سُورَةُ النَّصْرِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَلاَثُ آياَتٍ ١ { اذا جاء نصر اللّه } اى اعانته تعالى واظهاره اياك على اعدآئك فان قلت لا شك ان ما وقع من الفتوح كان بنصرة المؤمنين فما وجه اضافتها الى اللّه قلت لان افعالهم مستندة الى دواعى قلوبهم وهى امور حادثة لا بد لها من محدث وهو اللّه تعالى فالعبد هو المبدأ الاقرب واللّه هو المبدأ الاول والخالق للدواعى ما يبتنى عليها من الافعال والعامل فى اذا هو سبح اى فسبح اذا جاء نصر اللّه ولا يمنع الفاء عن العمل على قول الاكثرين او فعل الشرط وليس اذا مضافا اليه على مذهب المحققين واذا لما يستقبل والاعلام بذلك قيل كونه من اعلام النبوة لما روى ان السورة نزلت قبل فتح مكة كما عليه الاكثر { والفتح } اى فتح مكة على ان الاضافة واللام للعهد وهو الفتح الذى تطمح اليه الابصار ولذلك سمى فتوح الفتوح ووقع الوعد به فى اول سورة الفتح وقد سبقت قصة الفتح فى تلك السورة وقيل جنس نصر اللّه مطلق الفتح على ان الاضافة واللام للاستغراق فان فتح مكة لما كان مفتاح الفتوح ومناطها كما ان نفسها ام القرى وامامها جعل مجيئه بمنزلة مجيئ سائر الفتوح وعلق به امره عليه السلام وانهما على جناح الوصول اليه عن قريب ويمكن ان يقال التعبير للاشارة الى حصول نصر اللّه بمجيئ جند بهم النصر وقيل نزلت السورة فى ايام النشريق بمنى فى حجة الوداع وعاش عليه السلام بعدها ثمانين يوما او نحوها فكلمة اذا حينئذ باعتبار أن بعض ما فى حيزها اعنى رؤيته دخول الناس الخ غير منقض بعد وقال سعدى المفتى وعلى هذه الوراية فكلمة اذا تكون خارجة عن معنى الاستقبال فانها قد تخرج عنه كما قيل فى قوله تعالى واذا رأوا تجارة الآية وفى المصطلحات ان الفتوح كل ما يفتح على العبد من اللّه تعالى بعد ما كان مغلقا عليه من النعم الظاهرة والباطنة كالارزاق والعبادات والعلوم والمعارف والمكاشفات وغير ذلك والفتح القريب هو ما انفتح على العبد من مقام القلب وظهور صفاته وكمالاته عند قطع منازل النفس وهو المشار اليه بقوله نصر من اللّه وفتح قريب والفتح المبين هو ما يفتح على العبد من مقام الولاية وتجليات انوار الاسماء الالهية المفنية لصفات القلب وكمالاته المشار اليه بقوله انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر يعنى من الصفات النفسانية والقلبية والفتح المطلق هو أعلى الفتوحات واكملها وهو ما انفتح على العبد من تجلا الذات الاحدية والاستغراق فى عين الجمع بفناء الرسوم الخلقية كلاه وهو المشار اليه بقوله اذا جاء نصر اللّه والفتح انتهى وقد سبق بعبارة اخرى فى سورة الفتح وعلى هذا فالمراد بالنصر هو المدد الملكوتى والتأييد القدسى بتجليات الاسماء والصفات وبالفتح هو الفتح المطلق الذى لا فتح ورآءه وهو فتح باب الحضرة الالهية الحدية والكشف الذاتى ولا شك ان الفتح الاول هو فتح ملكوت الافعال فى مقام القلب بكشف حجاب حس النفس بافناء افعالها فى افعال الحق والثانى هو فتح جبروت الصفات فى مقام الروح بكشف حجاب خيالها فابناء صفاتها فى صفاته والثالث هو فتح لاهوت الذات فى مقام السر بكشف حجب وهمها بافناء ذاتها فى ذاته ومن حصل له هذا النصر والفتح الباطنى حصل له النصر والفتح الظاهرى ايضا لان النصر والفتح من باب الرحمة وعند الوصول الى نهاية النهايات لا يبقى من السخط اثر اصلا ويستوعب الظاهر والباطن اثر الرحمة مطلقا ومن ثمة تفاوت احوال الكمل بداية ونهاية فظهر من هذا ان كلا من النصر والفتح فى الآية ينبغى ان يحمل على ما هو المطلق لكنى اقتفيت اثر أهل التفسير فى تقديم ما هو المقيد لكنه قول مرجوح تسامح اللّه عن قائله. ٢ { ورأيت الناس } أبصرتهم او علمتهم يعنى العرب واللام للعهد او الاستغراق العرفى جعلوه خطابا للنبى عليه السلام يحتمل الخطاب العام لكل مؤمن وحينئذ يظهر جواب آخر عن امر النبى عليه السلام بالاستغفار مع انه لا تقصير له اذ الخطاب لا يخصه فالامر بالاستغفار لمن سواه وادخاله فى الامر تغليب { يدخلون فى دين اللّه } اى ملة الاسلام التى لا دين يضاف اليه تعالى غيرها والجملة على تقدير الرؤية البصرية حال وعلى تقدير الؤية القلبية مفعول ثان وقال بعضهم ومما يحتلج فى القلب ان المناسب لقوله يدخلون الخ ان يحمل قوله والفتح على فتح باب الدين عليهم { افواجا } حال من فاعل يدخلون اى يدخلون فيه جماعات كثرة كأهل مكة والطائف واليمن وهو ازن وسائر قبائل العرب وكانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين روى انه عليه السلام لما فتح مكة اقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا اذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه احد وقد كان اللّه اجارهم من اصحاب الفيل من كل من ارادهم فكانوا يدخلون فى دين الاسلام افواجا من غير قتال ( قال الكاشفى ) درسال نزول اين سورة تتابع وفود بود جون بنى اسد وبنى مرة وبنى كلب وبنى كنانة بنى هلال وغير ايشان ازا كنف واطراف بخدمت آن حضرت آمده بشرف اسلام مشرف ميشدند . قال ابو عمر ابن عبد البر لم يمت رسول اللّه عليه السلام وفى العرب رجل كافر بل دخل الكل وفى الاسلام بعد حنين منهم من قدم ومنهم من قدم وافده وقال ابن عطية والمراد واللّه اعلم العرب عبدة الاوثان واما نصارى بنى تغلب فما اسلموا فى حياته عليه السلام ولكن اعطوا الجزية وفى عين المعانى الناس أهل البحر قال عليه السلام ( الايمان يمانى والحكمة يمانية ) وقال ( وجدت نفس ربكم من جانب اليمن ) اى تنفيسه من الكرب وعن جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه انى بكى ذات يوم فقيل له فى ذلك فقال سمعت رسول اللّه عليه السلام يقول ( دخل الناس فى دين اللّه افواجا وسيخرجون منه افواجا ) ٣ { فسبح بحمد ربك } التسبيح مجاز ن التعجب بعلاقة السببية فان من رأى امر اعجبنا يقول سبحان اللّه قال ابن الشيخ لعل الوجه فى اطلاق هذه الكلة عند التعجب كما ورد فى الاذكار ولكل اعجوبة سبحانه اللّه هو أن الانسان عند مشاهدة الامر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه وتنفعل نفسه منه كانه استقصر قدرة اللّه فلذلك خطر على قلبه ان يقول من قدرعليه وأوجده ثم انه فى هذا الزعم مخطئ فقال سبحان اللّه تنزيها لله عن العجز عن خلق امر عجيب يستبعد وقوعه لتيقنه بأن اللّه على كل شئ قدير قال الامام السهيلى رحمه اللّه سر اقتران الحمد بالتسبيح ابدا نحو سبح بحمد ربك وان من شئ الا يسبح بحمده ان معرفة اللّه تنقسم قسمين معرفة ذاته ومعرفة اسمائه وصفاته ولا سبيل الى اثبات احد القسمين دون الآخر واثبات وجود الذات من مقتضى العقل واثبات الاسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرف المسمى وبالشرع عرفت الاسماء ولا يتصور فى العقل اثبات الذات الا مع نفى سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وانما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنيه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الاسماء فانضاف لها التسبيح والحمد والثناء فما امر ان تسبيحه الا بحمده انتهى ومعنى الآية فقل سبحان اللّه حال كونك ملتبسا بحمده اى فتعجب لتيسير اللّه ما لم يخطر ببال احد من ان يغلب احد على أهل حرمه المحترم واحمده على جميع صنعه هذا على الرواية الاول ظاهر واما على الثانية فلعله امر بأن يداوم على ذلك استعظاما لنعمته لا باحداث التعجب لما ذكر فانه انما يناسب حالة الفتح وقال بعضهم والاشبه ان يراد نزهه عن العجز فى تأخير ظهور الفتح واحمده على التأخير وصفه بأن توقيت الامور من عنده ليس الا بحكم لا يعرفها الا هو انتهى او فاذكره مسبحا حامدا وزد فى عبادته والثناء عليه لزيادة انعامه عليك او فصل له حامدا على نعمه فالتسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية لانها تشتمل عليه فى الاكثر روى انه عليه السلام لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثمانى ركعات وحملها بعضهم على صلاة الشكر لا على صلاة الضحى وبعضهم على ان اربعا منها للشكر أربعا للضحى او فنزهه عما يقول الظلمة حامدا له على ان صدق وعده او فأثن على اللّه بصفات الجلال يعنى الصفات السلبية حامد له على صفات الاكرام يعنى الصفات الثبوتية اى على آثارها او على تنزيلها منزلة الاوصاف الاختيارية لكفاية الذات المقدس فى التصاف بها فان المحمود عليه يجب ان يكون امرا اختياريا وقال القاشانى نزه ذاتك عن الاحتجات بمقام القلب الذى هو معدن النبوة بقطع علاقة البدن والترقى الى مقام حق اليقين الذى هو معدن الولاية حامدا له باظهار كمالاته واوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلى { واستغفره } هضما لنفسك واستقصارا لعلمك واستعظاما لحقوق اللّه واستدراكا لما فرط منك من ترك الاولى او استغفره لذنبك وللمؤمنين وهو المناسب لما فى سورة محمد وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق الى الخلق حيث لم تشتغل على رؤية الناس باستغفارهم اولا مع ان رؤيتهم تستدعى ذلك بل اشتغل اولا بتسبيح اللّه وحمده لانه رأى اللّه قبل رؤية الناس كما قيل ما رأيت شيأ الا ورأيت اللّه قبله وذلك لان الناس مرءآة العارف وصاحب المرءآة يتوجه اولا الى المرئى وبرؤية المرئى تلتفت نفسه الى المرءآة ولك ان تقول ان فى التقديم المذكرو تعليم ادب الدعاء وهو ان لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسئول عنه عن عائشة رضى اللّه عنها انه كان عليه السلام يكثر قبل موته ان يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك واتوب اليك وعنه عليه السلام انى لاستغفر اللّه فى اليوم والليلة مائة مرة ومنه يعلم ان ورد الاستغفار لا يسقط ابدا لانه لا يخلو الانسان عن الغين والتلوين وروى انه لما قرأها النبى عليه السلام على اصحابه استبشروا وبكى العباس فقال عليه السلام ( ما يبكيك يا عم ) قال نعيت اليك نفسك اى ألقى اليك خبر موت نفسك والنعى ألقاء خبر الموت قال عليه السلام ( انها لكما تقول ) فلم ير عليه السلام بعد ذلك ضاحكا مستبشرا وقيل ان ابن عباس رضى اللّه عنهما هو الذى قال ذلك فقال عليه السلام ( لقد اوتى هذا الغلام علما وكثيرا ) ولذلك كان عمر يدنيه ويأذن له مع اهل بدر ولعل ذلك للدلالة على تمام امر الدعوة وتكامل امر الدين كقوله تعالى اليوم اكملت لكم دينكم والكمال دليل الزوال كما قيل. توقع زوالا اذا قيل تم . او لان الامر بالاستغفار تنبيه على قرب الاجل كأنه قال قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للامر ونبه به على ان العاقل اذا قرب اجله ينبغى ان يستكثر من التوبة وروى انها لما نزلت خطب رسول اللّه صلىلله عليه وسلم فقال ( ان عبدا خيره اللّه بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء اللّه ) فعلم ابو بكر رضى اللّه عنه فقال فديناك بانفسنا واموالنا وآبائنا واولادنا وعنه عليه السلام انه دعا فاطمة رضى اللّه عنها فقال ( يا بنتاه انه نعيت على نفسى ) يعنى خبروفات من دهند نامه رسيد ازان جهان بهر مراجعت برم ... عزم رجوع ميكنم رخت بجرخ ميبرم فبكت فقال ( لا تبكى فانك اول اهلى لحوقا بى ) فضحكت وعن ابن مسعود ان هذه السورة تسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا قالعلى رضى اللّه عنه لما نزلت هذه السورة مرض رسول اله عليه السم فخرج الى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل فتوفى بعد ايام قال الحسن رحمه اللّه أعلم انه قد اقترب اجله فامر بالتسبيح والتوبة ليختم له بالعمل الصالح وفيه تنبيه لكل عاقل { انه كان توابا } مبالغا فى قبول توبتهم منذ خلق المكلفين فليكن كل تائب مستغفر متوقعا للقبول وذلك ان قبول التوبة من الصفات الاضافية ولا منازعة فى حدوثها فاندفع ما يرد ان المفهوم من الآية انه تعالى تواب فى الماضى وكونه تواباى الماضى كيف يكون علة للاستغفار فى الحال والمستقبل وفى اختيار انه كان توابا على غفار مع انه الذى يستدعيه قوله واستغفر حتى قيل وتب مضمر بعده والا لقال غفارا تنبيه على ان الاستغفار انما ينفع اذا كان مع التوبة والندم والعزم على عدم العود ثم ان من اضمر وتب يحتمل انه جعل الآية من الاحتباك حيث دل بالامر بالاستغفار علت التعليل بأنه كان غفارا وبالتعليل بأنه كان توابا على الامر بالتوبة اى استغفره وتب. ذكر البرهان الرشيدى ان صفات اللّه تعالى التى على صيغة المبالغة كلها مجاز لانها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لان المبالغة ان يثبت للشئ اكبر اكثر مما له وصفاته تعالى منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقى الدين السبكى رحمه اللّه وقال الزر كشى فى البرهان التحقيق ان صيغة المبالغة قسمان احدهما ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل والثانى بحسب تعدد المفعولات ولا شك ان تعددها لا يوجب للفعل زيادة اذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين وعلىهذا القسم تنزل صفاته ويرفع الاشكال ولهذا قال بعضهم فى حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة الى الشرآئع وقال فى الكشاف المبالغة فى التواب للدلالة على اكثرة من يتوب عليه او لانه بليغ فى قبول التوبة بحيث ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه. |
﴿ ٠ ﴾