون فى الاتصاف بها { يؤتيه من يشاء } ايتاءه اياه ويوفقه لكسبه وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة { واللّه واسع } كثر الفواضل والالطاف { عليم } مبالغ فى العلم بجميع الاشياء التى من جملتها من هو اهل للفضل والتوفيق : قال الحافظ سكندررا نمى بخشند آبى ... بزور وزر ميسر نيست اين كار واعلم ان من السالكين من يقطع العقبات ويحرق الحجب فى سبعين سنة ومنهم من يقطعها فى عشرين سنة ومنهم من يحصل له فى سنة ومنهم من يقطعها فى شهر بل فى جمعة بل فى ساعة حتى ان منهم من تحصل له فى لحظة بتوفيق خاص وعناية سابقة أما تذكر سحرة فرعون ما كان مدتهم الا لحظة حيث رأوا معجزة موسى قالوا آمنا برب العالمين فابصروا الطريق وقطعوه حقه فصاروا من ساعة الى ساعة بل اقل من العارفين باللّه وحكى ان ابراهيم بن ادهم كان على ما كان عليه من امر الدنيا فعدل عن ذلك وقصد الطريق الحق فلم يكن الا مقدار سيره من بلخ الى مرو والروذ حتى صار بحيث اشار الى رجل سقط من القنطرة فى الماء الكثير هنالك ان قف فوقف الرجل مكانه فى الهواء فتخلص وان رابعة البصرية كانت امة كبيرة يطاف بها فى سوق البصرة لا يرغب فيها احد لكبر سنها فرحمها بعض التجار فاشتراها بنحو مائة درهم فاعتقها فاختارت الطريق الحق فاقبلت على العبادة فما تمت لها سنة حتى زارها قراء البصرة وعلماؤها لعظم منزلتها. واما الذى لم تسبق له العناية ولا توجهت له ولم يعامل بالفضل فيوكل الى نفسه فربما يبقى فى شعب من عقبة واحدة من العقبات سبعين سنة ولا يقطعها وكم يصيح وكم يصرخ ما اظلم هذا الطريق واشكله واعسر هذا الامر واعضله فان قلت لم اختص هذا بالتوفيق الخاص وحرم هذا وكلاهما مشتر كان فى ربقة العبودية فعند هذا السؤال تنادى من سرادق الجلال ان الزم الادم واعرف سر الربوبية وحقيقة العبودية فانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ذلك تقدير العزيز العليم وان الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم رضابداده بده وزجبين كره بكشاى ... كه برمن وتودراختيار نكشادست اللّهم اجعلنا ممن سبقت له العناية وتقدم فى حقه التوفيق الخاص والهداية آمين يا رب العالمين ٥٥ { انما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا } اى لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء لان بعضهم اولياء بعض وليسوا باوليائكم انما اولياؤكم اللّه ورسوله والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تخطئوهم الى الغير قال فى التأويلات النجمية فموالاة اللّه فى معاداة ما سوى اللّه كما قال الخليل عليه السلام { فانهم عدو لى الا رب العالمين } وموالاة الرسول فى معاداة النفس ومخالفة الهوى كما قال عليه السلام ( لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وقال ( لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من نفسه وماله وولده والناس اجمعين ) وموالاة المؤمنين فى مؤاخاتهم فى الدين كقوله تعالى { انما المؤمنون اخوة } وقال عليه السلام ( لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه ) { الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة } بدل من الذين آمنوا { وهم راكعون } حال من فاعل الفعلين اى يعملون ما ذكر من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون للّه تعالى والمقصود تمييز المؤمن المخلص ممن يدعى الايمان ويكون منافقا لأن الاخلاص انما يعرف بكونه مواظبا على الصلاة والزكاة فى حال الركوع اى فى حال الخشوع والاخبات للّه تعالى ٥٦ { ومن يتول اللّه ورسوله والذين آمنوا } اى ومن يتخذهم اولياء { فان حزب اللّه هم الغالبون } اى فانهم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه وكأنه قيل ومن يتول هؤلاء فهم حزب اللّه وحزب اللّه هم الغالبون وتشريفا لهم باضافتهم اليه تعالى وتعريضا بمن يوالى غير هؤلاء بانه حزب الشيطان وحزب الرجل اصحابه والحزب الطائفة يجتمعون لأمر حزبهم اى اصابهم. واعلم ان الغلبة على اعداء اللّه الظاهرة والباطنة كالهوى والنفس والشيطان انما تحصل بنصرة اللّه تعالى كما قال تعالى { ان تنصروا اللّه ينصركم } وليست النصرة والغلبة الا بتأثير اللّه تعالى وهو المعز وكل العزة منه تعالى وروى ان اللّه تعالى شكا من هذه الامة ليلة المعراج شكايات. الاولى انى لم اكلفهم عمل الغد وهم يطلبون منى رزق الغد. والثانية انى لا ارفع ارزاقهم الى غيرهم وهم يرفعون عملهم الى غيرى. والثالثة انهم يأكلون رزقى ويشكرون غيرى ويخونون معى ويصالحون خلقى. والرابعة ان العزة لى وانا المعز وهم يطلبون العزة من سواى. والخامسة انى خلقت النار لكل كافر وهم يجتهدون ان يوقعوا انفسهم فيها فمن اتبع هوى النفس ولم يهتم لتزكيتها فقد سعى فى الحاق نفسه بزمرة الاعداء فلم يكن منصورا البتة اذ لا يحصل من الجسارة الا الخسارة والهوى مقتضى النفس والنفس ظلمانية ولا يتولد من الظلمانى الا الظلمة : قال فى المثنوى عكس نورانى همه روشن بود ... عكس ظلمانى همه كلخن بود عكس هركس رابدان اىدوربين ... بهلوى جنسى كه خواهى مى نشين فعلى المؤمن ان يجتهد بالصوم والصلاة ووجوه العبادات الى ان يزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ويغلب الاعداء الباطنة والغلبة عليها مفتاح الغلبة على الاعداء الظاهرة ولذا ترى الانبياء والاولياء منصورين مظفرين على كل حال وهذه النصرة والولاية من آثار عناية اللّه السابقة فكما ان من رش عليه من نور الازل لم ير ظلمة ابدا كذلك من لم يهتد ذلك النور فى بداية الامر لم يصل الى المراد الى آخر العمر : قال الحافظ بآب زمزم وكوثر سفيد نتوان كرد ... كليم بخت كسىرا كه بافتند سياه ٥٧ { يا ايها الذين آمنوا } روى ان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث اظهرا الاسلام ثم نافقا وكان رجال من المؤمنين يوادونهما فنهاهم اللّه تعالى عن الموالاة وقال { لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } قوله الذين اتخذوا مفعول اول لقوله لا تتخذوا ومفعوله الثانى قوله اولياء ودينكم مفعول اول لقوله اتخذوا وهزوا مفعوله الثانى. والهزؤ السخرية والاستهزاء واللعب بالفارسية [ بازى ] ومعنى اتخاذهم دين المسلمين مهزوا به وتلاعبهم به اظهارهم ذلك باللسان مع الاصرار على الكفر فى القلب وقد رتب النهى عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا ولعبا ايماء الى العلة وتنبيها على ان من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة { من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } بيان للمستهزئين ومن قبلكم متعلق باوتوا { والكفار } بالنصب عطف على الموصول الاول والمراد المشركون خصوا به لتضاعف كفرهم فالنهى عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى وحرفه عن الصواب كاهل الكتاب ومن لم يكن كالمشركين { اولياء } وجانبوهم كل المجانبة { واتقوا اللّه } فى ذلك بترك موالاتهم { ان كنتم مؤمنين } اى حقا لان الايمان يقتضى الاتقاء ٥٨ { واذا ناديتم الى الصلوة اتخذوها } اى الصلاة والمناداة { هزوا ولعبا } كان المؤذنون اذا اذنوا للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم وتغامزوا سفها واستهزاء بالصلاة وتجهيلا لاهلها وتنفيرا للناس عنها وعن الداعى اليها { ذلك } اى الاستهزاء المذكور المستقر { بانهم قوم لا يعقلون } اى بسبب عدم عقلهم فان السفه يؤدى الى الجهل بمحاسن الحق والهزء به ولو كان لهم عقل فى الجملة لما اجترأوا على تلك العظيمة : وفى المثنوى كشتى بى لنكر آمد مردشر ... كه زباد كز نيابد اوحذر لنكر عقلست عافل را امان ... لنكرى دريوزه كن ازعاقلان قال العلماء ثبوت الاذان ليس بالمنام وحده بل هو ثابت بنص هذه الآية فان المعنى اذا دعوتم الناس الى الصلاة بالاذان والنداء الدعاء بارفع الصوت. وفى الاذان حكم منها اظهار شعائر الاسلام وكلمة التوحيد والاعلام بدخول وقت الصلاة وبمكانها والدعاء الى الجماعة الى غير ذلك ولو وجد مؤذن حسن الصوت يطلب على اذانه الاجر والرزق وآخر يتبرع بالاذان لكن غير حسن الصوت فايهما يؤخذ ففيه وجهان اصحهما انه يرزق حسن الصوت فان لحسن الصوت تأثيرا كما ان لقبحه تغييرا وتنفيرا : وفى المثنوى يك مؤذن داشت بس اوآزبد ... درميان كافرستان بانك زد جند كفتندش مكو بانك نمار ... كه شود جنك وعداوتها دراز اوستيزه كرد وبس بى احتراز ... كفت در كافر ستان بانك نماز خلق خائف شد زفتنه عامه ... خود بيامد كافرى باجامه شمع وحلوا باجنان جامه لطيف ... هديه آورد وبيامد جون أليف برس برسان كين مؤذن كوكجاست ... كه صلا وبانك او راحت فزاست دخترى دارم لطيف وبس سنى ... آرزو مى بود اورا مؤمنى هيج اين سودانمى رفت ازسرش ... بندها مىداد جندين كافرش هيج جاره مى ندانستم دران ... تافر وخواند اين مؤذن آن اذان كفت دخترجيست اين مكروه بانك ... كه بكوشم آمداين دوجار دانك من همه عمراين جنين آواز زشت ... هيج نشنيدم درين ديرو كنشت خواهرش كفتا كه اين بانك اذان ... هست اعلام درشعار مؤمنان باورش نامد بيرسيد ازدكر ... آن ديكرهم كفت آرى اىبدر جون يقين كشتش رخ اوزردشد ... از مسلمانى دل او سرد شد بازرستم من زتشويش وعذاب ... دوش خوش خفتم دران بى خوف خواب راحتم اين بود از آواز او ... هديه آوردم بشكر آن مردكو جون بديدش كفت اين هديه بذير ... كه مرا كشتى مجيرو دستكيز كربمال ملك وثروت فردمى ... من دهانت را براززر كردمى ورد فى التأذين فضائل وفى الحديث ( اول الناس دخولا الجنة الانبياء ثم الشهداء ثم بلال ) مع مؤذنى الكعبة ثم مؤذنوا بيت المقدس ثم مؤذنوا مسجد النبى صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم سائر المؤذنين على قدر أعمالهم وفى الحديث ( ثلاثة لا يكترثون من الحساب ولا تفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الاكبر حامل القرآن العامل بما فيه يقدم على اللّه سيدا شريفا ومؤذن اذن سبع سنين لا يأخذ على اذانه طعما وعبد مملوك احسن عبادة ربه وادى حق مولاه ) واذا اجتمع الاذان والامامة فى شخص فالامامة افضل لمواظبة النبى عليه السلام عليها وانما أم ولم يؤذن لانه عليه السلام لو اذن لكان كل من تخلف عن الاجابة كافرا ولانه لو كان داعيا لم يجز ان يشهد لنفسه ولانه لو اذن وقال اشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه لتوهم ان ثمة نبيا غيره ولأن الاذان رآه غيره فى المنام فولاه الى غيره وايضا انه عليه السلام كان اذا عمل عملا اثبته اى جعله ديمة وكان لا يتفرغ لذلك لاشتغاله بتبليغ الرسالة وهذا كما قال سيدنا عمر رضى اللّه عنه لولا الخليفى لاذنت وكره اللحن فى الاذان لما روى ان رجلا جاء الى ابن عمر رضى اللّه عنهما فقال انى احبك فقال انى ابغضك فى اللّه فقال لم فقال لانه بلغنى انك تغنى فى اذانك يعنى تلحن وذلك مثل ان يقول اللّه بمد الالف الاولى لانه استفهام وشك وان يقول اكبار بمد الباء لانه اسم الشيطان وغير ذلك الى آخر كلمات الاذان واجابة المؤذن واجبة على كل من سمعه وان كان جنبا او حائضا اذ لم يكن فى الخلاء او فى الجماع وذكر تاج الشريعة ان اجابة المؤذن سنة وقال النووى مستحبة فيقول بمثل ما يقول المؤذن وضعف تقبيل ظفرى ابهاميه مع مسبحتيه والمسح على عينيه عند قوله محمد رسول اللّه لانه لم يثبت فى الحديث المرفوع لكن المحدثين اتفقوا على ان الحديث الضعيف يجوز العمل به فى الترغيب والترهيب فقط ويقول عند حى على الصلاة ( لا حول ولا قوة الا باللّه العلى العظيم ) وعند حى على الفلاح ( ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن ) وعند قوله الصلاة خير من النوم ( صدقت وبالخير نطقت ) وفى قوله قد قامت الصلاة ( اقامها اللّه وادامها ) وحين ينتهى الى قوله قد قامت الصلاة يجيب بالفعل دون القول وروى عن ميمونة رضى اللّه عنها ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام بين صف الرجال والنساء فقال ( يا معشر النساء اذا سمعتن اذا هذا الحبشى واقامته فقلن كما يقول فان لكن بكل حرف الف درجة ) قال عمر رضى اللّه عنه هذا فى النساء فما للرجال قال ( ضعفان يا عمر ) قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى حبذا الكلام ونعم النداء الاذان فعند قوله اللّه أكبر اللّه اكبر ( لو انكشف وتجلى عظمة اللّه تعالى وكبرياؤه ) وعند قوله اشهد ان لا اله الا اللّه ( لو انكشف وحدانيته ) وعند اشهد ان محمدا رسول اللّه ( لو انكشف حقانيته ) وعند الحيعلتين ( لو ظهر الطلب من الطالب الى المطلوب ) وعند اللّه اكبر اللّه اكبر لا اله الا اللّه ( لو تجلى الذات لتم المقصود وحصل المراد ) انتهى ومن فضائل الاذان انه لو اذن خلف المسافر فانه يكون فى امان الى ان يرجع. وان اذن فى اذن الصبى واقيم فى اذنه الاخرى اذا ولد فانه امان من ام الصبيان واذا وقع هذا المرض ايضا وكذا اذا وقع حريق او هجم سيل او برد او خاف من شىء كما فى الاسرار المحمدية والاذان اشارة الى الدعوة الى اللّه حقيقة والداعى هو الوارث المحمدى يدعو اهل الغفلة والحجاب الى مقام القرب ومحل الخطاب فمن كان اصم عن استماع الحق استهزأ بالداعى ودعوته لكمال جهالته وضلالته ومن كان ممن القى السمع وهو شهيد يقبل الى دعوة اللّه العزيز الحميد وينجذب الى حضرة العزة ويدرك لذات شهود الجمال ويغتنم مغانم اسرار الوصال جوانا سرمتات ازبند بيران ... كه رأى بيرت ازبخت جوان به ٥٩ { قل يا اهل الكتاب } روى ان نفرا من اليهود سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن دينه فقال عليه السلام ( اؤمن باللّه وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون ) فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم اهل دين اقل حظا فى الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فانزل اللّه هذه الآية اى قل لهؤلاء اليهود الفجرة { هل تنقمون منا } من نقم منه كذا اذا عابه وانكره وكرهه اى ما تعيبون وما تنكرون منا ديننا لعلة من العلل { الا ان آمنا باللّه } اى الا لان آمنا باللّه فهو مفعول له لتنقمون على حذف المفعول به الذى هو الدين { وما انزل الينا } من القرآن المجيد { وما انزل من قبل } انزاله من التوراة والانجيل وسائر الكتب الالهية { وان اكثركم فاسقون } عطف على ان آمنا اى ولان اكثركم متمردون خارجون عن الايمان بما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به واسناد الفسق الى اكثرهم مع ان كلهم فاسقون لانهم الحاملون لاعقابهم على التمرد والفساد وقيل هو عطف على ان آمنا على انه مفعول به لكن لا على ان المستثنى مجموع المعطوفين بل هو ما يلزمهما من المخالفة كأنه قيل ما تكرهون من جهتنا الا الايمان باللّه وبجميع كتبه المنزلة والا مخالفتكم حيث دخلنا الايمان وانتم خارجون منه ٦٠ { قل هل انبئكم } الخطاب لليهود { بشر من ذلك } الاشارة الى المنقوم وهو الايمان والمنقوم منهم المؤمنون اى هل اخبركم بما هو شر فى الحقيقة لا ما تعتقدونه شرا وان كان فى نفسه خيرا محضا قال ابن الشيخ ومن المعلوم قطعا انه لا شر فى دين الاسلام فالمراد الزيادة المطلقة { مثوبة عند اللّه } اى جزاء ثابتا فى حكمه تعالى والمثوبة مختصة بالخبر كالعقوبة مختصة بالشر فوضعت ههنا موضعها على طريق التهكم ونصبها على التمييز من بشر { من لعنه اللّه وغضب عليه } خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله مناسب لما اشير اليه بكلمة ذلك اى هو دين من لعنه اللّه وهو اليهود وابعدهم اللّه من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم فى المعاصى بعد وضوح الآيات { وجعل منهم القردة والخنازير } اى مسخ بعضهم قردة فى زمن داود عليه السلام بدعائه عليهم حين اعتدوا فى السبت واستحلوه ومسخ بعضهم خنازير فى زمن عيسى عليه السلام بعد اكلهم من المائدة وحين كفروا بعد ما رأوا الآيات البينة وقيل كلا المسخين فى اصحاب السبت مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود يا اخوة القردة والخنازير فنكسوا رؤسهم وافتضحوا { وعبد الطاغوت } عطف على صلة من وضميره المستكن يعود الى من اى اطاع الشيطان فيما سول له { اولئك } الموصوفون بتلك القبائح والفضائح { شر مكانا } جعل مكانهم شرا ليكون ابلغ فى الدلالة على شرارتهم { واضل عن سواء السبيل } عطف على شر مقرر له اى اكثر ضلالا عن الطريق المستقيم. وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لان ما يسلكونه من الطريق دينهم فاذا كانوا اضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه وصيغة التفضيل فى الموضعين للزيادة مطلقة لا بالاضافة الى من يشاركهم فى اصل الشرارة والضلال وعلم ان كل صنف من الناس يفرح بما لديه ويبغض الآخر بما هو عليه ولكن الحق احق ان يتبع فالمؤمن يحب المؤمن فان المحبة من الاخلاق الحسنة والاوصاف الشريفة وفى الحديث ( ان من عباد اللّه عبادا ما هم بانبياء وشهداء يغبطهم الانبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من اللّه تعالى ) قالوا يا رسول اللّه اخبرنا من هم وما اعمالهم فلعلنا نحبهم قال ( هم قوم تحابوا فى اللّه على غير ارحام منهم ولا اموال يتعاطون فواللّه ان وجوههم انوار وانهم يعلون منابر من نور لا يخافون اذا خاف الناس ولا يحزنون اذا حزن الناس ) وسئل عبد اللّه السالمى بأى شىء يعرف اولياء اللّه من بين عباده فقال بلطافة اللسان وحسن الخلق وبشاشة الوجه وسخاوة النفس وقلة الاعتراض وقبول الاعتذار وكمال الشفقة على عامة الخلق : قال الحافظ تاج شاهى طلبى كوهر ذاتى بنماى ... ورخوداز كوهر جمشيدوفريدون باشى قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى لا تزال البغضاء بين البيراميين وبين الخلوتية وكذا بينهم وبين اتباع السيد البخارى مع ان البغضاء لا تليق باهل الحق ألا يرى انا لم نسمع من دور آدم الى خاتم النبيين عليهم السلام نوع بعض بين نبيين اصلا مع انه قد يتفق فى بعض الاوقات ان يجتمع ثلاثة واربعة من الانبياء وكذا اتباعهم لا يطعنون فى واحد منهم : قال السعدى دلم خانه مهر يارست وبس ... ازان مى نكنجد دروكين كس قال بعضهم القلوب ثلاثة. قلب يطير فى الدنيا حول الشهوات. وقلب يطير فى العقبى حول الكرامات. وقلب يطير فى سدرة المنتهى حول المناجاة : قال الحافظ غلام همت رندان بى سروبايم ... كه هردوكون نيرزدبه بيش شان يك كاه فعلى العاقل ان يشتغل بالتوحيد كى يتخلص من ظلمات النفس وهواها والشيطان ووساوسه نظر عمر بن الخطاب الى شاب فقال يا شاب ان وقيت شر ثلاثة فقد وقيت شر الشيطان ان وقيت لقلقك وقبقبك وذبذبك. قال الاصمعى اللقلق اللسان والقبقب البطن والذبذب الفرج ٦١ { واذا جاؤكم قالوا آمنا } نزلت فى ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يظهرون له الايمان نفاقا فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والجمع للتعظيم اوله مع من عنده من المسلمين اى اذا جاؤكم اظهروا الاسلام { وقد } اى والحال انهم قد { دخلوا } ملتبسين { بالكفر وهم قد خرجوا } من عندك ملتبسين { به } اى بالكفر كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك { واللّه اعلم بما كانوا يكتمون } من الكفر وصيغة التفضيل لان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يظن نفاقهم من اماراته اللائحة عليهم ويتوقع انه يظهره اللّه : وفى المثنوى نيست بازى بامميز خاصه او ... كه بود تمييز عقلش غيب كو هيج سحروهيج تلبيس ودغل ... مى نبندد برده براهل دول ٦٢ { وترى } يا محمد رؤية بصرية { كثيرا منهم } اى من اليهود والمنافقين حال كونهم { يسارعون فى الاثم } اى الكذب على الاطلاق وايثار كلمة فى على كلمة الى للدلالة على انهم مستقرون فى الاثم وانما مسارعتهم من بعض مراتبه الى بعض آخر منها كقوله تعالى { اولئك يسارعون فى الخيرات } لا انهم خارجون منه متوجهون اليه كما فى قوله تعالى { وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة } { والعدوان } اى الظلم المتعدى الى الغير { واكلهم السحت } اى الحرام { لبئس ما كانوا يعملون } اى لبئس شيأ كانوا يعملونه والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار ٦٣ { لولا } حرف تحضيض { ينهاهم الربانيون والاحبار } المراد بهم العلماء الا ان الربانى الزاهد العارف الواصل والحبر العالم العامل المقبول { عن قولهم الاثم } وهو قولهم آمنا وليسوا بمؤمنين { واكلهم السحت } مع علمهم بقبحها ومشاهدتهم لبماشرتهم لها { لبئس ما كانوا يصنعون } هو ابلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون لان الصنع اقوى من العمل فان العمل انما يسمى صناعة اذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم من عمل الاثم والعدوان واكل السحت ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهى عن المنكر ذنبا راسخا وفى الآية مما ينعى على العلماء من توانيهم فى النهى عن المنكرات ما لا يخفى : قال الشيخ السعدى كرت نهى منكر برآيد زدست ... نشايد جوبى دست وبايان نشست جو دست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمانيد مردى رجال قال عمر بن عبد العزيز ان اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة ولكن اذا اظهروا المعاصى فلم ينكروا استحق القوم جميعا للعقوبة ولولا حقيقة هذا المعنى فى التوبيخ على المشايخ والعلماء فى ترك النصيحة لما اشتغل المحققون بدعوة الخلق وتربيتهم لاستغراقهم فى مشاهدة الحق ومؤانستهم به قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره السالك اذا وصل الى الحقيقة اما ان يرسل للارشاد او يبقى فى حضور الوصلة ولا يريد الفرقة كالشيخ ابى يزيد البسطامى فانه لا يختر الارشاد ولكن الارشاد طريقة الانبياء عليهم السلام فانه ما من نبى الا وهو قد بعث وارسل لارشاد الخلق ولم يبق فى عالم الحضور : قال فى المثنوى خطابا من قبل اللّه تعالى الى حضرة النبى عليه السلام هين بمكذار اى شفا رنجوررا ... تو زخشم كور عصاى كوررا نى توكفتى قائد اعمى براه ... صد ثواب واجر يابد ازاله هركه اوجل كام كورى راكشد ... كشت آمر زيده ويابد رشد بس بكش توزين جهان بى قرار ... جوق كورانرا قطار اندر قطار كار هادى اين بود توهادىء ... ماتم آخر زمانرا شادىء هين روان كن اى امام المتقين ... اين خيال انديشكانرا تايقين خيز دردم توبصور سهمناك ... تاهزاران مرده بررويد زخاك واهل الحقيقة والعلماء العاملون المتجردون عن الغرض سوى اعلاء كلمة اللّه تعالى محفوظون فى اقوالهم وافعالهم وحكى ان زاهدا من التابعين كسر ملاهى مروان بن الحكم الخليفة فاتى له به فامر بان يلقى بين يدى الاسد فالقى فلما دخل ذلك الموضع افتتح الصلاة فجاءت الاسد وجعلت تحرك ذنبها حتى اجتمع عليه ما كان في ذلك الموضع من الاسد فجعلت تلحسه بألسنتها وهو يصلى ولا يبالى فلما اصبح مروان قال ما فعل بزاهدنا قيل القى بين الاسد قال انظروا هل اكلته فجاؤوا فوجدوا الاسد قد استأنست به فتعجبوا من ذلك فاخرجوه وحملوه الى الخليفة فقال له اما كنت تخاف منها قال لا كنت مشغولا متفكرا طول الليل لم اتفرغ الى خوفهم فقال له فيماذا تتفكر قال فى هذه الاسد حيث جاءتنى تلحسنى بألسنتها فكنت اتفكر ألعابها طاهر ام نجس فتفكرى فى هذا منعنى عن الخوف منها فتعجب منه فخلى سبيله كذا فى نصاب الاحتساب ٦٤ { وقالت اليهود } قال المفسرون ان اللّه تعالى قد بسط النعمة على اليهود حتى كانوا من اكثر الناس مالا واخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه فى شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذبوه كف اللّه عنهم ما بسط عليهم من النعمة فعند ذلك قالت اليهود { يد اللّه مغلولة } اى مقبوضة ممسكة عن العطاء. وغل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد فى ذلك الى اثبات يد وغل او بسط قال اللّه تعالى { ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك } اى لا تمسكها عن الانفاق { غلت ايديهم } دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكة اى امسكت ايديهم عن الانفاق فى الخير وجعلوا بخلاء واليهود ابخل الناس ولا امة ابخل منهم { ولعنوا } اى ابعدوا وطردوا من رحمة اللّه تعالى { بما قالوا } اى بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وهذا الدعاء عليهم تعليم للعباد والا فهو اثر العجز تعالى اللّه عن ذلك علوا كبير { بل يداه مبسوطتان } اى ليس شأنه عز وجل كما وصفتموه بل هو موصوف بغاية الجود ونهاية الفضل والاحسان وهذا المعنى انما يستفاد من تثنية اليد فان غاية ما يبذله السخى من ماله ان يعطيه بيديه جميعا ويد اللّه من المتشابهات وهى صفة من صفات اللّه تعالى كالسمع والبصر والوجه ويداه فى الحقيقة عبارة عن صفاته الجمالية والجلالية وفى الحديث ( كلتا يديه يمين ) اديم زمين سفره عام اوست ... برين خوان يغما جه دشمن جه دوست { ينفق كيف يشاء } اى هو مختار فى انفاقه يوسع تارة ويضيق اخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصى ان يضيق عليهم : وفى المثنوى جونكه بدكردى بترس ايمن مباش ... زانكه تخسمت وبروياند خداش جند كاهى او بيوشاند كه تا ... آيدت زان بديشيمان وحيا بارها بوشد بى اظهار فضل ... باز كيرد ازبى اظهار عدل تاكه اين هر دوصفت ظاهرشود ... آن مبشر كردد اين منذر شود { وليزيدن كثيرا منهم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم. قوله كثيرا مفعول اول ليزيدن { ما انزل اليك من ربك } وهو القرآن وما فيه من الاحكام وهو فاعل يزيدن { طغيانا وكفرا } مفعول ثان للزيادة اى ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين اما من حيث الشدة والغلو واما من حيث الكم والكثرة اذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار كما ان الطعام الصالح للاصحاء يزيد المرضى مرضا { والقينا بينهم } اى بين اليهود فان بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة اما الجبرية فهم الذين ينسبون فعل العبد الى اللّه تعالى ويقولون لا فعل للعبد اصلا ولا اختيار وحركته بمنزلة حركة الجمادات. واما القدرية فهم الذين يزعمون ان كل عبد خالق لفعله ولا يرون الكفر والمعاصى بتقدير اللّه. واما المرجئة فهم الذين لا يقطعون على اهل الكبائر بشىء من عفو او عقوبة بل يرجعون الحكم فى ذلك اى يؤخرونه الى يوم القيامة واما المشبهة فهم الذين شبهوا اللّه تعالى بالمخلوقات ومثلوه بالمحدثات { العداوة والبغضاء } اى جعلناهم مختلفين فى دينهم متباغضين كما قال تعالى { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق اقوالهم والجملة مبتدأة مسوقة لازاحة ما عسى يتوهم فى ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على امر يؤدى الى الاضرار بالمسلمين. قيل العداوة اخص من البغضاء لان كل عدو مبغض بلا عكس كلى { الى يوم القيمة } متعلق بالقينا { كلما اوقدوا نارا للحرب } اى كلما ارادوا محاربة الرسول صلى اللّه عليه وسلم واثارة شر عليه { اطفأها اللّه } اى ردهم اللّه وقهرهم بان اوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم : وفى المثنوى خطابا من قبل اللّه تعالى الى حضرة صاحب الرسالة عليه السلام هركه درمكر تودارد دل كرو ... كردنش را من زنم توشاد شو بر سر كوريش كوريهانهم ... اوشكر بندارد وزهرش دهم جيست خود آلاجق آن تركمان ... بيش باى نره بيلان جهان آن جراغ اوبه بيش صرصرم ... خودجه باشد اى مهين بيغمبرم { ويسعون فى الارض فسادا } اى يجتهدون فى الكيد للاسلام واهله واثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بايقاد نار الحرب. وفسادا اما مفعول له او فى موضع المصدر اى يسعون للفساد او يسعون سعى فساد { واللّه لا يحب المفسدين } ولذلك اطفأ نائرة افسادهم ولا يجازيهم الا شرا وعلم ان اللّه تعالى مهما وكل الانسان الى حساسة طبعه وركاكة نظره وعقله فلا يترشح منه الا ما فيه من الاقوال الشنيعة والافعال الرذيلة ولذلك قالت اليهود يد اللّه مغلولة : ونعم ما قال فى المثنوى درزمين كرنيشكرورخودنى است ... ترجمان هر زمين نبت وى است واهل الحسد يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله ولكن لا يزيدهم الحسد الا الطغيان فكما ان مصائب قوم عند قوم فوائد كذلك فوائد قوم عند قوم مصائب قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ان جماعة السيد البخارى حسدوا لنا حتى قصدوا القتل بالسلاح واشتغلوا بالاسماء القهرية على حسب طريقهم فلم اقاتل دفعا للفتنة ثم رأيت فى موضع قرب جامع السيد البخارى قد اخذ طريقى ماء عظيم فلم يبق الا طريق ضيق فلما قربت منه لم يبق اثر من الماء ثم انه مات كثير من تلك الجماعة ولكن لم اباشر انا فى حقهم شيأ قال كيف اميل الى مشيختهم وتصرف ثمانية عشر الف عالم بيدى بقدرة اللّه تعالى فى الباطن وان كنت عاجزا فى الظاهر وحكى ان مولانا جلال الدين اشتغل عند صلاح الدين شركوه بعد المفارقة من شمس الدين التبريزى فلما سمعه بعض اتباع مولانا ارادوا قتله فارسل اليه مولانا ابنه السلطان ولد فقال الشيخ صلاح الدين ان اللّه تعالى اعطانى قدرة على قلب السماء الى الارض فلو اردت اهلكتهم بقدرة اللّه تعالى لكن الاولى ان ندعو لاصلاحهم فدعا الشيخ فامن السلطان ولد فلانت قلوبهم واستغفروا اللّهم بحق اصفيائك خلصنا من رذائل الاوصاف وسفساف الاخلاق انك انت القادر الخلاق ٦٥ { ولو ان اهل الكتاب } اى اليهود والنصارى { آمنوا } بما يجب به الايمان { واتقوا } من المعاصى مثل الكذب واكل السحت ونحو ذلك { لكفرنا عنهم سيآتهم } اى لعفونا عنهم وسترنا عليهم ذنوبهم وهو الخلاص من العذاب { ولادخلناهم جنات النعيم } اى ولجعلناهم خالدين فيها وهو الظفر بالثواب. وفيه تنبيه على ان الاسلام يجب ما قبله وان جل وان الكتابى لا يدخل الجنة ما لم يسلم ٦٦ { ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل } اى عملوا بما فيهما من التصديق بسيد المرسلين والوفاء للّه تعالى بما عاهدوا فيهما واقامة الشىء عبارة عن رعاية حقوقه واحكامه كاقامة الصلاة { وما انزل اليهم من ربهم } من القرآن المجيد المصدق لكتبهم وايراده بهذا العنوان للتصريح ببطلان ما كانوا يدعون من عدم نزوله الى بنى اسرائيل { لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم } اى لوسع اللّه عليهم ارزاقهم بان يفيض عليهم بركات السماء والارض بانزال المطر واخراج النبات. وفيه تنبيه على ان ما اصابهم من الضنك والضيق انما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور فى فيض الفياض : وفى المثنوى هين مراقب باش كردل بايدت ... كزبى هرفعل جيزى زايدت اين بلا از كودنى آيدترا ... كه نكردى فهم نكته ورمزها وكأنه قيل هل كلهم كذلك مصرون على عدم الايمان والتقوى والاقامة فقيل { منهم امة مقتصدة } اى طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة كعبد اللّه بن سلام واضرابه ممن آمن من اليهود وثمانية واربعين ممن آمن من النصارى. والاقتصاد فى اللغة الاعتدال فى العمل من غير غلو ولا تقصير { وكثير منهم } مقول فى حقهم { ساء ما } كانوا { يعملون } وفيه تعجب بحسب المقام اى ما اسوء عملهم من العناد والمكابرة وتحريف الحق والاعراض عنه وفى الآية بيان ان التقوى سبب لتوسعة الرزق واستقامة الامر فى الدنيا والآخرة قال عبد اللّه القلانسى ركبت سفينة فى بعض اسفارى فبدت ريح شديدة فاشتغل اهل السفينة بالدعاء والنذور واشاروا الىّ بالنذر ايضا فقلت انى مجرد عن الدنيا فالحوا علىّ فقلت ان خلصنى اللّه لا آكل لحم الفيل فقالوا من يأكل لحم الفيل حتى تكفه عن نفسك فقلت هكذا خطر ببالى فخلصنى اللّه بجماعة ورمانا الى ساحل البحر فمضى ايام لم نجد ما نأكل فبينا نحن جياع اذ ظهر جرو فيل فقتلوه واكلوا لحمه ولم آكل رعاية لنذرى وعهدى فالحوا علىّ فقالوا انه مقام الاضطرار فلم اقبل قولهم ثم ناموا فجاءت ام الجرو ورأت عظام ولدها وشمت الجماعة فردا فردا فكل من وجدت رائحته اهلكته ثم جاءتنى فلما لم تجد الرائحة وجهت الىّ ظهرها واشارت الىّ بالنزول فنزلت ولقيت وقت السحر جماعة فاخذونى الى البيت واضافونى فاخبرتهم قصتى على لسان ترجمان فقالوا من ذلك الموضع الى هنا مسيرة ثمانية ايام وقد قطعتها فى ليلة واحدة فظهر من هذه الحكاية انه برعاية جانب التقوى والوفاء بالعهد يستقيم امر المرء من جهة الدين والدنيا وان شهوة واحدة من شهوات الدنيا لها حزن طويل وكيد عظيم بل هلاك كما وقع لتلك الجماعة التى اكلوا جرو الفيل [ وقتى زنبورى موريرا ديدكه بهزار حيله دانه بخانه ميكشد ودران ربح بسيارمى دبداورا كفت اى مور اين جه رنجست كه برخود نهاده بياكه مطعم ومشرب من بين كه هر طعامكه لطيف ولذيذ ترست تازمن زياده نيايد بيادشاهان نرسد هرانجاكه خواهم نشينم وآنجه خواهم كزينم وخورم ودرين سخن بودكه بربريد وبدكان قصابى برمسلوخى نشست قصاب كه كارد دردست داشت بران زنبور مغرور زدد وباره كرد برزمين انداخت ومور بيامد وباى كشان اورامى بردو كفت ( رب شهوة ساعة اورثت صاحبها حزنا طويلا ) زنبور كفت مرابجايى مبركه نخواهم مور كفت هركه از روى حرص وشهوت جايى نشيندكه خواهد بجايى كشندش كه نخواهد ] واعلم ان قوله تعالى { لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم } اشارة الى ما يحصل بالوهب الرحمانى وما يحصل بالكسب الانسانى فمن عمل بما علم واجتهد فى طريق الحق كل الاجتهاد ينال مراتب الاذواق والمشاهدات فيحصل له جنتان جنة العمل وجنة الفضل وهذا الرزق المعنوى هو المقبول : وفى المثنوى اين دهان بستى دهانى بازشد ... كه خورنده لقمهاى رازشد كر زشيرو ديوتن را وابرى ... درفطام او بسى نعمت خورى اللّهم امدنا بفيض فضلك واحسانك ٦٧ { يا أيها الرسول بلغ } جميع { ما انزل اليك من ربك } مما يتعلق بمصالح العباد فلا يرد ان بعض الاسرار الآلهية يحرم افشاؤه قال ابو هريرة حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعائين من العلم فاما احدهما فقد بثثته واما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم والتحقيق ان ما يتعلق بالشريعة عام تبليغه وما يتعلق بالمعرفة والحقيقة خاص ولكل منهما اهل فهو كالامانة عند المبلغ يلزم دفعها الى اربابها { وان لم تفعل } اى ان لم تبلغ جميعه خوفا من ان ينالك مكروه { فما بلغت رسالته } لان كتمان بعضها ككتمان الكل والرسالة لا سبيل لها ان يبلغها الا باللسان فلذلك لم يرخص له فى تركها وان خاف فهذا دليل لقولنا فى المكره على الطلاق والعتاق اذا تكلم به وقع لان تعلق ذلك باللسان لا بالقلب والاكراه لا يمنع فعل اللسان فلا يمنع النفاذ كذا فى التيسير { واللّه يعصمك من الناس } امان من اللّه تعالى للنبى عليه السلام كيلا يخاف ولا يحذر كما روى فى الخبر ان رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم لما دخل المدينة قالت اليهود يا محمد انا ذووا عدد وبأس فان لم ترجع قتلناك وان رجعت ذودناك واكرمناك فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والانصار يبيتون عنده ويخرجون معه خوفا من اليهود فلما نزل قوله تعالى { واللّه يعصمك من الناس } علم ان اللّه يحفظه من كيد اليهود وغيرهم فقال للمهاجرين والانصار ( انصرفوا الى رحالكم فان اللّه قد عصمنى من اليهود ) فكان صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك يخرج وحده فى اول الليل وعند السحر الى اودية المدينة وحيث ما شاء يعصمه اللّه مع كثيرة اعدائه وقلة اعوانه وكان الشج والرباعية قبل ذلك او لان المراد العصمة من القتل وقد حفظه من ذلك واما سائر البلايا والمحن فذلك مما كان يجرى على سائر الانبياء والاولياء قال الكرمانى ما وقع من الابتلاء والسقم فى الانبياء عليهم السلام لنيل جزيل الاجر وليعلم انهم بشر تصيبهم محن الدنيا وما يطرأ على الاجسام وانهم مخلوقون فلا يفتتن بما ظهر على ايديهم من المعجزات انتهى { ان اللّه لا يهدى القوم الكافرين } تعليل لعصمته عليه السلام اى لا يمكنهم مما يريدون لك من الاضرار. وفيه اشارة الى ان من سنة اللّه تعالى ان لا يهدى الى حضرته قوما جحدوا نبوة الانبياء وماقبلوا رسالة الرسل ليبلغوا اليهم من ربهم او انكروا على الاولياء وما استمسكوا بعروة ولايتهم ليوصلوهم الى اللّه تعالى سنة اللّه التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلا وفى الآية ايضا اشارة الى ان من امتثل لامر الخالق يعصمه من مضرة المخلوق كما عصم النبى عليه السلام وابو بكر الصديق رضى اللّه عنه فى الغار حين الهجرة فاذا عصم اللّه من امتثل لامره يعصم ايضا من يستشفع برسوله عليه السلام ويهديه الى سواء الصراط حكى ان سفينة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اخطأ الجيش بارض الروم واسر فانطلق هاربا يلتمس الجيش فاذا بالاسد فقال يا ابا الحارث انا سفينة مولى رسول اللّه فكان مرادى كيت وكيت فاقبل الاسد يتبصبص حتى قام الى جنبه كما سمع صوتا اهوى اليه فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الاسد : قال السعدى فى البستان يكى ديدم از عرصه رودبار ... كه بيش آمدم بريلنكى سوار جنان هول ازان حال برمن نشست ... كه ترسيدنم باى رفتن ببست تبسم كنان دست برلب كرفت ... كه سعدى مدار انجه آيد شكفت توهم كردن از حكم داور مييج ... كه كردن نبيجد زحكم توهيج محالست جون دوست داردترا ... كه دردست دشمن كذارد ترا وعن جابر رضى اللّه عنه قال كان النبى صلى اللّه عليه وسلم فى بعض الغزوات فنزل مع قومه فى واد فتفرق الناس يستظلون بالاشجار وينامون واستظل عليه السلام بشجرة معلقا سيفه بغصنها فاذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعونا فلما حضرنا رأينا اعرابيا فقال عليه السلام ( ان هذا اخترط على سيفى وانا نائم فاستيقظت وهو فى يده صلتا فقال يمنعك منى فقلت اللّه ) يعنى يمنعنى اللّه منك ( فسقط السيف من يده فاخذته فقلت من يمنعك منى فقال كن خير آخذ ) قال الراوى قال له النبى عليه السلام أتشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه قال لا ولكن اعاهدك على ان لا اقاتلك ولا اكون مع قوم يقاتلونك فخلى عليه السلام سبيله وفى الحديث كمال توكل النبى عليه السلام وتصديق قوله { واللّه يعصمك من الناس } واستحباب مقابلة السيئة بالحسنة كذا فى شرح المشارق لابن الملك رحمه اللّه تعالى ٦٨ { قل } يا محمد مخاطبا ليهود والنصارى { يا اهل الكتاب لستم على شىء } اى دين يعتد به ويليق بان يسمى شيأ لظهور بطلانه ووضوح فساده { حتى تقيموا التوراة والانجيل } ومن اقامتهما الايمان بمحمد والاذعان لحكمه فان الكتب الآلهية باسرها آمرة بالايمان بما صدقته المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له والمراد اقامة اصولهما وما لم ينسخ من فروعهما { وما انزل اليكم من ربكم } اى القرآن المجيد بالايمان به ونسب الانزال اليهم لانهم كانوا يدعون عدم نزوله الى نبى اسرائيل { وليزيدن كثيرا منهم } وهم علماؤهم ورؤساؤهم { ما انزل اليك من ربك } اى القرآن { طغيانا وكفرا } على طغيانهم وكفرهم القديمين وهو مفعول ثان ليزيدن { فلا تأس على القوم الكافرين } اى فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه اليهم فان ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم وفى المؤمنين مندوحة لك عنهم وفى الآية اشارة الى ان حقيقة الدين انما هى احكام ظاهرة وباطنة والتزين بالاعمال ظاهرا وبالاحوال باطنا وهذا لا يتصور الا بمقدمتين ونتائج اربع فاما المقدمتان فاولاهما الجذبة الآلهية وثانيتهما التربية الشيخية واما النتائج فاولاها الاعراض عن الدنيا وما يتعلق بها كلها وثانيتها التوجه الى الحق بصدق الطلب وهما من نتائج الجذبة ثم تزكية النفس عن الاخلاق الذميمة وتحلية القلب بالاخلاق الآلهية وهما من نتائج التربية الشيخية باستمداد القوة النبوة والقوم الكافرون هم اهل الانكار يتعلقون بظاهر الدين ولا يعرفون وراءه غاية وليس الامر كذلك فان لكل ظاهر باطنا : وفى المثنوى فائده هرظاهرى خود باطنست ... همجو نفع اندر دواها كامنست هيج خطاطى نويسد خط بفن ... بهر عبن خط نه بهر خواندن كند بينش مى نبيند غير اين ... عقل اوبى سيرجون نبت زمين نبت راجه خوانده جاه ناخوانده ... هست باى اوبكل درمانده كرسرش جنبد بسير بادرو ... توبسر جنبانيش غره مشو آن سرش كويد سمعنا اى صبا ... باى او كويد عصينا خلنا والحامل على الانكار هو الحسد كما كان لطائفة اليهود والنصارى فلا بد من تزكية النفس من مثل هذا القبيح حكى ان تلميذا للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه وقرأ سورة يس فقال يا استاذ لا تقرأ هذه ثم سكت ثم لقنه فقال لا اله الا اللّه فقال لا اقولها لانى بريىء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكى اربعين يوما لم يخرج من البيت ثم رآه فى النوم وهو يسحب الى جهنم فقال بأى شىء نزع اللّه المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذى فقال بثلاثة. اولها بالنميمة فانى قلت لاصحابى بخلاف ما قلت لك. والثانى بالحسد حسدت اصحابى. والثالث كان لى علة فجئت الى الطبيب وسألته عهنا فقال تشرب فى كل سنة قدحا من الشراب فان لم تفعل بقيت بك العلة فكنت اشربه نعوذ باللّه من سخطه الذى لا طاقة لنا به كذا فى منهاج العابدين ٦٩ { ان الذين آمنوا } اى بألسنتهم فقط وهم المنافقون { والذين هادوا } اى دخلوا فى اليهودية { والصابئون } اى الذين صبت قلوبهم ومالت الى الجهل وهم صنف من النصارى يقال لهم السائحون يحلقون اوساط رؤسهم وقد سبق فى سورة البقرة { والنصارى } جمع نصران وهو معطوف على الذين هادوا. وقوله والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف والجملة معطوفة على جملة قوله { ان الذين آمنوا } الخ والتقدير ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك وانما لم يعطف على ما قبله جعل مع خبره المحذوف جملة مستقلة اتى بها فى خلال الجملة الاولى على نية التأخير للدلالة على ان الصابئين مع كونهم اشد الفرق المذكورين فى هذه الآية ضلالا اذا قبل توبتهم وغفر ذنوبهم على تقدير الايمان الصحيح والعمل الصالح فقبول توبة باقى الفرق اولى واخرى { من آمن باللّه واليوم الآخر } اى من احدث من هذه الطوائف ايمانا خالصا بالمبدأ والمعاد { وعمل صالحا } حسبما يقتضيه الايمان بهما. قوله من فى محل الرفع بالابتداء وخبره فلا خوف الخ والجملة خبر ان { فلا خوف عليهم } حين يخاف الكفار العقاب { ولا هم يحزنون } حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما قال الحدادى فى تفسيره اما نفى الحزن عن المؤمنين ههنا فقد ذهب بعض المفسرين الى انه لا يكون عليهم حزن فى الآخرة ولا خوف ونظيره قوله تعالى { تتنزل عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولا تحزنوا } وقال بعضهم ان المؤمنين يخافون ويحزنون لقوله تعالى { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت } وقوله { يوم يفر المرء من اخيه وامه وابيه } وقال صلى اللّه عليه وسلم ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة ) فقالت عائشة واسوءتاه فقال صلى اللّه تعالى عليه وسلم ( اما سمعت قول اللّه تعالى لكل امرىء منهم يومئذ شان يغنيه ) قالوا وانما نفى اللّه تعالى فى هذه الآية الحزن عن المؤمنين لان حزنهم لما كان فى معرض الزوال ولم يكن له بقاء معهم لم يعتد بذلك انتهى : وفى المثنوى هركه ترسد مرورا ايمن كنند ... مردل ترشنده راساكن كنند لاتخافوا هست نزل خائفان ... هست درخور از براى خائف آن آنكه خوفش نيست جون كويى مترس ... درس جه دهى نيست او محتاج درس واعلم ان اولياء اللّه لا خوف عليهم فيما لا يكون على شىء لانهم يقيمون القرآن عملا بالظاهر والباطن ولا هم يحزنون على ما يقاسون من شدائد الرياضات والمجاهدات ومخالفات النفس فى ترك الدنيا وقمع الهوى ولا على ما اصابهم من البلاء والمحن والمصيبات والآفات لانهم تخلصوا من التقليد وفازوا بالتحقيق وارتفع عنهم تعب التكاليف فهم مع اللّه فى جميع احوالهم فعلى المؤمن معالجة مرضه القلبى من الاوصاف الرذيلة والتخلص من النفاق واللحاق باهل الاتفاق قال ابراهيم الخواص قدس سره دواء القلب خمسة. قراءة القرآن بالتدبر. وخلاء البطن. وقيام الليل والتضرع. الى اللّه عند السحر. ومجالسة الصالحين قال حضرة الشيخ الشهير بالهدائى قدس سره ونحن نقول المصلح فى الحقيقة هو اللّه ولكن اشد الاشياء تأثيرا هو الذكر قال اللّه تعالى { ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب } قال على رضى اللّه عنه [ يأتى على الناس زمان لا يبقى من الاسلام الا اسمه ولا من القرآن الا رسمه يعمرون مساجدهم وهى خراب من ذكر اللّه شر اهل ذلك الزمان علماؤهم منهم تخرج الفتنة واليهم تعود ] : قال السعدى علم جند انكه بيشتر خوانى ... جون عمل در ونيست نادانى نه محقق بود نه دانشمند ... جاربايى برو كتابى جند آن تهى مغزرا جه علم وخبر ... كه بروهيز مست ويا دفتر واعلم ان زبدة العلوم هى العلم باللّه وما سواه فمن محسناته ومن علم فهو كامل فى نفسه الا ان العمل هو المقصود ومجرد القراءة لا يغنى شيأ ولا يجلب نفعا لمن صاحب رفيق التوفيق ٧٠ { لقد اخذنا ميثاق بنى اسرائيل } اى باللّه قد اخذنا عهدهم بالتوحيد وسائر الشرائع والاحكام المكتوبة عليهم فى التوراة { وارسلنا اليهم رسلا } ذوى عدد كثير واولى شأن خطير ليذكروهم وليبينوا لهم امر دينهم { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى انفسهم } جواب شرط محذوف كأنه قيل فماذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من اولئك الرسل بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاق التكاليف عصوه وعادوه كأنه قيل كيف عصوهم فقيل { فريقا كذبوا } اى فريقا منهم كذبوهم من غير ان يتعرضوا لهم بشىء آخر من المضار { وفريقا يقتلون } اى فريقا آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم ايضا كزكريا ويحيى عليهما السلام ٧١ { وحسبوا ان لا تكون فتنة } اى حسب بنوا اسرائيل وظنوا ان لا يصيبهم من اللّه تعالى بلاء وعذاب بقتل الانبياء وتكذيبهم وجه حسبانهم انهم وان اعتقدوا فى انفسهم انهم مخطئون فى ذلك التكذيب والقتل الا انهم كانوا يقولون نحن ابناؤه واحباؤه وكانوا يعتقدون ان نبوة اسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العذاب الذى يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب { فعموا } عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها اى آمنوا بأس اللّه تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل الى المعاملة الظاهرة وبينوا لهم مناهجة الواضحة اى عملوا معاملة الاعمى الذى لا يبصر { وصموا } عن استماع الحق الذى القوه عليهم اى عملوا معاملة الاصم الذى لا يسمع ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا قال المولى ابو السعود وهذا اشارة الى المرة الاولى من مرتى افساد بنى اسرائيل حين خالفوا احكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيبا وقيل حبسوا ارمياء عليه السلام { ثم تاب اللّه عليهم } حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد وبعدما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر اسارى فى غاية الذل والمهانة فوجه اللّه عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس الى بيت المقدس ليعمره وينجى بقايا بنى اسرائيل من اسر بخت نصر بعد مهلكهم وردهم الى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الاكناف فعمروه فى ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كاحسن ما كانوا عليه { ثم عموا وصموا } وهو اشارة الى المرة الاخرى من مرتى افسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام { وكثير منهم } بدل من الضمير فى الفعلين قال الحدادى قوله { كثير منهم } يقتضى فى المرة الثانية انهم لم يكفروا كلهم وانما كفر اكثرهم كما قال تعالى { ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة } وقال تعالى { منهم امة مقتصدة } { واللّه بصير بما يعملون } فيجازيهم وفق اعمالهم ومن اين لهم ذلك الحسبان الباطل ولقد وقع ذلك فى المرة الاولى حيث سلط عليهم بخت نصر فاستولى على بيت المقدس فقتل من اهله اربعين الفا ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية الى ارضه فبقوا هناك على اقصى ما يكون من الذل والنكد الى ان احدثوا توبة صحيحة فردهم اللّه عز وعلا الى ما حكى عنهم من حسن الحال ثم عادوا الى المرة الاخرى من الافساد فبعث اللّه عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف ففعل بهم ما فعل. قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما صدقتمونى فقتل عليه الوفا منهم ثم قال ان لم تصدقونى ما تركت منكم احدا فقالوا انه دم يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا ينتقم اللّه منكم ثم قال يا يحيى قد علم ربى وربك ما اصاب قومك من اجلك فاهدأ باذن اللّه تعالى قبل ان لا ابقى احدا منهم فهدأ واعلم ان من مقتضى النفس نسيان العهد بينها وبين اللّه ونسيان نعمه بالكفران وكيف الكفران والانسان غريق فى بحر كرمه ولطفه فيجب عليه شكر ذلك وارسال الرسل وتوضيح السبل ونزول المطر وانبات الارض وصحة البدن وقوة القلب واندفاع الموانع ومساعدة الاسباب كل ذلك من النعم الجليلة وحكى ان دانيال عليه السلام وجد خاتمه فى عهد عمر رضى اللّه عنه وكان على فصه اسدان وبينهما رجل يلحسانه وذلك ان بخت نصر لما تتبع الصبيان وقتلهم وولد هو القته امه فى غيضة رجاء ان ينجو منه فقيض اللّه سبحانه اسدا يحفظه ولبوة ترضعه وهما يلحسانه فلما كبر صور ذلك فى خاتمه حتى لا ينسى نعمة اللّه عليه ولا بد فى قطع طريق الآخرة من تحمل المشاق والقيام بالحقوق الواجبة بينه وبين الخلاق ذكر عن الفضيل انه قال من عزم على طريق الآخرة فليجعل فى نفسه اربعة الوان من الموت الابيض والاحمر والاسود والاخضر. فالموت الابيض الجوع. والاسود ذم الناس. والاحمر مخالفة الشيطان. والاخضر الوقائع بعضها على بعض الى المصائب والاوجاع واذا كان المرء اعمى واصم فى هذا الطريق فلا جرم يضل ولا يهتدى : قال فى المثنوى كوررا هر كام باشد ترس جاه ... باهزاران ترس مى آيد براه مرد بينا ديده عرض راه را ... بس بداند او مغاك و جاه را ماهيا نرا بحر نكذارد برون ... خاكيانرا بحر نكذارد درون اصل ما هى آب وحيوان از كلست ... حيله وتدبير اينجا باطلست قفل زفتست و كشاينده خدا ... دست درتسليم زن اندر رضا والعصيان وان كان سببا للنسيان ورين العمى والصمم الا ان ما قضاه اللّه وقدره لا يتغير فليبك على نفسه من ضاع عمره فى الهوى وتتبع الشهوات فلم يجد الى طلب الحق سبيلا والى طريق الرشيد دليلا اللّهم انك انت الهادى ٧٢ { لقد كفر الذين قالوا ان اللّه هو المسيح ابن مريم } نزلت فى نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما وهم المار يعقوبية قالوا ان اللّه حل فى ذات عيسى واتحد بذاته تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا { وقال المسيح } اى قالوا ذلك والحال قد قال المسيح مخاطبا لهم { يا بنى اسرائيل اعبدوا اللّه ربى وربكم } فانى عبد مربوب مثلكم فاعبدوا اللّه خالقى وخالقكم { انه } اى الشان { من يشرك باللّه } اى شيأ فى عبادته او فيما يخص به من الصفات والافعال { فقد حرم اللّه عليه الجنة } فلن يدخلها ابدا كما لا يصل المحرم عليه الى المحرم فانها دار الموحدين { ومأواه النار } فانها هى المعدة للمشركين { وما للظالمين } بالاشراك { من انصار } اى من احد ينصرهم بانقاذهم من النار اما بطريق المغالبة او بطريق الشفاعة وهو من تمام كلام عيسى. ثم حكى ما قاله النسطورية والملكانية من النصارى فقال ٧٣ { لقد كفر الذين قالوا ان اللّه ثالث ثلاثة } اى احد ثلاثة آلهة والالهية مشتركة بينهم وهم اللّه وعيسى ومريم { وما من اله الا اله واحد } اى والحال ليس فى الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث انه مبدأ جميع الموجودات الآلهية موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة { وان لم ينتهوا عما يقولون } عن مقالتهم الاولى والثانية ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم } اى واللّه ليمسنهم ووضع الموصول موضع الضمير لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن بيانية حال من الذين { عذاب اليم } نوع شديد الالم من العذاب يخلص وجعه بالكفر فمن بيانية حال من الذين { عذاب اليم } نوع شديد الالم من العذاب يخلص وجعه الى قلوبهم ٧٤ { أفلا يتوبون الى اللّه } اى أيصرون فلا يتوبون عن تلك العقائد الزائغة والاقاويل الباطلة وهمزة الاستفهام لانكار الواقع واستبعاده لا لانكار الوقوع وفيه تعجيب من اصرارهم وتحضيض على التوبة { ويستغفرونه } بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه اليه من الاتحاد والحلول { واللّه غفور رحيم } اى والحال انه تعالى مبالغ فى المغفرة يغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله ٧٥ { ما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل } اى ما هو الا مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها كالرسل الماضية من قبله خصه اللّه تعالى بآيات كما خصهم بها فان احيى الموتى على يده فقد احيى العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو اعجب وان خلقه من غير اب فقد خلق آدم من غير اب وام وهو اغرب منه وكل ذلك من جنابه عز وجل وانما موسى وعيسى مظاهر شؤونه وافعاله { وامه صديقة } اى ما امه ايضا الا كسائر النساء اللاتى يلاز من الصدق اى صدق الاقوال فى المعاملة مع الخلق وصدق الافعال والاحوال فى المعاملة مع الخالق لا يصدر منهن ما يكذب دعوى العبودية والطاعة { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران اليه افتقار الحيوانات فكيف يكون آلها من لا يقيمه الا اكل الطعام { انظر كيف نبين لهم الآيات } الباهرة المنادية ببطلان ما تقولوا عليهما نداء يكاد يسمعه صم الجبال { ثم انظر أنى يؤفكون } اى كيف يصرفون عن استماعها والتأمل فيها. وثم لاظهار ما بين العجبين من التفاوت اى ان بياننا الآيات امر بديع فى بابه واعراضهم عنها مع تعاضد ما يوجب قبولها ابدع ٧٦ { قل } يا محمد الزاما لهؤلاء النصارى ومن سلك طريقتهم من اتخاذ غير اللّه آلها { أتعبدون من دون اللّه } اى متجاوزين اياه { ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } يعنى عيسى وهو وان ملك ذلك بتمليك اللّه اياه لكنه لا يملكه من ذاته ولا يملك مثل ما يضر اللّه به من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصحة والسعة وانما قال ما مع ان اصله ان يطلق على غير العاقل نظرا الى ما هو عليه فى ذاته فانه عليه الصلاة والسلام فى اول احواله لا يوصف بعقل ولا بشىء من الفضائل فكيف يكون آلها { واللّه هو السميع العليم } بالاقوال والعقائد فيجازى عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر وهو حال من فاعل تعبدون ٧٧ { قل يا اهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق } اى غلوا باطلا فترفعوا عيسى الى ان تدعوا له الالوهية كما ادعته النصارى او تضعوه فتزعموا انه لغير رشدة كما زعمته اليهود { ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعنى اسلافهم وائمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد عليه السلام فى شريعتهم { واضلوا كثيرا } اى من تابعهم على بدعهم وضلالهم { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد السبيل الذى هو الاسلام بعد مبعثه لما كذبوه وبغوا عليه وحسدوه قال الشيخ نجم الدين فى تأويلاته ان النصارى لما ارادوا ان يسلكوا طريق الحق بقدم الفعل وينظروا الى احوال الانبياء بنظر العقل تاهوا فى اودية الشبهات وانقطعوا فى بوادى الهلكات جل جناب القدس عن ادراك عقول الانس هيهات هيهات وهذا حال من يحذو حذوهم ويقفوا اثرهم فاطرت النصارى عيسى عليه السلام اذ نظروا بالعقل فى امره فوجدوه مولودا من ام بلا اب فحكم عقلهم ان لا يكون مولود بلا اب فينبغى ان يكون هو ابن اللّه واستدلوا على ذلك بانه يخلق من الطين كهيئة الطير ويبرىء الاكمه والابرص ويحيى الموتى ويخبر عما يأكلون فى بيوتهم وما يدخرون وهذا من صفات اللّه تعالى ولو لم يكن المسيح ابن اللّه لما امكنه هذا وانما امكنه لان الولد سر ابيه وقال بعضهم ان المسيح لما استكمل تزكية النفس عن صفات الناسوتية حل لاهوتية الحق فى مكان ناسوتيته فصار هو اللّه تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم اعلم ان امة محمد لما سلكوا طريق الحق باقدام جذبات الالوهية على وفق المتابعة الحبيبية اسقط عنهم كلفة الاستدلال ببراهين الوصول والوصال كما كان حال الشبلى حين غسل كتبه بالماء وكان يقول نعم الدليل انتم ولكن اشتغالى بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال : وفى المثنوى جون شدى بر بامهاى آسمان ... سرد باشد جست وجوى نردبان آينه روشن كه شد صاف وجلى ... جهل باشد بر نهادن صيقلى ييش سلطان خوش نشسته درقبول ... جهل باشد جستن نامه ورسول فهؤلاء القوم بعدما وصلوا الى سرادقات حضرة الجلال شاهدوا بانوار صفات الجمال ان الانسان هو الذى حمل امانة الحق من بين سائر المخلوقات وهى نور فيض الالوهية بواسطة الانبياء فهم مخصوصون باحسن التقويم فى قبول هذا الكمال فتحقق لهم ان عيسى عليه السلام صار قابلا بعد التزكية للتخلية بفيض الخالقية والمحبية كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا باذن اللّه ويبرىء الاكمه والابرص ويحيى الموتى باذن اللّه لا باذنه اعنى كان صورة الفعل منه ومنشأ صفة الخالقية حضرة الالوهية وهذا كما ان لكرة البلور المخروط استعدادا فى قبول فيض الشمس اذا كانت فى محاذاتها فتقبل الفيض وتحرق المحلوج المحاذى لها بذلك الفيض فمصدر الفعل المحرق من الكرة ظاهرا ومنشأ الصفة المحرقية حضرة الشمس حقيقة فصار للكرة بحسن الاستعداد قابلية لفيض الشمس وظهر منها صفات الشمس وما جلت الشمس فى كرة البلور تفهم ان شاء اللّه وتغتنم فكذلك حال الانبياء فى المعجزات وكبار الاولياء فى الكرامات والفرق ان الانبياء مستقلون بهذا المقام والاولياء متبعون قال الامام الغزالى فى قول ابى يزيد انسلخت من نفسى كما تنسلخ الحية من جلدها فنظرت فاذا انا هو اذ من انسلخ من شهوات نفسه وهواها وهمها لا يبقى فيه متسع لغير اللّه ولا يكون له هم سوى اللّه واذا لم يحل فى القلب الا جلال اللّه وجماله صار مستغرقا كأنه هو لا انه هو تحقيقا. وقوله ايضا سبحانى ما اعظم شأنى يحمل على انه قد شاهد كمال حظه من صفة القدس فقال سبحانى ورأى عظيم شأنه بالاضافة الى شأن عموم الخلق فقال ما اعظم شأنى وهو مع ذلك يعلم قدسه وعظم شأنه بالاضافة الى الخلق ولا نسبة له الى قدس الرب وعظم شأنه وقول من قال من الصوفية انا الحق فوارد على سبيل التجوز ايضا كما يقول الشاعر انا من اهوى ومن اهوى انا وذلك متأول عند الشاعر فانه لا يعنى به انه هو تحقيقا بل كأنه هو فانه مستغرق بالهم به كما يكون مستغرق الهم بنفسه فيعتبر هذه الحالة بالاتحاد على سبيل التجوز قال الشيخ ابو القاسم الجرجانى ان الاسماء التسعة والتسعين تصير اوصافا للعبد السالك وهو بعد فى السلوك غير واصل فان قلت ما معنى الوصول قلت معنى السلوك هو تهذيب الاخلاق والاعمال والمعارف وذلك اشتغال بعمارة الظاهر والباطن والعبد فى جميع ذلك مشغول بنفسه عن ربه الا انه مشتغل بتصفية باطنه ليستعد للوصول وانما الوصول هو ان ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقا به فان نظر الى معرفته فلا يعرف الا اللّه وان نظر الى همته فلا همة له سواه فيكون كله مشغولا لا بكله مشاهدة وهما لا يلتفت فى ذلك الى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الاخلاق وكل ذلك طهارة وهى البداءة واما النهاية فان ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول : وفى المثنوى كاركاه كنج حق در نيستيست ... غره هستى جه دانى نيست جيست آب كوزه جون در آب جوشود ... محو كردد دروى وجو او شود ٧٨ { لعن الذين كفروا } حال كونهم { من بنى اسرائيل } اى طردوا وابعدوا من رحمة اللّه { على لسان داود } متعلق يلعن يعنى اهل ايلة لما اعتدوا فى السبت قال داود عليه الصلاة والسلام اللّهم العنهم واجعلهم آية ومثلا لخلقك فمسخوا قردة { وعيسى ابن مريم } اى على لسان عيسى ابن مريم يعنى كفار اصحاب المائدة لما اكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى اللّهم العنهم كما لعنت اصحاب السبت واجعلهم آية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبى كأنه قيل بأى سبب وقع ذلك فقيل { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } اى ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسح بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حرم عليهم ٧٩ { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } استئناف اى لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه واصطلحوا على الكف عن نهى المنكر { لبئس ما كانوا يفعلون } تعجيب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم ٨٠ { ترى كثيرا منهم } اى من اهل الكتاب ككعب بن الاشرف واضرابه حيث خرجوا الى مشركى مكة ليتفقوا على محاربة النبى عليه السلام والرؤية بصرية { يتولون الذين كفروا } حال من كثيرا لكونه موصوفا اى يوالون المشركين بعضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين { لبئس ما قدمت لهم انفسهم } اى لبئس شيأ قدموا ليردوا عليه يوم القيامة { ان سخط اللّه عليهم وفى العذاب هم خالدون } هو المخصوص بالذم بتقدير المضاف اى موجب سخط اللّه والخلود فى العذاب لان نفس السخط المضاف الى البارى تعالى لا يقال له انه المخصوص بالذم انما المخصوص بالذم هو الاسباب الموجبة له ٨١ { ولو كانوا } اى الذين يتولون المشركين من اهل الكتاب { يؤمنون باللّه والنبى } اى نبيهم { وما انزل اليه } اى الى ذلك النبى من التوراة والانجيل { ما اتخذوهم } اى المشركين { اولياء } لان تحريم ذلك مصرح فى شريعة ذلك النبى وفى الكتاب المنزل اليه فالايمان يمنع من التولى قطعا { ولكن كثيرا منهم فاسقون } خارجون عن الدين والايمان باللّه ونبيهم وكتابهم وفى الآيات امور الاول ان الانسان الكامل الذى يصلح لخلافة الحق هو مظهر صفات لطف الحق وقهره فقبولهم قبول الحق وردهم رد الحق ولعنهم لعن الحق وصلاتهم صلاة الحق فمن لعنوه فقد لعنه ومن صلوا عليه فقد صلى الحق عليه لقوله تعالى لنبيه عليه السلام { ان صلاتك سكن لهم } وقال { هو الذى يصلى عليكم } فمظهر اللعن كان لسان داود وعيسى وكانت اللعنة من اللّه حقيقة لقوله { كما لعنا اصحاب السبت } وهم الذين لعنهم داود وصرح ههنا ان اللعن كان منه تعالى وان كان على لسان داود عليه السلام : فى المثنوى اين نكردى توكه من كردم يقين ... اى صفاتت درصفات مادفين مارميت اذ رميت كشته ... خويشتن درموج جون كف هشته وفى محل آخر كه ترا ازتوبكل خالى كند ... توشوى بست اوسخن عالى كند كرجه قرآن ازلب بيغمبر است ... هركه كويد حق نكفت اوكافرست والثانى ان اللّه تعالى سمى العصيان منكرا لانه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لانها توجب المعرفة والاقدام على الفعل المنكر معصية والاصرار على المعصية كالكفر فى كونه سببا للرين المحيط بجوانب القلب ومن ذلك ترك النهى عن المنكر وفى الحديث ( يحشر يوم القيامة اناس من امتى من قبورهم الى اللّه تعالى على صورة القردة والخنازير بما داهنوا اهل المعاصى وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون ) فالمداهنة من اعمال الكفار والدعوة الى اللّه من اخلاق الاخيار : وفى المثنوى هركسى كوازصف دين سركش است ... ميرود سوى صفى كان وابس است توز كتار تعالوا كم مكن ... كيمياى بس شكرفست آن سخن كرمسى كردد زكفتارت نفير ... كيميارا هيج ازوى وامكير اين زمان كربست نفس ساحرش ... كفت توسودش دهدر آخرش قل تعالوا قل تعالوا اى غلام ... هين كه ان اللّه يدعو بالسلام والثالث ان المؤمن والكافر ليسا من جنس واحد وتولى الكافر موجب لسخط اللّه لان موالاة الاعداء توجب معاداة الاولياء فينبغى للمؤمن الكامل ان ينقطع عن صحبة الكفار وافار واهل البدع والاهواء وارباب الغفلة والانكار : وفى المثنوى ميل مجنون بيش آن ليلى روان ... ميل ناقه بس بى طفلش دوان كفت اى ناقة جوهردو عاشقيم ... مادو ضد بس همره نالايقيم نيستت بروفق من مهر و مهار ... كرد بايد ازتو صحبت اختيار جان زهجر عرش اندر فاقه ... تن زعشق خاربن جون ناقة جان كشايد سوى بالا بالها ... درزده تن درزمين جنكالها اللّهم خلصنا من خلاف الجنس مطلقا ٨٢ { لتجدن } يا محمد { اشد الناس } مفعول اول للوجدان { عداوة } تمييز { للذين آمنوا } متعلق بعداوة { اليهود } مفعول ثان للوجدان { والذين اشركوا } يعنى مشركى العرب معطوف على اليهود { ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى } اعرابه كاعراب ما سبق. اما عداوة اليهود والمشركين المنكرين للمعاد فلشدة حصرهم الذى هو معدن الاخلاق الذميمة فان من كان حريصا على الدنيا طرح دينه فى طلب الدنيا واقدم على كل محظور ومنكر فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال جاها او مالا. واما مودة النصارى فلانهم فى اكثر الامر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبير والترفع وكل من كان كذلك فانه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم بل يكون لين العريكة فى طلب الحق سهل الانقياد له انظر الى كفر النصارى مع كونه اغلظ من كفر اليهود لان كفر النصارى فى الالوهية وكفر اليهود فى النبوة واما قوله تعالى { وقالت اليهود عزير ابن اللّه } فانما قاله طائفة منهم ومع ذلك خص اليهود بمزيد اللعنة دونهم وما ذاك الا بسبب حرصهم على الدنيا ويؤيده قوله عليه السلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) قال البغوى لم يرد به جميع النصارى لانهم فى عداوتهم للمسلمين كاليهود فى قتلهم المسلمين واسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم واحراق مصاحفهم لا مودة ولا كرامة لهم بل الآية نزلت فيمن اسلم منهم مثل النجاشى واصحابه وكان النجاشى ملك الحبشة نصرانيا قبل ظهور الاسلام ثم اسلم هو واصحابه قبل الفتح ومات قبله ايضا وقال اهل التفسير ائتمرت قريش ان يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من فيها المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه رسوله بعمه ابى طالب فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما حل باصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد امرهم بالخروج الى ارض الحبشة وقال ( ان بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده احد فاخرجوا اليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجا ) واراد به النجاشى واسمه اصحمة بالمهملتين وهو بالحبشية عطية وانما النجاشى اسم الملك كقولهم قيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس فخرج اليها سرا احد عشر رجلا واربع نسوة منهم عثمان ابن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرجوا الى البحر واخذوا سفينة الى ارض الحبشة بنصف دينار وذلك فى رجب فى السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذه هى الهجرة الاولى ثم خرج جعفر بن ابى طالب وتتابع المسلمون اليها فكان جميع من هاجر الى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان سعديا حب وطن كرجه حديثست صحيح ... نتوان مرد بسختى كه من انيجازادم فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمر بن العاص وصاحبه بالهدايا الى النجاشى وبطارقته ليردوهم اليهم فعصمهم اللّه فلما انصرفا خائبين واقام المسلمون هناك بخير دار وحسن جوار الى ان هاجر رسول اللّه وعلا امره وذلك فى سنة ست من الهجرة كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الى النجاشى على يد عمرو بن امية الضمرى ليزوجه ام حبيبة بنت ابى سفيان وكانت قد هاجرت اليه مع زوجها فمات زوجها فارسل النجاشى الى ام حبيبة جارية يقال لها نزهة تخبرها بخطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اياها فاعطتها اوضاحا لها سرورا بذلك وامرها ان توكل من يزوجها فوكلت خالد بن سعيد بن العاص فانكحها على صداق اربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه النجاشى فانفذ اليها على يد نزهة اربعمائة دينار فلما جاءتها بها اعطتها خمسين دينارا فردتها وقالت امرنى الملك ان لا آخذ منك شيأ وقالت انا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا صلى اللّه عليه وسلم وآمنت به فحاجتى منك ان تقرئيه منى السلام قالت نعم ثم امر الملك نساءه ان يبعثن الى ام حبيبة بما عندهن من عود وعنبر وكان عليه السلام يراه عليها وعندها فلا ينكر قالت ام حبيبة فخرجنا فى سفينتين وبعث معنا النجاشى الملاحين فلما خرجنا من البحر ركبنا الظهر الى المدينة ورسول اللّه عليه السلام بخيبر فخرج من خرج اليه واقمت بالمدينة حتى قدم النبى عليه السلام فدخلت عليه فكان يسألنى عن النجاشى فقرأت عليه من نزهة السلام فرد عليها السلام فانزل اللّه { عسى اللّه ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } يعنى ابا سفيان { مودة } يعنى تزويج ام حبيبة ولما جاء ابا سفيان تزويج ام حبيبة برسول اللّه عليه الصلاة والسلام قال ذاك الفحل لا يقرع انفه ثم قال عليه السلام ( لا ادرى انا بفتح خيبر اسرّ ام بقدوم جعفر ) وبعث النجاشى بعد قدوم جعفر الى رسول اللّه ابنه ازهر بن اصحمة بن الحر فى ستين رجلا من الحبشة وكتب اليه يا رسول اللّه اشهد انك رسول اللّه صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت للّه رب العالمين وقد بعثت ابنى ازهر وان شئت ان آتيك بنفسى فعلت والسلام عليك يا رسول اللّه فركبوا سفينة فى اثر جعفر واصحابه فلما بلغوا اواسط البحر غرقوا وكان جعفر يوم وصل المدينة الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصل فى سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من اهل الشام منهم بحيرا الراهب فقرأ عليهم رسول اللّه سورة يس الى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن فآمنوا وقالوا ما اشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فانزل اللّه تعالى هذه الآية { ولتجدن اقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا انا نصارى } يعنى وفد النجاشى الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون وكانوا اصحاب الصوامع { ذلك } اى كونهم اقرب مودة للمؤمنين { بان منهم } اى بسبب ان منهم { قسيسين } وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشىء اذا تتبعه وطلبه بالليل وسموا به لمبالغتهم فى تتبع العلم قاله الراغب. وقال قطرب القسيس العالم بلغة الروم. وعن عروة بن الزبير انه قال ضيعت النصارى الانجيل وادخلوا فيه ما ليس منه وبقى واحد من علمائهم على الحق والدين وكان اسمه قسيسا فمن كان على مذهبه فهو قسيس { ورهبانا } هو جمع راهب كراكب وركبان وقيل انه يطلق على الواحد وعلى الجمع. والترهب التعبد مع الرهبة فى صومعة والتنكير لافادة الكثرة ولا بد من اعتبارها فى القسيسين ايضا اذ هى التى تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فان اتصاف افراد كثيرة بجنس الخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها والا فمن اليهود ايضا قوم مهتدون ألا يرى الى عبد اللّه بن سلام واضرابه قال تعالى { من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون } الخ لكنهم لما لم يكونوا فى الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم الى جنس اليهود { وانهم لا يستكبرون } عطف على ان منهم اى وبانهم لا يستكبرون عن قبول الحق اذا فهموه ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على ان التواضع والاقبال على العلم والعمل والاعراض عن الشهوات محمود وان كانت فى كافر اقول ذكر عند حضرة شيخى العلامة ابقاه اللّه بالسلامة رجولية بعض اهل الذمم ومروته فقال انه من آثار السعادة الازلية ويرجى ان ذلك يدعوه الى الايمان والتوحيد ويصير عاقبته الى الفلاح : قال الحافظ كارى كنيم ورنه خجالت بر آورد ... روزى كه رخت جان بجهان دكر كشيم ٨٣ { واذا سمعوا ما انزل الى الرسول } عطف على لا يستكبرون اى ذلك بسبب انهم لا يستكبرون وان اعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا عند سماع القرآن وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم الى قبول الحق وعدم تأنفهم عنه { ترى اعينهم تفيض من الدمع } اى تملأ بالدمع فاستعير له الفيض الذى هو الانصاب من الامتلاء مبالغة ومن الدمع متعلق بتفيض ومن لابتداء الغاية والمعنى تفيض من كثرة الدمع والرؤية بصرية وتفيض حال من المفعول { مما عرفوا من الحق } من الاولى لابتداء الغاية متعلق بمحذوف على انها حال من الدمع والثانية لبيان الموصول فى قوله ما عرفوا اى حال كونه ناشئا ومبتدأ من معرفة الحق حاصلا من اجله وبسبب كأنه قيل ماذا يقولون عند سماع القرآن فقيل { يقولون ربنا آمنا } بهذا القرآن { فاكتبنا مع الشاهدين } اى اجعلنا فى جملة الذين شهدوا بانه حق ٨٤ { وما لنا } اى اى شىء حصل لنا { لا نؤمن باللّه } حال من الضمير فى لنا اى غير مؤمنين على توجيه الانكار والنفى الى السبب والمسبب جميعا { وما جاءنا من الحق } عطف على الجلالة اى باللّه وما جاءنا من الحق حال من فاعل جاءنا اى جاءنا فى حال كونه من جنس الحق او من لابتداء الغاية متعلقة بجاءنا ويكون المراد بالحق البارى تعالى { ونطمع ان يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } حال اخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدا اى اى شىء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع فى صحبة الصالحين وانما قدر المبتدأ ليكون الحال هو الجملة الاسمية لان المضارع المثبت لا يقع حالا بالواو الا بتأويل تقدير المتبدأ ٨٥ { فاثابهم اللّه } اى اعطاهم وجازاهم { بما قالوا } اى عن اعتقادهم بدليل قوله مما عرفوا من الحق { جنات } اى بساتين { تجرى من تحتها الانهار } اى تجرى من تحت اشجارها ومساكنها وغرفها انهار الماء والعسل والخمر واللبن { خالدين فيها وذلك } الثواب { جزاء المحسنين } اى الذين احسنوا النظر والعمل او الذين اعتادوا الاحسان فى الامور ٨٦ { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } فماتوا على ذلك عطف التكذيب بآيات اللّه على الكفر مع انه ضرب منه لما ان القصد الى بيان حال المكذبين { اولئك اصحاب الجحيم } اهل النار الشديدة الوقود وهم الذين استتروا بحجب اوصاف البهيمية والسبعية والشيطانية فاصمهم اللّه واعمى ابصارهم سمعوا ولم يستمعوا وشاهدوا ولم يبصروا بخلاف من قال لهم اللّه ألست بربكم فاسمعهم كلامه ووفقهم للجواب حتى شهدوا ربوبيته فقالوا بلى شهدنا فكذلك ههنا اسمعهم كلامه وعرفهم حقيقة كلامه فاشتاقوا اليه وتذكر قلوبهم ما شاهدوا عند الميثاق من تلك المشاهدة فبكوا بكاء الشوق وبكاء المعرفة : وفى المثنوى خوى بددر ذات تواصلى نبود ... كزبد اصلى مى نيابد جز جحود آن بدى عاريتى باشد كه او ... ارد اقرار وشود اوتوبهجو همجو آدم ذلتش عاريه بود ... لاجرم اندر زمان توبه نمود جونكه اصلى بودجرم آن بليس ... ره نبودش جانب توبه نفيس حكى ان سلطانا زار قبر ابى يزيد قدس سره فسأل عن حاله من بعض اصحاب ابى يزيد فقال من رآه لم يدخل النار فقال السلطان ان أبا جهل رأى النبى عليه السلام ومع ذلك يدخل النار وليس شيخك فوق النبى عليه السلام فقال ايها السلطان ان ابا جهل لم ير النبى صلى اللّه عليه وسلم بل رأى يتيم ابى طالب فلو رأى انه رسول اللّه لآمن به وخلص من النار وبنور العرفان آمنت بلقيس فانها لما رأت كتاب سليمان شاورت قومها فقالوا نقاتله انه يدعى النبوة والانبياء عباد اللّه المكرمون لا يقاتلهم احد فبعد الامتحان آمنت به : قال المولوى قدس سره جون سليمان سوى مرغان سبا ... يك صفيرى كرد بست آن جمله را جزمكر مرغى كه بدبى جان وبر ... ياجو ماهى كنك بود ازاصل كر نى غلط كفتم كه كر كرسر نهد ... بيش وحى كبريا شمعش دهد جونكه بلقيس ازدل وجان عزم كرد ... بر زمان رفته هم افسوس خورد ترك مال وملك كرد او آنجنان ... كه بترك نام وننك آن عاشقان آن غلامان وآن كنيزان بناز ... بيش جشمش همجو بوسيده بياز باغهاو قصرهاو آب رود ... بيش جشم ازعشق او كلخن نمود عشق درهنكام استيلاو خشم ... زشت كرداند لطيفانرا بجشم لا اله الاهو اينست اى بناه ... كه نمايد دمه تراويك سياه واعلم انه فى العالم العلمى وفق من وفق فجرى على ذلك التوفيق فى هذا العالم العينى الشهادى ثم لا يزال على ذلك فى جانب الابد حتى يدخل الجنة الصورية الحسية مع اذواق الروحانية المعنوية خالدا فيها فهذا هو ثمرة ذلك البذر ومحصول ذلك الزرع والحرث كما قال اللّه تعالى { فاثابهم اللّه بما قالوا } الخ فعلى المؤمن ان يجتهد فى تحصيل اليقين ويدخل الجنة العاجلة التى هى المعرفة الالهية كما قال مما عرفوا من الحق ويتخلص من نار البعد والفراق كما قال { اولئك اصحاب الجحيم } ٨٧ { يايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل اللّه لكم } اى لا تمنعوا ما طاب ولذ منه انفسكم كمنع التحريم { ولا تعتدوا } اى لا تتجاوزوا حدود ما احل لكم الى ما حرم عليكم فان محرم ما احل اللّه يحل ما حرم اللّه او ولا تسرفوا فى تناول الطيبات فان الاسراف تجاوز الى الحرام كتناول المحرمات { ان اللّه لا يحب المعتدين } اى لا يرضى عمل المعتدين على انفسهم المتجاوزين حدود اللّه ٨٨ { وكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا } اى ما احل لكم وطاب مما رزقكم اللّه فحلالا مفعول كلوا ومما رزقكم اللّه حال منه تقدمت عليه لكونه نكرة قال عبد اللّه بن المبارك الحلال ما اخذته من وجهه والطيب ما غذى ونمى فاما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى { واتقوا اللّه الذى انتم به مؤمنون } تأكيد للوصية بما امر به فان قوله { كلوا حلالا } وان كان المراد به ههنا الاباحة والتحليل الا انه انما اباح اكل الحلال فيفيد تحريم ضده فأكد التحريم المستفاد منه بقوله { واتقوا اللّه } وزاده تأكيدا بقوله { الذى انتم به مؤمنون } فان الايمان يوجب التقوى بالانتهاء عما نهى عنه وعدم التجاوز عما حد له قال الامام قوله تعالى { كلوا مما رزقكم اللّه } يدل على انه تعالى قد تكفل برزق كل احد فانه لو لم يتكفل برزقه لما قال { كلوا مما رزقكم اللّه } واذا تكفل برزقه وجب ان لا يبالغ فى الطلب وان يعول على وعده واحسانه فانه اكرم من ان يخلف الوعد ولذلك قال عليه السلام ( فاتقوا اللّه واجملوا فى الطلب ) قال الحافظ مابروى فقر وقناعت نمى بريم ... بابادشه بكوى كه روزى مقدرست وقال الصائب رزق اكر بر آدمى عاشق نمى باشدجرا ... اززمين كندم كريباز جاك مى آيدجرا قال اهل التفسير ذكر النبى عليه السلام يوما النار ووصف القيامة وبالغ فى الانذار فرق له الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحى وتشاوروا واتفقوا على ان يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا فى الارض فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته ام حكيم بنت امية واسمها خولة وكانت عطارة ( احق ما بلغنى عن زوجك واصحابه ) فكرهت ان تكذب على رسول اللّه وكرهت ان تبدى خبر زوجها فقالت يا رسول اللّه ان كان قد اخبرك عثمان فقد صدق فرجع رسول اللّه فلما جاء عثمان اخبرته زوجته بذلك فمضى الى رسول اللّه فسأله النبى عليه السلام عن ذلك فقال نعم فقال عليه السلام ( أمانى لم آمر بذلك ان لانفسكم عليكم حقا فصوموا وافطروا وقوموا وناموا فانى اقوم وانام واصوم وافطر وآكل اللحم والدسم وآتى النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى ) ثم جمع الناس وخطبهم وقال ( ما بال قوم حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا اما انى لا آمركم ان تكونوا قسيسين ولا رهبانا فانه ليس من دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة امتى الصوم ورهبانيتهم الاجتهاد فاعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيأ وحجوا واعتمروا واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من هلك قبلكم بالتشديد شددوا على انفسهم فشدد اللّه عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات والصوامع ) فانزل اللّه هذه الآية وروى ان عثمان بن مظعون جاء الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ان نفسى تحدثنى بان اختصى فائذن لى فى الاختصاء قال ( مهلا يا عثمان فان اختصاء امتى الصيام ) وفى المثنوى هين مكن خودرا خصى رهبان مشو ... زانكه عفت هست شهوت راكروا بى هوا نهى از هوا ممكن نبود ... غازىء بر مردكان نتوان نمود بس كلو از بهر دام شهوتست ... بعد ازان لاتسرفوا آن عفتست جونكه رنج صبر نبود مرترا ... شرط نبود بس فرو نايد جرا حبذا آن شرط وشادا آن جزا ... آن جزاى دلنواز جان فزا قال يا رسول اللّه ان نفسى تحدثنى بان اترهب فى رؤوس الجبال قال ( مهلا يا عثمان فان ترهب امتى الجلوس فى المساجد لانتظار الصلاة ) قال يا رسول اللّه ان نفسى تحدثنى ان اخرج من مالى كله قال ( مهلا يا عثمان فان صدقتكم يوما بيوم وتعف نفسك وعيالك وترحم المساكين واليتيم فتعطيها افضل من ذلك ) قال يا رسول اللّه ان نفسى تحدثنى ان اطلق امرأتى خولة قال ( مهلا يا عثمان فان الهجرة فى امتى من هجر ما حرم اللّه عليه او هاجر الى فى حياتى او زار قبرى بعد وفاتى او مات وله امرأة او امرأتان او ثلاث او اربع ) قال يا رسول اللّه فان نهيتنى ان لا اطلقها فان نفسى تحدثنى ان لا اغشاها قال ( مهلا يا عثمان فان المسلم اذا غشى امرأته او ما ملكت يمينه فلم يكن له من وقعته تلك ولد كان له وصيف فى الجنة وان كان له من وقعته تلك ولد فمات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة وان مات بعده كان له نورا يوم القيامة ) قال يا رسول اللّه ان نفسى تحدثنى ان لا آكل اللحم قال ( مهلا يا عثمان فانى احب اللحم واكله اذا وجدته ولو سألت ربى ان يطعمنيه فى كل يوم لاطعمنيه ) قال يا رسول اللّه فان نفسى تحدثنى ان لا امس الطيب قال ( مهلا يا عثمان فان جبرائيل عليه السلام امرنى بالطيب غبا وقال يوم الجمعة لا مترك له يا عثمان لا ترغب عن سنتى فمن رغب عن سنتى ثم مات قبل ان يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضى يوم القيامة ) وعن ابى موسى الاشعرى قال رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأكل لحم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال ( ان المؤمن حلو يحب الحلاوة ) قال ( ان فى بطن المؤمن زاوية لا يملأها الا الحلو ) وجاء رجل الى الحسن فقال له ان لى جارا لا يأكل الفالوذج قال ولم قال لئلا يؤدى شكره قال أفيشرب الماء البارد قال نعم قال ان جارك هذا جاهل ان نعمة اللّه عليه فى الماء البارد اكثر من نعمته فى الفالوذج وسئل فضيل عن ترك الطيبات من الحوارى واللحم والخبيص للزهد وقال لمن قال لا آكل الخبيص ليتك تأكل وتتقى ان اللّه لا يكره ان تأكل الحلال الصرف كيف برك لوالديك وصلتك للرحم كيف عطفك على الجار كيف رحمتك للمسلمين كيف كظمك للغيظ كيف عفوك عمن ظلمك كيف احسانك الى من اساء اليك كيف صبرك واحتمالك للاذى انت الى احكام هذا احوج منك الى ترك الخبيص والحاصل ان الافراط فى الرهبانية والاحتراز التام عن الذات والطيبات مما يوقع الضعف فى الاعضاء الرئيسة التى هى القلب والدماغ واذا وقع الضعف فيها اختلت الفكرة وباختلالها تفوت عنها الكمالات المتعلقة بالقوة النظرية رأسا وينتقص كمالاتها المتعلقة بالقوة العملية فان تمامها وكمالها يبنى على كمال القوة النظرية وايضا الرهبانية التامة توجب خرابية الدنيا وانقطاع الحرث والنسل فلما كانت عمارة الدنيا والآخرة منوطة بترك تلك الرهبانية والمواظبة على المعرفة والمحبة والطاعة اقتضت الحكمة ان لا يحرم الانسان ماطاب ولذ مما احل اللّه كما نطقت الآية به ولكن اشارة الآية ايضا الى الاعتدال كما قال { ولا تعتدوا } فالاعتدال فى التناول وكذا فى الرياضة ممدوح جدا ولذا ترى المرشد الكامل يأمر فى ابتداء امره بترك اللحم والدسم والجماع وغيرها ولكن على الاعتدال بحسب مزاجه فان للرياضات تأثيرا عظيما فى اصلاح الطبيعة وهو امر مهم فى باب السلوك جدا فلا متمسك لارباب الظاهر فى ترك الرياضة مطلقا وقد اشار النبى عليه الصلاة والسلام فى وصاياه لعثمان بن مظعون الى جملة من الامر فافهم وارشد الى طريق الصواب ولا تفريط ولا افراط فى كل باب ٨٩ { لا يؤاخذكم اللّه باللغو فى ايمانكم } اليمين تقوية احد الطرفين بالمقسم به واللغو فى اليمين الساقط الذى لا يتعلق به حكم وهو عند الامام الاعظم ان يخلف على شىء يظن انه كذلك وليس كما يظن مثل ان يرى الشىء من بعيد فيظن انه كذا فيقول واللّه انه كذا فاذا هو بخلافه فلا مؤاخذة فى هذا اليمين باثم ولا كفارة واما الغموس وهى حلفه على امر ماض او حال كذبا عمدا مثل قوله واللّه لقد فعلت كذا وهو لم يفعله وعكسه ومثل واللّه ما لهذا على دين وهو يعلم ان له عليه دينا فحكمها الاثم لانها كبيرة قال عليه السلام ( من حلف كاذبا ادخله اللّه النار ولا كفارة فيها الا التوبة ) قوله فى ايمانكم صلة يؤاخذكم كما ان باللغو صلة له اى لا يؤاخذكم فى حق ايمانكم بسبب ما كان لغوا منها بان لا يتعلق بها حكم دنيوى ولا اخروى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان } اى بتقيدكم الايمان وتوثيقا بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتموها اذا حنثتم او بنكث او نقض ما عقدتم فحذف للعلم به وهذا اليمين هى اليمين المنعقدة وهى الحلف على فعل امر او تركه فى المستقبل { فكفارته } اى الفعلة التى تذهب اثمه وتستره وعند الامام لا يجوز التكفير قبل الحنث لقوله عليه السلام ( من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذى هو خير ثم ليكفر عن يمينه ) { اطعام عشرة مساكين من اوسط ما تطعمون اهليكم } محل من اوسط النصب لانه صفة مفعول محذوف تقديره ان تطعموا عشرة مساكين طعاما كائنا من اوسط ما تطعمون من فى عيالكم من الزوجة والاولاد والخدم اى من اقصده فى النوع او المقدار وهو نصف صاع من بر لكل مسكين كالفطرة ولو اطعم فقيرا واحدا عشرة ايام اجزأه ولو اعطاه دفعة لا يجوز الا عن يوم واحد { او كسوتهم } عطف على اطعام فيكسو كل واحد من العشرة ثوبا يستر عامة بدنه وهو الصحيح ولا يجزىء السراويل لان لابسه يسمى عريانا عرفا { او تحرير رقبة } اى او اعتاق انسان كيف ما كان مؤمنا كان او كافرا او انثى صغيرا او كبيرا ولا يجوز الاعمى والاصم الذى لا يسمع اصلا والاخرس لفوات جنس المنفعة ومقطوع اليدين او ابهاميهما او الرجلين او يد ورجل من جانب واحد ومجنون مطبق لان الانتفاع ليس الا بالعقل ومدبر وام ولد لاستحقاقهما الحرية بجهة فكان الرق فيهما ناقصا ومكاتب ادى بعضا لانه تحرير بعوض فيكون تجارة والكفارة عبادة فلا بد ان تكون خالصة للّه تعالى وكذا لا يجوز له تركها جميعا ومتى اتى بواحدة منها فانه يخرج عن العهدة فاذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير { فمن لم يجد } اى شيأ من الامور المذكورة { فصيام } اى فكفارته صيام { ثلثة ايام } متتابعات عند الامام الاعظم { ذلك } اى الذى ذكرت لكم وامرتكم به { كفارة ايمانكم اذا حلفتم } وحنثتم { واحفظوا ايمانكم } بان تضنوا بها ولا تبذلوها لكل امر وبان تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير فان عجز عن البرّ او رأى غير المحلوف عليه خيرا منه فله حينئذ ان يحنث ويكفر كما قال الفقهاء من اليمين المنعقدة ما يجب فيه البر كفعل الفرائض وترك المعاصى لان ذلك فرض عليه فيتأكد باليمين. ومنها ما يجب فيه الحنث كفعل المعاصى وترك الواجبات وفى الحديث ( من حلف ان يطيع اللّه فليطعه ومن حلف ان يعصيه فلا يعصه ) ومنها ما يفضل فيه الحنث كهجران المسلم ونحوه وما عدا هذه الاقسام الثلاثة من الايمان التى يستوى فيها الحنث والبر يفضل فيه البر حفظا لليمين ولا فرق فى وجوب الكفارة بين العامد والناسى والمكره فى الحلف والحنث لقوله عليه السلام ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين ) { كذلك } اشارة الى مصدر الفعل الآتى لا الى تبيين آخر مفهوم مما سبق والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الاشارة من الفحامة ومحله فى الاصل النصب على انه نعت لمصدر محذوف واصل التقدير يبين اللّه تبيينا كائنا مثل ذلك التبيين فقدم على الفعل لافادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة اى مثل ذلك البيان البديع { يبين اللّه لكم آياته } اعلام شريعته واحكامه لا بيانا ادنى منه { لعلكم تشكرون } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج والاشارة ان من عقد اليمين على الهجران من اللّه تعالى فكفارته اطعامه عشرة مساكين وهم الحواس الخمس الظاهرة والباطنة فانها مدخل الآفات وموئل الفترات { من اوسط ما تطعمون اهليكم } وهم القلب والروح والسر والخفى وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والاخلاص والتفويض والتسليم والرضى والانس والهيبة والشهود والكشوف واوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والتشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء فاطعام الحواس الظاهرة والقوى الباطنة هذه الاطعمة باستعمالها فى التعبد بها والتحفظ عما ينافيها او كسوتهم وهى الباس الحواس والقوى بلباس التقوى او تحرير رقبة النفس عن عبودية الهوى والحرص على الدنيا فمن لم يجد السبيل الى هذه الاشياء فصيام ثلاثة ايام وذلك لان الايام لا خلو عن ثلاثة اما يوم مضى او يوم حضر او يوم قد بقى فصيام اليوم الذى قد مضى بالامساك عما عقد عليه او قصد اليه او بالصبر على التوبة عنه وصيام الذى قد حضر بالامساك عن التغافل عن الاهم وبالصبر على الجد والاجتهاد ببذل الجهد فى طلب المراد وصيام اليوم الذى قد بقى بالامساك عن فسخ العزيمة فى ترك الجريمة ونسخ الاخلاص فى طلب الخلاص وبالصبر على قدم الثبات فى تقديم الطاعات والمبرات وصدق التوجه الى حضرة الربوبية بمساعى العبودية مكن وقت ضايع بافسوس وحيف ... كه فرصت عزيزست والوقت سيف قال ابن الفارض قدس سره وكن صارما كالوقت فالمقت فى عيسى ... واياك علّ فهى اخطر علة وفى المثنوى اى كه صبرت نيست از دنياى دون ... جونت صبرست ازخداى دوست جون جونكه بى اين شرب كم دارى سكون ... جون زابرارى خدا وزيشرون اعلم ان الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وجلاله ان يرزقه شظية من اقباله ووصاله وذلك فى شريعة الرضى لغو وفى مذهب التسليم سهو فيعفوا عنه رحمة عليه لضعف حاله ولا يؤاخذه بمقاله وان الاولى الذوبان والجمود بحسن الرضى بحسب جريان احكام المولى فى القبول والرد والاقبال والصدّ ايثار استقامة فى اداء حقوقه على الكرامة وعلى لذة تقريبه واقباله وشهوده ووصوله ووصاله كما قال قائلهم اريد وصاله ويريد هجرى ... فاترك ما اريد لما يريد كذا فى التأويلات النجمية ٩٠ { يا ايها الذين آمنوا انما الخمر } هذه هى الآية الرابعة من الآيات الاربع التى نزلت فى الخمر وقد سبق التفصيل فى سورة البقرة ويدخل فى الخمر كل مسكر { والميسر } اى القمار كله فيدخل فيه النرد والشطرنج والاربعة عشر والكعب والبيضة وغير ذلك مما يقامرون به { والانصاب } اى الاصنام المنصوبة للعبادة واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد { والازلام } هى سهام مكتوب على بعضها امرنى ربى وعلى بعضها نهانى ربى يطلبون بها علم ما قسم من الخير والشر قال المفسرون كان اهل الجاهلية اذا اراده احدهم سفرا او غزوا او تجارة او غير ذلك طلب علم انه خير او شر من الازلام وهى قداح كانت فى الكعبة عند سدنة البيت على بعضها امرنى ربى وعلى بعضها نهانى ربى وبعضها غفل لا كتابة عليها ولا علامة فان خرج السهم الآمر مضوا على ذلك وان خرج الناهى يجتنبون عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا فمعنى الاستقسام بالازلام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم وهى جمع زلم { رجس } قذر يعاف عند العقول اى تكرهه وتنفر منه العقول السليمة. والرجس بمعنى النجس الا ان النجس يقال فى المستقذر طبعا والرجس اكثر ما يقال فى المستقذر عقلا وسميت هذه المعاصى رجسا لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشىء المستقذر { من عمل الشيطان } صفة لرجس اى رجس كائن من عمله اى من تزيينه لانه هو الداعى اليه والمرغب فيه والمزين له فى قلوب فاعليه { فاجتنبوه } اى الرجس { لعلكم تفلحون } اى راجين فلاحكم امر بالاجتناب وهو تركه جانبا وظاهر الامر على الوجوب ٩١ { انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر } وهو اشارة الى المفاسد الدنيوية اما العداوة فى الخمر فهى ان الشاربين اذا سكروا عربدوا وتشاجروا. كما فعل الانصارى الذى شج سعد بن ابى وقاص بلحى الجمل واما العداوة فى الميسر فهى ان الرجل كان يقامر على الاهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الاهل والمال مغتاظا على حرفاته والفرق بين العداوة والبغضاء ان كل عدو مبغض بلا عكس كلى. وقوله تعالى فى الخمر متعلق بيوقع على ان تكون كلمة فى هنا لافادة معنى السببية كما فى قوله عليه السلام ( ان امرأة دخلت النار فى هرة ) اى يوقع بينكم هذين الشيئين فى الخمر بسبب شربها وتخصيص الخمر والميسر تنبيها على انهما المقصودان بالبيان لان هذه الآية خطاب مع المؤمنين والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وانما ضم الانصاب والازلام اليهما مع ان تعاطيهما مختص باهل الجاهلية تأكيدا لقبح الخمر والميسر واظهارا لكون هذه الاربعة متقاربة فى المفسدة { ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلوة } اى يمنعكم عنهما وهو اشارة الى المفاسد الدينية فان شرب الخمر يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس اذا استغرقت فى اللذة غفلت عن ذكر اللّه وعن الصلاة وكذا من يقامر بالميسر ان كان غالبا صار استغراقه فى لذة الغلبة يورثه الغفلة عن العبادة وان صار مغلوبا صار شدة اهتمامه بان يختال بحيلة يصير بها غالبا مانعا من ان يخطر بباله شىء سواه وتخصيص الصلاة بالافراد مع دخولها فى الذكر للتعظيم والاشعار بان الصاد عنها كالصاد عن الايمان لما انها عماده { فهل انتم منتهون } لفظه استفهام ومعناه امر اى انتهوا وهذا نهى بألطف الوجوه ليكون ادعى الى الانتهاء فلما سمعها عمر رضى اللّه عنه قال انتهينا يا رب وحرمت الخمر فى سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة احد { واطيعوا اللّه واطيعوا الرسول } فيما امرا به وهو عطف على اجتنبوه { واحذروا } عما نهيا عنه { فان توليتم } اى اعرضتم عن الامتثال والطاعة { فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين } وقد فعل ذلك بما لا مزيدة عليه وخرج عن عهدة الرسالة اى خروج وقامت عليكم الحجة انتهت الاعذار وانقطعت العلل وما بقى بعد ذلك الا العقاب اعلم ان اللّه تعالى قرن الخمر والميسر بالاصنام ففيه تحريم بليغ لهما ولعل قوله عليه السلام ( شارب الخمر كعابد الوثن ) مستفاد من هذه الآية وفى الحديث ( من شرب الخمر فى الدنيا سقاه اللّه من سم الاساود وسم العقارب اذا شربه تساقط لحم وجهه فى الاناء قبل ان يشربها فاذا شربها تفسخ لحمه كالجيفة يتأذى به اهل الموقف ومن مات قبل ان يتوب من شرب الخمر كان حقا على اللّه ان يسقيه بكل جرعة شربها فى الدنيا شربة من صديد جهنم ) وفى الحديث ( لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة اليه وآكل ثمنها ) وفى الحديث ( من شرب الخمر بعد ان حرمها اللّه على لسانى فليس له ان يزوج اذا خطب ولا يصدق اذا حدث ولا يشفع اذا تشفع ولا يؤمن على امانة فمن ائتمنه على امانته فاستهلكها فحق على اللّه ان لا يخلف عليه ) قال الحسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره بى نمكى دان جكر آميخته ... بر جكر بى نمكان ريخته بى خبر آن مردكه جيزى جشيد ... كش قلم بى خبرى دركشيد والاشارة { يا ايها الذين آمنوا } ايمانا حقيقيا مستفادا من كتابة الحق بقلم العناية فى قلوبهم { انما الخمسر والميسر والانصاب والازلام } فاما الخمر فانها تخمر العقل وهو نور روحانى علوى من اوليات المخلوقات ومن طبعه الطاعة والانقياد والتواضع لربه كالملك وضده الهوى وهو ظلمانى نفسانى سفلى من اخريات المخلوقات ومن طبعه التمرد والمخالفة والآباء والاستكبار عن عبادة ربه كالشيطان فاذا خمر الخمر نور العقل صار مغلوبا لا يهتدى الى الحق وطريقه ثم يغلب ظلمة الهوى فتكون النفس امارة بالسوء وتستمد من الهوى فتتبع بالهوى السفلى جميع شهواتها النفسانية ومستلذاتها الحيوانية السفلية فيظفر بها الشيطان فيوقعها فى مهالك المخالفات كلها ولهذا قال عليه السلام ( الخمر ام الخبائث ) لان هذه الخبائث كلها تولدت منها واما الميسر فان فيه تهيج اكثر الصفات الذميمة وهى الحرص والبخل والكبر والغضب والعداوة والبغض والحقد والحسد واشباهها وبها يضل العبد عن سواء السبيل واما الانصاب فهى تعبد من دون اللّه فهى تصير العبد مشركا باللّه واما الازلام فما يلتفت اليه عند توقع الخير والشر والنفع والضر من دون اللّه تعالى من المضلات فان اللّه هو الضار والنافع ثم قال تعالى { رجس من عمل الشيطان } يعنى هذه الاشياء اخبث شىء من اعمال الشيطان التى يغوى بها العباد ويضلهم عن صراط الحق وطريق الرشاد { فاجتنبوه } اى اجتنبوا الشيطان ولا تقبلوا وساوسه واتركوا هذه الاعمال الخبيثة { لعلكم تفلحون } تخلصون من مكايد الشيطان وخباثة هذه الاعمال كذا فى التأويلات النجمية ٩٣ { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } اى اثم وحرج { فيما طعموا } اى تناولوا اكلا او شربا فيتناول شرب الخمر واكل مال الميسر فانزل اللّه تعالى هذه الآية { اذا ما اتقوا } ان يكون فى ذلك شىء من المحرمات { وآمنوا وعملوا الصالحات } اى واستمروا على الايمان والاعمال الصالحة { ثم اتقوا } عطف على اتقوا داخل معه فى حيز الشرط اى اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق { وآمنوا } اى بتحريمه { ثم اتقوا } اى ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على ان الشروط بالاتقاء فى كل مرة اباحة كل ما طعموه فى ذلك الوقت لا اباحة كل ما طعموه قبله لانتساخ اباحة بعضه حينئذ { واحسنوا } اى عملوا الاعمال الحسنة الجميلة المنتظمة لجميع ما ذكر من الاعمال القلبية والقالبية { واللّه يحب المحسنين } فلا يؤاخذهم بشىء وفيه ان من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار للّه محبوبا ومقام المحبوبية فوق جميع المراتب ولذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حبيب اللّه وقد فسر الاحسان ( بان تعبد اللّه كأنك تراه ) يعنى ان الاحسان مرتبة المشاهدة فاذا ترقى العبد من الايمان الغيبى الى الايمان الشهودى ثم فنى عن كل قيد حتى عن الاطلاق فقد تم امره وكان طعمه وشربه وتصرفه فى المكونات مما لا يضره لانه قد استوفى الشرائط كلها فلا يقاس عليه غيره ثم ان المحسن يتناول كل اهل ويستحق المدح والثناء : وفى المثنوى محسنان مردندو احسانها بماند ... اىخنك آن راه اين مركب براند ظالمان مردندو ماند آن ظلمها ... واى جانى كوكند مكرودهان كفت بيغمبر خنك آنراكه او ... شد زدنيا ماندازو فعل نكو مرد محسن ليك احسانش نمرد ... نزديزدان دين واحسان نيست خرد واى آن كو مرد وعصيانش نمرد ... تانبندارى بمرك او جان ببرد وورد فى فضائل عشر ذى الحجة ( ان من تصدق فى هذه الايام بصدقة على مسكين فكأنما تصدق على رسل اللّه وانبيائه ومن عاد فيه مريضا فكأنما عاد اولياء اللّه وبدلاءه ومن شيع جنازة فكأنما شيع جنائز شهداء بدر ومن كسا مؤمنا كساه اللّه تعالى من حلل الجنة ومن ألطف يتيما اظله اللّه فى القيامة تحت عرشه ومن حضر مجلسا من مجالس العلم فكأنما حضر مجالس انبياء اللّه ورسوله ) كذا فى روضة العلماء : قال السعدى قدس سره باحسانى آسوده كردن دلى ... به ازالف ركعت بهر منزلى حكى انه وقع القحط فى بنى اسرائيل فدخل فقير سكة من السكك وكان فيها بيت غنى فقال تصدقوا على لاجل اللّه فاخرجت اليه بنت الغنى خبزا حارا فاستقبله الغنى فقال من دفع اليك هذا الخبز فقال ابنة من هذا البيت فدخل وقطع يد ابنته اليمنى فحول اللّه حاله فافتقر ومات فقيرا ثم ان شابا غنيا استحسن الابنة لكونها حسناء فتزوجها وادخلها داره فلما جن الليل احضرت مائدة فمدت اليد اليسرى فقال الفتى سمعت ان الفقراء يكونون قليلى الادب فقال مدى يدك اليمنى فمدت اليسرى ثانيا وثالثا فهتف بالبيت هاتف اخرجى يدك اليمنى فالرب الذى اعطيت الخبز لاجله رد عليك يدك اليمنى فاخرجت يدها اليمنى بامر اللّه تعالى واكلت معه كذا فى الروضة تونيكى كن بآب انداز اىشاه ... اكر ماهى نداند داند اللّه ٩٤ { يا ايها الذين آمنوا } نزلت عام الحديبية فى السنة السادسة من الهجرة. والحديبية بتخفيف الياء الاخيرة وقد تشدد موضع قريب من مكة اراد عليه السلام زيارة الكعبة فسار مع اصحابه من المدينة وهم الف وخمسمائة واربعون رجلا فنزلوا بالحديبية فابتلاهم اللّه بالصيد وهم محرومون كانت الوحوش تغشاهم فى رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدها اخذا بايديهم وطعنا برماحهم فهموا باخذها فانزل اللّه { يا أيها الذين آمنوا } { ليبلونكم اللّه } يقال بلوته بلوا جربته واختبرته واللام جواب قسم محذوف اى واللّه ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف احوالكم { بشىء من الصيد } اى بتحريم شىء حقير هو الصيد بمعنى المصيد كضرب الامير فمن بيانية قطعا والمراد صيد البر مأكولا وغير مأكول ما عدا المستثنيات من الفواسق فاللام للعهد وفى الحديث ( خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور ) واراد بالكلب العقور الذئب على ما ورد فى بعض الروايات { تناله ايديكم ورماحكم } اى تصل اليه ايديكم ورماحكم بحيث تأخذون بايديكم وتطعنون برماحكم فالتأكيد القسمى فى ليبلونكم انما هو لتحقيق ما وقع من ان عدم توحش الصيد عنهم ليس الا لابتلائهم لا لتحقيق وقوع المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شىء للتحقير المؤذن بان ذلك ليس من الفتن الهائلة التى تزل فيها اقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الانفس واتلاف الاموال وانما هو من قبيل ما ابتلى به اهل ايلة من صيد السمك يوم السبت وفائدته التنبيه على ان من لم يتثبت فى مثل هذا كيف يتثبت عند ما هو اشد منه من المحن { ليعلم اللّه من يخافه بالغيب } الخوف من اللّه بمعنى الخوف من عقابه وبالغيب حال من مفعول يخافه وهو عقاب اللّه اى ليتميز الخائف من عقابه الاخروى وهو غائب مترقب لقوة ايمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخاف كذلك لضعف ايمانه فيقدم عليه فعلم اللّه تعالى لما كان مقتضى ذاته وامتنع عليه التجدد والتغير كما امتنع ذلك على ذاته جعل ههنا مجازا عن تميز المعلوم وظهوره على طريق اطلاق السبب على المسبب حيث قال القاضى ذكر العلم واراد وقوع المعلوم وظهوره وابو السعود انما عبر عن ذلك بعلم اللّه اللازم له ايذانا بمدار الجزاء ثوابا وعقابا فانه ادخل فى حملهم على الخوف { فمن اعتدى بعد ذلك } اى بعد بيان ان ما وقع ابتلاء من جهته تعالى بما ذكر من الحكمة والمعنى فمن تعرض للصيد بعد ما بينا ان ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤدّ الى تميز المطيع من العاصى { فله عذاب اليم } لان الاعتداء بعد ذلك مكابرة صريحة وعدم مبالاة بتدبير اللّه وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية والمراد عذاب الآخرة ان مات قبل التوبة والتعزير والكفارة فى الدنيا بنزع ثيابه فيضرب ضربا وجيعا مفرقا فى اعضائه كلها ما خلا الوجه والرأس والفرج ويؤمر بالكفارة والاشارة فى الآية ان اللّه تعالى جعل البلاء للولاء كاللّهب للذهب فقال { يا ايها الذين آمنوا } ايمان المحبين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها من الحلال واحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال { ليبلونكم اللّه } فى اثناء السلوك { بشىء من الصيد } وهو ما سنح من المطالب النفسانية الحيوانية والمقاصد الشهوانية الدنيوية { تناله ايديكم } اى ما يتعلق بشهوات نفوسكم ولذات ابدانكم { ورماحكم } اى ما يتعلق بالمال والجاه { ليعلم اللّه من يخافه بالغيب } وهو يعلم ويرى اى ليظهر اللّه ويميز بترك المطالب والمقاصد فى طلب الحق من يخافه بالغيبة والانقطاع عنه ويحترز عن الالتفات لغيره { فمن اعتدى بعد ذلك } اى تعلق بالمطالب بعد الطلب { فله عذاب اليم } من الرد والصد والانقطاع عن اللّه كذا فى التأويلات النجمية قال اوحد المشايخ فى وقته ابو عبد اللّه الشيرازى قدس سره رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى المنام وهو يقول من عرف طريقا الى اللّه فسلكه ثم رجع عنه عذبه اللّه بعذاب لم يعذب به احدا من العالمين يقول الفقير سمى الذبيح الحقى غفر اللّه ذنوبه انما كان عذابه اشد لانه رجع عن طريقه بعد معرفته انه الحق الموصل الى اللّه تعالى وليس من يعلم كمن لا يعلم وسبب الرجوع الامتحانات فى الطريق : قال فى المثنوى قلب جون آمد سيه شد در زمان ... زر درآمدشد زرىء اوعيان دشت وبا انداخت زردربوته خش ... در رخ آتش همى خندد رخش قال الحافظ ترسم كزين جمن نبرى آستين كل ... كز كلشنش تحمل خارى نميكنى فينبغى للطالب الصادق ان يتحمل مشاق الرياضات ويزكى نفسه عن الشهوات ويحترز عن اكل ما يجده من الحلال فضلا عما حرم اللّه الملك المتعال فان اصلاح الطبيعة والنفس وان كان بفضل اللّه وعنايته لكن الصوم وتقليل الطعام من الاسباب القوية فى هذا الباب يحكى ان سالكا خاطب نفسه بعد رياضات شديدة فقال من انت ومن انا فقالت له نفسه انت انت وانا انا فاشتغل بالتزكية ثانيا حتى حج ماشيا مرات فسأل ايضا فاجابت بما اجابت به اولا فاشتغل اشد من الاول وعالجوا بتقليل الطعام حتى امات نفسه فسأل من انت فقالت انت انت وانا صرت فانية ولم يبق من وجودى اثر فاستراح بعون اللّه تعالى وسئل حضرة المولوى هل يعصى الصوفى قال لا الا ان يأكل طعاما قبل الاشتهاء فانه سم له وداء اللّهم اعنا على اصلاح هذه النفس الامارة ٩٥ { يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد } وهو عند ابى حنيفة اسم لكل ممتنع متوحش من الحيوانات سواء كان مأكول اللحم او لم يكن والمراد ما عدا الفواسق وهى العقرب والحية والغراب والفارة والكلب العقور فانها تقتل فى الحل والحرم { وانتم حرم } جمع حرام وهو المحرم وان كان فى الحل وفى حكمه من فى الحرم وان كان حلالا اى لابس حله فالمحرم لا يتصيد اصلا سواء كان فى الحل او فى الحرم بالسلاح او بالجوارح من الكلاب والطير والحلال يتصيد فى الحل دون الحرام اى حرم مكة ومقداره من قبل المشرق ستة اميال ومن الجانب الثانى اثنا عشر ميلا ومن الجانب الثالث ثمانية عشر ميلا ومن الجانب الرابع اربعة وعشرون ميلا هكذا قال الفقيه ابو جعفر. وانما ذكر القتل دون الذبح للايذان بكونه فى حكم الميتة فكل ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون مذكى وغير المذكى لا يجوز اكله والمعنى لا تقتلوه والحال انتم محرمون { ومن } شرطية { قتله } اى الصيد المعهود البرى مأكولا كان او غير مأكول حال كون القاتل كائنا { منكم } اى من المؤمنين ولعل المقصود من التقييد بالحال توبيخ المؤمن على عدم جريانه على مقتضى ايمانه { متعمدا } حال ايضا من فاعل قتله اى ذاكرا لاحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله والتقييد بالتعمد مع ان محظورات الاجرام يستوى فيها الخطأ والعمد لان الاصل فعل المتعمد والخطأ لاحق به للتغليظ { فجزاء } اى فعليه جزاء وفدية { مثل ما قتل } اى مماثل لما قتل فهو صفة الجزاء والمراد به عند ابى حنيفة وابى يوسف المثل باعتبار القيمة لا باعتبار الخلقة والهيئة فيتقوم الصيد حيث صيد اوفى اقرب الاماكن اليه ان قتل فى بر لا يباع ولا يشترى فيه فان بلغت قيمته قيمة هدى تخير الجانى بان يشترى بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه الى الحرم وبين ان يشترى بها طعاما فيعطى كل مسكين نصف صاع من بر او صاعا من تمر وبين ان يصوم عن طعام كل مسكين يوما فان فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به او صام عنه يوما كاملا لان الصوم مما لا يتبعض فيكون قوله تعالى { من النعم } بيانا للّهدى المشترى بالقيمة على احد وجوه التخيير فان فعل ذلك يصدق عليه انه جزى بمثل ما قتل من النعم والنعم فى اللغة من الابل والبقر والغنم فاذا انفردت الابل قيل انها نعم واذا انفردت البقر والغنم لم تسم نعما { يحكم به } اى بمثل ما قتل صفة لجزاء { ذوا عدل منم } اى رجلان عدلان من المسلمين { هديا } الهدى ما يهدى الى البيت تقربا الى اللّه تعالى من النعم ايسره شاة واوسطه بقرة واعلاه بدنة اى ناقة وهو حال مقدرة من الضمير فى به والمعنى مقدرا انه يهدى { بالغ الكعبة } صفة لهديا لان الاضافة لفظية والاصل بالغا الكعبة ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم حتى لو دفع الهدى المماثل للمقتول الى فقراء الحرم لم يجز بالاتفاق بل يجب عليه ذبحه فى الحرم وله ان يتصدق به بعد ذبحه فى الحرم حيث شاء عند ابى حنيفة { او كفارة } عطف على محل من النعم على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة ثانية لجزاء { طعام مساكين } عطف بيان لكفارة عند من لا يخصصه بالمعارف { او عدل ذلك صياما } عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاء مماثل للمقتول هو من النعم او طعام مساكين او صيام ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدى والطعام والصيام. اما الاولان فبلا واسطة. واما الثالث فبواسطة الثانى فيختار الجانى كلا منها بدلا من الآخرين قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه والعدل بالفتح المثل من غير جنسه فعدل الشىء ما عادله من جنسه كالصوم والاطعام وعدله ما عدل به فى المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك اشارة الى الطعام وصياما تمييز للعدل والخيار فى ذلك للجانى عند ابى حنيفة وابى يوسف وللحكمين عند محمد { ليذوق } متعلق بالاستقرار فى الجار والمجرور اى فعليه جزاء ليذوق قاتل الصيد { وبال امره } اى سوء عاقبة هتكه لحرمة الاحرام والوبال فى الاصل المكروه والضرر الذى ينال فى العاقبة من عمل سولته نفسه { عفا اللّه عما سلف } من قتل الصيد محرما قبل التحريم { ومن عاد } الى قتل الصيد بعد النهى عنه وهو محرم ومن شرطية { فينتقم اللّه منه } اى فهو ممن ينتقم اللّه منه لان الفعل اذا وقع جزاء لا يحتاج الى الحرف بخلاف الجملة الاسمية فقدر المبتدأ لئلا تصير الفاء الجزائية لغوا والمراد بالانتقام التعذيب فى الآخرة واما الكفارة فعن بعضهم انها واجبة على العائد وعن بعضهم انه لا كفارة عليه تعلقا بالظاهر واصل الانتقام الانتصار والانتصاف واذا اضيف الى اللّه تعالى اريد به المعاقبة والمجازاة { واللّه عزيز } غالب لا يغالب { ذو انتقام } شديد ممن اصر على العصيان والاعتداء قال اللّه تعالى مخاطبا لخليله [ يا ابراهيم خف منى كما تخاف من السبع الضارى ] يعنى ان اللّه تعالى اذا اراد اجراء قضائه على احد لا يفرق بين نبى وولى وعدو كما لا يفرق السبع المفترس بين نفاع وضرار فهو تعالى شديد البطش فكيف يتخلص المجرمون من يد قهره وانتقامه فليحذر العاقل من المخالفة والعصيان بقدر الاستطاعة والامكان اينما كان فان الانسان لا يحصد الا ما يزرع : قال فى المثنوى جمله دانند اين اكر تونكروى ... هرجه مى كاريش روزى بدروى والعجب ان الانسان الضعيف كيف يعصى اللّه القوى وليس الا من الانهماك فى الشهوات والغفلة عن اللّه تعالى والنكتة فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وانتم حرم } انه اباح الصيد لمن كان حلالا وهم اهل السلو من العوام الذين رضوا من الكمالات الدينية بالاعمال البدنية من قصور هممهم الدنية وحرم الصيد على من كان حراما وهم اهل المحبة المحرومون من الدنيا لزيارة كعبة الوصلة يعنى من قصدنا فعليه بحسم الاطماع جملة ولا ينبغى ان يكون له مطالبة بحال من الاحوال الا طلب الوصال ويقال العارف صيد الحق ولا يكون للصيد صيد { ومن قتله منكم } اى من الطلاب اذا التفت لشىء من الدنيا { متعمدا } وهو واقف على مضرته وعالم بما فيه فيغلب عليه الهوى ويقع فيه بحرص النفس { فجزاء مثل ما قتل من النعم } يجازى نفسه برياضة ومجاهدة ويماثل ألمها تلك اللذة والشهوة { يحكم به ذوا عدل منكم } وهو القلب والروح يحكمان على مقدار الايمان وعلى انواع الرياضات بتقليل الطعام والشراب او ببذل المال او بترك الجام او بالعذلة والخلوة وضبط الحواس { هديا بالغ الكعبة } اى خالصا للّه تعالى فيما يعمل بحيث يصلح لقبول الحق من غير ملاحظة الخلق { او كفارة طعام مساكين } وهم العقل والقلب والسر والروح والخفى فانهم كانوا محرمين من اغذيتهم الروحانية من صدق التوجه الى الحق وخلوص الاعراض عن الخلق وتجرع الصبر على المكروهات والفطام عن المألوفات والشكر على الموهوبات والرضى بالمقدرات والتسليم للاحكام الازليات { او عدل ذلك صياما } والصيام هو الامساك عن ملاحظة الاغيار وطلب الاختيار والركون الى غير الملك الجبار { ليذوق } النفس الامارة { وبال امره } اى تتألم بألم هذه المعاملات التى على خلاف طبعها جزاء وكفارة لما نالت من لذائذ الشهوات وحلاوة الغفلات { عفا اللّه عما سلف } من الطالبين قبل اقدامهم على الطلب { ومن عاد } الى تعلق شىء من الدنيا بعد الخروج عنها بقدم الصدق { فينتقم اللّه منه } بالخذلان فى الدنيا والخسران فى العقبى { واللّه عزيز } لا يوجد لمن تعلق بالكونين حتى يتجرد الطالب عن القليل والكثير والصغير والكبير { ذو انتقام } ينتقم من احبائه باحتجاب التعزز بالكبرياء والعظمة على قدر ألتفاتهم الى غيره وملاحظتهم ما سواه وينتقم من اعدائه بما قاله { ونقلب افئدتهم وابصارهم } الآية من التأويلات النجمية وفى المثنوى عاشق صنع توام درشكروصبر ... عاشق مصنوع كىباشم جوكبر عاشق صنع خدا بافر بود ... عاشق مصنوع او كافر بود فعلى الطالب الصادق ان ينقطع عن الالتفات الى الغير ويتصل الى من بيده الخير واللّه الموفق والمعين ٩٦ { احل لكم } الخطاب للمحرمين { صيد البحر } اى ما يصاد فى المياه كلها بحرا كان او نهرا او غديرا وهو ما لا يعيش الا فى الماء مأكولا كان او غير مأكول فما يعيش فى البر والبحر كالبط والضفدع والسرطان والسلحفاة وجميع طيور الماء لا يسمى صيد البحر بل كل ذلك صيد البر ويجب الجزاء على قاتله قال الامام جميع ما يصطاد فى البحر ثلاثة اجناس. السمك وجميع انواعه حلال. والضفادع وجميع انواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين الجنسين فقال ابو حنيفة انه حرام وقال الاكثرون انه حلال لعموم هذه الآية وقال محيى السنة جملة حيوانات الماء على قسمين سمك وغيره. اما السمك فميتته حلال مع اختلاف انواعها قال النبى عليه الصلاة والسلام ( احلت لنا ميتتان السمك والجراد ) ولا فرق بين ان يموت بسبب او بغير سبب وعند ابى حنيفة يحل الا ان يموت بسبب من وقوع على حجر او انحسار الماء عنه ونحو ذلك. واما غير السمك فقسمان قسم يعيش فى البر كالضفدع والسرطان ولا يحل اكله وقسم يعيش فى الماء ولا يعيش فى البر الا عيش المذبوح فاختلف فيه فذهب قوم الى ان لا يحل شىء منها الا السمك وهو قول ابى حنيفة وذهب قوم الى ان ميتة الكل حلال لان كلها سمك وان اختلف صورها كالجريث يقال له حية الماء لكونه على شكل الحية واكله مباح بالاتفاق { وطعامه } اى طعام البحر وهو ما قذفه البحر ولفظه او نضب عنه الماء اى غار وبقى هو فى ارض يابسة فيؤخذ من غير معالجة فى اخذه وقال المولى ابو السعود { وطعامه } اى ما يطعم من صيده وهو تخصيص بعد التعميم والمعنى احل لكم التعرض لجميع ما يصاد فى المياه والانتفاع به انتهى { متاعا لكم } نصب على انه مفعول له قال المولى ابو السعود مختص بالطعام كما ان نافلة فى قوله تعالى { ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة } حال مختصة بيعقوب اى احل لكم طعامه تمتعا للمقيمين يأكلونه طريا { وللسيارة } منكم يتزودونه قديدا { وحرم عليكم صيد البر } وهو ما يفرخ فيه وان كان يعيش فى الماء فى بعض الاوقات كطير الماء { ما دمتم حرما } ما مصدرية ظرفية اى مدة دوامكم محرمين لا خلاف فى الاصطياد انه حرام على المحرم فى البر فاما عين الصيد فظاهر الآية يوجب حرمة ما صاد الحلال على المحرم وان لم يكن له مدخل فيه لكن مذهب ابى حنيفة انه يحل له ما صاده الحلال وان صاده لاجله اذا لم يشر اليه ولم يدل عليه وكذا ما ذبحه قبل احرامه لان الخطاب للمحرمين وكأنه قيل حرم عليكم ما صدتم فى البر فيخرج منه مصيد غيرهم { واتقوا اللّه } فيما نهاكم عنه من جميع المعاصى التى من جملتها اخذ الصيد فى الاحرام { الذى اليه تحشرون } لا الى غيره حتى يتوهم الخلاص من اخذه تعالى بالالتجاء اليه كما قال تعالى { الى ربك يومئذ المساق } اى المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الى حيث امرهم اللّه اما الى الجنة واما الى السعير وفى الحديث ( من اشتاق الى الجنة سارع الى الخيرات ومن اشفق من عذاب جهنم كف نفسه عن المحرمات ومن زهد فى الدنيا هانت عليه المصيبات ) ومن اراد سهولة الموت فليبادر الى الخيرات فمن لم يترك شهوة لم يرض عنه ربه بطاعته ومن لم يتق اللّه فى سره لم ينتفع بما ابداه من علامة التقوى : وفى المثنوى كافرم من كرزيان كردست كس ... درره ايمان وطاعت يكنفس كار تقوى دارد ودين وصلاح ... كه بدان باشد بدوعالم فلاح والاشارة فى الآية { احل لكم } ايها المستغرقون فى بحر الحقائق { صيد البحر } ما تصيدون من بحر المعرفة بالمشاهدات والكشوف { وطعامه متاعا لكم وللسيارة } يعنى تشبعون بما يرد عليكم من وارد الحق وتجلى الصفات كما قال عليه السلام ( ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى ) وتطعمون منه السائرين الى اللّه من اهل الارادة كقوله تعالى { فكلوا منها واطعموا البائس الفقير } وهذا حال المشايخ واهل التربية من العلماء الراسخين { وحرم عليكم } ايها الطلاب { صيد البر } وهو ما سنح فى اثناء السير الى اللّه من مطالب الدنيا والآخرة كما قال عليه السلام ( الدنيا حرام على اهل الآخرة والآخرة حرام على اهل الدنيا وكلتاهما حرامان على اهل اللّه ) { ما دمتم حرما } اى ما دمتم محرمين الى كعبة الوصول متوجهين الى حضرة الوصال فان حكم المتوجه ينافى حكم الواصل الكامل لان من وصل صار محوا والمتوجه صاح وبون بين الصاحى والماحى فان افعال الصاحى به ومنه واحوال الماحى ليست به ولا منه واللّه غالب على امره فبى يسمع وبى ينطق وبى يبطش ولهذا قال تعالى { واذا حللتم فاصطادوا } اى اذا فرغتم من مناسك الوصول وسلكتم مسالك الاصول سقط عنكم كلف المحرمين ومؤونات المسافرين وثبت لكم لزوم العاكفين واحكام الطائفين كما قال { واتقوا اللّه الذى اليه تحشرون } يعنى اتقوا باللّه الذى اليه تجمعون وتصلون عما سواه لكيلا تحوروا بعدما تكوروا نعوذ باللّه من الحور بعد الكور كذا فى التأويلات النجمية المسماة ببحر الحقائق اللّهم افض علينا من بركات اوليائك وادر علينا من كاسات احبائك واودائك ٩٧ { جعل اللّه الكعبة } اى صيرها وانما سمى البيت كعبة لتكعبه اى لتربعه والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة تشبيها له بكعب الرجل الذى عند ملتقى الساق والقدم فى كونه على هيئته فى التربيع. وقيل سميت كعبة لارتفاعها عن الارض واصلها من الخروج والارتفاع وسمى الكعب كعبا لنتوه وخروجه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية اذا قاربت البلوغ وخرج ثدياها كاعب والكعبة لما ارتفع ذكرها فى الدنيا واشتهر امرها فى العالم سميت بهذا الاسم ولذلك انهم يقولون لمن عظم قدره وارتفع شأنه فلان علا كعبه قال صاحب اسئلة الحكم جعل اللّه لبيته العتيق اربعة اركان وهى فى الحقيقة ثلاثة اركان لانه شكل مكعب ولذلك سميت بالكعبة تشبيها بالكعب فسرّ كونه على اربعة اركان بالوضع الحادث اشارة الى قلوب المؤمنين لان قلب المؤمن لا يخلو من اربعة خواطر آلهى وملكى ونفسانى وشيطانى فركن الحجر بمنزلة الخاطر الالهى واليمانى بمنزلة الملكى والشامى بمنزلة النفسانى والركن العراقى بمنزلة الشيطانى لان الشرع شرع ان يقال عنده اعوذ باللّه من الشقاق والنفاق وبالذكر المشروع تعرف مراتب الاركان واما سر كونه مثلث الشكل المكعب فاشارة الى قلوب الانبياء عليهم السلام ليميز اللّه رسله وانبياءه بالعصمة التى اعطاهم والبسهم اياها فليس لنبى الا ثلاثة خواطر الهى وملكى ونفسى ولغيرهم هذه وزيادة الخاطر الشيطانى فمنهم من ظهر حكمه عليه فى الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر فى ظاهره وهم المحفوظون من اوليائه بالعصمة الوجوبية للانبياء والحفظ الجوازى للاولياء { البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة كذلك وسمى البيت الحرام لان اللّه تعالى حرمه وعظم حرمته فالحرام بمعنى المحرم وفى الحديث ( ان اللّه تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والارض ) قال بان ملك اعلم ان مكة شرفها اللّه حرمها ابراهيم عليه السلام لما صح عن النبى عليه الصلاة والسلام انه قال ( ان ابراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة ) وما روى انه عليه السلام قال ( ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات ) فالمراد به كتابته فى اللوح المحفوظ ان ابراهيم سيحرمه انتهى كلامه يقول الفقير ان حرمته العرضية وان كانت حادثة لكن حرمته الذاتية قديمة وتلك الكتابة من الحرمة الذاتية عند الحقيقة وقد جاء فى بعض التفاسير فى قوله تعالى { ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين } انه لم يجبه بهذه المقالة من الارض الا ارض الحرم فلذلك حرمها فصارت حرمتها كحرمة المؤمن انما حرم دمه وعرضه وماله بطاعته لربه فارض الحرم لما قالت اتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها فلا حرمة الا لذى طاعة وفى الخبر ( لم يأكل الحيتان الكبار صغارها فى ارض الحرم فى الطوفان لحرمتها ) { قياما للناس } مفعول ثان للجعل ومعنى كونه قياما لهم انه مدار لقيام امر دينهم ودنياهم. اما الاول فلانه يتوجه اليه الحجاج والعمار فيكون ما فى البيت من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة سببا لحط الخطيآت وارتفاع الدرجات ونيل الكرامات. واما الثانى فلانه يجبى الى الحرم ثمرات كل شىء يربح فيه التجار وكانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض لهم احد بسوء فى الحرم حتى ان الرجل اذا اصاب ذنبا فى الجاهلية والاسلام او قتل قتيلا لجأ الى الحرم ويأمن فيه : قال المحيى فى فتوح الحرمين مدحا لحضرة الكعبة هيج نبى هيج ولى هم نبود ... كه اونه برين دررخ اميد سود هادىء ره نيست بجزلطف دوست ... آمدنت را طلب از نزد اوست تا نز ند سر ز جمن نو كلى ... نغمه سرا يى نكند بلبلى { والشهر الحرام } اى وجعل الشهر الحرام الذى يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة قياما لهم ايضا فالمفعول الثانى محذوف ثقة بما مر ووجه كون الشهر الحرام سببا لقيام الناس ان العرب كان يتعرض بعضهم لبعض بالقتل والغارة فى سائر الاشهر فاذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على سفر الحج والتجارات آمنين على انفسهم واموالهم فكان سببا لاكتساب منافع الدين والدنيا ومصالح المعاش والمعاد وقد فضل اللّه الاشهر والايام والاوقات بعضها على بعض كما فضل الرسل والامم بعضها على بعض لتبادر النفوس وتسارع القلوب الى ادراكها واحترامها وتتشوق الارواح الى احيائها بالتعبد فيها ويرغب الخلق فى فضائلها قال الامام النيسابورى عشر ذى الحجة افضل الايام واحبها عند اللّه تعالى بعد شهر رمضان لانها هى التى ناجى فيها كليم اللّه موسى ربه وفيها احرم جميع الخلق بالحج ووجد آدم التوبة فى ايام العشر واسماعيل الفداء وهود النجاة ونوح الانجاء ومحمد الرسالة واصحابه الرضوان فى البيعة وبشارة خيبر وفتح الحديبية ونزول المغفرة بقوله تعالى { ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر } وغير ذلك من الآيات والكرامات وصيام يوم من العشر كصيام الف يوم وقيام ليلة منها كعبادة من حج واعتمر طول سنته فصوم هذا العشر مستحب استحبابا شديدا لا سيما التاسع وهو يوم عرفة لكن يستحب الفطر يوم عرفة للحجاج لئلا يلحقهم فتور عن اداء الطاعات المشروعة فى ذلك اليوم ويؤدوها عل الحضور والكمال وفى الحديث ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت انا والنبيون لا اله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ) { والهدى } اى وجعل اللّه الهدى ايضا قياما لهم وهو ما يهدى الى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه بين الفقراء فانه نسك المهدى وقوام لمعيشة الفقراء فكان سببا لقيام امر الدين والدنيا يقول الفقير ومنه يعرف ان المقصود من القربان دفع حاجة الفقراء ولذا يستحب للمضحى ان يتصدق باكثر اضحيته بل بكلها هر كسى از همت والاى خويش ... سود برد اودرخور كالاى خويش وللحجاج يوم عيد القربان مناسك الذهاب من منى الى المسجد الحرام فلغيرهم الذهاب الى المصلى موافقة لهم والطواف فلغيرهم صلاة العيد لقوله عليه السلام ( الطواف بالبيت صلاة ) واقامة السنن من الحلق وقص الاظفار ونحوها فلغيرهم ازالة البدعة واقامة السنة والقربان فلغيرهم ايضا ذلك ولكن ليس كل مال يصلح لخزانة الرب ولا كل قلب يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب : وفى المثنوى آن تو كل كو خليلان ترا ... تا نبرد تيغت اسماعيل را آن كرامت جون كليمت ازكجا ... تا كنى شهراه قعرنيل را { والقلائد } اى وجعل للّه القلائد ايضا قياما للناس وهى جمع قلادة وهى ما يقلد به الهدى من نعل او لحاء شجر ليعلم به انه هدى فلا يتعرض له بركوب او حمل والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهى البدن وهى الناقة والبقرة مما يجوز فى الهدى والاضاحى وخصت بالذكر لان الثواب فيها اكثر وبهاء الحج بها اظهر ولذا ضحى عمر رضى اللّه عنه بنجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار لقوله تعالى { ومن يعظم شعائر اللّه فانها من تقوى القلوب } ووجه كون القلائد سببا لقيام الناس ان من قلد هديا لم يتعرض له احد وربما كانوا يقلدون رواحلهم اذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك وكان اهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدى والقلائد فلا يتعرض له تعظيما له { ذلك } اشارة الى الجعل منصوب بفعل مقدر اى شرع اللّه ذلك وبين { لتعلموا ان اللّه يعلم ما فى السموات وما فى الارض } فان تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلب المنافع الاولوية والاخروية من اوضح الدلائل على حكمة الشارع وعلى عدم خروج شىء من علمه المحيط { وان اللّه بكل شى عليم } تعميم بعد تخصيص للتأكيد ٩٨ { اعلموا ان اللّه شديد العقاب } وعيد لمن انتهك محارمه وآصر على ذلك { وان اللّه غفور رحيم } وعد لمن حافظ على مراعاة حرمانه تعالى او انقطع عن الانتهاك بعد تعاطيه ٩٩ { ما على الرسول الا البلاغ } اى تبليغ الرسالة فى امر الثواب والعقاب وهو تشديد فى ايجاب القيام بما امر به اى الرسول قد اتى بما وجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد فى التفريط { واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون } اى ما تظهرون من القول والعمل وما تخفون فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا : قال السعدى قدس سره بروعلم يك ذره بوشيده نيست ... كه بنهان وبيدا بنزدش يكيست والاشارة فى الآية ان اللّه تعالى كما جعل الكعبة فى الظاهر قياما للعوام والخواص يلوذون به ويستنجحون بالتضرع والابتهال هناك حاجاتهم الدنيوية والاخروية كذلك جعل كعبة القلب فى الباطن قياما للخواص وخواص الخواص ليلوذوا به بطريق دوام الذكر ونفى الخواطر بالكلية واثبات الحق بالربوبية والواحدية بان لا موجود الا هو ولا وجود الا له ولا مطلوب ولا محبوب الا هو وسماه البيت الحرام ليعلم انه بيت اللّه على الحقيقة وحرام ان يسكن فيه غيره فيراقبه عن ذكر ما سوى الحق وحبه وطلبه الى ان يفتح اللّه ابواب فضله ورحمته والشهر الحرام هو ايام الطلب والسير الى اللّه حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق والهدى هو النفس البهيمية تساق الى كعبة القلب مع القلائد وهى اركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ولذاتها الحيوانية وفى قوله تعالى { ذلك لتعلموا } الآية اشارة الى ان العبد اذا وصل الى كعبة القلب فيرى بيت اللّه ويشاهد انوار الجمال والجلال فتلك الانوار يشاهد ما فى السموات وما فى الارض لانه ينظر بنور اللّه فيعلم على التحقيق { ان اللّه يعلم ما فى السموات وما فى الارض وان اللّه بكل شىء عليم } { اعلموا ان اللّه شديد العقاب } يسدل الحجاب لغير الاحباب ممن ركنوا الى الدنيا واغتروا بزينتها وشهواتها { وان اللّه غفور رحيم } لطالبيه وقاصدى حضرته بفتح الابواب ورفع الحجاب { ما على الرسول الا البلاغ } بالقال والحال { واللّه يعلم ما تبدون } من الايمان باقدار اللسان وعمل الاركان { وما تكتمون } من تصديق الجنان او التكذيب وصدق التوجه وخلوص النية فى طلب الحق كذا فى التأويلات النجمية ١٠٠ { قل لا يستوى الخبيث والطيب } نزلت فى حجاج اليمامة لما هم المسلمون ان يوقعوا بهم بسبب انه كان فيهم الحطيم وقد اتى المدينة فى السنة السابقة واستاق سرح المدينة فخرج فى العام القابل وهو عام عمرة القضاء حاجا فبلغ ذلك اصحاب السرح فقالوا للنبى عليه السلام هذا الحطيم خرج حاجا مع حجاج اليمامة فخل بيننا وبينه فقال عليه السلام ( انه قلد الهدى ) ولم يأذن لهم فى ذلك بسبب استحقاقهم الا من بتقليد الهدايا فنزلت الآية تصديقا له عليه السلام فى نهيه اياهم عن تعرض الحجاج وان كانوا مشركين وقد مضت هذه القصة فى اول السورة عند قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه } الآية وبقى حكم هذه الآية الى ان نزلت سورة البراءة فنسخ بنزولها لانه قد كان فيها { انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وفيها { اقتلوا المشركين } فنسخ حكم الهدى والقلائد والشهر الحرام والاحرام وامنهم بها بدون الاسلام وسبب النزول وان كان خاصا لكن حكمه عام فى نفى المساواة عند اللّه بين الردى وبين الجيد ففيه ترغيب فى الجيد وتحذير عن الردى ويتناول الخبيث والطيب امورا كثيرة. فمنها الحرام والحلال فمثقال حبة من الحلال ارجح عند اللّه من ملىء الدنيا من الحرام لان الحرام خبيث مردود والحلال طيب مقبول فهما لا يستويان ابدا كما ان طالبهما كذلك اذا طالب الخبيث خبيث وطالب الطيب طيب واللّه تعالى يسوق الطيب الى الطيب كما انه يسوق الخبيث الى الخبيث كما قال { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } والطيب عند سادات الصوفية قدس اللّه اسرارهم ما كان لا فكر وحركة نفسانية سواء سيق من طرف صالح او فاسق لانه رزق من حيث لا يحتسب وهو مقبول وخلافه مردود ولا بعد فى هذا لان حسنات الابرار سيآت المقربين وبينهما بون بعيد وايضا الخبيث من الاموال ما لم يخرج منها حق اللّه والطيب ما اخرجت منه الحقوق والخبيث ما انفق فى وجوه الفساد والطيب ما انفق فى وجوه الطاعات والطيب من الاموال ما وافق نفع الفقراء فى اوقات الضرورات والخبيث ما دخل عليهم فى وقت استغنائهم فاشتغلت خواطرهم بها. ومنها المؤمن والكافر والعادل والفاسق فالمؤمن كالعسل والكافر كالسم والعادل كشجرة الثمرة والفاسق كشجرة الشوك فلا يستويان على كل حال. ومنها الاخلاق الطيبة والاخلاق الخبيثة فمثل التواضع والقناعة والتسليم والشكر مقبول ومثل الكبر والحرص والجزع والكفران مردود لان الاول من صفات الروح والثانى من صفات النفس والروح طيب علوى والنفس خلافه : وفى المثنوى هين مرواندر بى نفسى جوزاغ ... كو بكورستان برد نه سوى باغ نفس اكرجه زيركست وخرده دان ... قبله اش دنياست اورامرده دان ومن اخلاق النفس حب المال والكبار قد عدوا المال الطيب حجابا فما ظنك بالخبيث منه فلا بد من تصفية الباطن وتخليته عن حب ما سوى اللّه تعالى. ومنها العلوم النافعة والعلوم الغير النافعة فالنافعة كعلوم الشريعة وغير النافعة كعلوم الفلاسفة : وفى المثنوى علم دين فقهست وتفسير وحديث ... هركه خواند غير ازين كرددخبيث ومنها الاعمال الصالحة والاعمال الغير الصالحة فما اريد به وجه اللّه تعالى فهو صالح وما اريد به الرياء والسمعة فهو غير صالح عبادت باخلاص نيت نكوست ... وكرنه جه آيد زبى مغز بوست قال فى التأويلات النجمية الخبيث ما يشغلك عن اللّه والطيب ما يوصلك الى اللّه. وايضا الطيب هو اللّه الواحد والخبيث ما سواه وفيه كثرة { ولو اعجبك كثرة الخبيث } الواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر اى لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو اعجبتك وكلتاهما فى موضع الحال من فاعل لا يستوى اى لا يستويان كائنين على كل حال مفروض وجواب لو محذوف والمعنى والتقدير ان الخبيث ولو اعجبتك كثرته يمتنع ان يكون مساويا للطيب فان العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة فان المحمود القليل خير من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيث كان اخبث ومعنى الاعجاب السرور بما يتعجب منه يقال يعجبنى امر كذا اى يسرنى والخطاب فى اعجبك لكل واحد من الذين امر النبى عليه السلام بخطابهم { فاتقوا اللّه } فى تحرى الخبيث وان كثروا آثروا الطيب وان قل { يا اولى الالباب } يا ذوى العقول الصافية وهم فى الحقيقة من تخلصت قلوبهم وارواحهم من قشور الابدان والنفوس { لعلكم تفلحون } راجين ان تنالوا الفلاح وهو سعادة الآخرة ثم ان التقوى على مراتب قال ابن عطاء التقوى فى الظاهر مخالفة الحدود وفى الباطن النية والاخلاص وقال فى قوله تعالى { اتقوا اللّه حق تقاته } وهو صدق قولك لا اله الا اللّه وليس فى قلبك شىء سواه ومن وصايا حضرة المولوى قبيل وفاته [ اوصيكم بتقوى اللّه فى السر والعلانية وبقلة الطعام وقلة المنام وقلة الكلام وهجر المعاصى والآثام وترك الشهوات على الدوام واحتمال الجفاء من جميع الانام وترك مجالسة السفهاء والعوام ودوام مصاحبة الصالحين الكرام فان خير الناس من ينفع الناس وخير الكلام ما قل ودل ] واعلم ان النافع هو التقوى والسبب المنجى هو الايمان والعمل الصالح دون الحسب والنسب فلا يغرنك الشيطان بكثرة اموالك واولادك ووفرة مفاخر آبائك واجدادك فاصل البول الماء الطيب الصافى واللّه تعالى يخرج الميت من الحى ١٠١ { يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } روى انه لما نزلت { وللّه على الناس حج البيت } قال سراقة بن مالك أكل عام فاعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اعاد ثلاثا فقال ( لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فاذا امرتكم بامر فخذوا منه ما استطعتم واذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه ) فنزلت وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه عليه السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال لا اسأل عن شىء الا اجبت فقال رجل اين ابى فقال ( فى النار ) وقال آخر من ابى فقال ( حذافة ) وكان يدعى لغيره فنزلت { ان تبد لكم } الشرطية وما عطف عليها صفتان لاشياء والمساءة معلقة بالابداء والابداء معلق بالسؤال. فالمعنى لا تسألوا عن اشياء ان تسألوا عنها فى زمان الوحى تظهر لكم وان تظهر لكم تغمكم والعاقل لا يفعل ما يغمه. قال البغوى فان من سأل عن الحج لم يأمن ان يأمر به فى كل عام فيسوءه ومن سأل عن نسبه لم يأمن ان يلحقه بغيره فيفتضح { عفا اللّه عنها } استئناف مسوق لبيان ان نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لانها فى نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه من حثهم على الجد فى الانتهاء عنها ما لا يخفى وضمير عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا اى عفا اللّه عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج فى كل عام جزاء بمسألتكم وتجاوز عن عقوبتكم الاخروية بسبب مسألتكم فلا تعودوا الى مثلها { واللّه غفور حليم } اى مبالغ فى مغفرة الذنوب والاغضاء عن المعاصى ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخذكم بعقوبة ما فرط منكم فالجملة اعتراض تذييلى مقرر لعفوه تعالى ١٠٢ { قد سألها قوم } اى سألوا هذه المسألة لكن لا عينها بل مثلها فى كونها محظورة ومستتبعة للوبال وعدم التصريح بالمثل للبالغة فى التحذير { من قبلكم } متعلق بسألها { ثم اصبحوا بها } اى بسببها { كافرين } فان بنى اسرائيل كانوا يستفتون انبياءهم فى اشياء فاذا امروا تركوها فهلكوا كما سأل قوم ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى مائدة قال ابو ثعلبة ان اللّه فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن اشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها قال الحسين الواعظ الكاشفى فى تفسيره [ بس نيكبخت آنست كه از حال ديكران عبرت كيردبقول وفعل فضولى اشتغالى ننمايد ودرين باب كفته اند ] بكوى آنجه كفتن ضرورت شود ... دكر كفته هارا فروبنددر بجاى آر فعلى كه لازم بود ... زافعال بى حاصل اندر كذر وكان رجل يحضر مجلس ابى يوسف كثيرا ويطيل السكوت فقال له يوما مالك لا تتكلم ولا تسأل عن مسألة قال اخبرنى ايها القاضى متى يفطر الصائم قال اذا غابت الشمس قال فان لم تغب الى نصف الليل فتبسم وتمثل ببيت جرير وفى الصمت زين للخلى وانما ... صحيفة لب المرء ان يتكلما وفى الحديث ( عجبت من بنى آدم وملكاه على نابيه فلسانه قلمهما وريقه مدادهما كيف يتكلم فيما لا يعنيه ) والاشارة فى الآيتين ان اللّه تعالى نهى اهل الايمان ان يتعلموا العلوم اللدنية وحقائق الاشياء بطريق السؤال لانها ليست من علوم القال وانما هى من علوم الحال فقال { يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن اشياء } اى عن حقائق اشياء { ان تبد لكم } بيانها بطريق القال { تسؤكم } اذ لم تهتدوا الى الحقائق ببيان القال فتقع عقولكم المشوبة بآفات الهوى والوهم والخيال فى الشبهات فتتهالكوا فى اوديتها كما كان حال طوائف الفلاسفة اذ طلبوا علوم حقائق الاشياء بطريق القال والبراهين المعقولة فما كانت منها مندرجة تحت نظر العقول المجردة عن شوائب الوهم والخيال اصابوها وما ضاق نطاق العقول عن دركها استزلهم الشيطان عند البحث عن الصراط المستقيم واوقعهم فى اودية الشبهات وبوادى الهلكات فهلكوا واهلكوا خلقا عظيما بتصانيفهم فى العلوم الالهية وبعضهم خلطوها بعلم الاصول وقرروا شبهاتهم فيها فضلوا واضلوا عن سواء السبيل وما علموا ان تعلم علوم الحقائق بالقال محال وان تعلمها انما يحصل بالحال كما كان حال الانبياء مع اللّه فقد علمهم علوم الحقائق بالاراءة لا بالرواية فقال تعالى { وكذلك نرى ابراهيم ملكوت السموات والارض } وقال فى حق النبى عليه السلام { لنريه من آياتنا } وقال { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وقال عليه السلام ( ارنا الاشياء كما هى ) وكما كان حال الامة مع النبى عليه السلام كان يعلمهم الكتاب بالقال والحكمة بالحال بطريق الصحة وتزكية نفوسهم عن شوائب آفات النفس واخلاقها كقوله تعالى { يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وقال تعالى فيمن تحقق له فوائد الصحة على موائد المتابعة { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق } ثم قال { وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } اى وان كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق الاشياء فاسألوا عنها بعد نزول القرآن اى من القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. اما العوام منكم فيؤمنون بمتشابهات القرآن فانها بيان حقائق الاشياء ويقولون كل من عند ربنا ولا يتصرفون فيها بقولهم طلبا للتأويل فانه لا يعلم تأويلها الا اللّه والراسخون فى العلم وهم الخواص. واما اخص الخواص فيفهمون مما يشير القرآن اليه من حقائق الاشياء بالرموز والاشارات والمتشابهات ما لا يفهم غيرهم كما اشار بقصة موسى والخضر الى ان تعلم العلم اللدنى انما يكون بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم وترك الاعتراض على الصاحب المعلم لا بالقال ولا بالسؤال لقوله تعالى { هل اتبعك عن ان تعلمن مما علمت رشدا قال انك لن تستطيع معى صبرا } يعنى فى المتابعة وترك الاعتراض { قال ستجدنى ان شاء اللّه صابرا ولا اعصى لك امرا قال فان اتبعتنى فلا تسألنى عن شىء } يعنى ان من شرط المتابعة ترك السؤال عن افعال المعلم وغيرها فلما لم يستطع موسى معه صبرا ليتعلم بالحال وفتح باب القال والسؤال فقال اخرقتها لتغرق اهلها اقتلت نفسا زكية فما واساه الخضر وقال { الم اقل لك انك لن تستطيع معى صبرا قال } يعنى موسى { ان سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبنى } يشير الى ان العلم اللدنى بالحال فى الصحبة والمتابعة والتسليم لا بالقال والسؤال وفى السئوال الانقطاع عن الصحبة فافهم جدا فلما عاد فى الثالثة الى السؤال وقال { لو شئت لاتخذت عليه اجرا قال هذا فراق بينى وبينك } ثم قال { عفا اللّه عنها } اى عما سألتم وطلبتم من علوم الحقائق بالقال قبل نزول هذه الآية { واللّه غفور } لمن تاب ورجع الى اللّه فى طلب علوم الحقائق بالقال والسؤال { حليم } لمن يطلب بالحال يحلم عنهم فى اثناء ما يصدر منهم مما ينافى امر الطلب الى ان يوفقهم لما يوافق الطلب ثم قال { قد سألها قوم من قبلكم } يعنى من مقدمى الفلاسفة فقد شرعوا فى طلب العلوم الآلهية بالقال ونظر العقل فوقعوا فى اودية الشبهات { ثم اصبحوا بها كافرين } اى بسبب الشبهات التى وقعوا فيها بتتبع القيل والقال وكثرة السؤال وترك متابعة الانبياء عليهم السلام كذا فى التأويلات النجمية ١٠٣ { ما جعل اللّه } هو الجعل التشريعى ويتعدى الى واحد اى ما شرع وما وضع وما سن { من } مزيدة لتأكيد النفى { بحيرة } كان اهل الجاهلية اذا نتجت الناقة خمسة ابطن آخرها ذكر بحروا اذنها اى شقوها وحرموا ركوبها ودرها ولا تطرد عن ماء ولا مرعى فهى فعيلة من البحر وهو الشق بمعنى المفعولة { ولا سائبة } كان الرجل منهم يقول اذا قدمت من سفرى او برئت من مرضى فناقتى سائبة وجعلها كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها فهى فاعلة من قولهم ساب الماء يسيب سيبا اذا جرى على وجه الارض ويقال ايضا سابت الحية فالسائبة هى التى تركت حتى تسيب حيث شاءت { ولا وصيلة } كانوا اذا ولدت الشاة انثى فهى لهم وان ولدت ذكرا فهو لآلهتهم وان ولدت ذكرا وانثى قالوا وصلت اخاها واستحيوا الذكر من اجل الانثى فلا يذبح لآلهتهم. فمعنى الآية ما جعل اللّه انثى تحلل ذكرا محرما عند الانفراد فهى فعيلة بمعنى فاعلة { ولا حام } كانوا اذا نتجت من صلب الفحل عشرة ابطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى فهو اسم فاعل من حمى يحمى اى منع يقال حماه يحميه اذا حفظه { ولكن الذين كفروا يفترون على اللّه الكذب } اى يكذبون عمدا حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون اللّه امرنا بهذا وامامهم عمرو بن لحى الخزاعى فانه كان اقدم من ملك مكة وكان اول من غير دين اسماعيل فاتخذ الاصنام ونصب الاوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى روى انه عليه السلام قال فى حقه ( رأيت عمرو بن لحى الخزاعى يجر قصبه فى النار يؤذى اهل النار بريح قصبه ) والقصب المعى هذا شأن رؤسائهم وكبارهم { واكثرهم } وهم اراذلهم الذين يوقعونهم فى معاصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا يعقلون } انه افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا الى الحق بانفسهم فيبقون فى اسر التقليد ١٠٤ { واذا قيل لهم } اى للاكثر على سبيل الهداية والارشاد { تعالوا الى ما انزل اللّه } من الكتاب المبين للحلال والحرام { والى الرسول } الذى انزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادى الى الحق وانقيادهم للداعى الى الضلال. وحسبنا مبتدأ وما وجدنا خبره وهو فى الاصل مصدر والمراد به اسم الفاعل اى كافينا الذى وجدنا عليه آباءنا { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيأ ولا يهتدون } الواو للعطف على شرطية اخرى مقدرة قبلها والتقدير أيحسبهم ذلك اى أيكفيهم وجدان آبائهم على هذا المقال او أيقولون هذا القول ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيأ من الدين ولا يهتدون للصواب والمعنى ان الاقتداء انما يكون بمن علم انه عالم مهتد وذلك لا يعرف الا بالحجة قال الحسين الواعظ فى تفسيره [ يعنى ايشان جاهل وكمراه بودند تقليد ايشان نافع نيست بلكه تقليد عالم مىبايد تاكار بتحقيق آنجامد ] قال جلال الدين رومى قدس سره فى المثنوى از مقلد تامحقق فرقهاست ... اين يكى كوهست وان ديكر صداست دست در بينازنى آيى براه ... دست در كورى زنى افتى بجاه قال الشيخ على دده فى اسئلة الحكم اما ما ورد فى الاحاديث النبوية فى حق الدجاجلة وظهورها بين الامة فلا شك عند اهل العلم ان الدجاجلة هم الائمة المضلون لا سيما من متصوفة الزمان او متشيخيهم وقد شاهدناهم فى عصرنا هذا قاتلهم اللّه حيثما كانوا انتهى قال بعضهم قلت لمتشبه بالصوفية ظاهرا بعنى جبتك لما علم من احواله فقال اذا باع الصياد شبكته فبأى شىء يتصيد بروى ريا خرقه سهلست دوخت ... كرش باخدا در توانى فروخت بنزديك من شبرو راهزن ... به از فاسق بارسا وبيرهن والاشارة ان الشيطان كلما سلط على قوم اغراهم على التصرف فى انعام اجسامهم ونفوسهم مبتدعين غير متبعين وهم يزعمون ان هذه التصرفات للّه وفى اللّه وفى قوله { ما جعل اللّه من بحيرة } اشارة الى من يتصرف بما لم يؤمر به كمن يشق اذنه او يثقبها ويجعل فيها الحلقة من الحديد او يثقب صدره او ذكره ويجعل عليه القفل او يجعل فى عنقه الغل او يحلق لحيته مثل ما يفعل هؤلاء القلندرية قال الحافظ قدس سره قلندرى نه بريشست وموى يا ابرو ... حساب راه قلندر بدانكه موى بموست كذشتن از سر مو در قلندرى سهلست ... جوحافظ آنكه زسر بكذرد قلندر اوست { ولا سائبة } وهم الذين يدرون فى البلاد مسيبين خليعى العذار يرتعون فى مراتع البهيمية والحيوانية بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة وهم يدعون انهم أهل الحق قد لعب الشيطان بهم فاتخذوا الههم هواهم { ولا وصيلة } وهم الذين يبيحون المحرمات ويستحلون الحرمات ويتصلون بالاجانب من طريق الاخوة والابوة كالاباحية والزنادقة فيغتر به ويظن انه بلغ مقام الوحدة وانه محمى عن النقصان بكل حال ولا يضره مخالفات الشريعة اذ هو بلغ مقام الحقيقة فهذا كله من وساوس الشيطان وهو اجس النفس ما امر اللّه بشىء من ذلك ولا رخص لاحد فيه فهؤلاء الذين وضعوا هذه الطريقة وابتدعوها لا يعلمون شيأ من الشريعة والطريقة ولا يهتدون الى الحقيقة فانهم اهل الطبيعة وارباب الخديعة ولقد شاعت فى الآفاق فتنتهم وكملت فيهم غرتهم ومالهم من دافع ولا مانع ولا وازع على ان الخرق قد اتسع على الراقع ارى الف بان لا يقوم بهادم ... فكيف بيان خلفه الف هادم ١٠٥ { يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم } اى الزموا اصلاح انفسكم وحفظها مما يوجب سخط اللّه وعذاب الآخرة { لا يضركم } ضلال { من ضل } بالفارسى [ زيانى نرساند شمارا بى راهىء آنكس كه كمراه شد ] { اذا اهتديتم } اذا كنتم مهتدين. والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون ايمانهم وفيهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعوون عنه بالامر والنهى { الى اللّه } لا لاحد سواه { مرجعكم } رجوعكم يوم القيامة { جميعا } الضلال والمهتدى { فينئبكم بما كنتم تعملون } فى الدنيا من اعمال الهداية والضلال اى فيجازيكم على ذلك فهو وعد ووعيد للفريقين المهتدين والضالين وتنبيه على ان احدا لا يؤاخذ بعمل غيره ولا يتوهمنّ ان فى الآية رخصة فى ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء ان ينكر على المنكر حسب الطاقة اكر بينى كه نابينا وجاهست ... اكر خاموش بنشينى كناهست وفى الحديث ( من رأى منكم منكرا ان استطاع ان يغيره فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه ) وقد روى ان الصديق قال يوما على المنبر يا ايها الناس انكم تقرأون هذه الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هى وانما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ( ان الناس اذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمهم اللّه بعقاب ) فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه تعالى { يا ايها الذين } الآية فيقول احدكم علىّ نفسى واللّه لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر او ليستعملن اللّه عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن خياركم فلا يستجاب لهم ولو قيل لرجل لم لا تأمر بالمعروف قال [ مراجه كارست ] او قيل لرجل [ فلانرا امر معروف كن ] فقال [ مرا اوجه كرده است ] او قال [ من عافيت كزيده ام ] او قال [ مرا با اين فضولى جه كار ] يخاف عليه الكفر فى هذه الصور : قال المولوى قدس سره توز كفتار تعالوا كم مكن ... كيمياى بس شكرفست اين سخن كرمسى كردد ز كفتارت نفير ... كيميارا هيج ازوى وامكير فالامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض لا يسقط الا عند العجز عن ذلك وكان السلف مغدورين فى بعض الازمان فى ترك الانكار باليد واللسان جو دست وزبانرا نماند مجال ... بهمت نمايند مردى رجال والحاصل ان هذا يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال والاوقات فعلى المحب ان لا يتجاوز عن الحد ويراعى حكم الوقت فان لكل زمان دولة ورجالا والاشارة { يا ايها الذين آمنوا } اى ايمان الطالبين الموقنين بان الوجدان فى الطلب كما قال تعالى ( الا من طلبنى وجدنى ) { عليكم انفسكم } فاشتغلوا بتزكيتها فانه قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها فلا تشتغلوا قبل تزكيتها بتزكية نفوس الخالق ولا تغتروا بارادة الخلق وبقولهم وحسن ظنهم فيكم وتقربهم اليكم فانها للطالب سم الساعة وان مثل السالك المحتاج الى المسلك والذى يدعى ارادته ويتمسك به كمثل غريق فى البحر محتاج الى سابح كامل فى صنعته لينجيه من الغرق فيتشبث به غريق آخر فى البحر وهو يأخذ بيده لينجيه فيهلكان جميعا فالواجب على الطالب المحق ان يتمسك بذيل ارادة صاحب دولة فى هذا الشأن مسلك كامل ويستسلم للاحكام ولا يلتفت الى كثرة الهالكين فانه لا يهلك على اللّه الا هالك { لا يضركم } ايها الطالبون { من ضل } من المغرقين والمضلون بسلاسل القهر والخذلان على طريق المكر والعصيان { فينبئكم بما كنتم تعملون } اى فيذيقكم لذة ثواب اعمالكم او الم عقوبة اعمالكم والمعنى ليس للطالب ان يلتفت فى اثناء سلوكه الى احد من اهل الصدق والارادة بان يقبله ليربيه ويغتر بانه شيخ يقتدى به الى ان يتم امر سلوكه بتسليك مسلك كامل واصل ثم ان يرى شيخه ان له رتبة الشيخوخة فيثبته باشارة التحقق فى مقام التربية ودعوة الخلق فحينئذ يجوز له ان يكون هاديا مرشدا للمريدين باحتياط وافر فقد قال تعالى { ولكل قوم هاد } فاما فى زماننا هذا فقد آل الامر الى ان من لم يكن مريدا قط يدعى الشيخوخة ويخبر بالشيخوخة الجهال والضلال من جهالته وضلالته حرصا لانتشار ذكره وشهرته وكثرة مريديه وقد جعلوا هذا الشأن العظيم والثناء الجسيم لعب الصبيان وضحكة الشيطان حتى يتوارثونه كلما مات واحد منهم كانوا يجلسون ابنه مقامه صغيرا كان او كبيرا ويلبسون منه الخرق ويتبركون به وينزلونه منازل المشايخ فهذه مصيبة قد عمت ولعل هذه الطريق قد تمت فاندرست آثارها واللّه اعلم باخبارها الى ههنا من الاشارة من التأويلات النجمية ١٠٦ { يا ايها الذين آمنوا } تصديره بحرف النداء والتنبيه لاظهار كمال العناية بمضمونه روى ان تميم بن اوس الدارى وعدى بن زيد خرجا الى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل بن ابى مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدما الى الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه اسماء جميع ما معه وطرحه فى درج الثياب ولم يخبرهما بذلك واوصى اليهما بان يدفعا متاعه الى اهله ومات ففتشاه فوجدا فيه اناء من فضة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ودفعا المتاع الى اهل فاصابوا فيه الكتاب فقالوا لهما هل باع صاحبكما شيأ من متاعه قالا لا قالوا فهل طال مرضه فانفق شيأ على نفسه قالا لا انما مرض حين قدم البلد فلم يلبث ان مات قالوا فانا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه وفيها اناء منقوش مموّه بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال قالا ما ندرى انما اوصى الينا بشىء وامرنا ان ندفعه اليكم ففعلنا وما لنا بالاناء من علم فرفعوهما الى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم فنزلت { يا ايها الذين آمنوا } فاستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر باللّه الذى لا اله الا هو انهما لم يخونا شيأ مما دفع ولا كتما فحلفا على ذلك فخلى صلى اللّه عليه وسلم سبيلهما ثم انه وجد الاناء فى مكة فقال من بيده اشتريته من تميم وعدى وقيل لما طالت المدة اظهراه فبلغ ذلك بنى سهل اولياء بديل فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا الم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيأ فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكرهنا ان نقر به فرفعوهما الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل قوله تعالى { فان عثر } الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن ابى وداعة السهميان فحلفا باللّه بعد العصر انهما كذبا وخانا فدفع الاناء اليهما واتفق العلماء على ان هذه الآية اشكل ما فى القرآن اعرابا ونظما وحكما { شهادة بينكم } اى شهادة الخصومات الجارية بينكم فبين ظرف اضيف اليه شهادة على طريق الاتساع فى الظروف بان يجعل الظرف كأنه مفعول للفعل الواقع فيه فيضاف ذلك الفعل اليه على طريق اضافته الى المفعول نحو يا سارق الليلة اى يا سارق فى الليلة وارتفاع الشهادة على انها مبتدأ { اذا حضر احدكم الموت } اى شارفه وظهرت علائمه ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل من الظرف وفى ابداله منه تنبيه على ان الوصية من المهمات المقررة التى لا ينبغى ان يتهاون بها المسلم ويذهل عنها { اثنان } خبر للمبتدأ بتقدير المضاف لئلا يلزم حمل العين على المعنى اى شهادة بينكم حينئذ شهادة اثنين او فاعل شهادة بينكم على ان خبرها محذوف اى فيما نزل عليكم ان يشهد بينكم اثنان واختلفوا فى هذين الاثنين. فقال قوم هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصى. وقال آخرون هما الوصيان لان الآية نزلت فيهما ولانه قال تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان ولا يلزم الشاهدين الايصاء وان صح الى واحد الا انه ورد فى الآية الايصاء الى اثنين احتياطا واعتضادا لاحدهما بالآخر. فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور كقولك شهدت وصية فلان بمعنى حضرت والشهيد الذى حضرته الوفاة فى الغزو حتى لو مضى عليه وقت صلاة وهو حى لا يسمى شهيدا لان الوفاة لم تحضره فى الغزو { ذوا عدل منكم } هما صفتان للاثنان اى صاحبا امانة وعقل من اقاربكم لانهم اعلم باحوال الميت وانصح له واقرب الى تحرى ما هو اصلح له او من اهل دينكم يا معشر المؤمنين وهذه جملة تامة تتناول حكم الشهادة على الوصية فى الحضر والسفر { او آخران من غيركم } عطف على اثنان او شهادة عدلين آخرين من غيركم اى من الاجانب او من غير اهل دينكم اى من اهل الذمة وقد كان ذلك فى بدء الاسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما فى السفر ثم نسخ بقوله تعالى { واشهدوا ذوى عدل منكم } فلا يقبل شهادة الذمى على المسلم لعدم ولايته عليه والشهادة من باب الولاية وتقبل شهادة الذمى على الذمى لان اهل الذمة بعضهم اولياء بعض { ان انتم ضربتم فى الارض } اى سرتم وسافرتم فيها { فاصابتكم مصيبة الموت } عطف على الشرط وجوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه اى ان سافرتم فقاربكم الاجل حينئذ وما معكم من الاقارب او من اهل الاسلام من يتولى لامر الشهادة كما هو الغالب المعتاد فى الاسفار فشهادة بينكم شهادة آخرين او فانه يشهد آخران فقوله تعالى { ان انتم ضربتم } تقييد لقوله { او آخران من غيركم } { تحبسونهما } استئناف وقع جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع ان ارتبنا بالشاهدين فقيل تحبسوههما اى تقفونهما وتصبرونهما للتحليف { من بعد الصلوة } من صلة واللام للعهد الخارجى اى بعد صلاة العصر لتعينها عندهم للتحليف بعدها لانه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ولان جمع اهل الايمان يعظمون ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقد روى ان النبى عليه السلام وقتئذ حلف من حلف قال الشافعى الايمان تغلظ فى الدماء والطلاق والعتاق والمال اذا بلغ مائتى درهم بالزمان والمكان فيحلف بعد صلاة العصر بمكة بين الركن والمقام وفى المدينة عند المنبر وفى بيت المقدس عند الصخرة وفى سائر البلدان فى اشرف المساجد وقال ابو حنيفة لا يختص الحلف بزمان ولا مكان { فيقسمان باللّه } عطف على تحبسونهما { ان ارتبتم } شرطية محذوفة الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترضة بين القسم وجوابه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب اى ان ارتاب فيهما الوارث منكم بخيانة واخذ شىء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما باللّه { لا نشترى به ثمنا } جواب القسم اى مقسم عليه فان قوله فيقسمان يتضمن قسما مضمرا فيه. والاشتراء استبدال السلعة بالثمن اى اخذها بدلا منه ثم استعير لاخذ شىء بازالة ما عنده عينا كان او معنى على وجه الرغبة فى المأخوذ والاعراض عن الرذائل كما هو المعتبر فى المستعار منه والضمير فى به للّه. والمعنى لا نأخذ لانفسنا بدلا من اللّه اى من حرمته عرضا من الدنيا بان نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب اى لا نحلف باللّه كاذبين لاجل المال وطمع الدنيا { ولو كان } اى المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام وهو الميت { ذا قربى } اى قريبا من فى الرحم تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا ومبالغة فى التنزه كأنهما قالا لا نأخذ لانفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا ولو انضم اليه رعاية جانب الاقرباء فقد انضم اليها ما هو اقوى منها وادعى الى الحلف كاذبا وهى صيانة انفسهما وان كانت اهم من رعاية الاقرباء لكنها ليست ضميمة للمال بل راجعة اليه { ولا نكتم شهادة اللّه } معطوف على لا نشترى به داخل معه فى حكم القسم وشهادة اللّه منصوب على انها مفعول بها اضيفت اليه تعالى لانه هو الآخر بها ويحفظها وعدم كتمانها وتضييعها { انا اذا } اى اذ كتمناها { لمن الآثمين } اى العاصين ١٠٧ { فان عثر } اى اطلع بعد التحليف { على انهما استحقا اثما } اى فعلا ما يوجب اثما من تحريف وكتم بان ظهر بايديهما شىء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه { فآخران } اى رجلان آخران وهو مبتدأ خبره { يقومان مقامهما } اى مقام اللذين عثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقام اداء الشهادة التى تولياها ولم يؤدياها كما هى بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لاظهار الحق { من الذين } حال من فاعل يقومان اى من اهل الميت الذين { استحق عليهم الاوليان } من بينهم اى الاقربان الى الميت الوارثان له الاحقان بالشهادة اى باليمين ومفعول استحق محذوف اى استحق عليهم ان يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين وهما فى الحقيقة الآخران القائمان مقام الاولين على وضع المظهر مقام المضمر فاستحق مبنى للفاعل والاوليان فاعله وهو تثنيه الاولى بالفتح بمعنى الاقرب. وقرىء على البناء للمفعول وهو الاظهر اى من الذين استحق عليهم الاثم اى جنى عليهم وهم اهل الميت وعشيرته فالاوليان مرفوع على انه خبر لمحذوف كأنه قيل ومن هم فقيل الاوليان { فيقسمان باللّه } عطف على يقومان { لشهادتنا } المراد بالشهادة اليمين كما فى قوله تعالى { فشهادة احدهم اربع شهادات باللّه } اى ليميننا على انهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة فى نفسها { احق } بالقبول { من شهادتهما } اى من يمينهما مع كونها كاذبة فى نفسها لما انه قد ظهر للناس استحقاقهما للاثم ويميننا منزهة عن الريب فصيغة التفضيل مع انه لا حقيقة فى يمينهما رأسا انما هى لا مكان قبولها فى الجملة باعتبار احتمال صدقها فى ادعاء تملكهما لما ظهر فى ايديهما { وما اعتدينا } عطف على جواب القسم اى ما تجاوزنا فيها شهادة الحق وما اعتدينا عليهما بابطال حقهما { انا اذا } اى اذا اعتدينا فى يميننا { لمن الظالمين } انفسهم بتعريضها لسخط اللّه تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم اللّه تعالى او لمن الواضعين الحق فى غير موضعه ومعنى النظم الكريم ان المحتضر ينبغى ان يشهد على وصيته عدلين من ذوى نسبه او دينه فان لم يجدهما بان كان فى سفر فآخرين من غيرهم ثم ان وقع ارتياب بهما اقسما على انهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة وادعيا تملكه من جهة الميت حلف الورثة وعمل بايمانهم وانما انتقل اليمين الى الاولياء لان الوصيين ادعيا انهما ابتاعاه والوصى اذا اخذ شيأ من مال الميت وقال انه اوصى به حلف الوارث اذا انكر ذلك وتحليف المنكر ليس بمنسوخ ١٠٨ { ذلك } اى الحكم الذى تقدم تفصيله { ادنى ان يأتوا بالشهادة على وجهها } اى اقرب الى ان تؤدى الشهود الشهادة على وجهها الذى تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الاخروى هذا كما ترى حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور { او يخافوا ان ترد ايمان بعد ايمانهم } بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة معطوف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل ذلك ادنى ان يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة او يخافوا الافتضاح على رؤس الاشهاد بابطال ايمانهم والعمل بايمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية اليه فأى الخوفين وقع حصل المقصود الذى هو الاتيان بالشهادة على وجهها { واتقوا اللّه } فى شهادتكم فلا تحرفوها وفى ايمانكم فلا تحلفوا ايمانا كاذبة وفى اماناتكم فلا تخونوها وفيما بينه اللّه من الاحكام فلا تخالفوا حكمه { واسمعوا } ما توعظون به كائنا ما كان سمع طاعة وقبول { واللّه لا يهدى القوم الفاسقين } الخارجين عن الطاعة اى فان لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين واللّه لا يهدى القوم الفاسقين اى الى طريق الجنة او الى ما فيه نفعهم واعلم ان الشهادة فى الشرع الاخبار عن امر حضره الشهود وشاهدوه اما معاينة كالافعال نحو القتل والزنى او سماعا كالعقود والاقرارات فلا يجوز له ان يشهد الا بما حضره وعلمه وسمعه ولهذا لا يجوز له اداء الشهادة حتى تذكر الحادثة وفى الحديث ( اذا علمت مثل الشمس فاشهد والا فدع ) وفى الشهادة احياء حقوق الناس وصون العقود عن التجاحد وحفظ الاموال على اربابها وفى الحديث ( اكرموا شهودكم فان اللّه يستخرج بهم الحقوق ) ومن تعين للتحمل لا يسعه ان يمتنع اذا طلب لما فيه من تضييع الحقوق الا ان يقوم الحق بغيره بان يكون فى الصك سواه ممن يقوم الحق به فيجوز له الامتناع لان الحق لا يضيع بامتناعه وهو مخير فى الحدود بين الشهادة والستر لان اقامة الحدود حسبة والستر على المسلم حسبة والستر افضل وفى الحديث ( من ستر على مسلم ستره اللّه عليه فى الدنيا والآخرة ) ثم اعلم ان اليمين الفاجرة تبقى الديار بلاقع فينبغى لطالب الآخرة ان يجتنب عن الكذب لطمع الدنيا وان يختار الصدق فى كل قول وفعل : قال الحافظ طريق صدق بياموز ازآب صافىدل ... براستى طلب آزادكى جو سروجمن والامانة من الاوصاف الجميلة واللّه تعالى يأمر باداء الامانات وان قل اصحابها فى هذا الزمان وللّه درالقائل امين مجوى ومكوبا كسى امانت عشق ... درين مكرجبرئيل امين باشد وعاقبة الخيانة الافتضاح : كما قال الصائب خيانتهاى بنهان ميكشد آخر برسوايى ... كه دزدخانكىرا شحنه دربازار ميكردد فلا بد من التقوى وسماع الاحكام الازلية واللّه لا يهدى الى حضرته القوم الفاسقين يعنى الذين كانوا خارجين عند رشاش النور واصابته كما قال عليه السلام ( فمن اصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن اخطأه فقد ضل ) عصمنا اللّه واياكم من مخالفة امره ولا يجعلنا ممن ضاع انفاس عمره انه هو الموفق والمرشد والوهاب ١٠٩ { يوم يجمع اللّه الرسل } اى اذكروا يوم يجمع اللّه الرسل وهو يوم القيامة والمراد جمعهم وجمع اممهم وانما لم يذكر الامم لانهم اتباع لهم { فيقول } اى اللّه تعالى للرسل { ماذا اجبتم } اى اى اجابة اجبتم من جهة الامم حين دعوتموهم الى توحيدى وطاعتى أاجابة اقرار وتصديق ام اجابة انكار وتكذيب فماذا فى محل النصب على انه مفعول مطلق للفعل المذكور بعده وفيه اشارة الى خروجهم من عهدة الرسالة كما ينبغى والا لصدر الخطاب بان يقال هل بلغتم رسالتى ولم يقل ماذا اجابوا بناء على كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم فان قلت ما وجه السؤال مع انه تعالى لا يخفى عليه شىء قلت توبيخ القوم كما ان قوله تعالى { واذا الموؤدة سئلت بأى ذنب قتلت } المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل بها { قالوا } كأنه قيل فماذا يقول الرسل هنالك فقيل يقولون { لا علم لنا } بما كنت انت تعلم { انك انت علام الغيوب } تعليل لذلك اى لانك تعلم ما اضمروه وما اظهروه ونحن لا نعلم الا ما اظهروه فعلمنا فى علمك كالمعدوم وهذا الجواب يتضمن التشكى من الامم كأنه قيل علمك محيط بجميع المعلومات فتعلم بما ابتلينا من قبلهم وكابدنا من سوء اجابتهم فنلتجىء اليك فى الانتقام منهم وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان هذا الجواب انما يكون فى بعض مواطن القيامة وذلك عند زفرة جهنم وجثوّ الامم على الركب لا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل الا قال نفسى نفسى فعند ذلك تطير القلوب من اماكنها فيقول الرسل من شدة هول المسألة وهول الموطن { لا علم لنا انك انت علام الغيوب } وترجع اليهم عقولهم فيشهدون على قومهم انهم بلغوهم الرسالة وان قومهم كيف ردوا عليهم فان قيل كيف يصح ذهول العقل مع قوله تعالى { لا يحزنهم الفزع الاكبر } قيل ان الفزع الاكبر دخول جهنم : قال السعدى قدس سره دران روزكز فعل برسندوقول ... اولوا العزم را تن بلرزد زهول بجايى كه دهشت خورد انبياء ... توعذر كنه را جه دارى بيا برادر زكار بدان شرم دار ... كه درروى نيكان شوى شر مسار سراز جيب غفلت بر آور كنون ... كه فردا نماند بخجلت نكون وقيل قولهم { لا علم لنا } ليس المقصود منه نفى العلم بجوابهم حال التبليغ ولا وقت حياة الانبياء بل المقصود نفى علمهم بما كان من الامم بعد وفاة الانبياء فى العاقبة وآخر الامر الذى به الاعتبار لان الثواب والعقاب انما يدوران على الخاتمة وذلك غير معلوم لهم فلهذا المعنى قالوا { لا علم لنا } وفى الحديث ( انى على الحوض انظر من يرد علىّ منكم واللّه ليقطعن دونى رجال فلأقولن اى ربى منى ومن امتى فيقول انك لا تدرى ما احدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على اعقابهم ) وهو عبارة عن ارتدادهم اعم من ان يكون من الاعمال الصالحة الى السيئة او من الاسلام الى الكفر وفى الحديث ( يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون ما اتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وامته فيشهدون انه قد بلغ ) فذلك قوله تعالى { وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } انما شهد محمد وامة بذلك مع انهم بعد نوح لعلمهم بالقرآن ان الانبياء كلهم قد بلغوا اممهم ما ارسلوا به وقد جاء فى الرواية ( ثم يؤتى بمحمد فيسأل عن حال امته فيزكيهم ويشهد بصدقهم ) فذلك قوله تعالى { ويكون الرسول عليكم شهيدا } فعلى العاقل ان يجيب الى دعوة الحق وينتصح بنصيحة الناصح الصدق امروز قدر بند عزيزان شناختم ... يارب روان ناصخ ما ازتو شادباد واعلم ان القيامة يوم يتجلى الحق فيه بالصفة القهارية قال تعالى { لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار } قال حضرة شيخنا العلامة ابقاه اللّه بالسلامة هذا ترتيب انيق فان الذات الاحدى يدفع بوحدته الكثرة وبقهره الآثار فيضمحل الكل فلا يبقى سواه تعالى وقيامة العارفين دائمة لانهم يكاشفون الامور ويشاهدون الاحوال فى كل موطن على ما هى عليه وهى القيامة الكبرى وحشر الخواص بل الاخص اللّهم اجعلنا ممن مات بالاختيار قبل الموت بالاضطرار ١١٠ { اذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم } اى اذكروا ايها المؤمنون وقت قول اللّه تعالى لعيسى ابن مريم وهو يوم القيامة { اذكر نعمتى } اى انعامى { عليك وعلى والدتك } وليس المراد بامره عليه السلام يومئذ بذكر النعم تكليف الشكر اذ قد مضى وقته فى الدنيا بل ليكون حجة على من كفر حيث اظهر اللّه على يده معجزات كثيرة فكذبته طائفة وسموه ساحرا وغلا آخرون فاتخذوه آلها فيكون ذلك حسرة وندامة عليهم يوم القيامة والفائدة فى ذكر امه ان الناس تكلموا فيها ما تكلموا ثم عد اللّه تعالى عليه نعمة نعمة فقال { اذ ايدتك } ظرف لنعمتى اى اذكر انعامى عليكم وقت تأييدى لك { بروح القدس } اى بجبريل الطاهر على ان القدس الطهور واضيف اليه الروح مدحا له بكمال اختصاصه بالطهر كما فى رجل صدق ومعنى تأييده به ان جبريل عليه السلام يجعل حجته ثابتة مقررة { تكلم الناس فى المهد وكهلا } استئناف مبين لتأييده عليه السلام والمعنى تكلمهم فى الطفولة والكهولة على سواء اى من غير ان يوجد تفاوت بين كلامه طفلا وبين كلامه كهلا فى كونه صادرا عن كمال العقل وموافقا لكمال الانبياء والحكماء فانه تكلم حال كونه فى المهد اى فى حجر الام او الذى يربى فيه الطفل بقوله { انى عبد اللّه آتانى الكتاب وجعلنى نبيا وجعلنى مباركا اينما كنت واوصانى بالصلوة والزكوة ما دمت حيا } وتكلم كهلا بالوحى والنبوة فتكلمه فى تينك الحالتين على حد واحد وصفة واحدة من غير تفاوت معجزة عظيمة حصلت له وما حصلت لاحد من الانبياء قبله ولا بعده وكل معجزة ظهرت منه كما انها نعمة فى حقه فكذلك هى نعمة فى حق امه لانها تدل على براءة ساحتها مما نسبوها اليه واتهموها به وحمل مريم ما كان من الرجال كسائر النساء وانما كان بروح منه كما قال تعالى { ومريم ابنة عمران التى احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } فهذه نعمة خاصة بمريم وكذلك ولادة عيسى وخلفته ما كانت من نطف الرجال وانما كانت كلمته ألقاها الى مريم وروح منه فهذه نعمة خاصة بعيسى. والكهل من الرجال الذى جاوز الثلاثين ووخطه الشيب اى خالطه وقيل المراد بتكلمه كهلا ان يكلم الناس بعد ان ينزل من السماء فى آخر الزمان بناء على انه رفع قبل ان اكهل فيكون قوله تعالى { وكهلا } دليلا على نزوله وروى ان اللّه تعالى ارسله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث فى رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه اللّه تعالى اليه وينزل على هذا السن ثم يكهل { واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل } اى اذكر نعمتى عليكما وقت تعليمى لك جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان بالذكر مع دخولهما فى الجنس اظهارا لشرفهما والمراد بالحكمة العلم والفهم لمعانى الكتب المنزلة واسرارها وقيل هى استكمال النفس بالعلم بها وبالعمل بمقتضاها { واذ تخلق من الطين كهيئة الطير } اى تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير { باذنى } ان بتسهيلى وتيسيرى { فتنفخ فيها } اى فى الهيئة المصورة { فتكون } اى تلك الهيئة { طيرا باذنى } فالخلق حقيقة للّه تعالى ظاهر على يده عليه السلام عند مباشرة الاسباب كما ان النفخ فى مريم كان من جبريل والخلق من اللّه تعالى سألوا منه عليه السلام على وجه التعنت فقالوا له اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا ان كنت صادقا فى مقالتك فاخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فاذا هو يطير بين السماء والارض وانما طلبوا منه خلق خفاش لانه اعجب من سائر الخلق ومن عجائبه انه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله ضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر فى ضوء النهار ولا فى ظلمة الليل وانما يرى فى ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل ان يسفر جدا ويضحك كما يضحك الانسان ويحيض كما تحيض المرأة فلما رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا هذا سحر { وتبرىء الاكمه والابرص باذنى } الاكمه الذى ولد اعمى والابرص هو الذى به برص اى بياض فى الجلد ولو كان بحيث اذا غرز بابرة لا يخرج منه الدم لا يقبل العلاج ولذا خصا بالذكر وكلاهما مما اعيى الاطباء : وفى المثنوى صومعه عيسى است خوان اهل دل ... هان وهان اى مبتلا اين درمهل جمع كشتندى زهر اطراف خلق ... ازضرير وشل ولنك واهل دلق اوجوفارغ كشتى از اوراد خويش ... جا كشتكه بيرون شدى آن خوب كيش بس دعا كردى وكفتى ازخدا ... حاجت ومقصود جمله شدروا خوش روان وشادمانه سوى خان ... از دعاى او شدندى باروان آز مودى توبسى آفات خويش ... يافتى صحت ازين شاهان كيش جند آن لنكىء تورهوار شد ... جند جانت بى عم و آزار شد { واذ تخرج الموتى باذنى } اى تحيى الموتى وتخرجهم من قبورهم احياء قيل اخرج سام ابن نوح ورجلين وجارية كما سبق تفصيله فى سورة آل عمران قال الكلى كان عيسى عليه السلام يحيى الموتى بيا حى ويا قيوم وهو الاسم الاعظم عند العلماء المحققين { واذ كففت بنى اسرائيل عنك } اى منعت اليهود الذى ارادوا لك السوء عن التعرض لك { اذ جئتهم بالبينات } بالمعجزات الواضحة ظرف لكففت { فقال الذين كفروا منهم ان هذا الا سحر مبين } اى ما هذا الذى جئت به الا سحر ظاهر ردا وانكارا فبقوا على مرض الكفر ولم يعالجوا بعلاج الايمان على يد الحكيم الالهى الحاذق حكى عن الشبلى انه اعتل فحمل الى البيمارستان وكتب على بن عيسى الوزير الى الخليفة فى ذلك فارسل الخليفة اليه مقدم الاطباء ليداويه فما انجحت مداواته قال الطبيب للشبلى واللّه لو علمت ان مداواتك فى قطعة لحم من جسدى ما عسر على ذلك قال الشبلى دوائى فيما دون ذلك قال الطبيب وما هو قال بقطعك الزنار فقال الطبيب اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمدا رسول اللّه فاخبر الخليفة بذلك فبكى وقال نفذنا طبيبا الى مريض وما علمنا انا نفذنا مريضا الى طبيب قال اليافعى هذا هو الطبيب الحاذق وحكمته من الحكمة التى بها العلل تزول وفيه اقول اذا ما طبيب القلب اصبح جسمه ... عليلا فمن ذا للطبيب طبيب فقل هم اولوا علم لدنى وحكمة ... آلهية يشفى بذاك قلوب وكل مرشد كامل فهو عيسى وقته فان قلت ان اولياء اللّه هم الاطباء حقيقة ومن شأن الطبيب ان يعالج ويبرىء دون ان يهلك ويمرض فما شأن ابراهيم الخواص اشار باصبعيه الى عينى رجل فى برية اراد ان يسلب منه ثيابه فسقطتا قلت انما دعا ابراهيم على اللص بالعمى ودعا ابراهيم بن ادهم على الذى ضربه بالجنة لان الخواص شهد من اللص انه لا يتوب الا بعد العقوبة فرأى العقوبة اصلح له وابن ادهم لم يشهد توبة الظالم فى عقوبته فتفضل عليه بالدعاء فتوة منه وكرما فحصلت البركة والخير بدعائه للظالم فجاءه مستغفرا معتذرا فقال له ابراهيم الرأس الذى يحتاج الى الاعتذار تركته ببلخ وقد كان الانبياء يدعون مطلقا بحسب الاحوال والمصالح وكل ذلك باذن اللّه تعالى فهم فى دعائهم فانون عن انانيات وجودهم لا يصدر من لسانهم الا حق مطابق للواقع والحكمة والاولياء تلو لهم فى ذلك ولكن الناس لا يعلمون : وفى المثنوى جون بباطن بنكرى دعوى كجاست ... اوو دعوى بيش آن سلطان فناست مات زيد زيد اكر فاعل بود ... ليك فاعل نيست كوعاطل بود اوزروى لفظ نحوى فاعلست ... ورنه او مفعول وموتش قاتلست ١١١ { واذ اوحيت الى الحواريين } جمع حوارى يقال فلان حوارى فلان اى صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص سمى به اصحاب عيسى عليه السلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وكان بعضهم من الملوك وبعضهم من صيادى السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين اذكر يا محمد وقت ان امرتهم على ألسنة رسلى او الهمت اياهم والقيت فى قلوبهم { ان } مفسرة لما فى الايحاء من معنى القول { آمنوا بى } اى بوحدانيتى فى الربوبية والالوهية { وبرسولى } اى وبرسالة رسولى ولا تزيلوه عن حيز حطا ولا رفعا { قالوا } كأنه قيل فماذا قالوا حين اوحى اليهم ذلك فقيل قالوا { آمنا واشهد باننا مسلمون } اى مخلصون فى ايماننا من اسلم وجهه للّه اى اخلص ١١٢ { اذ قال الحواريون } منصوب باذكر { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء } هذا السؤال كان فى ابتداء امرهم قبل ان يستحكم معرفتهم باللّه ولذلك اساؤا الادب مع عيسى عليه الصلاة والسلام حيث لم يقولوا يا رسول اللّه او يا روح اللّه وخاطبوه باسمه ونسبوه الى امه ولو وفقوا للادب لقالوا يا روح اللّه ونسبوه الى اللّه ثم رفضوا الادب مع اللّه وقالوا هل يستطيع ربك كالمتشكك فى استطاعته وكمال قدرته على ما يشاء كيف يشاء ثم اظهروا دناءة همتهم وخساسة نهمتهم اذ طلبوا بواسطة مثل عيسى من اللّه تعالى مائدة دنيوية فانية وما رغبوا فى فائدة دينية باقية ولو رغبوا فى الفائدة الدينية لنالوا المائدة الدنيوية ايضا قال اللّه تعالى { من كان يريد حرث الدنيا نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الآخرة نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } والمائدة الخوان الذى عليه الطعام من ماده اذا اعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم اليها ونظيره قولهم شجرة مطعمة قال فى الشرعة وضع الطعام على الارض احب الى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم ثم على السفرة وهى على الارض والاكل على الخوان فعل الملوك اى آداب الجبارين لئلا يتطأطأوا عند الاكل وعلى المنديل فعل العجم اى اهل فارس من المتكبرين وعلى السفرة فعل العرب وهى فى الاصل طعام يتخذه المسافر للسفر ثم سمى بها الجلد المستدير المحمول هو فيه { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال { اتقوا اللّه } اى من امثال هذا السؤال { ان كنتم مؤمنين } اى بكمال قدرته تعالى او بصحة نبوتى ١١٣ { قالوا نريد ان نأكل منها } تمهيد عذر وبيان لما دعاهم الى السؤال لا نريد بالسؤال ازالة شبهتنا فى قدرته تعالى على تنزيلها او فى صحة نبوتك حتى يقدح ذلك فى الايمان والتقوى بل نريد ان نأكل منها اى اكل تبرك يتشفى بسببها مرضانا ويتقوى بها اصحاؤنا ويستغنى بها فقراؤنا وقيل مرادهم اكل احتياج لانهم قالوا ذلك فى زمن المجاعة والقحط { وتطمئن قلوبنا } لكمال قدته تعالى بانضمام علم المشاهدة الى علم الاستدلال { ونعلم } علما يقينا { ان } مخففة اى انه { قد صدقتنا } فى دعوى النبوة وان اللّه يجب دعوتنا وان كنا عالمين بذلك من قبل { ونكون عليها من الشاهدين } نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بنى اسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم او من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر ١١٤ { قال عيسى ابن مريم } لما رأى عليه السلام ان لهم غرضا صحيحا فى ذلك وانهم لا يقلعون عنه ازمع على استدعائها واستنزالها وارد ان يلزمهم الحجة بكمالها { اللّهم } اى يا اللّه والميم عوض عن حرف النداء وهى كلمة عظيمة من قالها فقد ذكر اللّه تعالى بجميع اسمائه وفى الميم سبعون اسما من اسمائه تعالى قد اندرجت فيها { ربنا } ناداه سبحانه مرتين اظهارا لغاية التضرع ومبالغة فى الاستدعاء { انزل علينا مائدة من السماء } متعلق بأنزل { تكون لنا عيدا } صفة لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها عيدا ولنا حال منه اى يكون يوم نزولها عيدا فعظمه وانما اسند ذلك الى المائدة لان شرف اليوم مستفاد من شرفها وقيل العيد السرور العائد ولذلك سمى يوم العيد عيدا { لاولنا وآخرنا } بدل من لنا باعادة العامل اى عيدا لمتقدمينا ومتأخرينا روى انها نزلت يوم الاحد ولذلك اتخذه النصارى عيدا { وآية } كائنة { منك } دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتى { وارزقنا } اى المائدة والشكر عليها { وانت خير الرازقين } تذييل جار مجرى التعليل اى خير من يرزق لانه خالق الارزاق ومعطيها بلا عوض قال فى التأويلات النجمية { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } اى مائدة الاسرار والحقائق التى تنزلها من سماء العناية عليها اطعمة الهداية { تكون لنا } يعنى لاهل الحق وارباب الصدق { عيدا } نفرح بها { لاولنا وآخرنا } اى لاول انفاسنا وآخرها فان ارباب الحقيقة يراقبون الانفاس اولها وآخرها لتصعد مع اللّه وتهوى مع اللّه ففى صعود النفس مع اللّه يكون عيدا لهم وفى هويه مع اللّه عيدا لهم : كما قال بالفارسية [ صوفيان دردمى دوعيد كنند ] ١١٥ { قال اللّه انى منزلها عليكم } اجابة الى سؤالكم { فمن يكفر بعد } اى بعد تنزيلها { منكم } حال من فاعل يكفر { فانى اعذبه } بسبب كفره بعد معاينة هذه الآية الباهرة { عذابا } اسم مصدر بمعنى التعذيب اى تعذيبا { لا اعذبه } صفة لعذابا والضمير له اى اعذبه تعذيبا لا اعذب ذلك التعذيب اى مثل ذلك التعذيب { احدا من العالمين } اى من عالمى زمانهم او من العالمين جميعا فانهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذب مثل ذلك غيرهم روى ان عيسى عليه السلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره ثم دعا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون حتى سقطت بين ايديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللّهم اجعلنى من الشاكرين اللّهم اجعلها رحمة للعالمين ولا تجعلها مثلة وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل الذى عليها وقال بسم اللّه خير الرازقين فاذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوكة يسيل دسمها وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من انواع البقول ما خلا الكراث واذا خمسة ارغفة على واحد منها زيتون وعلى الثانى عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون رأس الحواريين يا روح اللّه أمن طعام الدنيا ام من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه اخترعه اللّه بقدرته كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم اللّه ويزدكم من فضله فقالوا يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية آية اخرى فقال يا سمكة احيى باذن اللّه فاضطربت ثم قال لها عودى كما كنت فعادت مشوية فلبث المائدة يوما واحدا فأكل من اكل منها ثم طارت ولم تنزل بعد ذلك اليوم وقيل كانت تأتيهم اربعين يوما غبا اى تنزل يوما ولا تنزل يوما يجتمع عليها الفقراء والاغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى اذا فاء الفيىء طارت وهم ينظرون فى ظلها ولم يأكل منها فقير الا غنى مدة عمره ولا مريض الا برىء ولم يمرض ابدا ثم اوحى اللّه الى عيسى ان اجعل مائدتى فى الفقراء والمرضى دون الاغنياء الاصحاء فاضطرب الناس بذلك اى تعاظم على الاغنياء والاصحاء حتى شكوا وشككوا الناس فى شأن المائدة ونزولها من السماء حقيقة فمسخ منهم من مسخ فاصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة فى الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى وبكوا على الممسوخين فلما ابصرت الخنازير عيسى بكت وجعلت تطوف به وجعل يدعوهم باسمائهم واحدا بعد واحد فيبكون ويشيرون برؤسهم فلا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة ايام ثم هلكوا ولم يتوالدوا وكذلك كل ممسوخ والاشارة ان اللّه تعالى سلخ صورة الانسانية عن حقائق صفات الحيوانية وألبسهم الصور من حقائق صفاتهم فمسخوا خنازير ليعتبر الخلق ويتحقق لهم ان الناس يحشرون على صور صفاتهم يوم تبلى السرائر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه كما قال عليه السلام ( يموت الناس على ما عاشوا فيه ويحشرون على ما ماتوا عليه ) يعنى يحشرون على صورة صفاتهم التى ماتوا عليها : وفى المثنوى هر خيالى كوكند در دل وطن ... روز محشر صورتى خواهد شدن زانكه حشر حاسدان روز كزند ... بى كمان بر صورت كركان كنند حشربر حرص وخس ومردارخوار ... صورت خوكى بود روز شمار زانيانرا كنده اندام نهان ... خمر خوارانرا همه كنده دهان سيرتى كاندر وجودت غالبست ... هم بران تصوير حشرت واجبست قال القاضى فى تفسيره وعن بعض الصوفية المائدة عبارة عن حقائق المعارف فانها غذاء الروح كما ان الاطعمة غذاء البدن وعلى هذا فلعل الحال انهم رغبوا فى حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها وقال لهم عيسى ان حصلتم الايمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها فلم يقلعوا عن السؤال والجواب فيها فسأل لاجل اقتراحهم فبين اللّه تعالى ان انزاله سهل ولكن فيه خطر وخوف وعاقبة فان السالك اذا انكشف له ما هو اعلى من مقامه لعله لا يتحمله ولا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا انتهى كلام القاضى قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ان قوم عيسى عليه السلام عصوا مرة فرفعت المائدة وانا نعصى فى كل وقت مع ان نعم اللّه تعالى مترادفة وذلك لان المائدة التى نزلت عليهم من مرتبة الصفة والنعم الفائضة علينا مرتبة الذات وما هو من الذات لا يتغير ولا يتبدل وانما التغير فى الصفة وقد بقى هنا شىء وهو ان الاعياد اربعة لاربعة اقوام. احدها عيد قوم ابراهيم كسر الاصنام حين خرج قومه الى عيد لهم. والعيد الثانى عيد قوم موسى واليه الاشارة بقوله تعالى فى سورة طه { قال موعدكم يوم الزينة } والعيد الثالث عيد قوم عيسى واليه الاشارة بقوله تعالى { ربنا انزل علينا مائدة } الآية. والعيد الرابع عيد امة محمد عليه السلام وهو ثلاثة عيد يتكرر كل اسبوع وعيدان يأتيان فى كل عام مرة من غير تكرر فى السنة فاما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الاسبوع وهو مرتب على اكمال الصلوات المكتوبات لان اللّه فرض على المؤمنين فى اليوم والليلة خمس صلوات وان الدنيا تدور على سبعة ايام فكلما كمل دور اسبوع من ايام الدنيا واستكمل المسلمون صلواتهم شرع لهم فى يوم استكمالهم يوم الجمعة وهو اليوم الذى كمل فيه الخلق وفيه خلق آدم وادخل الجنة واخرج منها وفيه ينتهى امر الدنيا فتزول وتقوم الساعة فيه وفيه الاجتماع على سماع الذكر والموعظه وصلاة الجمعة وجعل ذلك لهم عيدا ولذلك نهى عن افراده بالصوم وفى شهود الجمعة شبه من الحج ويروى انها حج المساكين وقال سعيد بن المسيب شهود الجمعة احب الى من حجة نافلة والتكبير فيها يقوم مقام الهدى على قدر السبق والشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب الى الجمعة الاخرى اذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر كما ان الحج المبرور يكفر ذنوب تلك السنة الى الحجة الاخرى وقد روى اذا سلمت الجمعة سلمت الايام. واما العيدان اللذان يتكرران فى كل عام انما يأتى كل واحد منهما مرة واحدة فاحدهما عيد الفطر من صوم رمضان وهو مرتب على اكمال الصيام وهو الركن الثالث من اركان الاسلام ومبانيه فاذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم استوجبوا من اللّه المغفرة والعتق من النار فان صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب وآخره عتق من النار والعيد الثانى عيد النحر وهو اكبر العيدين وافضلهما وهو مترتب على اكمال الحج وهو الركن الرابع من اركان الاسلام ومبانيه فاذا اكمل المسلمون حجتهم غفر لهم وانما يكمل الحج يوم عرفة والوقوف بعرفة ركن الحج الاعظم وروى انس رضى اللّه عنه انه صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال قد ابدلكم اللّه بهما خيرا منهما الفطر والاضحى واجتمعت الامة على هذا من لدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الى يومنا هذا بلا نكير منكر فهذه اعياد الدنيا تذكر اعياد الآخرة وقد قيل كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فهو عيد لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه فيوم الجمعة فى الجنة. يدعى يوم المزيد ويوم الفطر والاضحى يجتمع اهل الجمعة فيهما للزيارة هذا لعوام اهل الجنة واما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا والخواص كانت ايام الدنيا كلها لهم اعيادا فصارت ايامهم فى الآخرة كلها اعيادا. واما اخص الخواص فكل نفس عيد لهم ١١٦ { واذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم } اى اذكر يا محمد للناس وقت قول اللّه تعالى لعيسى عليه السلام فى الآخرة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم باقراره عليه السلام على رؤوس الاشهاد بالعبودية وامره لهم بعبادته تعالى { ءأنت قلت للناس اتخذونى وامى آلهين } مفعول ثان للاتخاذ { من دون اللّه } حال من فاعل اتخذونى كأنه قيل صيرونى وامى آلهين اى معبودين متجاوزين عن الوهية اللّه تعالى ومعبوديته والمراد اتخاذهما بطريق اشراكهما به سبحانه كما فى قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه اندادا } لان احدا منهم لم يذهب الى القول بآلهية عيسى ومريم مع القول بنفى آلهية اللّه تعالى ولما لم يكن المقصود انكار نفس القول بل قصد توبيخ من قال به ولى حرف الاستفهام المبتدأ ولم يقل كذا لانه يفيد انكار نفس القول قال المولى ابو السعود رحمه اللّه ليس مدار اصل الكلام ان القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من ايلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال الفاشى وعليه قوله تعالى { ءانت فعلت هذا بآلهتنا } ونظاهره بل على ان المتيقن هو الاتخاذ والاستفهام لتعيين انه بامره عليه السلام او من تلقاء انفسهم كما فى قوله تعالى { ءانتم اضللتم عبادى هؤلاء ام هم ضلوا السبيل } انتهى قال فى التأويلات النجمية الاثبات بعد الاستفهام نفى كما ان النفى بعد الاستفهام اثبات كقوله { ألست بربكم } اى انا ربكم ونظير النفى فى الاثبات قوله تعالى { ءاله مع اللّه } اى ليس مع اللّه آله فمعناه ما قلت انت للناس اتخذونى وامى آلهين من دون اللّه ولكنهم بجهلهم قد بالغوا فى تعظيمك حتى اطروك وجاوزوا حدك فى المدح ولهذا قال النبى عليه السلام ( لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ) انتهى فان قيل ما وجه هذا السؤال مع علمه تعالى ان عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقله قيل ذلك لتوبيخ قومه وتعظيم امر هذه المقالة قال ابو روق اذا سمع عيسى هذا الخطاب ارتعدت مفاصله وانفجرت من اصل كل شعرة من جسده عين من دم وهذا الخطاب وان كان ظاهره مع عيسى ولكن كان حقيقة مع الامة لان سنة اللّه ان لا يكلم الكفار يوم القيامة ولا ينظر اليهم { قال } كأنه قيل فماذا يقول عيسى حينئذ فقيل يقول { سبحانك } علم للتسبيح اى انزهك تنزيها لائقا بك من ان اقول ذلك او من ان يقال فى حقك ذلك { ما يكون لى ان اقول ما ليس لى بحق } اى ما يستقيم وما ينبغى لى ان اقول قولا لا يحق لى ان اقوله { ان كنت قلته } اى هذا القول { فقد علمته } لانى لا اقدر على هذا القول الا بان توجد فىّ وتكونه بقولك كن فصدوره عنى مستلزم لعلمك به قطعا فحيث انتفى العلم انتفى الصدور حتما ضرورة ان عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم { تعلم ما فى نفسى } اى ما اخفيه فى نفسى كما تعلم ما اعلنه { ولا اعلم ما فى نفسك } اى ولا اعلم ما تخفيه من معلوماتك فعبر عما يخفيه اللّه من معلوماته بقوله ما فى نفسك للمشاكلة لوقوعه فى صحبة قوله تعلم ما فى نفسى فان معلومات الانسان مختفية فى نفسه بمعنى كون صورها مرتسمة فيها بخلاف معلومات اللّه تعالى فان علمه تعالى حضورى لا تنقطع صورة شىء منها فى ذاته فلا يصح ان يحمل النفس على المعنى المتبادر { انك انت علام الغيوب } ما كان وما يكون ١١٧ { ما قلت لهم الا ما امرتنى به } تصريح بنفى المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه اى ما امرتهم الا ما امرتنى به وانما قيل ما قلت لهم نزولا على قضية حسن الادب ومراعاة لما ورد فى الاستفهام { ان اعبدوا اللّه ربى وربكم } تفسير للضمير فى به وفى امرت معنى القول وليس تفسيرا لما فى قوله ما امرتنى لانه مفعول لصريح القول والتقدير الا ما امرتنى به بلفظ هو قولك ان اعبدوا اللّه ربى وربكم { وكنت عليهم شهيدا } رقيبا اراعى احوالهم واحملهم على العمل بموجب امرك وامنعهم عن المخالفة او مشاهدا لاحوالهم من كفر وايمان { ما دمت فيهم } اى مدة دوامى فيما بينهم { فلما توفيتنى } اى قبضتنى اليك من بينهم ورفعتنى الى السماء { كنت انت الرقيب عليهم } اى انت لا غيرك كنت الحافظ لاعمالهم والمراقب لها فمنعت من اردت عصمته عن المخالفة بالارشاد الى الدلائل والتنبيه عليها بارسال الرسول وانزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا { وأنت على كل شىء شهيد } مطلع عليه مراقب له فعلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة ١١٨ { ان تعذبهم فانهم عبادك } اى فانك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيه على انهم استحقوا التعذيب حيث عبدوا غيره تعالى { وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم } اى فلا عجز ولا استقباح فانك القادر والقوى على الثواب والعقاب الذى لا يثيب ولا يعاقب الا عن حكمة وصواب فان المغفرة مستحسنة لكل مجرم فان عذبت فعدل وان غفرت ففضل فان قلت مغفرة المشرك قطيعة الانتفاء بحسب الوجود وعدمه جائزا محتمل الوقوع قلت كون غفران المشرك قطعى الانتفاء بحسب الوجود لا ينافى كونه جائز الوجود بحسب العقل فصح استعمال كلمة ان فيهما لانه يكفى فى صحة استعمالها مجرد الامكان الذاتى والجواز وقيل الترديد بالنسبة الى فرقتين والمعنى ان تعذبهم اى من كفر منهم وان تغفر لهم اى من آمن منهم روى انه لما نزلت هذه الآية احيى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها ليلته وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد ثم قال ( امتى امتى يا رب ) فبكى فنزل جبرائيل عليه السلام فقال اللّه يقرئك السلام ويقول لك انا سنرضيك فى امتك ولا نسوءك ١١٩ { قال اللّه } اى يقول اللّه تعالى يوم القيامة عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا الى صدقه فى ضمن بيان حال الصادقين الذين هو فى زمرتهم { هذا } اى يوم القيامة وهو مبتدأ وخبره ما بعده { يوم ينفع الصادقين صدقهم } المراد الصدق فى الدنيا فان النافع ما كان حال التكليف فالجانى المعترف يوم القيامة بجنايته لا ينفعه اعترافه وصدقه وكذا الجانى المعترف فى الدنيا بجنايته لا ينفعه يومئذ اعترافه وصدقه فانه ليس المراد كل من صدق فى اى شىء كان بل فى الامور الدينية التى معظمها التوحيد الذى نحن بصدده والشرائع والاحكام المتعلقة به والصادقون الرسل الناطقون بالصدق الداعون الى ذلك والامم المصدقون لهم المعتقدون بهم عقدا وعملا { لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا } كأنه قيل ما لهم من النفع فقيل لهم نعيم دائم وثواب خالد وهو الفوز الكبير. قوله ابدا اى الى الابد تأكيد للخلود يعنى بالفارسية [ زمان بود ايشان نهايت ندارد ] { رضى اللّه عنهم } بالطاعة { ورضوا عنه } بنيل الكرامة والرضوان فيض زائد على الجنات لا غاية وراءه ولذلك قال تعالى { ذلك } اى نيل الرضوان { هو الفوز العظيم } اى النجاة الوافرة وحقيقة الفوز نيل المراد وانما عظم الفوز لعظم شأن المطلوب الذى تعلق به الفوز وهو الرضى الذى لا مطلب وراءه اصلا ١٢٠ { للّه ملك السموات والارض وما فيهن } تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا فى حق المسيح وامه اى له تعالى خاصة ملك السموات والارض وما فيهما من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء ايجادا واعداما واماتة واحياء وامرا ونهيا من غير ان يكون لشىء من الاشياء مدخل فى ذلك { وهو على كل شىء قدير } بالغ فى القدرة منزه عن العجز والضعف ومقدس تبارك وتعالى وتقدس نيست خلقش را دكركس مالكى ... شركتش دعوى كندجز هالكى واحد اندر ملك واورا يارنى ... بندكانش را جزاو سالارنى واعلم ان الآية نطقت بنفع الصدق يوم القيامة فلا ينفع الكذب والرياء بوجه من الوجوه اصلا دلا دلالت خيرت كنم براه نجات ... مكن بفسق مباهات وزهد هم مفروش فعلى العاقل ان يجتهد فى طريق الصدق فان الصدق بعد الايمان يجر الى الاحسان وقبل الايمان الى الايمال كما حكى عن ابراهيم الخواص قدس سره انه كان اذا اراد سفرا لم يعلم احدا ولم يذكره وانما يأخذ ركوته ويمشى قال حامد الاسود فبينما نحن معه فى مسجد اذ تناول ركوته ومشى فاتبعته فلما وافيا القادسية قال لى يا حامد الى اين قلت يا سيدى خرجت بخروجك قال انا اريد مكة ان شاء اللّه تعالى قلت وانا اريد مكة ان شاء اللّه تعالى فلما كان بعد ايام اذا بشاب قد انضم الينا فمشى يوما وليلة معنا لا يسجد للّه سجدة فقربت من ابراهيم وقلت ان هذا الغلام لا يصلى فجلس وقال يا غلام مالك لا تصلى والصلاة اوجب عليك من الحج فقال يا شيخ ما على صلاة قلت ألست بمسلم قال لا قلت فأى شىء انت قال نصرانى ولكن اشارتى فى النصرانية الى التوكل وادعت نفسى انها احكمت حال التوكل فلم اصدقها فيما ادعت حتى اخرجتها الى هذه الفلاة التى ليس فيها موجود غير المعبود اثير ساكنى وامتحن خاطرى فقام ابراهيم ومشى وقال دعه معك فلم يزل سائرا معنا حتى وافينا بطن مرو فقام ابراهيم ونزع خلقانه فطهرها بالماء ثم جلس وقال له ما اسمك قال عبد المسيح فقال يا عبد المسيح هذا دهليز مكة يعنى الحرم وقد حرم اللّه على امثالك الدخول اليه قال اللّه تعالى { انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والذى اردت ان تكشف من نفسك قد بان لك فاحذر ان تدخل مكة فان رأيناك بمكة انكرنا عليك قال حامد فتركناه ودخلنا مكة وخرجنا الى الموقف فبينما نحن جلوس بعرفات اذا به قد اقبل عليه ثوبان وهو محرم يتصفح وجوه الناس حتى وقف علينا فاكب على ابراهيم فقبل رأسه فقال له ما وراءك يا عبد المسيح فقال له هيهات انا اليوم عبد من المسيح عبده فقال له ابراهيم حدثنى حديثك قال جلست مكانى حتى اقبلت قافلة الحجاج فقمت وتنكرت فى زى المسلمين كأنى محرم فساعة وقعت عينى على الكعبة اضمحل عندى كل دين سوى دين الاسلام فاسلمت فاغتسلت واحرمت وها انا اطلبك يومى فالتفت الى ابراهيم وقال يا حامد انظر الى بركة الصدق فى النصرانية كيف هداه الى الاسلام ثم صحبناه حتى مات بين الفقراء رحمه اللّه سبحانه وتعالى سلام على السادات من كل صادق ... سلام على ذى الوجد من كل عاشق سلام على ذى الصحو من سكر غفلة ... سلام على الناجين من كل كلفة سلام على من مات من قبل موته ... سلام على من فات من قبل فوته اللّهم اجعلنا من الناجين فاننا من زمرة المحتاجين آمين يا معين |
﴿ ٠ ﴾