سورة البقرة

سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آية

١

قال الفقيه رحمة اللّه عليه حدثنا أبي رحمه اللّه قال حدثني محمد بن حامد قال حدثنا علي بن إسحاق قال حدثنا محمد بن مروان عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى { الم } قال أنا اللّه أعلم ومعنى قول ابن عباس أنا اللّه أعلم يعني الألف أنا واللام اللّه والميم أعلم لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب قد كانت تذكر حرفا وتريد به تمام الكلمة ألا ترى إلى قول القائل

( قلنا لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف )

يعني بالقاف قد وقفت

وقال الكلبي هذا قسم أقسم اللّه تعالى بالقرآن أن هذا الكتاب الذي أنزل على قلب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو الكتاب الذي نزل من عند اللّه تعالى لا ريب فيه

وقال بعض أهل اللغة إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح لأن جواب القسم معقود على حروف مثل إن وقد ولقد وما واللام وهنا لم نجد حرفا من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون يمينا ولكن الجواب أن يقال موضع القسم

قوله { لا ريب فيه } فلو أن إنسانا حلف فقال واللّه هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديدا وتكون { لا } جوابا للقسم فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد

فإن قيل إيش الحكمة في القسم من اللّه تعالى وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين مصدق ومكذب فالمصدق يصدق بغير قسم والمكذب لا يصدق مع القسم

قيل له القرآن نزل بلغة العرب والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه فاللّه تعالى أراد أن يؤكد عليهم بالحجة فأقسم أن القرآن من عنده

وقد قيل { الم } الألف اللّه واللام جبريل والميم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويكون معناه اللّه الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه

وقال بعضهم كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء اللّه تعالى فالألف مفتاح اسمه اللّه واللام مفتاح اسمه لطيف الميم مفتاح اسمه مجيد ويكون معناه اللّه اللطيف المجيد أنزل الكتاب

وروي عن محمد بن علي الترمذي الحكيم أنه قال إن اللّه تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس

وروي عن الشعبي أنه قال إن للّه تعالى سرا خفيا جعله في كتبه وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة

وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي اللّه عنهم أنهم قالوا الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي اللّه عنه أنه قال ( هو اسم من أسماء اللّه تعالى فرقت حروفه في السور ) يعني أن هاهنا قد ذكر { الم } وذكر { الر } في موضع آخر { حم } في موضع آخر { نون } في موضع آخر فإذا جمع يكون { الرحمن } كذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسما من أسماء اللّه

وذكر عن قطرب أنه قال المشركون كانوا لا يسمعون القرآن كما قال اللّه تعالى { والغوا فيه لعلكم تغلبون } فصلت ٢٦ فأراد أن يسمعهم شيئا لم يكونوا سمعوه ليحملهم ذلك على الاستماع حتى يلزمهم الحجة

وقال بعضهم إن المشركين كانوا يقولون لا نفقه هذا القرآن لأنهم قالوا { قلوبنا في أكنة } فصلت ٥ فأراد اللّه أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت عليها ألسنتكم فما لكم لا تفقهون وإنما أراد بذكر بعض الحروف تمام الحروف كما أن الرجل يقول علمت ولدي ألف باء تاء ثاء وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة

وقال بعضهم هو شعار السور وكان اليهود أعداء اللّه فسروه على حروف الجمل لأنه ذكر أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن الأخطب ومالك بن الضيف وشعبة بن عمرو دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا بلغنا أنك قرأت { الم ذلك الكتاب } فإن كنت صادقا فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة لأن الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قالوا له وهل غير هذا قال نعم { المص } فقالوا هذا أكثر لأن { ص } تسعون فقالوا هل غير هذا قال نعم { الر } فقالوا هذا أكثر لأن الراء مائتان ثم ذكر { المر } فقالوا خلطت علينا يا محمد لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة فتفسيره نحو ما ذكرنا ها هنا واللّه أعلم بالصواب

٢

قوله تعالى { ذلك الكتاب } يعني هذا الكتاب { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه مني لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه وقد يوضع { ذلك } بمعنى هذا كما قال القائل

( أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا أنني أنا ذلكا )

يعني هذا وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذين كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك

وقال بعضهم معناه ذلك الكتاب الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

وروي عن زيد بن أسلم أنه قال أراد بالكتاب اللوح المحفوظ يعني الكتاب الذي ثبت في اللوح المحفوظ

وقوله { لا ريب فيه } يعني أنه لا شك فيه أنه من اللّه تعالى ولم يختلقه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من تلقاء نفسه

فإن قيل كيف يجوز أن يقال { لا شك فيه } وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون

قيل معناه { لا شك فيه } عند المؤمنين وعند العقلاء

وقيل { لا شك فيه } أي لا ينبغي أن يشك فيه لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من اللّه تعالى

وقوله عز وجل { هدى للمتقين } يعني بيانا من الضلالة للمتقين الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة وبيان لهم من الشبهات وبيان الحلال من الحرام

فإن قيل فيه بيان لجميع الناس فكيف أضاف إلى المتقين خاصة

قيل له لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان ويعملون به فإذا كانوا هم الذين ينتفعون به صار في الحاصل البيان لهم

روي عن أبي روق أنه قال { هدى للمتقين } أي كرامة لهم يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم

٣

قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } يعني يصدقون بالغيب والغيب هو ما غاب عن العين وهو محضر في القلب وإنما أراد به أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ومن تابعهم إلى يوم القيامة أنهم يصدقون بغيب القرآن أنه من اللّه تعالى فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويقال يؤمنون بالغيب يعني باللّه تعالى

قال حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا أصحابنا عن الحرث بن قيس أنه قال لعبد اللّه بن مسعود نحتسب لكم يا أصحاب محمد ما سبقتمونا إليه من رؤية محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصحبته فقال عبد اللّه بن مسعود ونحن نحتسب لكم إيمانكم به ولم تروه وأن أفضل الإيمان إيمان بالغيب ثم قرأ عبد اللّه { الذين يؤمنون بالغيب }

وقد قيل { يؤمنون بالغيب } يعني يصدقون بالبعث بعد الموت

قوله { ويقيمون الصلاة } يعني يحافظون على الصلوات الخمس بمواقيتها وركوعها وسجودها والتضرع بعدها

وقد قيل معناه يقيمون الصلاة أي يديمون الصلاة بمعنى المداومة

وقد قيل إن العبد إذا صلّى صلاة تقبل منه خلق اللّه تعالى منها ملكا يقوم ويصلي للّه تعالى إلى يوم القيامة وثوابه لصاحب الصلاة فهذا معنى قوله { ويقيمون الصلاة }

وقوله تعالى { ومما رزقناهم ينفقون } أي يتصدقون قال الكلبي وهو زكاة المال

وروى أسباط عن السدي عن أصحابه قال هي نفقة الرجل على أهله وهذا قبل نزول آية الزكاة ويقال يعني يتصدقون صدقة التطوع ويقال هي عليهما جميعا الفريضة والتطوع

٤

قوله تعالى { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني بالقرآن

قوله { وما أنزل من قبلك } يعني التوراة والإنجيل وسائر الكتب ويقال لما نزلت هذه الآية { الذين يؤمنون بالغيب } قالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالغيب فلما قال { ويقيمون الصلاة } قالوا نقيم الصلاة فلما قال { ومما رزقناهم ينفقون } قالوا ننفق ونتصدق فلما قال { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } نفروا من ذلك

وقوله { وبالآخرة هم يوقنون } يعني يقرون بيوم القيامة والجنة والنار والبعث والحساب والميزان واليقين على ثلاثة أوجه يقين عيان ويقين خبر ويقين دلالة

فأما يقين العيان إذا رأى شيئا زال الشك عنه في ذلك الشيء

وأما يقين الدلالة فهو أن يرى دخانا يرتفع من موضع يعلم باليقين أن هناك نارا وإن لم يرها وأما يقين الخبر فإن الرجل يعلم باليقين أن في الدنيا مدينة يقال لها بغداد وإن لم يكن يعاينها فها هنا يقين خبر ويقين دلالة أن الآخرة حق ولكن تصير معاينة عند الرؤية

٥

قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } يعني أهل هذه الصفة الذين سبق ذكرهم على بيان من اللّه تعالى يعني أكرمهم اللّه تعالى في الدنيا حيث هداهم وبين لهم طريقهم

وقوله تعالى { وأولئك هم المفلحون } في الآخرة يعني هم الناجون يعني أن اللّه تعالى أكرمهم في الدنيا بالبيان وفي الآخرة بالنجاة

وقد قيل الفلاح هو البقاء في النعمة

وقد قيل الفلاح إذا بلغ الإنسان نهاية ما يأمل ويقال معناه قد وجدوا ما طلبوا ونجوا من شر ما هربوا منه وكل ما في القرآن { المفلحون } فتفسيره هكذا

٦

قوله تعالى { إن الذين كفروا } { إن } هاهنا للتأكيد وهو حرف من حروف القسم والكفر في اللغة هو الستر يقال ليلة كافرة إذا كانت شديدة الظلمة وإنما سمي الكافر كافرا لأنه يستر نعمة اللّه تعالى

وقوله عز وجل { سواء عليهم أأنذرتهم } قرأ أهل الكوفة وعاصم وحمزة والكسائي بهمزتين { أأنذرتهم } وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام بهمزة واحدة مع المد { آنذرتهم } وتفسير القراءتين لا يختلف قال مقاتل نزلت هذه الآية في مشركي قريش منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم وقال الكلبي نزلت في رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب قال الكلبي وليس هو بأخي حيي

وقال بعضهم هو أخو حيي دخلوا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث سألوه عن { الم } و { المص } خرجوا من عنده فنزل قوله { إن الذين كفروا } يعني جحدوا القرآن { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم } يعني خوفتهم أو لم تخوفهم { لا يؤمنون } أي لا يصدقون

فإن قيل إذا علم أنهم لا يؤمنون فما معنى دعوتهم إلى الإسلام

قيل له لان في الدعوة زيادة الحجة عليهم كما أن اللّه تعالى بعث موسى إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام وعلم أنه لا يؤمن وجواب آخر أن الآية خاصة وليست بعامة وإنما أراد به بعض الكفار الذين ثبتوا على كفرهم كما روي عن صفية بنت حيي بن أخطب قالت رجع أبي وعمي من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أحدهما لصاحبه ما ترى في هذا الرجل فقال إنه نبي فقال ما رأيك في اتباعه فقال رأيي أن لا أتبعه وأن أظهر له العداوة إلى الموت فأنزلت هذه الآية في شأن مثل هؤلاء الذين قد ظهر لهم الحق وكانوا لا يؤمنون فقال { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } وأصل الإنذار هو الإعلام يعني خوفتهم بالنار وأعلمتهم بالعذاب أو لم تعلمهم فهو سواء ولا يصدقونك

٧

قوله تعالى { ختم اللّه على قلوبهم } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يعني طبع اللّه ومعنى الختم على القلوب ليس أنه يذهب بعقولهم ولكنهم لا يتفكرون فيعتبرون بعلامات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيؤمنون { وعلى سمعهم } يعني لا يسمعون الحق { وعلى أبصارهم غشاوة } يعني غطاء فلا يبصرون الهدى واتفقت الأئمة السبعة على رفع الهاء { غشاوة } وقرأ بعضهم بنصب الهاء { غشاوة } وهي قراءة شاذة

فأما من قرأ برفع الهاء فهو على معنى الابتداء يعني ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم ثم ابتدأ فقال { وعلى أبصارهم غشاوة } وأما من قرأ بالنصب فيكون الجعل فيه مضمرا يعني جعل على أبصارهم غشاوة فقد ذكر في شأن المؤمنين ثوابهم في الدنيا الهدى وفي الآخرة الفلاح وذكر في شأن الكفار عقوبتهم في الدنيا الختم وفي الآخرة كما

قال تعالى { ولهم عذاب عظيم } يعني عذابا وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم

قال الفقيه رحمه اللّه وفي الآية إشكال في موضعين أحدهما في اللفظ والآخر في المعنى فأما في اللفظ قال { ختم اللّه على قلوبهم } ذكر جماعة القلوب

ثم قال { وعلى سمعهم } ذكر بلفظ الوحدان

ثم قال { وعلى أبصارهم } ذكر بلفظ الجمع فجوابه أن السمع مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع فلهذا ذكر بلفظ الوحدان واللّه أعلم

وقد قيل { وعلى سمعهم } يعني موضع سمعهم لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضعه

وقد قيل إن الإضافة إلى الجماعة تغني عن لفظ الجماعة لأنه قال { وعلى سمعهم } فقد أضاف إلى الجماعة والشيء إذا أضيف إلى الجماعة مرة يذكر بلفظ الجماعة ومرة يذكر بلفظ الوحدان فلو ذكر القلوب والأبصار بلفظ الوحدان لكان سديدا في اللغة فذكر البعض بلفظ الوحدان وذكر البعض بلفظ الجماعة وهذه علامة الفصاحة لأن كتاب اللّه تعالى أفصح الكلام

وأما الإشكال الذي في المعنى أن يقال إذا ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فمنعهم عن الهدى فكيف يستحقون العقوبة والجواب عن هذا أن يقال إن ختم اللّه مجازاة لكفرهم كما قال فى آية أخرى { بل طبع اللّه عليها بكفرهم } النساء١٥٥ لأن اللّه تعالى قد يسر عليهم السبيل فلو جاهدوا لوفقهم كما قال في آية أخرى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } العنكبوت ٦٩ فلما لم يجاهدوا واختاروا الكفر عاقبهم اللّه تعالى في الدنيا بالختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم وفي الآخرة بالعذاب العظيم

وروي عن مجاهد أنه قال من أول سورة البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين

وروي عن مقاتل أنه قال آيتان من أول السورة في نعت المؤمنين المهاجرين وآيتان في نعت مؤمني أهل الكتاب وآيتان في نعت الكفار وثلاث عشرة آية في نعت المؤمنين غير المهاجرين وآيتان في نعت المنافقين من قوله { ومن الناس } إلى قوله { إن اللّه على كل شيء قدير }

٨

قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا باللّه } قوله { من } للتبعيض فإنه أراد به بعض الناس ولم يرد به جميع الناس فكأنه قال بعض الناس يقولون آمنا باللّه

وقد قيل معناه ومن الناس ناس يقولون آمنا باللّه يعني صدقنا باللّه وصدقنا { وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت } وما هم بمؤمنين { يعني ليسوا بمصدقين بل هم منافقون منهم عبد اللّه بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وجد بن قيس ومن تابعهم من المنافقين وفي هذه الآية دليل على أن القول بغير تصديق القلب لا يكون إيمانا لأن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم ولم يكن لهم تصديق القلب فنفى اللّه الإيمان عنهم فقال } وما هم بمؤمنين

٩

قوله تعالى { يخادعون اللّه } وأصل الخداع في اللغة الستر يقال للبيت الذي يخزن فيه المال مخدع والعرب تقول انخدعت الضب في جحرها فكان المنافقون يظهرون الإيمان ويسترون نفاقهم وكفرهم فقال { يخادعون اللّه والذين آمنوا } يعني يكذبون ويخالفون اللّه والذين آمنوا ويقال يظنون أنهم يخادعون اللّه والذين آمنوا لأنه قد بين في سياق الآية حيث قال { وما يخدعون إلا أنفسهم }

وروى عن الأخفش أنه قال اجترؤوا على اللّه حتى ظنوا أنهم يخادعون اللّه وقال بكر بن جريج يظهرون لا إله إلا اللّه يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وأنفسهم ويقال يظهرون غير ما في أنفسهم وهذا موافق لما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( علامة المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان وإذا حدث كذب )

وقوله { وما يخدعون إلا أنفسهم } قرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي { وما يخدعون } بغير ألف وقرأ الباقون { وما يخادعون } بالألف وتفسير القراءتين واحد يعني وبال الخداع يرجع إليهم يضر بأنفسهم

وقوله { وما يشعرون } قال الكلبي يعني وما يعلمون أن اللّه يطلع نبيه على كذبهم

وقال بعضهم معناه وما يشعرون أن وبال الخداع يرجع إليهم

١٠

قوله تعالى { في قلوبهم مرض } يعني شكا ونفاقا وظلمة وضعفا لأن المريض يكون فيه فترة ووهن والشاك أيضا في أمره فترة وضعف وعبر بالمرض عن الشك لأن المنافقين فيهم ضعف ووهن ألا ترى إلى قوله تعالى { يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو } المنافقون٤ ويقال إن المريض يعرض للّهلاك فسمي النفاق مرضا لأن النفاق يهلك صاحبه

ثم قال تعالى { فزادهم اللّه مرضا } وهذا اللفظ يحتمل معنين يحتمل الخبر عن الماضي ويحتمل الدعاء فإن كان المراد به الخبر فمعناه في قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضا إلى مرضهم كما قال آية أخرى { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } التوبة ١٢٥ لأن كل سورة نزلت يشكون فيها فكان ذلك زيادة المرض لهم وللمؤمنين زيادة اليقين وإن كان المراد به الدعاء فمعناه فزادهم اللّه مرضا على مرضهم على وجه الذم والطرد لهم كما قال في آية أخرى { قتلهم اللّه } التوبة ٣٠

فإن قيل كيف يجوز أن يحمل على وجه الدعاء وإنما يحتاج إلى الدعاء عند العجز

قيل له هذا تعليم من اللّه تعالى أنه يجوز الدعاء على المنافقين والطرد لهم لأنهم شر خلق اللّه تعالى ولأنه وعد لهم يوم القيامة الدرك الأسفل من النار

ثم قال { ولهم عذاب أليم } يعني مؤلما أي عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم قوله { بما كانوا يكذبون } يعني مجازاة لتكذيبهم قرأ حمزة وابن عامر { فزادهم اللّه } بكسر الزاي وهي لغة لبعض العرب وقرأ أبو عمرو وعاصم بالفتح وهي اللغة الظاهرة وقرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { يكذبون } بتخفيف الذال وقرأ الباقون بتشديد الذال فمن قرأ بالتخفيف معناه بما كانوا يكذبون بقولهم إنهم مؤمنون وجحدوا في السر لأنهم كفروا باللّه وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم في السر ومن قرأ بالتشديد فمعناه بما كانوا يكذبون يعني ينسبون محمدا إلى الكذب ويجحدون نبوته

١١

قوله { وإذا قيل } قرأ الكسائي برفع القاف { قيل لهم } وكذلك كل ما ذكر في القرآن قيل وغيض وسيء وحيل وسيق وقرأ حمزة وعاصم وغيرهما بكسر القاف وأصله في اللغة قول مع الواو فحذفت الواو للتخفيف فجعل الكسائي الرفع مكان الواو وقرأ غيره بالكسر للتخفيف

والآية نزلت في شأن المنافقين { وإذا قيل لهم } يعني المنافقين { لا تفسدوا في الأرض } يعني لا تعملوا فيها بالمعاصي وهو الفساد لأن الأرض كانت قبل أن يبعث النبي فيها الفساد وكان يعمل فيها بالمعاصي فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ارتفع الفساد وصلحت الأرض فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها كما قال في آية أخرى { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } الأعراف ٥٦و٨٥

{ قالوا إنما نحن مصلحون } يعني نعمل بالطاعة ولا نعمل بالفساد

وقد قيل معناه { لا تفسدوا في الأرض } يعني لا تداهنوا بين الناس ولا تعملوا بالمداهنة { قالوا إنما نحن مصلحون } يعني لا نعادي الكفار ولا المؤمنين حتى لو كانت الغلبة للمؤمنين أو للكفار لا يصيبنا من دائرتهم شيء

١٢

قال اللّه تعالى { ألا إنهم هم المفسدون } في الأرض وليسوا بمصلحين لأن عداوتهم مع الفريقين لأن كل فريق منهم يعلم أنهم ليسوا معهم

وقد قيل معناه لا تفسدوا في الأرض بتفريق الناس عن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يعني لا تصرفوا الناس عن دينه { قالوا إنما نحن مصلحون } بتفريقنا عن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ألا إنهم هم المفسدون } ألا كلمة تنبيه فنبه المؤمنين وأعلمهم نفاقهم فكأنه قال ألا أيها المؤمنون اعلموا أنهم هم المفسدون العاصون ويكون تكرار كلمة { هم } على وجه التأكيد والعرب إذا كررت الكلام تريد به التأكيد

ثم قال تعالى { ولكن لا يشعرون } أنهم مفسدون

١٣

 قوله تعالى { وإذا قيل لهم آمنوا كما ءامن الناس } قال في ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما إن هذه الآية نزلت في شأن اليهود { وإذا قيل لهم } يعني اليهود { آمنوا كما آمن الناس } يعني عبد اللّه بن سلام وأصحابه { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } يعني الجهال الخرقى

قال اللّه تعالى { ألا إنهم هم السفهاء } يعني الجهال الخرقى بتركهم الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ولكن لا يعلمون } أنهم السفهاء

وقال مقاتل نزلت هذه الآية في شأن المنافقين وهكذا قال مجاهد ومعناه { وإذا قيل لهم } يعني للمنافقين { آمنوا } يعني صدقوا بقلوبكم كما صدق أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قالوا : أنؤمن } يعني أنصدق كما صدق الجهال

قال اللّه تعالى { ألا إنهم هم السفهاء } يعني الجهال بتركهم التصديق في السر ولكن لا يعلمون أنهم جهال

١٤

قوله تعالى { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } هذه الآية نزلت في ذكر المنافقين منهم عبد اللّه بن أبي بن سلول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وغيرهم وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي اللّه عنهم مروا بقوم من المنافقين فقال عبد اللّه بن أبي لأصحابه انظروا كيف أرد هؤلاء الجهال عنكم فتعلموا مني كيف أكلمهم فأخذ بيد أبي بكر وقال مرحبا بسيد بني تميم وثاني اثنين وصاحبه في الغار وصفيه من أمته الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أخذ بيد عمر قال مرحبا بسيد بني عدي القوي في أمر اللّه تعالى الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أخذ بيد علي فقال مرحبا بسيد بني هاشم ما خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الباذل نفسه ودمه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والسابق إلى الهجرة فقال له علي ( اتق اللّه يا عبد اللّه ولا تنافق فإن المنافقين شر خليقة اللّه تعالى ) قال فلم تقول لي هكذا وإيماني كإيمانكم وتصديقي كتصديقكم ثم افترقوا فقال عبد اللّه لأصحابه كيف رأيتم ردي بهؤلاء عنكم فقالوا له لا نزال بخير ما عشت لنا فنزلت الآية { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } يعني إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم

وقوله تعالى { وإذا خلوا إلى شياطينهم } قال الكلبي يعني إلى كهنتهم وهم خمسة رهط من اليهود ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان منهم كعب بن الأشرف بالمدينة وأبو بردة الأسلمي في بني سليم وأبو السواد بالشام وعبد الدار من جهينة وعوف بن مالك من بني أسد ويقال { وإذا خلوا إلى شياطينهم } يعني إلى رؤسائهم في الضلالة وقال أبو عبيدة كل عات متمرد فهو شيطان

ثم قال تعالى { قالوا إنا معكم } على دينكم { إنما نحن مستهزئون } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه رضي اللّه عنهم

١٥

قال اللّه تعالى { اللّه يستهزئ بهم } يعني يجازيهم جزاء الاستهزاء وفي رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ( أن الاستهزاء أن يفتح لهم وهم في جهنم باب من الجنة فيقبلون ويسبحون في النار والمؤمنون على الأرائك ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وفتح لهم باب آخر في مكان آخر والمؤمنون ينظرون إليهم ويضحكون ) كما قال في آية أخرى { فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون } المطففين ٣٤ الآية وقال مقاتل الاستهزاء ما ذكره اللّه تعالى في سورة الحديد { يوم يقول المنافقون والمنفقات للذين ءامنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } الحديد١٣ فهذا استهزاء بهم

ثم قال تعالى { و يمدهم في طغيانهم يعمهون } يعني يتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون عقوبة لهم لاستهزائهم

١٦

وقوله تعالى { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } يعني اختاروا الكفر على الإيمان وفي الآية دليل أن الشراء قد يكون بالمعنى دون اللفظ وهو المبادلة لأن اللّه تعالى سمى استبدالهم الضلالة بالهدى شراء ولم يكن هنالك لفظ شراء

وقوله { فما ربحت تجارتهم } فقد أضاف الربح إلى التجارة على وجه المجاز والعرب تقول ربحت تجارة فلان وخسرت تجارة فلان وإنما يريدون به أنه ربح في تجارته وخسر في تجارته واللّه تعالى أنزل القرآن بلغة العرب على ما يتعارفون فيما بينهم قال { فما ربحت تجارتهم } يعني فما ربحوا في تجارتهم

وقوله تعالى { وما كانوا مهتدين } قال بعضهم معناه وما هم بمهتدين في الحال كقوله تعالى { كيف نكلم من كان فى المهد صبيا } مريم ٢٩ يعني من هو في المهد في الحال

وقال بعضهم معناه { وما كانوا مهتدين } من قبل لأنهم لو كانوا مهتدين من قبل لوفقهم اللّه تعالى في الحال ولكن لما لم يكونوا مهتدين من قبل خذلهم اللّه تعالى مجازاة لأفعالهم الخبيثة

١٧

قوله تعالى { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } روى معاوية بن طلح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين هم حوالي المدينة فقال { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت } يعني كمثل من كان في المفازة في الليلة المظلمة وهو يخاف السباع فأوقد نارا فأمن بالنار من السباع { فلما أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم } طفئت ناره وبقي في ظلمة كذلك اليهود الذين كانوا حوالي المدينة كانوا يقرون بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يخرج وكانوا إذا حاربوا أعداءهم من المشركين يستنصرون باسمه ويقولون بحق نبيك محمد أن تنصرنا فلما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقدم المدينة حسدوه وكذبوه وكفروا به فطفئت نارهم وبقوا في ظلمات الكفر

وقال مقاتل نزلت في المنافقين يقول مثل المنافق مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كمثل رجل في مفازة فأوقد نارا ليأمن بها على نفسه وعياله وماله فكذلك المنافق يتكلم بلا إله إلا اللّه مراءاة للناس فيأمن بها على نفسه وعياله وماله ويناكح مع المسلمين فكان له نورا بمنزلة المستوقد النار يمشي في ضوئها ما دامت ناره تتقد فلما أضاءت النار أبصر ما حوله بنورها وذهب نورها فبقي في ظلمة

قوله تعالى { ذهب اللّه بنورهم } أي يذهب اللّه بنور الإيمان الذي يتكلم به { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } الهدى فكذلك المنافق إذا بلغ آخر عمره بقي في ظلمة كفره وهكذا فسر قتادة والقتبي وغيرهما

١٨

ثم قال عز وجل { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } وقي قراءة عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه صما بكما عميا وإنما جعلها نصبا لوقوع الفعل عليها يعني وتركهم صما بكما عميا وقرأ غيره { صم بكم عمي } وتفسير الآية أنهم يتصاممون حيث لم يسمعوا الحق ولم يتكلموا بالحق ولم يبصروا العبرة والهدى فكأنهم صم بكم عمي ولأن اللّه تعالى خلق السمع والبصر واللسان لينتفعوا بهذه الأشياء فإذا لم ينتفعوا بالسمع والبصر صار كأن السمع والبصر لم يكن لهم كما أن اللّه تعالى سمى الكفرة موتى حيث قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه } الأنعام ١٢٢ يعني كافرا فهديناه وإنما سماهم موتى واللّه أعلم لأنه لا منفعة لهم في حياتهم فكأن تلك الحياة لم تكن لهم فكذلك السمع والبصر واللسان إذا لم ينتفعوا بها فكأنها لم تكن لهم وكأنهم { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } يعني لا يرجعون إلى الهدى

وقال القتبي معنى قوله { وتركهم في ظلمات } قال الظلمة الأولى كانت ظلمة الكفر واستيقادهم النار قول لا إله إلا اللّه وإذا خلوا إلى شياطينهم فنافقوا وقالوا { إنا معكم إنما نحن مستهزءون } البقرة ١٤ فسلبهم نور الإيمان وبقوا في ظلمة الكفر { وتركهم في ظلمات لا يبصرون }

١٩

قوله تعالى { أو كصيب من السماء فيه ظلمات } يعني كمطر نزل من السماء فضرب لهم اللّه تعالى مثلا آخر لأن العرب كانوا يوضحون الكلام بذكر الأمثال فاللّه تعالى ضرب لهم الأمثال ليوضح عليهم الحجة فضرب لهم مثلا بالمستوقد النار ثم ضرب لهم مثلا آخر بالمطر

فإن قيل كلمة { أو } إنما تستعمل للشك فما معنى { أو } ها هنا

فقيل له { أو } قد تكون للتخيير فكأنه قال إن شئتم فاضربوا لهم مثلا بالمستوقد النار وإن شئتم فاضربوا لهم المثل بالمطر فأنتم مصيبون في ضرب المثل في الوجهين جميعا وهذا كما قال في آية أخرى { أو كظلمات في بحر لجي } النور ٤٠ فكذلك ها هنا { أو } للتخيير لا للشك

وقد قيل { أو } بمعنى الواو يعني وكصيب من السماء معناه مثلهم كرجل في مفازة في ليلة مظلمة فنزل مطر من السماء وفي المطر ظلمات { ورعد وبرق } والمطر هو القرآن لأن في المطر حياة الخلق وإصلاح الأرض فكذلك القرآن فيه هدى للناس وبيان من الضلالة وإصلاح الأرض فلهذا المعنى شبه القرآن بالمطر والظلمات هي الشدائد والمحن التي تصيب المسلمين والشبهات التي في القرآن والرعد هو الوعيد الذي ذكر للكفار والمنافقين في القرآن والبرق ما ظهر من علامات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ودلائله

وقوله تعالى { ويجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } يعني يتصاممون عن استماع الحق ( حذر الموت ) يعني لحذر الموت والكلام إنما ينصب لنزع الخافض مثل قوله { واختار موسى قومه } الأعراف ١٥٥ أي من قومه فكذلك هاهنا { حذر الموت } يعني لحذر الموت ومعناه مخافة أن ينزل في القرآن شيء يظهر حالهم كما قال في آية أخرى { نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا } التوبة ١٢٧

قال بعضهم في الآية مضمر ومعناها يجعلون أصابعهم في آذانهم من الرعد ويغمضون أعينهم من الصواعق

وقال أهل اللغة الصاعقة صوت ينزل من السماء فيه نار فمن قال بهذا القول لا يحتاج إلى الإضمار في الآية يجعلون أصابعهم في آذانهم من خوف الصاعقة

ثم قال { واللّه محيط بالكافرين } يعني عالم بأعمالهم والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله واللّه أعلم

٢٠

قوله تعالى { يكاد البرق يخطف أبصارهم } يعني ضوء البرق يذهب ويختلس بنوره أبصارهم من شدة ضوء البرق فكذلك نور الإيمان من المنافق يكاد يغشى على الناس كفره في سره حتى لا يعلموا كفره

وقد قيل معناه يكاد أن يظهر عليهم نور الإسلام فيثبتون على ذلك

ثم قال { كلما أضاء لهم مشوا فيه } يعني كلما لمع البرق في الليلة المظلمة مضوا فيه { وإذا أظلم عليهم } يعني إذا ذهب ضوء البرق { قاموا } متحيرين فكذلك المنافق إذا تكلم بلا إله إلا اللّه يمضي مع المؤمنين ويمنع بها من السيف فإذا مات بقي متحيرا نادما ويقال معناه { كلما أضاء لهم مشوا فيه } البقرة ٢٠ يعني كلما ظهر لهم دليل نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وظهرت لهم علاماته مالوا إليه { وإذا أظلم عليهم } يعني أصابت المسلمين محنة كما أصابتهم يوم أحد وكما أصابتهم يوم بئر معونة { قاموا } أي ثبتوا على كفرهم

وروي أسباط عن السدي أنه قال كان رجلان من المنافقين هربا من المدينة إلى المشركين فأصابهما المطر الذي ذكر اللّه فيه ظلمات ورعد وبرق كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما فإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لمع يلمع لم يبصرا فقاما مكانهما فجعلا يقولان يا ليتنا لو أصبحنا فنأتي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فنضع أيدينا في يده فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب اللّه تعالى بشأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين كانوا بالمدينة

ثم قال تعالى { ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم } قال بعضهم { بسمعهم } الظاهر الذي في الرأس { وأبصارهم } التي في العين كما ذهب بسمع قلوبهم وأبصار قلوبهم عقوبة لهم

وقد قيل معناه ولو شاء لجعلهم صما وعميا في الحقيقة كما جعلهم صما وعميا في الحكم فقد قيل { ولو شاء اللّه } لجعلهم صما وعميا في الآخرة كما جعلهم في الدنيا

وروي في إحدى الروايتين عن ابن عباس أنه قال هذا من المكتوم الذي لا يفسر ثم

قال تعالى { إن اللّه على كل شيء قدير } من العقوبة وغيرها

٢١

قوله تعالى { يأيها الناس اعبدوا ربكم } يعني أطيعوا ربكم ويقال وحدوا ربكم وهذه الآية عامة وقد تكون كلمة { يا أيها الناس } خاصة لأهل مكة وقد تكون عامة لجميع الخلق فهاهنا { يا أيها الناس } لجميع الخلق يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعصاة أطيعوا ربكم ويقول للمنافقين أخلصوا دينكم معرفة ربكم ويقول للمطيعين اثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل هذه الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم واعلم أن النداء في القرآن على ستة مراتب نداء مدح ونداء ذم ونداء تنبيه ونداء إضافة ونداء نسبة ونداء تسمية فأما نداء المدح فمثل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } { يا أيها النبي } { يا أيها الرسل } ونداء الذم مثل قوله تعالى { يا أيها الذين كفروا } { يا أيها الذين هادوا } ونداء التنبيه مثل قوله تعالى { يا أيها الإنسان } { يا أيها الناس } ونداء الإضافة مثل قوله تعالى { يا عبادي } ونداء النسبة مثل قوله تعالى { يا بني آدم } { يا بني إسرائيل } ونداء التسمية مثل قوله تعالى { يا عبادي } ونداء النسبة مثل قوله تعالى { يا بني آدم } { يا بني إسرائيل } ونداء التسمية مثل قوله تعالى { يا داود } { يا إبراهيم } والنداء السابع نداء التعنيف مثل قوله تعالى { يا أهل الكتاب } فهاهنا ذكر نداء التنبيه فقال { يا أيها الناس } أخبر بالنداء أنه يريد أن يأمر أمرا أو ينهى عن شيء ثم بين الأمر فقال { اعبدوا ربكم } يعني وحدوا وأطيعوا ربكم { الذي خلقكم } معناه أطيعوا ربكم الذي هو خالقكم فخلقكم ولم تكونوا شيئا { والذين من قبلكم } يعني وخلق الذين من قبلكم { لعلكم تتقون } المعصية وتنجون من العقوبة

٢٢

قوله تعالى { الذي جعل لكم الأرض فراشا } معناه اعبدوا ربكم الذي خلقكم و { جعل لكم الأرض فراشا } يعني مهادا وقرأرا وقال أهل اللغة الأرض بساط العالم

وروي عن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه أنه قال ( إنما سميت الأرض أرضا لأنها تأرض ما في بطنها ) يعني تأكل ما فيها

وقال بعضهم لأنها تتأرض بالحوافر والأقدام { والسماء } في اللغة ما علاك وأظلك يعني اذكروا اللّه بهذه النعم واعبدوه واعرفوا شكر هذه النعم حيث جعل لكم الأرض فراشا والسماء { بناء } يعني سقفا قال ابن عباس رضي اللّه عنه في رواية الكلبي ( كل سماء مطبقة على الأخرى مثل القبة وسماء الدنيا ملتزقة أطرافها على الأرض ) ويقال { والسماء بناء } يعني مرتفعا

ثم قال { وأنزل من السماء ماء } يعني المطر { فأخرج به } يعني أنبت بالمطر { من الثمرات رزقا لكم } يعني من ألوان الثمار { رزقا } يعني طعاما لكم

وقوله تعالى { فلا تجعلوا للّه أندادا } يعني لا تقولوا له شركاء { وأنتم تعلمون } وأنه خالق هذه الأشياء وغيره لا يستطيع أن يخلق شيئا من هذه الأشياء ويقال كل شيء في هذه الدنيا فيه دلالة على كونه الخالق من أربعة أوجه فوجود هذه الأشياء وكونها يدل على كون الصانع واستقامتها يدل على توحيده وهو استقامة الليل والنهار والشتاء والصيف وخروج الثمرات وحدوث كل شيء في وقته لأن المدبر لو كان اثنين لم تكن على الاستقامة كما قال في آية أخرى { لو كان فيهما ءالهة إلا اللّه لفسدتا } الأنبياء ٢٢ وتجانسها يدل على أن الخالق واحد عالم حيث خلق الأشياء أجناسا مختلفة وتمام الأشياء يدل على أن خالقها قديم قادر

٢٣

قوله تعالى { وإن كنتم في ريب مما نزلنا } قال بعضهم هذا الخطاب لليهود يعني { وإن كنتم في ريب } يعني في شك { مما نزلنا } يعني من القرآن { على عبدنا } محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أنه ليس من اللّه تعالى { فأتوا بسورة من مثله } يعني من مثل هذا القرآن من التوراة يعني فأتوا بسورة من التوراة وقابلوها بالقرآن فتجدوها موافقة لما في التوراة فتعلموا به أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لم يختلقه من تلقاء نفسه وأنه من اللّه تعالى { وادعوا شهداءكم من دون اللّه } يعني استعينوا بأحباركم ورهبانكم { إن كنتم صادقين } فيما تشكون فيه

وقال بعضهم نزلت في شأن المشركين فقال { وإن كنتم في ريب } أي في شك { مما نزلنا } من القرآن { على عبدنا } محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتقولون إنه اختلقه من تلقاء نفسه { فأتوا بسورة } أي فاختلقوا بسورة من مثل هذا القرآن لأنكم شعراء وفصحاء { وادعوا شهداءكم } يعني استعينوا بآلهتكم ويقال استعينوا بخطبائكم وشعرائكم { إن كنتم صادقين } أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه

وقال قتادة معناه { فأتوا بسورة } فيها حق وصدق ولا باطل فيها وكان الفقيه أبو جعفر رحمه اللّه يقول الهاء إشارة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكأنه قال فأتوا بسورة من مثل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لم يكن قرأ الكتب فأتوا بسورة من رجل لم يقرأ الكتب كما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال هذه الآيات أصل لجميع ما تكلم به المتكلمون في التوحيد والعلم والشريعة لأن في أول الآية إثبات الصانع ثم في الآية الأخرى إثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فاللّه تعالى أمرهم أولا بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا عنها ثم أمرهم بسورة من مثله فعجزوا عنها فنزلت هذه الآية { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان } الإسراء ٨٨ الآية

٢٤

ثم قال عز وجل { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } { لم } تستعمل للماضي { ولن } تستعمل للمستقبل فكأنه قال فإن لم تفعلوا أي لم تأتوا في الماضي ولن تفعلوا أي لن تأتوا في المستقبل وتجحدون بغير حجة { فاتقوا النار }

قال قتادة معناه { فإن لم تفعلوا } ولن تقدروا أن تفعلوا ولن تطيقوا { فاتقوا النار } يقول احذروا النار { التي وقودها الناس والحجارة } يعني حطبها الناس إذا صاروا إليها والحجارة قبل أن يصيروا إليها ويقال معناه إن مع كل إنسان من أهل النار حجرا معلقا في عنقه حتى إذا طفئت النار رسبه به الحجر إلى الأسفل ويقال { وقودها الناس والحجارة } أي حجارة الكبريت وإنما جعل حطبها من حجارة الكبريت لأن لها خمسة أشياء ليست لغيرها أحدها أنها أسرع وقودا والثاني أنها أبطأ خمودا والثالث أنها أنتن رائحة والرابع أنها أشد حرا والخامس أنا ألصق بالبدن

ثم قال { أعدت للكافرين } يعني وهيئت وخلقت وقدرت لهم

٢٥

ثم قال { وبشر الذين آمنوا } فقد ذكر في أول الآية إثبات الصانع وذكر حجته ثم ذكر إثبات الكتاب والنبوة ثم ذكر الوعيد للكافرين لمن لا يؤمن باللّه ثم ذكر ثواب للمؤمنين وهكذا في جميع القرآن في كل موضع ذكر عقوبة الكفار ثم ذكر على أثره ثواب المؤمنين لتسكن قلوبهم إلى ذلك وتزول عنهم الوحشة لكي يثبتوا على إيمانهم ويرغبوا في ثوابه فقال { وبشر الذين آمنوا } يعني فرح قلوب الذين آمنوا يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به جبريل عليه السلام { وعملوا الصالحات } يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { أن لهم } يعني بأن لهم { جنات } وهي البساتين { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار { وكلما رزقوا منها } يعني أطعموا منها أي من الجنة { من ثمرة رزقا } يعني طعاما { قالوا هذا الذي رزقنا } يعني أطعمنا من الجنة { من قبل } قال بعضهم معناه إذا أتي بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ثم إذا أتي بها في آخر النهار { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } يعني الذي أطعمنا في أول النهار لأن لونه يشبه لون ذلك فإذا أكلوا منه وجدوا لها طعما غير طعم الأول

وقال بعضهم معناه { كلما رزقوا من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } يعني في الدنيا لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا فإذا أكلوا وجدوا طعمها غير ذلك

ثم قال { وأتوا به متشابها } قال بعضهم معناه { متشابها } يعني في المنظر مختلفا في الطعم

وقيل { متشابها } يعني يشبه بعضها بعضا في الجودة ولا يكون فيها رديء

قال الفقيه رحمه اللّه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء يعني أسماء الثمار

ثم قال تعالى { ولهم فيها أزواج مطهرة } يعني مهذبة في الخلق ويقال مطهرة في الخلق والخلق

فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يبلن ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء

وأما الخلق فهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن

ثم قال تعالى { وهم فيها خالدون } يعني دائمين لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا

٢٦

قوله تعالى { إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا } وذلك أنه لما نزل قول اللّه تعالى { إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا } الحج ٧٣ وقال في آية أخرى { مثل الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت } العنكبوت ٤١ قالت اليهود والمشركون إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت فنزلت هذه الآية { إن اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } يعني لا يمتنع من ضرب المثل وبيان الحق بذكر البعوضة وبما فوقها ويقال لا يمنعه الحياء أن يضرب المثل ويروي ويصف للحق شبها { ما بعوضة } يعني ببعوضة { فما فوقها } يعني بالذباب وبالعنكبوت

وقال بعضهم { فما فوقها } يعني فما دونها فى الصغر وهذا من أسماء الأضداد يذكر الفوق ويراد به دونه كما يذكر الوراء ويراد الأمام به مثل قوله { ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } الإنسان ٢٧ يعني أمامهم فكذلك يذكر الفوق ويراد به ما دونه يعني يضرب المثل بالبعوضة وبما دون البعوضة بعد أن يكون فيه إظهار الحق وإرشاد إني وكيف الهوى وكيف يمتنع من ضرب المثل بالبعوضة ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا بعوضة لا يقدرون عليه ويقال إنما ذكر المثل بالبعوضة لأن خلقة البعوضة أعجب خلقة لأن خلقتها تشبه خلقة الفيل قيل إن البعوضة ما دامت جائعة عاشت فإذا شبعت ماتت فكذلك إذا الادمي استغنى فإنه يطغى فضرب اللّه المثل للآدمي

ثم قال تعالى { فأما الدين آمنوا } يعني صدقوا وأقروا بتوحيد اللّه تعالى { فيعلمون أنه الحق من ربهم } يعني المثل بالذباب والعنكبوت فيؤمنون به

{ وأما الذين كفروا } يعني اليهود والمشركين { فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا } بذكر البعوضة والذباب

قال اللّه تعالى { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } يعني إنما ضرب المثل ليضل به كثيرا من الناس يعني يخذلهم ولا يوفقهم للّهدى { ويهدي به كثيرا } يعني يوفق به على معرفة ذلك المثل كثيرا من الناس وهم المؤمنون

وقال بعضهم معناه { يضل به كثيرا } يعني يسميه ضالا كما يقال فسقت فلانا يعني سميته فاسقا لأن اللّه تعالى لا يضل أحدا وهذا طريق المعتزلة وهو خلاف جميع أقاويل المفسرين وهو غير محتمل في اللغة أيضا يقال ضللّه إذا سماه ضالا ولا يقال أضله إذا سماه ضالا ولكن معناه ما ذكره المفسرون أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم

قوله تعالى { وما يضل به إلا الفاسقين } يعني وما يهلك وأصل الضلالة الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا صار مستهلكا وما يهلك وما يخذل به يعني بالمثل إلا الفاسقين يعني العاصين وأصل الفسق في اللغة هو الخروج من الطاعة والعرب تقول فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ويقال للفأرة فويسقة لأنها تخرج من الحجر وقال اللّه تعالى { ففسق عن أمر ربه } الكهف ٥٠ يعني خرج عن طاعة ربه ثم نعت الفاسقين

٢٧

فقال عز وجل { الذين ينقضون عهد اللّه } يعني يتركون أمر اللّه ووصيته { من بعد ميثاقه } يعني من بعد تغليظه وتوكيده وذلك أن اللّه تعالى أمر موسى عليه السلام في التوراة بأن يأمر قومه فيقروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويصدقوه إذ خرج وكان موسى عليه السلام عاهدهم على ذلك فلما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نقضوا العهد وكذبوه ولم يصدقوه ويقال إنما أراد به العهد الذي أخذه من بني آدم من ظهورهم حيث قال { ألست بربكم قالوا بلى } الأعراف ١٧٢ يقال إنه أراد به العهد فنقضوا ذلك العهد والميثاق وهم يقرون                                                                                                                                                                                           

فإن قال قائل فكيف يجوز هذا واليهود كانوا مقرين باللّه تعالى فكيف يكون نقض العهد وهم مقرون

قيل له إذا لم يصدقوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقد أشركوا باللّه لأنهم لم يصدقوا بأن القرآن من عند اللّه ومن زعم أن القرآن قول البشر فقد أشرك اللّه تعالى وصار ناقضا للعهد ويقال الميثاق الذي يعرف كل واحد ربه إذا تفكر في نفسه فكان ذلك بمنزلة أخذ الميثاق عليه وجميع ما في القرآن من ذكر الميثاق فهو على هذه الأوجه الثلاثة

وقوله تعالى { ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل } روى الضحاك وعطاء عن ابن عباس أنه قال ( إنهم أمروا أن يؤمنوا بجميع الأنبياء فآمنوا ببعضهم ولم يؤمنوا ببعضهم ) فهذا معنى قوله { ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل } ويقال أمروا بصلة القرابات فقطعوا الأرحام فيما بينهم ويقال كان بين اليهود والعرب قرابة من وجه لأن العرب كانت من أولاد إسماعيل واليهود من أولاد إسحاق فإذا لم يؤمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقد قطعوا ذلك الرحم الذي كان بينهم

وقوله تعالى { ويفسدون في الأرض } لأنهم يكفرون ويأمرون غيرهم بالكفر فذلك فسادهم في الأرض { أولئك هم الخاسرون } أي المغبونون بالعقوبة وقال الكلبي ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله منزل وأهل وخدم في الجنة فإن أطاع اللّه تعالى أتى أهله وخدمه ومنزله في الجنة وإن عصى اللّه تعالى ورثه اللّه تعالى المؤمنين فقد غبن عن أهله وخدمه كما قال في آية أخرى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } الزمر ١٥

وقال بعضهم هذا التفسير لا يصح لأنه لا يجوز أن يقال للكافر منزل في الجنة وخدم ولكن يقال له هذا على وجه المثل أن الكافر لو آمن كان له منزل وخدم في الجنة إلا أن الكلبي لم يقل ذلك من ذات نفسه وإنما رواه عن أبي صالح عن ابن عباس

٢٨

قوله تعالى { كيف تكفرون باللّه وكنتم } قال ابن عباس هو على وجه التعجب وقال الفراء هو على وجه التوبيخ والتعجب لا على وجه الاستفهام فكأنه قال ويحكم كيف تكفرون وتجحدون بوحدانية اللّه تعالى

فإن قيل كيف يجوز التعجب من اللّه تعالى والتعجب وإنما يكون ممن سمع شيئا لم يكن سمعه أو رأى شيئا لم يكن رآه فيتعجب لذلك واللّه تعالى قد علم الأشياء قبل كونها

قيل له التعجب من اللّه تعالى يكون على وجه التعجيب والتعجب هو أن يدعو إلى التعجب فكأنه يقول ألا تتعجبون أنهم يكفرون باللّه تعالى وهذا كما قال في آية أخرى { وإن تعجب فعجب قولهم } الرعد ٥

ثم قال { وكنتم أمواتا فأحياكم } يعني كنتم نطفا في أصلاب آبائكم فأحياكم في أرحام أمهاتكم { ثم يميتكم } عند انقطاع آجالكم { ثم يحييكم } للبعث يوم القيامة { ثم إليه ترجعون } في الآخرة فتثابون بأعمالكم قال الكلبي فلما ذكر البعث عرف اليهود فسكتوا وأنكر ذلك المشركون قالوا ومن يستطيع أن يحيينا بعد الموت فنزل قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } البقرة ٢٩

فإن قيل كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لليهود وهم لم يكفروا باللّه تعالى

فالجواب ما سبق ذكره أنهم لما أنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقد أنكروا وحدانية اللّه تعالى لأنهم أخبروا أن القرآن قول البشر

٢٩

قوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } يعني قدر خلقها لأن الأشياء كلها لم تخلق في ذلك الوقت لأن الدواب والثمار وغيرها التي في الأرض تخلق وقتا فوقتا ولكن معناه قدر خلق الأشياء التي في الأرض

وقوله { ثم استوى إلى السماء } هذه الآية من المشكلات والناس في هذه الآية وما شالكها على ثلاثة أوجه قال بعضهم نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها وهذا كما روي عن مالك بن أنس أن رجلا سأله عن قوله { الرحمن على العرش استوى } طه ٥فقال ( مالك الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه ) فنظروا فإذا هو جهم بن صفوان

وقال بعضهم نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة

وقال بعضهم نقرأها ونتأولها وللتأويل في هذه الآية وجهان أحدهما { ثم استوى إلى السماء } يعني صعد أمره إلى السماء وهو قوله { كن فكان } والثاني { ثم استوى إلى السماء } يعني أقبل إلى خلق السماء

فإن قيل قد قال في آية أخرى { أم السماء بناها رفع سمكها فسواها } إلى قوله { والأرض بعد ذلك دحاها } النازعات ٢٧ - ٢٨ - ٣٠ فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء وذكر في هذه الآية أن السماء خلقت بعد الأرض الجواب عن هذا أن يقال خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله { والأرض بعد ذلك دحاها} يعني بسطها

ثم قال تعالى { فسواهن } يعني خلقهن { سبع سماوات } فهن أعظم من خلقكم { وهو بكل شيء عليم } يعني بكل خلق عليم معناه أن الذي خلق لكم الأرض جميعا وخلق السماوات قادر على أن يحييكم بعد الممات قرأ نافع والكسائي وأبو عمرو { وهو } بجزم الهاء وقرأ الباقون بضم الهاء { وهو } في جميع القرآن وهم لغتان ومعناهما واحد

٣٠

قوله تعالى { وإذ قال ربك للملائكة } روي عن أبي عبيدة أنه قال معناه وقال ربك و { إذا } زيادة وروي عن الفراء أنه قال معناه واذكر إذ قال ربك وقال مقاتل معناه وقد قال ربك للملائكة والملائكة جميع الملك وهذا اللفظ على غير القياس لأنه يقال ملائكة بالهمزة ويقال للواحد ملك بغير همز وإنما قيل ذلك لأنه في الأصل كان مالك بالهمز فأسقط الهمزة للتخفيف وأصله من لأك يألك والألوكة الرسالة كما قال القائل

( وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل )

وإنما سميت الملائكة ملائكة لأنهم رسل اللّه تعالى وإنما أراد ها هنا بعض الملائكة وهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن اللّه تعالى لما خلق الأرض خلق الجان من مارج من نار أي من لهب من نار لا دخان لها فكثر نسله وهم الجن بنو الجان فعملوا في الأرض بالمعاصي وسفكوا الدماء فبعث اللّه تعالى ملائكة سماء الدنيا وأمر عليهم إبليس وكان اسمه عزازيل حتى هزموا الجن وأخرجوهم من الأرض إلى جزائر البحور فسكنوا الأرض فصار الأمر عليهم في العبادة أخف لأن كل صنف من الملائكة يكون أرفع في السماوات فيكون خوفهم أشد وملائكة سماء الدنيا يكون أمرهم أيسر من الذين فوقهم فلما سكنوا الأرض صار الأمر عليهم أخف مما كانوا وسكنوا الأرض واطمأنوا إليها وكل من اطمأن إلى الدنيا أمر بالتحول عنها فأخبرهم اللّه تعالى أنه يريد أن يخلق خليفة في الأرض سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك فذلك

قوله تعالى{ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } يعني أريد أن أخلق في الأرض خليفة سواكم فشق ذلك عليهم وكرهوا ذلك { فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } يعني أتخلق فيها { من يفسد فيها } كما أفسدت الجن { ويسفك الدماء } كما سفكت الجن { ونحن نسبح بحمدك } يعني نصلي لك بأمرك ويقال معناه نحن نسبحك ونحمدك ونقدس لك  

قال بعضهم نقدس أنفسنا لك يعني نظهر أنفسنا بالعبادة عن المعصية

وقال بعضهم { ونقدس لك} أي ننسبك إلى الطهارة

قال اللّه تعالى { قال إني أعلم ما لا تعلمون } قال مجاهد علم من إبليس المعصية وعلم من أدم الخدمة والطاعة ولم تعلم الملائكة بذلك وقال ابن عباس قد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدس له ويطيع أمره ويقال قد علم اللّه تعالى أنه سيكون في ولده من الأنبياء والصالحين والأبرار وذكر في الخبر أنه لما أراد اللّه تعالى أن يخلق آدم بعث جبريل ليجمع التراب من وجه الأرض فلما نزل جبريل وأراد أن يجمع التراب قالت له الأرض بحق اللّه عليك لا تفعل فإني أخشى أن يخلق من ذلك خلقا يعصي اللّه تعالى فأستحي من ربي فصعد جبريل وقال لو أمرني ربي بالرجوع إليها لفعلت فلما صعد بعث اللّه تعالى ميكائيل فتضرعت إليه الأرض بمثل ذلك فرجع ميكائيل فبعث اللّه تعالى عزرائيل فتضرعت إليه الأرض فقال عزرائيل أمر اللّه أولى من قولك فجمع التراب من وجه الأرض الطيبة والسبخة والأحمر والأصفر وغير ذلك ثم صعد إلى السماء فقال اللّه تعالى أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك فقال رأيت أمرك أوجب من قولها فقال اللّه تعالى أن تصلح لقبض أرواح ولده فصار ذلك التراب طينا وكان طينا أربعين سنة ثم صار صلصالا كما قال في آية آخرى { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } الرحمن ١٤ فكان إبليس إذا مر عليه مع الملائكة قال أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون فقالوا نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه وقال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه لأهلكنه فلما سواه ونفخ فيه من روحه وعلمه أسماء الأشياء التي في الأرض يعني ألهمه

٣١

فذلك قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } يعني ألهمه أسماء الدواب وغيرها

{ ثم عرضهم على الملائكة } هكذا مكتوب في مصحف الإمام عثمان رضي اللّه عنه

وأما مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب ففي أحدهما { ثم عرضها } وفي الآخر ( ثم عرضهن على الملائكة )

فأما من قرأها { ثم عرضهن } يعني به جماعة الدواب ومن قرأ { ثم عرضها } يعني به جميع الأسماء

وأما من قرأ { ثم عرضهم } يعني به جماعة الأشخاص إذ الأشخاص تصلح أن تكون عبارة عن المذكر والمؤنث وإن اجتمع لفظ المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث

ثم قوله تعالى { فقال أنبؤوني بأسماء هؤلاء } يعني أخبروني عن أسماء هذه الأشياء التي في الأرض { إن كنتم صادقين } في قولكم { أتجعل فيها من يفسد فيها } وقال مقاتل معناه كيف تقولون فيما لم أخلق بعد أنهم يفسدون وأنتم لا تعرفون ما ترونه وتنظرون إليه

ويقال في هذه الآية دليل على أن أولى الأشياء بعد علم التوحيد ينبغي أن يتعلم علم اللغة لأنه أراهم فضل آدم بعلم اللغة

وقال بعضهم إنما علمه الأسماء وما فيها من الحكمة ليظهر فضله بعلم الأسماء وما فيها من الحكمة

٣٢

قوله { قالوا سبحانك لا علم لنا } نزهوه وتابوا إليه عن مقالتهم ومعناه سبحانك تبنا إليك من مقالتنا يعني ما ألهمتنا

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ( سبحان اللّه تنزيه اللّه عن كل ما لا يليق به ) وقال بعض أهل اللغة اشتقاقه من السباحة لأن الذي يسبح يباعد ما بين طرفيه فيكون فيه معنى التبعيد

وقال بعضهم هذه لفظة جمعت بين كلمتي تعجب لأن العرب إذا تعجبت من شيء قالت حان والعجم إذا تعجبت من شيء قالت سب فجمع بينهما فصار سبحان

وقوله تعالى { إنك أنت العليم الحكيم } يعني أنت عالم بما يكون في السموات والأرض { الحكيم } في أمرك إذا حكمت أن تجعل في الأرض خليفة غيرنا ويقال معنى { العليم الحكيم } على وجه الحكمة التي تدرك الأشياء بحقائقها وكان حكمه موافقا للعلم

٣٣

قوله تعالى { قال يا آدم انبئهم } يعني أخبرهم { بأسمائهم } يعني أسماء الدواب وغيرهما وما فيها من الحكمة وما يحل أكله وما لا يحل أكله { فلما أنبأهم } يعني أخبرهم { بأسمائهم }

قال اللّه تعالى لهم { ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض } يعني سر أهل السماوات وسر أهل الأرض وما يكون فيهما { وأعلم ما تبدون } أين تظهرون من الطاعة لآدم يعني الملائكة { وما كنتم تكتمون } يعني ما أسر إبليس في نفسه حين قال لئن فضل علي لا أطيعه ولئن فضلت عليه أهلكته

وقيل إنهم كانوا يقولون حين أراد أن يخلق آدم إنه لا يخلق أحدا أفضل منهم فهذا الذي كانوا يكتمون وهذا القول ذكر عن قتادة ويقال أنه لما خلق آدم أشكل عليهم أن آدم أعلم أم هم فسألهم عن الأسماء فلم يعرفوها وسأل آدم عن الأسماء فأخبرهم بها فظهر لهم أن آدم أعلم منهم ثم أشكل عليهم أنه أفضل أم هم فلما أمرهم بالسجود له فظهر لهم فضله

٣٤

وهو قوله تعالى { وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وأصل السجود في اللغة هو الميلان والخضوع والعرب تقول سجدت النخلة إذا مالت وسجدت الناقة إذا طأطأت رأسها ومالت وإنما كانت سجدة التحية لا سجدة العبادة وكانت السجدة تحية لآدم وطاعة للّه تعالى { فسجدوا } كلهم { إلا إبليس } يقال إبليس أسم أعجمي ولذلك لا ينصرف وهو قول أبي عبيدة وقال غيره هو أفعيل من أبلس يبلس إذا يئس وكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه أيئسه من رحمته وكان اسمه عزازيل ويقال عزائيل وإنما لم ينصرف لأنه لا سمي له فاستثقل وقال ابن عباس إنما سمي آدم لأنه خلقه من أديم الأرض

وروي عن قطرب أنه قال هذا الخبر لا يصح لأن العربية لا توافقه ويقال هو مأخوذ من الأدمة وهو الذي يكون في لونه سمرة { إلا إبليس أبى وأستكبر } يعني امتنع عن السجود تكبرا معناه أن كبره منعه من السجود

وقوله تعالى { وكان من الكافرين }

قال بعضهم وصار من الكافرين كما قال في آية أخرى { فكان من المغرقين } هود ٤٣ يعني صار من المغرقين ويقال { كان من الكافرين } في علم اللّه معناه كان في علم اللّه تعالى أنه يكفر

وقال بعضهم بظاهر الآية وقال كان كافرا في الأصل وهو قول أهل الجبر وقالوا كل كافر أسلم فقد ظهر أنه كان مسلما في الأصل وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافرا في الأصل لأنه كان كافرا يوم الميثاق ألا ترى أن اللّه تعالى قال في قصة بلقيس { إنها كانت من قوم كافرين } النمل ٤٣ ولم يقل إنها كانت كافرة وقال في قصة إبليس { وكان من الكافرين } وقال أهل السنة والجماعة الكافر إذا أسلم كان كافرا إلى وقت إسلامه وإنما صار مسلما بإسلامه إلا انه غفر له ما قد سلف والمسلم إذا كفر كان مسلما إلى ذلك الوقت إلا أنه حبط عمله

٣٥

قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } قال ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال أمر اللّه تعالى ملائكته أن يحملوا آدم على سرير من ذهب إلى السماء فأدخلوه الجنة ثم خلق منه زوجه حواء يعني من ضلعه الأيسر وكان آدم بين النائم واليقظان وقال ابن عباس رضي اللّه عنه سميت حواء لأنها خلقت من الحي ويقال إنما سميت حواء لأنه كان في شفتيها حوة يعني حمرة فقال عز وجل { يا آدم اسكن أنت وزوجك } يعني حواء يقال للمرأة زوجة وزوج والزوج أفصح

وقوله تعالى { وكلا منها } يعني من الجنة { رغدا } يعني موسعا عليكما بلا فوت ولا هنداز بالزاي المعجمة هكذا قال في رواية الكلبي يعني بغير تقدير

وقال بعض أهل اللغة الرغد هو السعة في الرزق من غير تقدير

وقوله تعالى { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني ولا تأكلا من هذه الشجرة

وروى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنه قال هي شجرة الكرم

وروى الشعبي عن جعد بن هبيرة مثله

وروي عن علي رضي اللّه عنه مثله وقال قتادة وذكر لنا أنها شجرة التين ويقال إنما كان النهي عن الأكل من الشجرة للمحنة لأن الدنيا دار محنة وقد خلق من الأرض ليسكن فيها فامتحن بذلك كما امتحن أولاده في الدنيا بالحلال والحرام فذلك قوله { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعني فتصيرا من الضارين بأنفسكما

٣٦

وقوله تعالى { فأزلهما الشيطان عنها } قرأ حمزة { فأزالهما } بالألف وقرأ غيره { فأزلهما } بغير ألف وأصله في اللغة من أزل يزل معناه فأغراهما الشيطان واستزلهما

وأما من قرأ { فأزالهما } بالألف فأصله من أزال يزيل إذا أزال الشيء عن موضعه

وقوله تعالى { فأخرجهما مما كانا فيه } يعني مما كانا فيه من النعمة

وروي عن سعيد بن جبير أنه قال مكث آدم في الجنة كما بين الظهر والعصر يعني من أيام الآخرة لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا

وروي عن ابن عباس أنه قال ( لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده واحتال لإخراجه منها فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه حتى أتى الحية وكانت هي أحسن دابة في الجنة خلقا وكانت لها أربع قوائم فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد فمن أكل منها يبقى في الجنة أبدا فأكلا منها )

ويقال إن حواء قالت لآدم تعال حتى نأكل من هذه الشجرة فقال آدم قد نهانا ربنا عن أكل هذه الشجرة فأخذت بيده حتى جاءت به إلى الشجرة وكان آدم يحب حواء فكره أن يخالفها لحبه إياها وكان آدم يقول لها لا تفعلي فإني أخاف العقوبة وكانت حواء تقول إن رحمة اللّه واسعة فأخذت من ثمرها فأكلت

ثم قالت لآدم هل أصابني شيء بأكلها وإنما لم يصبها شيء بأكلها لأنها كانت تابعة وآدم متبوعا فما دام المتبوع على الصلاح يتجاوز عن التابع فإذا فسد المتبوع فسد التابع ثم أخذت ثمرة أخرى فدفعت إلى آدم فلما أكل آدم لم تصل إلى جوفه حتى أخذتهما الرعدة وسقط عنهما من الحلي والحلل وغيرهما وعريا عن الثياب حتى بدت عورتهما فاستحييا وهربا قال اللّه تعالى أمني تهرب يا آدم قال لا ولكن حياء من ذنبي فأخذا من أوراق التين وألصقا على عوراتهما ثم أمرهما اللّه تعالى بإن يهبطا منها إلى الأرض فوقع آدم بأرض الهند وحواء بجدة والحية بأصبهان وإبليس في جزائر البحر وروي عن ابن عباس أنه قال إنما سمي الإنسان إنسانا لأن اللّه تعالى عهد إليه فنسي يعني ترك

وقوله تعالى { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } يعني آدم وحواء والحية وإبليس فبقي بين إبليس وبين آدم عداوة إلى يوم القيامة وكذلك بين الحية وبين أولاد آدم عداوة ظاهرة

ثم قال { ولكم في الأرض مستقر } يعني موضع القرار

وقوله { ومتاع إلى حين } يعني الحياة والعيش إلى حين يعني الموت

٣٧

قوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات } قرأ ابن كثير { فتلقى آدم } فنصب آدم ورفع الكلمات وقرأ غيره برفع { آدم } وكسر الكلمات

فأما من قرأ { فتلقى آدم } بالرفع فمعناه أخذ وقبل من ربه ويقال تلقى وتلقف بمعنى واحد في اللغة

وأما من قرأ بنصب { فتلقى آدم } يعني استقبلته الكلمات من ربه يقال تلقيت فلانا بمعنى استقبلته ومعنى ذلك كله أن اللّه تعالى ألهمه بكلمات فاعتذر بتلك الكلمات وتضرع إليه فتاب اللّه عليه

وقال مجاهد تلك الكلمات هي قوله تعالى { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } الأعراف٢٣ الآية

وقال بعضهم قال بحق محمد أن تقبل توبتي قال اللّه تعالى له من أين عرفت محمدا قال رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا اللّه محمدا رسول اللّه فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب اللّه عليه

وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال تلك الكلمات هي قوله سبحانك اللّهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت رب عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم الثاني فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين الثالث فارحمني إنك أنت خير الراحمين

وقوله تعالى { فتاب عليه } يعني فقبل توبته يقال تاب العبد إلى ربه وتاب اللّه على عبده فهذا اللفظ مشترك إلا أنه إذا ذكر من العبد يقال تاب إلى اللّه وإذا ذكر من اللّه تعالى يقال على فيقال تاب العبد إلى ربه إذا رجع عن ذنبه وتاب اللّه على عبده إذا قبل توبته قوله { إنه هو التواب الرحيم } يعني المتجاوز عن الذنوب الرحيم بعباده

٣٨

قوله تعالى { قلنا أهبطوا منها جميعا } يعني آدم وحواء والحية وإبليس وفي الآية دليل على أن المعصية تزيل النعمة عن صاحبها لأن آدم قد أخرج من الجنة بمعصيته وهذا كما قال القائل

( إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم)

( وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله شديد النقم )

وقال تعالى { إن اللّه لا يغير ما بقوم } الرعد ١١الآية

وقوله تعالى { فأما يأتينكم مني هدى } وأصله فإن ما إلا ان النون أدغمت في الميم وإن لتأكيد الكلام وما للصلة ومعناه فإن يأتينكم مني هدى يعني البيان وهو الكتاب والرسل خاطب به آدم وعنى به ذريته { فمن تبع هداي } يعني من اتبع كتابي وأطاع رسلي { فلا خوف عليهم } فيما يستقبلهم من العذاب { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من أمر الدنيا

٣٩

ثم قال عز وجل { والذين كفروا وكذبوا باياتنا } يعني جحدوا برسلي وكذبوا بآياتي { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } يعني دائمين

٤٠

قوله تعالى { يا بني إسرائيل } يعني أولاد يعقوب وإنما سمي إسرائيل لأن الأسر بلغتهم عبد وأيل هو اللّه فكأنه قال يا بني عبد اللّه

وقيل إنما سمي إسرائيل لأنه أسره ملك يقال له إيل وذلك أنه كان في سفر مع أولاده وكان يسير خلف القافلة وكان له قوة فدخل في نفسه شيء من نفسه شيء من العجب فابتلاه اللّه تعالى أن جاءه ملك على هيئة اللص وأراد أن يضرب على القافلة فأراد يعقوب أن يضربه على الأرض فلم يقدر على ذلك وكانا في تلك المنازعة إلى طلوع الفجر ثم إن الملك أخذ بعرق يعقوب أي بعرق من عروقه فمده فسقط في ذلك الموضع ثلاثة أيام ويقال لأنه أسره جني يقال له إيل

وروي عن السدي أنه قال وقعت بينه وبين أخيه عيصوا عداوة فحلف عيصوا أن يقتله وكان يعقوب يختفي بالنهار ويخرج بالليل فسمي إسرائيل لسيره بالليل وأصله من إسراء الليل واللّه أعلم ويقال إنما سمي يعقوب لأنه ولد مع عيصوا في بطن واحد فخرج يعقوب على عقب عيصوا فسمي يعقوب فقال اللّه تعالى { يا بني إسرائيل } وإنما أراد بهم اليهود الذين كانوا حوالي المدينة من بني قريظة والنضير وغيرهم وكانوا من أولاد يعقوب

وقال تعالى { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } يعني احفظوا منتي التي مننت عليكم معناه في التيه من المن والسلوى يعني اذكروا تلك النعم التي أنعمت عليكم واشكروا للّه تعالى

وقوله تعالى { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } قال ابن عباس في رواية أبي صالح قد كان اللّه تعالى عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فمن اتبعه وصدق به غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجرا باتباعه ما جاء به موسى وأجرا باتباعه ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلما جاءهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعرفوه كذبوه فذكرهم اللّه تعالى في هذه الآية فقال { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } قال الحسن البصري { أوفوا بعهدي } يعني أدوا ما افترضت عليكم { أوف بعهدكم } مما وعدت لكم وقال الضحاك أوفوا بطاعتي أوف لكم بالجنة وقال الصادق أوفوا بعهدي في دار محنتي على بساط خدمتي في حفظ حرمتي أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط قربتي بسني رؤيتي وقال قتادة العهد ما ذكر اللّه تعالى في سورة المائدة { ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله { وءامنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم اللّه قرضا حسنا } المائدة ١٢ أوف بعهدكم وهو قوله { لأكفرن عنكم سيئاتكم } المائدة ١٢ الآية ويقال { أوفوا بعهدي } الذي قبلتم يوم الميثاق { أوف بعهدكم } يعني الذي قلت لكم يعني به الجنة

قوله تعالى { وإياي فارهبون } يعني فاخشون وأصله فارهبوني بالياء لكن حذفت الياء وأقيم الكسر مقامها

٤١

قوله تعالى { وآمنوا بما أنزلت مصدقا } يعني صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم مصدقا { لما معكم } يعني موافقا لما معكم في التوحيد وفي بعض الشرائع يعني التوراة والإنجيل

{ ولا تكونوا أول كافر به } يعني أول من يكفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال { به } يعني بالقرآن وإنما أراد بني قريظة والنضير

فإن قيل ما معنى قوله تعالى { ولا تكونوا أول كافر به } وقد كفر به قبلهم مشركوا العرب

قيل له معناه { ولا تكونوا أول كافر به } في وقت هذا الخطاب ويقال إن أحبار اليهود كان لهم أتباع فلو أسلموا أسلم أتباعهم كلهم ولو كفروا كفر أتباعهم كلهم فهذا معنى قوله { ولا تكونوا أول كافر به } يعني من قومكم { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } يعني بكتمان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم عرضا يسيرا لأنهم كانوا عرفوا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكانت لهم مأكلة ووظائف من سفلة قومهم وكانت لهم رئاسة فكانوا يخافون أن تذهب وظائفهم ورئاستهم فقال { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } يعني عرض الدنيا وإنما سماه { قليلا } لأن الدنيا كلها قليل

ثم خوفهم فقال تعالى { وإياي فاتقون } في صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فمن جحد به أدخلته النار

٤٢

قوله تعالى { ولا تلبسوا الحق بالباطل } يقال في اللغة لبس يلبس لبسا إذا لبس الثياب ومعناه لا تخلطوا الحق بالباطل فتكتمون صفته وذلك أنهم كانوا يخبرون عن بعض صفته ويكتمون البعض ليصدقوا بذلك فيلبسون عليهم بذلك وقال قتادة { ولا تلبسوا } اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين اللّه الحق الذي لا يقبل غيره هو الإسلام ويقال معناه ولا تؤمنوا ببعض أمره وتكفروا ببعضه وتكتموا الحق

ثم قال تعالى { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } أنكم تكتمون الحق

٤٣

وقوله تعالى { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني أقيموا الصلوات الخمس بركوعها وسجودها ومواقيتها { وآتوا الزكاة } المفروضة { واركعوا مع الراكعين } أي صلوا مع المصلين يعني مع أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الجماعات ويقال صلوا مع المصلين إلى الكعبة وقال قتادة وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما فريضتان واجبتان ليس لأحد فيهما رخصة فأدوهما إلى اللّه تعالى

٤٤

قوله تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) نزلت هذه الآية في شأن اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وهم بنو قريظة والنضير وكانوا ينتظرون خروج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكانوا يدعون الأوس والخزرج إلى الإيمان به فلما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم آمن به الأوس والخزرج وكفر به اليهود وجحدوا فنزلت هذه الآية { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كانت اليهود إذا جاءهم حليف منهم الذي قد أسلم وسأل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في السر فتقول له إنه نبي صادق فاتبعه وتكتم ذلك عن السفلة مخافة أن تذهب منافعه فنزلت هذه الآية { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } وقال قتادة في هذه الآية دليل أن من أمر بخير فليكن أشد الناس تسارعا إليه ومن نهى عن شر فليكن أشد الناس انتهاء عنه ويقال نزلت في شأن القصاص

قال الفقيه رحمه اللّه حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن أبي حاتم الرازي قال حدثنا الحجاج بن يوسف عن سهل بن حماد عن أبي بن غياث عن هشام الدستوائي عن المغيرة وهو ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن أبي ثمامة عن أنس قال لما عرج بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مر على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقال ( يا جبريل من هؤلاء ) فقال هم خطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ثم قال { وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } يعني أفلا تعقلون أن صفته في التوراة ويقال { وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } أن ذلك حجة عليكم

٤٥

قوله تعالى { واستعينوا بالصبر والصلاة } يعني استعينوا { بالصبر } على أداء الفرائض وبكثرة الصلاة على تمحيص الذنوب ويقال استعينوا بالصبر علىنصرة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقال مجاهد { استعينوا بالصبر والصلاة } يعني استعينوا بالصوم والصلاة وإنما سمي الصوم صبرا لأن في الصوم حبس النفس عن الطعام والشراب والرفث

وقد قيل الصبر على ثلاثة أوجه صبر على الشدة والمصيبة وصبر على الطاعة وهو أشد من الأول وأجره أكثر وصبر عن المعصية وهو أشد من الأول والثاني وأجره أكثر منهما وفي هذا الموضع أراد الصبر على الطاعة

{ وإنها لكبيرة } يعني الاستعانة ويقال الصلاة لكبيرة أي ثقيلة { إلا على الخاشعين } يعني المتواضعين ويقال الذليلة قلوبهم

٤٦

قوله تعالى ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) يعني يستبقنون أنهم يبعثون يوم القيامة بعد الموت وإنما سمي اليقين ظنا لأن في الظن طرفا من اليقين فيعبر بالظن عن اليقين وقوله { وأنهم إليه راجعون } يعني في الآخرة بعد البعث للحساب

٤٧

قوله تعالى { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } يعني عالمي زمانهم

وقال بعضهم من آمن من أهل الكتاب بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم كانت له فضيلة علىغيره وكان له أجران أجر إيمانه بنبيه وأجر إيمانه بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقد روي عن رسول اللّه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ثلاثة يعطيهم اللّه الأجر مرتين من اشترى جارية فأحسن تأديبها فأعتقها وتزوجها وعبد أطاع سيده وأطاع اللّه تعالى ورجل من أهل الكتاب أدرك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فآمن به

وقيل معنى قوله { وأني فضلتكم على العالمين } بإنزال المن والسلوى وغير ذلك ولم يكن لأحد من العالمين غيرهم

٤٨

قوله تعالى { واتقوا يوما } يعني أخشوا عذاب يوم { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } يعني لا تغني في ذلك اليوم نفس مؤمنة عن نفس كافرة وذلك أنهم كانوا يقولون نحن من ولد إبراهيم خليل الرحمن ومن ولد إسحاق واللّه تعالى يقبل شفاعتهما فينا فنزلت هذه الآية { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } يعني لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة { ولا يقبل منها شفاعة } يعني من نفس كافرة

قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ولا تقبل } بالتاء لأن الشفاعة مؤنثة وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي وما لم يكن تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره كقوله تعالى { فمن جاءه موعظة } البقرة ٢٧٥

قوله تعالى { ولا يؤخذ منها عدل } يعني لا يقبل الفداء من نفس كافرة كما قال موضع آخر { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } آل عمران ٩١ ويقال لو جاءت بعدل نفسها رجلا مكانها لا يقبل منها { ولا هم ينصرون } يقول ولا هم يمنعون من العذاب

٤٩

قوله تعالى { وإذ نجيناكم من آل فرعون } إنما خاطبهم وأراد به آباءهم لأنهم كانوا يتولون آباءهم فأضاف إليهم ومعناه واذكروا إذ نجيناكم من قوم فرعون { يسومونكم سوء العذاب } أي يعذبونكم بأشد العذاب وأقبح العذاب ويقال في اللغة سامه الخسف إذا أولاه الهوان يعني يولونكم بأشد العذاب ثم بين العذاب فقال { يذبحون أبناءكم } الصغار { ويستحيون نساءكم } يعني يستخدمون نساءكم وأصله في اللغة من الحياة يقال استحيا يستحيي إذا تركه حيا وكانوا يذبحون الأولاد ويتركون النساء أحياء للخدمة وذلك أن فرعون قالت له كهنته يولد في بني إسرائيل مولود ينازعك في ملكك فأمر بأن يذبح كل ابن يولد في بني إسرائيل وتترك البنات

قال تعالى { وفي ذلكم بلاء } يعني في أي إنجاء اللّه تعالى من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم { من ربكم عظيم } فالبلاء يكون عبارة عن النعمة ويكون أيضا عبارة عن البلية والشدة وأصله من الابتلاء والاختبار يكون بهما جميعا فإن أراد به النعمة فمعناه { وفي ذلكم بلاء } يعني من انجاء اللّه تعالى من ذبح الأولاد واستخدام النساء نعمة لكم من ربكم عظيم وإن أراد به العذاب فمعناه { وفي ذلكم } يعني في ذبح الأبناء واستخدام النساء بلاء لكم من ربكم عظيم

٥٠

قوله تعالى { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم } يعني فرق الماء يمينا وشمالا حين خرج موسى مع بني إسرائيل من مصر فخرج فرعون وقومه في طلبهم فلما انتهوا إلى البحر ضرب موسى عصاه على البحر فانفلق فصار اثني عشر طريقا يابسا لكل سبط منهم طريق فلما جاوز موسى البحر ودخل فيه فرعون مع قومه غشيهم من اليم ما غشيهم يعني غشيهم الماء فغرقوا في اليم فذلك معنى قوله تعالى { وإذ فرقنا بكم البحر } يقول واذكروا إذا فلقنا بكم البحر فأنجيناكم من الغرق { وأغرقنا آل فرعون } يعني فرعون وآله

قال بعض أهل اللغة آل الرجل أتباع الرجل قريبه كان أو غيره وأهله قريبة أتبعه أو لم يتبعه ويقال الآل والأهل بمعنى واحد إلا أن الآل يستعمل لاتباع رئيس من الرؤساء يقال آل فرعون وآل هارون ولا يقال آل زيد وآل عمرو روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قيل له من آلك قال ( آلي كل تقي إلى يوم القيامة )

قوله تعالى { وأنتم تنظرون } يعني تنظرون إليهم حين لفظهم البحر بعدما غرقوا يعني آباءهم

وقال بعضهم معناه أنكم تعلمون ذلك كأنكم تنظرون إليهم قال الفقيه وكان في قصة فرعون وغيره علامة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لا يعرف ذلك إلا بالوحي فلما أخبرهم بذلك من غير أن يقرأ كتابا كان ذلك دليلا أنه قاله بالوحي وفيه أيضا تهديد للكفار ليؤمنوا حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب أولئك وفيه أيضا تنبيه للمؤمنين وعظة لهم ليزجرهم ذلك عن المعاصي

٥١

قوله تعالى { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } قرأ أبو عمرو بغير ألف { وإذا وعدنا موسى } وقرأ غيره { وإذ واعدنا } بالألف فمن قرأ بغير ألف فمعناه ظاهر يعني أن اللّه تعالى وعد موسى عليه السلام ومن قرأ بالألف فالمواعدة تجري بين اثنين وإنما كان الواعد من اللّه تعالى ومن موسى الوفاء ومن اللّه الأمر ومن موسى الائتمار فكأنما جرت المواعدة بين اللّه تعالى وبين موسى وقد يجوز أن تكون المفاعلة من واحد كما يقال سافر ونافق ويقال أربعين ليلة كانت ثلاثين ليلة منها من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة

وقال بعضهم ثلاثين كانت من ذي الحجة وعشرا من المحرم وكانت مناجاته يوم عاشوراء وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما وعدهم موسى أربعين ليلة عدت بنو إسرائيل عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد تمت أربعون ولم يرجع موسى فقد خلفنا وذكر أن السامري قال لهم إنكم قد استعرتم من نساء آل فرعون حليهم ولم تردوه عليهن فلعل اللّه تعالى لم يرد علينا موسى لهذا المعنى فهاتوا ما معكم من حليهن حتى نحرقه فلعل اللّه يرد إلينا موسى فجمعوا تلك الحلي وكان السامري صائغا فاتخذ منها عجلا وقد كان قبل ذلك رأى جبريل عليه السلام على فرس الحياة فكلما وضع حافره اخضر ذلك الموضع فرفع من تحت سنبكه قبضة من التراب ونفخ ذلك التراب في العجل فصار ذلك عجلا جسدا له خوار

وروي عن ابن عباس أنه قال صار عجلا له لحم ودم وفيه حياة له خوار

وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال اتخذ عجلا جسدا مشبكا من ذهب له خوار فدخل الريح في جوفه وخرج من فيه كهيئة الخوار فقال للقوم هذا إلهكم وإله موسى فنسي يعني أن موسى أخطأ الطريق ويقال كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة فتم ميقات ربه أربعين ليلة لأنه قد أفطر من الصيام في تلك العشرة فإنما ظهر لهم الخلاف في تلك العشرة وهذا الطريق أوضح

قوله تعالى { ثم أتخذتم العجل من بعده } يعني عبدتم العجل من بعد انطلاق موسى إلى الجبل { وأنتم ظالمون } يعني كافرين بعبادتكم العجل ويقال وأنتم ضارون بأنفسكم بعبادة العجل

٥٢

قوله تعالى { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } يقول تركناكم من بعد عبادة العجل فلم نستأصلكم { لعلكم تشكرون } يعني لكي تشكروا اللّه تعالى على العفو والنعمة

٥٣

قوله تعالى { وإذ آتينا موسى الكتاب } يعني أعطينا موسى التوراة { والفرقان } يعني الفارق بين الحلال والحرام ويقال { الفرقان } هو النصرة بدليل قوله تعالى { يوم الفرقان } الأنفال ٤١ يعني يوم النصرة ويقال الفرقان هو المخرج من الشبهات ويقال هو انفلاق البحر بدليل قوله { وإذ فرقنا بكم البحر } البقرة ٥٠ وقال الفراء في الآية مضمر ومعناها وآتينا موسى الكتاب يعني التوراة وآتينا محمدا الفرقان يعني أعطينا موسى التوراة وأعطينا محمدا الفرقان كأنه خاطبهم فقال قد أعطيناكم علم موسى وعلم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهو سائر الأنبياء

قوله { لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا من الضلالة

٥٤

قوله تعالى { وإذ قال موسى لقومه يا قوم } وأصله يا قومي بالياء ولكن حذف الياء وترك الكسرة بدلا عن الياء وتكون في الإضافة إلى نفسه معنى الشفقه { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم } يعني أضررتم بأنفسكم { بأتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } يعني إلى خالقكم يقول فارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة خالقكم وتوبوا إليه فقالوا له وكيف التوبة قال لهم موسى { فاقتلوا أنفسكم } يعني يقتل بعضكم بعضا يعني يقتل من لم يعبد العجل الذين عبدوا العجل وإنما ذكر قتل الأنفس وأراد به الإخوان وهذا كما قال في آية أخرى { ولا تلمزوا أنفسكم } الحجرات ١١ يعني إخوانكم من المسلمين أي لا تغتابوا إخوانكم { ذلكم خير لكم عند بارئكم } خالقكم يعني التوبة خير لكم عند خالقكم ومعناه قتل أنفسكم مع رضا اللّه خير عند اللّه تعالى من ترككم على عذاب اللّه

وقوله تعالى { إنه هو التواب الرحيم } يعني المتجاوز عن الذنوب { الرحيم } حيث جعل القتل كفارة لذنوبكم وروي في الخبر أن الذين عبدوا العجل جلسوا على أبواب دورهم فأتاهم هارون والذين لم يعبدوا العجل شاهرين السيوف فكان موسى يقول فاتقوا اللّه واصبروا له فلعن اللّه رجلا حل حبوته أو قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو برجل فيقولون آمين وذكر في رواية أبي صالح أن هارون كان يتقدم ويقول ذلك فجعلوا يقتلونهم إلى المساء فقام موسى عليه السلام يدعو ربه لما شق عليه من كثرة الدماء حتى نزلت التوبة

وقيل لموسى ارفع السيف عنهم فإني قبلت توبتهم جميعا من قتل ومن لم يقتل

٥٥

قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } يعني لن نصدقك { حتى نرى اللّه جهرة } يعني عيانا وذلك أن موسى عليه السلام حين انطلق إلى طور سيناء للمناجاة اختار موسى من قومه سبعين رجلا ولما انتهوا إلى الجبل أمرهم موسى بأن يمكثوا في أسفل الجبل وصعد موسى الجبل فناجى ربه فأعطاه اللّه تعالى الألواح فلما رجع إليهم قالوا له إنك قد رأيت اللّه فأرناه حتى ننظر إليه فقال لهم إني لم أره وقد سألته أن أنظر إليه فتجلى للجبل فدك الجبل فلم يصدقوه وقالوا لن نصدقك حتى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا كلهم فدعا موسى ربه فأحياهم اللّه تعالى فذلك قوله { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } إلى الصاعقة

٥٦

{ ثم بعثناكم من بعد موتكم } يعني أحييناكم من بعد هلاككم { لعلكم تشكرون } للحياة بعد الموت

٥٧

قوله تعالى { وظللنا عليكم الغمام } خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين فأبوا ذلك وقالوا لموسى { أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } المائدة ٢٤ فعاقبهم اللّه تعالى فبقوا في التيه أربعين سنة وكانت المفازة اثني عشر فرسخا وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام ذلك قوله تعالى { وظللنا عليكم الغمام } وهو السحاب الأبيض يقيكم حر الشمس في التيه وكان لهم في التيه عمود من نور مدلى لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا ربه فأنزل عليهم المن وهو الترنجبيل كان يتساقط عليهم كل غداة فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته فإن أخذ اكثر من ذلك دود ما زاد عليه وفسد وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه ليومين لأنه لا يأتيهم يوم السبت وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن يعني ملوا من أكله فقالوا لموسى قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا فادع لنا ربك أن يطعمنا لحما فدعا لهم موسى فبعث اللّه إليهم طيرا كثيرا

وذلك قوله تعالى { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة قال بعضهم كان طيرا يأتيهم مشويا قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها

وقوله تعالى { كلوا من طيبات } يعني قيل لهم { كلوا من طيبات } وهذا من المضمرات وفي كلام العرب يضمر الشيء إذا كان فيه دليل يستغنى عن إظهاره كما قال في آية أخرى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } آل عمران ١٠٦ يعني يقال لهم أكفرتم وكما قال في آية أخرى { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه } الزمر ٣ يعني قالوا ما نعبدهم ومثل هذا في القرآن كثير وكذلك قوله ها هنا { كلوا من طيبات ما رزقناكم } يعني من حلالات { ما رزقناكم } أي أعطيناكم من المن والسلوى ولا ترفعوا منها شيئا كما قال في آية أخرى { كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه } طه ٨١ يعني لا تعصوا فيه ولا ترفعوا إلى الغد فرفعوا وجعلوا اللحم قديدا مخافة أن ينفد فرفع ذلك عنهم ولو لم يرفعوا لدام ذلك عليهم

قوله تعالى { وما ظلمونا } يعني وما أضرونا { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } يعني أضروا بأنفسهم حيث رفعوا فمنع ذلك عنهم وروى خلاس عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها

٥٨

قوله تعالى { وإذ قلنا ادخلو هذه القرية } قال الكلبي يعني أريحا وقال مقاتل إيليا ويقال هذا كان بعد موت موسى وهرون وبعد مضي أربعين سنة حيث أمر اللّه تعالى يوشع بن نون وكان خليفة موسى بأن يدخل مع قومه المدينة فقال لهم يوشع بن نون ادخلوا الباب سجدا يعني إذا دخلتم من باب المدينة فادخلوا ركعا منحنين ناكسين رؤوسكم متواضعين فيقوم ذلك منكم مقام السجود فذلك قوله تعالى { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } يعني أريحا أو إيليا

{ فكلوا منها حيث شئتم رغدا } يعني موسعا عليكم { وادخلوا الباب سجدا } يعني ركعا منحنين

{ وقولوا حطة } قرأ بعضهم بالرفع وبعضهم بالنصب وهي قراءة شاذة وإنما جعله نصبا لأنه مفعول من قرأ بالرفع معناه قولوا قولا فيه حطة وروي عن قتادة أنه قال تفسير { حطة } يعني حط عنا ذنوبنا

وقال بعضهم بسم اللّه

وقال بعضهم معناه لا إله إلا اللّه

وقال بعضهم بسم اللّه

وقال بعضهم أمروا بأن يقولوا بهذا اللفظ ولا ندري ما معناه

وقوله تعالى { نغفر لكم خطاياكم } قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { تغفر } بالتاء والضمة لأن لفظ الخطايا مؤنث وقرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة { يغفر لكم خطاياكم } بالياء والضمة بلفظ التذكير لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم وقرأ الباقون بالنون وكسر الفاء على معنى الإضافة إلى نفسه وذلك كله يرجع إلى معنى واحد ومعناه نغفر لكم خطايا الذين عبدوا العجل { وسنزيد المحسنين } أي في إحسان من لم يعبد العجل ويقال نغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع إلى الغد ويقال نغفر خطايا من هو عاص وسنزيد في إحسان من هو محسن فلما دخلوا الباب خالفوا أمره وروى أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ( أنهم دخلوا الباب يزحفون ) وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ( دخلوا على أستاههم ) ويقال دخلوا منحرفين على شق وجوههم وقالوا حنطا سمقانا يعني حنطة حمراء بلغة النبط استهزاء وتبديلا وإنما قال ذلك سفهاؤهم فذلك

٥٩

قوله تعالى { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } يعني فير ذلك القول وقالوا بخلاف ما قيل لهم

قال اللّه تعالى { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا } أي عذابا { من السماء } وهو موت الفجاءة وقال أبو روق الرجز الطاعون ويقال مات منهم بالطاعون سبعون ألفا في وقت واحد ويقال نزلت بهم نار فاحترقوا ويقال وقع بينهم قتال فاقتتلوا فقتل بعضهم بعضا

وقوله تعالى { بما كانوا يفسقون } يعني جزاء لفسقهم وعصيانهم ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام حين كانوا في التيه وأصابهم العطش فاستغاثوا بموسى فدعا ربه فأوحى اللّه تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه الحجر فأخذ موسى حجرا مربعا مثل رأس الإنسان ووضعه في المخلاة بين يدي قومه ضرب بعصاه عليه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ماء عذبا وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا لكل سبط منهم عين على حدة

قال الفقيه حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوسة قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حمزة الصفار قال حدثنا عيسى بن أحمد قال حدثنا يزيد بن هارون عن الفضل بن مرزوق عن عطية العوفي قال تاه بنو إسرائيل في اثني عشر فرسخا أربعين عاما على غير ماء وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور فإذا نزلوا منزلا وضعوه فضربه موسى بعصاه فذلك

٦٠

قوله { وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر } { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } فإذا ساروا حملوه واستمسك

وقال بعضهم كان يخرج عينا واحدةه ثم تتفرق على اثنتي عشرة فرقة وتصير اثني عشر نهرا

وقال بعضهم كان للحجراثنا عشر ثقبا يخرج منها مشربهم وموردهم يعني موضع شربهم من العيون قال مقاتل كان الحجر مربعا وكان جبريل عليه السلام أمر موسى يوم جاوز البحر ببني إسرائيل وإنما انفجرت اثنتا عشرة عينا لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقا

ثم قال تعالى { قد علم كل أناس مشربهم } أي قد عرف كل سبط مشربهم أي موضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر وأراد كل سبط تكثير نفسه فجعل لكل سبط منهم نهرا على حدة يستقون منه ويسقون دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة ويقال كان الحجر من الجنة ويقال رفعه موسى من أسفل البحر حيث مر فيه مع قومه ويقال كان حجرا من أحجار الأرض

قوله تعالى { كلوا واشربوا من رزق اللّه } يعني قيل لهم كلوا من المن والسلوى واشربوا من ماء العيون

وقوله تعالى { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي يقال عثا يعثو عثوا إذا أظهر الفساد وعثي يعثى عثيا وعاث يعيث عيوثا ومعاثا ثم أجمعوا من المن والسلوى

٦١

قوله تعالى { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يعني من جنس واحد { فادع لنا ربك } يعني سل لنا ربك { يخرج لنا مما تنبت الأرض } يعني مما تخرج الأرض { من بقلها وقثائها }

وقوله { بقلها } أراد به البقول كلها

وقوله { وقثائها } أراد به جميع ما يخرج من الفاكهة نحو القثاء والبطيخ ونحو ذلك

وقوله { وفومها } يعني طعامها وهي الحبوب كلها ويقال هي الحنطة خاصة وقال مجاهد الفوم الخبز وقال الفراء فومي لنا يا جارية يعني اخبزي لنا ويقال الفوم هو الثوم والعرب تبدل الفاء بالثاء لقرب مخرجيهما وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود { وثومها وعدسها وبصلها } فغضب عليهم موسى و { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } يعني أتستبدلون الردئ من الطعام بالذي هو خير يعني بالشريف الأعلى ويقال معناه تسألون الدنيء من الطعام وقد أعطاكم اللّه الشريف منه وهو المن والسلوى ويقال أتختارون الدنيء الخسيس وهو الثوم والبصل على الذي هو أعلى وأشرف وهو المن والسلوى فقال لهم { اهبطوا مصرا } قرأ أبي بن كعب وابن مسعود رضي اللّه عنهما بلا تنوين يعني مصر الذي خرجتم منه وهو مصر فرعون ومن قرأ { مصرا } بالتنوين يعني ادخلوا مصرا من الأمصار { فإن لكم } فيه { ما سألتم } تزرعون وتحصدون

قوله تعالى { وضربت عليهم الذلة } قال الحسن وقتادة جعلت عليهم الجزية يعني على ذريتهم ويقال جعل عليهم كد العمل يعني أولئك القوم حتى كانوا ينقلون السرقين

وقوله { والمسكنة } يعني زي الفقر قال الكلبي الرجل من اليهود وإن كان غنيا يكون عليه زي الفقر

وقوله تعالى { وباؤوا بغضب } يعني استوجبوا الغضب { من اللّه }

وقال بعضهم من الرجوع يعني رجعوا باللعنة في أثر اللعنة ويقال باؤوا أي احتملوا كما يقال بوئت بهذا الذنب أي احتملته

وقوله تعالى { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه } يعني ما أصابهم من الذلة والمسكنة وهم اليهود بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه يعني كذبوا عيسى وزكريا ويحيى ومحمدا عليهم السلام { ويقتلون النبيين بغير الحق } يعني بغير جرم منهم وهم زكريا ويحيى قرأ نافع { النبيين } بالهمزة وكذلك جميع ما في القرآن { يا أيها النبي } وقرأ الباقون بغير همزة وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن رجلا قال له يا نبئ اللّه فقال ( لست بنبيء اللّه ولكن نبي اللّه ) والنبيين جماعة النبي وأما من قرأ بالهمزة قال أصله من النبأ وهو الخبر لأنه أنبأ عن اللّه ومن قرأ بغير همزة فأصله مهموز ولكن قريشا لا تهمز

وقال بعضهم هو مأخوذ من النبوة وهو الارتفاع لأنه مشرف على جميع الخلق ويقال النبيء هو الطريق الواضح سمي بذلك لأنه طريق الخلق إلى اللّه تعالى

وقوله { ذلك بما عصوا } يعني ذلك الغضب على اليهود بما عصوا يعني بعصيانهم أمر اللّه تعالى فخذلهم اللّه تعالى حين كفروا فلو أنهم لم يعصوا اللّه تعالى كانوا معصومين عن ذلك { وكانوا يعتدون } يعني بقتلهم الأنبياء وركوبهم المعاصي

٦٢

قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين } قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الذين آمنوا وهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى والتوراة ولم يتهودوا ولم يتنصروا والنصارى الذين تركوا دين عيسى وتسموا بالنصرانية واليهود الذين تركوا دين موسى وتسموا باليهودية والصابئين هم قوم من النصارى ألين قولا منهم { من آمن } من هؤلاء { باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم } يعني ثوابهم وقال مقاتل { إن الذين آمنوا } يعني صدقوا بتوحيد اللّه { ومن آمن } من الذين هادوا ومن النصارى والصابئين فلهم وأجرهم وقال القتبي قوله { إن الذين آمنوا } هم قوم آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم فكأنه قال إن المنافقين والذين هادوا والنصارى والصابئين ويقال اليهود سموا يهودا بقول موسى عليه السلام حيث قال { إنا هدنا إليك } الأعراف ١٥٦اشتقاقه من الميل من هاد يهود وهو الميل عن الطريق وأما النصارى قال بعضهم سموا أنفسهم نصارى بقول عيسى عليه السلام حيث قال { من أنصارى إلى اللّه } آل عمران ١٥٢ويقال لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة فتوافقوا على دينهم فسموا نصارى وأما الصابيء فقد أخذ من صبا يصبو إذا مال ويقال من صبأ يصبأ إذا رفع رأسه إلى السماء لأنهم يعبدون الملائكة قرأ نافع و { الصابيين } بغير همز من صبا يصبو إذا خرج من دين إلى دين وقرأ الباقون بالهمزة من صبأ يصبأ إذا رفع رأسه إلى السماء واختلف العلماء في حكم الصابئين فقال بعضهم حكمهم حكم أهل الكتاب يجوز أكل ذبائحهم ويجوز مناكحة نسائهم وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه لأنهم قوم بين اليهودية والنصرانية يقرؤون الزبور

وقال بعضهم هم بمنزلة المجوس لا يجوز أكل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما اللّه لأنهم يعبدون الملائكة فصار حكمهم حكم عبدة النيران

وقوله تعالى { من آمن باللّه واليوم الآخر } ولم يذكر في الآية الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لما ذكر الإيمان باللّه تعالى فقد دخل فيه الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لا يكون مؤمنا باللّه تعالى ما لم يؤمن بجميع ما أنزل اللّه تعالى على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى جميع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فكأنه قال من آمن باللّه وبما أنزل على جميع أنبيائه وصدق باليوم الآخر وعمل صالحا أي أدى الفرائض { فلهم أجرهم عند ربهم } يعني لهم ثواب أعمالهم في الآخرة { ولا خوف عليهم } فيما يستقبلهم من العذاب { ولا هم يحزنون } فيما خلفوا من الدنيا ويقال ليس عليهم خوف النار ولا حزن الفزع الأكبر

فإن قيل فيه كيف ذكر من آمن باللّه بلفظ الوحدان

ثم قال { فلهم أجرهم } ولم يقل فله أجره قيل له لأنه انصرف إلى ما سبق ذكره وإنما سبق ذكر الجماعة فمرة يذكر بلفظ الوحدان لاعتبار اللفظ ومرة بلفظ الجمع لاعتبار المعنى

٦٣

قوله تعالى { وإذا أخذنا ميثاقكم } قال ابن عباس هما ميثاقان الأول حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام والثاني الذي أخذ في التوراة وسائر الكتب { ورفعنا فوقكم الطور} وذلك أن موسى عليه السلام لما أتاهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التغليظ والأمر والنهي فشق ذلك عليهم فأبوا أن يقبلوا وإن اللّه تعالى قد من على هذه الأمة حيث فرض عليهم الفرائض واحدا بعد واحد ولم يفرض عليهم جملة فإذا استقر الواحد في قلوبهم فرض الآخر وأما بنوا إسرائيل فقد فرض عليهم دفعة واحدة فشق ذلك عليهم ولم يقبلوا فأمر اللّه تعالى الملائكة فرفعوا جبلا من جبال فلسطين وكان عسكر موسى فرسخا في فرسخ والجبل مثل ذلك فلما رأوا أنه لا مهرب لهم قبلوا التوراة وسجدوا من المهابة والفزع وهم يلاحظون في سجودهم الجبل فمن ذلك يسجد بعض اليهود على أنصاف وجوههم فذلك قوله تعالى { ورفعنا فوقكم الطور } والطور اسم جبل بالسريانية ويقال هو جبل ذو أشجار

ثم قال تعالى { خذوا ما آتيناكم بقوة } يعني قيل لهم اعملوا بما آتيناكم بجد ومواظبة واعملوا في طاعة اللّه { واذكروا ما فيه } قال بعضهم اعملوا بما فيه

وقال بعضهم اذكروا ما فيه من الثواب والعقاب لكي يسهل عليكم القبول { لعلكم تتقون } يعني لكي تتقوا عقوبته في المعصية فتمتنعوا عنها

٦٤

قوله تعالى { ثم توليتم من بعد ذلك } أي أعرضتم من بعد ذلك الإقرار يعني من بعد ما رفع عنكم الجبل

وقيل البرهان وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل { فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته } أي من اللّه عليكم ورحمته بتأخير العذاب

وقيل من بعد البيان في كتابهم بتأخير العذاب { لكنتم من الخاسرين } والخسران النقصان { فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته } بإرسال الرسل إليكم لكيلا تقيموا على الكفر { لكنتم من الخاسرين } في العقوبة

وقيل فضله في قبول التوبة

٦٥

ثم قال تعالى { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } يعني اصطادوا ويقال استحلوا أخذ الحيتان يوم السبت والسبت في اللغة هو الراحة كما قال في آية أخرى { وجعلنا نومكم سباتا } النبأ ٩ أي راحة فيوم السبت كان راحة لليهود عن أشغال الدنيا وهذه الآية على معنى التحذير والتهديد فكأنه قال إنكم تعلمون ما أصاب الذين استحلوا أخذ السمك في يوم السبت من العقوبة فاحذورا كيلا يصيبكم مثل ما أصابهم وذلك أن مدينة يقال لها آيلة على ساحل البحر كان يجتمع فيها السمك يوم السبت حتى يأخذ وجه الماء وفي سائر الأيام لا يأتيهم إلا قليل وقال بعض أهل القصص إنما كانت الحيتان تجتمع هناك لزيارة السمكة التي كان في بطنها يونس عليه السلام ففي كل سبت يجتمعن لزيارتها ويقال لم يكن لهذا المعنى ولكن كانت لهم محنة أولئك فاحتالوا وحبسوا ذلك السمك في يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فلما لم تصبهم العقوبة لفعلهم ذلك أمنوا واستحلوا أخذها فمسخهم اللّه قردة وقد بين قصتهم في سورة الأعراف في قوله تعالى { وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } الأعراف ١٦٣

قوله تعالى { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين } يعني مبعدين من رحمة اللّه وأصله في اللغة من البعد يقال خسأ الكلب إذا بعد ويقال { خاسئين } يعني صاغرين ذليلين

٦٦

قوله تعالى { فجعلناها نكالا } يعني جعلنا تلك العقوبة نكالا { لما بين يديها } يعني لما سبق منهم من الذنب { وما خلفها } يعني عبرة لمن بعدهم ويقال { فجعلناها } يعني تلك القرية { نكالا لما بين يديها } من القرى { وما خلفها } من القرى ليعتبروا بها { وموعظة للمتقين } يعني نهيا لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعبرة لهم

قال الفقيه حدثنا أبو القاسم عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا كثير بن هشام عن المسعودي عن علقمة بن مرثد عن المسور بن الأحنف قال قيل لعبد اللّه بن مسعود أرأيت القردة والخنازير أمن نسل القرود والخنازير التي قد مسخت قال عبد اللّه بن مسعود أن اللّه تعالى لم يمسخ أمة فجعل لها نسلا ولكنها من نسل قرود وخنازير كانت قبل ذلك

٦٧

قوله تعالى { وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة } قال ابن عباس وذلك أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة أيما قتيل وجد بين قريتين لا يدرى قاتله فليقس إلى أيتهما أقرب فعمد رجلان أخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما واسمه عاميل فقتلاه لكي يرثاه وكانت ابنة عم لهما شابة جميلة حسناء فخشيا أن ينكحها ابن عمها عاميل ثم حملاه فألقياه إلى جانب قرية فأصبح أهل القرية والقتيل بين أظهرهم فأخذ أهل القرية بالقتيل وجاؤوا به إلى موسى

وروى ابن سيرين عن عبيدة السلماني أن رجلا كان له قرابة فقتله ليرثه ثم ألقاه على باب رجل ثم جاء يطلب بدمه فهموا أن يقتتلوا ولبس الفريقان السلاح فقال رجل أتقتتلون وفيكم نبي اللّه فجاؤوا إلى موسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه بذلك فدعا اللّه تعالى في ذلك أن يبين لهم المخرج من ذلك فأوحى اللّه تعالى إلى موسى فأخبروهم بذلك وقال إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها يعني ببعض أعضاء تلك البقرة فيحيا فيخبركم من قتله { قالوا } لموسى { أتتخذنا هزوا } قرأ عاصم في رواية حفص برفع الزاي بغير همزة وقرأ حمزة بسكون الزاي مع الهمزة وقرأ الباقون بالهمزة ورفع الزاي ومعناه أتتخذنا سخرية يعني يا موسى أتسخر بنا

فإن قيل ألم يكن هذا القول منهم كفرا حيث نسبوه إلى السخرية

قلنا لا لأنهم قد ظهر عندهم علامات نبوته وعلموا أن قوله حق ولكنهم أرادوا بهذا الكشف والبيان ولم يريدوا به الحقيقة ف { قال } لهم موسى { أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين } يعني أمتنع باللّه ويقال معاذ اللّه أن أكون من المستهزئين

٦٨

قال ابن عباس في رواية أبي صالح فلو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد اللّه عليهم بالمنع لما { قالوا } يا موسى { ادع لنا ربك } يقول سل لنا ربك أن { يبين لنا ما هي } يعني يبين لنا كيفية البقرة إنها صغيرة أو كبيرة { قال } لهم موسى { إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } يعني لا كبيرة هرمة ولا صغيرة { عوان بين ذلك } يعني وسطا ونصفا بين ذلك يعني بين الصغيرة والكبيرة

وقد قيل في المثل العوان لا تعلم الخمرة يعني أن المرأة البالغة ليست بمنزلة الصغيرة التي لا تحسن أن تختمر

ثم قال تعالى { فافعلوا ما تؤمرون } ولا تسألوا فسألوا وشددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم

٦٩

قوله تعالى { قالوا } يا موسى { ادع لنا ربك } يعني سل ربك { يبين لنا ما لونها } قال لهم موسى { إنها بقرة صفراء فاقع لونها } يعني شديد الصفرة يقال أصفر فاقع إذا كان شديد الصفرة كما يقال أسود حالك وأبيض يقق وأحمر وأحمر قاني وأخضر ناضر إذا وصف بالشدة

وقال بعضهم أراد به بقرة صفراء الظلف والقرن يعني شعرها وظلفها وقرنها وكل شيء فيها أصفر ويقال أراد به البقرة السوداء لأن السواد الشديد يضرب إلى الصفرة كما قال تعالى { كالقصر كأنه جملت صفر } المرسلات ٣٣ يعني سود وكما قال القائل

( تلك خيلي منكم وتلك ركابي هن صفر أولادها كالزبيب )

أراد بالصفر السود ولكن هذا خلاف أقاويل المفسرين وكلهم اتفقوا أنه أراد به اللون الأصفر إلا قولا روي عن الحسن البصري

قوله عز وجل { تسر الناظرين } يعني تعجب من نظر إليها لحسن لونها فشددوا على أنفسهم

٧٠

قوله تعالى { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } يعني أنها من العوامل أو من غير العوامل { إن البقر تشابه علينا } يعني تشاكل علينا في أسنانها { وإنا إن شاء اللّه لمهتدون } يعني نهتدي للقاتل أو يقال لمهتدون إلى البقرة أي ندركها بمشيئة اللّه تعالى

وروي عن ابن عباس أنه قال لولا أنهم استثنوا لم يدركوها

 وروى عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لو أن بني إسرائيل أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم ولولا أنهم قالوا { وإنا إن شاء اللّه لمهتدون } ما وجدوها

٧١

{ قال } لهم موسى {إنه} إن ربكم { يقول إنها بقرة لا ذلول } يعني لم يذللّها العمل وقال أهل اللغة الذلول في الدواب مثل الذليل في الناس يقال رجل ذليل بين الذل ودابة ذلول بينة الذل { تثير الأرض } يعني تقلبها للزراعة ويقال للبقرة المثيرة { ولا تسقي الحرث } يعني لا يسقى عليها الحرث أي لا يستسقى عليها الماء لسقي الزرع ومعناه أن هذه البقرة لم تكن تعمل شيئا من هذه الأعمال { مسلمة } يعني مهذبة سليمة من العيوب ويقال مسلمة من الألوان { لا شية فيها } يعني لا عيب فيها ويقال لا وضح ولا سواد ولا بياض ولا لون سوى الصفرة

وقال أهل اللغة أصله من وشى الثوب وأصله في اللغة لا وشية فيها ولكن حذفت الواو منها للخفة مثل عدة وزنة

فلما وصف لهم موسى تلك { قالوا الآن جئت بالحق } يعني الآن أتممت الصفة ويقال الآن جئت بالصفة التي كنا نطلب { فذبحوها } يعني البقرة { وما كادوا يفعلون } يعني كادوا أن لا يذبحوها

وقد قيل إنما لم يريدوا أن يذبحوها لأن كل واحد منهم خشي أن يظهر القاتل من قبيلته

وقال بعضهم { وما كادوا يفعلون } لغلاء ثمن البقرة لأنهم كانوا لا يدركون بقرة بتلك الصفة

وروي عن وهب بن منبه أنه قال لم توجد تلك البقرة إلا عند فتى من بني إسرائيل كان بارا بوالديه وكان يصلي ثلث الليل وينام ثلث الليل ويجلس عند رأس أمه ويقول لها إن لم تقدري على القيام فسبحي اللّه وهللي وكان ورث من أبيه بقرة فلم يجد اهل تلك القرية بقرة على تلك الصفة إلا هذه البقرة فاشتروها بملئ مسكها دنانير

وقال بعضهم كان رجل يبيع الجوهر فجاءه إبليس يوما من الأيام بجراب من اللؤلؤ فعرض عليه وأراد أن يبيع منه بمائة ألف وكان ذلك يساوي مائتي ألف فلما أراد أن يشتري فإذا مفتاح الصندوق كان تحت رأس أبيه وهو نائم فذهب ليوقظه ليرفع المفتاح فيدفع الثمن ثم قال في نفسه كيف أوقظ أبي لأجل ربح مائة ألف ولم يحتمل قلبه فرجع فقال أبي نائم فقال له إبليس اذهب فأيقظه فإني إبيع منك بخمسين ألفا فذهب ليوقظه فلم يحتمل قلبه فرجع فلا يزال يحط من الثمن حتى بلغ إلى عشرة دراهم فلم يوقظه وترك ذلك الشراء فجعل اللّه في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملئ مسكها ذهبا

٧٢

قوله تعالى { وإذ قتلتم نفسا فادار أتم فيها } أي تدافعتم أي ألقى بعضكم على بعض يقال ادارأ القوم إذا تدافعوا وقال القتبي أصله تدارأتم فأدغمت التاء في الدال وأدخل الألف ليسلم السكون للدال ويقال هذا ابتداء القصة ومعناه وإذ قتلتم نفسا فأتيتم موسى وسألتموه أن يدعو اللّه تعالى وقال موسى { إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة }

وقوله تعالى { واللّه مخرج ما كنتم تكتمون } يعني مظهر ما كنتم تصمون من قتل عاميل

٧٣

وقوله تعالى { فقلنا اضربوه ببعضها } يعني اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة قال بعضهم بفخذها الأيمن

وقال بعضهم بلسانها

وقال بعضهم بعجزها وهو عظم في أصل ذنبها ويقال عليها يتركب الخلق فأول قول شيء يخلق ذلك الموضع ثم يركب عليه سائر البدن وهو آخر الأعضاء فسادا بعد الموت فلما ضربوه جلس وأوداجه تشخب دما وقال قتلني ابنا عمي فأخذا وقتلا ولم يعط لهما من ميراثه شيئا وقال عبيدة السلماني لم يورث قاتل قط بعد صاحب البقرة

وقال تعالى { كذلك يحيى للّه الموتى } كان في ذلك دليل لأولئك القوم أن البعث كائن لا محالة لأنهم رأوا الإحياء بعد الموت معاينة وكان في ذلك أيضا دليل لهذه الأمة ولمشركي العرب وغيرهم لأن اللّه تعالى لما أخبر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك وأخبرهم فصدقه في ذلك أهل الكتاب ولم يكونوا على دينه فكان من أدل الدليل عليهم بالبعث

قوله تعالى { ويريكم آياته} عجائبه مثل إحياء الموتى وغيره { لعلكم تعقلون } أي تفهمون أن الذي يخبركم به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حق

٧٤

قوله تعالى { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } قال الزجاج تأويل { قست } في اللغة غلظت ويبست فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع

وقوله { من بعد ذلك} قد قيل من بعد إحياء الميت ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك وقال بعض الحكماء يعني

قوله { ثم قست قلوبكم } يعني يبست ويبس القلب ان ييبس عن ماءين أحدهما ماء خشية اللّه والثاني ماء شفقة الخلق

ثم قال تعالى { فهم كالحجارة } وكل قلب لا يكون فيه خشية اللّه تعالى ولا شفقة الخلق فهو كالحجارة

وقوله تعالى { أو أشد قسوة } قال بعضهم بل أشد قسوة مثل قوله { إلى مائة ألف أو يزيدون } الصافات ١٤٧ بمعنى بل يزيدون وكقوله { كلمح البصر أو هو أقرب } النحل ٧٧ أي بل هو أقرب وكقوله { قاب قوسين أو أدنى } أي بل هو أدنى

وقال بعضهم معناه وأشد قسوة والألف زائدة وقال الزجاج { أو } للتخيير يعني أن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله عز وجل { أو كصيب من السماء } البقرة ١٩

ثم قال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } يعني الحجر الذي تخرج منه العيون في الجبل فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم بقساوتها حين لم تلن بذكر اللّه ولا بالمواعظ فقال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } يعني الحجر الذي تخرج منه العيون في ا لجبل ويقال أراد به حجر موسى عليه السلام الذي كان يخرج منه العيون

قوله تعالى { وإن منها لما يشقق } يعني من الحجارة ما يتصدع { فيخرج منا الماء وإن منها لما يهبط من خشية اللّه } ويقال كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية اللّه ويقال أراد به الجبل الذي صار دكا حين كلم اللّه موسى عليه السلام ويقال هو جميع الجبال مما زال الحجر من مكانه

وقال بعضهم هو على وجه المثل يعني لو كان له عقل لهبط من خشية اللّه تعالى وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير

قوله تعالى { وما اللّه بغافل عما تعملون } قرأ ابن كثير وابن عامر { يعملون } بالياء والباقون بالتاء واختلفوا في مواضع أخرى قرأ حمزة والكسائي في كل موضع { وما ربك بغافل عما يعملون } بالياء وفي كل موضع { وما ربك بغافل عما تعملون } هود١٢٣ بالتاء واختلفت الروايات عن غيرهما وهذا كلام التهديد يعني أن اللّه تعالى يجازيكم بما تعملون فيحذرهم بذلك

ثم ذكر التعزية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لكيلا يحزن على تكذيبهم إياه وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا فقال تعالى { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } قال ابن عباس يعني به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة

وقال بعضهم أراد به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه أفتطمعون أن يصدقوكم { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه } فإن أراد به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة فمعناه أفتطمع أن يصدقوك وقد يذكر لفظ الجماعة ويراد به الواحد كما قال في آية أخرى { من فرعون وملإيهم } يونس ٨٣ وقال { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم } القصص ٧٦ وقال تعالى { فإلم يستجيبوا لكم } هود ١٤ أراد به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة كذلك هاهنا

ثم قال { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه } قال في رواية الكلبي يعني السبعين الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء فسمعوا هناك كلام اللّه تعالى فلما رجعوا قال سفهاؤهم إن اللّه أمر بكذا وكذا بخلاف ما أمرهم فذلك قوله تعالى { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } يعني غيروه من بعد ما حفظوه وفهموه

وقال بعضهم إنما أراد به الذين يغيرون التوراة

وقال بعضهم يغيرون تأويله وهم يعلمون

٧٦

قوله عز وجل { وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني المنافقين منهم { قالوا } للمؤمنين { آمنا } يعني أمررنا أقررنا بالذي أقررتم به وهم منافقوا أهل الكتاب { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } يعني إذا رجعوا إلى رؤسائهم { قالوا } بعضهم لبعض { أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم } يعني أتخبرونهم بأن ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في كتابكم فيكون ذلك حجة لهم عليكم { أفلا تعقلون } أن ذلك حجة لهم عليكم { ليحاجوكم به } أي ليخاصموكم { عند ربكم } باعترافكم أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم نبي لا تتبعوه { أفلا تعقلون } أي أفليس لكم ذهن الإنسانية لا ينبغي لكم هذا فيما بينكم

٧٧

قال اللّه تعالى { أو لا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون } قال بعضهم { ما يسرون } في قلوبهم { وما يعلنون } بالقول فيما بينهم

وقال بعضهم { ما يسرون } فيما بينهم { وما يعلنون } مع أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

٧٨

قوله تعالى { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } يعني من أهل الكتاب وهم السفلة أميون لا يقرؤون الكتاب يقول لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته وقال الزجاج الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمية يعني هو على الخلقة التي خلقت لأن الإنسان في الأصل لا يعلم شيئا ما لم يتعلم

وقوله عز وجل { إلا أماني } قال بعضهم إلا التلاوة وهذا كما قال في آية أخرى { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } الحج ٥٢ يعني في تلاوته يعني أن السفلة منهم لا يعرفون من التوراة شيئا سوى تلاوته

وقال بعضهم { إلا أماني } إلا أباطيل وروي عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه قال ما تغنيت ولا تمنيت أي ما تكلمت بالباطل منذ أسلمت وروي في الخبر أن الإنسان إذا ركب دابته ولم يذكر اللّه تعالى صكه الشيطان في قفاه ويقول له تغن فإن لم يحسن الغناء يقول له تمن يعني تكلم بالباطل { وإن هم إلا يظنون } يعني السفلة لأنه قد ظهر لهم الكذب من رؤسائهم فكانوا يشكون في أحاديثهم وكانوا يظنون من غير يقين وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إياكم والظن فإنه من أكذب الحديث

٧٩

قوله تعالى { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الويل الشدة من العذاب ويقال الويل كلمة تستعمل عند الشدة ويقال يا ويلاه ويقال الويل واد في جهنم

قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر أنه قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن سفيان عن زياد عن ابن عباس قال الويل واد في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم وإنما صار رفعا بالابتداء وقال الزجاج ولو كان هذا في غير القرآن لجاز فويلا على معنى فجعل ويلا للذين إلا أنه لم يقرأ وذلك أن رؤساء اليهود محوا نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكتبوا سوى نعته { ثم يقولون } للسفلة { هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا } يعني عرضا يسيرا من مال الدنيا وروي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن يكتب المصحف بالأجرة وتأول هذه الآية { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } إلى قوله { ليشتروا به ثمنا قليلا } وغيره من العلماء أباحه

ثم قال { فويل لهم مما كتبت أيديهم } يعني مما يصيبهم من العذاب { وويل لهم مما يكسبون } يعني مما يصيبون فجعل لهم الويل ثلاث مرات

٨٠

قوله تعالى { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } روي عن الضحاك أنه قال لم يكن احد من الكفار أجرأ على اللّه تعالى من اليهود حين قالوا { عزيز ابن اللّه } التوبة ٣٠ وقالوا إن اللّه فقير وأيضا { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } أي مقدار الأيام التي عبد فيها آباؤنا العجل وهي أربعون يوما وقال مجاهد { لا أياما معدودة } أي مقدار عدد أيام الدنيا وهي سبعة أيام وهكذا روي عن عكرمة عن ابن عباس

وقال بعضهم كان مذهبهم مذهب جهم في أنهم لا يرون الخلود في النار

قال اللّه تعالى { قل أتخذتم عند اللّه عهدا } قال الزجاج أعهد إليكم ألا يعذبكم إلا هذا المقدار إن كان لكم عهد { فلن يخلف اللّه عهده } أي وعده ويقال أعقدتم عند اللّه عقدا وهو عقد التوحيد { فلن يخلف اللّه عهده } أي وعده

وقد قيل هل أنزل عليكم بذلك آية { أم تقولون على اللّه } أي بل تقولون على اللّه { ما لا تعلمون } وروي في الخبر أنه إذا مضت عليهم في النار تلك المدة قالت لهم الخزنة يا أعداء اللّه ذهب الأجل وبقي الأبد فأيقنوا بالخلود

٨١

قال اللّه تعالى { بلى } يعني بلى يخلد فيها { من كسب سيئة } يعني الشرك { وأحاطت به خطيئته } يعني مات على الشرك

وقال بعضهم السيئة الشرك والخطيئة الكبائر وهو قول المعتزلة خذلهم اللّه تعالى إن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وقال الربيع بن خثيم { وأحاطت به خطيئته } الذي يموت على الشرك قرأ نافع { خطاياه } وهو جمع خطيئة وقرأ والباقون { خطيئته } وهي خطيئة واحدة والمراد به الشرك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } يعني دائمين لا يخرجون منها أبدا

٨٢

قوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } معناه والذين صدقوا باللّه وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعملوا الصالحات أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم يعني أدوا الفرائض وانتهوا عن المعاصي { اولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } يعني دائمين لا يموتون ولا يخرجون

٨٣

قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } يعني وقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة يعني بمجيء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال الميثاق الأول حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام

وقوله { لا تعبدون إلا اللّه } قرأ حمزة والكسائي وابن كثير { لا يعبدون } بالياء وقرأ الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فمعناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا يعبدوا إلا اللّه ومن قرأ بالتاء فمعناه وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل وقلنا لا تعبدوا إلا اللّه يعني أخذنا عليهم الميثاق بأن لا تعبدوا إلا اللّه يعني لا توحدوا إلا اللّه { وبالوالدين إحسانا } نصب إحسانا على معنى أحسنوا إحسانا فيكون إحسانا بدلا من اللفظ أي أحسنوا إلى الوالدين يعني برا بهما وعطفا عليهما وفي هذه الآية بيان حرمة الوالدين لأنه قرن حق الوالدين بعبادة نفسه ويقال ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا يقبل إحداها بدون الأخرى إحداها قوله عز وجل { واطيعوا اللّه واطيعوا الرسول } المائدة ٩٢ والثانية { أن اشكر لي ولوالديك } لقمان ١٤ والثالثة { وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة } البقرة ٤٣ وغيرها

وقوله تعالى { وذي القربى } يعني أحسنوا إلى ذي القربى { واليتامى } يعني أحسنوا إلى اليتامى { و } إلى { المساكين } والإحسان إلى اليتامى والمساكين أن نحسن إليهم بالصدقة وحسن القول { وقولوا للناس حسنا } قرأ حمزة بنصب الحاء والسين وقرأ الباقون برفع الحاء وسكون السين فمن قرأ بالنصب يعني قولوا للناس حسنا يعني قولوا لهم قولا صدقا في نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته كما بين في كتابكم ونظيرها في سورة طه { إلم يعدكم ربكم وعدا حسنا } طه ٨٦ أي وعدا صدقا ومن قرأ بالرفع فمعناه قولوا لجميع الناس حسنا يعني خالقوا الناس بالخلق الحسن فكأنه يأمر بحسن المعاشرة وحسن الخلق مع الناس { وأقيموا الصلاة } يعني أقروا بها وأدوها في مواقيتها { وآتوا الزكاة } المفروضة { ثم توليتم } يعني أعرضتم عن الإيمان والميثاق { إلا قليلا منكم } وهو عبد اللّه بن سلام وأصحابه { وأنتم معرضون } أي تاركون لما أخذ عليكم من المواثيق

٨٤

ثم قال عز وجل { وإذ أخذنا ميثاقكم } أي إقراركم { لا تسفكون دمائكم } أي بأن لا تسفكوا دماءكم يعني لا يهريق بعضكم دماء بعض { ولا تخرجون أنفسكم } أي لا يخرج بعضكم بعضا { من دياركم } فجملة ما أخذ عليهم من الميثاق ألا يعبدوا إلا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ويقولوا للناس حسنا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ولا يسفكوا دماءهم ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأن يفادوا أسراهم فذكر المفاداة بعد هذا حيث قال تعالى { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } تفدوهم على وجه التقديم والتأخير قوله تعالى { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } يعني بني قريظة والنضير يعني أقررتم بهذا كله وأنتم تشهدون ان هذا في التوراة فنقضوا العهد فعيرهم اللّه تعالى بذلك

٨٥

فقال تعالى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } يعني أنتم يا هؤلاء ويقال معناه ثم أنتم هؤلاء يا معشر اليهود { تقتلون أنفسكم } أي يقتل بعضكم بعضا

{ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } يعني بعضكم بعضا لأنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وكان قريظة وبنو النضير إحدى القبيلتين كانت معينة للأوس والأخرى كانت معينة للخزرج فإذا غلبت إحداهما على الأخرى كانت تقتلهم وتخرجهم من ديارهم وفي الآية دليل أن الإخراج من الدار ينزل منزلة القتل لأن اللّه تعالى قرن الإخراج من الديار بالقتل حيث قال تعالى { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم }

وقوله { تظاهرون عليهم } قرأ أهل الكوفة وحمزة وعاصم والكسائي بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد { تظاهرون } لأن أصله تتظاهرون فأدغم إحدى التاءين في الظاء وأقيم التشديد مقامه معناه تتعاونون عليهم { بالإثم والعدوان } يعني بالمعصية والظلم قال الزجاج العدوان هو الإفراط في الظلم { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } قرأ عاصم والكسائي ونافع { أسارى تفادوهم } كلاهما بالألف وقرأ حمزة { أسرى تفدوهم } بغير ألف فيهما وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { أسارى تفدوهم } الأول بالألف والثاني بغير ألف وهذا من الميثاق الذي أخذ عليهم بأن يفادوا الأسارى

وقوله تعالى { وهو محرم عليكم إخراجهم } هذا انصرف إلى ما سبق ذكره من الإخراج فكأنه يقول وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وهو محرم عليكم يعني ذلك الإخراج كان محرما ثم بين الإخراج مرة أخرى لتراخي الكلام فقال { وهو محرم عليكم إخراجهم }

ثم قال { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } لأنهم كانوا إذا أسروا من غيرهم قتلوا الأسرى ولا يفادوهم وإن أسر منهم أحد يأخذوهم بالفداء فهذا معنى قوله تعالى { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }

ثم قال { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } يعني عقوبة من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو إخراج بني النضير إلى الشام وقتل بني قريظة وقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ثم أخبر أن الذي أصابهم في الدنيا من الخزي والعقوبة لم يكن كفارة لذنوبهم ولكنهم { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } ويقال الخزي في الدنيا الجزية

ثم قال { وما اللّه بغافل عما تعملون } أي لا يخفى على اللّه تعالى من أعمالهم شيء ويجازون بأعمالهم

٨٦

ثم قال { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } يعني اختاروا الدنيا على الآخرة { فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب

٨٧

قوله تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني أعطينا { موسى الكتاب } يعني أعطينا موسى عليه السلام التوراة جملة واحدة ويقال الألواح { وقفينا من بعده بالرسل } يعني أتبعنا وأردفنا معناه أرسلنا رسولا على أثر رسول يقال قفوت الرجل إذا ذهبت في أثره { وآتينا } يعني أعطينا { عيسى ابن مريم البينات } يعني الآيات والعلامات مثل إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص { وأيدناه بروح القدس } قرأ ابن كثير { القدس } بسكون الدال وقرأ الباقون برفع الدال تفسيرهما واحد يعني أعانه بجبريل حين أرادوا قتله فرفعه إلى السماء وقال بعضهم { أيدناه } أي قويناه وأعناه باسم اللّه الأعظم الذي يحيي به الموتى

وقوله تعالى { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } يقول بما لا يوافق هواكم { استكبرتم } يعني تعظمتم من الإيمان قال الزجاج معناه أنفتم أن تكونوا اتباعا له لأنه كانت لهم رياسة وكانوا متبوعين فلم يؤمنوا مخافة أن تذهب عنهم الرياسة فقالوا { ففريقا كذبتم } مثل عيسى ابن مريم ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى جميع الأنبياء وسلّم { وفريقا تقتلون } مثل يحيى وزكريا عليهما السلام

٨٨

قوله تعالى { وقالوا قلوبنا غلف } قرأ ابن عباس رضي اللّه عنه { غلف } بضم اللام وهي قراءة شاذة وقرأ الجمهور بسكون اللام يعني ذو غلاف والواحد أغلف مثل أحمر وحمر ومعناه أنهم يقولون قلوبنا في غطاء من قولك ولا نفقه حديثك وهذا كما قال في آية أخرى

{ وقالوا قلوبنا فى أكنة } فصلت٥ وأما من قرأ { غلف } فهو جماعة الغلاف على ميزان حمار وحمر يعنون أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقه حديثك فلو كنت نبيا لفهمنا قولك

قال اللّه تعالى ردا لقولهم { بل لعنهم اللّه بكفرهم } يعني خذلهم اللّه وطردهم مجازاة لكفرهم { فقليلا ما يؤمنون } صار نصبا لأنه قدم المفعول

وقال بعضهم معناه لا يؤمنون إلا القليل منهم مثل عبد اللّه بن سلام وأصحابه

وقال بعضهم إيمانهم باللّه قليل لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض

وقال بعضهم معناه أنهم لا يؤمنون كما قال فلان قليل الخير يعني لا خير فيه

٨٩

ثم قال تعالى { ولما جاءهم كتاب من عند اللّه } يعني القرآن { مصدق لما معهم } يعني موافقا للتوراة في التوحيد وفي بعض الشرائع ويقال { مصدق لما معهم } يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بالتوراة { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } يعني من قبل مجيء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يستنصرون على المشركين لأن بني قريظة والنضير قد وجدوا نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في كتبهم فخرجوا من الشام إلى المدينة ونزلوا بقربها ينتظرون خروجه وكانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب يستفتحون عليهم أي يستنصرون ويقولون اللّهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا وكانوا يرجون أن يكون منهم فنصروا على عدوهم فذلك

قوله تعالى { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } يعني باسم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم { فلما جاءهم ما عرفوا } يعني عرفوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وعرفوه { كفروا به } وغيروا صفته مخافة أن تزول عنهم منفعة الدنيا

قال تعالى { فلعنة اللّه على الكافرين } يعني سخط اللّه وعذابه على الجاحدين بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم

٩٠

ثم قال عز وجل { بئسما اشتروا به أنفسهم } قال الكلبي بئس ما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال بئس ما صنعوا بأنفسهم حيث كفروا بما أنزل اللّه عليهم بعد ما كانوا خرجوا من الشام على أن ينصروا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وكفروا به حسدا منهم فذلك

قوله { أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا بينهم } يعني حسدا منهم

ومعنى قوله تعالى { أن ينزل اللّه } يعني كفروا مما ينزل اللّه تعالى { من فضله } يعني لم يؤمنوا لأجل أن اللّه تعالى ينزل من فضله النبوة والكتاب { على من يشاء من عباده } من كان أهلا لذلك وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { فباؤوا بغضب على غضب } يعني استوجبوا اللعنة على إثر اللعنة قال مقاتل الغضب الأول حين كفروا بعيسى عليه السلام واستوجبوا الغضب الآخر حين كفروا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال الغضب الأول حين

عبدوا العجل والغضب الثاني حين استحلوا السمك في يوم السبت قرأ ابن كثير وأبو عمرو { أن ينزل اللّه } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وأنزل ينزل ونزل ينزل معناهما واحد

قوله تعالى { وللكافرين عذاب مهين } أي يهانون فيه

٩١

ثم قال عز وجل { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه } يعني صدقوا بالقرآن الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهم يهود أهل المدينة ومن حولها { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } في التوراة وبموسى عليه السلام { ويكفرون بما وراءه } يعني بما سواه وهو القرآن { وهو الحق مصدقا لما معهم } يعني القرآن هو المصدق وهو منزل من اللّه تعالى موافق لما معهم يعني أنهم إذا جحدوا بالقرآن صار جحودا بما معهم لأنهم جحدوا بما هو مصدق لما معهم فقالوا له إنك لم تأتنا بمثل الذي أتانا به أنبياؤنا ولم يكن لنا نبي إلا كان يأتينا بقربان تأكله النار

قال اللّه تعالى { قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل } وقد جاؤوا بالقربان والبينات أي بالعلامات { إن كنتم مؤمنين } أي إن كنتم مصدقين بالأنبياء فهذا اللفظ للمستأنف وهو

قوله تعالى { فلم تقتلون } ولكن المراد منه الماضي وإنما خاطبهم وأراد به آباءهم وفي الآية دليل أن من رضي بالمعصية فكأنه فاعل لها لأنهم كانوا راضين بقتل آباءهم الأنبياء فسماهم اللّه تعالى قاتلين وفي الآية دليل أن من ادعى أنه مؤمن ينبغي أن تكون أفعاله مصدقة لقوله لأنهم كانوا يدعون أنهم مؤمنون بما معهم

قال اللّه تعالى { فلم تقتلون أنبياء اللّه } يعني أي كتاب جوز فيه قتل نبي من الأنبياء عليهم السلام وأي دين وإيمان جوز فيه ذلك يعني قتل الأنبياء

٩٢

قوله تعالى { ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني بالآيات والعلامات ويقال بالحلال والحرام والحدود والفرائض { ثم اتخذتم العجل من بعده } يعني عبدتم العجل { من بعده } يعني بعد انطلاق موسى إلى الجبل { وأنتم ظالمون } أي كافرون بعبادتكم العجل

٩٣

قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة } أي بجد ومواظبة في طاعة اللّه { واسمعوا } يعني قيل لهم اسمعوا { قالوا سمعنا وعصينا } قال في رواية الكلبي قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا ويقال إنهم يقولون في الظاهر سمعنا ويضمرون في أنفسهم وعصينا أمرك

ثم قال { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } يعني جعل حلاوة عبادة العجل في قلوبهم مجازاة لكفرهم ويقال حب عبادة العجل فحذف الحب وأقيم العجل مقامه ومثل هذا يجري في كلام العرب كما قال في آية أخرى { وسئل القرية } يوسف ٨٢ أي أهل القرية

ثم قال تعالى { قل بئسما يأمركم به إيمانكم } يعني بئس الإيمان الذي يأمركم بالكفر وقال مقاتل معناه إن كان حب عبادة العجل في قلوبكم يعدل حب عبادة خالقكم فبئس ما يأمركم به إيمانكم { إن كنتم مؤمنين } كما تزعمون

٩٤

قوله تعالى { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند اللّه خالصة من دون الناس } يعني الجنة وذلك أن اليهود كانوا يقولون إن الجنة لنا خاصة من دون سائر الناس قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قل لهم إن كان الأمر كما تقولون إن الجنة لكم خاصة { فتمنوا الموت } يعني سلوا اللّه الموت يعني بما عملوا من المعاصي { إن كنتم صادقين } أن الجنة لكم فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قولوا إن كنتم صادقين اللّهم أمتنا فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه يعني يموت مكانه فأبوا أن يقولوا ذلك فنزل  

٩٥

{ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } يعني بما عملوا من المعاصي قال الزجاج في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة رسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه قال لهم { فتمنوا الموت } وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا فلم يتمنه واحد منهم ويقال إن قوله { لن يتمنوه } إنما يقع على الحياة الدنيا خاصة ولا يقع على أمر الآخرة لأنهم يتمنون الموت في النار إذا كانوا في جهنم وفي هذه الآية دليل أن لفظه { لن } لا تدل على التأبيد لأنهم يتمنون الموت في الآخرة خلافا لقول المعتزلة في قوله { لن تراني } ويقال ولو أنهم سألوا الموت في الدنيا ولم يموتوا وكان في ذلك تكذيبا لقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكان في ذلك أيضا ذهاب معجزته فلما لم يتمنوا الموت ثبت بذلك عندهم أنه رسول اللّه وظهر عندهم معجزته وظهر أن الأمر كما عز وجل

ثم قال { واللّه عليم بالظالمين } فهو عليم بهم وبغيرهم من الظالمين وإنما الفائدة هاهنا أنه بمجازاتهم عليم

٩٦

ثم قال عز وجل { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } يعني أن اليهود أحرص الناس على البقاء { ومن الذين أشركوا } يعني أحرص الناس على الحياة وأحرص من الذين أشركوا قال الكلبي { الذين أشركوا } يعني المجوس وقال مقاتل { أحرص الناس على حياة } وأحرص { من الذين أشركوا } يعني مشركي العرب

فإن قيل كيف يصح تفسير الكلبي والمجوس لا يسمون مشركين

قيل له المجوس مشركون في الحقيقة لأنهم قالوا بألهين اثنين النور والظلمة

قوله تعالى { يود أحدهم } يعني المجوس يقولون لملوكهم في تحيتهم عش عشرة آلاف سنة وكل ألف نيروز وقال مقاتل يود أحدهم يعني اليهود { لو يعمر ألف سنة }

ثم قال { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } يعني طول حياته لا يبعده ولا يمنعه من العذاب وإن عاش ألف سنة كما تمنى { واللّه بصير بما يعملون } يعني عالم بمجازاتهم بأعمالهم

٩٧

قوله تعالى { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله } وذلك أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال لليهود ما لكم لا تؤمنون بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا لأن جبريل هو الذي ينزل عليه بالوحي فلو نزل عليه ميكائيل بالوحي لآمنا به لأن ميكائيل ملك الرحمة وجبريل ملك العذاب فنزلت هذه الآية ويقال إنهم كانوا يقولون إن النبوة كانت فينا فجبريل صرف النبوة عنا لعداوته معنا فنزلت هذه الآية { قل من كان عدوا لجبريل } قال بعضهم في الآية مضمر ومعناه قل من كان عدوا لجبريل فلا يبغضه فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن فيقرأه عليك فتحفظه في قلبك { بإذن اللّه مصدقا لما بين يديه } من التوراة ويقال هذا على وجه الترغيم فكأنه يقول قل من كان عدوا لجبريل فإن جبريل هو الذي ينزل عليك رغما لهم بهذا القرآن ليقرأه عليك وليثبت به فؤادك وهذا القرآن { وهدى } هدى من الضلالة { وبشرى للمؤمنين } أي لمن آمن به من المؤمنين

٩٨

ثم قال اللّه عز وجل { من كان عدوا للّه } ومعناه من كان عدوا لجبريل فإنه عدو للّه { وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن اللّه عدو للكافرين } يعني اليهود

ويقال إن عبد اللّه بن صوريا هو الذي قال لعمر إن جبريل عدونا لأنه ينزل بالشدة والخوف وميكائيل ينزل بالرخاء فنزلت هذه الآية { من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن اللّه عدو للكافرين } الآية قرأ حمزة والكسائي وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { جبرئيل } بفتح الجيم والراء والهمزة { وميكائيل } بالياء مع الهمزة وقرأ نافع { جبريل } بكسر الجيم والراء بغير همزة { ومكال } بالهمزة بغير ياء وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص بغير همزة بكسر الجيم والراء وميكال بغير همز وياء وقرأ ابن كثير جبريل بنصب الجيم { جبريل } بغير همزة و { ميكايل } بغير الهمزة والياء وقرأ ابن عامر جبريل بكسر الجيم مثل قراءة نافع وميكائيل بالياء مع المد والهمزة مثل حمزة وإنما لم ينصرف لأنه اسم أعجمي فوقع ذلك في لسان العرب فاختلفوا فيه لاختلاف ألفاظهم ولغاتهم ويقال جبريل وميكائيل بمنزلة عبد اللّه وعبد الرحمن يعني بلغتهم غير لغة العربية

٩٩

قوله تعالى { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } يعني واضحات ويقال مبينات للحلال والحرام { وما يكفر بها إلا الفاسقون } يعني وما يجحد بالآيات { إلا الفاسقون } يعني الكافرين من اليهود ومشركي العرب

١٠٠

قال عز وجل { أو كلما عاهدوا عهدا } وهو العهد الذي بين لهم في التوراة ويوم الميثاق { نبذه فريق منهم } أي تركه ولم يعمل به فريق منهم أي طائفة منهم { بل أكثرهم لا يؤمنون } وقد ذكرناه

١٠١

ثم قال عز وجل { ولما جاءهم رسول من عند اللّه } يعني محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { مصدق لما معهم } يعني يدعوهم إلى تصديق ما معهم { نبذ فريق } يعني طرح فريق { من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم } ولم يؤمنوا به { كأنهم لا يعلمون } في كتابهم بأن محمدا رسول اللّه

١٠٢

قوله تعالى { واتبعوا ما تتلو الشياطين } يعني تقفو الشياطين ويقال ما كتبت الشياطين ويقال ما ألقت الشياطين ويقال ما افتعلته الشياطين { على ملك سليمان } أي على عهد سليمان ويقال { على } بمعنى في أي في ملك سليمان ويقال في وقت ذهاب ملك سليمان ويقال هذا منسوب على الأول فكأنه قال نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين يعني تركوا سنة أنبياء اللّه واتبعوا السحر ويقال تركوا شيئين واتبعوا شيئين تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ما تدونه الشياطين { وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت }

واختلفوا في سبب ذلك قال بعضهم إن سليمان عليه السلام أمر بأن لا يتزوج إمرأة من غير بني إسرائيل فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها ضبنة بنت صابورا فعاقبه اللّه تعالى بأن اجلس مكانه الشيطان وكان الناس يظنون انه سليمان فأشكل عليهم أمره فجاؤوا إلى آصف بن برخيا وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره ملكه فقالوا له إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان فقال آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن إن كان هذا سليمان فقد هلكنا وهلكتم واللّه ما يعتزل منا حائضا ولا يغتسل من جنابة هكذا ذكر في رواية الكلبي

وقال بعضهم هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافات معصومات عن الفواحش فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن وهو الأصح

وقال بعضهم كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة لأن الشيطان روحاني وليس له جسم فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله كتب سحرا كثيرا وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب وكان سليمان خرج إلى ساحل البحر وأجر نفسه من الملاحين كل يوم بسمكتين فلما أعطوه أجره باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود عليهما السلام فانظروا تحت كرسيه فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتبا كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر فقال العلماء منهم لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان وقال السفهاء منهم بل هذا من علم سليمان فاتبعوه فنزلت هذه الآية على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى جميع الأنبياء عذرا لسليمان عليه السلام

ثم قال تعالى { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان } يعني ما كان ساحرا وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفرا وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه كتب إلى جرير بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس أن اقتلوا كل ساحر وساحرة

ثم قال تعالى { ولكن الشياطين كفروا } يعني هم الذين كتبوا السحر قرأ حمزة والكسائي { ولكن الشياطين } بكسر النون من غير تشديد ورفع النون في { الشياطين } وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب { ولكن الشياطين } بفتح النون في { الشياطين } وهذا هو الأصل في اللغة فإن كلمة أن لكن إذا كانت مشددة تنصب ما بعدها وإن لم تكن مشددة ترفع ما بعدها

وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر وأبواب النيرنجايات فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتبا كثيرة

وقال بعضهم معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم رأى نباتا بين يديه فيقول له لأي دواء أنت فيقول لكذا وكذا وإن اسمي كذا وكان سليمان يكتب ذلك فنبت يوما من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان ما اسمك فقال خرنوب فقال له لأي دواء أنت فقال لخراب المسجد فعلم سليمان أنه قد جاء أجله لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة فكتبت الشياطين سحرا ووضعوه في ذلك الموضع فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك

قوله { وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر }

ثم قال تعالى { وما أنزل على الملكين } يعني اتبعوا الذي أنزل على الملكين يعني وهما الملكان { ببابل هاروت وماروت } حدثنا القاضي الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي فقال حدثنا إسحاق قال حدثنا حكام بن سليمان الرازي قال حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي اللّه عنه في

قوله تعالى { وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } قال إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك واتخذوا هذه الأصنام وعبدوا غير اللّه تعالى فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم ورزقتهم فأحسنت رزقهم فعصوك وعبدوا غيرك فقال لهم الرب عز وجل إنهم في عذر

وقيل في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ويدعون فقال لهم الرب اختاروا منكم اثنين فأهبطهما إلى الأرض فأمرهما ونهاهما فاختاروا هاروت وماروت فأهبطهما اللّه تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر فمكثا زمانا يحكمان في الأرض بالحق وكان في ذلك الزمان امرأة فضلت بالحسن على سائر النساء فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت لا حتى تصليا لهذا الصنم فقالا هذا أمر عظيم هذا كفر باللّه فأبيا ثم عبدا زمانا فأبيا عليها فخضعا لها بالقول فقالت لا حتى تصليا لهذا الصنم أو تقتلا هذه النفس أو تشربا هذا الخمر فقالا أهون الثلاثة شرب الخمر فشربا الخمر فلما شربا الخمر وفعلا بالمرأة وقتلا النفس فكشف الغطاء فيما بينهما وبين الملائكة فنظروا إليهما وما يعملان فجعلت الملائكة بعد ذلك يعذرون أهل الأرض ويستغفرون لمن في الأرض فقيل لهاروت وماروت اختاروا إما عذاب الدنيا فهما يعذبان وأما عذاب الآخرة فقالا عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فهما يعذبان إلى يوم القيامة

وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم اللّه الأعظم فصعدت إلى السماء فمسخها اللّه تعالى كوكبا ويقال هو الكوكب الذي يقال له الزهرة

وروي عن ابن عمر كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول هي التي فتنت هاروت وماروت وروي عن علي رضي اللّه عنه هذا

وقال بعضهم هذا لا يصح لأن هذا الكوكب قد كان في الأصل خلقه حين خلق النجوم وجعل مدار الأشياء على سبع من الكواكب وجعل لكل كوكب سلطانا وجعل سلطان الزهرة الرطوبة واسمها بالعبرانية ناهيذ وبالقبطية بيذخت

وقال بعضهم إن كوكب الزهرة قد كان ولكن اللّه تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك

وقال بعضهم قد صارت إلى النار كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله { وما أنزل على الملكين } يعني اليهود اتبعوا { ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت }

قوله تعالى { وما يعلمان من أحد حتى } قال بعضهم هذا { ما } للنفي فكأنه يقول ولم ينزل على الملكين السحر

وقال بعضهم إن إبليس قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما وهما معلقان بالسلسلة فيذهب اليهود ويتعلمون السحر من تلك الكتب والملكان يقولان { إنما نحن فتنة فلا تكفر } يعني لا تتعلم السحر لأنه لا يجوز للملكين أن يعلما الكفر

وقال بعضهم ويبينان أن عمل السحر كفر وينهيان عن التعلم ويبينان كيفية السحر ويكون بمنزلة رجل قال لآخر علمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول له إن الزنى كذا وكذا وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل كذلك هاهنا الملكان يقولان السحر كذا وكذا وهو كفر فلا تكفر وقرأ بعضهم { وما أنزل على الملكين } بكسر اللام وهي قراءة شاذة يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما اللّه تعالى

وقوله تعالى { إنما نحن فتنة فلا تكفر } يعني اختبار أو ابتلاء وأصل الفتنة الاختبار

وقوله { فيتعلمون منهما } يعني من الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } يعني فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع

وقال تعالى { وما هم بضارين به من أحد } من الناس { إلا بإذن اللّه } أي بإرادة اللّه تعالى ويقال بتخلية اللّه تعالى { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } يعني ما يضرهم في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة ويقال ما يضرهم بعلم اللّه في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا يعني السحر   قوله تعالى { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر { ما له في الآخرة من خلاق } يعني نصيب والخلاق في اللغة هو النصيب الوافر

وقوله تعالى { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } يقول لبئس ما باعوا به أنفسهم ويقال بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب اللّه تعالى وسنن أنبيائه لو كانوا يعلمون ولكنهم لا يعلمون

فإن قيل ذكر في الآية الأولى { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } وفي هذه الآية يقول { لو كانوا يعلمون } فمرة يقول يعلمون ومرة يقول لا يعلمون

فالجواب أن يقال إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم من علمهم وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يعلم فكذلك ها هنا { لو كانوا يعلمون } لو كانوا يوفون للعلم حقه

١٠٣

قال اللّه تعالى { ولو أنهم آمنوا واتقوا } يعني اليهود ولو صدقوا بثواب اللّه واتقوا السحر { لمثوبة من عند اللّه خير } يعني كان ثواب اللّه تعالى خيرا لهم من السحر والمثوبة والثواب بمعنى واحد وهو الجزاء على العمل وكذلك الأجر { لو كانوا يعلمون }

١٠٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } فهذا نداء المدح يقول { يا أيها الذين آمنوا } صدقوا بتوحيد اللّه تعالى وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { لا تقولوا راعنا } وذلك أن المسلمين كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويقولون له يا رسول اللّه { راعنا } وهو بلغة العرب أرعنا سمعك وأصله في اللغة من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله وكان هذا اللفظ بلغة اليهود سبا بالرعونة فلما سمعت اليهود ذلك من المسلمين أعجبهم ذلك فقالوا فيما بينهم كنا نسب محمدا سرا فالآن نسبه علانية فكانوا يقولون حين يأتونه راعنا يا محمد ويريدون به السب

وقال بعضهم كان في لغتهم معناه اسمع لا سمعت فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } فنهى المسلمين أن لا يقولوا بهذا اللفظ وأمرهم أن يقولوا بلفظ أحسن منه

وقال اللّه تعالى { وقولوا انظرنا واسمعوا } أي أطيعوا ما تؤمرون به ثم ذكر الوعيد للكفار فقال { وللكافرين عذاب أليم } يعني اليهود وقرأ الحسن { راعنا } بالتنوين وقال القتبي من قرأ { راعنا } بالتنوين جعله اسما منه مثاله أن تقول لا تقولوا حمقا

١٠٥

قوله تعالى { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران { ولا المشركين } يعني مشركي العرب { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } يعني أن ينزل على رسولكم من الوحي وشرائع الإسلام لأنهم كانوا كفارا فيحبون أن يكون الناس كلهم كفارا مثلهم وهذا كما قال في آية أخرى { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } النساء ٨٩ فأخبر اللّه تعالى أن الأمر ليس على مرادهم حيث قال تعالى { واللّه يختص برحمته من يشاء } يعني يختار للنبوة من يشاء من كان أهلا لذلك ويكرم بدينه الإسلام من يشاء { واللّه ذو الفضل العظيم } يعني ذا المن العظيم لمن اختصه بالنبوة والإسلام وقال مقاتل كان قوم من الأنصار يدعون حلفاءهم ومواليهم من اليهود إلى الإسلام فقالوا للمسلمين أنكم الذي تدعوننا ما هو خير مما نحن فيه وددنا لو أنكم على هذا الدين فنزل قوله تعالى { واللّه يختص برحمته من يشاء } يعني بدينه الإسلام من يشاء ونظيرهما في سورة هل أتى { يدخل من يشاء في رحمته } الشورى ٨ يعني في دينه الإسلام

١٠٦

قوله تعالى { ما ننسخ من آية } قرأ ابن عامر { ما ننسخ } برفع النون وكسر السين وقرأ الباقون { ما ننسخ } بالنصب ومعناهما واحد وقرأ أبو عمرو وابن كثير { أو ننسأها } بنصب النون والسين والهمز وقرأ الباقون { أو ننسها } برفع النون وكسر السين بغير همز فمن قرأ { ننسأها } أي نؤخرها ومنها النسيئة في البيع وهو التأخير ومن قرأ { ننسها } أي نتركها مثل قوله تعالى { نسوا اللّه فنسيهم } التوبة ٦٧ أي تركهم في النار وقال ابن عباس في رواية أبي صالح في قوله تعالى { ما ننسخ من آية } فلا نعمل بها { أو ننسها } أي ندعها غير منسوخة

ثم قال تعالى { نأت بخير منها أو مثلها } يعني ألين وأهون منها على الناس { أو مثلها } في المنفعة وقال الزجاج النسخ في اللغة هو إبطال شيء وإقامة شيء آخر مقامه والعرب تقول نسخت الشمس الظل إذا أزالته { أو ننسها } أي نتركها بمعنى أي نأمركم بتركها وقال أبو عبيد القاسم بن سلام النسخ له ثلاثة مواضع ولكل منها شواهد ودلائل فأحدها ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال { ما ننسخ من آية } يعني نبدلها ونوضحها وما روي عن مجاهد أنه قال نثبت خطها ونبدل حكمها فهذا هو المعروف عند الناس والنسخ الثاني أن ترفع الآية المنسوخة بعد نزولها ولهذا دلائل جاءت فيه من ذلك ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه صلّى ذات يوم صلاة الغداة فترك آية فلما فرغ من صلاته قال هل فيكم أبي قالوا نعم قال هل تركت من آية قالوا نعم تركت آية كذا أنسخت أم نسيت قال لا ولكن نسيت وجاءت الآثار في نحو هذا أن الآية قد تنسخ بعد نزولها وترفع والنسخ الثالث تحويله من كتاب إلى كتاب وهو ما نسخ من أم الكتاب فأنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ننساها } أي نتركها في اللوح المحفوظ

وقال بعضهم لا يجوز النسخ فيما يرفع كله بعد نزوله لأن اللّه تعالى قال { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر ٩ وقال { إن علينا جمعه وقرءانه } القيامة ١٧ ولكن أكثر أهل العلم قالوا يجوز ذلك والنسخ يجوز في الأمر والنهي والوعد والوعيد ولا يجوز في القصص والأخبار لأنه لو جاز ذلك يكون كذبا والكذب في القرآن لا يجوز ثم قال تعالى { ألم تعلم أن اللّه على كل شيء قدير } يعني من الناسخ والمنسوخ

١٠٧

قوله تعالى { ألم تعلم أن اللّه له ملك السموات والأرض } يحكم فيهما ما يشاء بالأمر ثم يأمر غيره قال الزجاج الملك في اللغة هو تمام القدرة وأصل هذا من قولهم ملكت العجين إذا بالغت في عجنه ومعنى الآية أن اللّه يملك السموات والأرض وما فيهما فهو أعرف بما يصلحهم فيما يتعبدهم به من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك وكان اليهود أعداء اللّه ينكرون النسخ وكانوا يقولون حين تحولت القبلة إلى الكعبة لو كنتم على الحق فلم رجعتم ولو كان هذا الثاني حقا فقد كنتم على الباطل وكانوا لا يرون النسخ في الشرائع لأن ذلك حال البداء ولا يجوز ذلك على اللّه ولكن الجواب أن يقال إن اللّه تعالى يدبر في أمره ما يشاء كما أنه يخلق الخلق ولم يكونوا ثم يميتهم بعد ذلك ثم يحييهم كذلك يجوز أن يأمر ثم بأمر بغير ذلك كما أن شريعة موسى لم تكن من قبل فأمره بذلك والمعنى في ذلك أنه حين أمرهم بالأمر الأول كان الصلاح في ذلك الأمر ثم إذا أمر بأمر آخر كان الصلاح في ذلك الوقت في الأمر الثاني وهذا هو معنى قوله { ألم تعلم أن اللّه له ملك السموات والأرض } يعني هو أعلم بأمر الخلق وما يصلحهم في كل وقت

ثم بين الوعيد لمن لم يؤمن بالناسخ والمنسوخ فقال { وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير } يعني عذاب اللّه من { ولي } أي من قريب ينفعكم { ولا نصير } أي مانع يمنعكم من عذاب اللّه تعالى

١٠٨

قوله تعالى { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } قال مقاتل معناه أتريدون أن تسألوا رسولكم { كما سئل موسى من قبل } يعني كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام حيث قالوا { أرنا اللّه جهرة } النساء ١٥٣ ويقال إن اليهود سألوا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يطلبوا القربان كما كان لموسى وروي عن الضحاك أنه قال دخل جماعة من كفار قريش منهم أبو جهل وغيره فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن كنت نبيا فاكشف عنا الغطاء حتى نرى اللّه جهرة فنزلت هذه الآية { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل } حيث قالوا { أرنا اللّه جهرة }

ثم قال { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } أي يختار الكفر على الإيمان { فقد ضل سواء السبيل } يعني أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى

١٠٩

قوله تعالى { ود كثير من أهل الكتاب } وذلك أن المسلمين لما أصابتهم المحنة يوم أحد قالت اليهود لعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان قد أصابكم ما أصابكم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم فنزلت هذه الآية { ود كثير من أهل الكتاب } يعني يريد ويتمنى كثير من أهل الكتاب { لو يردونكم } يعني يصدونكم ويردونكم عن التوحيد { من بعد إيمانكم كفارا } إلى الكفر

ثم أخبر أن هذا القول لم يكن منهم على وجه النصيحة ولكن هذا القول كان { حسدا } منهم { من بعد ما تبين لهم } ما في التوراة أنه { الحق } يعني أن دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم هو الحق { فاعفوا واصفحوا } يقول اتركوهم وأعرضوا عنهم { حتى يأتي اللّه بأمره } يعني الأمر بالقتال وكان ذلك قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب ثم أمرهم بعد ذلك بقتالهم وهو قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية } التوبة٢٩ { إن اللّه على كل شيء قدير } من النصرة للمسلمين على الكفار ويقال هو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير

١١٠

قوله تعالى { وأقيموا الصلاة } يعني أقروا بالصلاة وأدوها في مواقتيها بركوعها وسجودها وخشوعها { وآتوا الزكاة } يعني أعطوا الزكاة المفروضة

ثم قال { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند اللّه } يعني ما تصدقتم من الصدقة وتعملون من العمل الصالح تجدوه عند اللّه محفوظا يجزيكم به ونظير هذا ما قال في آية أخرى { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } آل عمران ٣٠ وقال { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة ٧ وذكر أنه مكتوب في بعض الكتب يا ابن آدم ضع كنزك عندي لا سرق ولا حرق ولا فساد تجده حين تكون أحوج إليه

ثم قال تعالى { إن اللّه بما تعملون بصير } يعني عالما بأعمالكم يجازيكم بالخير خيرا وبالشر شرا

١١١

قوله تعالى { وقالوا } يعني اليهود والنصارى وهم يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } فاليهود جماعة الهائد وإنما أراد به اليهود وهذا من جوامع الكلم وهذا كلام على وجه الاختصار فكأنه يقول وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا

قال اللّه تعالى ردا لقولهم { تلك أمانيهم } أي ظنهم وأباطيلهم وهذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن عليه إنما أنت متمن وإنما يراد به إنك مبطل في قولك

ثم قال تعالى { قل هاتوا برهانكم } يعني حجتكم من التوراة والإنجيل { أن كنتم صادقين } يعني بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهوديا أو نصرانيا

١١٢

قوله تعالى { بلى من أسلم وجهه للّه } معناه بل يدخل الجنة غيركم من أسلم وجهه للّه يعني من أخلص دينه للّه وآمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { وهو محسن } في عمله { فله أجره عند ربه } يعني ثوابه في الآخرة { ولا خوف عليهم } من العذاب حين يخاف أهل النار { ولا هم يحزنون } ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمر الدنيا ويقال الخوف إنما يستعمل في المستأنف والحزن في الماضي كما قال اللّه تعالى { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } الحديد ٢٣ ويقال الخوف ثلاثة خوف الأبد وخوف الانقطاع وخوف الحشر والحساب فأما خوف الأبد فيكون أمنا للمسلمين وخوف العذاب على الانقطاع يكون أمنا للتائبين وخوف الحشر والحساب يكون أمنا للمحسنين والمحسنون يكونون آمنين من ذلك

١١٣

قوله تعالى { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء } يعني من أمر الدين وروي عن ابن عباس أنه قال صدقوا ولو حلفوا على ذلك ما حنثوا لأن كل فريق منهم ليس على شيء { وهم يتلون الكتاب } يعني عندهم ما يخرجهم من ذلك الاختلاف أن لو نظروا فيه وقال الزجاج معناه كلا الفريقين يتلون الكتاب وبينهم هذا الاختلاف فدل ذلك على ضلالتهم { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } يعني الذين ليسوا من أهل الكتاب قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا { فاللّه يحكم بينهم يوم القيامة } يعني أنه يريهم من يدخل الجنة عيانا يدخل النار عيانا ويبين لهم الصواب { فيما كانوا فيه يختلفون } في الدنيا

١١٤

قوله تعالى { ومن أظلم } قال في رواية الكلبي ومن أكفر

وقال بعضهم هذا التفسير غير سديد لأن الكفر كله سواء ولكن معنى قول الكلبي ومن أكفر يعني من أشد في كفره لأن الكفار وإن كانوا كلهم في الكفر سواء فربما يكون بعضهم في كفره أشد شرا من غيره قال الكلبي نزلت هذه الآية في شأن ططوس بن أسفيانوس الرومي حيث خرب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة وكان خرابا إلى زمن عمر رضي اللّه عنه فذلك

قوله تعالى { ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها }

ثم قال { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } فلم يدخلها بعد عمارتها رومي إلا خائفا ومستخفيا لو علم به قتل قال قتادة هم النصارى وقال مجاهد هم اليهود والنصارى ويقال من أراد أن يكون ملكا عليهم لا يمكنه ذلك ما لم يكن دخل مسجد بيت المقدس فيجيء ويدخله مستخفيا

ثم قال اللّه تعالى { لهم في الدنيا خزي } يعني بفتح مدائنهم الثلاثة قسطنطينة وعمورية وأرمينية

وقال بعضهم لنزول الآية سبب آخر وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما خرج عام الحديبية إلى مكة ومنعه أهل مكة فرجع ولم يدخلها منها تلك السنة فنزلت هذه الآية { ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها } يعني سعى في منع المسلمين عن الصلاة وذكر اللّه فيها لأن عمارة المسجد بالصلاة وذكر اللّه فيها وخرابها في ترك ذلك { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين } يعني بعد فتح مكة فلا يقربون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا خائفين

قوله تعالى { لهم في الدنيا خزي } وهو فتح مكة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } لمن مات على كفره أو قتل وروى الزجاج عن بعض أهل العلم قال نزلت في شأن جميع الكفار لأن الكفار كانوا يقاتلون المسلمين ويمنعونهم من الصلاة فقد منعوا المسلمين عن جميع المساجد لأن الأرض كلها جعلت مسجدا وطهورا فمعناه ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام قال ومعنى قوله { أولئك ما كان لهم أن يدخلوها } يعني دار الإسلام يعني يظهر الإسلام على سائر الأديان كقوله تعالى { ليظهره على الدين كله } التوبة ٢٣ وغيرها

١١٥

قوله تعالى { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه } قد اختلفوا في سبب نزول هذه الآية روي عن ابن عباس أنه قال خرج رهط من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر فأصابهم الضباب فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب فلما طلعت الشمس وذهب الضباب استبان لهم ذلك فلما قدموا على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سألوه عن ذلك فنزلت هذه الآية { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه } يعني { فأينما تولوا } وجوهكم في الصلاة { فثم وجه اللّه } قال بعضهم فثم قبلة اللّه

وقال بعضهم فثم رضا للّه

وقال بعضهم فثم ملك اللّه وروى عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه أن قوما خرجوا إلى السفر وذكر القصة نحو هذا

وقال بعضهم المراد به الصلاة على الدابة

قال الفقيه حدثنا محمد بن سعيد الترمذي قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا علي بن شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي على راحلته تطوعا حيث ما توجهت به وهو جاء من مكة ثم تلا ابن عمر { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه } قال ابن عمر في هذا نزلت هذه الآية

وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس فلما أمر بالتحويل إلى الكعبة قالت اليهود مرة يصلون هكذا ومرة يصلون هكذا فنزلت هذه الآية { وللّه المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه اللّه }

ثم قال { إن اللّه واسع عليم } يعني الواسع الجواد المحسن يقبل اليسير ويعطي الجزيل عليم بصلواتكم ويقال { واسع } يعني يوسع عليكم أمر الشرائع ولم يضيق عليكم الأمر ويقال { واسع } يعني واسع الفضل ويقال { واسع } الغني عن صلاة الخلق وإنما يطلب منهم النية الخالصة { عليم } بنياتكم وقال الزجاج معنى قوله { فثم وجه اللّه } يعني اقصدوا وجه اللّه بنيتكم القبلة كقوله { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } البقرة ١٤٤و١٥٠

١١٦

قال عز وجل { وقالوا اتخذ اللّه ولدا } قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { قالوا } بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما واحد لأن الواو للعطف وذلك أن اليهود قالوا عزيز ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه وقال بعض المشركين الملائكة بنات اللّه فاللّه { سبحانه } نزه نفسه عن الولد { بل له ما في السموات والأرض } كلهم عبيده { كل له قانتون } يعني مطيعون ومقرون بالعبودية مجيبون للطاعة

وقد قيل إن لفظ الآية عام والمراد به الخاص

وقوله { كل له قانتون } يعني به المؤمنين خاصة ويقال معناه أثر صنعه وشواهد توحيده ودلائل ربوبيته في جميع ما في السموات والأرض ويقال { كل له قانتون } يعني كل خلق لا يستطيع أن يغير نفسه عن خلقته فأخبر اللّه تعالى أن جميع ما في السموات والأرض له خالق الأشياء والمستغني عن الولد سبحانه وتعالى

١١٧

ثم قال عز وجل { بديع السموات والأرض } يعني خالقهما والإبداع في اللغة إنشاء شيء لم يسبق إليه على غير مثال ولا مشورة وإنما قيل لمن خالف السنة مبتدع لأنه أتى بشيء لم يسبقه إليه الصحابة ولا التابعون ومعناه هو خالق السموات والأرض { وإذا قضى أمرا } يعني إذا أراد أن يخلق خلقا { فإنما يقول له كن فيكون } ويقال هذه الآية نزلت في شأن وفد نجران السيد والعاقب وغيرهما وكانوا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل رأيت خلقا من غير أب فنزلت هذه الآية { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } كما كان عيسى بن مريم عليه السلام خلقه من غير أب

فإن قيل قوله { كن } هذا خطاب للموجود أو للمعدوم فإن قال الخطاب للمعدوم

قيل له كيف يصح الخطاب لشيء معدوم وكيف يصح الإشارة إليه بقوله { كن } فإن قال الخطاب للموجود

قيل له كيف يأمر الشيء الكائن بالكون

فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن الأشياء كلها كانت موجودة في علم اللّه تعالى قبل كونها فكان الخطاب للموجود في علمه وجواب آخر أن معناه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون يعني إذا أراد أن يخلق خلقا يخلقه والقول فيه على وجه المجاز قرأ ابن عامر { فيكون } بالنصب لأن جواب الأمر بالفاء وقرأ الباقون بالرفع على معنى الإستئناف يعني فهو يكون

١١٨

قوله تعالى { وقال الذين لا يعلمون } أي لا يعلمون توحيد اللّه تعالى ومعناه وقال الجهال من الناس وهم الكفار { لولا يكلمنا اللّه } يعني هلا يعلمنا اللّه فيخبرنا بأنك رسوله { أو تأتينا آية } يعني علامة لنبوتك

قال اللّه تعالى { كذلك قال الذين من قبلهم } يعني اليهود لموسى عليه السلام { أرنا اللّه جهرة } النساء ١٥٣ { تشابهت قلوبهم } يعني في القسوة والكفر ويقال تشابهت كلمتهم كما تشابهت قلوبهم في القسوة والكفر

قال تعالى { قد بينا الآيات } يعني في التوراة أي العلامات إنك نبي مرسل في الصفة والنعت ويقال قد بينا العلامات لنبوتك ويقال لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة وعلامة إلا وقد كان للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مثلها { لقوم يوقنون } يعني مؤمني أهل التوراة ويقال من كان له عقل وتمييز

١١٩

قوله تعالى { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } يعني بالقرآن ويقال { بالحق } أي لأجل الحق ويقال أي بالدعوة إلى الحق ويقال ببيان الحق { بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } قرأ نافع { ولا تسأل } بنصب التاء وجزم اللام والباقون برفع التاء واللام فمن قرأ بالرفع فمعناه أنك إذا بلغت الرسالة فإنك قد فعلت ما عليك { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } عما فعلوا وهذا كما قال في آية أخرى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } الرعد ٤ ومن قرأ بالنصب فهو في معنى النهي أي { لا تسأل عن أصحاب الجحيم } أي عما فعلوا

قال الفقيه حدثنا القاضي الخليل بن أحمد أخبرنا الدبيلي قال أخبرنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان عن موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن كعب القرظي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال ليت شعري ما فعل بأبوي فنزلت هذه الآية { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا } { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم }

١٢٠

قوله تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } يعني يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران { حتى تتبع ملتهم } يعني تصلي إلى قبلتهم { قل إن هدى اللّه هو الهدى } يعني إن قبلة اللّه هي الكعبة { ولئن اتبعت أهواءهم } يعني صليت إلى قبلتهم { بعد الذي جاءك من العلم } يعني من بعد ما ظهر لك أن القبلة هي الكعبة { ما لك من اللّه من ولي } ينفعك { ولا نصير } يعني مانع يمنعك ويقال معناه { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } يعني حتى تدخل في دينهم وذلك أن الكفار كانوا يطلبون الصلح وكان يرى أنهم يسلمون فأخبره اللّه تعالى أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم فنهاه اللّه عن الركون إلى شيء مما يدعون إليه

فقال تعالى { قل إن هدى اللّه هو الهدى } يعني دين اللّه هو دين الإسلام { ولئن اتبعت أهواءهم } وهذا الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد منه أمته يعني لئن اتبعت دينهم بعد ما جاءك من العلم يعني ما ظهر أن دين الإسلام هو الحق { ما لك من اللّه } أي من عذاب اللّه { من ولي } ينفعك { ولا نصير } أي مانع يمنعك عنه { الذين ءاتينهم الكتب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون }

١٢١

قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } يعني مؤمني أهل الكتاب يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألتهم قال مجاهد يتبعونه حق اتباعه وقال قتادة ذكر لنا أن ابن مسعود قال واللّه إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأ حق قراءته كما أنزل اللّه تعالى ولا يحرف عن مواضعه ويقال يقرؤونه حق قراءته { أولئك يؤمنون به } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويصدقونه { ومن يكفر به } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال بالقرآن { فأولئك هم الخاسرون } وهو كعب بن الأشرف وأصحابه ويقال نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب وهم اثنان وثلاثون رجلا قدموا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة وكانوا يتبعون القرآن حق اتباعه

١٢٢

قد ذكرناها من قبل

١٢٣

قوله تعالى { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } إلى قوله { ولا هم ينصرون } قد ذكرناها من قبل

١٢٤

قوله تعالى { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } قرأ ابن عامر { أبرهام } وروي عنه أنه قرأ { أبراهم } وهي لغة بعض العرب وقرأ غيره { إبراهيم } في جميع القرآن وهو اسم أعجمي ولهذا لا ينصرف وروي عن ابن عباس أنه قال أمر اللّه تعالى إبراهيم بعشر خصال من السنن خمس في الرأس وخمس في الجسد

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نحو هذا

حدثنا أبي قال حدثنا محمد بن الفضل البلخي قال حدثنا أبو بشر محمود بن مهدي قال حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عشر مما علمهن وعمل بهن أبوكم إبراهيم عليه السلام خمس في الرأس وخمس في الجسد فأما التي في الرأس فالسواك والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية وأما التي في الجسد فالختان والاستحداد والاستنجاء ونتف الإبط وقص الأظفار ويقال { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } يعني اختبره والاختبار من اللّه تعالى أن يظهر حاله ليستوجب الثواب أو العقاب لأن اللّه تبارك وتعالى لا يعطي الثواب والعقاب ما لم يظهر منه ما يستوجب به الثواب أو العقاب بما يعلم كما علم من إبليس الكفر ولم يلعنه بما لم يختبره وأظهر منه ما يستوجب به اللعنة والعقوبة

وقوله عز وجل { فأتمهن } يعني عمل بهن ويقال كان إبراهيم أفضل الناس في زمانه وأكرم على اللّه تعالى فابتلاه اللّه عز وجل بخصال لم يبتل بذلك غيره فكان من الابتلاء أن أمه ولدته في غار ومن الابتلاء حيث نظر إلى الكوكب فقال هذا ربي

وروي عن الحسن أنه قال الإبتلاء كان ثلاثة أشياء

أوله الابتلاء بالكوكب والقمر والشمس

والثاني بالنار

والثالث بأمر سارة ويقال كل من كان أكرم على اللّه كان ابتلاؤه أشر لكي يتبين فضله ويستوجب الثواب كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه يا بني الذهب والفضة يختبران بالنار والمؤمن يختبر بالبلايا { فأتمهن } يعني عمل بهن ويقال { فأتمهن } فوفى بهن فلما وفى الأمر جعله اللّه تعالى إماما للناس ليقتدى به وفي هذا دليل أن الإنسان لا يبلغ درجة الأخيار إلا بالتعب وجهد النفس فلما جعله اللّه تعالى إماما { قال } له { إني جاعلك للناس إماما } و الإمام الذي يؤتم به فأعجبه ذلك وتمنى أن يكون ذلك لذريته مثل ذلك { قال ومن ذريتي } يعني اجعلهم أئمة يقتدى بهم

قال اللّه تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } يعني الكافرين يعني لا يصلح أن يكون الكافر إماما للناس ويقال لا تصيب رحمتي الكافرين فاللّه تعالى أخبره أنه يكون في ذريته كفار وأخبره أنه لا ينال مثل ما عهده إليه من كان كافرا قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { لا ينال عهدي الظالمين } بسكون الياء والباقون بنصب الياء { عهدي الظالمين } وهما لغتان ومعناهما واحد

١٢٥

قوله تعالى عز وجل { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا } يقول وضعنا البيت يعني الكعبة معادا لهم يعودون إليه مرة بعد مرة وقال قتادة مجمعا للناس يثوبون إليه من كل جهة وفي كل سنة فلا يقضون منها وطرا { وأمنا } يعني جعلناه أمنا لمن التجأ إليه يعني من وجب عليه القصاص ولهذا قالوا لو أن رجلا وجب عليه القصاص فدخل الحرم لا يقتص منه في الحرم وهكذا روي عن ابن عمر أنه قال لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هيجته يعني ما أزعجته ولكن يمنع منه المنافع حتى يضجر فيخرج فيقتص منه ويقال { آمنا } لغير الممتحنين وهي الصيود إذا دخلت الحرم صارت أمنة ويقال آمنا من الجذام

ثم قال تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } قرأ نافع وابن عامر { واتخذوا } بنصب الخاء على وجه الخبر معناه جعلناه مثابة فاتخذوه مصلى وقرأ الباقون بكسر الخاء على معنى الأمر

حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبد اللّه قال حدثنا سفيان عن زكريا بن أبي زائدة عمن حدثه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يطوف بالبيت يوم الفتح فلما فرغ من طوافه أتى المقام فقال هذا مقام أبينا إبراهيم الخليل فقال عمر أفلا تتخذه مصلى يا رسول اللّه فأنزل اللّه تعالى { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ويقال المسجد الحرام كله مقام إبراهيم هكذا روي عن مجاهد وعطاء

قوله تعالى { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أي أمرنا إبراهيم وإسماعيل { أن طهرا بيتي } يعني مسجدي من الأوثان ويقال من جميع النجاسات

ثم قال { للطائفين } أي طهرا المسجد من الأوثان والنجاسات لأجل الطائفين الذين يطوفون بالبيت وهم الغرباء { والعاكفين } وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من مكة وغيرهم { والركع السجود } يعني أهل الصلاة من كل وجه من الآفاق قرأ نافع وعاصم في رواية حفص { طهرا بيتي } بنصب الياء وقرأ الباقون بسكون الياء

١٢٦

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا } يعني الحرم { وارزق أهله من الثمرات } فاستجاب اللّه تعالى دعاءه فتحمل الثمار إلى مكة من كل جهة فيوجد فيها في كل وقت من أنواع الثمار فاشترط إبراهيم في دعائه فقال { من آمن منهم باللّه واليوم الآخر } وإنما اشترط هذا الشرط لأنه قد سأل الإمامة لذريته فلم يستجب له في الظالمين فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا فسأل الرزق للمؤمنين خاصة فأخبره اللّه تعالى أنه يرزق الكافر والمؤمن وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة قالوا لأن الأمامة فضل والرزق عدل فاللّه تعالى يعطي بفضله من يشاء من عباده من كان أهلا لذلك وعدله لجميع الناس لأنهم عباده وإن كانوا كافرين فذلك

قوله تعالى { قال ومن كفر فأمتعه قليلا } قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { فأمتعه } بالتخفيف من أمتعت وقرأ الباقون بالتشديد من متعت يعني سأرزقه في الدنيا يسيرا { ثم أضطره } يعني مصيره ويقال ملجأه { إلى عذاب النار وبئس المصير } إذا صاروا إليه

١٢٧

قوله تعالى { وإذ يرفع إبراهيم } يعني يبني إبراهيم { القواعد } يعني أساس البيت يعني الكعبة والقواعد جماعة الأساس واحدها قاعدة { وإسماعيل } يعني إسماعيل يعينه قال مقاتل وفي الآية تقديم وتأخير معناه وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ويقال إن إبراهيم كان يبني البيت وإسماعيل يعينه والملائكة يناولون الحجر من إسماعيل وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل طور سيناء وطور زيتاء والجودي ولبنان وحراء فلما فرغا من البناء قالا { ربنا تقبل منا } يعني أعمالنا { إنك أنت السميع } السميع لدعائنا { العليم } بنياتنا وفي الآية دليل أن الإنسان إذا عمل خيرا ينبغي أن يدعو اللّه بالقبول ويقال ينبغي أن يكون خوف الإنسان على قبول العمل بعد الفراغ أشد من شغله لأن اللّه تعالى قال { إنما يتقبل اللّه من المتقين } المائدة ٢٧

وروي في الخبر أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما فرغا من البناء جثيا على الركب وتضرعا وسألا القبول فقال جبريل لإبراهيم قد أجيب لك فاسأل شيئا آخر قالا

١٢٨

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } يعني مخلصين لك ويقال واجعلنا مثبتين على الإسلام ويقال مطيعين لك ويقال وأمتنا على الإسلام

ثم قال { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } يعني اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك ويثبت على الإسلام

ثم قال { وأرنا مناسكنا } يعني علمنا أمور مناسكنا وقال القتبي الرؤية المعاينة في اللغة كقوله عز وجل { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودة } الزمر٦٠ وقوله تعالى { وإذا رأيت ثم رأيت نعيما } الإنسان٢٠ ويقال يذكر الرؤية ويراد بها العلم كقوله تعالى { ألم تر الذين كفروا } وكقوله تعالى { أرنا مناسكنا } أي عملنا وكقوله { لتحكم بين الناس بما أراك اللّه } قرأ ابن كثير ومن تابعه من أهل مكة { وأرنا } بسكون الراء في جميع القرآن والباقون بكسر الراء وهما لغتان والكسر أظهر وأفصح

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح { ربنا واجعلنا مسلمين لك } يعني مطيعين وموحدين لك واجعل { من ذريتنا } جماعة موحدة مطيعة لك ويقال أشكل عليهما موضع البيت فبعث اللّه تعالى سحابة فقالت له ابن بخيالي فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت بخيال السحابة ثم قال تعالى { وأرنا مناسكنا } أي { وتب } يعني تجاوز عنا الزلة { إنك أنت التواب } المتجاوز { الرحيم } بعبادك

١٢٩

ثم قال { ربنا وابعث فيهم رسولا } قال مقاتل لأن إبراهيم علم أن في ذريته من يكون كفارا فسأل اللّه تعالى أن يبعث فيهم رسولا فقال { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك } يعني القرآن { ويعلمهم الكتاب } أي القرآن { والحكمة } يعني الموعظة التي في القرآن من الحلال والحرام ويقال علم التفسير { ويزكيهم } أي يطهرهم من الكفر والشرك ويقال يأمرهم بالزكاة لتطهر أموالهم قال مقاتل استجاب اللّه دعاءه في سورة الجمعة وهو قوله تعالى { هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم ءايته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } الجمعة ٢

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى يعني قوله { ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } الصف ٦

وقوله عز وجل { إنك أنت العزيز الحكيم } المنيع الذي لا يغلبه شيء ويقال { العزيز } الذي لا يوجد مثله ويقال الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال { العزيز } بالنقمة ينتقم ممن شاء ممن عصاه { الحكيم } في أمره الذي يكون عمله موافقا للعلم

١٣٠

قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } يقول عن سنته ودينه وهو الإسلام ويقال لفظه لفظ الإستفهام ومعناه التقريع والتوبيخ ويقال { ومن } ها هنا بمعنى ما فكأنه يقول ومن يرغب عن دين إبراهيم { إلا من سفه نفسه } قال أبو عبيدة إلا من أهلك نفسه وقال الأخفش معناه إلا من سفه من نفسه وهذا كما قال في آية أخرى { ولا تعزموا عقدة النكاح } البقرة ٢٣٥ يعني على عقدة النكاح ويقال إلا من جهل أمر نفسه فلا يتفكر فيه كما قال في آية أخرى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات ٢١ قال الكلبي ومن يرغب عن دين إبراهيم الإسلام والحج والطواف إلا من خسر نفسه

ثم قال { ولقد اصطفيناه في الدنيا } يقول اخترناه في الدنيا للنبوة والرسالة والإسلام والخلة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } يعني في الجنة ويقال مع الصالحين في الجنة وهو أفضل الصالحين ما خلا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم

١٣١

قوله تعالى { إذ قال له ربه أسلم } قال ابن عباس يعني أخلص ويقال معناه قل لا إله إلا اللّه ويقال معناه استقم على ما أنت عليه ويقال حين خرج من السرب نظر إلى الكوكب والقمر والشمس فابتلي بذلك فألهمه اللّه تعالى الإخلاص فقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } الأنعام ٧٩ الآية فهذا معنى قوله { أسلم } يعني أخلص دينك للّه فقال إبراهيم { أسلمت لرب العالمين } يعني أخلصت ديني لرب العالمين ويقال معناه فوض أمرك إلى اللّه فقال فوضت أمري إلى اللّه

١٣٢

ثم قال عز وجل { ووصى بها إبراهيم بنيه } يعني بشهادة أن لا إله إلا اللّه قرأ نافع وابن عامر { وأوصى } وقرأ الباقون { ووصى } ووصى وهو أبلغ من أوصى لأنه لا يكون إلا لمرات كثيرة وقوله { بها } يرجع إلى الملة والملة هي السنة والمذهب ويقال إنه جمع بنيه عند موته لأنه خشي عليهم كيد إبليس فجمعهم وأوصاهم بأن يثبتوا على الإسلام قال مقاتل { ووصى بها إبراهيم بنيه } الأربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ثم أوصى بها { يعقوب } بنيه وهم اثنا عشر ابنا وذلك حين دخل مصر فرآهم يعبدون الأصنام فأوصى بنيه بأن يثبتوا على الإسلام وكان له اثنا عشر ابنا روبيل وشمعون ويهوذا نفتالي ولاوي وزيالون ويشجر ودان واسترقفا وجادو ويوسف وبنيامين

وقال اللّه تعالى { إن اللّه اصطفى لكم الدين } يعني اختار لكم دين الإسلام { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال لو أدرككم الموت يدرككم على الإسلام وأنتم مخلصون بالتوحيد فقالت اليهود للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية

١٣٣

فأنزل اللّه تعالى { أم كنتم شهداء } يعني أكنتم حضورا حين { حضر يعقوب الموت } وإنما لم ينصرف { شهداء } لمكان ألف التأنيث في آخره وإذا دخلت ألف التأنيث أو هاء التأنيث في آخر الكلام فإنه لا ينصرف معناه إنكم تدعون ذلك كأنكم كنتم حضورا في ذلك الوقت يعني أنكم تقولون ما لا علم لكم بذلك واللّه تعالى يخبر ويبين أن وصيته كانت بخلاف ما قالت اليهود

ثم قال تعالى { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } يعني من بعد موتي { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم } روي عن الحسن البصري أنه قرأ { قالوا نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم } وقرأ غيره { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } وإسماعيل كان عم يعقوب ولكن العم بمنزلة الأب بدليل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال عم الرجل صنو أبيه

ثم قال { إلها واحدا } يعني نعبد إلها واحدا { ونحن له مسلمون } يعني مخلصون له بالتوحيد

١٣٤

قال تعالى { تلك أمة قد خلت } يعني جماعة قد مضت { لها ما كسبت } يعني جزاء ما عملت { ولكم ما كسبتم } يعني جزاء ما عملتم من خير أو شر { ولا تسألون عما كانوا يعملون } وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون نحن على دينهم فقال لهم { تلك أمة قد خلت } لا تقدرون عليهم يشهدوا لكم فلهم ما عملوا وإنما لكم ما تعملون وإنما ينظر اليوم إلى أعمالكم ولا ينفعكم من أعمالهم شيء

١٣٥

قوله تعالى { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } وذلك أن يهود المدينة ونصارى أهل نجران اختصموا فقال كل فريق ديننا أصوب ونبينا أفضل فسألوا عن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أينا أفضل فقال لهم كلكم على الباطل فأعرضوا عنه فنزلت هذه الآية { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } يعني اليهود قالوا كونوا على دين اليهودية والنصارى قالوا كونوا على دين النصرانية تهتدوا من الضلالة

قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قل بل ملة إبراهيم حنيفا } وإنما نصب الملة على معنى بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ويقال معناه واتبعوا ملة إبراهيم وقال مقاتل بل الدين ملة إبراهيم حنيفا يعني مخلصا

وقال القتتبي { حنيفا } يعني مستقيما ويقال للأعرج حنيف نظرا إلى السلامة كما يقال للديغ سليم وللجبانة مفازة وإن كانت مهلكة وقال الزجاج أصل الحنيف إذا كان أصابع الرجل مقبلا بعضها إلى بعض إقبالا لا تنصرف عن ذلك أبدا فكذلك كان إبراهيم عليه السلام مقبلا على دين الإسلام مائلا عن الأديان كلها { وما كان من المشركين } ولكنه كان على دين الإسلام فقال أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كيف نقول حتى لا نكذب أحدا من الأنبياء فعلمهم اللّه تعالى فقال عز وجل

١٣٦

قال عز وجل { قولوا آمنا باللّه } يعني صدقنا باللّه بأنه واحد لا شريك له { وما أنزل إلينا } يعني صدقنا بما أنزل إلينا يعني بما أنزل على نبينا { ومآ أنزل إلى إبراهيم } يعني صدقنا بما أنزل على إبراهيم من الصحف { و } ما أنزل إلى { إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم ولد يعقوب كان له اثنا عشر ابنا فصار أولاد كل واحد منهم سبطا والسبط بلغتهم بمنزلة القبيلة للعرب وإنما أنزل على أنبيائهم وكانوا يعملون به فأضاف إليهم كما أنه أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فأضاف إلى أمته فقال { وما أنزل إلينا } فكذلك الأسباط أنزل على أنبيائهم فأضاف إليهم لأنهم كانوا يعملون به

ثم قال تعالى { ومآ أوتي موسى وعيسى } يعني التوراة والإنجيل { ومآ أوتي النبيون من ربهم } يعني وما أنزل على الأنبياء من اللّه تعالى وقد آمنا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب { لا نفرق بين أحد منهم } كما فرقت اليهود والنصارى { ونحن مسلمون } يعني مخلصون له بالتوحيد

١٣٧

ثم قال عز وجل للمؤمنين { فإن آمنوا } يعني اليهود والنصارى { بمثل مآ آمنتم به } يا أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { فقد اهتدوا } من الضلالة { وإن تولوا } يقول اعرضوا عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبجميع الأنبياء { فإنما هم في شقاق } يعني في خلاف من الدين ويقال في ضلال والشقاق في اللغة له ثلاثة معان

أحدها العداوة مثل قوله تعالى و { لا يجرمنكم شقاقي } هود ٨٩

والثاني الخلاف مثل قوله { وإن خفتم شقاق بينهما } النساء ٣٥

 والثالث الضلالة مثل قوله { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } الحج ٥٣

وقوله تعالى { فسيكفيكهم اللّه } يعني يدفع اللّه عنكم مؤنتهم وقال الزجاج هذا ضمان من اللّه تعالى النصر لنبيه أنه سيكفيه إياهم بإظهاره على كل دين سواه كقوله تعالى { كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي } المجادلة ٢١ يعني أن عاقبة الأمر كان لهم قال مقاتل يعني قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير { وهو السميع } بقولهم للمؤمنين حيث قالوا كونوا هودا أو نصارى { العليم } بعقوبتهم ثم فضل دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على كل دين

١٣٨

فقال عز وجل { صبغة اللّه } يقول اتبعوا دين اللّه والزموه لا دين اليهود والنصارى { ومن أحسن من اللّه صبغة } يعني أي دين أحسن من دين اللّه تعالى وهو دين الإسلام { ونحن له عابدون } يقول اثبتوا على ذلك

وقوله تعالى { ونحن له عابدون } أي موحدون مقرون وذلك أن النصارى إذا ولد لأحدهم ولد غمروه في اليوم السابع في ماء لهم ليطهروه بذلك ويقولون هذا طهور مكان الختان وهم صنف من النصارى يقال لهم المعمودية

قال اللّه تعالى { ومن أحسن من اللّه صبغة ونحن له عابدون } أي مطيعون ولنا الختان طهور طهر اللّه تعالى به إبراهيم عليه السلام

وروى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال { أختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم وهو ابن مائة وعشرين سنة } والقدوم موضع بالشام ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة وقال القتبي هذا من الاستعارة حيث سمى الختان صبغة لأنهم كانوا يصبغون أولادهم في ماء

قال اللّه تعالى { صبغة اللّه } لا صبغة النصارى يعني اتبعوا دين اللّه والزموا دين اللّه

١٣٩

ثم قال اللّه عز وجل { قل } يا محمد ليهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران { اتحاجوننا في اللّه } يعني أتخاصمونا في دين اللّه وقال الزجاج نزلت هذه الآية في اليهود الذين يظاهرون المشركين فقال انتم تقولون أنكم توحدن اللّه ونحن نوحد اللّه تعالى فلم تظاهرون علينا من لا يوحد اللّه تعالى واللّه { ربنا وربكم ولنا أعمالنا } أي ثواب أعمالنا { ولكم } ثواب { أعمالكم ونحن له مخلصون } مقرون له بالوحدانية مخلصون له بالعبادة

١٤٠

قوله تعالى { أم تقولون } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { أم تقولون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء { أم يقولون } { إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } يعني إن تعلقتم أيضا بدين الأنبياء فنحن على دينهم وقد آمنا بجميع الأنبياء فإن ادعيتم أن الأنبياء كانوا على دين اليهودية أو النصرانية { قل أنتم أعلم } بذلك { أم اللّه } واللّه تعالى أخبر أنهم كانوا على دين الإسلام وقد بين ذلك في كتبهم

ثم قال { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من اللّه } لأن اللّه تعالى قد أخذ عليهم الميثاق بأن يبينوه فكتموه

قال اللّه تعالى { وما اللّه بغافل عما تعملون } يعني لا يخفى على اللّه من عملهم شيء فيجازيهم بذلك ويقال هذا القول وعيد للظالم وتعزية للمظلوم

١٤١

ثم قال عز وجل { تلك أمة قد خلت } الآية وقد ذكرناها

١٤٢

قوله تعالى { سيقول السفهاء من الناس } يعني الجهال من الناس وهم اليهود والمنافقون ويقال هم أهل مكة { ما ولاهم } يقول ما الذي صرفهم { عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعني التي صلوا إليها من قبل وذلك أن الأنصار قبل قدوم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بسنتين كانوا يصلون إلى بيت المقدس فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة صلّى إلى بيت المقدس ثمانية عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا فلما صرفت قبلته إلى الكعبة فقال أهل مكة إذا حركت القبلة إلى الكعبة رجع محمد إلى قبلتنا فعن قريب يرجع إلى ديننا فأنزل اللّه تعالى { قل للّه المشرق والمغرب } يقول الصلاة إلى بيت المقدس والصلاة إلى الكعبة للّه إذا كان بأمر اللّه { يهدي من يشاء } إلى قبلة الكعبة { يهدي من يشاء } أي يرشد من يشاء { إلى صراط مستقيم } يعني دينا يرضاه روي عن أبي العالية الرياحي أنه قال رأيت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة وقال وكان موسى عليه السلام يصلي من الصخرة نحو الكعبة وهي قبلة الأنبياء كلهم صلوت اللّه عليهم

١٤٣

قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } والوسط هو العدل كما قال آية أخرى { قال أوسطهم } القلم ٢٨ أي أخيرهم وأعدلهم والعرب تقول فلان من أوسط قومه أي خيارهم وأعدلهم ومنه قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم هو أوسط قريش حسبا أي جعلناكم عدلا للخلائق { لتكونوا شهداء على الناس } للنبيين { ويكون الرسول عليكم شهيدا } بالتصديق لكم وذلك أن اللّه تعالى إذا جمع الخلق يوم القيامة فيسأل الأنبياء عن تبليغ الرسالة لقوله تعالى { ليسئل الصادقين عن صدقهم } الأحزاب ٨ فيقولون قد بلغنا الرسالة فتنكر أممهم تبليغ الرسالة فتشهد لهم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بتبليغ الرسالة فتطعن الأمم في شهادتهم فيزكيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذلك معنى قوله تعالى { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } ومعنى قوله { وكذلك } أي وكما هديتكم للإسلام ولقبلة الكعبة فكذلك { جعلناكم أمة } عدلا لتكونوا شهداء على الناس وللآية تأويل آخر { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدلا { لتكونوا شهداء على الناس } يقول إنكم حجة على جميع من خلقنا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حجة عليكم والشهادة في اللغة هي البيان فلهذا يسمى الشاهد بينة لأنه يبين حق المدعي يعني أنكم تبينون لمن بعدكم والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يبين لكم

قوله تعالى { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } يعني ما أمرناك بالصلاة إلى القبلة الأولى ويقال ما حولنا القبلة التي كنت عليها { إلا لنعلم } يقول إلا لنميز ونبين { من يتبع الرسول } يعني من يطيع الرسول في تحويل القبلة { ممن ينقلب على عقبيه } أي يرجع إلى دينه بعد تحويل القبلة { وإن كانت لكبيرة } أي وقد كانت لثقيلة وهو صرف القبلة { إلا على الذين هدى اللّه } يعني حفظ اللّه قلوبهم على الإسلام وأكرمهم باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في تحويل القبلة وهم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا يا رسول اللّه فإخواننا الذين ماتوا ما صنع اللّه بصلاتهم التي صلوا إلى بيت المقدس فأنزل اللّه تعالى { وما كان اللّه ليضيع إيمانكم } يعني صلاتهم إلى بيت المقدس التي صلوا إليها وماتوا عليها ويقال إن اليهود قالوا قد بطل إيمانكم حيث تركتم القبلة فنزل { وما كان اللّه ليضيع إيمانكم } يعني يبطل إيمانكم وإنما تحولت قبلتكم قال الضحاك يعني لم يبطل تصديقكم بالقبلتين

ثم قال تعالى { إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم } يعني بالمؤمنين رحيم حين قبلها منهم ولم يضيع إيمانهم قرأ أبو عمرو حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { لرؤف } بالهمزة على وزن رعف وقرأ الباقون { رؤوف } على وزن رؤف في جميع القرآن وهما لغتان ومعناهما واحد

١٤٤

قوله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } يعني رفع بصرك إلى السماء وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لجبريل وددت لو أن اللّه تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها وإنما أراد الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام وقبلة الأنبياء عليهم السلام ولأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام فقال جبريل إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا فاسأل ربك فجعل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يديم النظر إلى السماء فأنزل اللّه تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } يعني رفع بصرك إلى السماء { فلنولينك } يعني فلنحولنك ولنوجهنك في الصلاة { قبلة ترضاها } يقول تهواها إلى الكعبة فأمره اللّه تعالى بالتوجه فقال { فول وجهك شطر المسجد الحرام } يعني نحوه وتلقاءه { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }

ثم قال تعالى { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } يعني أن القبلة إلى الكعبة هو الحق وهي قبلة إبراهيم عليه السلام وقوله تعالى { وما اللّه بغافل عما يعملون } يعني جحودهم القبلة إلى الكعبة فقالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ائتنا بعلامة على تصديق مقالتك وهم اليهود والنصارى فنزل قوله تعالى { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود والنصارى { بكل آية } يعني بكل علامة { ما تبعوا قبلتك } أي ما صلوا إلى قبلتك { وما أنت بتابع قبلتهم } أي ما أنت بمصل إلى قبلتهم { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } ويقال معناه كيف ترجو ان يتبعوك ويصلوا إلى قبلتك وهم لا يتبعون بعضهم بعضا

١٤٥

ثم قال تعالى { ولئن اتبعت أهواءهم } هذا الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد منه أمته يعني لئن صليت إلى قبلتهم واتبعت مذهبهم { من بعد ما جاءك من العلم } أي البيان أن دين الإسلام هو الحق والكعبة هي القبلة { إنك إذا لمن الظالمين } أي الضارين بنفسك

١٤٦

قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } وهم مؤمنو أهل الكتاب { يعرفونه } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بنعته وصفته { كما يعرفون أبناءهم } بين الغلمان قال عبد اللّه بن سلام واللّه لأنا كنت أشد معرفة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مني بابني فقال له عمر وكيف ذلك يا ابن سلام فقال لأني أشهد أنه رسول اللّه حقا وصدقا يقينا وأنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا أدري ما أحدثت النساء بعدي فقال له واللّه يا ابن سلام لقد صدقت أو أصبت

ثم قال تعالى { وإن فريقا منهم } يعني طائفة من اليهود { ليكتمون الحق } في كتابهم { وهم يعلمون } أنه نبي مرسل قال مقاتل إن اليهود قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم تطوفون بالبيت المبني بالحجارة فقال لهم إنكم تعلمون أن الطواف بالبيت حق وإنه هو القبلة مكتوب في التوراة فجحدوا فنزل { الذين آتيناهم الكتاب } يعني التوراة يعرفون أن البيت قبلة كما يعرفون أبناءهم { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق } في أمر القبلة و { هم يعلمون } ذلك

١٤٧

ثم قال تعالى { الحق من ربك } يا محمد قبلة إبراهيم { فلا تكونن من الممترين } يعني من الشاكين إنهم يعرفون أنها قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام

١٤٨

قوله تعالى { ولكل وجهة } أي قبلة والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد أي لكل ذي ملة قبلة { هو موليها } أي مستقبلها

وقيل لكل دين وملة قبلة { هو موليها } قرأ ابن عامر وهو مولاها يعني إليه موليها وقرأ الباقون بالكسر يعني هو بنفسه موليها وقال مقاتل لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها يريدون بها اللّه تعالى { فاستبقوا الخيرات } يعني قال لهذا الأمة فاستبقوا بالطاعات وهذا كما قال في آية أخرى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } المائدة٤٨ يعني لكل قوم شريعة وسبيلا فإذا أخذوا بالسنة والمنهاج رضي عنهم فأمر اللّه تعالى أهل هذه الشرائع أن يستبقوا الخيرات في الأعمال الصالحة

ثم قال تعالى { أينما تكونوا } في الأرض { يأت بكم اللّه جميعا } يعني يقبض أرواحكم يعني يجمعكم يوم القيامة

وقال مجاهد { ولكل وجهة هو موليها } أمر كل قوم بأن يحولوا وجوههم إلى الكعبة ويقال ولكل أمة قبلكم قبلة أمرتهم بأن يستقبلوها { فاستبقوا الخيرات } يقول بادروا الأمم بالطاعات

ثم قال تعالى { أينما تكونوا يأت بكم اللّه } يعني يقبض أرواحكم ويجمعكم يوم القيامة { إن اللّه على كل شيء قدير } أي هو قادر على جمعكم يوم القيامة

١٤٩

ثم قال عز وجل { ومن حيث خرجت } يقول حيث صليت { فول وجهك } بالصلاة { شطر المسجد الحرام } يعني نحوه وتلقاءه { وإنه للحق من ربك } أي التوجه إلى الكعبة بالصلاة هو الحق من ربكم { وما اللّه بغافل عما تعملون } يعني يجازيكم بأعمالكم  

١٥٠

{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس } أي لكي لا يكون لليهود { عليكم حجة } لأنهم يعلمون أن الكعبة هي القبلة فلا حجة لهم عليكم { إلا الذين ظلموا منهم } يعني إلا من ظلم باحتجاجه فيما وضح له كما يقول الرجل لصاحبه مالك علي حجة إلا أن تظلمني

وقال بعضهم { إلا الذين ظلموا } يعني ولا الذين ظلموا لا حجة لهم عليكم وذكر عن أبي عبيدة أنه قال { إلا الذين ظلموا } أي ولا الذين ظلموا فهذا موضع واو العطف فكأنه قال ليس للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا منهم

قوله تعالى { فلا تخشوهم } بانصرافكم إلى الكعبة { واخشوني } في تركها قرأ نافع في رواية ورش { ليلا } بغير همز والباقون { لئلا } بالهمز لأن أصله لأن لا وإنما أسقط نافع الهمزة للتخفيف

ثم قال تعالى { ولأتم نعمتي عليكم } بتحويل القبلة وبإرسال الرسول { ولعلكم تهتدون } أي لكي تهتدوا من الضلالة

١٥١

قوله تعالى { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم { يتلو عليكم آياتنا } يعني القرآن

وقوله { منكم } يعني من العرب ويقال آدمي مثلكم لأنه لو كان من الملائكة لا تستطيعون النظر إليه فأرسل آدميا مثلكم يتلو عليكم القرآن { ويزكيكم }

قال الكلبي يقول ويصلحكم بالزكاة

وقال مقاتل يعني يطهركم من الشرك والكفر { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }

وقال الزجاج خاطب به العرب أنه بعث رسولا منكم وأنتم كنتم أهل الجاهلية لا تعلمون الكتاب والحكمة فكما أنعمت عليكم بالرسالة فاذكروني بالتوحيد ويقال

قوله { كما } وصل بما قبله ومعناه ولأتم نعمتي كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ويقال وصل بما بعده ومعناه { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة } فاعرفوا هذه النعمة واذكروني بالتوحيد

١٥٢

قوله تعالى { فاذكروني } بالتوحيد { أذكركم } يقول اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة فحق على اللّه أن يذكر من ذكره فمن ذكره في طاعته ذكره اللّه تعالى بخير ومن ذكره من أهل المعصية في معصية ذكره اللّه باللعنة وسوء الدار ويقال { فاذكروني } في الرخاء { أذكركم } عند البلاء ويقال { فاذكروني } في الضر { أذكركم } بالمخرج ويقال { فاذكروني } في الخلاء { أذكركم } في الملأ ويقال { اذكروني } في ملأ من الناس { أذكركم } في ملأ من الملائكة

قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا محمد بن الفضيل الضبي عن الحصين عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال ما اجتمع قوم يذكرون اللّه تعالى إلا ذكرهم اللّه في ملأ أعز منهم وأكرم وما تفرق قوم من مجلس لا يذكرون اللّه في مجلسهم إلا كانت حسرة عليهم يوم القيامة ويقال اذكروني في الدنيا بالإخلاص أذكركم في الآخرة بالإخلاص ويقال اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة ويقال اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة

ثم قال تعالى { واشكروا لي ولا تكفرون } يعني اشكروا نعمتي التي أرسلت فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ولا تجحدوا هذه النعمة ويقال النعمة في الحقيقة هي العلم وما سوى ذلك فهو تحويل من راحة إلى راحة وليس الطعام بنعمة لأن الطعام إذا أكله الإنسان فبعد ساعة يطلب منه الفرج والثوب الحسن ربما يمل منه إذا كان يؤذيه الحر أو البرد والعلم لا يمل منه صاحبه بل ربما يطلب له الزيادة فأمر اللّه تعالى بشكر هذه النعمة التي بعث رسولا ليعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون

١٥٣

ثم قال عز وجل { يا أيها الذين آمنوا } يعني صدقوا بتوحيد اللّه تعالى وهذا نداء المدح وقد ذكرنا قبل هذا أن النداء على ست مراتب وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال إذا سمعت اللّه يقول { يا أيها الذين آمنوا } فارع له سمعك فإنه أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه { استعينوا بالصبر والصلاة } يقول استعينوا بالصبر على أداء الفرائض وبالصلاة خاصة قال الزجاج استعينوا بالصبر على ما أنتم عليه وإن أصابكم مكروه وقال مجاهد { استعينوا بالصبر } أي بالصوم والصلاة وقال الضحاك { استعينوا بالصبر } على صوم شهر رمضان وعلى الصلوات الخمس ويقال الصبر هو الصبر بعينه ذكر في هذه الآية الطاعة الظاهرة والطاعة الباطنة فأمر بالصبر والصلاة لأنه ليس شيء من الطاعة الظاهرة أشد على البدن من الصلاة لأنه يجتمع فيها أنواع الطاعات الخضوع والإقبال والسكون والتسبيح والقراءة فإذا تيسر عليه الصلاة تيسر عليه ما سوى ذلك وليس بشيء من الطاعات الباطنة أشد على البدن من الصبر فأمر بالصبر والصلاة لأنه حسن

ثم قال { إن اللّه مع الصابرين } فاللّه تعالى مع كل واحد ولكن خص الصابرين لكي يعلموا أن اللّه سبحانه وتعالى يفرج عنهم

١٥٤

قوله تعالى { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات بل أحياء } قال الضحاك هم النفر الذين قتلوا عند بئر معونة وقال الكلبي هم الذين قتلوا ببدر قتل يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا وكان الناس يقولون مات فلان ومات فلان فأنزل اللّه تعالى { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أموات بل أحياء } يعني هم في الحكم كالأحياء لأنه يجري ثوابهم إلى يوم القيامة ولأنهم يسرحون في الجنة حيث شاؤوا كما قال في آية أخرى { عند ربهم يرزقون فرحين } آل عمران ١٦٩ { ولكن لا تشعرون } البقرة ١٥٤

١٥٥

قوله تعالى { ولنبلونكم } يعني المؤمنين { بشيء من الخوف } يقول لنختبرنكم بخوف العدو وهو الخوف الذي أصابهم يوم الخندق حتى بلغت القلوب الحناجر { والجوع } وهو القحط الذي أصابهم فكان يمضي على أحدهم أيام لا يجد طعاما { ونقص من الأموال} يعني ذهاب أموالهم ويقال موت الماشية { والأنفس } يعني الموت والقتل والأمراض { والثمرات } أي نقص الثمار فلا تخرج الثمرة كما كانت تخرج أو تصيبها الآفة ويقال الثمرات هي موت الولد وهو ثمرة القلب

ثم قال تعالى { وبشر الصابرين } يعني الذين يصبرون على هذه المصائب والشدائد التي ذكر في هذه الآية

١٥٦

ثم وصفهم فقال عز وجل { الذين إذا أصابتهم مصيبة } صبروا ولم يجزعوا و { قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون } يعني يقولون نحن عبيد اللّه وفي ملكه إن عشنا فعليه أرزاقنا وإن متنا فإليه مردنا وإليه راجعون بعد الموت ونحن راضون بحكمه

١٥٧

قوله تعالى { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { عليهم صلوات من ربهم ورحمة } والصلاة من اللّه تعالى على ثلاثة أشياء توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب فبالصلاة الواحدة يكون لهم هذه الأشياء الثلاثة فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة ومقدار ذلك لا يعلمه إلا اللّه تبارك وتعالى

ثم قال تعالى { وأولئك هم المهتدون } أي الموفقون للاسترجاع وروي عن سعيد بن جبير أنه قال لم يكن الاسترجاع إلا لهذه الأمة ألا ترى أن يعقوب عليه الصلاة والسلام قال { يا أسفى على يوسف } يوسف ٨٤ فلو كان له الاسترجاع لقال ذلك

وروي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من ذكر مصيبة أو ذكرت عنده فاسترجع جدد اللّه ثوابه كيوم أصيب بها ) وعن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أصابته مصيبة فليذكر مصيبتي فإنها من أعظم المصائب

وروي هذان الحديثان عن علي بن أبي طالب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أيضا

وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال نعم العلاوة ونعم العدلان فالعدلان

قوله تعالى { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } والعلاوة قوله تعالى { وأولئك هم المهتدون }

١٥٨

قوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه } قال أهل اللغة الصفا الحجارة الصلبة التي لا تنبت بها شيء والواحدة صفاة يقال حصى وحصاة والمروة الحجارة اللينة والشعائر علامة متعبداته واحدها شعيرة يعني أن الطواف بالصفا والمروة من أمور المناسك { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } روي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ { فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما }

وروي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنهما كانا يقرآن كذلك ومعنى ذلك أن من حج البيت أو اعتمر فترك السعي لا يفسد حجه ولا عمرته ولكن يجب عليه جبر النقصان وهو إراقة الدم وفي مصحف الإمام { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } بحذف كلمة لا وذلك أن في الجاهلية كان لهم صنمان على الصفا والمروة أحدهما يقال له إساف والآخر نائلة وكان المشركون يطوفون بين الصفا والمروة ويستلمون الصنمين فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعمرة القضاء وكان الأنصار لا يسعون فيما بين الصفا والمروة ويقولون السعي فيما بينهما من أمر المشركين فنزلت هذه الآية ويقال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما فتح مكة طاف بالبيت والمسلمون معه فلما سعى بين الصفا والمروة رفع المسلمون أزرهم وشمروا قمصهم كيلا يصيب ثيابهم ذلك الصنمان فنزل قوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر اللّه } يعني من أمور المناسك { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } يعني لو أصاب ثياب ذلك لا يضره ولا إثم عليه فخرج عمر فتناول المعول وكسر الصنمين

قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل عن يعلى بن منبه عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال دخل جبريل المسجد فبصر بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم نائما في ظل الكعبة فأيقظه فقام وهو ينفض رأسه ولحيته من التراب فانطلق به نحو باب بني شيبة فلقيهما ميكائيل فقال جبريل لميكائيل ما يمنعك ان تصافح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أجد من يده ريح نحاس فقال جبريل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أفعلت ذلك وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نسي ذلك ثم ذكر فقال صدق أخي مررت أول أمس على إساف ونائلة فوضعت يدي على أحدهما وقلت إن قوما رضوا بكما آلهة مع اللّه تعالى لقوم سوء قال صالح قلت لأبي بريدة وما أساف ونائله قال كانا إنسانين من قريش يطوفان بالكعبة فوجدوا منها خلوة فراود أحدهما صاحبه فمسخهما اللّه تعالى نحاسا فجاءتهما بهما قريش وقالوا لولا أن اللّه رضي بأن نعبد هذين الإنسانين ما مسخهما نحاسا وأساف كان رجلا ونائلة كانت امرأة قال الزجاج الجناح في اللغة أخذ من جنح إذا مال وعدل عن المقصد وأصل ذلك من جناح الطير

قوله تعالى { ومن تطوع خيرا } قرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم العين { يطوع } لأن الأصل يتطوع أدغمت التاء في الطاء وشددت وقرأ الباقون { تطوع } على معنى الماضي والمراد به الاستقبال يعني إذا زاد في الطواف حول البيت على ما هو واجب عليه { فإن اللّه شاكر } يقبله منهم { عليم } بما نووا وقال القتبي يطوف أصله يتطوف فأدغمت التاء في الطاء الجناح الإثم ويقال إن اللّه شاكر يقبل اليسير ويعطي الجزيل ويقال إن اللّه شاكر بقبول أعمالكم { عليم } بالثواب ويقال الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لأنهم يقدرون على الصلاة إذا رجعوا إلى منازلهم ولا يمكنهم الطواف إلا في ذلك الوقت واللّه تعالى قد حث على الطواف بقوله { ومن تطوع خيرا فإن اللّه شاكر عليم }

١٥٩

قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } نزلت في شأن رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وابن صوريا يقول يكتمون ما أنزلنا في التوراة من البينات الحلال والحرام وآية الرجم { والهدى } يعني أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب } يعني في التوراة ويقال في القرآن { أولئك يلعنهم اللّه } يعني يخذلهم { ويلعنهم اللاعنون } قال ابن عباس وذلك أن الكافر إذا وضع في قبره سئل من ربك وما دينك فيقول لا أدري فيقال له ما دريت فهكذا كنت في الدنيا ثم يضربه ضربة يسمعها كل شيء إلا الثقلين فلا يسمع صوته شيء إلا لعنه فذلك قوله تعالى { ويلعنهم اللاعنون }

وروي عن ابن مسعود أنه قال إذا تلاعن اثنان فإن كان أحدهما مستحقا للعنة رجعت اللعنة إليه وإن لم يكن يستحق أحدهما اللعنة ارتفعت اللعنة إلى السماء فلم تجد هناك موضعا فتنحدر فترجع إلى الذي تكلم بها إن كان أهلا لذلك وإن لم يكن أهلا لذلك رجعت إلى الكفار وفي بعض الروايات إلى اليهود فذلك

قوله تعالى { ويلعنهم اللاعنون } ثم استثنى التائبين من اللعنة

 

١٦٠

فقال عز وجل { إلا الذين تابوا } من الكفر واليهودية { وأصلحوا } أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم ويقال معناه وأصلحوا لمن أفسدوا من السفلة وبينوا صفته في كتبهم { فأولئك أتوب عليهم } يعني أتجاوز عنهم { وأنا التواب الرحيم } المتجاوز لمن تاب ورجع فيقبل توبته

١٦١

قوله تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } يعني ثبتوا على كفرهم حتى ماتوا على ذلك { أولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين } قال الكلبي لعنة المؤمنين خاصة

وقال بعضهم يلعنهم جميع الناس لأن من يخالف دينهم يلعنهم في الدنيا وأهل دينهم يلعنونهم في الآخرة كما قال في آية أخرى { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } العنكبوت ٢٥

١٦٢

ثم قال { خالدين فيها } يعني في اللعنة ولعنته عذاب النار يعني ما توجبه اللعنة { لا يخفف عنهم العذاب } يعني لا يهون عليهم طرفة عين { ولا هم ينظرون } يعني لا يؤجلون

١٦٣

قوله تعالى { وإلهكم إله واحد } قال مقاتل يعني ربكم رب واحد وقال الضحاك كان لمشركي مكة ثلاثمائة وستون صنما يعبدونها من دون اللّه تعالى فدعاهم اللّه تعالى إلى توحيده والإخلاص لعبادته فقال { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } ويقال نزلت هذه الآية في صنف من المجوس يقال لهم المانوية فكان رئيسهم يقال له ماني فقال لهم أرى الأشياء زوجين وضدين مثل الليل والنهار والنور والظلمة والحر والبرد والخير والشر والسرور والحزن والذي يصلح للشيء لا يصلح لضده فمن كان خالق النور والخيرات لا يكون خالق الشر والظلمات فهما اثنان أحدهما يخلق الشر والآخر يخلق الخير فنزلت هذه الآية { وإلهكم إله واحد } أي خالقكم خالق واحد هو خالق الأشياء كلها

وقوله تعالى { لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }

وقوله { لا إله إلا اللّه } قال بعض الناس هذا الكلام نصفه كفر وهو قوله { لا إله } ونصفه إيمان وهو قوله { إلا هو } ولكن هذا الكلام غير سديد لأن اللّه تعالى أمر رسوله بأن يقولوا لا إله إلا اللّه فلا يجوز أن يأمرهم بالكفر

وقال بعضهم النصف الأول منسوخ والنصف الثاني ناسخ وهذا أيضا لا يصح لأن المنسوخ هو الذي كان مباحا قبل النسخ والكفر لم يكن مباحا أبدا وأحسن ما قيل فيه إن قوله { لا إله } نفي معبود الكفار و

قوله { إلا هو } إثبات معبود المؤمنين أو نقول { لا إله } نفي الألوهية عمن لا يستحق الألوهية وقوله { إلا اللّه } إثبات الألوهية لمن يستحق الألوهية لما نزلت هذه الآية أنكر المشركون توحيد اللّه تعالى وطلبوا منه دليلا على إثبات وحدانيته فنزلت هذه الآية

١٦٤

قوله تعالى { إن في خلق السموات والأرض } يعني في خلق السموات والأرض دليل على وحدانيته في أنه خلقها بغير عمد ترونها وزينها بمصابيح والأرض أيضا بسطها وجعل لها أوتادا وهي الجبال وفجر فيها الأنهار وجعل فيها البحار { واختلاف الليل والنهار } يعني مجيء النهار وذهاب الليل ومجيء الليل وذهاب النهار ويقال نقصان الليل في تمام النهار ونقصان النهار في تمام الليل ويقال اختلافهما في اللون { والفلك التي تجري في البحر } يعني السفن ويقال للسفينة الواحدة الفلك ولجماعة السفن الفلك يعني السفن التي تسير في البحر فتقبل مرة وتدبر مرة بريح واحدة فتسير في البحر { بما ينفع الناس } من الكسب والتجارة وغير ذلك

وقوله تعالى { وما أنزل اللّه من السماء من ماء } يعني المطر الذي ينزل من السماء { فأحيا به الأرض بعد موتها } يعني اخضرت الأرض بعد يبسها { وبث فيها } يقول خلق في الأرض { من كل دابة وتصريف الرياح } قرأ حمزة والكسائي { الريح } بغير ألف وقرأ الباقون بألف واختار أبو عبيدة في قراءته أن كل ما في القرآن من ذكر العذاب الريح بغير ألف وكل ما في القرآن من ذكر الرحمة الرياح بالألف واحتج بما روى أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان إذا هاجت الريح قال اللّهم أجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ومعنى قول تعالى { وتصريف الرياح} يعني هبوب الرياح مرة جنوبا ومرة شمالا ومرة صبا ومرة دبورا

وقوله تعالى { والسحاب المسخر } يعني المذلل والمطوع { بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } يعني في هذه الأشياء التي ذكرت في هذه الآية آيات لوحدانيته لمن كان له عقل وتمييز ويقال هذه الآية تجمع أصول التوحيد وقد بين فيها دلائل وحدانيته لأن الأمر لو كان بتدبير اثنين يختلفان في التدبير لفسد الأمر باختلافهما كما قال تعالى { لو كان فيهما ءالهة إلا اللّه لفسدتا } الأنبياء ٢٢

١٦٥

قوله تعالى { ومن الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا } يعني بعض الناس وصفوا للّه شركاء وأعدالا وهي الأوثان

وقوله تعالى { يحبونهم كحب اللّه } قال بعضهم يحبون الأوثان كحبهم للّه تعالى لأنهم كانوا يقرون باللّه تعالى

وقال بعضهم معناه يحبون الأوثان كحب المؤمنين للّه تعالى

ثم قال عز وجل { والذين آمنوا أشد حبا للّه } لأن الكفار يعبدون أوثانهم في حال الرخاء فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها والمؤمنون يعبدون اللّه تعالى في حال الرخاء والشدة فهذا معنى قوله { والذين آمنوا أشد حبا للّه }

فإن قيل إذا كان المؤمنون أشد حبا للّه فما معنى

قوله { يحبونهم كحب اللّه } قيل له يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حبا للّه وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين الذين حبهم مثل حب الكفار وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حبا للّه والحب للّه أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه فكل من كان أطوع للّه فهو أشد حبا له كما قال القائل { لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع }

ثم قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ولو يرى } يا محمد { الذين ظلموا إذ يرون العذاب } يعني حين يرون العذاب { أن القوة للّه جميعا } وفي الآية مضمر ومعناها لو رأيت يا محمد الذين ظلموا في العذاب لرأيت أمرا عظيما كما تقول لو رأيت فلانا تحت السياط فتستغني عن الجواب لأن المعنى مفهوم فكذلك هاهنا لم يذكر الجواب لأن المعنى معلوم قرأ نافع وابن عامر { ولو ترى } بالتاء عبدة الأوثان اليوم ما يرون يوم القيامة أن الأوثان لا تنفعهم شيئا وأن القوة للّه جميعا تركوا عبادتها وقرأ ابن عامر { إذ يرون العذاب } بضم الياء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الباء على معنى الخبر عنهم وقرأ الحسن وقتادة { أن القوة للّه } على معنى الابتداء وقرأ العامة { أن القوة } بالنصب على معنى البناء يعني بأن القوة للّه

وقوله عز وجل { وأن اللّه شديد العذاب } يعني للرؤساء والاتباع من أهل الأوثان

١٦٦

قوله تعالى { إذ تبرأ الذين اتبعوا } يعني القادة { من الذين اتبعوا } وهم السفلة { ورأوا العذاب } أي حين رأوا العذاب { وتقطعت بهم الاسباب } يعني العهود والحلف التي كانت في الدنيا بينهم وقال القتبي { الأسباب } يعني الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا

وقال بعضهم { وتقطعت بهم الأسباب } أي الخلة والمواصلة كما قال في آية أخرى { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } الزخرف٦٧ ويقال الأرحام والمودة التي كانوا يتواصلون بها فيما بينهم

١٦٧

وقوله تعالى { وقال الذين اتبعوا } أي السفلة { لو أن لنا كرة } يعني رجعة إلى الدنيا وذلك أن الرؤساء لما تبرؤوا منهم ولا ينفعونهم شيئا ندمت السفلة على اتباعهم في الدنيا ويقولون في أنفسهم { لو أن لنا كرة } أي رجعة إلى الدنيا { فنتبرأ } من القادة { كما تبرؤوا منا }

قال اللّه تعالى { كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم } لأنهم يرون أعمالهم غير مقبولة لأنها كانت لغير وجه اللّه تعالى فيكون ذلك حسرة عليهم

وقوله تعالى { وما هم بخارجين من النار } يعني التابع والمتبوع والعابد والمعبود

١٦٨

قوله تعالى { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } وذلك أن قوما من العرب مثل بني عامر وبني مدلج وخزاعة وغيرهم حرموا على أنفسهم أشياء مما أحل اللّه عليهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة وغير ذلك فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك فقال { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } من الحرث والأنعام و { حلالا } نصب على الحال { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } يعني طاعات الشيطان وقال مقاتل يعني تزيين الشيطان ويقال وساوس الشيطان وقال القتبي الخطوات جمع الخطوة وقال الزجاج خطواته أي طرقه ومعناه لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان { إنه لكم عدو مبين } يعني ظاهر العداوة

١٦٩

قوله تعالى { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } يعني بالإثم والقبيح من العمل ويقال السوء الذي يجب به الحبس والحساب { والفحشاء } الذي يستوجب بها العقوبة في النار ويقال { بالسوء } الذي يجب به التعزيز في الدنيا { والفحشاء } الذي يجب به الحد ( وأن تقولوا على اللّه ما لا تعلمون ) يعني الشيطان يأمركم بأن تكذبوا على اللّه لأنهم كانوا يقولون هذه الأشياء حرمها اللّه تعالى علينا

١٧٠

ثم قال تعالى { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه } يعني اعملوا بما أنزل اللّه في القرآن وهو من تحليل ما أحل اللّه وتحريم ما حرم اللّه { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } يعني ما وجدنا عليه آباءنا

قال اللّه تعالى { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } معناه اتبعوا آباءهم وإن كانوا جهالا فيتابعونهم بغير حجة فكأنه نهاهم عن التقليد وأمرهم بالتمسك بالحجة وهذه الواو مفتوحة وهي واو { أولو } لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف التوبيخ وهي ألف الاستفهام قرأ أبو عمرو ومن تابعه من أهل البصرة { كذلك يريهم اللّه } البقرة١٦٧ بكسر الهاء والميم وكذلك في كل موضع تكون الهاء والميم بعدهما الألف واللام مثل قوله { وضربت عليهم الذلة } البقرة ٦١ { ويلههم الأمل } الحجر ٣ وكان عاصم وابن عامر ونافع وابن كثير يقرؤون بكسر الهاء وضم الميم وكان حمزة والكسائي يقرآن بضم الهاء والميم وكان ابن كثير يقرأ { إنه لكم عدو مبين } بضم الميم وكذلك { إنما يأمركم } وكذلك كل ميم ونحو هذا مثل { أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم } الفاتحة ٧ { على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم } البقرة ٧ وكان نافع في رواية ورش عنه يقرأ سكون الميم إلا أن يستقبله ألف أصلية فيضم الميم مثل قوله { سواء عليهم ءأنذرتهم } البقرة ٦ ويس١٠ { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } الكهف ٢١ { وقد خلقكم أطوارا } نوح ١٤ وكان حمزة والكسائي يقرآن بسكون الميم إلا أن يستقبله ألف ولام مثل قوله { وضربت عليهم الذلة } البقرة ٦١

وأما قوله { خطوات الشيطان } البقرة ١٦٨ وغيرها قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر { خطوات } بجزم الطاء وقرأ الكسائي وابن كثير وعاصم في رواية حفص { خطوات } بضم الطاء وهما لغتان ومعناهما واحد

١٧١

ثم قال تعالى { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } فهذا مثل ضرب اللّه تعالى لأهل الكفر إنهم مثل البهائم لا يعقلون شيئا سوى ما يسمعون من النداء وفي الآية إضمار ومعناه مثلك يا محمد مع الكفار { كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } وهذا قول الزجاج وقال القتبي قال الفراء ومثل واعظ الذين كفروا فحذف ذكر الواعظ كما قال تعالى { وسئل القرية } يوسف ٨٢ وقال القتبي أيضا { مثل الذين كفروا } يعني ومثلنا في وعظهم فحذف اختصارا إذ كان في الكلام ما يدل عليه { كمثل الذي ينعق } يعني الراعي إذا صاح بالغنم لا يسمع إلا دعاء ونداء فحسب ولا تفهم قولا ولا يحسن جوابا فكذلك الكافر لا يعقل المواعظ { صم } عن الخير فهم لا يسمعون { بكم } يعني خرسا لا يتكلمون بالحق { عمي } لا يبصرون الهدى ويقال كأنهم صم لأنهم يتصاممون عن سماع الحق { فهم لا يعقلون } الهدى

١٧٢

قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } يعني من الحلال من الحرث والأنعام { واشكروا للّه إن كنتم إياه تعبدون } يعني إن كنتم تريدون بترك أكله رضى اللّه تعالى فكلوه فإن رضى اللّه تعالى أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه ويقال إن محرم ما أحل اللّه مثل محل ما حرم اللّه ويقال في الآيتين بيان فضل هذه الأمة لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه عليهم الصلاة والسلام لأنه قال لأنبيائه { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } المؤمنون ٥١وقال لهذه الأمة { كلوا من طيبات ما رزقناكم }

وقال في الآية الأولى { كلوا مما في الأرض حلال طيبا } البقرة ١٦٨فلما أمر اللّه تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي فبين اللّه تعالى المحرمات

١٧٣

فقال { إنما حرم عليكم الميتة } وهي الدابة التي تموت من غير ذكاة سوى السمك والجراد { والدم } يعني الدم المسفوح أي الجاري كما قال في آية أخرى { أو دما مسفوحا } الأنعام ١٤٥ { ولحم الخنزير } يعني حرم عليكم لحم الخنزير فذكر اللحم خاصة والمراد به اللحم والشحم وجميع أجزائه وهذا شيء قد أجمع المسلمون عليه فقد ذكر الميتة وإنما انصرف إلى بعض منها وأحل البعض منها وهو السمك والجراد وذكر الدم وإنما المراد به بعض الدم لأنه لم يدخل فيه الطحال والكبد وذكر لحم الخنزير فانصرف النهي إلى اللحم وغيره { وما أهل به لغير اللّه } يعني ما ذبح لغير اسم اللّه تعالى والإهلال في اللغة هو رفع الصوت فكان أهل الجاهلية إذا ذبحوا رفعوا الصوت بذكر آلهتهم فحرم اللّه تعالى على المؤمنين أكل ما ذبح لغير اسم اللّه تعالى وفي الآية دليل انه إذا ترك التسمية عمدا لا يؤكل لأنه قد ذبح بغير اسم اللّه تعالى

ثم إن اللّه تعالى علم أن بعض الناس يبتلون بأكل الميتة عند الضرورة فرخص لهم في ذلك بقوله تعالى { فمن اضطر } قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو { فمن اضطر } بكسر النون وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد يقول فمن أجهد إلى شيء مما حرم اللّه من أكل الميتة { غير باغ ولا عاد }

وقال بعضهم يعني غير مفارق الجماعة { ولا عاد } على المسلمين بالسيف فمن خرج لقطع الطريق أو خرج على إمام المسلمين بالسيف لا رخصة له عند بعضهم وقال الشافعي من خرج في معصية فلا رخصة له

وقال بعضهم كل من اضطر إلى أكل الميتة رخص له أن يأكل سواء خرج للمعصية أو غيرها وهذا قول أصحابنا ومعنى قوله { غير باغ } يعني غير طالب للحرام ولا راض بأكله { ولا عاد } يعني لا يعود إلى أكله بعدما أكل مقدار ما يسد به رمقه

وروي عن ابن عباس نحو هذا قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعيد الترمذي قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي قال حدثنا عبد اللّه بن أبي صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في

قوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } قال من أكل شيئا من هذه الأشياء وهو مضطر فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى

وقوله تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن اللّه غفور رحيم } ثم اختلفوا في حد الاضطرار الذي يحل له الميتة قال بعضهم إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف وهو قول الشافعي

وروي عن ابن المبارك أنه قال إذا كان بحال لو دخل السوق لا ينظر إلى شيء سوى الخبز

وقال بعضهم إذا كان بحال يضعفه عن أداء الفرائض وقد اختلفوا أيضا في أكله قال بعضهم أكله حرام ألا أنه كما

قال تعالى { فلا إثم عليه } ألا ترى أنه قال في سياق الآية { إن اللّه غفور رحيم }

وقال بعضهم هو حلال ولا يسعه تركه لأنه قال في آية أخرى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } الأنعام ١١٩ فلما استثنى منه ثبت أنه حلال وروي عن مسروق أنه قال من اضطر إلى ميتة فلم يأكل حتى مات دخل من النار

١٧٤

قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب } نزلت في رؤساء اليهود كانوا يرجون أن يكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم فلما كان من غيرهم خشوا بأن تذهب منافعهم من السفلة فعمدوا إلى صفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فغيروها

وقال بعضهم غيروا تأويلها فنزلت هذه الآية { إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب } يعني في التوراة بكتمان نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ويشترون به ثمنا قليلا } يعني يختارون به عرضا يسيرا من منافع الدنيا { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } يعني يأكلون الحرام وإنما سمي الحرام نارا لأنه يستوجب به النار كما قال في آية أخرى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } النساء ١٠ { ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة } أي لا يكلمهم بكلام الخير لأنه يكلمهم بكلام العذاب حيث قال { احسنوا فيها ولا تكلمون } المؤمنون ١٠٨ { ولا يزكيهم } يعني ولا يطهرهم من الأعمال الخبيثة السيئة وقال الزجاج { ولا يزكيهم } أي لا يثني عليهم خيرا ومن لا يثني عليه الخير فهو يعذبه { ولهم عذاب أليم } أي وجيع يعني الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب وكذلك كل من كان عنده علم فاحتاج الناس إلى ذلك فكتمه فهو من أهل هذه الآية وهذا كما روى أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال من كتم علما أعطاه اللّه تعالى ألجم بلجام من نار

١٧٥

ثم قال عز وجل { أولئك الذين } يعني رؤساء اليهود { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } يعني اختاروا الكفر على الإيمان { والعذاب بالمغفرة } يعني اختاروا النار على الجنة { فما أصبرهم على النار } يقول فما الذي أجرأهم على فعل أهل النار ويقال معناه فما أبقاهم في النار كما يقال فما أصبر فلانا على الحبس أي أبقاه

١٧٦

{ ذلك } أي ذلك العذاب { بأن اللّه نزل الكتاب بالحق } أي القرآن بالحق يعني بالعدل { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } أي في القرآن { لفي شقاق بعيد } أي في ضلال بين ويقال معناه أن اللّه تعالى أنزل القرآن على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بالعدل فتركوا اتباعه وخالفوه فاستوجبوا بذلك العذاب ويقال { لفي شقاق بعيد } يعنس في خلاف بعيد من الحق وذكر عن قتادة أنه قال { فما أصبرهم على النار } أي فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار وروي عن مجاهد أنه قال ما أعملهم بعمل أهل النار ويريد ما أدومهم على أعمال أهل النار وقال أبو عبيدة ما الذي صيرهم ودعاهم إلى النار

١٧٧

قوله تعالى { ليس البر أن تولوا وجوهكم } قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { ليس البر } بنصب الراء على معنى خبر ليس وقرأ الباقون بالرفع على معنى اسم ليس من قرأ بالرفع فهو الظاهر في العربية لأن ليس يرفع الاسم الذي بعده بمنزلة كان وأما من قرأ بالنصب فإنه يجعل الاسم ما بعده ويجعل { البر } خبره وقرأ نافع وابن عامر { ولكن البر } بكسر النون وضم الراء وقرأ الباقون { ولكن البر } بنصب النون مشددة وبنصب الراء قال مقاتل في قوله { ليس البر أن تولوا وجوهكم } يعني ليس البر أن تحولوا وجوهكم في الصلاة { قبل المشرق والمغرب } فلا تعملوا غير ذلك { ولكن البر من آمن باللّه } يعني صدق باللّه بأنه واحد لا شريك له ويقال معناه ليس البر كله في الصلاة ولكن البر ما ذكر في هذه الآية من العبادات ثم اختلفوا في معنى قوله { ولكن البر من آمن باللّه } قال بعضهم معناه ولكن ذو البر من آمن باللّه

وقال بعضهم معناه ولكن البر بر من آمن باللّه وكلا المعنيين ذكرهما الزجاج في كتابه وقال بعضهم { ليس البر } أي ليس البار من يولي وجهه إلى المشرق والمغرب ولكن البار من آمن باللّه

ثم ذكر في هذه الآية خمسة أشياء وهي من الإيمان فمن لم يقر بواحدة منها فقد كفر أحدها الإيمان باللّه تعالى أنه واحد لا شريك له وصدق باليوم الآخر وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وأنه كائن وأن أهل الثواب يصلون إلى الثواب وأهل العقاب يصلون إلى العقاب وصدق بالكتاب أنه منزل من اللّه تعالى يعني القرآن وسائر الكتب التوراة والإنجيل والزبور ويقر بالملائكة أنهم عباده ويقر بالنبيين أنهم رسله وأنبياؤه فهذه الخمسة من الإيمان فمن جحد واحدة منها فقد كفر

ثم ذكر الفضائل فقال { وءاتى المال على حبه } يعني يعطي المال على شهوته وجوعه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويؤمل العيش ويقال { على حبه } الإعطاء بطيبة من نفسه يعطي { ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } يعني الضيف النازل { والسائلين } الذين يسألون الناس { وفي الرقاب } يعني المكاتبين

وقد قيل { وابن السبيل } هو المنقطع من ماله ثم ذكر الفرائض فقال { وأقام الصلاة } المكتوبة { وآتى الزكاة } المفروضة { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } قال القتبي { البأساء } الفقر وهو من البؤس { والضراء } المرض والزمانة { وحين البأس } يعني يصبرون عند الحرب وقال القتبي { البأس } الشدة ومنه يقال لا بأس عليك يعني لا شدة عليك يقال فلهذا سمي الحرب البأس لأن فيه شدة

ثم قال تعالى { أولئك الذين صدقوا } يعني صدقوا في إيمانهم { وأولئك هم المتقون } عن نقض العهد

فإن قيل أيش معنى قوله { والصابرين في البأساء والضراء } وموضعه موضع رفع ولم يقل والصابرون

قيل له قد قال بعض من تعسف في كلامه إن هذا غلط الكاتب حين كتبوا مصحف الإمام والدليل على ذلك ما روي عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها وهكذا قال في سورة النساء { والمقيمين الصلوة } النساء ١٦٢ وفي سورة المائدة { والصابئون } لكن الجواب عند أهل العلم أن يقال إنما صار نصبا للمدح والكلام يصير نصبا على المدح أو الذم ألا ترى إلى قول القائل

( نحن بني ضبة أصحاب الجمل )

( ننازل الموت إذ الموت نزل )

 ( والموت أشهى عندنا من العسل )

وإنما جعله نصبا للمدح وكان سبيله نحن بنو ضبة إلا أنه لما جاء الكلام على سبيل المدح نصبه وأراد بالجمل حرب الجمل والضبة اسم قبيلة وهم الذين شهدوا معركة الجمل وروي عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن البر فنزلت هذه الآية { ليس البر أن تولوا وجوهكم } إلى آخر الآية وقال الضحاك { أولئك الذين صدقوا } يعني صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم بأعمالهم { وأولئك هم المتقون } يعني المطيعين للّه تعالى

١٧٨

قوله تعالى { يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } يعني فرض عليكم وأوجب عليكم القصاص

فإن قيل الفرض على من يكون على الولي أو على غيره

قيل له الفرض على القاضي إذا اختصموا إليه بأن يقضي على القاتل بالقصاص إذا طلب الولي لأن اللّه تعالى قد خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين ولا يمكنهم جميعا أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص فخاطب الولي بالقصاص وخاطب غيره بأن يعين الولي على ذلك وهو قوله { كتب عليكم القصاص } أي فرض عليكم إذا كان القتل عمدا { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى }

قال بعضهم كان في أول الشريعة أن الحر يقتل بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ولا يقتل الحر بالعبد ولا العبد بالحر ولا الذكر بالأنثى ثم نسخ بقوله تعالى { النفس بالنفس } المائدة ٤٥

وقال بعضهم هي غير منسوخة لأنه قد ذكر هذه الآية { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } ولم يذكر في هذه الآية أن العبد لو قتل حرا ما حكمه فبين في آية أخرى وهو قوله { النفس بالنفس } وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية فكانت بينهم قتلى وجراحات وكان لأحدهما طول على الآخر فقالوا لنقتلن بالعبد منا الحر منكم وبالمرأة الرجل منكم وبالرجل منا الرجلين منكم فلما جاء الإسلام طلب بعضهم من بعض ذلك فنزلت هذه الآية { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى }

وقال تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } يعني ترك ولي المقتول من أخيه يعني القاتل ولم يقتله وأخذ الدية { فاتباع بالمعروف } يعني يطلب الدية بالرفق ولا يعسر عليه وأمر المطلوب بأن يؤدي الدية إلى الطالب لقوله { وأداء إليه بإحسان } وقال القتبي { فمن عفي له من أخيه شيء } قال قبول الدية في العمد والعفو عن الدم

وقوله { فاتباع بالمعروف } أي مطالبة جميلة { وأداء إليه بإحسان } لا يبخسه ولا يماطله ولا يدفعه ويقال معناه إذا عفا أحد ولي القصاص صار نصيب الآخر مالا فيتبعه بالمعروف والقاتل يؤدي إليه نصيبه بإحسان { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك وأهل الإنجيل كان لهم العفو وليس لهم قود ولا دية فجعل اللّه تعالى القصاص والدية والعفو تخفيفا لهذه الأمة فمن شاء قتل ومن شاء أخذ الدية ومن شاء عفا وقد قال بعض الناس إن الولي إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل وهو قول الشافعي رحمه اللّه وقال أصحابنا ليس له أن يأخذ الدية إلا برضا القاتل وليس في هذه الآية دليل أن له أن يأخذ الدية بكره منه وفيه دليل أن له أن يقبل الدية ومعناه عند أصحابنا أن له الدية إذا رضي القاتل وأصطلحا على ذلك

ثم قال تعالى { فمن اعتدى من بعد ذلك } يعني أن يقتل بعد ما أخذ الدية { فله عذاب أليم } أي وجيع وقال قتادة يقتل ولا يقبل منه الدية إذا اعتدى واحتج بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لا أعفي عن أحد قتل بعد أخذ الدية ولكن معناه عندنا أنه إذا طلب الولي القتل فأما إذا عفا عنه الثاني وتركه جاز عفوه لأنه قتل بغير حق فصار حكمه حكم القاتل الأول لأنه لو عفي عنه لجاز ذلك فكذلك الثاني

ثم قال عز وجل { ولكم في القصاص حياة } أي بقاء لأن الناس يعتبرون بالقصاص فيمتنعون عن القتل وهذا كما قال القائل

( أبلغ أبا مالك عني مغلغلة وفي العقاب حياة بين أقوام )

١٧٩

وهذا معنى قوله { ولكم في القصاص حياة } { يا أولي الألباب } يعني يا ذوي العقول { لعلكم تتقون } أي القتل مخافة القصاص

١٨٠

قوله تعالى { كتب عليكم } أي فرض عليكم { إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا } يقول أي ترك مالا والخير في القرآن على وجوه أحدها المال كقوله { إن ترك خيرا } البقرة ٢١٥ { ما أنفقتم من خير } البقرة ٢٧٢ أي المال والثاني الإيمان كقوله تعالى { ولو علم اللّه فيهم خيرا } الأنفال ٢٣ يعني إيمانا وقوله { ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم اللّه خيرا } هود ٣١ والثالث الفضل كقوله تعالى { وأنت خير الراحمين } { وأنت خير الحاكمين } المؤمنون ١٠٩ و ١١٨ والرابع العافية كقوله تعالى { وإن يمس سك بخير } الأنعام ١٧ { وإن يردك بخير } يونس ١٠٧ والخامس الأجر كقوله تعالى { لكم فيها خير } الحج ٣٦ أي أجر

وقال بعضهم الوصية واجبة على كل مسلم لأن اللّه تعالى قال { كتب عليكم } أي فرض عليكم الوصية وروي عن ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما حق امرئ مسلم يبيت ليلة وعنده مال يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده

وقال بعضهم هي مباحة وليست بواجبة وقد روي عن الشعبي أنه قال الوصية ليست بواجبة فمن شاء أوصى ومن شاء لم يوص وقال إبراهيم النخعي مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يوص وقد أوصى أبو بكر رضي اللّه عنه فإن أوصى فحسن وإن لم يوص فليس عليه شيء

وقال بعضهم إن كان عليه حج أو كفارة أو شيء من الكفارات فالوصية واجبة وإن ل يكن عليه شيء من الواجبات فهو بالخيار إن شاء أوصى وإن شاء لم يوص وبهذا القول نأخذ

ثم بين موضع الوصية فقال تعالى { الوصية للوالدين والأقربين } وقال مجاهد كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين فصارت الوصية للوالدين منسوخة

وروى جويب ر عن الضحاك أنه قال نسخت الوصية للوالدين والأقربين ممن يرث وبقيت الوصية لمن لا يرث من القرابة ويقال في الآية تقديم وتأخير ومعناه كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت وكانوا يوصون للأجنبيين ولم يوصوا للقرابة شيئا فأمرهم اللّه تعالى بالوصية للوالدين والأقربين ثم نسخت الوصية للوالدين بآية الميراث في قوله { حقا على المتقين } يعني واجبا على المتقين

١٨١

قوله تعالى { فمن بدله بعد ما سمعه } يعني غيره بعدما سمع الوصية { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } يعني وزره على الذين يغيرونه لا على الموصي لأن الموصي قد فعل ما عليه { إن اللّه سميع } بالوصية { عليم } بثوابها وبجزاء من غير الوصية

 

١٨٢

قوله تعالى { فمن خاف من موص جنفا أو إثما } أي علم من الموصي الجنف وهو الميل عن الحق { فلا إثم عليه } إذا غير وصيته فردها إلى الحق لأن تبديله كان للإصلاح ولم يكن للجور وقال الكلبي { فمن خاف من موص جنفا } يعني علم من الميت الخطأ في الوصية { أو إثما } يعني تعمدا للجور في وصيته فزاد على الثلث { فأصلح بينهم } يعني رد ما زاد على الثلث { فلا إثم عليه } هكذا قال مقاتل وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال ( الإضرار في الوصية من الكبائر )

قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { فمن خاف من موص جنفا } بنصب الواو وتشديد الصاد وقرأ الباقون بسكون الواو وتخفيف الصاد فمن قرأ بالنصب والتشديد فهو من وصى يوصي ومن قرأ بالتخفيف فهو من أوصى يوصي وهما لغتان ومعناهما واحد { فإن اللّه غفور رحيم } معناه { غفور } لمن جنف { رحيم } لمن أصلح

١٨٣

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } يعني فرض عليكم صيام شهر رمضان { كما كتب على الذين من قبلكم } يعني فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل { لعلكم تتقون } الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الأخيرة وبعد النوم ويقال كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض ويقال كما كتب على الذين من قبلكم في العدد

١٨٤

{ أياما معدودات } أي معلومات وإنما صارت الأيام نصبا لنزع الخافض ومعناه في أيام معدودات وقال مقاتل كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين وما زاد على ذلك لا يقال معدودة

ثم قال تعالى { فمن كان منكم مريضا } فلم يقدر على الصوم { أو على سفر } فلم يصم في سفره { فعدة من أيام أخر } أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته { وعلى الذين يطيقونه } يعني يطيقون الصوم { فدية طعام مسكين } يعني يدفع لكل مسكين مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم { فمن تطوع خيرا } فتصدق على مسكينين مكان كل يوم يفطره { فهو خير له } من أن يطعم مسكينا واحدا والصيام خير له من الإفطار وهو قوله { وأن تصوموا خير لكم } من أن وتطعموا وتفطروا قال الكلبي ثم نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها وهكذا قال القتبي وهكذا روي عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت هذه الآية { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } من أراد أن يفطر ويفدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وقال الشعبي لما نزلت هذه الآية { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ولا يصومون وصار الصوم على الفقراء فنسختها هذه الآية { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فوجب الصوم على الغني والفقير

وقال بعضهم ليست بمنسوخة وإنما نزلت في الشيخ الكبير وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ وعلى الذين يطوقونه يعني يكلفون فلا يطيقونه وروي عطاء عن ابن عباس أنه قال ليست بمنسوخة وإنما هي الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذان لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان كل يوم مسكينا

قرأ نافع وابن عامر { فدية طعام مسكين } بضم الهاء وكسر الميم بألف على الإضافة وقرأ الباقون بتنوين الهاء { فدية طعام } بضم الميم { مسكين } بغير ألف

١٨٥

قوله تعالى { شهر رمضان } قرأ بعضهم { شهر رمضان } قرأ عاصم في رواية حفص { شهر } بفتح الراء وقرأ الباقون { شهر } بالضم وإنما صار رفعا لمعنيين أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله يقول كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر أنه خبر الابتداء يعني هذا شهر رمضان ويقال إنه لنزع الخافض أي في شهر رمضان ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصبا لوقوع الفعل عليه أي صوموا شهر رمضان ويقال إنه لنزع الخافض أي في شهر رمضان ويحتمل عليكم شهر رمضان كقوله { صبغة اللّه } البقرة ١٣٨

وقوله تعالى { الذي أنزل فيه القرآن } قرأ ابن كثير { القران } بالتخفيف وقرأ الباقون بالهمزة وقال ابن عباس في معنى قوله { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا ثم أنزل به جبريل عليه السلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نجوما نجوما أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة وقال مقاتل أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا ونزل فيه جبريل في عشرين سنة

حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا الفضل بن دكين عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة قال ( أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان والإنجيل في ثمانية عشرة والقرآن في أربعة وعشرين)

قال الفقيه حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال حدثنا سويد بن نصر قال حدثنا عبد اللّه بن المبارك عن ابن جريج قال قال ابن عباس في

قوله عز وجل { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } قال أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر قال ابن جريج كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في سماء الدنيا ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا كلما أمر به ربه عز وجل

قوله تعالى { هدى للناس } يعني القرآن هدى للناس من الضلالة وبيانا لهم { وبينات من الهدى } يعني بيان الحلال والحرام { والفرقان } يعني المخرج من الشبهات { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } يعني من كان منكم شاهدا ولم يكن مريضا ولا مسافرا فليصم الشهر { ومن كان مريضا أو على سفر } فأفطر { فعدة من أيام أخر } يقضيه بعد ذلك روي عن عبد اللّه بن عمر أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقا وعن علي بن أبي طالب مثله وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة أحص العدد وصم كيف شئت واختلفوا في حد المريض الذي يجوز له الإفطار قال بعضهم إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف

وقال بعضهم إذا استحق اسم المريض جاز له الإفطار

وقال بعضهم إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر وهذا قول أصحابنا

ثم قال تعالى { يريد اللّه بكم اليسر } يعني في الإفطار في حال المرض والسفر { ولا يريد بكم العسر } يعني بالصوم في المرض والسفر { ولتكملوا العدة } قال الكلبي يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض وقال الضحاك { ولتكملوا العدة } يعني إذا غم عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوما قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون { ولتكملوا } بنصب الكاف وتشديد الميم وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف وهما لغتان يقال كملت الشيء وأكملته مثل وصيت وأوصيت

ثم قال { ولتكبروا اللّه على ما هداكم } يعني لتعظموا اللّه على ما هداكم الشريعة وسننه وأمر دينه

وقيل تعظيم اللّه والثناء عليه

وقيل هو تكبير يوم الفطر

وقيل هذا التكبير للإهلال { ولعلكم تشكرون } أي لتشكروا اللّه تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر وقال مقاتل { ولعلكم تشكرون } هذه النعم أن هداكم لأمر دينه

١٨٦

{ وإذا سألك عبادي عني } وذلك أنه لما نزلت هذه الآية { ادعوني استجب لكم } غافر ٦٠ قال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا رسول اللّه في أي وقت ندعو اللّه حتى يستجاب دعاؤنا فنزلت هذه الآية { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني

وقال بعضهم سأله بعض أصحابه فقالوا يا رسول اللّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل قوله تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } وقال مقاتل إن عمر واقع امرأته بعدما صلّى العشاء فندم على ذلك فبكى وجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتما وكان ذلك قبل الرخصة فنزلت هذه الآية { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين { دعوة الداعي إذا دعاني } بالياء كليهما وقرأ الباقون كليهما بحذف الياء وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء ويقال فإني قريب في الإجابة أجيب دعوة الداعي إذا دعاني

ثم قال { فليستجيبوا لي } الاستجابة بالطاعة { وليؤمنوا بي } وليصدقوا بوعدي وقال ابن عباس في رواية الكلبي { فليستجيبوا لي } الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم لبيك اللّهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك { وليؤمنوا بي } والإيمان إن تقول آمنت باللّه وكفرت بالطاغوت وأن وعدك حق لقاءك حق وأشهد أنك أحد فرد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوا أحد وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنك باعث من في القبور

وروي عن ابن عباس أنه قال ما تركت هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية وروي عن الكلبي أنه قال ما تركتها منذ أربعين سنة ويقال معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { وليؤمنوا بي } أي صدقوا بتوحيدي { لعلهم يرشدون } أي يهتدون من الضلالة

١٨٧

قوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث } يعني الجماع كان في ابتداء الإسلام لا تحل المجامعة في ليالي الصوم ولا الأكل ولا الشرب بعد العشاء الآخرة فأحل اللّه تعالى ذلك كله إلى طلوع الفجر وروى بكر بن عبد اللّه عن ابن عباس أنه قال الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع ولكن اللّه حيي كريم يكني بما شاء وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم فأخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما كنت جديرا بذلك فرجع مغتما فنزلت هذه الآية { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } يعني رخص لكم الجماع مع نسائكم { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن ويقال هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار { علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم } يعني تظلمون أنفسكم قال القتبي أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه وقد سمى اللّه تعالى هذا الفعل خيانة لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر اللّه به ولم يؤد الأمانه فيه فقد خانه بمعصيته

ثم قال { فتاب عليكم } يعني فتجاوز عنكم { وعفا عنكم } فلم يعاقبكم بما فعلتم { فالآن باشروهن } أي جامعوهن { وابتغوا ما كتب اللّه لكم } يعني اطلبوا ما قضى اللّه لكم من الولد الصالح وقال الزجاج { وابتغوا ما كتب اللّه لكم } أي اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به

{ وكلوا واشربوا } نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئا فأصبح صائما فأجهده الصوم فرآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آخر النهار فقال له ما لك يا ابن قيس أمسيت طليحا فقال ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجز بالجرين حتى أمسيت فأتيت أهلي فأرادت أن تطعمني شيئا سخنا فأبطات علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب فلم آكل فأصبحت صائما فأمسيت وقد أجهدني الصوم فنزلت هذه الآية { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } وهذا أمر إباحة للّه تعالى وليس بأمر حتم هذا مثل قوله { وإذا حللتم فاصطادوا } المائدة ومثل قوله { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه } الجمعة ١٠ اللفظ لفظ الأمر والمراد به الإباحة وقد اباح الأكل والشرب إلى وقت طلوع الفجر بقوله { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } يعني يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل

ويقال في الابتداء حين نزل { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود ويجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب حتى يستبين له الأسود من الأبيض وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال أخذت خيطين فجعلت أنظر إليهما فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته بذلك فتبسم وقال إنك لعريض القفا إنما هو سواد الليل وبياض النهار فنزل قوله { من الفجر } فارتفع الاشتباه

ثم قال تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } يعني إلى أول الليل وبعد غروب الشمس

وقوله تعالى { ولا تباشروهن } يقول ولا تجامعوهن { وأنتم عاكفون في المساجد } أي وأنتم معتكفون فيها وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام فكان الرجل إذا كان معتكفا فإذا بدا له خرج بالليل إلى أهله فيغشاها ثم يغتسل فيرجع إلى المسجد فنزلت هذه الآية { ولا تباشروهن } ليلا ولا نهارا { وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود اللّه } قال الكلبي يعني المباشرة في الاعتكاف معصية اللّه { فلا تقربوها } في الاعتكاف وقال الزجاج الحد في اللغة هو المنع فكل من منع فهو حداد ولهذا سمي حد الدار حدا لأنه يمنع الغير عن دخولها { كذلك يبين اللّه آياته للناس } يعني النهي عن الجماع { لعلهم يتقون } الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف ويقال { تلك حدود اللّه } يعني جميع ما ذكر من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره ويبين لهم الآيات { لعلهم يتقون } فينتهون عما نهى اللّه ويتبعون ما اللّه به

١٨٨

قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } يعني بالظلم وشهادة الزور { وتدلوا بها إلى الحكام } يعني تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام وقال الزجاج معناه تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم وتتركون ما علمتم أنه الحق { لتأكلوا فريقا } يعني طائفة { من أموال الناس بالإثم } يعني باليمين الكاذبة وشهادة الزور ويقال { بإلاثم } يعني بالجور { وأنتم تعلمون } أنه جور ويقال إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل

وهذه الآية نزلت في شأن امرئ القيس بن عابس الكندي وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فادعى أحدهما على صاحبه شيئا فأراد الآخر أن يحلف بالكذب فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه وأرى أنه من حقه فإنما أقضي له بقطعة من النار فنزلت هذه الآية فيهما وصارت عامة لجميع الناس وروى سعيد بن المسيب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال شاهد الزور إذا شهد لا يرفع قدميه من مكانهما حتى يلعنه اللّه من فوق العرش

١٨٩

قوله تعالى { يسألونك عن الأهلة } الأهلة جمع هلال واشتقاقه من قولهم استهل الصبي إذا صاح وأهل بالحج إذا رفع صوته بالتلبية وكذلك الهلال سمى هلالا لأنه يهل الناس بذكره يعني يرفعون الصوت عند رؤيته وإنما سمي الشهر شهرا لشهرته وقال الضحاك في معنى الآية وذلك إن المسلمين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه فنزلت هذه الآية { يسألونك عن الأهلة }

وقوله تعالى { قل هي مواقيت للناس والحج } يعني التصرف في زيادته ونقصانه سواء قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل وثعلبة الأنصاري أنهما قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم ينقص فنزل { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } يقول هي علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج

ثم قال تعالى { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } قال الضحاك وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه وكانوا يدخلونه من أعلاه فنزلت هذه الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح وذلك ان الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم قبل الحج فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام يدخل من خلف الخيمة إلا من مكان من أهل الحمس أي نجران وإنما سموا الحمس لأنهم يحمسون في دينهم أي شددوا على أنفسهم فحرموا على أنفسهم أشياء أحل اللّه عليهم وأحل لهم أشياء كانت حراما على غيرهم وهو الدخول من الباب فنزلت هذه الآية { وليس البر ان تأتوا البيوت من ظهورها } يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم { ولكن البر } يعني التقوى { من اتقى } يعني أطاع اللّه واتبع أمره ويقال ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي

ثم قال تعالى { واتوا البيوت من أبوابها } يعني ادخلوها محلين ومحرمين { واتقوا اللّه } ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم وهذا قول الكلبي وقال مقاتل { واتقوا اللّه } ولا تعصوه { لعلكم تفلحون } أي تنجون من العقوبة

١٩٠

قوله تعالى { وقاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة فنزل بالحديبية بقرب مكة والحديبية اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر فصده المشركون عن البيت فأقام بالحديبية شهرا وصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء وعلى أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام وصالحه المشركون على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين فرجع إلى المدينة فخرج في العام الثاني للقضاء فخاف أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية { وقاتلوا في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه { الذين يقاتلونكم } يعني في الحرم أو في الشهر الحرام { ولا تعتدوا } بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم { ان اللّه لا يحب المعتدين } يعني من بدأ بالظلم

١٩١

قوله تعالى { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم والشهر الحرام فأمر اللّه تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد

وقوله { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } يعني من مكة { والفتنة } يعني الشرك باللّه { أشد } يعني أعظم عند اللّه { من القتل } في الشهر الحرام

ثم قال تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } يعني في الحرم { حتى يقاتلوكم فيه } يعني يبدؤوكم بالقتال { فإن قاتلوكم } يعني بدؤوكم بالقتال { فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين } يعني هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره قرأ حمزة والكسائي { ولا تقتلوهم } بغير ألف { حتى يقتلوكم } { فإن قتلوكم } وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة بالألف فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم

١٩٢

ثم قال تعالى { فإن انتهوا } يعني عن قتالكم { فإن اللّه غفور رحيم } يعني إذا أسلموا وهذا كقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } الأنفال ٣٨

١٩٣

{وقاتلوهم } يعني أهل مكة { حتى لا تكون فتنة } يعني الشرك باللّه تعالى { ويكون الدين للّه } يعني الإسلام { فإن انتهوا } عن قتالكم وتركوا الشرك { فلا عدوان } يقول لا سبيل ولا حجة عليكم في القتل { إلا على الظالمين } الذين يبدؤونكم بالقتال وقال القتبي أصل العدوان الظلم يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين

فساق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه الهدايا فدخلوا مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدي وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزل

١٩٤

قوله تعالى { الشهر الحرام بالشهر الحرام } يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه يعني العام الأول وهو ذو القعدة { والحرمات قصاص } أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم ويقال إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام { والحرمات قصاص } يعني قتالكم يكون بقتالهم قصاصا فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضا ذلك ويقال إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا في أي شهر يحرم عليكم القتال وأرادوا أن يقفوا على ذلك حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين فنزل قوله { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } يعني في أي وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم

ثم قال تعالى { فمن اعتدى عليكم } يعني قاتلكم في الشهر الحرام { فاعتدوا عليه } أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه وهذا كقوله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } النحل ١٢٦ ثم صارت هذه الآية حكما في جميع الجنايات أن من جنى على إنسان أو في ماله فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }

ثم قال { واتقوا اللّه } عن الاعتداء قبل إن يعتدوا عليكم { واعلموا أن اللّه مع المتقين } يعني يعين من اتقى الاعتداء

١٩٥

قوله تعالى { وأنفقوا في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه قال ابن عباس وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا بماذا نتجهز فو اللّه ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد فنزل في قوله تعالى ( وانفقوا في سبيل اللّه ) يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل اللّه يعني في طاعة اللّه { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا ومعنى آخر ولا تمسكوا فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم معنى آخر ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة

ويقال { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا وقال الزجاج { التهلكة } معناه الهلاك يقال هلك يهلك هلاكا وتهلكة يعني إن لم تنفقوا عصيتم اللّه تعالى فهلكتم

وروي عن البراء بن عازب أن رجلا سأله عن التهلكة فقال أهو الرجل إذا التقى الجمعان فحمل فيقاتل حتى يقتل قال لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب وقال قتادة قيل لأبي هريرة ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو هريرة كلا واللّه ولكنه تأول آية من كتاب اللّه { ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات اللّه } البقرة ٢٠٧

وقال أبو عبيدة السلماني { التهلكة } أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة اللّه فيهلك

وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعز اللّه دينه الإسلام وكثرنا قلنا فيما بيننا إن أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع فأنزل اللّه تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها فأمرنا بالغزو

ثم قال تعالى { وأحسنوا } يعني أحسنوا النفقة من الصدقة { إن اللّه يحب المحسنين } في النفقة ويقال { وأحسنوا } يعني النفقة أي أخلصوا النية في النفقة ويقال { وأحسنوا } الظن باللّه تعالى فيما أنفقتم إنه يخلفكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة

١٩٦

قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة للّه } قرأ الشعبي { والعمرة للّه } بالضم على معنى الابتداء وقرأ العامة { والعمرة } بالنصب على معنى البناء قال ابن عباس تمام العمرة إلى البيت وتمام الحج إلى آخر الحج كله وقال مقاتل { وأتموا الحج والعمرة للّه } من المواقيت ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم ومعنى قول مقاتل أنهم كانوا يشركون فيقولون لبيك اللّهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فقال فأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئا آخر ثم خوفهم بقوله تعالى { واعلموا أن اللّه شديد العقاب } فيما تعديتم

ثم قال تعالى { فإن أحصرتم } يعني حبستم عن البيت بعدما أحرمتم وقال القتبي الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو وقال الفراء الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره

وقال بعضهم لا يكون الإحصار إلا من العدو وهو قول الشافعي

وقال بعضهم يكون من العدو ومن المرض وبه قال علماؤنا رحمهم اللّه

ثم قال { فما استيسر من الهدي } يعني ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي فاللّه تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعذر أن يبعث الهدي فيذبح عنه بمكة ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه ويرجع إلى أهله ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك

ثم قال تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } يعني المحصر إذا بعث بالهدي لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه يقول لا يحلق رأسه حتى يكون اليوم الذي واعده فيه ويعلم أن هديه قد ذبح ثم صار هذا أصلا لجميع الحاج من كان مفردا أو متمتعا أو قارنا لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه إن لم يكن محصرا

ثم قال تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام } يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم } البقرة ١٨٤يعني إذا كان أفطر

وروي عن كعب بن عجرة أنه قال في نزلت هذه الآية وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مر بي والقمل يتناثر على وجهي فقال أيؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأمرني بأن أحلق وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة أو صم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة يعني اذبح شاة فنزلت هذه الآية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } أي شاة يذبحها قرأ حمزة { حتى يبلغ الهدي محله }

وروي عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها بتشديد الياء وواحدها هدية وقرأ الباقون بالتخفيف يقال هدي وهدية للواحدة

ثم قال { فإذا أمنتم } وهذا على سبيل الاختصار والإضمار ومعناه فإذا أمنتم من العدو فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة ويقال إذا امنتم من العدو وبرأتم من المرض فحجوا واعتمروا

ثم قال { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } يعني فعليه ما تيسر من الهدي وللمتمتع أن يعتمر ويحج في سفرة واحدة من أشهر الحج والمحرمون أربعة مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمتع والقارن

فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد بالعمرة أن يعتمر ولا يحج

وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعدما فرغ من عمرته

وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعا فمن كان مفردا بالحج أو بالعمرة فلا يجب عليه الهدي ومن كان متمتعا أو قارنا فعليه الهدي وقال عبد اللّه بن عمر الهدي الجزور وقال ابن عباس أقله شاة وبه أخذ علماؤنا

{ فمن لم يجد } يعني إن لم يجد الهدي { فصيام ثلاثة أيام في الحج } قال ابن عباس آخرها يوم عرفة { وسبعة إذا رجعتم }

قال بعضهم { إذا رجعتم } يعني إلى أهاليكم

وقال بعضهم إذا رجعتم من منى

وقال بعضهم إذا رجعتم إلى الأمر الأول يعني إذا فرغتم من أمر الحج وبهذا القول نقول

ثم قال { تلك عشرة كاملة } البدل من الهدي يعني العشرة الكاملة كلها بدل عن الهدي { ذلك } الفداء { لمن لم يكن أهله } ومنزله في الحرم وقال قتادة ومقاتل ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله { حاضرو المسجد الحرام } يعني الحرم { واتقوا اللّه } فيما أمركم به ونهاكم عنه { واعلموا أن اللّه شديد العقاب } إن خالفتم أمره

١٩٧

ثم قال عز وجل { الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة { فمن فرض فيهن الحج } قال القتبي الفرض هو إيجاب وجوب الشيء يقال فرضت عليك كذا أي أوجبته

قال اللّه تعالى { فنصف ما فرضتم } أي ما ألزمتم أنفسكم وقال { وقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } الأحزاب ٥٠ وقال { فمن فرض فيهن الحج } يعني فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { فلا رفث ولا فسوق } بالرفع مع التنوين وقرأ الباقون بالنصب بغير تنوين واتفقوا في قوله { ولا جدال } بالنصب غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع وهذا يقال له لا التبرية فكل موضع يدخل فيه لا التبرية فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله { ولا خلة ولا شفاعة } البقرة ٢٥٤ وتفسير الرفث هو الجماع كقوله عز وجل { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } البقرة ١٨٧

وقال بعضهم الرفث التعرض بذكر النساء والفسوق هو السباب والجدال أن يماري صاحبه حتى يغيظه يعني من كان محرما لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري ويقال الفسوق الذبح للأصنام كقوله { أو فسقا أهل لغير اللّه به } الأنعام ١٤٥ والجدال هو أن قريشا كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون نحن أصوب سبيلا وروي عن مجاهد أنه قال قد استقر الحج في ذي الحجة فلا جدال فيه وذلك أن المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة فلما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة فلما حج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حجة الوداع وافق ذلك أول عامي ذي الحجة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألا إن الزمان قد استدار كهيئتة يوم خلق اللّه السموات والأرض يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان فنزل قوله {ولا جدال في الحج }

ثم قال تعالى { وما تفعلوا من خير } يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال { يعلمه اللّه } يعني يقبله اللّه فيجازيكم به

ثم قال عز وجل { وتزودوا } في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة { فإن خير الزاد التقوى } وقال مقاتل وذلك أن أناسا من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد ويصيبون من أهل الطريق ظلما فنزلت في شأنهم { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }

وقال بعضهم معناه تزودوا لسفر الدنيا بالطعام وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى { فإن خير الزاد التقوى } ويقال { خير الزاد } هو التوكل على اللّه وأن لا يؤذي أحد لأجل الزاد والطعام

ثم قال تعالى { واتقون يا أولي الألباب } يعني اطيعوني يا ذوي العقول فيما أمرتكم به

١٩٨

ثم قال تعالى { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وذلك أنهم كانوا إذا حجوا كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم فجعل اللّه تعالى لهم رخصة في ذلك فقال { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } أي لا مانع عليكم أن تطلبوا رزقا من ربكم من التجارة في أيام الحج وقال مقاتل سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا فنزلت هذه الآية ومعنى آخر ما روي عن عبد اللّه بن عمر أن رجلا سأله فقال إني رجل أكري الإبل إلى مكة

أفيجزئ عني من حجي فقال أولست تلبي وتقف بعرفات وترمي الجمار فقال نعم فقال سأل رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن مثل ما سألتني فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وروي عن ابن عباس نحوه

١٩٩

ثم قال تعالى { فإذا أفضتم من عرفات } يعني إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس { فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام } يعني بالمزدلفة وقال عطاء إنما سميت عرفات لأن جبريل عليه السلام كان يعلم إبراهيم عليه السلام أمور المناسك فكان يقول له عرفت فيقول عرفت فسميت عرفات وقال ابن عباس إنما سميت منى لأن جبريل قال لآدم تمن قال أتمنى الجنة فسميت منى قال وإنما سميت جمع لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضا هو المزدلفة وهو المشعر الحرام

ثم قال تعالى { واذكروه كما هداكم } يقول اشكروا اللّه كما هداكم لدين الإسلام { وإن كنتم من قبله } يعني وقد كنتم { من قبله لمن الضالين } عن الهدى وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات وكان الناس يقفون خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات ويفيضون منها فأمر اللّه تعالى قريشا أن يقفوا من حيث وقف الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس فقال تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللّه } لذنوبكم في الموقف { إن اللّه غفور رحيم } يعني متجاوز عن ذنوبكم فأمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبا بكر أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن اللّه تعالى يباهي ملائكته بأهل عرفات ويقول انظروا إلى عبادي جاؤوا من كل فج عميق شعثا غبرا إشهدوا أني قد غفرت لهم

٢٠٠

ثم قال عز وجل { فإذا قضيتم مناسككم } يعني فرغتم من أمر حجكم { فاذكروا اللّه } باللسان { كذكركم آباءكم } في ذلك الموقف { أو أشد ذكرا } يقول أو أكثر ذكرا وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون

قال اللّه تعالى فاذكروني بالخير { كذكركم آباءكم } بالخير فإن ذلك الخير مني وقال عطاء بن أبي رباح قوله في { كذكركم آباءكم } هو كقوله الصبي أبه أبه يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله أب أب ويقال { فاذكروا اللّه كذكركم } آبائكم لأبيكم آدم لأنه لا أب له بل { أشد ذكرا } لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات

ثم قال تعالى { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } وهم المشركون أي كانوا يقولون إذا وقفوا اللّهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء وأموالا ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة فأنزل اللّه تعالى { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } { وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب

٢٠١

قوله تعالى { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } قال ابن عباس يعني المغفرة والشهادة والغنيمة { وفي الآخرة حسنة } أي الجنة وقال القتبي الحسنة النعمة كقوله { إن تصبك حسنة تسؤهم } التوبة ٥٠ أي نعمة وقال الحسن البصري { آتنا في الدنيا حسنة } أي العلم والعبادة { وفي الآخرة حسنة } أي الجنة قال الإمام حسنة الدنيا ذكر ثوابك وقوت من الحلال يكفيك وزوجة صالحة ترضيك وعلم إلى الحق يهديك وعمل صالح ينجيك

وأما حسنة الآخرة أرض الخصومات وعفو السيئات وقبول الطاعات والنجاة من الدركات والفوز بالدرجات { وقنا عذاب النار } يعني ادفع عنا عذاب النار

٢٠٢

{ أولئك } الذين يدعون بهذا الدعاء { لهم نصيب } أي حظ { مما كسبوا } من حجهم ويقال لهم ثواب مما عملوا وقال قتادة ذكر لنا أن رجلا كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو ويقول اللّهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه فأخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا ابن آدم إنك لا تستطيع أن تقوم بعقوبة اللّه تعالى ولكن قل { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } فدعا بها الرجل فبرأ

ثم قال عز وجل { واللّه سريع الحساب } قال الكلبي إذا حاسب فحسابه سريع ويقال واللّه سريع الحفظ وقال الضحاك يعني لا يغالط العباد في الحساب يوم القيامة ولا يشغله ذلك ويقال يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة

٢٠٣

وقوله تعالى { واذكروا اللّه في أيام معدودات } أي معروفات وهي أيام التشريق وقال القتبي المعدودات أيام التشريق والمعلومات أيام النحر بدليل

قوله { في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فذكر النحر في تلك الأيام وقال يحيى بن سعيد سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات قال الأيام المعدودة أيام النحر والمعلومات أيام العشر

وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } والمعلومات أيام النحر بدليل

قوله تعالى { في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام } فذكر النحر في تلك الأيام وقال الضحاك معنى قوله { واذكروا اللّه في أيام معدودات } أي معروفات وهي أيام التشريق يعني كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق ويقال { واذكروا اللّه في أيام معدودات } يعني التكبير عند رمي الجمار

ثم قال تعالى { فمن تعجل في يومين } يعني رجع إلى أهله بعدما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث { فلا إثم عليه } في تعجيله { ومن تأخر } إلى آخر النفر { فلا إثم عليه } في تأخيره { لمن اتقى } يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم وقال قتادة ذكر لنا أن ابن مسعود قال إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه ويقال لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي وإنما حذرهم اللّه تعالى لأنهم إذا رجعوا من حجهم يجترئون على اللّه تعالى بالمعاصي فحذرهم عن ذلك فقال { واتقوا اللّه واعلموا أنكم إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم

٢٠٤

قوله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } يعني كلامه وحديثه وهو أخنس بن شريق كان حلو الكلام حلو المنظر فاجر السريرة وروى أسباط عن السدي قال أقبل اخنس بن شريق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة وقال إنما جئت أريد الإسلام وقال اللّه تعالى يعلم أني صادق فأعجب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله ثم خرج من عنده فمر بزرع للمسلمين فأحرقه ومر بحمار للمسلمين فعقره فنزلت هذه الآية { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } يعني يعجبك كلامه وحديثه { ويشهد اللّه على ما في قلبه } من الضمير أنه يحبه ويريد الإسلام { وهو ألد الخصام } يعني شديد الخصومة قال القتبي يعني أشدهم خصومة يقال رجل ألد بين اللدد وقوم لد كما قال في آية أخرى { وتنذر به قوما لدا } مريم٩٧

٢٠٥

ثم قال { وإذا تولى } يعني إذا فارقك رجع عنك { سعى في الأرض } أي مضى في الأرض بالمعاصي { ليفسد فيها } يعني يعصي اللّه في الأرض { ويهلك الحرث والنسل } يعني يحرق الكدس ويعقر الدواب { واللّه لا يحب الفساد } أي لا يرضى بعمل المعاصي

٢٠٦

قوله تعالى { وإذا قيل له اتق اللّه } في صنعك { أخذته العزة بإلاثم } يعني الحمية في الإثم يعني تكبرا يقول اللّه تعالى { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } يعني ولبئس الفراش ولبئس القرار وهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق ولكنها صارت عامة لجميع الناس فمن عمل مثل عمله استوجب تلك العقوبة

وقال بعض الحكماء إن من يقتل حمارا ويحرق كدسا استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله وذكر أن يهوديا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد فاختلف إلى بابه سنة فلم يقض حاجته فوقف يوما على الباب فلما خرج هارون سعى ووقف بين يديه وقال اتق اللّه يا أمير المؤمنين فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا للّه فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت له فلما رجع قيل يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي قال لا ولكن تذكرت قول اللّه تعالى { وإذا قيل له اتق اللّه أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد } وقال قتادة ذكر لنا أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا دعيتم إلى اللّه فأجيبوا وإذا سئلتم باللّه فأعطوا فإن المؤمنين كانوا كذلك

٢٠٧

قوله تعالى { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه } قال ابن عباس نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي مولى عبد اللّه بن جدعان وفي نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم عمار بن ياسر وسمية أم عمار وخباب بن الأرت وغيرهم أخذهم المشركون فعذبوهم فأما صهيب فإنه كان شيخا كبيرا وله مال ومتاع فقال لأهل مكة إني شيخ كبير لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني اشتريه منكم بمالي ففعلوا ذلك وأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته وتوجه إلى المدينة فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال له وبيعك لا يخسر فقال وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب وقتل ياسر أبو عمار وأمه سميه فنزلت هذه الآية في شأن صهيب { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه } يعنس يشري نفسه ودينه وهذا من أسماء الأضداد يقال شرى واشترى وباع وابتاع { ابتغاء مرضاة اللّه } يعني يشتري نفسه ودينه يطلب رضاء اللّه { واللّه رؤوف بالعباد } يعني رحيم بهم ثم هذه الآية صارت عامة لجميع الناس من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه فهو من أهل هذه الآية

٢٠٨

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } قرأ نافع وابن كثير والكسائي { السلم } بنصب السين وقرأ الباقون بالكسر { والسلم } بالكسر هو الإسلام والسلم بالنصب هو المسالمة والصلح ويقال السلم والسلم في اللغة هو الصلح قال ابن عباس نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب كانوا يتقون السبت ويحرمون أكل لحم الجمال فنزل { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } يعني في شرائع دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } يعني طاعات الشيطان

وقال مقاتل استأذن عبد اللّه بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } فإن اتباع السنة أولى بعدما بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { من خطوات الشيطان }

وقال بعضهم { ادخلو في السلم كافة } يعني اثبتوا على شرائع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ولا تخرجوا منها

وقوله تعالى { كافة } يعني عبارة عن الجميع فيجوز أن يكون معناه ادخلوا جميعا ويجوز أن يكون معناه ادخلوا في جميع شرائعه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي لا تسلكوا الطرق التي يدعوكم إليها الشيطان { إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة

٢٠٩

ثم قال عز وجل { فإن زللتم } يعني ملتم عن شرائع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { من بعد ما جاءتكم البينات } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وشرائعه { فاعلموا أن اللّه عزيز } عزيز بالنقمة { حكيم } في أمره وقال مقاتل { حكيم } أي يحكم حكم عليهم بالعذاب الشديد

٢١٠

قوله تعالى { هل ينظرون } هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها قد كقوله { وهل آتاك } الغاشية ١ أي قد أتاك ومرة يراد بها الاستفهام كقوله { هل إلى مرد من سبيل } الشورى ٤٤ ومرة يراد بها السؤال كقوله { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } الأعراف ٤٤ ومرة يراد به التفهيم كقوله { هل أدلكم على تجارة } الصف ١٠ ومرة يراد به التوبيخ كقوله { هل انبئكم على من تنزل الشياطين } الشعراء ٢٢١ وقد يذكر ويراد به الأمر كقوله { فهل أنتم منتهون } المائدة ٩١ أي انتهوا ومرة يراد به الجحد كقوله في هذا الموضع { هل ينظرون } { إلا أن يأتيهم اللّه } يعني ما ينظرون وقال ابن عباس في رواية أبي صالح هذا من المكتوم الذي لا يفسر

وروى عبد الرزاق عن سفيان الثوري قال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير يعلمه العلماء وتفسير تعرفه العرب وتفسير لا يقدر أحد لجهالته وتفسير لا يعلم تأويله إلا اللّه عز وجل ومن ادعى علمه فهو كاذب وهذا موافق لقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا اللّه } آل عمران ٧ وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا لا يعلم تأويلها إلا اللّه وبعضهم تأولها فقال هذا وعيد للكفار فقال { هل ينظرون } أي ماذا ينتظرون ولا يؤمنون ما ينظرون { إلا أن يأتيهم اللّه } يعني أمر اللّه تعالى كما قال في موضع آخر { فأتاهم اللّه من حيث لم يحتسبوا } الحشر٢ يعني أمر اللّه تعالى

وقال بعضهم { هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه } معناه بما وعد لهم من العذاب { في ظلل من الغمام } يعني في غمام فيه ظلمة ويقال على غمام فيه ظلمة { والملائكة } قرأ أبو جعفر بكسر الهاء يعني في ظلل من الغمام وفي الملائكة وهي قراءة شاذة والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة وقال قتادة { والملائكة } يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ويقال يوم القيامة { وقضي الأمر } يعني فرغ مما يوعدون يعني دخول أهل الجنة في الجنة ودخول أهل النار في النار { وإلى اللّه ترجع الأمور } يعني عواقب الأمور قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { ترجع } بنصب التاء ويكون الفعل للأمور وقرأ الباقون بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله

٢١١

قوله تعالى { سل بني إسرائيل كم آتيناهم } ومعناه سل علماء بني إسرائيل كم أعطيناهم { من آية بينة } حين فرق لهم البحر وأهلك عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى ويقال { كم آتيناهم من آية بينة } يعني نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

ثم قال { ومن يبدل نعمة اللّه } يعني يغير نعمة اللّه تعالى { من بعد ما جاءته فإن اللّه شديد العقاب } يعني يقول إذا لم يشكروا نعمة اللّه تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة

٢١٢

قوله تعالى { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } قال الكلبي نزلت في شان رؤساء قريش زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير { ويسخرون من الذين آمنوا } في أمر المعيشة لأنهم كانوا فقراء

{ والذين اتقوا } يعني أطاعوا اللّه وهم فقراء المؤمنين { فوقهم يوم القيامة } يعني فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا وقد اختلفوا في قوله { زين للذين كفروا } قال بعضهم يعني زينها لهم إبليس لأن اللّه تعالى قد زهدهم فيها وأعلم أنها متاع الغرور ولكن الشيطان زين لهم الأشياء كما قال في آية أخرى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } النمل ٢٤ وقال بعضهم معناه أن اللّه تعالى زين لهم لأن خلق فيها الأشياء المعجبة فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بذلك كما قال في آية أخرى { زينا لهم أعمالهم } النمل٤ وكان ذلك مجازاة لكفرهم

وروي عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال يقول اللّه تعالى لملائكته لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من ذهب ولصببت عليه الدنيا صبا ومصداق ذلك في القرآن { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } الزخرف ٣٣ الآية وقال صلّى اللّه عليه وسلّم لو أن الدنيا تزن عند اللّه قدر جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء

ثم قال تعالى { واللّه يرزق من يشاء بغير حساب } يعني يرزق من يشاء رزقا كثيرا لا يعرف حسابه ويقال معناه { يرزق من يشاء بغير حساب } يعني ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال { بغير حساب } يعني بغير احتساب كما قال في آية أخرى { ويرزقه من حيث لا يحتسب } الطلاق ٣ وكل ما في القرآن { يرزق من يشاء بغير حساب } فهو على هذه الوجوه الأربعة

٢١٣

قوله تعالى { كان الناس أمة واحدة } قال الزجاج الأمة على وجوه منها القرن من الناس كما يقال مضت أمم أي قرون والأمة الرجل الذي لا نظير له ومنه قوله { إن إبراهيم كان أمة } النحل ١٢٠ والأمة الدين وهو الذي قال هاهنا { كان الناس أمة واحدة } يعني على دين واحد وعلى ملة واحدة

وقال بعضهم كان الناس كلهم على دين الإسلام جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا { فبعث اللّه النبيين }

وقال بعضهم كان الناس كلهم كفارا في عهد نوح وعهد إبراهيم فبعث اللّه للناس إبراهيم وإسماعيل ولوطا وموسى ومن بعدهم { مبشرين } بالجنة لمن أطاع اللّه { ومنذرين } بالنار لمن عصى اللّه { وأنزل معهم الكتاب بالحق } يقول بالعدل { ليحكم بين الناس } يعني يقضي بينهم { فيما اختلفوا فيه } من أمور الدين { وما اختلف فيه } أي الدين { إلا الذين أوتوه } يعني أعطوا الكتاب { من بعد ما جاءتهم البينات } يعني جاءهم البيان من اللّه تعالى { بغيا بينهم } يعني اختلفوا فيه حسدا بينهم { فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } يعني هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل { بإذنه } بتوفيقه ويقال برحمته { واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } يعني الإسلام ويقال فعصم اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بعصمته { واللّه يهدي } من يشاء إلى دين الإسلام ويقال يوفق اللّه بتوفيقه إذا جهدوا في طلب الحق { واللّه يهدي } يعني يوفق من يشاء إلى صراط مستقيم

٢١٤

قوله تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } يقول أظننتم أن تدخلوا الجنة { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم ويقال لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي من قبلكم { مستهم البأساء والضراء } { البأساء } الشدة والبؤس { والضراء } البلاء والأمراض { وزلزلوا } أي حركوا وأجهدوا { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } قال مقاتل يعني شعيبا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو اليسع وقال الكلبي هذا في كل رسول بعث إلى أمته واجتهد في ذلك حتى قال { متى نصر اللّه } قال اللّه تعالى { ألا إن نصر اللّه قريب }

روي عن الضحاك أنه قال يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم { مستهم البأساء والضراء } فيصيبكم مثل ذلك حتى يقول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { متى نصر اللّه }

قال اللّه تعالى { ألا إن نصر اللّه قريب } يعني فتح اللّه تعالى عاجل وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب فأصابهم خوف شديد وكانوا كما

قال اللّه تعالى { وبلغت القلوب الحناجر وتظنون باللّه الظنونا } الأحزاب١٠ فصدق اللّه وعده وأرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهزموا الكفار فذلك قوله تعالى { ألا إن نصر اللّه قريب } قرأ نافع { حتى يقول الرسول } بالرفع على معنى الاستئناف وقرأ الباقون بالنصب على معنى الماضي

٢١٥

قوله تعالى { يسألونك ماذا ينفقون } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما حثهم على الصدقة قال عمرو بن الجموح يا رسول اللّه كم ننفق وعلى من ننفق فنزلت هذه الآية { يسألونك ماذا ينفقون } أي ماذا يتصدقون من أموالهم { قل ما أنفقتم من خير } يعني من مال { فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين فهذا جواب قولهم على من ننفق ونزل جواب قولهم { ماذا ينفقون } قوله تعالى { قل العفو } البقرة ٢١٩ يعني الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة

وقال بعضهم آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها

وقال بعضهم هذه الآية ليست بمنسوخة وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام

ثم قال تعالى { وما تفعلوا من خير فإن اللّه به عليم } يعني يجازيكم به

٢١٦

قوله تعالى { كتب عليكم القتال } أي فرض عليكم القتال { وهو كره لكم } أي شاق عليكم وذلك أن اللّه تعالى لما أمرهم بالجهاد كرهوا الخروج وإنما كانت كراهتهم له لأنه كان في الخروج عليهم مشقة لا أنهم كرهوا فرض اللّه تعالى

ثم قال { وعسى أن تكرهوا شيئا } يعني الجهاد { وهو خير لكم } لأن فيه فتحا وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام { وعسى أن تحبوا شيئا } وهو الجلوس عن الجهاد { وهو شر لكم } لأنه يسلط عليكم عدوكم { واللّه يعلم } أن الجهاد خير لكم { وأنتم لا تعلمون } ذلك حين أحببتم القعود عن الجهاد ويقال { واللّه يعلم } ما كان فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون ذلك خيرا حين أحببتم القعود عن الجهاد

٢١٧

قوله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث عبد اللّه بن جحش مع تسعة رهط في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش فلقوا العير وكان ذلك آخر الشهر فأمر عبد اللّه بن جحش بعض أصحابه فحلق رأسه فلما رآهم المشركون أمنوا وظنوا أنه دخل رجب فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم فعيرهم المشركون بذلك فنزلت هذه الآية { يسألونك عن الشهر الحرام } قال الزجاج معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز فأبدل قتالا من الشهر الحرام

ثم قال تعالى { قل قتال فيه كبير } أي عظيم عند اللّه وتم الكلام

ثم قال { وصد عن سبيل اللّه } يقول منع الناس عن دين اللّه وعن الكعبة أن يطاف بها { وكفر به } أي باللّه تعالى ويقال { وكفر به } أي بالحج

وقوله { المسجد الحرام } وإنما صار خفضا لأنه عطف على سبيل اللّه كأنه قال وصد عن سبيل اللّه وعن المسجد الحرام وكفر باللّه تعالى { وإخراج أهله منه } أي من المسجد { أكبر عند اللّه من القتل } أي أعظم عقوبة عند اللّه من القتل في الشهر الحرام { والفتنة } يعني الشرك { أكبر من القتل } أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام

ثم قال تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } الإسلام إلى دينهم الكفر { إن استطاعوا } أي إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه

ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام فقال { ومن يرتدد منكم عن دينه } يعني الإسلام { فيمت وهو كافر } باللّه تعالى { فأولئك حبطت أعمالهم } أي بطلت حسناتهم { في الدنيا والآخرة } يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب كما قال تعالى في آية أخرى { فجعلناه هباء منثورا } الفرقان ٢٣ وقال في آية أخرى { فلا نقيم لهم يوما القيامة وزنا } الكهف ١٠٥ { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي دائمون

قال الفقيه حدثنا إبراهيم محمد بن سعيد قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن داود قال حدثنا المقدمي عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال حدثنا الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبد اللّه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث رهطا وبعث عبد اللّه بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال لا تكره أحدا من أصحابك على المسير فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال السمع والطاعة للّه ولرسوله فرجع رجلان ومضى بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون قتلهم محمد في الشهر الحرام فأنزل اللّه تعالى الآية { يسألونك عن الشهر الحرام } إلى آخر الآية فقال المشركون لو لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر فنزل قوله تعالى

٢١٨

قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا } من مكة { وجاهدوا في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه بقتل ابن الحضرمي { أولئك يرجون رحمة اللّه } أي ينالون جنة اللّه { واللّه غفور رحيم } بقتالهم في الشهر الحرام ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحا بقوله تعالى { فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة } التوبة ١٣٦ فنهاهم اللّه عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا وأمرهم بالقتال عاما وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز وقال أبو جعفر الطحاوي لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام فقال لا بأس به وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره

 ٢١٩

قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } قال بعض المفسرين إن اللّه لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا وقد أعطى هذه الأمة ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة فكذلك في تحريم الخمر كانوا مولعين بشربها فنزلت هذه الآية { يسألونك عن الخمر والميسر } أي عن شرب الخمر والميسر وهو القمار { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } في تجارتهم { وإثمهما أكبر من نفعهما } فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ولم يتركها بعض الناس وقالوا إنما نأخذ منفعتها ونترك إثمها ثم نزلت هذه الآية { وا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى } النساء ٤٣فتركها بعض الناس وقالوا لا حاجة لنا فيما يمنعنا من الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية { يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب } ( المائدة ٩٠ ) إلى آخر الآية فصارت حراما عليهم حتى كان يقول بعضهم ما حرم علينا من شيء أشد من الخمر

وقيل { إثم كبير } في أخذها ومنافع في تركها

وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له أين تذهب فأخبرهم أنه يريد محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا لا تقصد إليه فإنه يأمرك بالصلاة فقال إن خدمة الرب واجبة فقالوا له إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء فقال اصنطاع المعروف واجب فقيل له إنه ينهى عن الزنى فقال إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه فقيل له إنه ينهى عن شرب الخمر قال أما هذا فإني لا أصبر عنها فرجع وقال أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات

وقال بعضهم في هذه الآية ما دل على تحريمه لأنه سماها إثما وقد حرم الإثم في آية أخرى وهو قوله تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغى } الأعراف ٣٣

وقال بعضهم أراد بالإثم الخمر بدليل قول الشاعر

( شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول )

وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية وكان يقول الناس يطلبون زيادة العقل فأنا لا أنقص عقلي وأما الميسر فكانوا يشترون جزورا ويضربون سهامهم فمن خرج سهمه أولا يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء ومن بقي سهمه آخرا فكان عليه ثمن الجزور كله ولم يكن له من اللحم شيئا وقال عطاء ومجاهد الميسر هو القمار كله حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب قرأ حمزة والكسائي { قل فيهما إثم كبير } بالثاء من الكثرة وقرأ الباقون { كبير } يعني ذنب عظيم ومعنى قوله { إثمهما } بعد التحريم لأكبر من نفعهما قبل التحريم

قوله تعالى { ويسألونك ماذا ينفقون } أي ماذا يتصدقون { قل العفو } يعني الفضل من المال يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله ثم نسخ بآية الزكاة وقرأ أبو عمرو { قل العفو } بالرفع يعني الإنفاق وهو الزكاة وقرأ الباقون بالنصب يعني أنفقوا الفضل { كذلك يبين اللّه لكم الآيات } يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة { لعلكم تتفكرون }

٢٢٠

{ في الدنيا والآخرة } يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم ولا يدوم إلا العمل الصالح وفي الآخرة إنها تدوم وتبقى ولا تزول

وقال بعضهم معناه { كذلك يبين اللّه لكم الآيات في الدنيا } لعلكم تتفكرون في الآخرة

قوله تعالى { ويسألونك عن اليتامى } يقول عن مخالطة اليتامى وذلك أنه لما نزل قوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } النساء ١٠ تركوا مخالطتهم فشق ذلك عليهم وكان عند رجل منهم يتيم فجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة ولا يخالطه بشيء من ماله فقال عبد اللّه بن رواحة يا رسول اللّه قد أنزل اللّه آية في أموال اليتامى ما أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة أفيصلح لنا أن نخالطهم فنزلت هذه الآية { يسألونك عن اليتامى } أي عن مخالطة اليتامى { قل إصلاح لهم خير } من ترك خلطتهم { وإن تخالطولهم } يعني تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة ( فإخوانكم ) أي في الدين ويقال الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم { واللّه يعلم المفسد } لمال اليتيم { من المصلح } لماله يعني لا بأس بالخلطة إذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به

ثم قال تعالى { ولو شاء اللّه لأعنتكم } قال القتبي ولو شاء اللّه لضيق عليكم ولشدد عليكم ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم وقال الزجاج { لأعنتكم } معناه لأهلككم وأصل العنت في اللغة من قول العرب عنت البعير إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء اللّه لكلفكم ما يشتد عليكم وقال الكلبي { ولو شاء اللّه لأثمكم } في مخالطتهم فجعلها حراما { إن اللّه عزيز حكيم } وقد ذكرناه

٢٢١

قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان يأتي مكة ويخرج منها ناسا من المسلمين كانوا بها سرا من أهل مكة فلما قدم مكة جاءته امرأة يقال لها عناق كانت بينهما خلة في الجاهلية فقالت له ألا تخلو بي يا مرثد فقال لها يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك قد حرمت علينا ولكني أسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أتزوجك إن شئت فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سأله عن ذلك فنزلت هذه الآية { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة } يقول نكاح أمة مؤمنة { خير من } نكاح حرة { مشركة ولو أعجبتكم } نكاحها

وقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين } يقول ولا تنكحوا نساءكم المشركين { حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من } تزويج { مشرك } حر { ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار } يعني إلى عمل أهل النار { واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه } يعني إلى التوحيد والتوبة { بإذنه } يعني بأمره ويقال يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه يعني بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها { ويبين آياته للناس } يعني أمره ونهيه في أمر التزويج { لعلهم يتذكرون } أي ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام ويقال إن رجلا من الأنصار أعتق جارية له فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيروه بذلك فنزلت هذه الآية { ولأمة مؤمنة خير من مشركة }

٢٢٢

قوله تعالى { ويسألونك عن المحيض } قال ابن عباس نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له عمرو بن الدحداح سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه كيف نصنع بالنساء إذا حضن أنقربهن أم لا فنزلت { ويسألونك عن المحيض } يقول عن النساء إذا حضن ويقال { يسألونك } عن مجامعة النساء في المحيض { قل هو أذى } يعني الدم هو قذر نجس { فاعتزلوا النساء في المحيض } يقول لا تجامعوهن في حال الحيض { ولا تقربوهن } يعني لا تجامعوهن وهن حيض { حتى يطهرن } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { حتى يطهرن } بتشديد الطاء والهاء والنصب وقرأ الباقون بالتخفيف وأصله يتطهرن فأدغمت التاء في الطاء فمن قرأ { يطهرن } أي يغتسلن ومن قرأ { يطهرن } أي حتى يطهرن من الحيض

قال الفقيه الزاهد نعمل بالقراءتين جميعا فإن كانت المرأة أيام حيضها أقل من عشرة أيام فلا يجوز أن يقربها ما لم تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة وإن كانت أيام حيضها عشرة فإذا انقطع عنها الدم وتمت العشر جاز أن يقربها

ثم قال { فإذا تطهرن } يعني أي اغتسلن من الحيض { فأتوهن من حيث أمركم اللّه } يعني جامعوهن { من حيث أمركم اللّه } يعني من حيث رخص اللّه في موضع الجماع

ويقال لما نزلت هذه الآية { فاعتزلوا النساء في المحيض } اعتزلوا النساء في أيام الحيض وأخرجوهن من البيوت فقدم أناس من الأعراب وقالوا يا رسول اللّه البرد شديد وقد اعتزلنا النساء وليس كلنا يجد سعة لذلك فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن ولم يأمركم أن تخرجوهن من البيوت كما يفعل الأعاجم

ثم قال تعالى { إن اللّه يحب التوابين } يعني من الذنوب والشرك { ويحب المتطهرين } يعني من الجنابة والأحداث ويقال { ويحب المتطهرين } من إتيانهن في الحيض وفي أدبارهن يتنزهون عن ذلك ويقال و { يحب التوابين } من الذنوب و { المتطهرين } الذين لم يذنبوا

فإن قيل كيف قدم بالذكر الذين تابوا من الذنوب على الذي لم يذنب

قيل له إنما قدمهم لكيلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه كما ذكر في آية أخرى { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } فاطر ٣٢

٢٢٣

ثم قال عز وجل { نساؤكم حرث لكم } يقول مزرعة لكم للولد { فأتوا حرثكم } والحرث في اللغة هو الزرع فسمى النساء حرثا على وجه الكناية أي هن للولد كالأرض للزرع

وقوله { أنى شئتم } أي وكيف شئتم إن شئتم مستقبلين وإن شئتم مستدبرين إذا كان في صمام واحد وذلك أن اليهود كانوا يقولون إذا أتاها من خلفها يكون الولد أحول فنزل قوله تعالى { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم { لا ينظر اللّه عز وجل إلى رجل أتى رجلا أو إمرأة في دبرها } وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ملعون من أتى إمرأة في دبرها

ثم قال تعالى { وقدموا لأنفسكم} من الولد الصالح ويقال { قدموا لأنفسكم } من العمل الصالح ويقال سموا اللّه تعالى عند ذلك

ثم قال { واتقوا اللّه } يقول اخشوا اللّه ولا تقربوهن في حال الحيض ولا في أدبارهن { واعلموا أنكم ملاقوه } يعني تصيرون إليه يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم { وبشر المؤمنين } الذين يحافظون حدود اللّه ويصدقون بوعده

٢٢٤

قال عز وجل { ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم } أي علة وأصل العرضة في اللغة هو الاعتراض فكأنه يعترض باليمين في كل وقت فيكون كناية عن العلة

وقيل العرضة أن يحلف الرجل في كل شيء فمنعوا من ذلك { أن تبروا وتتقوا } يعني لكي تبروا وتتقوا لأنهم إذا أكثروا اليمين لم يبروا وبهذا أمر أهل الأيمان وقال الفراء { ولا تجعلوا اللّه عرضة } الحلف باللّه مانعا لكم متعرضا أي مانعا لكم دون البر والتعرض بين الشين المانع وقال القتبي لا تجعلوا اللّه بالحلف مانعا لكم { أن تبروا وتتقوا } ولكن إذا حلفتم على أن لا تصلوا رحما ولا تتصدقوا ولا تصلحوا أو على أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا اليمين وقال الكلبي نزلت في عبد اللّه بن رواحة الأنصاري حين حلف أن لا يدخل على ختنه بشير بن النعمان ولا يكلمه فجعل يقول قد حلفت باللّه أن لا أفعل ولا يحل لي أن لا أبر في يميني فنزل

قوله تعالى { ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم } يقول علة لأيمانكم { أن تبروا } يعني تصلوا قرابتكم وتتقوا اليمين في المعصية وترجعوا إلى ما هو خير لكم منها { وتصلحوا بين الناس } أي بين إخوانكم

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول لا تحلفوا أن لا تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس { واللّه سميع عليم } فمن حلف على ذلك فعلى الذي حلف عليه أن لا يفعل ويكفر عن يمينه وقال الزجاج معنى الآية بأنهم كانوا يقبلون في البر بأنهم قد حلفوا فأعلم اللّه تعالى إن الإثم إنما هو في الإقامة في ترك البر واليمين إذا كفرتها فالذنب فيها مغفور

٢٢٥

ثم قال تعالى { لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم } أي بالإثم في الحلف إذا كفرتم { ولكن يؤاخذكم } بعزمكم على أن لا تبروا ولا تتقوا قال ابن عباس { لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم } هو الرجل يحلف باللّه في شيء يرى أنه فيه صادق ويرى أنه كذلك وليس كذلك فيكذب فيها { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } يعني هو أن يحلف على شيء ويعلم أنه كاذب ويقال { لا يؤاخذكم اللّه باللغو } باليمين إذا حلفتم وكفرتم إذا كان في الحنث خير { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } يعني أثمتم بغير كفارة { واللّه غفور } لمن حنث وكفر يمينه { حليم } حيث رخص لكم في ذلك ولم يعاقبكم

٢٢٦

قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم } يعني الذين يحلفون أن لا يجامعوا نساءهم { تربص أربعة أشهر } يعني لهم أجل أربعة أشهر بعد اليمين { فإن فاءوا } قال القتبي آليت من امرأتي أولى إيلاء والإسم الألية يعني إن رجعوا عن اليمين وجامعوا نساءهم من قبل أن تمضي أربعة أشهر وكفروا عن أيمانهم ولا تبين المرأة عن الزوج { فإن اللّه غفور رحيم }

قوله تعالى { وإن عزموا الطلاق } يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع حتى مضت أربعة أشهر وقعت عليها تطليقة واحدة بمضي أربعة أشهر

وقال بعضهم لا يقع الطلاق ولكن يؤمر الزوج بعد مضي أربعة أشهر أن يجامعها أو يطلقها

وقال بعضهم وقع الطلاق بمضي أربعة أشهر وهو قول علمائنا وروي عن عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن مسعود أنهما قالا عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وذلك

٢٢٧

قوله تعالى { وإن عزموا الطلاق } يعني أوجبوا الطلاق بترك الجماع { فإن اللّه سميع } لمقالتهم بكلمة الإيلاء { عليم } بهم

٢٢٨

قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } يعني وجب عليهن العدة { ثلاثة قروء } أي ثلاث حيض

وقال بعضهم ثلاثة أطهار وقال أكثر أهل العلم المراد به الحيض وأصل القرء الوقت وظاهر الآية عام في إيجاب العدة على جميع المطلقات ولكن المراد بها الخصوص لأنه لم يدخل في الآية خمس من المطلقات الأمة والصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها

ثم قال { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن } يعني الحمل والحيض لا يحل لها أن تقول أنا حائض ولم تكن حائضا أو تقول أنا حامل وليست بحامل { إن كن يؤمن باللّه واليوم الآخر } يعني إن كن يصدقن باللّه واليوم الآخر

قوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } يعني في حال التربص إذا كان الطلاق رجعيا

ثم قال { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } يعني للنساء على الأزواج من الحقوق مثل ما للرجال على النساء في حال التربص بالطلاق رجعيا { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } يقول بما عرف شرعا { وللرجال عليهن درجة } يعني فضيلة في النفقة والمهر { واللّه عزيز حكيم } فيما حكم من الرجعة في الطلاق الذي يملك فيه الرجعة

٢٢٩

ثم بين الطلاق الذي يملك فيه الرجعة فقال تعالى { الطلاق مرتان } يعني يقول الطلاق الذي يملك فيه الرجعة تطليقتان { فإمساك بمعروف } يعني إذا راجعها يمسكها بمعروف ينفق عليها ويكسوها ولا يؤذيها ويحسن معاشرتها { أو تسريح بإحسان } يعني يؤدي حقها ويخلي سبيلها ويقال { أو تسريح بإحسان } يعني يطلقها التطليقة الثالثة ويعطي مهرها ويقال يتركها حتى تنقضي عدتها ويقال يؤدي حقها ويخلي سبيلها ويقال { أو تسريح بإحسان } وقال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية إذا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين كان الرجل أحق بها وإذا طلقها الثالثة كانت المرأة أحق بنفسها واحتج بقول الأعشى كانت لديه امرأة من بني هوزان

( يا رب ذي ضغن وضب فارض ماله قرء كقرء الحائض )

فأخذه بنو هوزان حتى يطلق امرأته فلما طلقها واحدة قالوا له عد فطلقها الثانية فلما طلقها الثانية قالوا له عد فطلقها الثالثة فعرف أنها بانت منه ولا تحل له فقال عند ذلك

( أجارتي بيني فإنك طالقه كذا أمور الناس غاد وطارقه )

( وبيني فإن البين خير من العصا وأن لا تزال فوق رأسك بارقه )

( وذوقي قنى الحي إني ذائق قناة أناس مثل ما أنت ذائقة )

( لقد كان في شبان قومك منكح وفتيان هوزان الطوال العرايقة )

قوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي ابن سول وزوجها ثابت بن قيس وكانت تبغضه فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت لا أنا ولا ثابت فقال لها أتردين عليه حديقته فقالت نعم وزيادة فقال أما الزيادة فلا فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زوجها وخلعها من زوجها فذلك

قوله تعالى { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } من المهر { شيئا } { إلا إن يخافا } يعني يعلما { ألا يقيما حدود اللّه } أي فيما أمروا بها قرأ حمزة { يخافا } بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بالنصب وقرأ ابن مسعود { إلا أن يخافوا }

ثم قال تعالى { فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه } يقول إن علمتم أن لا يكون بينهما إصلاح في المقام { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أي لا حرج على الزوج ان يأخذ مما افتدت به المرأة إن كان النشوز من قبل المرأة فأما إذا كان النشوز من قبل الزوج فلا يحل له أن يأخذ بدليل ما قال في آية أخرى { وءاتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } النساء ٢٠

ثم قال تعالى { تلك حدود اللّه } يعني أحكامه وفرائضه { فلا تعتدوها } يقول لا تجاوزوها { ومن يتعد حدود اللّه } أي يتجاوز أحكام اللّه وفرائضه ويترك ما أمره اللّه تعالى أو يعمل بما نهى عنه { فأولئك هم الظالمون } يقول الضارون بأنفسهم ويقال { تلك حدود اللّه } يعني الطلاق مرتان فلا تجاوزوهما إلى الثالثة { ومن يتعد حدود اللّه } بالتطليقة الثالثة { فأولئك هم الظالمون }

٢٣٠

{ فإن طلقها } أي الثالثة { فلا تحل له من بعد } الثالثة { حتى تنكح زوجا غيره } يعني تتزوج بزوج آخر ويدخل بها وإنما عرف الدخول بالسنة وهو ما روي عن ابن عباس أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا وكانت تدعى أميمة بنت وهب فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير ولم تكن عنده إلا كهدبة الثوب فأتت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقالت إن رفاعة طلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن ولم أكن عنده إلا كهدبة الثوب فقال لها أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة فقالت نعم قال ليس ذلك ما لم تذوقي من عسيلته ويذوق من عسيلتك فذلك

قوله تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يعني إذا طلقها الثالثة

ثم قال تعالى { فإن طلقها } يعني واحدة أو اثنتين { فلا جناح عليهما } يعني المرأة والزوج { أن يتراجعا } ويقال فإن طلقها الزوج الثاني بعدما دخل بها { فلا جناح عليهما } يعني المرأة والزوج الأول أن يتراجعا يعني أن يتزوجها مرة أخرى { إن ظنا } يعني إن علما { أن يقيما حدود اللّه } يعني فرائض اللّه يعني إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني

ثم قال تعالى { وتلك حدود اللّه } يعني فرائض اللّه وأمره ونهيه وأحكامه { يبينها لقوم يعلمون } ويقال إنما قال { لقوم يعلمون } لأن الجاهل إذا بين له فإنه لا يحفظ ولا يتعاهد والعالم يحفظ ويتعاهد فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال

٢٣١

ثم قال عز وجل { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي مضى عليهن ثلاث حيض قبل أن يغتسلن وقبل أن يخرجن من العدة { فأمسكوهن بمعروف } يعني يراجعها ويمسكها بالإحسان

قوله { أو سرحوهن بمعروف } أي لا يراجعها ويتركها حتى تخرج من العدة { ولا تمسكوهن ضرارا } والضرار في ذلك أن يدعها حتى إذا حاضت ثلاث حيض وأرادت أن تغتسل راجعها ثم يطلقها يريد بذلك أن يطول عليها العدة فنهى اللّه تعالى عن ذلك وقال { ولا تمسكوهن ضرارا } { لتعتدوا } يعني لتظلموهن { ومن يفعل ذلك } يعني الإضرار { فقد ظلم بنفسه } يقول أضر نفسه بمعصيته في الإضرار وقال الزجاج { فقد ظلم نفسه } يعني عرض نفسه للعذاب لأن إتيان ما نهى اللّه عنه تعريض لعذاب اللّه لأن أصل الظلم وضع الشيء في غير محله

ثم قال تعالى { ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا } يعني القرآن لعبا ويقال إنهم كانوا يطلقون ولا يعدون ذلك طلاقا ويجعلونه لعبا فنزل { ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا } قرأ عاصم في رواية حفص { هزوا } بغير همز وكذلك قوله { كفوا أحد } الصمد ٤ وقرأ الباقون بالهمز وهما لغتان ومعناهما واحد

ثم قال تعالى { واذكروا نعمة اللّه عليكم } يقول احفظوا نعمة اللّه عليكم بالإسلام يقول { وما أنزل عليكم } في القرآن من المواعظ { والحكمة } يعني الفقه في القرآن { يعظكم به } يقول ينهاكم عن الضرار { واتقوا اللّه } في الضرار { واعلموا أن اللّه بكل شيء عليم } من أعمالكم فيجازيكم به

٢٣٢

قوله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } يقول انقضت عدتهن { فلا تعضلوهن } يقول لا تحبسوهن ولا تمنعوهن { أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } بمهر ونكاح جديد وذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي الدحداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها له وقال لها وجهي من وجهك حرام أن تتزوجيه فنزلت هذه الآية { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف } { ذلك يوعظ به } يعني يؤمر به { من كان منكم يؤمن باللّه واليوم لآخر } يعني يصدق باللّه واليوم الآخر { ذلكم أزكى لكم } يعني خير لكم ويقال أصلح لكم { وأطهر } من الريبة أي الزنا { واللّه يعلم } من حب كل واحد منهما لصاحبه { وأنتم لا تعلمون } ذلك ويقال ذلكم أطهر لقلوبكم من العداوة لأن المرأة تأتي الحاكم فيزوجها فتدخل في قلوبهم العداوة والبغضاء وقال الضحاك { واللّه يعلم } أن الخير في الوفاء والعدل { وأنتم لا تعلمون } ما عليكم في التفريق من العقوبة والعذاب وقال مقاتل فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معقلا فقال إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي الدحداح فقال آمنت باللّه وزوجتها منه وفي هذه الآية دليل أن الولي إذا منع المرأة عن النكاح كان للحاكم أن يزوجها

٢٣٣

قوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } يعني سنتين كاملتين { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي يكمل الرضاعة

فإن قيل لما ذكر الحولين إيش معنى الكاملين

قيل له هذا للتأكيد لأن بعض الحولين يسمى حولين كما قال في آية أخرى { الحج أشهر معلومات } البقرة ١٩٧ وإنما هي شهران وعشرة أيام فهاهنا لما ذكر الكاملين علم أنه أراد الحولين بغير نقصان

ثم قال تعالى { وعلى المولود له رزقهن } يعني على الأب أجر الرضاع ونفقة الأم { وكسوتهن بالمعروف } يعني على قدر طاقتة { لا تكلف نفس إلا وسعها } يعني لا يجب على الأب من النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته

ثم قال { لا تضار والدة بولدها } يقول لا ينزع الولد من الأم لأنها أحق بولدها من غيرها قرأ ابن كثير وأبو عمرو { ولا تضار } بضم الراء على معنى الخبر تبعا لقوله { لا تكلف نفس إلا وسعها } فلفظه لفظ الخبر والمراد به النهي وقرأ الباقون بالنصب على صريح النهي

ثم قال { ولا مولود له بولده } يعني الأب لا يضار بالولد فتطرح الأم الولد على الأب بعدما عرفت أنه لا يقبل ثدي غيرها فلا يجوز لها أن تفعل ذلك فقال { ولا مولود له بولده } يعني إذا كان الأب يجد ظئرا أرخص من الأم والأم أبت أن ترضع إلا بأجر كثير فإن الأب لا يجبر على ذلك وله أن يدفع إلى ظئر أخرى

ثم قال تعالى { وعلى الوارث مثل ذلك } يعني إذا لم يكن للصبي أب وله ورثة سوى الأب فعلى وراث الصبي مثل ما على الأب ويقال على وارث الأب لا يضارها ولا تضاره ويقال { على الوارث مثل ذلك } يعني الرزق والكسوة في رضاع الأم الصبي ونفقته { فإن أرادا فصالا } يعني فطاما { عن تراض منهما وتشاور } يعني الأب والأم دون الحولين ويقال بعد الحولين { فلا جناح عليهما } أي لا حرج عليهما إن لم يرضعاه سنتين { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } يعني أن تأخذوا ظئرا لأولادكم إذا أرادت الأم النكاح { فلا جناح عليكم إذا سلمتم } يعني لا إثم عليكم إذا أعطيتم الظئر { ما آتيتم بالمعروف } بما تعرفونه ويقال أعطيتم ما شرطتم لهن

ثم خوفهما في الإضرار فقال تعالى { واتقوا اللّه } يعني الأبوين فلا يضار واحد منهما لصاحبه { واعلموا أن اللّه بما تعملون بصير } من الإضرار فيجازيكم به قرأ ابن كثير { ما أتيتم } بغير مد يعني ما جئتم وفعلتم وقرأ الباقون بالمد يعني ما أعطيتم

٢٣٤

قوله تعالى { والذين يتوفون منكم } يعني يموتون منكم { ويذرون أزواجا } يعني يتركون نساء من بعدهم { يتربصن بأنفسهن } يعني ينتظرن بأنفسهن { أربعة أشهر وعشرا } لا يتزوجن ولا يتزين ولا يخرجن { فإذا بلغن أجلهن } يعني انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أي فلا أثم عليكم { فيما فعلن في أنفسهن } من الزينة والكحل والخضاب وذلك أن المرأة إذا انقضت عدتها فكان أولياؤها يمنعونها من الزينة فأباح اللّه تعالى لهن الزينة بعد العدة ويقال فلا جناح عليكم { فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } يعني إذا تزوجن بزوج آخر إذا كان الزوج كفوا فلا يمنع من نكاحها { واللّه بما تعملون خبير } من الزينة والمنع من نكاحها وغير ذلك وهذه الآية عامة يستوي فيها المدخولة وغير المدخولة والصغيرة والكبيرة في وجوب العدة من الزينة والمنع وغير ذلك

٢٣٥

قوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } فقد أباح للخاطب أن يتعرض بالنكاح ونهاه عن العقدة والخطبة فقال { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به } يقول لا بأس بأن يأتي الرجل المرأة المتوفى عنها زوجها فيعرض لها ويقول إنك لتعجبيني وإنك لموافقة لي فأرجو أن يكون بيننا اجتماع ونحو ذلك من الكلام فهذا هو التعريض { أو أكننتم في أنفسكم } يعني أضمرتم في أنفسكم قال الزجاج كل شيء سترته فقد أكننته وكننته وهو مكنون فذلك أباح اللّه تعالى التعريض

ثم قال تعالى { علم اللّه أنكم ستذكرونهن } يعني خافوا اللّه في العدة من تزويجهن { ولكن لا تواعدوهن سرا } يعني نكاحا ويقال جماعا وقال القتبي سمي الجماع سرا لأنه يكون في السر فيكنى عنه { إلا أن تقولوا قولا معروفا } يعني عدة حسنة نحو إنك لجميلة وإني فيك لراغب

قوله تعالى { ولا تعزموا عقدة النكاح } يقول ولا تحققوا عقدة النكاح يعني لا تتزوجوهن في العدة { حتى يبلغ الكتاب أجله } يعني حتى تنقضي عدتها { واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم } يعني ما في قلوبكم من الوفاء وغيره { فاحذروه } أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم { واعلموا أن اللّه غفور } ذو تجاوز { حليم } حيث لم يعجل عليكم بالعقوبة

٢٣٦

ثم قال تعالى { لا جناح عليكم } أي لا حرج عليكم { إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } قرأ حمزة والكسائي { تماسوهن } بالألف من المفاعلة وهو فعل بين اثنين وقرأ الباقون بغير ألف لأن الفعل للرجال خاصة

وقال بعضهم المس هو الجماع خاصة فما لم يجامعها لم يجب عليه تمام الصداق

وقال بعضهم إذا جامعها أو خلا بها وجب عليه جميع الصداق إذا كان سمى لها مهرا وإن لم يكن سمى لها مهرا فلها مهر مثلها إن دخل بها وإن لم يدخل بها فلها المتعة فذلك

قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } يعني إذا تزوج الرجل امرأة ثم لم يعجبه المقام معها فلا بأس بأن يطلقها قبل أن يمسها

وقوله تعالى { أو تفرضوا لهن فريضة } يعني لا حرج عليكم أن تتزوجوا النساء ولا تسموا لهن مهرا { ومتعوهن } يعني إذا طلقها قبل أن يدخل بها فعلى الزوج أن يمتعها { على الموسع قدره } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { قدره } بنصب الدال وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد

قوله تعالى { وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف } قال ابن عباس في رواية الكلبي أدنى ما يكون من المتعة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة وهكذا قال في رواية الضحاك { حقا على المحسنين } أن يمتعوا النساء على قدر طاقتهم

٢٣٧

ثم قال عز وجل { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } يعني من قبل أن تجامعوهن وقبل أن تخلوا بهن هكذا قال في رواية الضحاك { وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } يعني على الزوج نصف ما فرض لها من المهر { إلا أن يعفون } يعني إلا أن تترك المرأة فلا تأخذ شيئا { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح } يعني الزوج يكمل لها جميع الصداق { وأن تعفوا أقرب للتقوى } يقول أن يعفو بعضكم بعضا كان أقرب إلى البر فأيهما ترك لصاحبه فقد أخذ بالفضل ويقال إن اللّه تعالى ندب إلى الإنسانية فأمر كل واحد منهما بالعفو

ثم قال تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } يعني لا تتركوا الفضل والإنسانية فيما بينكم في إتمام المهر أو في الترك { إن اللّه بما تعملون بصير } فيجازيكم بذلك

٢٣٨

قوله تعالى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } قال ابن عباس في قوله عز وجل { حافظوا على الصلوات } حافظوا على الصلوات المكتوبات الخمس في مواقيتها بوضوئها وركوعها وسجودها يقول { والصلاة الوسطى } خاصة حافظوا عليها ويقال هي صلاة العصر ويقال هي صلاة الصبح ويقال هي صلاة الظهر

حدثنا القاسم بن محمد بن روزية قال حدثنا عيسى بن خشنام قال حدثنا سويد بن سعيد عن مالك بن أنس أنه بلغه عن علي وابن عباس رضي اللّه عنهما كانا يقولان صلاة الوسطى صلاة الصبح قال مالك وذلك رأيي أخبرنا القاسم بن محمد قال حدثنا عيسى بن خنشام قال حدثنا سويد بن سعيد عن مالك عن داود بن الحصين عن رجل عن زيد بن ثابت قال صلاة الوسطى صلاة الظهر وبهذا الإسناد عن مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن الحكم عن أبي يونس مولى عائشة رضي اللّه عنها أنه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آذنتها فأملت علي { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } صلاة العصر

قال الفقية حدثنا أبو إبراهيم الترمذي عن أبي إسحق عن أبي جعفر محمد بن علي عن نافع مولى ابن عمر قال حدثنا علي بن معبد قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي عن نافع مولى ابن عمر وكان يكتب المصاحف أنه قال استكتبتني حفصة ابنة عمر مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى تأتيني فأمليها عليك كما حفظتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلما بلغتها أتيتها بالورقة فقالت اكتب { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } صلاة العصر ويقال هي قراءة عبد اللّه بن مسعود

وروي عن أبي هريرة وابن عمر أنهما قالا صلاة الوسطى العصر وروي عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن علي رضي اللّه عنه أنه قال كنت ظننت أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول يوم الخندق وقد شغلوه عن صلاة العصر قال ملأ اللّه بطونهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر وإنما كان فائدة التخصيص بصلاة العصر لأن ذلك وقت الشغل فيخاف فوتها ما لا يخاف لسائر الصلوات وقد أكد بالذكر وبطريق المعقول لأن قبلها صلاتي النهار وبعدها صلاتي الليل

وقوله تعالى { وقوموا للّه قانتين } يعني قوموا للّه طائعين في الصلاة مطيعين ويقال صلوا للّه قائمين فكأنه أمر بطول القيام في الصلاة كما قال في آية أخرى { يا مريم اقنتي لربك } آل عمران ٤٣ وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن أفضل الصلاة فقال التي يطيل القنوت فيها يعني القيام ويقال قانتين يعني ساكتين كما روي عن زيد بن أرقم أنه قال كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية { وقوموا للّه قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الزجاج القنوت المشهور في اللغة الدعاء في القيام وحقيقة القانت القائم بأمر اللّه تعالى

٢٣٩

ثم قال تعالى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } يعني إذا خفتم العدو فصلوا قياما فإن لم تستطيعوا فصلوا ركبانا على الدواب حيث ما توجهت بكم بالإيماء وهذا موافق لما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه ذكر صلاة الخوف

ثم قال في آخره فإن كان الخوف أشد من ذلك صلوا على أقدامكم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها { فإذا أمنتم } يعني من العدو والخوف { فاذكروا اللّه كما علمكم } يعني صلوا كما علمكم أربعا وعلمكم { ما لم تكونوا تعلمون } يعني علمكم الصلاة ولم تكونوا تعلمون من قبل

٢٤٠

ثم قال عز وجل { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } يعني يموتون ويتركون نساءهم من بعدهم { وصية لأزواجهم } يعني يوصون لنسائهم قرأ ابن كثير ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وصية بالضم يعني عليهم وصية وقرأ الباقون بالنصب يعني يوصون وصية لأزواجهم { متاعا } أي نفقة وكسوة { إلى الحول غير إخراج } يقول لا يخرجن من بيت أزواجهن وهذا في أول الشريعة كانت العدة حولا وهكذا كان في الجاهلية ألا ترى إلى قول لبيد

( وهم ربيع للمجاور فيهم والمرملات إذا تطاول عامها )

ثم نسخ ما زاد على الأربعة أشهر وعشرا ونسخت الوصية للأزواج بقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا وصية لوارث ويقال نسخ بآية الميراث

ثم قال تعالى { فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف } يعني من الزينة يحتمل أنه أراد به الخروج بعد مضي سنة ويحتمل الخروج في السنة إذا خرجت بعذر في أمر لا بد لها منه { واللّه عزيز حكيم } وقد ذكرناه

٢٤١

قوله تعالى { وللمطلقات متاع بالمعروف } والمطلقات أربع مطلقة سمى لها مهرا ومطلقة لم يسم لها مهرا ومطلقة دخل بها ومطلقة لم يدخل بها فالمتعة لا تكون واجبة إلا لمطلقة واحدة وهي التي لم يسم لها مهرا وطلقها قبل الدخول كما ذكر في الآية التي سبق ذكرها وفي سائر المطلقات المتعة مستحبة وليست بواجبة { حقا على المتقين } يعني واجبا على المتقين وذلك فيما بينه وبين اللّه تعالى فلا يجبر عليه إلا في المطلقة التي ذكرناها

 

٢٤٢

{ كذلك يبين اللّه لكم آياته } يعني أمره ونهيه { لعلكم تعقلون } ما أمرتم به ويقال آياته يعني دلائله ويقال { آياته } يعني القرآن

٢٤٣

قوله تعالى { ألم تر إلى الذين خرجوا } يقول ألم تخبر وهذا على سبيل التعجب كما يقال ألا ترى إلى ما صنع فلان ويعنى { ألم تر } ويقال ألم تعلم ويقال ألم ينته إليك خبرهم أي الآن نخبرك عنهم قال ابن عباس رضي اللّه عنه وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر الناس بالخروج إلى الغزو فخرجوا فبلغهم أن في ذلك الموضع طاعونا فامتنعوا عن الخروج إلى هناك ونزلوا في موضعهم فهلكوا كلهم فبلغ خبرهم إلى بني إسرائيل فخرجوا ليدفنوهم فعجزوا عن ذلك لكثرتهم فحظروا عليهم الحظائر ثم أحياهم اللّه تعالى بعد ثمانية أيام وبقيت منهم بقايا لم تحيى

وقال بعضهم بلغهم أن هناك للعدو شوكة وقوة فامتنعوا عن الخروج إليهم فأهلكهم اللّه تعالى

وقال بعضهم أن أرضا كان وقع بها الوباء فخرج الناس منها هاربين فنزلوا منزلا فماتوا كلهم فمر بهم نبي يقال له حزقيل عليه السلام فقال الحمد للّه القادر الذي يحيي هذه النفوس البالية ليعبدوه فدعا لهم فأحياهم اللّه تعالى فذلك

قوله تعالى { إلم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } قال ابن عباس في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك ثمانية آلاف ويقال سبعون ألفا ويقال ثمانية عشر ألفا

وقال بعضهم { وهم ألوف } كما قال اللّه تعالى ولا يعرف كم عددهم إلا اللّه { حذر الموت } يعني خرجوا من ديارهم مخافة الموت { فقال لهم اللّه موتوا } يعني أماتهم اللّه { ثم أحياهم إن اللّه لذو فضل على الناس } يعني على أولئك الكفار حين أحياهم يقال هو ذو من على جميع الناس ويقال على الذين أحياهم { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } رب هذه النعمة يعني الكفار ويقال على الذين أحياهم

وفي هذه الآية دلالة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أخبر عمن قبله ولم يكن قرأ الكتب فظهر ذلك عند اليهود والنصارى وعرفوا أنه حق وفي هذه الآية إبطال قول من يقول إن الإحياء بعد الموت لا يجوز وينكر عذاب القبر لأن اللّه تعالى يخبر أنه قد أماتهم ثم أحياهم

٢٤٤

ثم قال عز وجل { وقاتلوا في سبيل اللّه } قال ابن عباس في رواية أبي صالح لما أحياهم اللّه قال لهم { قاتلوا في سبيل اللّه } ويقال هذا أمر بالجهاد لأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال لهم { وقاتلوا في سبيل اللّه } { واعلموا أن اللّه سميع عليم } أي { سميع } لمقالتهم { عليم } بالأرض التي وقع فيها الوباء

٢٤٥

قوله تعالى { من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا } نزلت في شأن أبي الدحداح قال يا رسول اللّه إن لي حديقتين لو تصدقت بواحدة منهما أيكون لي مثلها في الجنة قال نعم قال وأم الدحداح معي يعني امرأته قال نعم قال والدحداح معي يعني ابنه فقال نعم قال أشهدك أني قد جعلت حديقتي للّه تعالى ثم جاء إلى الحديقة وقام على الباب وتحرج الدخول فيها بعدما جعلها للّه تعالى ونادى يا أم الدحداح اخرجي فإني جعلت حديقتي للّه تعالى فخرجت وتحولت إلى حديقة أخرى وقالت له هنيئا لك بما فعلت أو كما فعلت فنزل قوله تعالى { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } يعني ألفي ألف ضعف

قال الفقيه حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا المعلى بن منصور قال حدثنا جعفر قال حدثنا علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي قال بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال إن اللّه تعالى يكتب للعبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام لألقى أبا هريرة فأكلمه في هذا الحديث فلقيته فأخبرته فقال ليس كذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك عني وإنما قلت ألفي ألف حسنة

ثم قال أبو هريرة أو لستم تجدون في كتاب اللّه تعالى

قوله { من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } قوله { كثيرة } أكثر من ألف ألف ومن ألفي ألف

ثم قال عز وجل { واللّه يقبض } أي يقتر الرزق على من يشاء { ويبسط } يعني يوسع على من يشاء من عباده ويقال يقبض الصدقات ويخلفها الثواب في الدنيا وفي الآخرة

وقال بعضهم يسلب قوما ما أنعم عليهم ويوسع على آخرين { وإليه ترجعون } في الآخرة قرأ حمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو { فيضاعفه } بالألف وبضم الفاء وقرأ عاصم { فيضاعفه } بالألف وبنصب الفاء وقرأ ابن كثير { فيضعفه } بغير ألف بنصب الفاء فأما من قرأ { فيضاعفه } بالألف والضم { يضعفه } فهما لغتان بمعنى واحد يقال ضاعفت الشيء وضعفته ومن قرأ بضم الفاء عطفه على قوله { يقرض اللّه } ومن نصبه فعلى جواب الاستفهام وقرأ نافع { يبصط } بالصاد وقرأ الباقون بالسين وهو أظهر عند أهل اللغة وفي كل موضع يكون الصاد قريبا من الطاء جاز أن يقرأ بالسين وبالصاد مثل المصيطرون ومثل الصراط لأنه يشتد فرق الصاد عند ذلك فيجوز القراءة بالسين

٢٤٦

وقوله تعالى { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } يعني الرؤساء والقادة

وقال بعضهم اشتقاق الملأ في اللغة من الملأ هو الجماعة التي تملأ باديتهم

وقال بعضهم الناظر إذا نظر إليهم امتلأ عينه هيبة منهم وذلك ان كفار بني إسرائيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وكان رئيسهم جالوت فلما اضطر المسلمون في ذلك جاؤوا إلى نبي لهم يقال له أشمويل بن هلقانا عليه السلام بلغة العبرانية وبالعربية إسماعيل بن هلقان { إذ قالوا لنبي لهم } يعني أشمويل { ابعث لنا ملكا } يعني ادع اللّه تعالى لنا أن يجعل لنا ملكا { نقاتل في سبيل اللّه } { قال } لهم أشمويل { هل عسيتم } قرأ نافع { هل عسيتم } بكسر السين وقرأ الباقون بالنصب وهي اللغة المعروفة والأول لغة لبعض العرب { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } يعني إذا بعث اللّه لكم ملكا وفرض عليكم القتال لعلكم لا تقاتلون وتجبنون عن القتال { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل اللّه } يقول كيف لا نقاتل في سبيل اللّه { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } يعني أخذوا ديارنا وسبوا أبنائنا { فلما كتب عليهم القتال } يعني فرض عليهم القتال { تولوا } وتركوا القتال ولم يثبتوا { إلا قليلا منهم } وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا { واللّه عليم بالظالمين } يعني أن اللّه تعالى يعلم جزاء من تولى عن القتال

٢٤٧

ثم بين لهم القصة بقوله تعالى { وقال لهم نبيهم إن اللّه قد بعث لكم } يعني قد أجابكم ربكم إلى ما سألتم من بعث ملك تقاتلون في سبيل اللّه معه وقد جعل لكم { طالوت ملكا } وكان طالوت فيهم حقير الشأن وكانت النبوة في بني لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهوذا ولم يكن طالوت من أهل بيت الملك ولا من أهل بيت النبوة ويقال كان رجلا يبيع الخمر ويقال كان دباغا ولكنه كان عالما فرفعه اللّه بعلمه { قالوا أنى يكون له الملك علينا } يعني المسلمون قالوا لنبيهم من أين يكون له الملك علينا { ونحن أحق بالملك منه } لأن منا الملوك { ولم يؤت } طالوت { سعة من المال } ينفق علينا والملك يحتاج إلى مال ينفق على جنوده وأعوانه

{ قال } لهم نبيهم عليه السلام { إن اللّه اصطفاه عليكم } يعني اختاره عليكم { وزاده بسطة } أي فضيلة { في العلم والجسم } وكان رجلا جسيما وكان عالما بأمر الحرب { واللّه يؤتي ملكه من يشاء واللّه واسع عليم } والواسع في اللغة هو الغني ويقال { واسع } بعطية الملك { عالم } لمن يعطيه ويقال { واسع } يعني باسط الرزق { عليم } بمن يصلح له الملك فظنوا أنه يقول لهم من ذات نفسه وقالوا له إن كان اللّه تعالى أمرك بذلك فأتنا بآية

٢٤٨

{ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وذلك أن الكفار كانوا أخذوا التابوت وكان التابوت للمسلمين فإذا خرجوا للغزو والتابوت معهم كانوا يرجون الظفر فأخذ الكفار التابوت ووضعوه في مخرأة لهم فابتلاهم اللّه تعالى بالباسور ويقال أن أصل الباسور من ذلك الوقت وأصل الجذام من وقت أيوب عليه السلام وتغير الطعام من قبل بني إسرائيل فجعل اللّه تعالى آية ملك طالوت رد التابوت إليهم فذلك

قوله تعالى { إن آية ملكه } يعني علامة ملكه { أن يأتيكم التابوت } { فيه سكينة من ربكم } قال الكلبي طمأنينة من ربكم إذا كان التابوت في مكان اطمأنت قلوبهم بالظفر وقال مقاتل السكينة كانت دابة ورأسها كرأس الهرة ولها جناحان فإذا صوتت عرفوا أن النصرة لهم ويقال كانت جوهرا أحمر يسمع منه الصوت ويقال كانت ريحا تهب فيها لها صوت يعرفون أن النصرة لهم عند الصوت

وقوله تعالى { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } يعني الرضراض من من في الألواح وقفيزا من طست من ذهب وعصا موسى وعمامة هارون قال الكلبي وكان التابوت من عود الشمشاذ الذي يتخذ منه الأمشاط فلما ابتلاهم اللّه تعالى بالباسور عرفوا أن ذلك من التابوت فقالوا لعل إله بني إسرائيل الذي فينا يعنون التابوت هو الذي يفعل بنا هذا الفعل فأخرجوا بقرتين من المدينة وتركوا أولادهما في المدينة وربطوا التابوت على عجلة ثم ربطوا العجلة بالبقرتين ثم وجهوهما نحو بني إسرائيل فضربت الملائكة جنوبهما فساقوهما حتى هجموا بهما على أرض بني إسرائيل فأصبحوا والتابوت بين أظهرهم فذلك قوله تعالى { تحمله الملائكة } يعني الملائكة ساقوا العجلة { إن في ذلك لآية لكم } يعني إن في رد التابوت علامة لملك طالوت { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين بأن ملكه من اللّه تعالى فعرفوا وأطاعوه

٢٤٩

وقوله تعالى { فلما فصل طالوت بالجنود } يعني فتجهز طالوت وخرج بالجنود وهم سبعون ألفا فساروا في حر شديد فأصابهم عطش شديد فسألوا طالوت الماء ف { قال } لهم طالوت { إن اللّه مبتليكم بنهر } وهو بين الأردن وفلسطين وإنما كان الابتلاء ليظهر عند طالوت من كان مخلصا في نيته من غيره وأراد أن يميز عنهم من لا يريد القتال لأي من لا يريد القتال إذا خالط العسكر يدخل الضعف والوهن في العسكر لأنه إذا انهزم وهرب ضعف الباقون ويقال إن أشمويل هو الذي اخبر طالوت بالوحي حتى اخبر طالوت قومه حيث قال { إن اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني } يعني ليس معي على عدوي إذا شرب بغير غرفة { ومن لم يطعمه فإنه مني } يعني لم يشرب منه بغير غرفة { فإنه مني } أي معي على عدوي { إلا من اغترف غرفة بيده } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { غرفة } بنصب الغين وقرأ الباقون برفع الغين فمن قرأ بالنصب يكون مصدر غرفة أي مرة واحدة باليد ومن قرأ بالضم هو ملء الكف وهو اسم الماء مثل الخطوة والخطوة قال بعض المفسرين الغرفة بكف واحدة والغرفة بالكفين

وقال بعضهم كلاهما لغتان ومعناها واحد فلما خرجوا من المفازة وقد أصابهم العطش وقفوا في النهر { فشربوا منه } بغير غرفة { إلا قليلا منهم } وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا

وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لأصحابه يوم بدر أنتم على عدد المرسلين وعدد قوم طالوت ثلاثمائة وثلاثة عشر فأمر من شرب بغير غرفة أن يرجعوا ويقال قد ظهر على شفاههم علامة عرف بها من شرب من الذي لم يشرب فردهم وأمسك المخلصين منهم { فلما جاوزه } أي النهر { هو } يعني طالوت { والذين آمنوا معه } أي المؤمنون ودنوا إلى عسكر جالوت وكان معه مائة ألف فارس كلهم شاكون في السلاح { قالوا } المؤمنون { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لما رأوا من كثرتهم { قال الذين يظنون أنهم ملاقو اللّه } يعني أيقنوا بالموت لما رأوا من كثرة العدو فأيقنوا بهلاك أنفسهم ويقال أيقنوا بالبعث بعد الموت وهو

قوله تعالى { قال الذين يظنون أنهم ملاقو اللّه } وهم أهل العلم منهم { كم من فئة قليلة} يعني كم من جند قليل{غلبت فئة كثيرة } عدتهم { بإذن اللّه } أي بنصر اللّه وأمره إذا خلصت نيتهم وطابت أنفسهم بالموت في طاعة اللّه { واللّه مع الصابرين } بالنصر على عدوهم يعني معينهم

 

٢٥٠

قوله تعالى { ولما برزوا لجالوت وجنوده } يقول خرجوا واصطفوا لجالوت دعوا اللّه تعالى { قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا } يقول أصبب علينا صبرا معناه ارزقنا الصبر على القتال { وثبت أقدامنا } عند القتال { وانصرنا على القوم الكافرين }

قال وكان داود عليه السلام راعيا وكان له سبعة أخوة مع طالوت فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم وكان اسمه إيشا أرسل إليهم ابنه داود ينظر إليهم ما أمرهم ويأتيه بخبرهم فلما خرج مر على حجر فقال له الحجر خذني فإني حجر إبراهيم الذي قتل بي عدوه فأخذه وجعله في مخلاته ثم مر بآخر فقال له خذني فإني حجر موسى الذي قتل بي كذا كذا ثم مر بثالث فقال له خذني فأنا الذي أقتل جالوت فأخذه وجعله في مخلاته فأتاهم وهم بالصفوف وقد برز جالوت فقال من يبارزني فلم يخرج إليه أحد

ثم قال يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لخرج إلي بعضكم فقال داود لإخوته أما فيكم أحد يخرج إلى هذا الأقلف فقالوا له اسكت فذهب داود إلى ناحية من الصف ليس فيها أحد من إخوته فمر طالوت به وهو يحرض الناس فقال له داود وما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف قال طالوت انكحه ابنتي واجعل له نصف ملكي قال داود فأنا أخرج إليه فأعطاه طالوت درعه وسيفه فلما خرج في الدرع جرها لأن طالوت كان أطول الناس فرجع داود إلى طالوت وقال إني لم أتعود القتال في الدرع فرد الدرع إليه فقال له طالوت فهل جربت نفسك قال نعم وقع ذئب في غنمي فضربته بالسيف فقطعته نصفين فقال له طالوت إن الذئب ضعيف فهل جربت نفسك في غير هذا قال نعم دخل أسد في غنمي فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتها فقال له هذا أشد

ثم قال له ما اسمك قال داود بن إيشا فعرفه فرأى أنه أجلد إخوته فأخذ قذافته وخرج فلما رآه جالوت قال خرجت إلي لتقتلني بالقلاعة كما يقتل الكلاب فقال له داود وهل أنت إلا مثل الكلب قال الكلبي وكان على رأس جالوت بيضة ثلاثمائة رطل فقال له جالوت إما أن ترميني وأما أن أرميك فقال له داود بل أنا أرميك ثم أخذ واحدا من الأحجار فرماه فوقع في صدره ونفذ من صدره وقتل خلفه خلقا كثيرا

وقال بعضهم صارت الأحجار كلها واحدة فلما رماها تفرقت في عسكره فقتلت خلقا كثيرا

وقال بعضهم رمى واحدا بعد واحد فقتل جالوت وخلقا كثيرا وهزمهم بإذن اللّه فذلك

٢٥١

قوله عز وجل { فهزموهم بإذن اللّه وقتل داود جالوت } ثم إن طالوت زوج داود ابنته وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه فقال له وزراؤه لو دفعت إليه نصف ملكك فيصير منازعا لك في ملكك ويفسد عليك الملك فامتنع من ذلك وأراد قتل داود عليه السلام وكان في ذلك ما شاء اللّه حتى دفع إليه النصف ثم خرج طالوت إلى بعض المغازي فقتل هناك فتحول الملك كله إلى داود ولم يجتمع بنو إسرائيل كلهم على ملك واحد إلا على داود فذلك قول عز وجل { وآتاه اللّه الملك } يعني ملك اثني عشر سبطا { والحكمة } يعني النبوة وأنزل عليه الزبور أربعمائة وعشرين سورة { وعلمه مما يشاء } يعني ما يشاء داود من صنع الدروع وكلام الطيور وتسبيح الجبال معه ويقال ما شاء اللّه من الزبور وكلام الطيور وتسبيح الطيور معه

ثم قال تعالى { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض } أي يدفع البلاء عن المؤمنين بالنبيين عليهم السلام ويدفع بالمؤمنين عن الكفار { لفسدت الأرض } يعني هلك أهلها ويقال { ولولا دفع اللّه } جالوت بطالوت لهلكت بني إسرائيل كلهم ويقال { ولولا دفع اللّه } البلايا بسبب المطيعين لهلك الناس كما جاء في الأثر لولا رجال خشع وصبيان رضع وبهائم رتع لصببت عليكم العذاب صبا

وروي عن الحسن أنه قال لولا الصالحون لهلك الطالحون ويقال لولا أمر اللّه تعالى المسلمين بحرب الكفار لفسدت الأرض بغلبة الكفار ويقال لولا ما ينتفع بعض الناس ببعض لأن في كل أرض بلدة يتولد منها شيء لا يوجد ذلك في سائر البلدان فينتفع به أهل سائر البلدان وينتفع بعضهم ببعض فيكون في ذلك صلاح أهل الأرض

قرأ نافع هاهنا { ولولا دفاع اللّه } وفي الحج { يدافع } وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف في كلا الموضعين وقرأ حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر { ولولا دفع اللّه } بغير ألف { إن اللّه يدافع } الحج٣٨ بالألف وتفسير القراءتين واحد وهما لغتان معروفتان

ثم قال تعالى { ولكن اللّه ذو فضل } أي ذو من { على العالمين } برفع البلايا عنهم

٢٥٢

ثم قال عز وجل { تلك آيات اللّه نتلوها } وهو ما قص عليه من أخبار الأمم { عليك } يعني ننزلها بقراءة جبريل عليك { بالحق } يعني بالصدق { وإنك لمن المرسلين } يعني إنك من جملة المرسلين الذين ذكرناهم وقال الزجاج { تلك آيات اللّه } أي هذه الآيات التي أبنأت أي العلامات التي تدل على توحيد وتثبيت رسالاته إذ كان يعجز عن إتيان مثلها المخلوقون وإنك من هؤلاء المرسلين لأنك قد أتيتهم بالعلامات

٢٥٣

ثم قال عز وجل { تلك الرسل } الذين أنزلنا عليك في القرآن خبرهم { فضلنا بعضهم على بعض } في الدنيا ويقال التفضيل يكون على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون دلالة نبوته أكثر والثاني أن تكون أمته أكثر والثالث أن يكون بنفسه أفضل ثم بين تفضيلهم فقال { منهم من كلم اللّه } يعني مثل موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } يعني إدريس عليه السلام حيث قال { ورفعناه مكانا عليا } مريم ٥٧ وقال الزجاج جاء في التفسير يعني أنه أراد به محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه أرسله إلى الناس كافة وليس شيء من الآيات التي أعطاها اللّه الأنبياء إلا وقد أعطى محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر لأنه قد كلمته الشجرة وأطعم من كف من التمر خلقا كثيرا وأمر يده على شاة أم معبد فدرت لبنا كثيرا بعد الجفاف ومنها انشقاق القمر فذلك قوله { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } الزخرف ٣٢ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } يعني العجائب والدلائل وهو أن يحيي الموتى بإذنه ويبرئ الأكمة والأبرص { وأيدناه بروح القدس } يعني أعناه بجبريل حين أرادوا قتله

ثم قال تعالى { ولو شاء اللّه ما أقتتل الذين } يعني ما اختلف الذين { من بعد ما جاءتهم البينات } التي أتاهم بها مثل موسى وعيسى عليهما السلام وقال الزجاج يحتمل وجهين يحتمل ولو شاء اللّه ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة ويحتمل ولو شاء اللّه أضطرهم إلى أن يكونوا مؤمنين كما قال تعالى { ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى } الأنعام ٣٥ ولكن اختلفوا في الدين فصاروا فريقين { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } بالكتاب والرسل { ولو شاء اللّه ما اقتتلوا } فجعلهم على أمر واحد { ولكن اللّه يفعل ما يريد } يعني يعصم من يشاء من الاختلاف ويخذل من يشاء ولا مرد لأمره ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون

٢٥٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } يعني تصدقوا قال بعضهم أراد به الزكاة المفروضة

وقال بعضهم صدقة التطوع ثم بين لهم أن الدنيا فانية وأنه في الآخرة لا ينفعهم شيء إلا ما قدموه فقال { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } يقول لا فداء فيه { ولا خلة } يعني لا صداقة وهذا كما قال في آية أخرى { مستكبرين به سامرا تهجرون } الزخرف ٦٧ { ولا شفاعة } للكافرين كما تكون في الدنيا

قرأ ابن كثير وأبو عمرو { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } بالنصب وكذلك في سورة إبراهيم { لا بيع فيه ولا خلال } وقرأ الباقون بالضم مع التنوين

ثم قال عز وجل { والكافرون هم الظالمون } يظلمون أنفسهم والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه وكان المشركون يقولون الأصنام شركاؤه وهم شفعاؤنا عند اللّه فوحد اللّه نفسه فقال

٢٥٥

قال عز وجل { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم } يقول لا خالق ولا رازق ولا معبود إلا هو ويقال الإثبات إذا كان بعد النفي فإنه يكون أبلغ في الإثبات فلهذا قيل لا إله إلا اللّه فبدأ بالنفي ثم استثنى الإثبات فيكون ذلك أبلغ في الإثبات { الحي القيوم } يقول { الحي } الذي لا يموت ويقال { الحي } الذي لا بدئ له يعني لا ابتداء له { القيوم } يعني القائم على كل نفس بما كسبت ويقال القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم ورزقهم ومعنى القائم هو الدائم

قوله تعالى { لا تأخذه سنة ولا نوم } روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال السنة والنوم كلاهما واحد ولكنه أول ما يدخل في الرأس يقال له سنة ويكون بين النائم واليقظان فإذا وصل إلى القلب صار نوما ويقال معناه أنه ليس بغافل عن أمور الخلق فيكون النوم على وجه الكناية

وقال بعضهم هو على ظاهره أنه مستغن عن النوم

وروي في بعض الأخبار أن موسى بن عمران عليه السلام حين رفع إلى السماء سأل بعض الملائكة أينام ربنا

وقال بعضهم خطر ذلك بقلبه ولم يتكلم به فأمره اللّه تعالى أن يأخذ زجاجتين في يده وأمره بأن يحفظهما ثم ألقى عليه النوم فلم يملك نفسه حتى نام فانكسرت الزجاجتان في يده فقال له يا موسى لو كان لي نوم لهلكت السموات والأرض أسرع من كسر الزجاجتين في يدك فذلك قوله تعالى { لا تأخذه سنة ولا نوم }

ثم قال تعالى { له ما في السموات وما في الأرض } كلهم عبيده وإماؤه وهو مستغن عن الشريك ويقال معناه أن كل ما في السموات والأرض يدل على وحدانيته

ثم قال { من ذا الذي يشفع عنده } يقول من ذا الذي يجترئ أن يشفع عنده { إلا بإذنه } أي دون أمره ردا لقولهم حيث قالوا هم شفعاؤنا عند اللّه وفي الآية دليل على إثبات الشفاعة لأنه قال { إلا بإذنه } ففيه دليل على أن الشفاعة قد تكون بإذنه للأنبياء والصالحين

ثم قال تعالى { يعلم ما بين أيديهم } يعني اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم هو الذي يعلم ما بين أيديهم من أمور الدنيا يعني يعلم أنهم لا يدعون الألوهية { وما خلفهم } يعني يعلم أنه لا شفاعة لهم وقال مقاتل { يعلم ما بين أيديهم } يعني ما كان قبل خلق الملائكة { وما خلفهم } أي ما يكون بعد خلقهم قال الزجاج يعني يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم وقال الكلبي { يعلم ما بين أيديهم } من أمر الآخرة { وما خلفهم } من أمر الدنيا

ثم قال تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه } يعني الملائكة لا يعلمون الغيب لأن بعض الناس يعبدون الملائكة ويرجون شفاعتهم فأخبر أنهم لا يملكون شيئا ولا يعلمون مما تقدمهم ولا مما بعدهم إلا بما أنبأهم اللّه تعالى ويقال لا يدركون جميع علمه والإحاطة في اللغة إدراك الشيء بكماله { إلا بما شاء } فيعلمهم ثم أخبر عن عظمته فقال تعالى { وسع كرسيه السموات والأرض } يعني ملأ كرسيه السموات والأرض

وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال السموات السبع والأرضون السبع تحت الكرسي كحلقة بأرض فلاة وهكذا قال الكلبي ومقاتل

وقال بعضهم الكرسي المكان الذي خلق اللّه فيه السموات والأرض

وقال بعضهم الكرسي والعرش واحد ولكنه مرة ذكر بلفظ العرش ومرة ذكر بلفظ الكرسي

وقال بعضهم الكرسي غير العرش

قال الفقيه حدثنا عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة وهو عاصم بن أبي النجود صاحب الفراء عن زر بن حبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين الكرسي وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام وبين الكرسي وبين الماء مسيرة خمسمائة عام والعرش فوق الماء واللّه فوق العرش أي بالعلو والقدرة يعلم ما أنتم عليه

وقال الزجاج قال ابن عباس { وسع كرسيه } يعني علمه وقال قوم { كرسيه } قدرته التي يمسك بها السموات والأرض وهذا قريب من قول ابن عباس ثم أخبر عن قدرته { ولا يؤوده حفظهما } يقول ولا يثقله حفظهما يعني حفظ السموات والأرض { وهو العلي } أي الرفيع تعالى فوق خلقه { العظيم } يعني أعلى وأعظم من أن يتخذ شريكا ويقال يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة أوجه وجه إنسان ووجه ثور ووجه أسد ووجه نسر أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين هكذا قال الكلبي ومقاتل ويقال يدعو بالوجه بالذي كوجه الإنسان لبني آدم ويسأل اللّه تعالى لهم الرزق والرحمة والمغفرة وبالوجه الذي كوجه الثورة يدعو للأنعام بالرزق وبالوجه الذي كوجه الأسد يدعو للوحوش وبالوجه الذي كوجه النسر يدعو للطير

وروي عن محمد بن الحنفية أنه قال لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في دار الدنيا وخر كل ملك في الدنيا على وجهه وسقطت التيجان عن رؤوسهم وهربت الشياطين يضرب بعضهم بعضا فاجتمعوا إلى إبليس وأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك فجاؤوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال من قرأ آية الكرسي خلف كل صلاة أعطاه اللّه تعالى صلاة الشاكرين وصلاة المطيعين وصلاة الصابرين ولا يمنعهم دخول الجنة إلا الموت

٢٥٦

قوله تعالى { لا إكراه في الدين } يعني لا تكرهوا في الدين أحدا بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب { قد تبين الرشد من الغي } يعني قد تبين الهدى من الضلالة ويقال قد تبين الإسلام من الكفر فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية ولا يكره على الإسلام { فمن يكفر بالطاغوت } يعني بالشيطان ويقال الصنم ويقال هو كعب بن الأشرف { ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } يعني لا انقطاع لها ولا زوال لها ولا هلاك لها ويقال قد استمسك بالدين الذي لا انقطاع له من الجنة { واللّه سميع } لقولهم { عليم } بهم

٢٥٧

ثم قال عز وجل { اللّه ولي الذين آمنوا } يعني حافظهم ومعينهم وناصرهم { يخرجهم من الظلمات إلى النور } يعني من الكفر إلى الإيمان واللفظ للمستقبل والمراد به الماضي أي أخرجهم ويقال يثبتهم على الاستقامة كما أخرجهم من الظلمات أي من ظلمة الدنيا ومن ظلمة القبر ومن ظلمة الصراط إلى الجنة { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } يعني اليهود أولياؤهم كعب بن الأشرف وأصحابه ويقال المشركون أولياؤهم الشياطين { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } يعني يدعونهم إلى الكفر كما قال في آية أخرى { أن أخرج قومك } إبراهيم ٥ يعني ادع قومك { أولئك أصحاب النار } يعني أهل النار { هم فيها خالدون } أي دائمون

٢٥٨

ثم قال عز وجل { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } يقول ألم تخبر قصة الذي خاصم إبراهيم في توحيد ربه { أن آتاه اللّه الملك } وهو نمروذ بن كنعان وهو أول من ملك الدنيا كلها وكانوا خرجوا إلى عيد لهم فدخل إبراهيم عليه السلام على أصنامهم فكسرها فلما رجعوا قال لهم أتعبدون ما تنحتون فقالوا له من تعبد أنت قال أعبد ربي الذي يحيي ويميت

وقال بعضهم كان نمروذ يحتكر الطعام وكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام كانوا يشترون منه فإذا دخلوا عليه سجدوا له فدخل عليه إبراهيم فلم يسجد له فقال له نمروذ ما لك لم تسجد لي فقال أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ من ربك فقال له إبراهيم ( ربي الذي يحيي ويميت قال ) له نمروذ { أنا أحيي وأميت } قال إبراهيم كيف تحيي وتميت فجاءه برجلين فقتل أحدهما وخلى سبيل الآخر ثم قال قد أمت أحدهما وأحييت الآخر { قال } له { إبراهيم } إنك أحييت الحي ولم تحيي الميت وإن ربي يحيي الميت فخشي إبراهيم أن يلبس نمروذ على قومه فيظنون أنه أحيا الميت كما وصف لهم نمروذ فجاءه بحجة أظهر من ذلك قال إبراهيم { فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب }

فإن قيل لم يثبت إبراهيم على الحجة الأولى وانتقل إلى حجة أخرى والانتقال في المناظرة من حجة إلى حجة غير محمود

قيل له الانتقال على ضربين انتقال محمود إذا كان بعد الإلزام وانتقال مذموم إذا كان قبل الإلزام وإبراهيم عليه السلام انتقل بعد الإلزام لأنه قد بين له فساد قوله حيث قال إنك قد أحييت الحي ولم تحيي الميت وجواب آخر إن قصد إبراهيم عليه السلام لم يكن للمناظرة وإنما كان قصده إظهار الحجة فترك مناظرته في الإحياء والإماتة على ترك الإطالة وأخذ بالاحتجاج بالحجة المسكتة ولأن الكافر هو الذي ترك حد النظر حيث لم يسأل عما قال له إبراهيم ولكنه اشتغل بالجواب عن ذات نفسه حيث قال أنا أحيي وأميت

وقوله عز وجل { فبهت الذي كفر } يعني انقطع وسكت متحيرا يقال بهت الرجل إذا تحير { واللّه لا يهدي القوم الظالمين } يعني لا يرشدهم إلى الحجة والبيان

وروي في الخبر أن اللّه عز وجل قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتي بالشمس من المغرب ليعلم أني أنا القادر على ذلك ثم أمر نمروذ بإبراهيم فألقي في النار وهكذا عادة الجبابرة أنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة فأنجاه اللّه من النار وسنذكر قصة ذلك في موضعها إن شاء اللّه تعالى

٢٥٩

ثم قال عز وجل { أو كالذي مر على قرية } قال بعضهم معناه إحيائي ليس كإحياء نمروذ ولكن إحيائي كإحياء عزير عليه السلام أحييته بعد مائة عام

وقال بعضهم هو معطوف على ما سبق من قوله { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } البقرة ٢٤٣ و { إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } البقرة ٢٥٨ { أو كالذي مر على قرية } { أو } زيادة في الكلام قال مقاتل والذي مر على قرية هو عزيز بن شرخيا ويروى سرحبا وكان من علماء بني إسرائيل فمر بدير هرقل بين واسط والمدائن ويروى أن شرخيا كان على حمار فمر بها { وهي خاوية على عروشها } وقال الضحاك بن مزاحم هو عزيز النبي عليه السلام مر ببيت المقدس وقد خربها بخت نصر وقتل منهم سبعين ألفا وأسر منهم سبعين ألفا أي من بني إسرائيل فمر عزيز فقال { أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها }

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن بخت نصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم ناسا كثيرا فجاء بهم وفيهم عزير بن شرخيا كان من علماء بني إسرائيل فجاء بهم إلى بابل فخرج ذات يوم لحاجة له إلى دير هرقل على شاطئ دجلة فنزل تحت ظل شجرة وهو على حمار له فربط حماره تحت ظل الشجرة ثم طاف بالقرية فلم ير بها ساكنا { وهي خاوية على عروشها } يقول ساقط عروشها يقول ساقطة على سقوفها وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان ثم الحيطان على السقف فهي خاوية على عروشها

قال بعض أهل اللغة الخاوية الخالية

وقال بعضهم بقيت حيطانها لا سقوف عليها فتناول من الفاكهة والتين والعنب ثم رجع إلى حماره فجلس يأكل من تلك الفاكهة ثم عصر من العنب فشربه ثم جعل فضل التين في سلة وفضل العصير في زق ثم نظر إلى القرى فتعجب من كثرة حملها وفناء أهلها ف { قال أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها } فلم يشك في البعث ولكن أحب أن يريه اللّه كيف يحيي الموتى فلما تكلم عزير بذلك نام في ذلك الموضع { فأماته اللّه } في منامه { مائة عام } وأمات حماره { ثم بعثه } اللّه تعالى في آخر النهار ومنعه اللّه تعالى حال موته عن أبصار الناس والسباع والطير فلما بعثه اللّه تعالى سمع صوتا { قال } له { كم لبثت } أي كم مكثت في نومك يا عزيز { قال لبثت يوما } ثم نظر إلى الشمس وقد بقي منها شيء لم تغرب فقال { أو بعض يوم } { قال } له { بل لبثت مائة عام } يعني لبثت ميتا مائة عام ثم اخبره ليعتبر فقال { فانظر إلى طعامك } يعني الفاكهة { وشرابك } يعني العصير { لم يتسنه } يعني لم يتغير كقوله { من ماء غير ءاسن } محمد١٥ أي غير متغير ويقال { لم يتسنه } كأنه لم تأت عليه السنون قرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو { كم لبثت } بإدغام التاء وقرأ الباقون بإظهارها وقرأ الكسائي { لم يتسن } بغير هاء عند الوصل وأثبتت عن القطع وقرأ حمزة بحذف الهاء عند الوصل والقطع جميعا وقرأ الباقون بإثبات الهاء عند الوصل والقطع وقرأ نافع { أنا أحيي } بمد الألف وكذلك في جميع القرآن نحو هذا إلا في قوله { إن أنا إلا نذير } الأعراف١٨٨ وقرأ الباقون بغير مد ومعنى القراءتين في هذا كله واحد

ثم نظر عزيز عليه السلام إلى حماره وقد بلي فنودي أن { أنظر إلى حمارك } فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله ثم سمع صوتا قال أيتها العظام البالية إني جاعل فيكن روحا فاجتمعن فسعى بعضها إلى بعض حتى استقر كل شيء في موضعه ثم بسط عليه الجلد ونفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق فخر عزيز ساجدا للّه تعالى وقال عند ذلك أعلم أن اللّه على كل شيء قدير فذلك

قوله تعالى { وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس } يعني عبرة للناس لأن أولاده قد صاروا شيوخا وهو قد كان شابا { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالراء وقرأ الباقون بالزاي فمن قرأ بالراء فمعناه كيف نحييها ونظيرها { أم اتخذوا ءالهة من الأرض هم ينشرون } الأنبياء٢١ يعني يبعثون الموتى ومن قرأ بالزاي يعني كيف يضم بعضها إلى بعض النشز ما ارتفع من الأرض وهذا كما جاء في الأثر الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم وقال أهل اللغة النشز الحركة يقال نشز الشيء إذا تحرك ونشزت المرأة عن زوجها والمراد ها هنا نضمها { ثم نكسوها لحما }

{ فلما تبين له قال أعلم أن اللّه } قرأ حمزة والكسائي { أعلم } بالجزم على معنى الأمر وقرأ الباقون { قال اعلم } على معنى الخبر عن نفسه علمت بالمعاينة ما كنت أعلمه قبل ذلك غيبا { أن اللّه على كل شيء قدير } من الإحياء وغيره

وقال بعضهم أن عزيزا لما أحياه اللّه تعالى قال في نفسه كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم فلما رجع إلى منزله ولقيه أقرباؤه وحاسبوا غيبته فقالوا له بل لبثت مائة عام وهذا قول من قال إن هذا لم يكن عزيرا النبي عليه السلام بل رجل آخر سوى عزيز النبي عليه السلام

٢٦٠

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } وذلك ان نمروذ لما قال له أنا أحيي وأميت ووصف لهم ذلك فسألوا إبراهيم فقالوا له كيف يحيي ربك الموتى فأراد إبراهيم أن يرى ذلك بالمعاينة حتى يخبرهم بما يرى من المعاينة فسأل ربه فقال { رب أرني كيف تحيي الموتى }

وقال مقاتل مر إبراهيم فرأى جيفة على ساحل البحر يأكل منها دواب البحر والطيور وبعضها يصير مستهلكا في الأرض فوقع في قلبه أن الذي تفرق في البحر وفي بطون الطير كيف يجمعها اللّه تعالى فأراد أن يعاين ذلك فقال { رب أرني كيف تحيي الموتى } ف { قال } له ربه { أو لم تؤمن } يعني أو لم تصدق بأني أحيي الموتى { قال بلى } قد صدقت { ولكن ليطمئن قلبي } يعني ليسكن قلبي ويقال إنما قال له { أو لم تؤمن } لكي يظهر إقراره ولكي لا يظن أحد بعده أنه لم يكن مقرا بذلك في ذلك الوقت فظهر إقراره بقوله بلى وقال سعيد بن جبير ليسكن قلبي أنك اتخذتني خليلا

{ قال فخذ أربعة من الطير } فأخذ ديكا وحمامة وطاووسا وغرابا وفي بعض الروايات أخذ طاووسا وثلاثة من الطيور مختلفة ألوانها وأسماؤها وريشها { فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } يعني قطعهن وقال السدي يعني دقهن وقال الأخفش يعني ضمهن إليك وذكر مقاتل بإسناده عن الأعمش قال فيه تقديم وتأخير يعني فخذ إليك أربعة من الطيور فقطعهن واخلط بعضهن ببعض ثم فرقهن في أربعة أجبل { ثم ادعهن يأتينك سعيا } يعني ففعل ذلك ودعاهن فسعين على أرجلهن

ويقال إنه لما وضعهن على الأجبل هبت الرياح الأربعة التي تقوم يوم القيامة واحدة من قبل المشرق والأخرى من قبل المغرب والأخرى من قبل اليمين والأخرى م قبل الشمال فرفعت الأعضاء المتفرقة عن مواضعها وحملتها إلى المواضع الأخرى حتى اجتمع أعضاء كل طير في موضعها فجعل إبراهيم ينظر ويتعجب حيث ينضم بعضها إلى بعض فقال عند ذلك

قوله { وأعلم أن اللّه عزيز } في ملكه { حكيم } حكم بالبعث ولم أسأله لريب كان في قلبي ولكن سألته ليسكن قلبي في الخلة قرأ ابن كثير { أرني } بجزم الراء وقرأ الباقون بالكسر وقرأ حمزة { فصرهن } بكسر الصاد وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالكسر يعني قطعهن ومن قرأ بالضم يعني فضمهن إليك ويقال هما لغتان ومعناهما واحد وتفسيرهما واحد

٢٦١

قوله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه } نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم فقال يا رسول اللّه كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها لربي فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بارك اللّه لك فيما أمسكت وفيما أعطيت وقال عثمان بن عفان يا رسول اللّه علي جهاز من لا جهاز له فنزلت هذه الآية { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه } وفي الآية مضمر ومعناها مثل النفقة التي تنفق في سبيل اللّه { كمثل حبة } وطريق آخر مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة ف { أنبتت } الحبة { سبع سنابل } يعني أخرجت سبع سنابل { في كل سنبلة مائة حبة } فيكون جملتها سبعمائة حبة فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه اللّه تعالى بكل صدقة سبعمائة حسنة

ثم قال تعالى { واللّه يضاعف لمن يشاء } يعني يزيد على سبع مائة لمن يشاء فيكون مثل المتصدق كمثل الزارع إن كان الزارع حاذقا في عمله ويكون البذر جيدا أو تكون الأرض عامرة يكون الزرع مخصبا طيبا فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويوضع في موضعه فيصير الثواب اكثر { واللّه واسع } يعني واسع الفضل لتلك الأضعاف { عليم } بما ينفقون وبما نووا فيها قرأ ابن كثير وابن عامر { واللّه يضعف } بتشديد العين وحذف الألف وقرأ الباقون { يضاعف } بالألف ومعناهما واحد فأما الذي قرأ { يضعف } من التضعيف والذي قرأ { يضاعف } من المضاعفة

٢٦٢

ثم قال تعالى { الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه } يعني يتصدقون بأموالهم { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } يعني لا يمنون عليهم بما تصدقوا عليهم ولا يؤذونهم ولا يعيرونهم بذلك ومعنى الأذى والتعيير هو أن يقع بينه وبين الفقير خصومة فيقول له إني أعطيتك كذا وكذا

وقال بعضهم المن يشبه بالنفاق والأذى يشبه بالرياء ثم تكلم الناس في ذلك فقال بعضهم إذا فعل ذلك لا أجر له في صدقته وعليه وزر فيما من على الفقير

وقال بعضهم ذهب أجره فلا أجر له ولا وزر عليه

وقال بعضهم له أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن

ثم قال تعالى { لهم أجرهم عند ربهم } يعني ثوابهم في الآخرة { ولا خوف عليهم } فيما يستقبلهم من العذاب { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من أمر الدنيا ويقال الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان حين اشترى بئر رومة ثم جعلها سبيلا على المسلمين

٢٦٣

ثم قال تعالى { قول معروف } يعني دعاء الرجل لأخيه بظهر الغيب { ومغفرة } يعني يعفو ويتجاوز عمن مظلمته { خير من صدقة } يعطيها ثم يمن على من تصدق عليه ويقال { قول معروف } للفقير يعني إذا أتاه سائل سأله ولم يكن عنده شيء يعطيه فيدعو له بالجنة والمغفرة فهو { خير من صدقة } يعطيها له و { يتبعها أذى } ويقال وعد المعطي خير من صدقة يتبعها أذى ويقال وعد الكريم خير من نقد اللئيم ويقال دعاء الفقير إذا دعا لصاحب الصدقة ومغفرة اللّه خير من الصدقة التي يتبعها أذى ويقال قول معروف أي يتجاوز عمن أساء إليه ويحسن له القول خير من صدقة يتبعها أذى ويقال الأمر بالمعروف والصبر على ما أصابه والتجاوز عن الذي ضره خير من صدقة يتبعها أذى

ثم قال تعالى { واللّه غني حليم } يعني { غني } عما عندكم من الصدقة { حليم } حيث لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته

٢٦٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فاللّه تعالى أمر عباده برأفته أن لا يمنوا بصدقاتهم لكي لا يذهب أجرهم ثم ضرب لذلك مثلا

فقال تعالى { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر } يعني المشرك إذا تصدق فأبطل الشرك صدقته كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن ثم ضرب لهما مثلا جميعا لصدقة المؤمن الذي يمن وبصدقة المشرك

فقال تعالى { فمثله كمثل صفوان عليه تراب } قال القتبي الصفوان الحجر الذي لا ينبت عليه شيء يعني كمثل حجر صلب عليه تراب { فأصابه وابل } يعني المطر الشديد { فتركه صلدا } يعني ترك الصفا نقيا أجرد أملس ليس عليه شيء من تراب فكذلك نفقة صاحب الرياء ونفقة المشرك لم يبق لهما ثواب

ثم قال تعالى { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } يعني لا يجدون للصدقة ثوابا في الآخرة وهذا كما قال في آية أخرى و { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح } إبراهيم ١٨ { واللّه لا يهدي القوم الكافرين } يعني لا يرشدهم إلى الإسلام والإخلاص ولا يوفقهم اللّه بل يخذلهم مجازاة لكفرهم

٢٦٥

ثم ضرب مثلا لنفقة المؤمن الذي يريد بنفقته وجه اللّه تعالى ولا يمن بها فقال عز وجل { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه } يعني يتصدقون طلبا لرضى اللّه تعالى بصدقاتهم { وتثبيتا من أنفسهم } يعني وتصديقا من قلوبهم يعني يصدقون اللّه تعالى من الثواب في الآخرة والخلف في الدنيا ويقال وتثبيتا من أنفسهم يعني وتحقيقا من قلوبهم يقصدون بها وجه اللّه { كمثل جنة بربوة } يعني بستانا في مكان مستو { أصابها وابل } يعني البستان أصابه المطر الشديد { فآتت أكلها ضعفين }

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { أكلها } بجزم الكاف ونصب اللام وقرأ الباقون بالضم { أكلها } وتفسير القراءتين واحد وقرأ عاصم وأبو عمرو { بربوة } بنصب الراء وقرأ الباقون بالضم وقرأ ابن سيرين بكسر الراء

وفيه ثلاث لغات ربوة وربوة وربوة وتفسير القراءات واحد وفي الآية تقديم وتأخير ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل { فإن لم يصيبها وابل فطل } فأتت أكلها ضعفين يعني البستان إذا أصابه المطر أو الطل والطل البطيء من المطر وهو مثل الندى { فأتت أكلها ضعفين } يعني اخضرت أوراق البستان وأخرجت ثمرها ضعفين فكذلك الذي يتصدق به لوجه اللّه تعالى يكون له الثواب ضعفين يعني بالواحد عشرة إلى سبعمائة ضعف وإلى ما لا نهاية له { واللّه بما تعملون بصير }

٢٦٦

ثم ضرب مثلا آخر لعمل الكافر والمنافق فقال عز وجل { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } يقول مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان وله أولاد صغار ضعفاء عجزة لا حيله لهم ومعيشته ومعيشة ذريته من بستانه { فأصابها إعصار فيه نار } يعني ريحا بها نار يعني تأتيه السموم الحارة { فاحترقت } فأحرقت بستانه ولم يكن له قوة أن يغرس مثل بستانه ولم يكن عند ذريته خيرا يعينونه فيبقى متحيرا فكذلك الكافر إذا لقي ربه أحوج ما كان فلا يجد خيرا ولا يدفع عن نفسه شرا ولا يكون له معين ولا يعود إلى الدنيا كما لا يعود الشيخ الكبير شابا وكان أحوج إليه

قوله تعالى { كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون } في أمثاله فتعتبرون

٢٦٧

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } يقول من حلالات { ما كسبتم } في الآية أمر بالصدقة من الحلال وفيها دليل أن من تصدق من الحرام لا يقبل لأن الواجب عليه أن يردها إلى موضعها ويقال { أنفقوا من طيبات } يعني من المال اللذيذ والشهي عندكم مما كسبتم يقول مما جمعتم من الذهب والفضة

قوله تعالى { ومما أخرجنا لكم من الأرض } يعني من الثمار والحبوب { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } يعني لا تعمدوا إلى رديء المال فتصدقوا منه وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما حث الناس على الصدقة فجعل الناس يأتون بالصدقة ويجمعون في المسجد فجاء رجل بعذق من تمر عامته حشف فنزلت هذه الآية { ولا تيمموا الخبيث } يعني لا تعمدوا إلى الخشف فتتصدقوا به { ولستم بآخذيه } بدل الطيب { إلا أن تغمضوا فيه } يعني إلا أن يهضم أحدكم فيأخذ دون حقه مخافة أن يذهب جميع حقه فيأخذ ذلك للضرورة مخافة فوت حقه واللّه تعالى غني عن ذلك فلا يقبل إلا الطيب ويقال { إلا أن تغمضوا } يعني إلا أن يضطر أحدكم فمسته الحاجة فرضي بذلك

قوله تعالى { واعلموا أن اللّه غني حميد } أي { غني } عما عندكم من الصدقات { حميد } في أفعاله عند خلقه وقال { حميد } بمعنى محمود ويقال { حميد } يعني من أهل أن يحمد ويقال { حميد } يقبل القليل ويعطي الجزيل

٢٦٨

قوله تعالى { الشيطان يعدكم الفقر } يقول الشيطان يأمركم بشيئين واللّه تعالى يأمركم بشيئين أما الشيطان فإنه { يعدكم الفقر } ويقول لا تنفق ولا تتصدق كأنك تحتاج إلى ذلك { ويأمركم بالفحشاء } قال الكلبي يمنع الزكاة ويقال جميع الفواحش مثل الزنى وقول الزور وغير ذلك { واللّه يعدكم مغفرة منه } لذنوبكم يعني المغفرة من اللّه { وفضلا } يعني خلفا في الدنيا { واللّه واسع } الفضل { عليم } بما تنفقون ويقال عليم بمواضع الصدقات

٢٦٩

ثم قال تعالى { يؤتي الحكمة من يشاء } قال ابن عباس يعني النبوة وقال الكلبي يعني الفقه وقال مقاتل يعني علم القرآن ويقال الإصابة في القول ويقال المعرفة بمكائد الشيطان ووساوسه وقال مجاهد الإصابة في القول والفهم والفقه { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } يقول من يعط علم القرآن فقد أعطي خيرا كثيرا { وما يذكر } يعني لا يتفكر في ذلك { إلا أولو الألباب } يعني إلا ذوي العقول ويقال إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل مما أعطي من جميع كتب الأولين من الصحف وغيرها لأنه تعالى قال لأولئك { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } سورة الإسراء ٨٥ وسمي هذا { خيرا كثيرا } لأن هذا جوامع الكلم

وقال بعض الحكماء من أعطي من العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لأجل دنياهم لأن ما أعطي أفضل مما أعطي أصحاب الدنيا لأن اللّه تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا وقال { قل متاع الدنيا قليل } النساء ٧٧ وسمى العلم { خيرا كثيرا } البقرة ٢٦٩

٢٧٠

قوله تعالى { وما أنفقتم من نفقة } يقول ما تصدقتم من صدقة { أو نذرتم من نذر } فوفيتم بنذوركم { فإن اللّه يعلمه } يعني يحصيه ويقبله منكم وهذا وعد من اللّه تعالى فكأنه يقول إنه لا ينسى بل يعطي ثوابكم { وما للظالمين من أنصار } يعني ليس للمشركين من مانع في الآخرة يمنعهم من العذاب

٢٧١

ثم قال تعالى { إن تبدوا الصدقات } وذلك أن اللّه تعالى لما حثهم على الصدقة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزل قوله { إن تبدوا الصدقات } يعني إن تعلنوا الصدقات المفروضة { فنعما هي } قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { فنعما هي } بنصب النون وكسر العين وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص ونافع في رواية ورش وابن كثير بكسر النون وكسر العين وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { فنعما } بكسر النون وجزم العين وكل ذلك جائز وفيه ثلاث لغات نعم نعم ونعم وما زيدت فيها للصلة

قوله تعالى { ويكفر عنكم سيئاتكم } وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص { ويكفر } بالياء وضم الراء وقرأ حمزة ونافع والكسائي { ونكفر } بالنون وجزم الراء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { ونكفر } بالنون وضم الراء فمن قرأ بالجزم فهو جزاء للصدقة ومن قرأ بالضم فهو على المستقبل يعني إن تعلنوا الصدقات فحسن { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } من صدقة العلانية فأما صدقة التطوع فقد اتفقوا أن الصدقة في السر أفضل وأما الزكاة المفروضة قال بعضهم السر أفضل لأنه أبعد من الرياء

وقال بعضهم العلانية أفضل لأن الزكاة من شعائر الدين فكل ما كان أظهر كان أفضل كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين ولأن في ذلك زيادة رغبة لغيره في أداء الزكاة

ثم قال تعالى { واللّه بما تعملون خبير } يعني فيما تصدقتم في السر والعلانية يعلمه ويتقبل منكم ويكون في ذلك كفارة سيئاتكم ويعطي ثوابكم في الآخرة

٢٧٢

قوله تعالى { ليس عليك هداهم } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما قدم مكة لعمرة القضاء وخرجت معه أسماء بنت أبي بكر فجاءتها أمها قتيلة وجدها أبو قحافة فسألا منها حاجة فقالت لا أعطيكما شيئا حتى أستأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإنكما لستما على ديني فاستأمرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية { ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء } يعني يوفق من يشاء لدينه

فإن قيل قد قال في آية أخرى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } الشورى ٥٢ وقال هاهنا { ليس عليك هداهم }

قيل له إنما أراد به هناك الدعوة وهاهنا أراد به الهدى خاصة وهو التوفيق إلى الهدى

ثم قال تعالى { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } يعني ما تنفقوا من مال فثوابه لأنفسكم إذا تصدقتم على الكفار أو على المسلمين

وروي عن عمر بن الخطاب أنه رأى رجلا من أهل الذمة يسأل على أبواب المسلمين فقال ما أنصفناك أخذنا منك الجزية ما دمت شابا ثم ضيعناك بعدما كبرت وضعفت فأمر بأن يجري عليه قوته من بيت المال

ثم قال تعالى { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه } يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء ثواب اللّه ثم قال تعالى { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } يعني يوف ثوابكم { وأنتم لا تظلمون } يعني لا تنقصون من ثواب أعمالكم وصدقاتكم فتكون { ما } الأولى بمعنى الشرط و { ما } الثانية للجحود و { ما } الثالثة للخبر

٢٧٣

ثم بين موضع الصدقة فقال عز وجل { للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه } يعني النفقة والصدقة للفقراء الذين حبسوا أنفسهم في طاعة اللّه وهم أصحاب الصفة كانوا نحوا من أربعمائة رجل جعلوا أنفسهم للطاعة وتركوا الكسب والتجارة

قوله { لا يستطيعون ضربا في الأرض } يعني لا يستطيعون الخروج إلى السفر في التجارة { يحسبهم الجاهل } قرأ حمزة وعاصم وابن عامر { يحسبهم } بنصب السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وتفسير القراءتين واحد يعني يظن الجاهل بأمرهم وشأنهم أنهم { أغنياء من التعفف } لأنهم يظهرون أنفسهم للناس باللباس وغيره كأنهم أغنياء ويتعففون عن المسألة { تعرفهم بسيماهم } أي بصفرة الوجوه من قيام الليل وصوم النهار { لا يسألون الناس إلحافا } يعني إلحاحا قال ابن عباس رضي اللّه عنه لا يسألون الناس إلحافا ولا غير إلحاح ويقال أصله من اللحاف لأن السائل إذا كان ملحا فكأنه يلصق بالمسؤول فيصير كاللحاف وجعل ذلك كناية عنه

ثم قال تعالى { وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم } بما أنفقتم ويقال هذا على معنى التحريض فكأنه يقول عليكم بالفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه

وقال بعضهم هذا على معنى التعجب فكأنه يقول عجبا للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه ويقال إنه رد إلى أول الآية { وما أنفقتم من نفقة } { للفقراء الذين أحصروا }

٢٧٤

ثم قال تعالى { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } قال مقاتل والكلبي نزلت هذه الآية في شأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها فلما نزل التحريض على الصدقة تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم في السر وبدرهم في العلانية فنزلت هذه الآية { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } { سرا وعلانية } يعني خفية وظاهرا ويقال هذا حث لجميع الناس على الصدقة يتصدقون في الأحوال كلها وفي الأوقات كلها { فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } الآية

٢٧٥

قوله تعالى { الذين يأكلون الربا } يعني يأكلون الربا استحلالا { لا يقومون } يوم القيامة من قبورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } يعني يتخبله الشيطان { من المس } أي من الجنون ويقال إنهم يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كالجبال وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم فيكون ذلك علامة آكل الربا ويقال يكون بمنزلة المجنون { ذلك بأنهم } يعني الذي نزل بهم لأنهم { قالوا إنما البيع مثل الربا } معناه استحلوا الربا وكان الرجل إذا حل أجل ماله طالبه فيقول له المطلوب زدني في الأجل وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك فإذا قيل لهما إن هذا ربا قالا الزيادة في أول البيع والزيادة عند حلول المال سواء فذلك

قوله تعالى { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } الزيادة في أول البيع كالزيادة في آخر البيع ويقال إنهم استحلوا الربا وقالوا الربا والبيع سواء في الحل فاللّه سبحانه وتعالى أبطل قولهم فقال { وأحل اللّه البيع وحرم الربا }

ثم قال { فمن جاءه موعظة } ولم يقل جاءته لأن التأنيث ليس بحقيقي ويجوز ان يذكر ويؤنث لأنه أنصرف إلى المعنى يعني فمن جاءه نهي { من ربه } في القرآن في بيان تحريم الربا { فانتهى } عن أكل الربا { فله ما سلف } يعني ليس عليه إثم فيما مضى قبل النهي لأن الحجة لم تقم عليهم ولم يعلموا بحرمته وأما اليوم فمن تاب عن الربا فلا بد له من أن يرد الفضل ولا يكون له ما سلف لأن حرمة الربا ظاهرة بين المسلمين لأن كتاب اللّه تعالى فيهم

ثم قال عز وجل { وأمره إلى اللّه } في المستأنف إن شاء عصمه وإن شاء لم يعصمه { ومن عاد } إلى استحلال الربا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } قال ابن مسعود آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه ملعونون على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

وقال صلّى اللّه عليه وسلّم سيأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ومن لم يأكل الربا أصابه من غباره وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال الربا بضع وسبعون بابا أدناها كإتيان الرجل أمه يعني كالزاني بأمه

٢٧٦

ثم قال تعالى { يمحق اللّه الربا } يعني يبطله ويذهب ببركته { ويربي الصدقات } يقول يقبلها ويضاعفها ويقال إن مال آكل الربا لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة إما أن يذهب عنه أو عن ولده أو ينفقه فيما لا يصلح

ثم قال عز وجل { واللّه لا يحب كل كفار } يعني جاحدا بتحريم الربا { أثيم } يعني عاص بأكله

٢٧٧

قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { وأقاموا الصلاة } يعني الصلوات الخمس { وآتوا الزكاة } يعني وأعطوا الزكاة المفروضة { لهم أجرهم عن ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وقد ذكرناه

٢٧٨

ثم قال تعالى { يآ أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه } ولا تعصوه فيما نهاكم من أمر الربا { إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين بتحريمه

وقال أهل اللغة { إن } الخفيفة على ثلاثة اوجه إن بمعنى ما كقوله { إن الكافرون } { إن كانت إلا صيحة واحدة } يس ٢٩ وإن بمعنى لقد كقوله { إن كان وعد ربنا لمفعولا } الإسراء ١٠٨ { وتاللّه إن كنا } { قال تاللّه إن كدت لتردين } الصافات ٥٦ { إن كنا عن عبادتكم لغافلين } يونس ٢٩وإن بمعنى إذ كقوله { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران ١٣٩ { ما بقى من الربوا إن كنتم مؤمنين } البقرة ٢٧٨يعني إذ كنتم مؤمنين نزلت هذه الآية في نفر من بني ثقيف وفي بني المغيرة من قريش وكانت ثقيف يربون لبني المغيرة في الجاهلية وكانوا أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وأخواهما يربون لبني المغيرة فلما ظهر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أهل مكة وضع الربا كله وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم على للناس يأخذونه وما كان عليهم من ربا الناس فهو موضوع عنهم لا يؤخذ منهم وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتب لهم كتابا وكتب في أسفل كتابهم إن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فلما حل الأجل طلب ثقيف رباهم فاختصموا إلى أمير مكة وهو عتاب بن أسيد فكتب بذلك بالمدينة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه ولا تستحلوا الربا وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين بتحريم الربا

٢٧٩

ثم خوفهم فقال عز وجل { فإن لم تفعلوا } يعني لم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه { فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله }

قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر { فآذنوا } بمد الألف وكسر الذال وقرأ أبو عمرو وورش عن نافع { فأذنوا } بترك الهمزة ونصب الذال وقرأ الباقون بجزم الألف ونصب الذال

فمن قرأ { فأذنوا } بلجزم معناه فاعلموا بحرب من اللّه يعني بإهلاك من اللّه ويقال معناه فاعلموا أنكم كفار باللّه ورسوله ومن قرأ { فآذنوا } يعني اعلموا بعضكم بعضا بحرب من اللّه أي بإهلاك من اللّه تعالى ورسوله فقالوا وما لنا بحرب من اللّه ورسوله طاقة فما توبتنا

فقال تعالى لهم { فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } التي أسلفتم وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا وضع ربا العباس بن عبد المطلب وكل دم كان في الجاهلية فهو موضوع وأول دم وضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب

ثم قال { لا تظلمون ولا تظلمون } يعني الطالب لا يظلم بطلب الزيادة ويرضى برأس ماله ولا يظلم المطلوب فينتقص عن رأس المال وذلك أنهم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة فشكوا العسرة يعني بني المغيرة وقالوا ليس لنا شيء وطلبوا الأجل إلى وقت إدراك ثمارهم فنزلت هذه الآية

٢٨٠

{ وإن كان ذو عسرة } يعني إن كان المطلوب ذو شدة { فنظرة إلى ميسرة } يقول أجله أن يتيسر عليه بإدراك ثمارهم { وأن تصدقوا } يقول لو تصدقتم ولا تأخذونه فهو { خير لكم } ويقال لئن تصدقتم بالتأخير فهو خير لكم { وإن كنتم تعلمون } أن الصدقة خير لكم

قرأ نافع إلى { ميسرة } بضم السين وقرأ الباقون والنصب وهما لغتان ومعناهما واحد وقرأ عطاء { فناظرة } بالألف وقرأ العامة بغير ألف ومعناها واحد

٢٨١

قوله تعالى { واتقوا يوما ترجعون } يعني اجتنبوا عذاب يوم ترجعون { فيه إلى اللّه } يعني في يوم القيامة { ثم توفى كل نفس ما كسبت } من خير أو شر { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا

وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال آخر آية نزلت من القرآن { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه ثم توفى } قرأ أبو عمرو { ترجعون } بنصب التاء وكسر الجيم وقرأ الباقون { ترجعون } بضم التاء ونصب الجيم وقرأ عاصم { وأن تصدقوا } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد لأن التاء أدغمت في الصاد وأصله وإن تصدقوا

٢٨٢

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } روي عن ابن عباس أنه قال الآية نزلت في السلم ويقال كل دين إلى أجل سلما كان أو غيره { إلى أجل مسمى } يعني إلى أجل معلوم وفي الآية دليل أن المداينة لا تجوز إلا بأجل معلوم { فاكتبوه } يعني الدين والأجل ويقال أمر بالكتابة ولكن المراد به الكتابة والإشهاد لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة ويقال أمر بالكتابة لكي لا ينسى ويقال من أدان دينا ولم يكتب فإذا نسي ودعا اللّه تعالى بأن يظهره يقول اللّه تعالى أمرتك بالكتابة فعصيت أمري وإذا دعى بالنجاة من الزوجة يقول اللّه تعالى جعلت الطلاق بيدك إن شئت طلقها وإن شئت فأمسكها

ثم قال تعالى { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } يعني يكتب الكاتب بين البائع والمشتري يعدل بينهما في كتابته ولا يزداد على المطلوب على حقه ولا ينقص من حق الطالب

ويقال إن هذا أمر للكاتب بالكتابة وكانت الكتابة واجبة في ذلك الوقت على الكاتب لأن الكتبة كانوا قليلا ثم نسخ بقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } البقرة ٢٨٢

وقال بعضهم الكتابة لم تكن واجبة ولكن الأمر على معنى الاستحباب

ثم قال تعالى { ولا يأب كاتب أن يكتب } يقول ولا يمتنع الكاتب عن الكتابة أن يكتب { كما علمه اللّه } يعني يكتب شكرا لما أنعم اللّه عليه حيث علمه الكتابة واحتاج غيره إليه فكما أكرمه اللّه تعالى بالكتابة وفضله بذلك فيعرف شكره ولا يمتنع عن الكتابة لمن طلب منه

ثم قال تعالى { وليملل الذي عليه الحق } يعني المطلوب هو الذي يملي على الكاتب حتى يكتب الكاتب لأن قول المطلوب حجة على نفسه فإذا أملى على الكاتب يكون ذلك إقرارا منه بوجوب الحق عليه

ثم خوف المطلوب لكيلا ينقص شيئا من حق الطالب

فقال تعالى { وليتق اللّه ربه } يعني المطلوب { ولا يبخس منه شيئا } يقول لا ينقص من الحق شيئا ويقال معنى الكاتب ولا يبخس في الكتابة شيئا

ثم قال تعالى { فإن كان الذي عليه الحق } يعني المطلوب { سفيها } يعني جاهلا بالإملاء ويقال أحمق { أو ضعيفا } يعني صبيا عاجزا عن الإملاء ويقال أخرس أو مجنونا { أو لا يستطيع } يعني لا يحسن { أن يمل هو } على الكاتب فيرجع الإملاء على الطالب { فليملل وليه } يعني ولي الحق يعني الطالب هكذا قال في رواية الكلبي وقال في رواية الضحاك ولي المديون يعني إذا كان للصبي وصي أو ولي رجع الإملاء عليه فيلملل وليه { بالعدل } يعني بالحق

ثم أمر بإلاشهاد فقال تعالى { واستشهدوا } يعني على حقكم { شهيدين من رجالكم } يعني من أهل دينكم من الأحرار البالغين { فإن لم يكونا رجلين فرجل } فليكن رجلا { وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } يعني من العدول { أن تضل إحداهما } يعني إذا نسيت إحدى المرأتين { فتذكر إحداهما الأخرى } يعني الشهادة إذا حفظت إحداهما تذكر صاحبتها ويقال إن امتنعت إحداهما عن أداء الشهادة فتعظها الأخرى حتى تشهد

قرأ حمزة { أن تضل } بكسر الألف ونصب التاء وضم اللام { فتذكر } بضم الراء وإنما كسر الألف على معنى الابتداء وضم اللام بحرف الشرط وقرأ الباقون بنصب الألف ومعناه لأن تضل وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { فتذكر } بالتخفيف وقرأ الباقون بنصب الذل وتشديد الكاف وهما لغتان اذكرته وذكرته

ثم قال تعالى { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } يعني الشاهد إذا دعي إلى الحاكم ليشهد فلا يمتنع عن أداء الشهادة والإباء عن الشهادة حرام لأن اللّه تعالى نهى عن الإباء عن الشهادة ويقال إباء الشهادة على ثلاثة أوجه أحدهما أن يمتنع عن أدائه والثاني أن يشهد ويقصر في أدائه لكيلا تقبل شهادته والثالث بأن لا يصون نفسه عن المعاصي فيصير متهما لا تقبل شهادته فكأنه هو الذي أبطل حق المدعي وخانه حيث عصى اللّه تعالى حتى ردت شهادته بمعصيته

ثم قال تعالى { ولا تسأموا } يقول ولا تملوا { أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا } يقول قليل الحق أو كثيره { إلى أجله } لأن الكتابة أحصى للأجل وأحفظ للمال { ذلكم أقسط عند اللّه } يعني أعدل { وأقوم } وأصوب { للشهادة وأدنى } يقول أحرى وأجدر { ألا ترتابوا } يعني لا تشكوا في شيء من حقوقكم

ثم استثنى اللّه تعالى فقال { إلا أن تكون تجارة حاضرة } قرأ عاصم { تجارة حاضرة } بالنصب وقرأ الباقون بالرفع فمن قرأ بالنصب جعله خبر تكون والاسم مضمر معناه إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة ومن قرأ بالرفع جعله اسمه يعني إذا كان البيع بالنقد { تديرونها بينكم } يعني تداولونها أيديكم ولم يكن المال مؤجلا { فليس عليكم جناح } أي حرج { ألا تكتبوها } يعني التجارة

ثم قال { واشهدوا } على حقكم { إذا تبايعتم } على كل حال نقدا كان أو مؤجلا وهذا أمر استحباب ولو ترك الإشهاد جاز البيع

ثم قال تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يقال لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة مهمة فتمنعهما عن حاجتهما وليتركهما حتى يفرغا من حاجتهما أو يطلب غيرهما { وإن تفعلوا } يقول إن تضاروا الكاتب والشاهد { فإنه فسوق بكم } يقول معصية منكم وترك الأدب

قوله { واتقوا اللّه } في الضرار ويقال واتقوا اللّه ولا تعصوه فيما أمركم من أمر الكتابة والإشهاد { ويعلمكم اللّه } في أمر الكتابة ويقال ويؤدبكم اللّه { واللّه بكل شيء عليم } من أعمالكم

٢٨٣

ثم قال عز وجل { وإن كنتم على سفر } يعني كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يعني لم تجدوا من يكتب الكتاب

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { ولم تجدوا كاتبا } يعني الكاتب والصحيفة { فرهان مقبوضة } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { فرهن } والباقون { فرهان } والرهان هو جمع الرهن والرهن فهو جمع الرهان وهو جمع الجمع يعني إذا كنتم في السفر ولم تجدوا من يكتب ولم تجدوا الصحيفة والدواة فاقبضوا الرهن وفي الآية دليل أن الرهن لا يصح إلا بالقبض لأنه جعل الرهن بالقبض

ثم قال تعالى { فإن أمن بعضكم بعضا } يعني إذا كان الذي عليه الحق أمينا عند الطلب فلم يطلب منه الرهن ورضي بدينه بغير رهن قوله { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } يعني المطلوب يقضي دينه حيث ائتمنه الطالب ولم يرتهن منه { وليتق اللّه ربه } ولا يمنع حقه

ثم رجع إلى الشهود فقال { ولا تكتموا الشهادة } عند الحاكم يقول من كانت عنده شهادة فليؤدها على وجهها ولا يكتمها { ومن يكتمها } يعني الشهادة { فإنه آثم قلبه } يعني فاجر قلبه { واللّه بما تعملون } من كتمان الشهادة وإقامتها { عليم } فهذا وعيد للشاهد على كتمان شهادته لكيلا يكتمها

قرأ حمزة وعاصم { فليؤد الذي أوتمن } بضم الألف والباقون يقرؤون بسكون الألف وكلاهما واحد وقرأ نافع { فليود } بغير همز وقرأ أبو عمرو بالهمزة وتفسير القراءتين واحد

٢٨٤

قوله تعالى { للّه ما في السموات وما في الأرض } من الخلق كلهم عبيده وإماؤه وهو خالقهم ورازقهم وحكمه نافذ فيهم معناه لا تعبدوا أحدا سواه لأنه هو الذي خلق المسيح والملائكة والأصنام ويقال { للّه ما في السموات وما في الأرض } يعني في كل شيء دلالة ربوبيته ووحدانيته

ثم قال تعالى { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه } يعني أن تظهروا ما في قلوبكم أو تضمروه { يحاسبكم به اللّه } أن يجازيكم به اللّه

وقال بعضهم يعني في كتمان الشهادة أن تعلنوا الشهادة أو تخفوها { يحاسبكم به اللّه } أي يجازيكم به اللّه

وقال الكلبي وإن تعلنوا ما في أنفسكم من المعصية أو تسروها ولا تظهروها يجازيكم به اللّه ويقال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وقالوا يا رسول اللّه إنا لنحدث أنفسنا بالأمر من المعصية ثم لا نعملها أو نعمل بها فهو سواء فشق ذلك على المؤمنين مشقة شديدة فلما عرف اللّه مشقة ذلك على المسلمين أنزل على نبيه ما هو أهون عليه منه فقال { لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها } البقرة ٢٨٦

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه عن سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول اللّه تعالى سبقت رحمتي غضبي

قال سفيان بلغني أن الأنبياء كانوا يأتون قومهم بهذه الآية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه } فيقولون لا نطيق هذا ولا نحتمله فأعقبهم اللّه بالمؤاخذة فلما عرض على هذه الأمة قبلوا فأعقبهم اللّه تعالى أن وضعها عنهم فأنزل اللّه تعالى { لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها } البقرة ٢٨٦الآية

ثم قال عز وجل { فيغفر لمن يشاء } أي لمن تاب عن الذنوب { ويعذب من يشاء } أي لمن أقام على ذلك وأصر عليه ويقال { فيغفر لمن يشاء } الذنب العظيم لمن انتزع عنه { ويعذب من يشاء } بالذنب الصغير إذا أصر عليه ويقال لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار قرأ عاصم وابن عامر { فيغفر } بضم الراء على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالجزم على جواب الشرط وكذلك في قوله { ويعذب من يشاء }

ثم قال تعالى { واللّه على كل شيء قدير } من العقوبة والمغفرة

٢٨٥

قوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه } روي عن الحسن وعن مجاهد وعن الضحاك أنهم قالوا إن هذه الآية نزلت في قصة المعراج وهكذا روي في بعض الروايات عن عبد اللّه بن عباس

وقال بعضهم جميع القرآن نزل به جبريل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا هذه الآية فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سمعها ليلة المعراج

وقال بعضهم لم يكن ذلك في قصة المعراج لأن ليلة المعراج كانت بمكة وهذه السورة كلها مدنية فأما من قال إنها كانت في صعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبلغ فوق السموات في مكان مرتفع ومعه جبريل حتى جاوز سدرة المنتهى فقال له جبريل إني لم أجاوز هذا الموضع ولم يؤمر أحد بالمجاوزة عن هذا الموضع غيرك فجاوز النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حتى بلغ الموضع الذي شاء اللّه فأشار إليه جبريل بأن يسلم على ربه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم التحيات للّه والصلوات والطيبات قال اللّه تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته فأراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يكون لأمته حظ في السلام فقال السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقال جبريل وأهل السموات كلهم أشهد إن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قال اللّه تعالى على معنى الشكر { آمن الرسول بما أنزل إليه } أي صدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بما أنزل إليه من ربه فأراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يشارك أمته في الفضيلة فقال { والمؤمنون كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } يقولون آمنا بجميع الرسل ولا نكفر بواحد منهم ولا نفرق بينهم كما فرقت اليهود والنصارى

فقال له ربه عز وجل كيف قبولهم بالآية التي أنزلتها وهي قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم } البقرة ٢٨٤ فقال رسول اللّه { وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } أي أعطنا مغفرتك يا ربنا { وإليك المصير } أي المرجع

قال اللّه تعالى عند ذلك { لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها } يعني طاقتها

ويقال إلا دون طاقتها ويقال لا يكلف الصلاة قائما لمن لا يقدر عليها { لها ما كسبت } من الخير { وعليها ما اكتسبت } من الشر فقال له جبريل عند ذلك سل تعط فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا يعني إن جهلنا { أو أخطأنا } يعني إن تعمدنا ويقال إن عملنا بالنسيان { أو أخطأنا } يعني عملنا بالخطأ فقال له جبريل قد أعطيت ذلك قد رفع عن أمتك الخطأ والنسيان فسل شيئا آخر فقال عند ذلك { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } يعني ثقلا { كما حملته على الذين من قبلنا } وهو أنه حرم عليهم الطيبات بظلمهم وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوه مكتوبا على بابهم وكانت الصلوات عليهم خمسين فخفف عن هذه الأمة وحط عنهم بعدما فرض عليهم إلى خمس صلوات

ثم قال { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } يقول لا تكلفنا من العمل ما لا نطيق فتعذبنا ويقال ما يشق ذلك علينا لأنه لو أمر بخمسين صلاة لكانوا يطيقون ذلك ولكنه يشق عليهم ولا يطيقون الإدامة على ذلك { وأعف عنا } من ذلك كله { واغفر لنا وارحمنا } يعني تجاوز عنا ويقال { واعف عنا } من المسخ والخسف { وارحمنا } من القذف لأن الأمم الماضية بعضهم أصابهم المسخ وبعضهم الخسف وبعضهم القذف

ثم قال تعالى { أنت مولانا } يعني أنت ولينا وحافظنا { فانصرنا على القوم الكافرين } فاستجيب دعاؤه

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال نصرت بالرعب مسيرة شهر ويقال إن الغزاة إذا خرجوا من بلادهم بالنية الخالصة وضربوا الطبل وقع الرعب والهيبة في قلوب الكفار مسيرة شهر علموا بخروجهم أو لم يعلموا ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما رجع أوحى اللّه تعالى إليه هذه الآية ليعلم أمته بذلك

ولهذه الآية تفسير آخر قال الزجاج لما ذكر اللّه تعالى فرض الصلاة والزكاة في هذه السورة وبين أحكام الحج وحكم الحيض والطلاق والإيلاء وأقاصيص الأنبياء وبين حكم الربا والدين ثم ذكر تعظيمه

بقوله عز وجل { للّه ما في السموات وما في الأرض } الآية ثم ذكر تصديق نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم ذكر تصديق المؤمنين جميع ذلك قال { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } أي صدق الرسول بجميع هذه الاشياء التي جرى ذكرها وكذلك المؤمنون كلهم صدقوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله

قرأ حمزة والكسائي { وكتابه } على معنى الوحدان وقرأ الباقون { وكتبه } على معنى الجمع ثم قال { لا نفرق بين أحد من رسله } فأخبر عن المؤمنين بأنهم يقولون { لا نفرق بين أحد من رسله }

وقرأ الحضرمي { لا يفرق } بالياء ومعناه كل آمن باللّه وكل لا يفرق وقرأ ابن مسعود { لا يفرقون } بين أحد من رسله { وقالوا سمعنا وأطعنا } أي قبلنا ما سمعنا لأن من سمع ولم يقبل قيل له أصم أنت لأنه لم ينتفع بسماعه

وقرأ أبو عمرو { من رسله } بثقل السين وكذلك جميع ما في القرآن فإذا جاوز عن هذه الحروف الأربعة مثل رسلنا ورسلهم يقرأ بالسكون وقرأ الباقون برفع السين في جميع القرآن ومعنى قوله { غفرانك ربنا } يعني اغفر غفرانك وهو من أسماء المصادر كالكفران والسكران { وإليك المصير } يعني نحن المقرون بالبعث

٢٨٦

ثم قال عز وجل { لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها } يعني طاقتها قال الفقيه حدثنا أبو الحسين قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا محمد بن عبد اللّه قال حدثنا مروان عن عطاء بن عجلان عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن اللّه تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها أو همت به ما لم تعمل به أو تتكلم به

ثم قال { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } أي لا تأخذ أحدا بذنوب غيره كما قال في آية أخرى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } الأنعام ١٦٤

وقوله تعالى { إن نسينا } أي إن تركنا أو أخطأنا يعني إن كسبنا خطيئة فأخبر اللّه تعالى بهذا عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعن المؤمنين وجعله في كتابه ليكون دعاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لهم دعوة يدعون بها من بعده لأن هذا الدعاء قد استجيب له فينبغي أن يحفظ ويدعى به كثيرا

قال الفقيه حدثنا القاضي الخليل قال حدثنا السراج قال حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا أبو عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فضلنا على الناس بثلاث خصال جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز من تحت العرش لم يعط أحد قبلي ولا يعطى أحدا بعدي

وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما تجيئان يوم القيامة كالغمامتين أو كغيايتين أو كفرقتين من طير صواف وتحاجان عن صاحبهما ثم قال تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة يعني السحرة

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه نزل عليه ملك فقال له إن اللّه يبشرك بنورين لم يعطهما نبيا قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لا يقرأ بحرف منهما منها إلا أعطيته ما وعد له

وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لو بلغت سورة البقرة ثلاثمائة آية لتكلمت يعني لصارت بحال تتكلم لأنه لا يبقى شيء إلا اجتمع فيها من كثرة ما فيها من العجائب واللّه سبحانه وتعالى أعلم صلّى اللّه عليه وسلّم وسيدنا محمد

﴿ ٠