سورة آل عمرانسورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{ الم } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما أنا اللّه أعلم يعني ٢هو { اللّه } الذي { لا إله إلا هو الحي } الذي لا يموت ولا يزول أبدا ويقال { الحي } الذي لا بدئ له أما { القيوم } يعني القائم على كل نفس بما كسبت ويقال القائم بتدبير الخلق وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال الحي قبل كل حي والحي بعد كل حي الدائم الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه والقائم على العباد بأرزاقهم وآجالهم ويقال { الحي القيوم } وهو اسم اللّه الأعظم ويقال إن عيسى ابن مريم عليهما السلام كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الاسم يا حي يا قيوم ويقال إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله يا حي يا قيوم ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام عن اسم اللّه الأعظم فقال لهم قولوا بآهيا يعني يا حي شراهيا يعني يا قيوم ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به ٣قوله تعالى { نزل عليك الكتاب } يعني أنزل عليك جبريل بالقرآن { بالحق } يعني بالعدل ويقال لبيان الحق { مصدقا لما بين يديه } يعني موافقا للكتب المتقدمة في التوحيد وفي بعض الشرائع { وأنزل التوراة والإنجيل} ٤{من قبل } يعني أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل نزول هذا الكتاب وروي عن الفراء أنه قال اشتقاق التوراة من ورى الزند وهو ما يظهر من النور والضياء فسمي التوراة بها لأنه ظهر بها النور والضياء لبني إسرائيل ومن تابعهم وإنما سمي الإنجيل إنجيلا لأنه أظهر الدين بعدما درس وقد سمي القرآن إنجيلا أيضا لما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي قال اللّه تعالى هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما أراد بالأناجيل القرآن قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { التوراة } بكسر الراء والباقون بالفتح وقوله تعالى { هدى للناس } معناه وأنزل أيضا التوراة على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام بيانا لبني إسرائيل من الضلالة { وأنزل الفرقان } على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعد التوراة والإنجيل وقال الكلبي { الفرقان } هو الحلال والحرام يعني بيان الحلال والحرام ويقال المخرج من الشبهات ثم قال تعالى { إن الذين كفروا بآيات اللّه } يعني جحدوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وما أوتي به من آيات نبوته والقرآن { لهم عذاب شديد } في الآخرة قال الكلبي نزلت في وفد نجران قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجادلوه بالباطل ويقال نزلت في شأن اليهود ويقال نزلت في شأن مشركي العرب { واللّه عزيز ذو انتقام } يعني منيع بالنقمة يعني ينتقم ممن عصاه ٥{ إن اللّه لا يخفى عليه شيء } يعني لا يذهب ولا يغيب عنه شيء { في الأرض ولا في السماء } معناه أنه لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم فيجازيهم يوم القيامة وهم وفد نجران وسائر المشركين ٦ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا بذلك فقال تعالى { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } يعني يخلقكم كيف يشاء قصيرا أو طويلا حسنا أو ذميما ذكرا أو أنثى ويقال شقيا أو سعيدا وهذا كما روي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ثم قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول الولد في بطن الأم يكون نطفة أربعين يوما ثم يصير علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة أربعين يوما ثم ينفخ فيه الروح ثم يكتب شقي أم سعيد وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسألوا ما عنده من الحديث فقال لهم إني مشغول بأربعة أشياء فلا أتفرغ لرواية الحديث فقيل له وما ذاك الشغل فقال أحدها إني أتفكر في يوم الميثاف حيث قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت والثاني حيث صورني في رحم أمي فقال الملك الموكل على الأرحام يا رب شقي هو أم سعيد فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت والثالث حيث يقبض روحي ملك الموت فيقول يا رب أمع الكفر أم مع الإيمان فلا أدري كيف يخرج الجواب والرابع حيث يقول { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } يس٥٩ فلا أدري من أي الفريقين أكون وإلى هذا ذهب أهل الخبر ثم قال تعالى { لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا مصور إلا هو { العزيز الحكيم } يعني المنيع بالنقمة لمن جحده { الحكيم } يحكم تصوير الخلق على ما يشاء ٧قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب } يعني جبريل أنزل بالقرآن { منه آيات محكمات } يعني من القرآن آيات واضحات ويقال مبينات بالحلال والحرام ويقال ناسخات لم تنسخ قط { هن أم الكتاب } يعني أصل كل كتاب وهي ثلاث آيات من سورة الأنعام وهو قوله تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الأنعام ١٥١ إلى آخر الآيات وروي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول فاتحة الكتاب أم الكتاب فقال له ابن عباس بل أم الكتاب قوله تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الأنعام ١٥١ إلى آخر ثلاث آيات ثم قال تعالى { وأخر متشابهات } قال الضحاك يعني منسوخات وقال الكلبي يعني ما اشتبه على اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه { الألم } و { المر } ويقال المحكم ما كان واضحا لا يحتمل التأويل والمتشابه الذي يكون اللفظ يشبه اللفظ والمعنى مختلف ويقال المحكم الذي هو حقيقة اللغة والمتشابه ما كان مجازا ويقال المحكمات التي فيها دلالة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والمتشابه الذي اشتبهت الدلالة فيه فإن قيل إذا أنزل القرآن للبيان فكيف لم يجعل كله واضحا قيل له الحكمة في ذلك واللّه أعلم أن يظهر فضل العلماء لأنه لو كان الكل واضحا لم يظهر فضل العلماء بعضهم على بعض وهكذا يفعل كل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا ويترك للحيرة موضعا لأن ما هان وجوده قل بهاؤه ثم قال تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ } يعني ميل عن الحق وهم اليهود { فيتبعون ما تشابه منه } قال الضحاك يعني ما نسخ منه { ابتغاء الفتنة } يعني طلب الشرك واستبقاؤه ما هم عليه { وابتغاء تأويله } يعني طلب بقاء هذه الأمة إلى أدنى زمن ويقال طلب وقت قيام الساعة قال اللّه تعالى { وما يعلم تأويله إلا اللّه } يعني منتهى ملك هذه الأمة وذلك أن جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفيهم حيي بن أخطب وغيره فقالوا بلغنا أنه نزل عليك { ألم } فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة لأن الألف في حساب الجمل واحد واللام ثلاثون والميم أربعون فنزل { وما يعلم تأويله إلا اللّه } يعني منتهى ملك هذه الأمة ثم قال تعالى { والراسخون في العلم } قال الكلبي ومقاتل استأنف الكلام يعني لما قال { وما يعلم تأويله إلا اللّه } فقد تم الكلام واستأنف فقال { والراسخون في العلم } يعني المبالغون في علم الكتاب كتابهم التوراة والإنجيل { يقولون آمنا به } يعني بالقرآن { كل من عند ربنا } ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وهو عبد اللّه بن سلام وأصحابه وقال بعضهم هو معطوف على قوله { وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم } يعني يعلمون تأويله ويقولون { آمنا به كل من عند ربنا } وروى ابن طاوس عن ابيه عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وما يعلم تأويله إلا اللّه } ويقول الراسخون في العلم آمنا به وهذا يوافق قول الكلبي ومقاتل وقال عامر الشعبي لو كان ابن عباس بين أظهرنا ما سألته عن آية من التفسير لأني أحل حلاله وأحرم حرامه وأومن بمتشابهه وأكل ما لم أعلم منه إلى عالمه ثم قال تعالى { وما يذكر إلا أولو الألباب } يعني ما يتعظ بما أنزل من القرآن إلا ذوو العقول من الناس ٨ثم قال عبد اللّه بن سلام وأصحابه حين سمعوا قول اليهود وتكذيبهم { ربنا لا تزع قلوبنا } يعني لا تحول قلوبنا عن الهدى { بعد إذ هديتنا } أي ما أكرمتنا بالإسلام وهديتنا لدينك { وهب لنا من لدنك رحمة } يعني ثبتنا على الهدى { إنك أنت الوهاب } يعني المعطي المثيب للمؤمنين ٩قوله تعالى { ربنا إنك جامع الناس } بعد الموت { ليوم لا ريب فيه } يعني في يوم لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن لا محالة { إن اللّه لا يخلف الميعاد } في البعث ويقال معناه إن اللّه { إن اللّه لا يخلف الميعاد } في إجابة الدعاء يعني يوم يجمع الناس في الآخرة ١٠ثم قال تعالى { إن الذين كفروا } يعني اليهود ويقال جميع الكفار { لن تغني عنهم } كثرة { أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا } يعني لا ينفعهم من عذاب اللّه { شيئا } في الدنيا إذا نزل بهم شدة أو مرض ولا في الآخرة عند نزول العذاب ويقال كل ما لم ينفق في طاعة اللّه فهو حسرة له يوم القيامة ويقال إنما ذكر الأموال والأولاد لأن أكثر الناس يدخلون النار لأجل الأموال والأولاد فأخبر اللّه تعالى أنهما لا ينفعانهما في الآخرة لكيلا يفني الناس أعمارهم لأجل المال والولد وإنما ذكر اللّه تعالى الكفار لكي يعتبر بذلك المؤمنون ثم قال تعالى { وأولئك هم وقود النار } يعني حطب النار وقرأ بعضهم { وقود النار } بضم الواو يعني إيقاد النار كما قال في آية أخرى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } النساء ٥٦ قالوا معناه إذا أرادت النار أن تنطفئ بدلهم اللّه جلودا غيرها لتتقد النار ١١ثم قال عز وجل { كدأب آل فرعون } يعني صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى وقال مقاتل كأشباه آل فرعون بالتكذيب بالعذاب في الدنيا ويقال إهلاك اللّه إياهم بالقتل كإهلاك آل فرعون بالغرق ويقال تعاونهم وتظاهرهم فيما بينهم عليك كتظاهر آل فرعون على موسى { والذين من قبلهم } يعني قبل آل فرعون مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط { كذبوا بآياتنا } بدلائلنا وعجائبنا ويقال بكتبي ورسلي كما كذبك قومك يا محمد { فأخذهم اللّه بذنوبهم } يعني أهلكهم وعاقبهم بشركهم { واللّه شديد العقاب } للكفار ١٢قوله تعالى { قل للذين كفروا } قال الضحاك يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد فرحوا بذلك فنزل قوله تعالى { قل للذين كفروا } من أهل مكة { ستغلبون } بعد هذا { وتحشرون إلى نار جهنم } وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما هزم المشركين يوم بدر وقالت اليهود هذا النبي الأمي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة فأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا واللّه ما هو إياه فقد تغيرت صفته وحاله فشكوا فيه ولم يسلموا وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد فأنزل اللّه تعالى { قل للذين كفروا ستغلبون } وقال عكرمة عن عبد اللّه بن عباس أنه قال لما أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشا يوم بدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب قريشا قالوا يا محمد لا تغرنك نفسك إنك قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال فإنك لو قاتلنا لعرفت أنا نحن أولو البأس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل اللّه تعالى { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون } يعني اليهود تهزمون وتقهرون وتحشرون بعد القتل إلى جهنم { وبئس المهاد } يعني لبئس موضع القرار جهنم قرأ حمزة والكسائي { سيغلبون ويحشرون } بالياء على معنى الخبر والباقون بالتاء على معنى المخاطبة ١٣ثم قال عز وجل { قد كان لكم آية } يعني عبرة { في فئتين } أي جمعين يعني جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وجمع كفار أهل مكة { التقتا فئة تقاتل في سبيل اللّه وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } قرأ نافع { ترونهم } على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى الخبر وذكر عن الفراء أنه قال كان الكفار ثلاثة أمثال المسلمين لأن المسلمين كانوا ثلاثمائة ونيفا وكان الكفار تسعمائة ونيفا وقوله { مثليهم } يعني ثلاثة أمثالهم والمعنى في ذلك عن طريق اللغة أن الإنسان إذا كان عنده ألف درهم يقول احتاج إلى مثليها فإنه يحتاج إلى ثلاثة آلاف درهم وقال الزجاج هذا القول لا يصح في اللغة ولا في المعنى ولكن المسلمين يرونهم مثليهم في العدد لكي لا يجبنوا لأنه أعلمهم أن المائة تغلب المائتين فأراهم في { رأي العين } أن المشركين مثلهم في العدد لكي لا يجبنوا وهذا كما قال في آية أخرى { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } الأنفال ٤٤ وذلك أن المشركين كانوا تسعمائة فأرى المسلمين أنهم ستمائة لكي لا يجبنوا وأرى الكفار أن المسلمين أقل من ثلاثمائة ثم ألقى مع ذلك في قلوبهم الرعب حتى انهزموا فكان في ذلك دلالة من الدلالات فمن قرأ بالياء فمعناه خطاب لليهود إن لكم آية وعلامة حيث رأيتم غلبة المسلمين على الكفار مع قلة المسلمين وكثرة الكفار فإن قيل اليهود لم يكونوا حضورا في ذلك الوقت فكيف يرون ذلك قيل له إذا انتشر الخبر فيهم وعلموا ذلك صار كالمعاينة ولأن لهم جواسيس عند المسلمين فيخبرون اليهود فصار كأنهم رأوا ذلك ومن قرأ بالتاء فمعناه أن المسلمين يرون الكفار مثليهم ويقال إن المشركين حين خرجوا من مكة كانوا ألفا وثلاثمائة رجل فلما وجدوا العير سالمة رجع مع العير ثلاثمائة وخمسون وتخلف تسعمائة وخمسون للحرب وكان أبو سفيان بن حرب مع ذلك العير فرجع إلى مكة وحثهم على الخروج ولم يكن حاضرا وقت الحرب وإنما قال الكلبي في كتابه نزلت في جمع أبي سفيان وأصحابه لأن أبا سفيان هو الذي حثهم على الخروج ولم يخرج معهم ثم قال تعالى { واللّه يؤيد بنصره من يشاء } يعني يقوي بنصرته وهم أهل بدر فأرسل إليهم الملائكة وهزم المشركين { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } يعني لمن ينصر الحق ١٤قوله تعالى { زين للناس حب الشهوات } أي حسن وحبب إليهم وقد يكون التزيين من اللّه تعالى كما قال في آية أخرى { زينا لهم أعمالهم } النمل ٤ وقد يكون من الشيطان كما قال في آية أخرى { وزين لهم الشيطان أعمالهم } النمل ٢٤ فأما التزيين من اللّه تعالى فهو على وجهين يكون على جهة الامتحان للمؤمنين مع العصمة وقد يكون للكفار على جهة العقوبة مع الخذلان وأما التزيين من الشيطان فهو على جهة الوسوسة فقال { زين للناس حب الشهوات مع النساء والبنين } بدأ بالنساء لأن النساء أشد من فتنة جميع الأشياء كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما تركت لأمتي فتنة أشد من فتنة النساء ولأن النساء فتنتهن ظاهرة من وقت آدم عليه السلام إلى يومنا هذا ويقال في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة واحدة إحداهما أنها تؤدي إلى قطيعة الرحم لأن المرأة تأمر زوجها بقطيعة الرحم عن الأمهات والأخوات والثانية يبتلي لجمع المال من الحلال والحرام وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهي ما ابتلي به من جمع المال لأجلهم فذكر البنين وأراد به الذكور والإناث وقال بعض الحكماء أولادنا فتنة إن عاشوا فتنونا وإن ماتوا أحزنونا ثم قال عز وجل { والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } عن الفراء أنه قال القناطير جمع قنطار والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير وروي عن أبي عبيدة أنه قال { المقنطرة } مفعلة من الورق كما يقال ألوف مؤلفة وبدار مبدرة ويقال { المقنطرة } هي المكيلة ثم اختلفوا في مقدار القنطار فروي عن مجاهد أنه قال القنطار سبعون ألف دينار وقال أبو هريرة القنطار اثني عشر ألف أوقية وقال معاذ بن جبل ألف ومائتا أوقية وقال بعضهم ملء مسك ثور من ذهب حكاه الكلبي وقال هو لغة رومية وروي عن الحسن البصري أنه سئل عن القنطار فقال هو مثل دية أحدكم ثم قال تعالى { والخيل المسومة } يعني الراعية كما قال في آية أخرى { فيه تسيمون } أي ترعون وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل وقال يحيى بن كثير هي السمينة المصورة وقال أبو عبيدة المعلمة ثم قال تعالى { والأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم ثم قال { والحرث } يعني الزرع ذكر أربعة أصناف كل نوع من الأموال كل نوع من الأموال يتمول به صنف من الناس أما الذهب والفضة فيتمول به التجار وأما الخيل المسومة فيتمول به الملوك وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي وأما الحرث فيتمول به أهل الرساتيق فتكون فتنة كل النوع الذي يتمول به وأما النساء والبنين فهي فتنة للجميع ثم زهد في الدنيا ورغب في الآخرة فقال { ذلك متاع الحياة الدنيا } يعني منفعة الحياة الدنيا تذهب ولا تبقى { واللّه عنده حسن المآب } يعني المرجع في الآخرة الجنة لا تزول ولا تفنى ثم بين أن الذي وعد المؤمنين في الآخرة خير مما زين ١٥فقال عز وجل { قل أؤنبئكم بخير من ذلك } يعني من الذي زين للناس { للذين اتقوا } الشرك والفواحش والكبائر ويقال للذين اتقوا الزينة فلا تشغلهم عن طاعة اللّه { جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني البساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها الأنهار فهو خير من زينة الدنيا وروي أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لشبر في الجنة خير من الدنيا وما فيها وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قال { خالدين فيها } يعني مقيمين فيها أبدا { وأزواج مطهرة } معناه في الخلق والخلق فأما الخلق فإنهن لا يحضن ولا يتمخطن ولا يأتين الخلاء وأما الخلق فإنهن لا يغرن ولا يحسدن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن { ورضوان من اللّه } يعني مع هذه النعم لهم رضوان من اللّه وهو من أعظم النعم كما قال في آية أخرى { ورضوان من اللّه أكبر } التوبة ٧٢ قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ورضوان } بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان وتفسيرهما واحد ثم قال تعالى { واللّه بصير بالعباد } يعني عالم بأعمالهم وثوابهم ١٦ثم وصفهم فقال تعالى { الذين يقولون ربنا إننا آمنا } يعني صدقنا { فاغفر لنا ذنوبنا } يعني خطايانا التي كانت في الشرك وفي الإسلام { وقنا عذاب النار } يعني ادفع عنا عذاب النار ١٧ثم قال عز وجل { الصابرين } الذين يصبرون على طاعة اللّه ويصبرون على المعاصي ويصبرون على ما أصابهم من الشدة والمصيبة ثم قال تعالى { والصادقين } في إيمانهم وفي قلوبهم وفي وعدهم بينهم وبين الناس وبينهم وبين اللّه تعالى ثم قال تعالى { والقانتين } يعني المطيعين للّه تعالى { والمنفقين } الذي يتصدقون من أموالهم في سبيل اللّه { والمستغفرين بالأسحار } يعني يصلون للّه عند الأسحار ويقال يصلون للّه بالليل ويستغفرون عن السحر ١٨قوله تعالى { شهد اللّه أنه لا إله إلا اللّه } يعني أن اللّه تعالى قبل أن يخلق الخلق شهد أن لا إله إلا هو { والملائكة } ولما خلق الملائكة شهدوا بذلك ثم لما خلق اللّه المؤمنين شهدوا بمثل ذلك وهم { أولو العلم } يعني المؤمنين شهدوا بذلك { قائما بالقسط } يعني اللّه قائما بالعدل على كل نفس ويقال من أقر بهذه الشهادة على عقد قلبه فقد قام بالعدل وقال مقاتل سبب نزول هذه الآية أن عبد اللّه بن سلام وأصحابه قالوا لرؤساء اليهود اتبعوا دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت اليهود ديننا أفضل من دينكم فقال اللّه تعالى { شهد اللّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } يشهدون بذلك وأولوا العلم بالتوراة يشهدون بذلك ويشهدون أن اللّه قائم بالقسط يعني بالعدل وأن الدين عند اللّه الإسلام قال الكلبي وفيه وجه آخر وذلك أنه لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما نظرا إلى المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا عليه قالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت أحمد قال أنا محمد وأحمد قالا أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب اللّه تعالى فنزلت هذه الآية { شهد اللّه أن لا إله إلا هو } إلى آخرها فأسلم الرجلان وصدقا أن الدين عند اللّه الإسلام وروي عن أبي عبيدة أنه قال { شهد اللّه } يعني علم اللّه وبين اللّه فاللّه عز وجل دل على توحيده لجميع ما خلق فبين أنه لا يقدر أحد أن يننشىء شيئا واحدا مما أنشأ اللّه تعالى وشهدت { الملائكة } لما علمت من عظيم قدرته وشهد { أولو العلم } بما ثبت عندهم وتبين عندهم وتبين من خلقه الذي لا يقدر غيره عليه وفي هذا الآية بيان فضل أهل العلم لأنه ذكر شهادة نفسه ثم ذكر شهادة الملائكة ثم ذكر شهادة أهل العلم ثم قال تعالى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } فشهد بمثل ما شهد من قبل لتأكيد الكلام وروي عن سعيد بن جبير أنه قال كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من العرب صنم أو صنمان فلما نزلت هذه الآية أصبحت تلك الأصنام كلها قد خرت ساجدة ١٩ثم قال عز وجل { إن الدين عن اللّه الإسلام } قرأ الكسائي إن { الدين } بالنصب على معنى البناء يعني شهدوا أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند اللّه الإسلام وقرأ الباقون بالكسر على معنى الابتداء ومعناه {إن الدين} المرضي عند اللّه الإسلام {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } في هذا الدين { إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } يعني بيان أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهم اليهود والنصارى فلما بعث اللّه تعالى محمدا كفروا حسدا منهم هكذا قال مقاتل ويقال إنهم كانوا مسلمين وكانوا يسمون بذلك وكان عيسى عليه السلام سمى أصحابه مسلمين فحسدتهم اليهود لمشاركتهم في الاسم فغيروا ذلك الاسم وسموا يهودا وأما النصارى فغيرهم عن ذلك الاسم بولس وسماهم نصارى فذلك قوله تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } يعني غيروا الاسم حسدا منهم ثم قال تعالى { ومن يكفر بآيات اللّه فإن اللّه سريع الحساب } لأنه قد جاء في آية أخرى { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } يعني سريع المجازاة ويقال { سريع الحساب } يعني سريع المجازاة ويقال سريع التعريف للعامل عمله لأنه عالم بجميع ما عملوا لا يحتاج إلى إثبات شيء وتذكر شيء ويقال إذا حاسب فحسابه سريع يحاسب جميع الخلق في وقت واحد كل واحد منهم يظن أنه يحاسبه خاصة ٢٠قوله تعالى { فإن حاجوك } أي خاصموك وجادلوك في الدين { فقل أسلمت وجهي للّه } يعني أخلصت ديني للّه وقال الزجاج إن اللّه تعالى أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يحتج على أهل الكتاب والمشركين بأنه اتبع أمر اللّه الذي هم أجمعون مقرون بأنه خالقهم فأراهم الدلالات والآيات بأنه رسوله وقوله تعالى { أسلمت وجهي للّه } يعني قصدت بعبادتي اللّه وأقررت بأنه لا إله غيره وقال القتبي معنى { أسلمت وجهي للّه } أي أسلمت للّه والوجه زيادة كما قال اللّه تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } يعني إلا هو ثم قال تعالى { وقل للذين أوتوا الكتاب } يعني أعطوا التوراة والإنجيل { والأميين } يعني مشركي العرب ( أأسلمتم ) يعني أخلصتم بالتوحيد ويقال اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه يقول أسلموا كما قال في آية أخرى { فهل أنتم منتهون } يعني انتهوا وقال الزجاج { أفلا يتوبون إلى اللّه } المائدة ٧٤ يعني توبوا ثم قال تعالى { فإن أسلموا فقد اهتدوا } يعني إن أخلصوا بالتوحيد وصدقوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالكتاب فقد اهتدوا من الضلالة { وإن تولوا } يقول إن أبوا أن يسلموا { فإنما عليك البلاغ } بالرسالة { واللّه بصير بالعباد } يعني بأعمالهم ومعناه ليس عليك من عملهم شيء وإنما عليك التبليغ وقد فعلت ما أمرت به ٢١قوله تعالى { إن الذين يكفرون بآيات اللّه } يعني يجحدون بالقرآن وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ويقتلون النبيين بغير حق } يعني يتولون آباءهم بالقتل ويرضون بذلك قرأ حمزة { يقاتلون } بألف من المقاتلة وقرأ الباقون بغير ألف وقرأ نافع { النبيئين } بالهمزة وقرأ الباقون بغير همز {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } يعني بالعدل وهم مؤمنو بني إسرائيل يأمرونهم بالمعروف فكانوا يقتلونهم فعيرهم اللّه بذلك وأوعدهم النار فقال { فبشرهم بعذاب أليم } يعني وجيع ويقال { أليم } يعني يؤلم ٢٢ثم قال تعالى { أولئك الذين حبطت أعمالهم } يعني بطل ثواب حسناتهم فلا ثواب لهم { في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين } يعني مانعين يمنعونهم من النار ٢٣ثم قال عز وجل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يعني أعطوا حظا من علم التوراة قال مقاتل نزلت في كعب بن الأشراف وجماعة منهم حين قالوا نحن أهدى سبيلا وما بعث اللّه رسولا بعد موسى فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنتم تعلمون أن الذي أقول لكم حق فأخرجوا التوراة فأبوا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } { يدعون إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } وقال الكلبي نزلت في يهوديين من أهل خيبر زنيا وكان الحكم في كتابهم الرجم فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقضى عليهما بالرجم فقالوا ليس هذا بحكم اللّه فدعا بالتوراة ودعا بابن صوريا وكان أعور فحلفه باللّه فأقر بالقصة فأنزل اللّه تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب اللّه } الآية ٢٤ثم قال عز وجل { ذلك } يعني ذلك الجزاء قال مقاتل فيها تقديم وتأخير ومعناه فبشرهم بعذاب أليم { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار } ويقال إنما جزاؤهم على خلاف الكتاب لأنهم قالوا لن تمسنا النار { إلا أياما معدودات } يعنون أربعين يوما على عدد أيام عبادة العجل ويقال على عدد أيام الدنيا ويقال مذهبهم كان مذهب جهم لأنهم لا يرون الخلود في النار ثم قال تعالى { وغرهم في دينهم } عفو اللّه عنهم بتأخير العذاب { ما كانوا يفترون } يكذبون على اللّه وهو قولهم { نحن ابنؤا اللّه وأحبؤه } المائدة ١٨ فذلك قولهم الذي غرهم ٢٥ثم خوفهم فقال تعالى { فكيف إذا جمعناهم } فقال فكيف يصنعون وكيف يحتالون إذا جمعناهم { ليوم لا ريب فيه } يعني يوم القيامة لا شك فيه عند المؤمنين بأنه كائن { ووفيت كل نفس ما كسبت } يعني وفيت وأعطيت كل نفسا عملت { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيء ٢٦قوله تعالى { قل اللّهم مالك الملك } قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن المنافقين وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما فتح مكة قال عبد اللّه بن أبي رأس المنافقين إن محمدا يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنى له ذلك فنزلت هذه الآية وقال بعضهم سأل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ربه أن يجعل له ملك الروم وفارس في أمته فعلمه اللّه بأن يدعو بهذا الدعاء وهو قول مقاتل وقال بعضهم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما أمر اللّه بحفر الخندق ظهرت في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها فأخذ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المعول وضرب ضربة فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان رأيت شيئا عجيبا فقال له النبي هل رأيت ذلك قال نعم فقال رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام ثم ضرب ضربة أخرى فكذلك ظهر أيضا فقال رأيت قصور أهل فارس فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سيظهر لأمتي ملك الشام وملك فارس فقال المنافقون إن محمدا لا يأمن على نفسه واضطر إلى حفر الخندق فكيف يتمنى ملك الشام وفارس فنزلت هذه الآية وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا إن ملك فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج فلو كان هو نبيا كيف ينام على الحصير فنزلت هذه الآية { قل اللّهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } وأصل { اللّهم } في اللغة يا اللّه أمنا بخير أي اقصدنا بالرحمة ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان كلمة واحدة فقال { اللّهم } يعني اللّهم يا مالك الملك { تؤتي الملك من تشاء } يعني تعطي الملك من تشاء يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ومن اتبعه { وتنزع الملك ممن تشاء } يعني من فارس والروم { وتعز من تشاء } يعني أهل الإسلام { وتذل من تشاء } يعني أهل الشرك والطغيان { بيدك الخير } يعني النصرة والغنيمة والعز { إنك على كل شيء قدير } من العز والذل وقال الضحاك { تؤتي الملك من تشاء } يعني الإسلام { وتعز من تشاء } بالإسلام { وتذل من تشاء } بالشرك { بيدك الخير } يعني الهداية والسعادة { إنك على كل شيء قدير } من الهداية والسعادة وقال الزجاج { تؤتي الملك من تشاء } معناه أن تؤتيه { وتنزع الملك ممن تشاء } أن تنزعه إلا إنه حذف الهاء لأن في الكلام ما يدل عليه قال مقاتل وقد قيل في الملك قولان أحدهما هو المال والعبيد والآخر من جهة الغلبة بالدين ٢٧ثم قال عز وجل { تولج الليل في النهار } يعني ما نقص من الليل دخل في النهار حتى يبلغ خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون والليل حتى يصير الليل تسع ساعات يعني أقصر ما يكون وهو قول الكلبي ويقال { تولج الليل في النهار } يعني تذهب بالليل وتجيء بالنهار وتذهب بالنهار وتجيء بالليل هكذا إلى أن تقوم الساعة ثم قال { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { الميت } بالتشديد وقرأ الباقون { الميت } بالتخفيف وهما لغتان ومعناهما واحد قال الكلبي يعني تخرج البيضة وهي ميتة من الطير وهو حي وتخرج النطفة وهي ميتة من الإنسان الحي وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة وتخرج الحبة من السنبلة وقال الحسن البصري يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن ويقال يخرج الجاهل من العالم ويخرج العالم من الجاهل وروى معمر عن الزهري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل على بعض نسائه فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال من هذه قالوا إحدى خالاتك قال ومن هي قالوا هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سبحان اللّه الذي يخرج الحي من الميت وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا ثم قال تعالى { وترزق من تشاء يغير حساب } يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء فكأنه يقول ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء كما قال تعالى { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } الأنبياء ٢٣ ويقال بغير تقتير ويقال بغير حسبان كما قال وترزقه من حيث لا يحتسب ٢٨وقوله تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافري أولياء } قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن المنافقين عبد اللّه بن أبي ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق وقد أظهروا الإسلام والإيمان فكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وقال مقاتل نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك فقال { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء } فهذا نهي بلفظ المغايبة يعني لا يتخذونهم أولياء في النصرة والعون { من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء } يعني ليس في ولاية اللّه ويقال ليس في دين اللّه من شيء لأن ولي الكافر يكون راضيا بكفره ومن كان راضيا بكفره فهو كافر مثله كقوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } المائدة ٥١ ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين ربما يبتلون في أيدي الكفار فقال تعالى { إلا إن تتقوا منهم تقاه } قرأ يعقوب الحضرمي { تقية } وقرأءة العامة { تقاه } ومعناهما واحد يعني يرضيهم بلسانه وقلبه مطمئن الإيمان فلا إثم عليه كما قال تعالى في آية أخرى { إلا من أكره وقبله مطمئن بالإيمان } النحل ١٠٦ وقرأءة حمزة والكسائي { تقاه } بالإمالة وقرأ الباقون بتفخيم الألف ثم قال { ويحذركم اللّه نفسه } يعني يخوفكم اللّه بعقوبته يعني الذي يتخذ الكافر وليا بغير ضرورة وهذا وعيد لهم ويقال إذا كان الوعيد مبهما فهو أشد ثم قال تعالى { وإلى اللّه المصير } يعني مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم ٢٩قوله تعالى { قل إن تخفوا ما في صدوركم } يقول إن تسروا ما في قلوبك من النكوث وولاية الكفار { أو تبدوه } يعني تعلنوه للمؤمنين { يعلمه اللّه } لأن اللّه { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } من عمل فليس يخفى عليه شيء { واللّه على كل شيء قدير } من السر والعلانية والعذاب والمغفرة قدير ٣٠ثم قال عز وجل { يوم تجد كل نفس ما عملت } في الدنيا { من خير محضرا } يعني تجد ثوابه حاضرا ولا ينقص من ثواب عمله شيء { وما عملت من سوء } يعني من شر في الدنيا { تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } يعني تتمنى النفس أن تكون بينها وبين ذلك العمل أجلا بعيدا كما بين المشرق والمغرب ولم تعمل ذلك العمل قط ثم قال تعالى { ويحذركم اللّه نفسه } يعني عقوبته في عمل السوء { واللّه رؤوف بالعباد } قال ابن عباس يعني بالمؤمنين خاصة وهو رحيم بهم ويقال ( رؤوف ) بالذين يعملون السوء حيث لم يعجل بعقوبتهم ويقال في أول هذه الآية ذكر عدله عز وجل { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } وفي أوسطها تخويفا وتهديدا وهو قوله { ويحذركم اللّه نفسه } وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله { واللّه رؤوف بالعباد } ٣١قوله تعالى { قل إن كنتم تحبون اللّه } وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام قالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأنباء ولنحن أشد حبا للّه فقال اللّه لنبيه { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني } على ديني فإني رسول اللّه أؤدي رسالته قوله تعالى { يحببكم اللّه } قال الزجاج يعني { تحبون اللّه } أي تقصدون طاعته فافعلوا ما أمركم اللّه عز وجل لأن محبة الإنسان للّه وللرسول طاعته له ورضاه بما أمر والمحبة من اللّه عفوه عنهم وإنعامه عليهم برحمته ويقال الحب من اللّه عصمته وتوفيقه والحب من العباد طاعته كما قال القائل ( تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع ) ( لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع ) فلما نزلت هذه الآية قالوا أن محمدا يريد أن نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى حنانا ٣٢فنزلت هذه الآية { قل أطيعوا اللّه والرسول } فقرن طاعته بطاعة رسوله رغما لهم ويقال { أطيعوا اللّه } فيما أنزل { والرسول } فيما بين { فان تولوا } يعني أعرضوا عن طاعتهما { فإن اللّه لا يحب الكافرين } يعني لا يغفر لهم ٣٣قوله تعالى { إن اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم } يعني اختاره ويقال اختار دينه وهو دين الإسلام ويقال قد اختاره لخمسة أشياء أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته والثاني أنه علمه الأسماء كلها والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له والرابع أسكنه الجنة والخامس جعله أبا للبشر واختار نوحا عليه السلام بخمسة أشياء أولها أنه جعله أبا البشر لأن الناس كلهم غرقوا وصارت ذريته هم الباقون والثاني أنه أطال عمره ويقال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين والرابع أنه حمله على السفينة والخامس أنه كان أول من نسخ به الشرائع وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات واختار آل إبراهيم عليه السلام بخمسة أشياء أولها أنه جعله أبا الأنبياء لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والثاني أنه أتخذه خليلا والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماما والخامس أنه ابتلاه اللّه بكلمات فوفقه حتى أتمهن ثم قال تعالى { وآل عمران } قال مقاتل يعني به أبا موسى وهارون وقال الكلبي هو عمران أبو مريم وهو من ولد سليمان النبي عليه السلام فإنه أراد به آل موسى وهارون إنما كان اختارهما على العالمين حيث بعثهما على قومه المن والسلوى ولم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن أراد به أبا مريم فإنه اصطفى آله يعني مريم بولادة عيسى عليه السلام بغير أب ولم يكن ذلك لأحد في العالم وقال الكلبي يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية { على العالمين } يعني عالمي زمانهم ٣٤ثم قال تعالى ( ذرية بعضها من بعض ) يعني بعضهم على إثر بعض وقال بعضهم على دين بعض { واللّه سميع } لقولهم { عليم } بهم وبذنوبهم ويقال { واللّه سميع عليم } انصرف إلى ما بعده يعني سميع لقول امرأة عمران ٣٥{ إذا قالت امرأة عمران } وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان وذلك أنها لما حبلت قالت لئن نجاني اللّه ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة ويلزم المحراب فيعبد اللّه تعالى فيه وهذا قول مقاتل وقال الكلبي { محررا } أي خادما لبيت المقدس ولم يكن محررا إلا الغلمان وقال أهل اللغة المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد فقال لها زوجها إن كان الذي في بطنك أنثى والأنثى عورة فكيف تصنعين فاهتمت بذلك وقالت يا { رب إني نذرت لك } وأنت تعلم { ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع } لدعائي { العليم } بنيتي وما في بطني ٣٦{ فلما وضعتها } يعني ولدت فإذا هي أنثى { قالت رب إني وضعتها أنثى } يعني ولدتها جارية { واللّه أعلم بما وضعت } قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { واللّه أعلم بما وضعت } بجزم العين وضم التاء يعني أن المرأة قالت واللّه أعلم بما وضعت والباقون بنصب العين وجزم التاء فيكون هذا قول اللّه إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة ثم قال تعالى { وليس الذكر كالأنثى } قال بعضهم هذا قول اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { وليس الذكر كالأنثى } يا محمد في الخدمة وقال بعضهم هي كلمة المرأة أنها قالت { وليس الذكر كالأنثى } في الخدمة وقال مقاتل فيها تقديم فكأنه يقول قالت رب أبي وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى { واللّه أعلم بما وضعت } ثم قالت حنة { وإني سميتها مريم } يعني خادم الرب بلغتهم { وإني أعيذها بك } يعني أعصمها وأمنعها بك { وذريتها } إن كان لها ذرية { من الشيطان الرجيم } يعني الملعون ويقال المطرود من رحمة اللّه ويقال { الرجيم } بمعنى المرجوم كما قال { وجعلنها رجوما للشيطين } الملك ٥ قال حدثنا أبو الليث قال حدثنا الخليل بن أحمد القاضي قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما من مولود يولد إلا والشيطان ينخسه حين يولد فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } وقال الزجاج معنى قوله { إذ } يعني إن اللّه اختار آل عمران { إذ قالت امرأة عمران } واصطفاهم إذ قالت الملائكة وقال أبو عبيدة معناه قالت امرأة عمران وقالت الملائكة و { إذ } زيادة وقال الأخفش معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران واذكر إذ قالت الملائكة ثم إن حنة لفتها في خرق ثم ضعتها في بيت المقدس عند المحراب واجتمعت القراء أي الزهاد فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقال القراء إن هذه محررة فلو تركت لخالتها لكانت أمها أحق بها ولكن نتساهم فخرجوا إلى عين سلوان فألقوا أقلامهم في النهر قال بعضهم كانت أقلامهم من الشبه فغابت أقلامهم في الماء وبقي قلم زكريا على وجه الماء وقال بعضهم كانت أقلامهم من قصب فبقيت أقلامهم على وجه الماء وغاب قلم زكريا في الماء وقال بعضهم ألقوا أقلامهم في النهر فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا فإنه جرى من الجانب الأعلى فعلموا أن الحق له فضمها إلى نفسه فذلك ٣٧قوله تعالى { فتقبلها ربها بقبول حسن } يعني تقبل منها نذرها { وأنبتها نباتا حسنا } وقال مجاهد غذاها غذاء حسنا ورباها تربية حسنة { وكفلها زكريا } قرأ حمزة والكسائي وعاصم بالتشديد يعني ضمها اللّه إلى زكريا وقرأ الباقون بالتخفيف يعني ضمها زكريا إلى نفسه وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { زكريا } بغير مد وإعراب وجزم الألف وقرأ الباقون بالإعراب والمد وهما لغتان معروفتان عند العرب فمن قرأ { كفلها } بالتشديد قرأ زكريا بنصب الألف لأنه يصير مفعولا ومن قرأ { كفلها } بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محرابا في غرفة وجعل باب الغرفة في وسط الحائط لا يصعد إليها إلا بسلم واستأجر ظئرا فكان يغلق عليها الباب وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون عند خالتها وكانت خالتها امرأة زكريا وهذا قول الكلبي وقال مقاتل كانت أختها امرأة زكريا وكانت إذا طهرت من حيضها واغتسلت ردها إلى المحراب وقال بعضهم كانت لا تحيض وكانت مطهرة من الحيض وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء رأى عندها فاكهة الصيف وإذا دخل عليها في أيام الصيف رأى عندها فاكهة الشتاء وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة إذا رأى الفاكهة في غير أوانها وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين فذلك قوله تعالى { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا } ويقال { المحراب } في اللغة أشرف المجالس وهو المكان العالي وقد قيل إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف { قال } لها زكريا { يا مريم أنى لك هذا } يعني من أين لك هذا فإنه لا يدخل عليك أحد غيري { فقالت } مريم { هو } أي هذا الرزق { من عند اللّه } يعني من فضل اللّه { إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب } في غير حينه ويقال من حيث لا يحتسب ٣٨قوله تعالى { هنالك دعا زكريا ربه } يقول عند ذلك طمع في الولد وكان آيسا من ذلك وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه وقد صار ذلك بيده وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات فقال عند ذلك إن اللّه قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف وبرزق الصيف في الشتاء فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى { هنالك دعا زكريا ربه } { قال رب هب لي من لدنك } يعني من عندك { ذرية طيبة } يعني نقيه مهذبه ويقال مستوي الخلق ويقال مسلمة مطيعة ويقال تقيه { أنك سميع الدعاء } أي مجيبا له ٣٩قوله تعالى { فنادته الملائكة } قرأ حمزة والكسائي بالياء يعني ناداه جبريل عليه السلام وإنما صار مذكرا على معنى الجنس كما يقال فلان ركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وقرأ الباقون { فنادته } على معنى التأنيث لأن اللفظ لفظ الجماعة والمراد به أيضا جبريل { إن اللّه يبشرك بيحييى } قرأ حمزة وابن عامر { إن اللّه يبشرك } بكسر الألف ومعناه فنادته الملائكة وقالوا له إن اللّه يبشرك وقرأ الباقون بالنصب ومعناه فنادته الملائكة بأن اللّه يبشرك { بيحيى } قال مقاتل اشتق اسمه من اسم اللّه تعالى حي واللّه تعالى حي فسماه اللّه تعالى يحيى ويقال لأنه حيي به رحم أمه ويقال لأنه حي به المجالس ثم قال تعالى { مصدقا بكلمة من اللّه } يعني بعيسى عليه السلام وكان يحيى أول من صدق بعيسى عليهما السلام وهو ابن ثلاث سنين فشهد له أنه كلمة اللّه وروحه فلما شهد بذلك يحيى عجبت بنو إسرائيل لصغره فلما سمع زكريا شهادته فقام إلى عيسى فضمه إليه وهو في خرقة وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين وقال بعضهم صدقة وهو في بطن أمه كانت أم يحيى عند مريم إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى وكل واحد منهما كان في بطن أمه وذلك قوله { مصدقا بكلمة من اللّه } { وسيدا } يعني حكيما { وحصورا } يعني لا يأتي النساء وهو قول الكلبي وقال سعيد بن جبير السيد الذي يملك غضبه والحصور الذي لا يأتي النساء وقال مقاتل يعني لا ماء له يعني لم يكن له ماء في الصلب وقال بعضهم هذا لا يصح لأن العنة عيب بالرجال والنبي لا يكن معيبا ولكن معناه أنه كان مانعا نفسه من الشهوات لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له ثم قال تعالى { ونبيا من الصالحين } يعني أن يحيى كان نبيا من الصالحين فلما بشره جيريل بذلك ٤٠{ قال رب أنى يكون لي غلام } قال ذلك على وجه التعجب لا على وجه الشك قال لجبريل { رب } أي يا سيدي من أين يكون لي غلام يعني ولد وهذا قول الكلبي وقال بعضهم قوله { رب } يعني يا اللّه على وجه الدعاء يا رب من أين يكون لي ولد { وقد بلغني الكبر } قال القتبي هذا من المقلوب يعني بلغت الكبر وقال الكلبي كان يوم بشر ابن تسعين سنة وامرأته قريبة في السن منه وقال الضحاك كان ابن مائة وعشرين سنة فذلك قوله { وقد بلغني الكبر } يعني الهرم { وامرأتي عاقر } لا تلد { قال كذلك } قال بعضهم تم الكلام عند قوله ( كذلك ) يعني هكذا كما قلت إنه قد بلغك الكبر وامرأتك عاقر ثم قال تعالى { اللّه يفعل ما يشاء } وقال بعضهم معناه { قال كذلك } يعني اللّه تعالى هكذا قال إنه يكون لك ولد { واللّه يفعل ما يشاء } إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر وإن شاء في حال الكبر ٤١قوله تعالى { قال رب اجعل لي آية } يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف { قال آيتك } يعني علامة الحبل { ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } يعني أنك تصبح فلا تطيق الكلام ثلاثة أيام { إلا رمزا } أي كلاما خفيا ويقال الرمز بالشفتين والحاجبين والإيماء باليد والرأس قال بعضهم كان منع الكلام عقوبه له لأنه بشر بالولد فسأل آية فحبس اللّه لسانه ثلاثة أيام عن الناس ولم يحبسه عن ذكر اللّه وعن الصلاة وقال بعضهم لم يكن عقوبة لكن كرامة له حين جعلت له علامة لظهور الحبل ومعجزة له وروى أسباط عن السدي أنه قال لما بشر بيحيى قال له الشيطان إن النداء الذي سمعت بالبشارة كان من الشيطان ولو كان من اللّه لأوحى إليك كما أوحى إليك وإلى سائر الأنبياء وكما أوحى إليك بسائر الأشياء فقال عند ذلك { اجعل لي آية } حتى أعلم أن هذه البشارة منك قال { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } وقال في موضع آخر { ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا } مريم يعني أنك مستوي الخلق ولا علة بك ثم أمره بذكر ربه لأن لسانه لم يمنع عن ذكر اللّه تعالى فقال { واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } يعني بالغداة والعشي ويقال بالليل والنهار ٤٢قوله تعالى { وإذ قالت الملائكة } يعني جبريل { يا مريم إن اللّه اصطفاك } يعني اختارك بالإسلام { وطهرك } من الذنوب والفواحش ويقال من دم الحيض والنفاس { واصطفاك على نساء العالمين } يعني بولادة عيسى بغير أب وقال بعضهم { اصطفاك } يعني فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها ٤٣{ يا مريم اقنتي لربك } يعني أطيعي ويقال أطيلي القيام في الصلاة وقال مجاهد قامت في الصلاة حتى تورمت قدماها ونحل جسمها ثم قال تعالى { واسجدي واركعي مع الراكعين } يعني مع المصلين يعني مع قراء بيت المقدس ٤٤قوله تعالى { ذلك من أنباء الغيب } يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب مما غاب عنك خبره ولم تكن حاضرا وفي الآية دلالة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم ولم يكن قرأ الكتب وأخبر عن ذلك وصدقة أهل الكتاب بذلك ولم يكن قرأ الكتاب فذلك قوله تعالى { ذلك في أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } يعني لم تكن عندهم وإنما تخبر عن الوحي فقال { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة { وما كنت لديهم إذ يختصمون } في أمر مريم ٤٥قوله تعالى { إذ قالت الملائكة يا مريم } يعني جبريل عليه السلام وحده { إن اللّه يبشرك بكلمة منه } قرأ نافع وعاصم وابن عامر { يبشرك } بالتخفيف في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في { حم ، عسق } { ذلك الذي يبشر اللّه عباده } الشورى ٢٣ بالتخفيف وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله ( فبم تبشرون ) الحجر ٥٤ ووافقه الكسائي في بعضها فمن قرأ بالتشديد فهو من البشارة ومن قرأ بالتخفيف فمعناه يفرحك وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض ودخلت المغتسل كما قال في سورة مريم { إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا } مريم ١٦يعني أرادت أن تغتسل في جانب المشرفة فلما دخلت المغتسل رأت بشرا كهيئة الإنسان كما قال { فتمثل لها بشرا سويا } مريم ١٧فخافت مريم ثم قالت { إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } مريم ١٨ لأن التقي يخاف الرحمن فقال لها جبريل { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } مريم وذكرها هنا بلفظ آخر ومعناهما واحد قال { إن اللّه يبشرك بكلمة منه } آل عمران بمعنى بولد بغير أب يصير مخلوقا بكلمة من اللّه وهو قوله كن فكان { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } ويقال إنما سمي المسيح لأنه يسيح في الأرض ويقال الماسح كان يمسح وجه الأعمى فيبصر وقال الكلبي المسيح الملك ثم قال تعالى { وجيها } يعني ذا جاه { في الدنيا و } وله منزلة { في الآخرة } وقال مقاتل فيها تقديم وتأخير يعني وجيها في الدنيا { ومن المقربين } في الآخرة عند ربه وقال الكلبي { وجيها في الدنيا } يعني في أهل الدنيا بالمنزلة { وفي الآخرة } عند ربه { من المقربين } في جنة عدن ٤٦قال عز وجل { ويكلم الناس في المهد وكهلا } يعني في حال صغره وهو في حجر أمه طفلا { وكهلا} يعني إذا اجتمع عقله وكبر فإن قيل ما معنى قوله كهلا والكلام من الكهل لا يكون عجبا قيل له المراد منه كلام الحكمة والعبرة ويقال { كهلا } بعد نزوله من السماء وهو قول الكلبي { ومن الصالحين } مع آبائه في الجنة ٤٧ثم قال { قالت } مريم ( رب أنى يكون لي ولد ) يعني من أين يكون لي ولد { ولم يمسسني بشر } وهو كناية عن الجماع ف { قال } جبريل { كذلك } يعني هكذا كما قلت أنه لم يمسسك بشر ولكن { اللّه يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا } يعني إذا أراد أن يخلق خلقا { فإنما يقول له كن فيكون } فنفخ جبريل في جيبها يعني في نفسها قال بعضهم وقع نفخ جبريل في رحمها فعلقت بذلك وقال بعضهم لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة وبعضه من الإنس ولكن سبب ذلك إن اللّه تعالى لما خلق آدم عليه السلام وأخذ الميثاق من ذريته فجعل بعضهم في أصلاب الآباء وبعضهم في أرحام الأمهات فإذا اجتمع الماءان صار ولدا وأن اللّه تعالى جعل الماءين جميعا في مريم بعضه في رحمها وبعضه في صلبها فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها لأن المرأة ما لم تهج شهوتها لا تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها فاختلط الماءان فعلقت بذلك فذلك قوله { إذا قضى أمرا } يعني إذا أراد أن يخلق خلقا { فإنما يقول له كن فيكون } بغير أب ٤٨ثم قال تعالى { ويعلمه الكتاب } قرأ نافع وعاصم { ويعلمه } بالياء يعني أن اللّه يعلمه وقرأ الباقون بالنون ومعناه أن اللّه يقول ونعلمه { الكتاب } يعني كتب الأنبياء وهذا قول الكلبي وقال مقاتل يعني الخط والكتابه فعلمه اللّه بالوحي والإلهام { والحكمة } يعني الفقه { والتوراة والإنجيل } يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه وقال بعضهم وهو عالم بالتوراة وقال بعضهم ألهمه اللّه بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة ٤٩ثم قال تعالى { ورسولا إلى بني إسرائيل } نصب { رسولا } لمعنيين أحدهما يجعله رسولا إلى بني إسرائيل والثاني ويكلم الناس وعطف رسولا أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال { أني قد جئتكم بآية من ربكم } ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر حيث قال لقومه { قد جئتكم بآية من ربكم } يعني علامة لنبوتي ثم بين العلامة فقال { إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه } ويقال إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له اخلق لنا خفاشا واجعل فيه روحا إن كنت صادقا في مقالتك فأخذ طينا وجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى عليه السلام والخلق من اللّه تعالى كما أن النفخ في مريم من جبريل عليه السلام والخلق من اللّه تعالى ويقال إنما طلبوا منه خلق خفاش لأنه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور ويكون له الضرع يخرج منه اللبن ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا وقالوا هذا سحر ثم قال تعالى { وأبرىء الأكمه والأبرص } { الأكمه } الذي ولد أعمى فقالوا إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا فذهبوا إلى جالينوس وأخبروه بذلك فقال جالينوس إذا ولد أعمى لا يبصر بالعلاج والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاؤوا بالأكمه والأبرص فمسح يده عليهما فأبصر الأعمى وبرئ الأبرص فآمن به بعضهم وجحد بعضهم وقالوا هذا سحر ثم قال تعالى { وأحيي الموتى بإذن اللّه } فأخبروا بذلك جالينوس فقال الميت لا يعيش ولا يحيي بالعلاج فإن كان هو يحيي الموتى فهو نبي وليس بطبيب وطلبوا منه أن يحيي الموتى فأحيا أربعة نفر أحدهم عازر وكان صديقا له فبلغه أنه مات فذهب مع أصحابه وقد دفن وأتى عليه أيام فدعا اللّه فقام بإذن اللّه تعالى وودكه يقطر فعاش وولد له والثاني ابن العجوز مر به وهو يحمل على سرير فدعا اللّه فقام بإذن اللّه تعالى ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله والثالث بنت من بنات العاشر ماتت وأتى عليها ليلة فدعا اللّه تعالى فعاشت بعد ذلك وولد لها والرابع سام بن نوح لأن القوم قالوا له أنك تحيي من كان موته قريبا فلعلهم لم يموتوا وأصابتهم سكته فأحيي لنا سام بن نوح فقال دلوني على قبره فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره فدعا اللّه تعالى فخرج من قبره قد شاب رأسه فقال له عيسى عليه السلام كيف شاب رأسك ولم يكن في زمانكم شيب فقال يا نبي اللّه إنك لما دعوتني سمعت صوتا يقول أجب روح اللّه فظننت أن القيامه قد قامت فمن هول ذلك شاب رأسي فسأله عن النزع فقال له يا نبي اللّه إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة ثم قال للقوم صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه بعضهم وقالوا هذا ساحر فأرنا آية أخرى نعلم أنك صادق فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا وما ندخر للغد فأخبرهم فقال يا فلان أنت أكلت كذا وكذا وأنت أكلت كذا وكذا وادخرت كذا وكذا فذلك قوله { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } للغد فمنهم من آمن به ومنهم من كفر ويقال إن اللّه بعث كل نبي إلى قومه وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه فكان في زمن موسى عليه السلام الغالب عليهم السحر فبين لهم من جنس ذلك ليعرفوا أن ذلك ليس بسحر وأنه من اللّه تعالى وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام علم الطب فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب وكان في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والشعر فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله قوله تعالى { إن في ذلك لآية لكم } يعني فيما صنع عيسى عليه السلام علامة لنبوته { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين أنه نبي قرأ نافع { فيكون طائرا } وكذلك في سورة المائدة وقرأ الباقون بغير ألف ومعناهما واحد ويقال الطائر واحد والطير جماعة ٥٠ثم قال تعالى { ومصدقا لما بين يدي من التوراة } معناه جئتكم مصدقا يعني للكتاب الذي أنزل علي وهو الإنجيل { مصدقا } قال أي موافقا لما بين يدي من التوراة { ولأحل لكم } يعني أرخص لكم { بعض الذي حرم عليكم } مثل الشحوم ولحوم الإبل ولحم كل ذي ظفر وأما الميت ولحم الخنزير فهو حرام أبدا قوله { وجئتكم بآية من ربكم } يعني أني لم أحل لكم شيئا بغير برهان فحقيق عليكم اتباعي لأني أتيتكم ببرهان وأتيتكم بتحليل الطيبات { فاتقوا اللّه وأطيعون } فيما أمركم ونهاكم وأنصح لكم ٥١ثم قال تعالى { إن اللّه ربي وربكم } هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا إن اللّه هو المسيح وقالوا إن اللّه ثالث ثلاثة فاعترف عيسى أنه عبد اللّه وهو قوله تعالى { إن اللّه ربي وربكم } يعني خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم { فاعبدوه } يعني وحدوه ولا تشركوا به شيئا { هذا صراط مستقيم } يعني التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم لا عوج فيه وهو طريق الجنة ٥٢قوله تعالى { فلما أحس عيسى منهم الكفر } قال الكلبي فلما عرف منهم الكفر باللّه ويقال فلما سمع منهم كلمة الكفر وقال الزجاج أحس في اللغة علم ووجد يقال هل أحسست الخبر أي هل عرفته وعلمته وقال مقاتل فلما رأى من بني إسرائيل الكفر كقوله عز وجل { هل تحس منهم من أحد } مريم ٩٨يعني هل ترى ويقال إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله { قال من أنصاري إلى اللّه } يقول من أعواني مع اللّه قال القتبي { إلى } هاهنا بمعنى مع مثل قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } النساء ٢ أي مع أموالكم كما يقال الذود إلى الذود إبل أي مع الذود فقال { من أنصاري إلى اللّه } أي مع اللّه { قال الحواريون نحن أنصار اللّه } قال الكلبي الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلا وقال مقاتل كانوا قصارين فمر بهم عيسى عليه السلام وقال من أنصاري إلى اللّه أي مع اللّه { قالوا نحن أنصار اللّه } ويقال إنه مر بهم وهم يغسلون الثياب فقال لهم إيش تصنعون قالوا نطهر الثياب فقال ألا أدلكم بقصارة أنفع من هذا قالوا نعم فقال تعالوا حتى نطهر أنفسنا من هذه الذنوب فبايعوه ويقال إنهم كانوا صيادين فمر بهم وقال ألا أدلكم على اصطياد أنفع لكم من هذا قالوا نعم فقال تعالوا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس فبايعوه وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي يعني به الخالص فهذا يكون دليلا لقول الكلبي إنهم خواصه وأصفياؤه ومعنى آخر { نحن أنصار اللّه } يعني أنصار دين اللّه ( آمنا باللّه ) يعني صدقنا بتوحيد اللّه { واشهد بأنا مسلمون } يعني أشهدناك على ذلك فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون ٥٣ثم قالوا { ربنا آمنا بما أنزلت } من الإنجيل على عيسى { واتبعنا الرسول } يعني عيسى عليه السلام على دينه { فاكتبنا مع الشاهدين } يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا وشهدوا بوحدانيتك ٥٤ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه فقال { ومكروا } يعني أرادوا قتل عيسى عليه السلام { ومكر اللّه } يعني جازاهم جزاء المكر { واللّه خير الماكرين } لأن مكرهم جور ومكر اللّه عدل قال الكلبي وذلك ان اليهود اجتمعوا على قتل عيسى فدخل عيسى عليه السلام البيت هاربا منهم فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء كما قال في آية أخرى { وأيدنه بروح القدس } البقرة ٨٧ - ٢٥٣ فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا ادخل عليه فاقتله فدخل الرجل الخوخة فلم يجد هناك عيسى وألقى اللّه عليه شبه عيسى فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم قتال فقتل بعضهم بعضا فذلك قوله { ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين } قال الضحاك وكانت القصة أن اليهود لما أرادوا قتل عيسى عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة وهم أثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأحدقوا أي تحلقوا بالغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج فيقتل وهو معي في الجنة فقال رجل منهم انا يا نبي اللّه فألقى إليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه فألقي عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج عليه اليهود فقتلوه وصلبوه وأما المسيح فكساه اللّه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار في الملائكة ٥٥قوله تعالى { إذ قال اللّه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } ففي الآية تقديم وتأخير ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال وتلد له أبنة فتموت ابنته ثم يموت هو بعدما يعيش سنتين لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة فاستجاب اللّه دعاه وروي عن أبي هريرة أنه قال جاء إلى الكتاب وقال للمعلم قل للصبيان حتى يسكتوا فلما سكتوا قال لهم أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى عليه السلام فليقرئه مني السلام وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه وهذا كناية عن قرب الساعة قوله تعالى { ومطهرك } يعني منجيك { من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك } على دينك { فوق الذين كفروا } بالحجة والغلبة { إلى يوم القيامة } وروي عن عبد اللّه بن عباس أنه قال الذين اتبعوه هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم هم الذين صدقوه ثم قال تعالى { ثم إلي مرجعكم } يعني الذين اتبعوك والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي { فأحكم بينكم } يعني بين المؤمنين والكفار { فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين ثم أخبر اللّه تعالى عن حال الفريقين في الآخرة ٥٦فقال { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة } في الدنيا بالقتل والجزية وفي الآخرة بالنار { وما لهم من ناصرين } يعني مانع يمنعهم من عذاب اللّه ٥٧{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال مقاتل هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيوفيهم أجورهم قرأ عاصم في رواية حفص { فيوفيهم } بالياء يعني اللّه يوفيهم أجورهم وأما الباقون بالنون يعني أن اللّه قال { فنوفيهم أجورهم } وهذا اللفظ لفظ الملوك إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة ويقولون نحن نفعل كذا وكذا ونكتب إلى فلان ونأمر بكذا فاللّه تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع { إنا أرسلنا } القمر ١٩ { إنا أنزلنه } النساء١٠٥ وكذلك ها هنا { فيوفيهم أجورهم } يعني نعطيهم ثواب عملهم { واللّه لا يحب الظالمين } يعني لا يرضى دين الكافرين ٥٨قوله تعالى { ذلك نتلوه عليك من الآيات } يقول هذه الآيات وهذه القصص بينات في القرآن وأنزلنا عليك جبريل ليقرأ {عليك من الآيات} يعني من البيان { والذكر الحكيم } يعني القرآن كله وقال الكلبي { الذكر الحكيم } الذي عند رب العالمين في درة بيضاء وهو اللوح المحفوظ ويقال هو القرآن لأنه محكم ليس فيه تناقض ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله ويقال هو الشرف كقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } الزخرف ٤٤ ٥٩قوله تعالى { إن مثل عيسى عند اللّه } نزلت في وفد نجران السيد والعاقب والأسقف وجماعة من علمائهم وأحبارهم قدموا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو عبد اللّه ورسوله فقالوا أرنا خلقا من خلق اللّه تعالى من غير أب وكان يحيي الموتى وكان فيه دليل على ما قلنا وكانوا يقولون إنه اتخذه ابنا فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسلموا فقالوا قد أسلمنا قبلك فقال لهم كذبتم إنما يمنعكم من الإسلام ثلاث أكل لحم الخنزير وعبادة الصليب وقولكم للّه ولد فقالوا له من أبو عيسى فنزل قوله تعالى { إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم } يعني شبه خلق عيسى عند اللّه كشبه خلق آدم { خلقه من تراب } يعني صورة من غير أب ولا أم { ثم قال له كن فيكون } فكان بشرا بغير أب كذلك عيسى كان بشرا بغير أب وفي هذه الآية دليل على أن الشيء يشبه بالشيء وإن كان بينهما فرق كبير بعد أن يجتمعا في وصف واحد كما أن ها هنا خلق آدم من تراب ولم يخلق عيسى من تراب وكان بينهما فرق من هذا الوجه ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب ولأن أصل خلقهما جميعا من تراب لأن آدم لم يخلق من نفس التراب ولكنه جعل التراب طينا ثم جعله صلصالا ثم جعله ثم خلقه منه فكذلك عيسى عليه السلام حوله من حال إلى حال ثم خلقه بشرا من غير أب ٦٠قوله تعالى { الحق من ربك } يعني جبريل عليه السلام كما اخبرتك وأنبأتك في القرآن { فلا تكن من الممترين } أي من الشاكين ويقال المثل الذي ذكر في عيسى هو الحق من ربك وهذا الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد منه جميع من اتبعه ومعناه فلا تكونوا من الممترين أي من الشاكين أن مثله كمثل آدم عليهما السلام ٦١قوله تعالى { فمن حاجك فيه } وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى قالوا ليس كما تقول وهذا ليس بمثل فنزلت هذه الآية { فمن حاجك فيه } يعني خاصمك في أمر عيسى عليه السلام { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البيان في أمره { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } يعني نخرج أبناءنا وابناءكم { و } نخرج { نساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } ونجتمع في موضع { ثم نبتهل } أي نلتعن وقال مقاتل يعني نخلص في الدعاء ويقال هي المبالغة في التضرع { فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين } فوعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يخرجوا للملاعنة فجعلوا وقتا للخروج وتفرقوا على ذلك ثم ندموا فلما كان ذلك اليوم خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأخذ بيد الحسن والحسين وخرج معه علي بن أبي طالب وفاطمة فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم طلب منهم الملاعنة فقالوا نعوذ باللّه فقال لهم إما أن تلتعنوا وأما أن تسلموا وأما أن تقبلوا الجزية فقبلوا الجزية وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة ألف حلة في المحرم وألف حلة في رجب وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ورجعوا فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو أنهم التعنوا لهلكوا كلهم حتى العصافير في سقوف الحيطان ٦٢ثم قال تعالى { إن هذا لهو القصص الحق } يعني ما أخبرهم من أمر عيسى عليه السلام هو الخبر الحق أنه كان عبد اللّه ورسوله ويقال هذا القرآن هو الخبر الحق { وما من إله إلا اللّه } لا شريك له { وإن اللّه لهو العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره حكم بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب ٦٣قوله تعالى { فإن تولوا } يقول أبوا ولم يسلموا { فإن اللّه عليم بالمفسدين } يجازيهم بذلك وهذه كلمة تهديد ٦٤قوله تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } يعني كلمة عدل بيننا وبينكم ويقال في قراءة عبد اللّه بن مسعود إلى كلمة عدل بيننا وبينكم يعني لا إله إلا اللّه وهي كلمة الأخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم فتصير دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا { ألا نعبد إلا اللّه } يعني ألا نوحد إلا اللّه { ولا نشرك به شيئا } من خلقه { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه } لأنهم اتخذوا عيسى ربا ويقال لا يطيع بعضنا بعضا في المعصية كما قال { اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أربابا من دون اللّه } سورة التوبة ٣ أي أطاعوهم في المعصية ويقال لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا كما قالت النصارى إن اللّه ثالث ثلاثة { فإن تولوا } يعني أبوا عن التوحيد { فقولوا } لهم يا معشر المسلمين { اشهدوا بأنا مسلمون } يعني مخلصون للّه بالعبادة والتوحيد ٦٥ثم قال عز وجل { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة لليهود وكل فريق كان يقول إبراهيم منا وكان على ديننا فنزل { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } أي لم تخاصمون في دين إبراهيم { وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } يعني من بعد إبراهيم وأن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل وقال الكلبي نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم جعفر الطيار وغيره كما قال اللّه تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا } أي أطاعوهم في المعصية وكانت بينهم وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك فنزلت هذه الآية وقال الزجاج هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان واسم الإسلام في كل كتاب وهو قوله { لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } ثم قال تعالى { أفلا تعقلون } يقول أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون ٦٦ثم قال عز وجل { ها أنتم هؤلاء حاججتم } أنتم يا هؤلاء خاصمتم { فيما ليس لكم به علم } في صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فتجدونه في كتبكم { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } يقول ما ليس في كتابكم وهو أمر إبراهيم عليه السلام و { اللّه يعلم } أن إبراهيم كان على دين الإسلام { وأنتم لا تعلمون } ذلك ٦٧ثم قال عز وجل { وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } يقول لم يكن إبراهيم عليه السلام على دين اليهودية ولا النصرانية { ولكن كان حنيفا مسلما } يعني مخلصا { وما كان من المشركين } يعني ما كان على دينهم وقال الزجاج الحنيف في اللغة إقبال صدور القدمين إقبالا لا رجوع فيه أبدا فمعنى الحنيفية في الإسلام الإقبال والميل إليه والإقامة على ذلك ٦٨ثم قال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم } يقول أحق الناس بدين إبراهيم { للذين اتبعوه } واقتدوا به وآمنوا به { وهذا النبي } يعني محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على دينه ومنهاجه { والذين آمنوا } هم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على دينه ثم قال { واللّه ولي المؤمنين } في العون والنصرة ٦٩قوله تعالى { ودت طائفة من أهل الكتاب } يعني أرادت وتمنت جماعة من أهل الكتاب { لو يضلونكم } أي يصرفونكم عن دين الإسلام { وما يضلون إلا أنفسهم } أي وبال ذلك يرجع إلى أنفسهم ويقال وما يضلون إلا أمثالهم أمثالهم كقوله عز وجل { فاقتلوا أنفسكم } سورة البقرة ٥٤ يعني بعضكم بعضا { وما يشعرون } قال مقاتل { وما يشعرون } أنهم يضلون بأنفسهم وقال الكلبي { وما يشعرون } أن اللّه يدل نبيه عليه السلام على ضلالتهم أي يطلعه ٧٠ثم قال عز وجل { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه } يقول لم تجحدون بالقرآن { وأنتم تشهدون } أنه نبي اللّه لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال { بآيات اللّه } يعني عجائبه ودلائله ويقال بآية الرجم ٧١ثم قال عز وجل { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل } يعني تخلطون الكفر بالإيمان لأنهم آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه { وتكتمون الحق } يعني نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { وانتم تعلمون } أنه حق وأنه في التوراة ٧٢قوله تعالى ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ) وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا فلما صرف اللّه نبيه عليه السلام إلى الكعبة عند صلاة الظهر وقد كان قد صلّى صلاة الصبح إلى بيت المقدس وصلى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة فقال رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وغيرهما للسفلة منهم { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } يقول صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به فإنه الحق { واكفروا آخره } يعني اكفروا بالقبلة التي صلّى إليها آخر النهار { لعلهم يرجعون } إلى قبلتكم ودينكم وقال مقاتل معناه أنهم جاؤوا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أول النهار ورجعوا من عنده وقالوا للسفلة هو حق فاتبعوه ثم قالوا حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا قد نظرنا في التوراة فليس هو إياه يعنون أنه ليس بحق وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه فذلك قوله { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } يعني قالوا لهم في أول النهار آمنوا به { واكفروا آخره } يعني قالوا في آخر النهار اكفروا به { لعلهم يرجعون } يعني يشكون فيه فيرجعون ٧٣ثم قالوا للسفلة { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } قال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه { ولا تؤمنوا } أي لا تصدقوا { إلى لمن تبع دينكم } فإنه لن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم من التوراة والمن والسلوى ولا تخبروهم بأمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيحاجوكم عند ربكم أي يخاصموكم ويجعلونه حجة عليكم فقالوا ذلك حسدا حيث كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من غيرهم قال اللّه تعالى { قل إن الهدى هدى اللّه } وإن الفضل بيد اللّه وهو قول مقاتل وقال الكلبي فيه تقديم وتأخير يقول { ولا تؤمنوا } أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية وصلى إلى قبلتكم { قل إن الهدى هدى اللّه } يقول دين الإسلام { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام والقرآن الذي فيه الحلال والحرام { أو يحاجوكم عند ربكم } يقول لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة ثم قال { قل } يا محمد { إن الفضل بيد اللّه } يعني النبوة والكتاب والهدى { بيد اللّه } أي بتوفيق اللّه { يؤتيه من يشاء } يعني يوفق من يشاء { واللّه واسع عليم } يقول واسع الفضل { عليم } بمن يؤتيه الفضل ٧٤{ يختص برحمته من يشاء } يعني بدينه يعطيه من يشاء ن عباده { واللّه ذو الفضل العظيم } لمن اختصه بالإسلام ٧٥قوله تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك } قرأ أبو عمرو وحمزة { يؤده } بجزم الهاء وهي لغة بعض العرب واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة قال مقاتل يعني عبد اللّه بن سلام وأصحابه وقال ابن عباس في رواية أبي صالح أن اللّه تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة وفيهم خيانة وقال الضحاك { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار } يعني عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأداها إليه فمدحه اللّه تعالى ويقال إن نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أمانة فمن كتمه دخل تحت قوله { لا يؤده إليك } ومن لم يكتمه دخل تحت قوله { يؤده } ثم قال تعالى { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } وهو فنخاص بن عازورا اليهودي أودعه رجل دينارا فخانه ويقال { يؤده إليك } يعني النصارى كانوا ألين قلوبا يؤدون الأمانة واليهود لا يؤدون الأمانة وكانوا إذا أخذوا أمانات الناس وأو مال اليتامى فكانوا يغتنمون ذلك كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة ثم قال تعالى { إلا ما دمت عليه قائما } يعني ملحا متقاضيا و { ذلك } يعني الاستحلال { بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم ويقال من لم يكن على ديننا فماله لنا حلال بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم { ويقولون على اللّه الكذب } لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة فأخبر اللّه تعالى أنهم كاذبون على اللّه { وهم يعلمون } أن اللّه أمرهم بأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم فهذا ٧٦قوله تعالى { بلى من أوفى بعهده } الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم وذلك قوله تعالى { بلى من أوفى بعهده واتقى } يعني محارمه وهذا قول مقاتل وقال الكلبي { واتقى } ظلم الناس { فإن اللّه يحب المتقين } عن نقض العهد ٧٧قوله تعالى { إن الذين يشترون بعهد اللّه } قال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت في شأن عبدان بن الأشوع وامرئ القيس بن عابس ادعى أحدهما على صاحبه حقا فأراد المدعى عليه أن يحلف بالكذب فنزلت هذه الآية وقال مقاتل نزلت في شأن رؤساء اليهود كتموا نعت محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لأجل منافع الدنيا ويقال إن جماعة من علماء اليهود قدموا المدينة من الشام ليسلموا فلقيهم كعب بن الأشرف فقال لهم تعلمون أنه نبي قالوا نعم فقال لهم كعب حرمتم على أنفسكم خيرا كثيرا لأني كنت أردت أن أبعث لكم الهدايا فقالوا حتى ننظر في ذلك فنظروا ثم رجعوا فقالوا ليس هو الذي وجدنا صفته فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأيمانهم على ذلك ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس وخمسة أصوع من الشعير فنزل في شأنهم { إن الذين يشترون بعهد اللّه وأيمانهم ثمنا قليلا } يعني عرضا يسيرا { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا نصيب لهم في الآخرة { ولا يكلمهم اللّه } وقال الزجاج قوله تعالى { ولا يكلمهم اللّه } يحتمل معنيين أحدهما إسماع كلام اللّه تعالى أولياءه خصوصا لهم كما كلم موسى خصوصية له دون البشر ويجوز أن يكون تأويله الغضب عليهم كما يقال فلان لا يكلم فلانا ولا ينظر إليه أي هو غضبان عليه وإن كان يكلمه بكلام السوء فذلك معنى قوله { لا يكلمهم اللّه } يعني بكلام الرحمة { ولا ينظر إليهم يوم القيامة } بالرحمة { ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } ٧٨قوله تعالى { وإن منهم لفريقا } يعني طائفة من اليهود وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد { يلوون ألسنتهم بالكتاب } يعني يحرفون ألسنتهم بالكتاب يعني بنعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويغيرونه ويقال يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة ويقال يحرفون تأويله على خلاف ما فيه { لتحسبوه من الكتاب } أي من التوراة { وما هو من الكتاب } أي من التوراة بل هم كتبوا وهم تأولوا { ويقولون من عند اللّه وما هو من عند اللّه } أي ليس هو من عند اللّه { ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون } أنه كذب ٧٩قوله تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب } يعني التوراة والإنجيل ثم قال { والحكم } يعني الفهم { والنبوة } وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام { ثم يقول للناس } ما جاز له أن يقول للناس { كونوا عبادا لي من دون اللّه } ويقال إن اليهود والنصارى اختلفوا فيما بينهم فجاء الفريقان جميعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال كل فريق نحن أولى بإبراهيم عليه السلام فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلكم على الخطأ فغضبوا وقالوا واللّه ما تريد إلا أن نتخذك حنانا فأنزل اللّه تعالى { ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه الكتاب } يعني القرآن { والحكم } يعني الحلال والحرام والنبوة { ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون اللّه } { ولكن } يقول لهم { كونوا ربانيين } يعني متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء قال الزجاج الربانيون أرباب العلم والبيان أي كونوا علماء { بما كنتم تعلمون الكتاب } يعني كونوا عاملين بما كنتم تعلمون لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بعلمه وإن لم يعمل بعلمه فليس بعالم لأن من ليس له من علمه منفعة فهو والجاهل سواء ثم قال تعالى { وبما كنتم تدرسون } يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { بما كنتم تعلمون } بنصب التاء والتخفيف يعني يعلمكم الكتاب ودرسكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تعلمون غيركم فإنما يأمركم بذلك ٨٠{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } يعني عيسى وعزيرا والملائكة صلوات اللّه عليهم ولو أمركم بذلك لكفر وتنزع منه النبوة { أيأمركم بالكفر } يعني بعبادة الملائكة { بعد إذ أنتم مسلمون } يعني مخلصون بالتوحيد للّه قرأ عاصم وحمزة وابن عامر { ولا يأمركم } بنصب الراء انصرف إلى قوله { ما كان لبشر أن يؤتيه اللّه } فيصير نصبا بأن والباقون { ولا يأمركم } بضم الراء على معنى الابتداء ٨١قوله تعالى { وإذ اخذ اللّه ميثاق النبيين } يعني الميثاق حيث أخرجهم من صلب آدم عليه السلام وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يبلغ الأول الآخر وأن يصدق الآخر الأول فذلك قوله تعالى { وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين } يعني إقرار النبيين { لما آتيتكم } قرأ حمزة { لما آتيتكم } بكسر اللام والتخفيف يعني بما آتيتكم والباقون بنصب اللام ومعناه فما آتيتكم يعني أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد يعني حين آتيتكم { من كتاب وحكمه } يعني بيان الحلال والحرام وقرأ نافع { آتيناكم } بلفظ الجماعة وهو لفظ الملوك والباقون ( آتيتكم ) بلفظ الوحدان ويقال أخذ الميثاق بالوحي فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم ولا يكتمونه { ثم جاءكم رسول } يعني أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { مصدق لما معكم } في التوحيد وبعض الشرائع وذلك أن اللّه تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه فلما قدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة فكذبوه فذكرهم اللّه تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم وقال { وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم مصدق لما معكم من التوراة { لتؤمنن به } يعني قال لهم في الميثاق { لتؤمنن به } أي لتصدقنه إذا بعث { ولتنصرنه } إذا خرج { قال } لهم ( أأقررتم ) بتصديقه يعني هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره { وأخذتم على ذلكم إصري } يعني هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قالوا أقررنا قال } يعني اللّه تعالى { فاشهدوا } بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد { وأنا معكم من الشاهدين } على إقراركم قال الزجاج قوله { فاشهدوا } أي فبينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي { وأنا معكم من الشاهدين } وشهادة اللّه للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات وقال القتبي أصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل ٨٢قوله تعالى { فمن تولى بعد ذلك } يعني أعرض عن الإيمان وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله { فأولئك هم الفاسقون } يعني الناقضون للعهد ويقال هم العاصون وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله { ففسق عن أمر ربه } سورة الكهف ٥٠ أي خرج عن طاعة ربه ٨٣وقوله تعالى { أفغير دين اللّه يبغون } قال الكلبي وذلك أن كعب بن الأشرف اختصم مع النصارى إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا أينا أحق بدين إبراهيم فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كلا الفريقين برئ من دينه فقالوا ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزل قوله تعالى { أفغير دين اللّه يبغون } يعني يطلبون قرأ عاصم في رواية حفص { يبغون } { وإليه يرجعون } كلاهما بالياء وقرأ أبو عمرو { يبغون } بالياء وإليه { ترجعون } بالتاء وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة فمن قرأ بالياء يعني أفغير دين اللّه يطلبون عندك ومن قرأ { تبغون } يعني قل لهم أفغير دين اللّه تطلبون { وله أسلم } يعني أخلص وخضع { من في السموات والأرض طوعا وكرها } قال الكلبي أما أهل السموات فأسلموا للّه طائعين وأما أهل الأرض فمن ولد في الإسلام أسلم طوعا ومن أبى قوتل حتى دخل في الإسلام كرها وأما أفاء اللّه عليهم مما يسبون فيجاء بهم في السلاسل فيكرهون على الإسلام وقال مجاهد يسجد ظل المسلم ووجهه طائع ويسجد ظل الكافر وهو كاره وقال مقاتل { وله أسلم من في السموات } يعني الملائكة والأرض يعني المؤمنين طوعا وكرها يعني أهل الأديان يقولون اللّه ربهم وخالقهم فذلك إسلامهم وهم مشركون ومعنى قوله { وله أسلم من في السموات والأرض } قال الزجاج وله أسلم من في السموات والأرض أي خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها ولا يقدر على تغيير ما خلق عليه ثم قال { وإليه ترجعون } كما خلقكم أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع كذلك يبعثكم كما بدأكم قرأ عاصم في رواية حفص { يرجعون } وقرأ الباقون بالتاء ٨٤ثم قال { قل آمنا باللّه } خاطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأراد به أمته فقال قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا باللّه { وما أنزل علينا } أي آخر الآية وقد ذكرناه في سورة البقرة ٨٥قوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا } قال الكلبي نزلت في شأن وطعمه بن أبيرق ومقيس بن ضبابة والحارث بن سويد ومرثد وكانوا عشرة وقال الكلبي كانوا اثني عشر وقال الضحاك يعني لا يقبل اللّه من جميع الخلق من أهل الأديان دينا غير الإسلام ومن تدين بدين غير دين الإسلام { فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } أي من المغبونين لأنه ترك منزله في الجنة واختار منزله في النار ٨٦ثم قال تعالى { كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق } يعني كفروا بعدما شهدوا أن الرسول حق { وجاءهم البينات } يعني بعدما ظهر لهم العلامات { واللّه لا يهدي القوم الظالمين } فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه اللّه ومن كان ظالما لا يهديه اللّه وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم اللّه وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم قيل له معناه لا يهديهم اللّه ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون إلى الإسلام فأما إذا جاهدوا وقصدوا الرجوع وفقهم اللّه لذلك لقوله تعالى { والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } سورة العنكبوت ٦٩وتأويل آخر قوله { كيف يهدي اللّه } يقول كيف يرشدهم إلى الجنة كما قال في آية { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا ، إلا طريق جهنم } سورة النساء ١٦٨ ويقال كيف يرحمهم اللّه وينجيهم من العقوبة ويقال كيف يغفر اللّه لهم وقالت المعتزلة كيف يهدي اللّه معناه كيف يكونون مهتدين لأنهم لا يرون الهداية والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء ويرون ذلك من كسب العبد ٨٧ثم قال تعالى { أولئك جزاؤهم } يعني أهل الصفة التي ذكرها { أن عليهم لعنة اللّه } يعني سخط اللّه ويقال الطرد والتبعيد من رحمة اللّه والخذلان ويقال يلعنهم بالقول { والملائكة } يعني عليهم لعنة اللّه والملائكة { والناس أجمعين } إذا لعن رجل رجلا فإن لم يكن أهلا لذلك رجعت اللعنة إلى الكفار ويقال من لم يكن على دينهم يلعنهم في الدنيا ومن كان على دينهم يلعنهم في الآخرة لقوله تعالى { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا } سورة العنكبوت ٢٥ فذلك قوله تعالى { والناس أجمعين } ٨٨ثم قال تعالى { خالدين فيها } يعني في اللعنة فيما يوجبه اللّه تعالى وهو عذاب النار خالدين فيها { لا يخفف عنهم العذاب } يعني لا يهون عليهم العذاب { ولا هم ينظرون } أي لا يؤجلون فيها { لا يخفف عنهم العذاب } يعني لا يهون عليهم العذاب { ولا هم ينظرون } أي لا يؤجلون ثم استثنى التوبة ٨٩فقال تعالى { إلا الذين تابوا من ذلك وأصلحوا } يقول من بعد الكفر وأصلحوا أعمالهم بالتوبة ويقال أصلحوا لمن أفسدوا من الناس { فإن اللّه غفور } لما كان منهم في الكفر { رحيم } بهم بعد التوبة قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية أي الرخصة بالتوبة كتب أخوة الحارث بن سويد إلى الحارث إن اللّه قد عرض عليكم التوبة فرجع وتاب وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة فقالوا إن محمدا تتربص به ريب المنون فقالوا نقيم بمكة على الكفر متى بدا لنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث فيقبل توبتنا ٩٠فأنزل اللّه تعالى { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } يعني ثبتوا على كفرهم بقولهم نقيم بمكة ما بدا لنا { لن تقبل توبتهم } ما أقاموا على الكفر قال الزجاج كانوا كلما نزلت آية كفروا بها فكان ذلك زيادة كفرهم وقوله { لن تقبل توبتهم } أي توبتهم الأولى وحبط أجر عملهم ويقال { لن تقبل توبتهم } معناه أنهم لم يتوبوا كما قال { ولا يقبل منها شفعة } سورة البقرة ٤٨ أي لا يشفع لها أحد ثم قال تعالى { وأولئك هم الضالون } عن الإسلام وهم الذين لم يتوبوا ٩١قوله تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } قال الكلبي يعني وزن الأرض ذهبا وقال مقاتل إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة تمنى أن يكون له الأرض ذهبا فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب ما تقبل منه ونظيرها في سورة المائدة { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض } المائدة ٩٢قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند اللّه من ثوابه في الجنة حتى تنفقوا مما تحبون أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم وقال مقاتل يعني لن تنالوا التقوى حتى تنفقوا مما تحبون من الأموال وقيل هي منسوخة نسختها أية الزكاة { وما تنفقوا من شيء } يعني الصدقة وصلة الرحم { فإن اللّه به عليم } أي لا يخفى عليه فيثيبكم عليه ويقال { لن تنالوا البر } حتى تستكملوا التقوى ويقال لا تكونوا بارين حتى تنفقوا مما تحبون أي من الصدقة أي بعض ما تحبون من الأموال وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدالا من السكر ويتصدق بها فقيل له هلا تصدقت بثمنه فقال لأن السكر أحب إلي فأردت أن أتصدق مما أحب وروي عن عبد اللّه بن عمر أنه اشترى جارية جميلة وكان يحبها فمكثت عنده أياما فأعتقها وزوجها من رجل فولد لها ولد فكان يأخذ ولدها ويضمه إلى نفسه ويقول أشم منك ريح أمك فقيل له قد رزقك اللّه من حلال وأنت تحبها فلم تركتها فقال ألم تسمع هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب فلما انتهت إلى هذا الآية باعته وتصدقت بثمنه ٩٣قوله تعالى { كل الطعام كل حلا لبني إسرائيل } قال في رواية الكلبي خرج يعقوب إلى بيت المقدس فلقيه ملك في الطريق فظن يعقوب عليه السلام أنه لص فعالجه فغمز الملك رجل يعقوب فهاج به عرق النساء فنذر أن يحرم أحب الطعام إليه أن برئ من ذلك لما رأى فيه من الجهد فلما برئ كان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها فحرمها على نفسه فقالت اليهود هذا التحريم من اللّه تعالى في التوراة فنزل قوله تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } يعني كان حلالا إلا الميتة والدم ولحم الخنزير ثم قال { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } وليس تحريمها في التوراة ثم قال لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قل } لليهود { فأتوا بالتوراة فاتلوها } يعني أقرؤوها { إن كنتم صادقين } بأن تحريهما في التوراة لأنهم كانوا يقولون كان ذلك حراما من وقت نوح وأنت وأصحابك تستحلونها وقال الضحاك إن يعقوب لما أصابه عرق النساء وصف له الأطباء أن يتجنب لحوم الإبل فحرم على نفسه لحوم الإبل فقالت اليهود حرمناها على أنفسنا لأن يعقوب حرمها على نفسه ونزل تحريمها في التوراة ونزلت الآية ويقال معناه كل طعام هو حلال لأمتك مثل ما كان حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وبعضها حرم عليهم بذنوبهم وقال الزجاج هذه الآية أعظم دليل لنبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه حين أخبرهم بأنه ليس في كتابهم وأمرهم بأن يأتوا بالتوراة فأبوا وعرفوا أنه قال ذلك بالوحي ٩٤ثم قال تعالى { فمن افترى على اللّه الكذب } يعني اختلق على اللّه الكذب { من بعد ذلك } البيان في كتابهم { فأولئك هم الظالمون } يعني يظلمون أنفسهم ٩٥قوله تعالى { قل صدق اللّه } أن تحريمه ليس في التوراة ويقال { قل صدق اللّه } حين قال { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا } آل عمران ٦٧ { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } أي مخلصا مستقيما وكلوا لحوم الإبل وألبانها كما أكلها إبراهيم عليه السلام ولا تحرموا على أنفسكم شيئا بأهوائكم { وما كان } إبراهيم { من المشركين } يعني على دينهم ٩٦قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس } قال مقاتل يعني أول مسجد وضع للناس أي للمؤمنين ويقال أول موضع خلق هو موضع الكعبة للناس أي قبلة للناس { للذي ببكة } قال الكلبي إنما بكة لأن الناس يبك بعضهم بعضا أي يزدحم وقال الزجاج بكة موضع البيت وسائر ما حواليه مكة وقال القتبي بكة ومكة شيء واحد والباء تبدل من الميم كما يقال سمد رأسه وسبده إذا استأصله ويقال بكة موضع المسجد ومكة البلد حوله ثم قال تعالى { مباركا } أي فيها بركة ومغفرة للذنوب { وهدى للعالمين } يعني قبلة لمن صلّى إليها وذلك أن اليهود قالوا للمؤمنين لم عمدتم إلى الحجارة تطوفون بها وتصلون إليها وجعلوا يعظمون بيت المقدس فنزلت هذه الآية وروى الكلبي أن آدم عليه السلام بنى البيت فلما كان زمان الطوفان رفع إلى السماء السادسة بحيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لم يدخلوه قط قبله ويقال أنزل من السماء وهو من ياقوته حمراء فلما كان زمان الطوفان رفع إلى السماء الرابعة ٩٧ثم قال تعالى { فيه آيات بينات } يعني علامات واضحات كالحجر الأسود والحطيم و { مقام إبراهيم } وروي عن عبد اللّه بن عباس أنه كان يقرأ { فيه آية بينة مقام إبراهيم } وقرأ غيره { آيات بينات } ومعناه من تلك الآيات مقام إبراهيم { ومن دخله } يعني الحرم { كان آمنا } يعني أن من دخله فإنه لا يهاج منه إذا وجب عليه القتل خارج الحرم ثم قال تعالى { وللّه على الناس حج البيت } قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { حج البيت } بكسر الحاء والباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد { من استطاع إليه سبيلا } يعني بلاغا والاستطاعة هي الزاد والراحلة وتخلية الطريق ويقال وللّه على الناس فريضة حج البيت ثم قال تعالى { ومن كفر } يعني من لم ير الحج واجبا فقد كفر فذلك قوله { ومن كفر } { فإن اللّه غني عن العالمين } يعني عمن حج وعمن لم يحج قال الفقيه حدثني أبي قال حدثني أبو بكر المعلم قال حدثنا أبو عمران الفاريابي قال حدثنا عبد الرحمن بن حبيب قال حدثنا داود بن المحبر قال حدثنا عباد بن كثير عن عبد خير عن علي بن أبي طالب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في خطبته أيها الناس إن اللّه تعالى فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به مرض أو منع من سلطان جائر ألا لا نصيب له في شفاعتي ولا يرد حوضي وروي عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال السبيل الزاد والراحلة وكذلك روي عن ابن عباس وقال مجاهد { مقام إبراهيم } أثر قدميه ٩٨قوله تعالى { قل يا أهل الكتاب } يعني اليهود والنصارى { لم تكفرون بآيات اللّه } يعني لم تجحدون بالحج والقرآن ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { واللّه شهيد على ما تعملون } من الجحود والكفر ٩٩ثم قال تعالى { قل يا أهل الكتاب لم تصدون } يقول لم تصرفون الناس { عن سبيل اللّه } أي عن دين الإسلام والحج { تبغونها عوجا } يعني تطلبونها تغيرا وزيغا { وأنتم شهداء } أن ذلك في التوراة { وما اللّه بغافل عما تعملون } من كتمان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته ويقال في اللغة ما كان ينتصب انتصاب العود والحائط يقال عوج بالنصب وما لم ينتصب مثل الأرض والكلام يقال عوج كما قال تعالى { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } طه ١٠٧ وقال { ولم يجعل له عوجا قيما } الكهف ١ - ٢ ١٠٠قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا } يقول طائفة { من الذين أوتوا الكتاب } وهم رؤساء اليهود { يردوكم بعد إيمانكم } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن { كافرين } لأنهم كانوا يدعون إلى الكفر واتباع مذهبهم وكان يتبعهم بعض المنافقين فنهى اللّه تعالى المؤمنين عن متابعتهم ثم قال تعالى على وجه التعجب { وكيف تكفرون } يقول كيف تجحدون بوحدانية اللّه وبمحمد والقرآن { وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه } يقول يقرا عليكم القرآن وفيه دلائله وعجائبه { وفيكم رسوله } يعني معكم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خاصة لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان فيهم وهم يشاهدونه ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أتى به فينا فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فينا وإن لم نشاهده ١٠١ثم قال تعالى { ومن يعتصم باللّه } يقول يتمسك بدين اللّه { فقد هدي } يقول وفق وأرشد من الضلالة { إلى صراط مستقيم } يعني الطريق الذي يسلك به إلى الجنة وهو دين الإسلام ١٠٢قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته } يقول أطيعوا اللّه حق طاعته وحق طاعته أن يطاع فلا يعصى طرفه عين وأن يشكر فلا يكفر طرفة عين وأن يذكر فلا ينسى طرفة عين فشق ذلك على المسلمين فأنزل اللّه تعالى { فاتقوا اللّه ما استطعتم } التغابن ١٦ فنسخت هذه الآية هكذا قال الكلبي والضحاك ومقاتل وغيرهم من المفسرين إن هذه الآية منسوخة وقال بعضهم لا يجوز أن يقال هذه الآية منسوخة لأنه لا يجوز أن يأمرهم بشيء لا يطيقونه بل إنهم يطيقونه ولكن تلحقهم مشقة شديدة وكان ذلك مجهود الطاقة ولا يستطيعون الدوام عليه واللّه تعالى لا يكلف عباده إلا دون ما يطيقونه فخفف عنهم بقوله تعالى { فاتقوا اللّه ما استطعتم } التغابن ١٦ ولم ينسخ آخر الآية وهو قوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } يعني اثبتوا على الإسلام وكونوا بحال يلحقكم الموت وأنتم على الإسلام ١٠٣قوله تعالى { واعتصموا بحبل اللّه جميعا } يقول تمسكوا بدين اللّه وبالقرآن ويقال تمسكوا بسبيل السنة والهدى { ولا تفرقوا } يقول ولا تختلفوا في الدين كاختلاف اليهود والنصارى ويقال لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال { واعتصموا بحبل اللّه جميعا } يعني اطلبوا النصرة من اللّه لا من القبائل والعشيرة ويقال { واعتصموا بحبل اللّه والرسول } يعني ما اشتبه عليكم فردوه إلى كتاب اللّه كقوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه } النساء ٥٩ وقال بعض الحكماء إن مثل من في الدنيا كمثل من وقع في بئر فيها من كل نوع من الآفات فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق وهو كتاب اللّه تعالى ثم ذكر لهم نعمته فقال { واذكروا نعمة اللّه عليكم } يعني احفظوا نعمة اللّه عليكم بالإسلام { إذ كنتم أعداء } في لجاهلية { فألف بين قلوبكم } يقول جمع بين قلوبكم بالإسلام توددا { فأصبحتم بنعمته إخوانا } يقول فصرتم بنعمة الإسلام { إخوانا } في الدين وكل ما ذكر في القرآن { أصبحتم } معناه صرتم كقوله { إن أصبح ماؤكم غورا } الملك ٣٠ أي صار ماؤكم غورا وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاما حتى كادوا أن يتفانوا فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة آمن به الأوس والخزرج وهم بالمدينة ثم خرجوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلا فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعه عمه العباس إلى العقبة فرأى سبعين رجلا من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة وهاجر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم بعد الحولين فوقعت بين الأوس والخزرج ألفة وزالت عنهم العداوة التي كانت عنهم في الجاهلية بالإسلام وهذا كما ذكر في آية أخرى { لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم } الأنفال٦٣ وروي عن جابر بن عبد اللّه أن رجلين من الأنصار أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج تفاخرا فيما بينهما واقتتلا فاستعان كل واحد منهما بقومه فاجتمعت الأوس والخزرج وأخذوا السلاح وخرجوا للحرب فبلغ الخبر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين وهو راكب على حمار له قال جابر فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ طلع علينا فأومأ إلينا بيده فكففنا ووقف بيننا على حمار له فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته } إلى قوله { عذاب عظيم } فألقوا السلاح وأطفؤوا الحروب التي كانت بينهم وعانق بعضهم بعضا يبكون فما رأيت الناس أكثر باكيا من يؤمئذ فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية قوله تعالى { وكنتم على شفا حفرة من النار } قال القتبي شفى على كذا إذا أشرف عليه { شفا حفرة } أي حرف حفرة ومعناه وكنتم في الجاهلية على شر هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار { فأنقذكم } اللّه { منها } بعدما كنتم على حرف من النار { كذلك يبين اللّه لكم آياته } يعني علاماته أي كنتم أعداء في الجاهلية فصرتم إخوانا في الإسلام { لعلكم تهتدون } أي لكي تهتدوا من الضلالة وتعرفوا علامته بهذه النعمة ١٠٤ثم قال تعالى { ولتكن منكم أمة } فهذه لام الأمر كقوله { فليعمل عملا صلحا } الكهف ١١٠يعني لتكن منكم أمة قال الكلبي يعني جماعة وقال مقاتل يعني عصبة وقال الزجاج معناه ولتكونوا كلكم أمة واحدة تدعون إلى الخير و { من } هاهنا لتخص المخاطبين من بين سائر الأجناس وهي مؤكدة كقوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثن } الحج ٣٠ وقوله { يدعون إلى الخير } يعني إلى الإسلام ويقال إلى جميع الخيرات { ويأمرون بالمعروف } قال الكلبي يعني باتباع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { وينهون عن المنكر } يعني الجبت والطاغوت ويقال { المنكر } العمل الذي بخلاف الكتاب والسنة ويقال ما لا يصلح في العقل وروي عن سفيان الثوري أنه قال إنما يجب النهي عن المنكر إذا فعل فعلا يخرج عن الاختلاف ويقال إنما أمر بعض الناس بقوله { ولتكن منكم أمة } ولم يأمر جميع الناس لأن كل واحد من الناس لا يحسن الأمر بالمعروف وإنما يجب على من يعلم ويقال إن الأمراء يجب عليهم الأمر والنهي باليد والعلماء باللسان والعوام بالقلب وهنا كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم إذا رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال بحسب امرئ إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير أن يعلم اللّه من قبله أنه كان وروي عن بعض الصحابة أنه قال إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات اللّهم إن هذا منكر فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه ثم قال تعالى { وأولئك هم المفلحون } يعني الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم الناجون ويقال فازوا بالنعيم ١٠٥ثم قال تعالى { ولا تكونوا } في الاختلاف { كالذين تفرقوا } وهم اليهود والنصارى { واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } فافترقت اليهود فرقا والنصارى فرقا فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك ثم خوفهم فقال { وأولئك لهم عذاب عظيم } يعني دائم لا يرفع عنهم أبدا يعني الذين اختلفوا { من بعد ما جاءتهم البينات } يعني العلامات في أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أو بيان الطريق ١٠٦ثم بين منازل الذين تفرقوا والذين لم يتفرقوا فقال عز وجل { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكفار مسودة ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسنات استبشر وابيض وجهه وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى في كتابه سيئات اسود وجهه ويقال إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه ويقال عند قوله { وامتزوا اليوم أيها المجرمون } يس ٥٩ ويقال إذا كان يوم القيامة يؤمر كل قوم بأن يجتمعوا إلى معبودهم فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون فيقول اللّه تعالى للمؤمنين من ربكم فيقولون ربنا اللّه عز وجل فيقول لهم أتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون سبحانه إذا عرفنا عرفناه فيرونه كما شاء اللّه تعالى فيخر المؤمنون سجدا للّه تعالى فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا وبقي المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فحزنوا واسودت وجوههم فذلك قوله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } يعني يقال لهم أكفرتم ولكن حذف القول لأن في الكلام دليلا عليه { بعد إيمانكم } يعني يوم الميثاق قالوا بلى يعني المرتدين والمنافقين ويقال هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به وقال أبو العالية هذا للمنافقين خاصة يقول أكفرتم في السر بعد إيمانكم مع إقراركم في العلانية { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محم بن صاعد حدثنا عباد بن الوليد قال حدثنا محمد بن عباد الهنائي قال حدثنا حميد بن الخياط قال سألت أبا العالية عن هذه الآية { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } فقال حدثنا أبو أمامة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إنهم الخوارج وسألته عن قوله { لا تتخذوا بطانة من دونكم } آل عمران ١١٨ قال سمعته قال إنهم الخوارج ١٠٧ثم قال تعالى { وأما الذين أبيضت وجوههم ففي رحمة اللّه } أي في جنة اللّه قال الزجاج يعني في الجنة التي صاروا إليها برحمة اللّه تعالى لأن الجنة تنال برحمة اللّه ولا تنال بالجهد وإن اجتهد المجتهد لأن نعمة اللّه تعالى لا يكافئها عمل ففي رحمة اللّه أي في ثواب اللّه { وهم فيها خالدون } يعني دائمين ١٠٨قوله تعالى { تلك آيات اللّه } يعني القرآن { نتلوها عليك } يعني ننزل عليك جبريل فيقرأ عليك { بالحق } أي بالصدق وقال الزجاج { تلك آيات اللّه } أي تلك التي جرى ذكرها حجج اللّه وعلاماته { نتلوها عليك } أي نعرفك إياها { وما اللّه يريد ظلما للعالمين } يعني لا يعذبهم بغير ذنب ١٠٩ثم قال تعالى { وللّه ما في السموات وما في الأرض } قال بعضهم هذا معطوف على الأول كأنه يقول وما اللّه يريد ظلما للعالمين لأنهم كلهم عبيده ومخلوقه ومرزوقه فلا يريد ظلمهم وقال بعضهم هذا ابتداء الكلام بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره ثم قال تعالى { وإلى اللّه ترجع الأمور } يقول تصير أمور العباد إلى اللّه في الآخرة ١١٠قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال الكلبي أخبر اللّه تعالى أن خير الدين عند اللّه دين أهل الإسلام ووصفهم بالوفاء فقال { كنتم خير أمة } يقول أنتم خير أهل دين كان للناس لأنهم لا يظلمون من خالطهم منهم أو من غيرهم فجعلهم اللّه خير الناس للناس { تأمرون بالمعروف } ويقال خير أمة أخرجت للناس لأنهم يأمرون بالمعروف فيقاتلون الكفار ليسلموا فترجع منفعتهم إلى غيرهم كما قال صلّى اللّه عليه وسلّم خير الناس من ينفع الناس ويقال { كنتم خير أمة } عند اللّه في اللوح المحفوظ ويقال كنتم مذ أنتم خير أمة ويقال هذا الخطاب لأصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعني أنتم خير الأمة كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خير القرون أصحابي ثم الذين يلونهم ثم وصفهم فقال { تأمرون بالمعروف } أي بالتوحيد والإسلام { وتنهون عن المنكر } أي عن الشرك { وتؤمنون باللّه } أي تصدقون بتوحيد اللّه وتثبتون على ذلك وقال الزجاج { تؤمنون باللّه } معناه تقرون بأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم نبي اللّه لأن من كفر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لم يوحد اللّه لأنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها من ذات نفسه ثم قال تعالى { ولو آمن أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى { لكان خيرا لهم } من الإقامة على دينهم ثم قال تعالى { منهم المؤمنون } وهم مؤمنو أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه ومن آمن من اليهود والنصارى { وأكثرهم الفاسقون } وهم كعب بن الأشرف وأصحابه والذين لم يؤمنوا منهم ١١١قوله تعالى { لن يضروكم إلا أذى } يعني باللسان بالسب وغيره وليس لهم قوة القتال { وإن يقاتلوكم } يعني إن أعانوكم في القتال فلا منفعة لكم منهم لأنهم { يولوكم الأدبار } وينهزمون { ثم لا ينصرون } يقول لا يمنعون من الهزيمة فكأنه يحكي ضعفهم عن القتال يقول لو كانوا عليكم لا يضرونكم ولو كانوا معكم لا ينفعونكم وهذا حالهم إلى اليوم وهم اليهود ليس لهم شوكة ولا قوة القتال في موضع من المواضع ويقال { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار} يعني إن خرجوا إلى قتالكم وأرادوا قتالكم { يولون الأدبار } يعني يهربون منكم ويقال { يولوكم الأدبار } يعني منهزمين { ثم لا ينصرون } يقول لا يمنعون منكم وهو قول الكلبي ١١٢قوله تعالى { ضربت عليهم الذلة } يقول جعلت عليهم الجزية ويقال الذم عليهم القتال { أينما ثقفوا } أي وجدوا { إلا بحبل من اللّه } يعني بعهد من اللّه { وحبل من الناس } أي بعهد من الناس يعني تحت قوم يؤدون إليهم الجزية فإن لم يكن لهم عهد قتلوا { وباؤوا بغضب من اللّه } يقول استوجبوا الغضب من اللّه تعالى ويقال رجعوا بغضب من اللّه { وضربت عليهم المسكنة } يعني جعل عليهم زي الفقر فترى الرجل منهم غنيا وعليه من البؤس والفقر والمسكنة ويقال إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر ويقال إنهم يظهرون من أنفسهم الفقر لكيلا تضاعف عليهم الجزية { ذلك } الذي يصيبهم { بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه } ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن { ويقتلون الأنبياء بغير حق } يعني رضوا بما فعل آباؤهم فكأنهم قتلوهم { ذلك } الغضب { بما عصوا } اللّه { وكانوا يعتدون } بأفعالهم فكلما ذكر اللّه عقوبة قوم في كتابه فبين المعنى الذي يعاقبهم لذلك لكيلا يظن أحد أنه عذبهم بغير جرم ١١٣ثم بين فضيلة من آمن من أهل الكتاب على من لم يؤمن فقال تعالى { ليسوا سواء } قال بعضهم هذا معطوف على الأول { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } { ليسوا سواء } في الثواب فيكون هاهنا وقف وقال بعضهم هذا ابتداء ويكون فيه مضمر فكأنه يقول ليس من آمن منهم ويتلون آيات اللّه كمن هو كافر كقوله تعالى { أمن هو قانت ءانآء الليل ساجدا وقائما يحذر } الزمر ٩ معناه ليس كالذي هو من أهل النار فكذلك هاهنا قال ليس من آمن { من أهل الكتاب } كمن لم يؤمن فبين الذين آمنوا فقال { من أهل الكتاب أمة قائمة } يعني مهدية عاملة بكتاب اللّه تعالى ويقال مستقيمة وروى الزجاج عن الأخفش قال يعني ذا أمة قائمة يعني ذو طريقة قائمة { يتلون آيات اللّه } يعني القرآن في الصلاة { آناء الليل } يعني ساعات الليل { وهم يسجدون } أي يصلون للّه تعالى ١١٤قوله تعالى { يؤمنون باللّه واليوم الآخر } يعني يقرون باللّه وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ويأمرون بالمعروف } يعني باتباعه { وينهون عن المنكر } يعني الشرك { ويسارعون في الخيرات } يعني يبادرون إلى الطاعات والأعمال الصالحة { وأولئك من الصالحين } أي مع الصالحين وهم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الجنة ١١٥وقال تعالى { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } يعني لن تجحدوه ولن تنسوه يقول تجزون به وتثابون عليه في الآخرة وهذا كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال البر لا يبلى والإثم لا ينسى ثم قال تعالى { واللّه عليم بالمتقين } يعني عليم بثوابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ومن كان بمثل حالهم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } كلاهما بالياء والباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة ١١٦قوله تعالى { إن الذين كفروا لن تغني عنهم } قال مقاتل ذكر قبل هذا مؤمني أهل الكتاب ثم ذكر كفار أهل الكتاب وهو قوله { إن الذين كفروا } وأما الكلبي فقال هذا ابتداء { إن الذين كفروا لن تغني عنهم } كثرة { أموالهم ولا أولادهم من } عذاب { اللّه شيئا } وقال الضحاك يعني اليهود والنصارى وجميع الكفار وكل من خالف دين الإسلام وذلك أنهم تفاخروا بالأموال والأولاد وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين فأخبر اللّه تعالى أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من عذاب اللّه شيئا ثم قال { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ١١٧ثم قال { كمثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } قال الكلبي يعني ما ينفقون في غير طاعة اللّه { مثل ريح فيها صر } يعني برد شديد { أصابت } الريح الباردة { حرث قوم ظلموا أنفسهم } بمنع حق اللّه تعالى فيه { فأهلكته } يقول أحرقته فلم ينتفعوا منه بشيء فكذلك نفقة من أنفق في غير طاعة اللّه لا ينفعه في الآخرة كما لا ينفع هذا الزرع في الدنيا وقال مقاتل يعني نفقة السفلة على رؤساء اليهود وقال الضحاك مثل نفقة الكفار من أموالهم في أعيادهم وعلى أضيافهم وما يعطي بعضهم بعضا على الضلالة { كمثل ريح } الآية ثم قال تعالى { وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون } يعني أصحاب الزرع هم ظلموا أنفسهم بمنع حق اللّه تعالى فكذلك الكفار أبطلوا ثواب أعمالهم بالشرك باللّه تعالى ١١٨قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } يعني خلة وصداقة من غير أهل دينكم وإنما سميت بطانة الثوب بطانة لقربها من البدن { من دونكم } يعني من دون المؤمنين نزلت الآية في شأن جماعة الأنصار كانت بينهم وبين اليهود مواصلة وخاصية وكانوا على ذلك بعد الإسلام فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك ويقال كل من كان على خلاف مذهبهم ودينهم لا ينبغي له أن يخادنه لأنه يقال في المثل ( عن المرء لا تسأل وأبصر قرينة فإن القرين بالمقارن يقتدي ) وروى أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وروي عن ابن عباس أنه قال اعتبروا الناس بأخدانهم ثم بين اللّه المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال { لا يألونكم خبالا } يقول فسادا يعني لا يتركون الجهد في فسادكم يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون جهدهم في المكر والخديعة { ودوا ما عنتم } يعني ما أثمتم بربكم وقال الزجاج الخبال في اللغة ذهاب الشيء والعنت في الأصل المشقة وقال القتبي الخبال الفساد وقال القتبي أيضا { ودوا ما عنتم } يعني ما أعنفتم وما نزل بكم من مكروه ثم قال تعالى { قد بدت البغضاء } يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم ثم قال { من أفواههم وما تخفي صدورهم } والذي في صدورهم من العداوة { أكبر } مما أظهروا بأفواهم ويقال { وما تخفي صدورهم أكبر } يعني قصدهم قتل محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم كانوا يضمرون ذلك { قد بينا لكم الآيات } يقول أخبرناكم بما أخفوا وبما أبدوا بالدلالات والعلامات { إن كنتم تعقلون } وتصدقون ١١٩ثم قال تعالى { ها أنتم أولاء } يعني ها أنتم يا هؤلاء { تحبونهم } لمظاهرتكم إياهم { ولا يحبونكم } لأنهم ليسوا على دينكم وقال الضحاك معناه كيف تحبون الكفار وهم لا يحبونكم { وتؤمنون بالكتاب كله } يعني بالتوراة والإنجيل وسائر الكتب ولا يؤمنون بذلك كله وقد فضلكم اللّه عليهم بذلك لأنهم لا يؤمنون إلا بكتابهم قوله تعالى { وإذا لقوكم } يعني المنافقين منهم { قالوا آمنا } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم أنه رسول اللّه { وإذا خلوا } فيما بينهم { عضوا عليكم الأنامل } يعني أطراف الأصابع { من الغيظ } والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض ألا ترون إلى هؤلاء قد ظهروا وكثروا قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قل } لهم { موتوا بغيظكم } يقول موتوا بحنقكم يعني على وجه الدعاء والطرد واللعن لا على وجه الأمر والإيجاب لأنه لو كان على وجه الإيجاب لماتوا من ساعتهم كما قال في موضع آخر { فقال لهم اللّه موتوا } البقرة ٢٤٣ فماتوا من ساعتهم فهاهنا لم يرد به الإيجاب وقال الضحاك { قل موتوا بغيظكم } يعني أنكم تخرجون من الدنيا بهذه الحسرة والغيظ يعني اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر يعني أنكم تموتون بغيظكم ثم قال تعالى { إن اللّه عليم بذات الصدور } يعني بما في قلوبكم من العداوة للمؤمنين يعني إن اللّه يجازيكم بذلك ١٢٠ثم قال تعالى للمؤمنين { إن تمسسكم حسنة } يعني الظفر والغنيمة كما أصابكم يوم بدر { تسؤهم } يعني ساءهم ذلك { وإن تصبكم سيئة } يعني الهزيمة كما أصابكم يوم أحد ويقال الشدة في العيش والقحط { يفرحوا بها وإن تصبروا } على أذى المنافقين واليهود { وتتقوا } المعصية والشرك وهذا قول الكلبي وقال مقاتل { وإن تصبروا } على أمر اللّه { وتتقوا } معاصية { ولا يضركم كيدهم شيئا } يقول عداوتهم شيئا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { لا يضركم } بكسر الضاد وجزم الراء وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء ومعناهما قريب في التفسير يعني لا ضير عليكم من كيدهم ثم قال تعالى { إن اللّه بما يعملون محيط } يعني أحاط علمه بأعمالهم والإحاطة هي إدراك الشيء بكماله ١٢١قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } يعني خرجت من منزلك بالصباح ويقال من عند أهلك وهي عائشة رضي اللّه عنها { تبوئ المؤمنين } يعني تهيئ للمؤمنين { مقاعد للقتال } يعني مواضع للحرب قال الكلبي يعني يوم أحد وقال مقاتل يعني يوم الخندق { واللّه سميع } لدعائك { عليم } بأمر الكفار ١٢٢ثم قال تعالى { إذا همت طائفتان منكم } يعني أرادت وأضمرت طائفتان من المسلمين وهما حيان بني حارثة وبني مسلمة من الأنصار { أن تفشلا } يعني أن تجبنا عن القتال مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وترجعا { واللّه وليهما } يعني ناصرهما { وحافظهما } يعني وحافظ قلوبهما حيث لم يرجعا لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خرج يوم أحد من المدينة ومعه ألف رجل فرجع عبد اللّه بن أبي ابن سلول مع ثلاثمائة من المنافقين ومن تابعهم فدخل الفشل في قبيلتين من الأنصار وهم المؤمنون فأرادوا أن يرجعوا فحفظ اللّه قلوبهم فلم يرجعوا فذلك قوله { واللّه وليهما } يعني حافظ قلوبهما { وعلى اللّه فليتوكل كل المؤمنون } يعني على المؤمنين أن يتوكلوا على اللّه وهذه كلها منن ذكرها اللّه لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ليعرف ويشكر اللّه تعالى ويصبر على ما يصيبه من الأذى ١٢٣ثم ذكرهم اللّه ببدر فقال تعالى { ولقد نصركم اللّه ببدر } يعني أعانكم اللّه يوم بدر { وأنتم أذلة } يعني قليلة { فاتقوا اللّه } يعني أعرفوا هذه النعمة واتقوا اللّه ولا تعصوه { لعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا اللّه ١٢٤قوله تعالى { إذ تقول للمؤمنين } يعني يوم أحد { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } من السماء ١٢٥يقول اللّه { بلى إن تصبروا } مع نبيكم { وتتقوا } معصيته بالهزيمة { ويأتوكم من فورهم هذا } يعني العدو يأتوكم من وجوههم و { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } يعني معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وفي أذنابها عليهم البياض قد أرخوا أطراف العمائم بين أكتافهم فأنزل اللّه تعالى عليهم يوم بدر ثلاثة آلاف ووعدهم ليوم أحد بخمسة آلاف ولكنهم لما عصوا وتركوا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجعوا عنهم ولو أنهم صبروا لنزلت عليهم قرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو { مسومين } بكسر الواو والباقون بالنصب ومعناهم قريب وهو إرخاء أطراف العمائم بين الأكتاف وهذا كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال يوم بدر تسوموا فإن الملائكة قد تسومت ١٢٦ثم قال تعالى { وما جعله اللّه إلا بشرى لكم } يعني المدد من الملائكة قال بعضهم إن الملائكة لم تقاتل ولكن إنما بعثهم للبشارة ولتسكين قلوب المؤمنين لأن في قتال الملائكة لم يكن للمؤمنين فضيلة وإنما كانت الفضيلة للمؤمنين إذ كانوا هم الذين يقاتلون ويهزمون الكفار ولو كان ذلك لأجل الإعانة لكان ملك واحد يكفيهم كما فعل بقوم لوط ألا ترى أنه قال { ويقللكم في أعينهم } الأنفال ٤٤ فجعل الفضيلة في قلتهم في أعين الكفار ونصرتهم بالغلبة وهذا معنى قوله { وما جعله اللّه إلا بشرى لكم } { ولتطمئن قلوبكم به } يعني لتسكن به قلوبكم وقال بعضهم الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود أنت ما قتلتني إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه وإن اجتهدت وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكن قلوب المؤمنين ولأن اللّه تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة وكل عسكر من المسلمين صبروا واحتسبوا تأتيهم تلك الملائكة ويقاتلون معهم ويقال الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون وثواب ذلك للذين يقاتلون يومئذ وسنذكر قصة بدر في سورة الأنفال إن شاء اللّه تعالى ثم قال { وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم } يعني ليس بكثرة العدد ولا بقلته ولكن النصر من اللّه تعالى كما قال في آية أخرى { إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } التوبة ٢٥ ١٢٧ثم قال تعالى { ليقطع طرفا من الذين كفروا } يعني أرسل الملائكة ونصر المؤمنين لكي يقطع طرفا أي يستأصل جماعة من الذين كفروا { أو يكبتهم } قال الكلبي أي يهزمهم وقال مقاتل يعني يخزيهم كقوله { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } المجادلة ٥ ويقال يغيظهم { فينقلبوا } إلى مكة { خائبين } لم يصيبوا ظفرا ولا خيرا وقد قتل منهم سبعون وأسر سبعون ويقال معناه وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وليقطع طرفا من الذين كفروا ١٢٨قوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } روى جويبر عن الضحاك قال لما كان يوم أحد كسرت رباعية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأدمي ساقه وقتل سبعون رجلا من الصحابة فهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يدعو على المشركين فأنزل اللّه تعالى { ليس لك من الأمر شيء } يعني ليس لك من الحكم شيء { أو يتوب عليهم } يعني كفار قريش يهديهم إلى الإسلام وقال الكلبي فهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يلعن الذين انهزموا من الصحابة يوم أحد فنزل { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } يعني الذين انهزموا { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } قال فلما نزلت هذه الآية كف ولم يلعن المشركين لأنه سيؤمن كثير منهم وقد آمن كثير منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم قال مقاتل كان سبعون رجلا من أصحاب الصفة خرجوا إلى الغزو محتسبين فقتل السبعون جميعا فشق ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فدعا اللّه تعالى عليهم أربعين يوما في صلاة الغداة فأنزل اللّه قوله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } ويقال معنى قوله { أو يتوب عليهم } حتى يتوب عليهم { أو يعذبهم } إن لم يكونوا من أهل التوبة ١٢٩ثم عظم نفسه فقال { وللّه ما في السموات وما في الأرض } يعني جميع الخلق في ملكه وعبيدة { يغفر لمن يشاء } وقال الضحاك يغفر لمن يشاء الذنب العظيم { ويعذب من يشاء } على الذنب الصغير يعني إذا أصر على ذلك { واللّه غفور رحيم } في تأخير العذاب عنهم حيث لم يعاقبهم قبل توبتهم ١٣٠قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } قال الزجاج يعني لا تضاعفوا أموالكم بالربا وقال القتبي هو ما يضاعف منها شيء بعد شيء ويقال { أضعافا } عند البيع يبيعه بأكثر من قيمته مضاعفة بعد العقد أن يزيده في الأجل ويزيد في المال ويقال المضاعفة هي نعت الأضعاف كما قال تعالى { حلالا طيبا } البقرة ١٦٨ وغيرها والطيب هو نعت الحلال ١٣١ثم قال تعالى { واتقوا اللّه } أي في الربا فلا تستحلوه { لعلكم تفلحون } لكي تنجوا من العذاب ثم خوفهم فقال { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } يعني خلقت وهيئت للكافرين وقالت المعتزلة من أتى بالكبيرة ومات عليها فإنه يخلد في النار كالكفار لأنه وعد لأكل الربا النار كما وعد الكفار وقال أكثر أهل العلم والتفسير هذا الوعيد لمن استحل الربا ومن استحل الربا فإنه يكفر ويصير إلى النار ويقال معناه اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار لأن من الذنوب ما يستوجب به نزع الإيمان ويخاف عليه فمن ذلك عقوق الوالدين وقد جاء في ذلك أثر أن رجلا كان عاقا لوالدته يقال له علقمة فقيل له عند الموت قل لا إله إلا اللّه فلم يقدر على ذلك حتى جاءت أمه فرضيت عنه ومن ذلك قطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة وذكر أبو بكر الوراق عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قال أكبر ما في الذنوب التي ينزع الإيمان من العبد عند الموت ثم قال أبو بكر فنظرنا في الذنب الذي ينزع الإيمان فلم نجد شيئا أسرع نزعا للإيمان من ظلم العباد ١٣٢ثم قال تعالى { وأطيعوا اللّه والرسول } يعني أطيعوا اللّه في الفرائض والرسول في السنن ويقال { وأطيعوا اللّه } في تحريم الربا { والرسول } فيما بلغكم من تحريم الربا { لعلكم ترحمون } ولا تعذبون ١٣٣قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } قرأ نافع ومن تابعه من أهل المدينة وابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { سارعوا } بغير الواو على معنى الابتداء وقرأ الباقون { وسارعوا } بالواو على معنى العطف قال الكلبي معناه وسارعوا إلى التوبة من الربا وقال مقاتل وسارعوا إلى الأعمال الصالحة التي هي مغفرة لذنوبكم وإلى الجنة وقال الضحاك يعني سارعوا إلى النجاء الأكبر إلى الصف المقدم في الصلاة وإلى الصف المقدم في القتال ويقال { وسارعوا } حتى لا تفوتكم تكبيرة الافتتاح ثم قال تعالى { وجنة عرضها السموات والأرض } قال القتبي يعني سعتها ولم يرد به العرض الذي هو خلاف الطول والعرب تقول بلاد عريضة أي واسعة ويقال عرض الجنة كعرض سبع سموات وكعرض سبع أرضين لو ألزق بعضها إلى بعض وإنما ذكر العرض ولم يذكر الطول لأن طولها لا يعرف ولا يدرك وقال الكلبي الجنان أربع جنة عدن وهي الدرجة العليا وجنة المأوى وجنة الفردوس وجنة النعيم كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض ويقال لم يرد بهذا التقدير ولكنه أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه وقال السدي لو كسرت السموات والأرض وصرن خردلا فبكل خردلة للّه جنة عرضها كعرض السموات والأرض حدثنا محمد بن داود قال حدثنا أحمد بن يحيى قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يعقوب عن أبي حازم قال أخبرني سهل بن سعد قال إن أدنى أهل الجنة يقال له تمن فيقول أعطني كذا وأعطني كذا حتى إذا لم يجد شيئا يتمنى لقن فيقال له قل كذا قل كذا فيقول له لك ذلك ومثله وفي رواية أبي سعيد الخدري لك هذه وعشرة أمثالها معها ثم قال تعالى { أعدت للمتقين } يعني الجنة ١٣٤ثم نعت المتقين فقال { الذين ينفقون في السراء والضراء } إلى آخر الآية نعت للمتقين ويقال إن كل نعت من ذلك هو نعت على حدة فكأنه يقول أعدت للمتقين للذين { ينفقون من السراء } إلى آخر الآية قوله { في السراء والضراء } يعني ينفقون أموالهم في حال اليسر وفي حال العسر وهذا قول الكلبي وقال مقاتل والضحاك في حال السعة والشدة ويقال في الصحة والمرض ويقال { في السراء } يعني في حال الحياة وفي { الضراء } يعني بعد الموت ويقال في سراء المسلمين في عرسهم وولائمهم والضراء في نوائبهم ومآتمهم ويقال { في السراء } يعني النفقة التي تسركم مثل النفقة على الأولاد والأقربين { والضراء } النفقة على الأعداء والكاشحين ويقال { في السراء } يعني على الأغنياء يضيفهم ويهدي إليهم { والضراء } يعني على أهل الضر يتصدق عليهم وقال { والكاظمين الغيظ } يعني المرددين الغيظ في أجوافهم وأصله في اللغة كظم البعير إذا ردد جرته ومعناه الذين إذا أصابهم الغيظ تجاوزوا ولم يعاقبوا ثم قال تعالى { والعافين عن الناس } قال الكلبي يعني عن المملوكين ويقال { والعافين عن الناس } بعد قدرتهم عليهم فيعفو عنهم { واللّه يحب المحسنين } من الأحرار والمملوكين ويقال الذين يحسنون بعد العفو ويزيدون عليه إحسانا وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه ثم لم ينفذه زوجه اللّه من الحور العين حيث يشاء وفي خبر آخر عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده اللّه بها عزا ١٣٥قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة } نزلت في شأن رجل تمار جاءت امرأة تشتري منه تمرا فأدخلها في حانوته وقبلها ثم ندم على ذلك فنزلت هذه الآية ويقال نزلت هذه الآية في رجل مس امرأة أخيه في اللّه وكان أخوه خرج غازيا ثم ندم وتاب ويقال إنها نزلت في شأن بهلول النباش تاب عن صنيعه فنزلت هذه الآية فقال تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم } يعني القبلة واللمس ويقال الفاحشة كل فعل يستوجب به الحد في الدنيا { أو ظلموا أنفسهم } ما دون ذلك ويقال الفاحشة ما استوجب به النار { أو ظلموا أنفسهم } ما استوجب به الحساب والحبس وقال إبراهيم النخعي الظلم هاهنا تفسير الفاحشة فكأنه يقول { والذين إذا فعلوا فاحشة وظلموا أنفسهم } ثم قال { ذكروا اللّه } يعني خافوا اللّه ويقال ذكروا مقامهم بين يدي اللّه ويقال ذكروا عذاب اللّه { فاستغفروا لذنوبهم } يعني الاستغفار باللسان والندامة بالقلب ويقال الاستغفار باللسان بغير ندامة للقلب توبة الكذابين وروي عن الحسن البصري أنه قال استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار الكثير ثم قال تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا اللّه } يعني لا يغفر الذنوب إلا اللّه { ولم يصروا على ما فعلوا } يعني لم يقيموا على ما فعلوا من المعصية { وهم يعلمون } أنها معصية فلا يرجعون ويقال في الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا اللّه ١٣٦{ أولئك } يعني أهل هذه الصفة { جزاؤهم } يعني ثوابهم { مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } يعني نعم ثواب العاملين الجنة وهو قول الكلبي وقال مقاتل نعم ثواب التائبين من الذنوب الجنة ١٣٧قوله تعالى { وقد خلت من قبلكم سنن } يعني قد مضت لكل أمة سنة ومنهاج فإذا اتبعوها رضي اللّه عنهم قال الكلبي قد مضت لكل أمة سننه بالهلاك فيمن كان قبلكم { فانظروا } أي فاعتبروا { كيف كان جزاء المكذبين } أي جزاء المكذبين وقال مقاتل نحو هذا وقال يخوف اللّه هذه الأمة بمثل عذاب الأمم الخالية وقال السدي { فسيروا في الأرض } يعني أقرؤوا القرآن { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لأن من لم يسافر فإنه ل يعرف ذلك وأما من قرأ القرآن فإنه يعرف ذلك وقال الحسن اقرؤوا القرآن وتدبروا فيه فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ١٣٨ثم قال تعالى { هذا بيان للناس } يعني القرآن بيان للناس من الضلالة { وهدى } من العمى { وموعظة } من الجهل ويقال { هدى وموعظة } أي كرامة ورحمة للمتقين { ولا تهنوا } يعني ولا تضعفوا وقيل ولا تجبنوا ويقال ولا تعجزوا عن عدوكم ١٣٩ثم قال { ولا تحزنوا } وقيل يعني على ما أصابكم يوم أحد من القتل والهزيمة { وأنتم الأعلون } يعني الغالبون يقول آخر الأمر لكم ويقال { وأنتم الأعلون } في الحجة ويقال هذا وعد لأصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في المستأنف { وأنتم الأعلون } يعني الغالبون على الأعداء بعد أحد فلم يخرجوا بعد ذلك في عسكر إلا ظفروا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي كل عسكر كان بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم فهذه البلدان كلها إنما فتحت في عهد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم بعد انقراضهم ما فتحت بلدة على الوجه كما كانوا يفتحون في ذلك الوقت ويقال في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه لأنه قال لموسى عليه الصلاة والسلام { إنك أنت الأعلى } طه ٦٨ وقال لهذه الأمة { وأنتم الأعلون } ويقال أشتقت هذه اللفظة من اسم اللّه تعالى لأن اسمه العلي الأعلى وقال للمؤمنين { وأنتم الأعلون } ثم قال تعالى { إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مصدقين بوعد اللّه ويقال معناه إذ كنتم مؤمنين ويقال في الآية تقديم وتأخير فكأنه قال ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون ويقال هذا وعد لهم بأنهم غالبون إن ثبتوا وصدقوا فلو أنهم ثبتوا وصدقوا لغلبوا كما غلبوا يوم بدر ولكنهم تركوا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرجع الأمر عليهم وكانت القصة في ذلك أنهم لما غلبوا المشركين يوم بدر وأصابوا منهم ما أصابوا وسنذكر في سورة الأنفال قصة بدر إن شاء اللّه تعالى فرجع أبو سفيان بن حرب بالعير إلى مكة وانهزم المشركون وذهب عكرمة بن أبي جهل ورجال أصيب أبناؤهم وآباؤهم وإخوانهم ببدر إلى أبي سفيان بن حرب وهو رئيس مكة فكلموه وأتاه كل من كان له في ذلك العير مال فقالوا إن محمدا قد قتل خياركم فاستعينوا بهذا المال على حربه ففعلوا قال الضحاك قد أعانهم أبو سفيان بمائة راحلة وما يصلحها من السلاح والزاد فسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل وعليهم أبو سفيان بن حرب وكان في القوم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وذلك قبل دخولهم في الإسلام فلم يبق أحد من قريش إلا وقد خرج أهله معه وولده يجعلهم خلف ظهره ليقاتل عنهم فلما سمع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطب الناس فقال إني رأيت فيما يرى النائم كأن في سيفي ثلمة فأولتها مصيبة في نفسي ورأيت بقورا قد ذبحت فأولتها قتلى في أصحابي ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فأشيروا علي ما ترون وكره الخروج إليهم وكان رأي عبد اللّه بن أبي ابن سلول مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن لا يخرج ولكنه كان منافقا فقال يا رسول اللّه لا تخرج إليهم فإنا ما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فقال رجال من المسلمين ممن أكرمهم اللّه بالشهادة وغيرهم ممن فاتته بدر اخرج يا رسول اللّه لكي لا يرى أعداء اللّه أنا قد جبنا لهم أو ضعفنا عنهم فلم يزالوا به حتى دخل ولبس لأمته ثم خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم وقد خرج الناس فقالوا استكرهنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه قد استكرهناك وما كان لنا ذلك فإن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما ينبغي لنبي أن يضع سلاحه إذا لبسه حتى يقاتل فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسار إلى أحد فانخذل عبد اللّه بن أبي ابن سلول قال في رواية الكلبي فرجع معه ثلث الناس وبقي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو سبعمائة رجل وقال في رواية الضحاك فانخذل في ستمائة رجل من اليهود وبقي مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ألف رجل من المؤمنين الطيبين ثم خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى نزل بالشعب من أحد وأمر عبد اللّه بن جبير على الرماة وقال لهم لا تبرحوا عن هذا الموضع واثبتوا هاهنا إن كان الأمر علينا أو لنا وقال في رواية الكلبي كان الرماة خمسين رجلا وقال في رواية الضحاك كانوا سبعين رجلا فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ظهره إلى أحد ودنا المشركون وأخذوا في الحرب وقامت هند امرأة أبي سفيان وصواحبتها حين حميت الحرب يضربن بالدفوف خلف قريش ويقلن ( نحن بنات طارق نمشي على النمارق ) ( إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق ) ( المسك في المفارق والدر في المخانق ) ( فراق غير وامق ) فقاتل أبو دجانة في نفر من المسلمين قتالا شديدا وقاتل علي بن أبي طالب حتى التوى سيفه وقاتل سعد بن أبي وقاص وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لسعد ارم فداك أبي وأمي فقتلوا جماعة من المشركين وصدقهم اللّه وعده وأنزل نصره حتى كانت هزيمة القوم لا شك فيها وكشفوهم عن معسكرهم قال الزبير رأيت هندا وصواحبتها هوارب فلما نظر الرماة إلى القوم قد انهزموا أقبلوا على النهب فقال لهم عبد اللّه بن جبير لا تبرحوا عن هذا الموضع فإن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد عهد إليكم فلم يلتفتوا إلى قوله وظنوا أن المشركين قد انهزموا فبقي عبد اللّه بن جبير مع ثمانية نفر فخرج خالد بن الوليد مع خمسين ومائتي فارس من قبل الشعب وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين وتفرق المسلمون ورجع المشركون وحملوا حملة واحدة فصار المسلمون ثلاثة أنواع بعضهم جريح وبعضهم قتيل وبعضهم منهزم وكان مصعب بن عمير يذب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل دونه ثم قام زياد بن السكن فقاتل بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل وخلص الحرب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقذف بالحجارة حتى وقع بشفتيه وأصيبت رباعيته وكلمت شفته وأدمي ساقه فقال سفيان بن عيينة لقد أصيب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو ثلاثين رجلا كلهم جثوا بين يدي رسول اللّه أو قال يتقدم بين يديه ثم يقول وجهي لوجهك الوقاء ونفسي لنفسك الفداء وعليك سلام اللّه غير مودع فرجع الذي قتل مصعب بن عمير فظن أنه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال للمشركين قتلت محمدا فصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ويقال كان ذلك إبليس لعنه اللّه فولى المسلمون هاربين متحيرين وجاء إبليس لعنه اللّه ونادى في المدينة ألا إن محمدا قد قتل وأخذت النسوة في البكاء في البيوت فأقبل أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّه في رجال من الم هاجرين والأنصار فقال لهم ما يحبسكم قالوا قتل محمد فقال ما تصنعون بالحياة بعده موتوا كراما على ما مات عليه نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم ثم أقبل نحو العدو فقاتل حتى قتل قال كعب بن مالك فأول من كنت عرفت من المسلمين عرفت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عرفت عينية من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأشار إلي بأن أسكت وقال أنس بن مالك قد شج وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ويقال إن أصحابه لما اجتمعوا قالوا يا رسول اللّه لو دعوت اللّه على هؤلاء الذين صنعوا بك فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لم أبعث طعانا ولا لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون فجاءه أبيبن خلف الجمحي وهو يقول يا محمد لا نجوت إن نجوت مني فهم المسلمون به فقال لهم دعوه حتى دنا منه فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحربه من الحارث بن الصمة ورماه به فخدشه في عنقه خدشا غير كبير وقد كان قبل ذلك لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة وقال عندي فرس أعلفه كل يوم فرق ذرة أقتلك عليه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بل أنا أقتلك عليه إن شاء اللّه فلما خدشه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عنقه رجع إلى قريش وهو يقول قتلني محمد فقالوا له ما بك من طعن فقال بلى لقد قال لي أنا أقتلك واللّه لو بصق علي بعد تلك المقالة لقتلني فمات قبل إن يصل إلى مكة في الطريق وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقفا عند أحد وقد اجتمع إليه بعض أصحابه فعلت عليه من قريش في الجبل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا ينبغي لهم أن يعلونا فأقبل عمر ورهط من المهاجرين فقاتلوهم حتى أهبطوهم من الجبل وقد كان جبير بن مطعم قال لمملوك له يقال له وحشي إن أنت قتلت محمدا جعلت لك أعنة الخيل وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلت لك مائة ناقة كلها سود الحدقة وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر فقال وحشي أما محمد فعليه حافظ من اللّه لا يخلص إليه أحد وأما علي فما برز إليه رجل إلا قتله وأما حمزة فرجل شجاع فعسى أن أصادفه في غرته فاقتله مكانه وكانت هند كلما مر بها وحشي أو مرت به قالت له أيها أبا دسمه اشف واستشف فكمن وحشي خلف صخرة وكان حمزة قد حمل على قوة من المشركين فلما رجع من حملته مر بوحشي وهو خلف الصخرة فزرقه بالمزراق فأصابه فسقط فذهبت هند ابنة عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى يجدعن الآذان والأنوف وشقت هند بطن حمزة وأخذت كبده ومضغته ثم صعدت هند على صخرة وهي تنادي بأعلى صوتها نحن جزيناكم بيوم بدر وأقبل أبو سفيان وهو يصرخ بأعلى صوته اعل هبل يوما بيوم بدر فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لعمر أجبه يا عمر فأجابه عمر اللّه أعلى وأجل لا سواه قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ثم ركب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بغلته وظاهر بين درعيه وأخرج يده من جيب الدرع وسل سيفه ذا الفقار وباشر القتال بنفسه وحمل على المشركين والتأم إليه المسلمون فاعانوه وهزم اللّه جمع المشركين وقتل يومئذ من المسلمين سبعون رجلا أربعة نفر من المهاجرين وستة وستون من الأنصار وقتل يومئذ من المشركين تسعة عشر رجلا أو أكثر وكثرت القروح في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعزاهم اللّه تعالى في ذلك ١٤٠بقوله تعالى { إن يمسسكم قرح } قرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي وحمزة { قرح } بضم القاف والباقون بالنصب قال الفراء القرح والقرح واحد ويقال { القرح } بالنصب مصدر و { القرح } بالضم اسم ويقال القرح بالنصب الجراحة بعينها والقرح بالضم ألم الجراحة يعني أصابتكم الجراحات يوم أحد { فقد مس القوم قرح مثله } يقول قد أصاب المشركين جراحات مثلها يوم بدر { وتلك الأيام نداولها بين الناس } يقول يوم لكم ويوم عليكم وهذا كما يقال في الأمثال الأيام دول والحرب سجال ثم بين المعنى الذي يداول مرة لهم ومرة عليهم فقال تعالى { وليعلم اللّه الذين آمنوا } يعني يبين المؤمن من المنافق أنهم يشكون في دينهم أم لا لأن المؤمن المخلص يتبين حاله عند الشدة والبلايا وهذا كما روي عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه الذهب والفضة يختبران بالنار والمؤمن يختبر بالبلايا والاختبار من اللّه تعالى إظهار ما علم منه من قبل فذلك قوله تعالى { وليعلم اللّه الذين آمنوا } يعني ليبين اللّه الذين يعلم إيمانهم لأنه يعطى الثواب بما يظهر منه لا بما يعلم منه وكذلك العقوبة ألا ترى أنه علم من إبليس المعصية في المستأنف ثم لم يلعنه ما لم يظهر منه ثم قال تعالى { ويتخذ منكم شهداء } يعني لكي يتخذ منكم شهداء وإنما كان لأجل ذلك لا لأجل حب الكفار { واللّه لا يحب الظالمين } أي الجاحدين ١٤١قوله تعالى { وليمحص اللّه الذين آمنوا } يعني لكي يطهر المؤمنين ويكفر ذنوبهم والتمحيص في اللغة الاختبار والتطهير واللّه بين أنه يداول الأيام بين الناس لكي يظهر المؤمن من المنافق ويكرم بعض المؤمنين بالشهادة لينالوا ثواب الشهداء وقد ذكر ثوابهم بعد هذا في هذه السورة وليكفر ذنوبهم ثم قال { ويمحق الكافرين } يعني يهلكهم ويستأصلهم لأنهم يجترئون فيخرجون مرة أخرى فيستأصلهم ١٤٢قوله تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } قال مقاتل بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء في ذات اللّه لكي يصبروا ويحتسبوا فقال { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } يقول أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير شيء قبل أن تصيبكم الشدة في ذات اللّه فذلك قوله تعالى { ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم } قال مقاتل أي ولما يرى اللّه الذين جاهدوا منكم ويقال ولما يظهر جهاد الذين جاهدوا منكم { ويعلم الصابرين } الذين يصبرون عند البلاء ويقال ويعلم الصابرين الكارين أي غير الفارين عن القتال ١٤٣ثم قال تعالى { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه } وذلك أنه لما وصف لهم اللّه تعالى بما نزل بشهداء بدر من الكرامة فقالوا ليتنا نجد قتالا فنقتل في ذلك لكي نصيب مثل ما أصابوا فلما لقوا القتال يوم أحد هربوا فعاتبهم اللّه بقوله { ولقد كنتم تمنون الموت } يعني القتال والشهادة من قبل أن تلقوه { فقد رأيتموه } يوم أحد { وأنتم تنظرون } إلى السيوف فيها الموت وقال الزجاج معناه { ولقد كنتم تمنون } القتال لأن القتال سبب الموت { فقد رأيتموه } يعني وأنتم بصراء كقولك رأيت كذا وكذا ولم يكن في عينيك علة ويقال { وأنتم تنظرون } إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقال القتبي { قد رأيتموه } يعني أسبابه وهو السيف ١٤٤ثم قال تعالى { وما محمد إلا رسول } لأنهم هربوا حين سمعوا بقتله فقال تعالى { وما محمد إلا رسول } كسائر الرسل { قد خلت من قبله الرسل } يعني مثله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } يعني رجعتم إلى دينكم الشرك { ومن ينقلب على عقبيه } يعني يرجع إلى الشرك بعد الإسلام { فلن يضر اللّه شيئا } يقول لن ينتقص من ملكه وسلطانه شيء وإنما يضر نفسه { وسيجزي اللّه الشاكرين } يعني الموحدين اللّه في الآخرة الجنة ويقال { وسيجزي اللّه } المؤمنين المجاهدين الجنة ١٤٥ثم قال تعالى { وما كان لنفس أن تموت } يعني قبل أجلها { إلا بإذن اللّه كتابا مؤجلا } يقول في موتها كتابا مؤجلا في اللوح المحفوظ فلا يسبق أجله وقال الزجاج قوله { كتابا مؤجلا } أي كتب كتابا ذا أجل وهو الوقت المعلوم وذكر الكتاب على معنى التأكيد وفي هذه الآية إبطال قول المعتزلة لأنهم يقولون إن من قتل فإنما يهلك قبل أجله وكل ما ذبح من الحيوان كان هالكا قبل أجله لا يجب على القاتل القصاص والدية في الأدمي والضمان في الحيوان ولو كان بأجل لما وجب شيء بقتله وقلنا قد بين اللّه تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها ثم قال تعالى { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } قال الكلبي يعني يريد ثواب الدنيا بالعمل الذي افترض اللّه عليه { نؤته منها } يعني نعطه ما أحب فيها وما له في الآخرة من نصيب { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين } في الآخرة ومعناه أن عمله للرياء لا يكون له في الآخرة ثواب ومن الناس من قال إن الرياء يدخل في النوافل ولا يدخل في الفرائض لأن الفرائض واجبة على جميع الناس وقال بعضهم يدخل في الفرائض ولا يدخل في النوافل لأنه لو لم يأت بها لا يؤاخذ بها فإذا أتى بهذا القدر ليس عليه غير ذلك وقال بعضهم كلاهما سواء فالرياء يدخل في الفرائض والنوافل جميعا وهذا القول أصح لقوله تعالى { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس } النساء١٤٢ ثم إن اللّه تعالى أخبرهم بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم فيعيزيهم ليصبروا ١٤٦فقال تعالى سبحانه { وكأين من نبي قاتل معه } قرأ ابن كثير { وكأين } بمد الألف والهمزة وقرأ الباقون { كأين } بغير مد وفتح الهمزة وباء مكسورة مشددة ومعناهما واحد { كأين } للتكثير وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { وكأين من نبي قتل } بضم القاف وكسر التاء وقرأ الباقون { قاتل } فمن قرأ { قاتل } فمعناه كم من نبي قاتل معه جموع كثيرة ومن قرأ { قتل } معناه وكم من نبي قتل وقتل { معه } جماعة كثيرة وقوله تعالى { ربيون كثير } قال الكلبي الربية الواحد عشرة آلاف وقال الزجاج هاهنا قراءتان { ربيون } بضم الراء { وربيون } بالكسر أما بالضم الجماعة الكثيرة ويقال عشرة آلاف وأما الربيون بالكسر العلماء الأتقياء الصبراء على ما يصيبهم في اللّه ويقال وكأين من نبي قتل يعني كم من نبي قتل وكان معه ربيون كثير { فما وهنوا } بعد قتله عن القتال وما عجزوا بما نزل بهم من قتل أنبيائهم وأنفسهم { لما أصابهم في سبيل اللّه وما ضعفوا } لعدوهم ويقال وما جبنوا ثم قال تعالى { وما استكانوا } يقول وما خضعوا لعدوهم ولكنهم صبروا { واللّه يحب الصابرين } فكأنه يقول للمؤمنين فهلا قاتلتم مع نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم وبعد قتله وإن قتل كما قاتلت القرون الماضية من قبلكم إذا أصيبت أنبياؤهم ثم أخبر عن قول الذين قاتلوا مع النبيين ١٤٧فقال تعالى { وما كان قولهم } عند قتل أنبيائهم { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } أي دون الكبائر { وإسرافنا في أمرنا } العظام من الذنوب { وثبت أقدامنا } عند القتال { وانصرنا على القوم الكافرين } معناه هلا قلتم كما قالوا وقاتلتم كما قاتلوا وقرأ بعضهم { وما كان قولهم } بالضم والمعنى في ذلك أنه جعل القول اسم كان فيكون معناه وما كان قولهم إلا قولهم ربنا اغفر لنا ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان وجعل الاسم ما بعده ١٤٨قوله تعالى { فآتاهم } بما قالوا يقول أعطاهم اللّه { ثواب الدنيا } بالغنيمة والنصرة { وحسن ثواب الآخرة } أي الجنة { واللّه يحب المحسنين } المؤمنين المجاهدين ١٤٩قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } يعني المنافقين { يردوكم على أعقابكم } كفارا بعد الإيمان { فتنقلبوا خاسرين } إلى دينكم الأول ١٥٠{ بل اللّه مولاكم } يقول أطيعوا اللّه فيما يأمركم هو مولاكم يعني وليكم وناصركم { وهو خير الناصرين } أي المانعين من كفار مكة ١٥١قوله تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وحمزة { الرعب } بتسكين العين وقرأ ابن عامر والكسائي { الرعب } بضم العين وأصله الضم إلا أنه إذا اجتمع ضمتان حذفت إحداهما عند من قرأ بالجزم ومعنى الآية سنلقي الهيبة في قلوب المشركين وذلك بعد هزيمة المؤمنين قذف اللّه تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فانهزموا إلى مكة ويقال حين صعد خالد بن الوليد الجبل قصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد منهزما ويقال عنى به يوم الأحزاب ألقي في قلوبهم الرعب فانهزموا { بما اشركوا باللّه } يعني بأنهم اشركوا باللّه { ما لم ينزل به سلطانا } يعني كتابا فيه عذر وحجة لهم بالشرك { ومأواهم النار } يعني مصيرهم إلى النار في الآخرة { وبئس مثوى الظالمين } يعني وبئس مثوى المشركين النار ١٥٢قوله تعالى { ولقد صدقكم اللّه وعده } وذلك أنهم لما أخذوا في الحرب انهزم المشركون فلما أخذ بعض المسلمين في النهب والغارة رجع الأمر عليهم وانهزم المسلمون فذلك قوله { ولقد صدقكم اللّه وعده } { إذ تحسونهم بإذنه } يقول تقتلونهم بأمره وقال القتبي { تحسونهم } يعني تستأصلونهم بالقتل يقال جراد محسوس إذا قتله البرد قوله تعالى { حتى إذا فشلتم وتنازعتم } يعني جبنتم من عدوكم واختلفتم في الأمر { وعصيتم } أمر الرسول { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني أراكم اللّه { ما تحبون } من النصرة على عدوكم وهزيمة الكفار والغنيمة ثم قال تعالى { منكم من يريد الدنيا } يعني يطلب الغنيمة { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين ثبتوا عند المشركين حتى قتلوا وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال كنا لا نعرف أن أحدا يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية فعلمنا أن فينا من يريد الدنيا { ثم صرفكم عنهم } بالهزيمة من بعد أن أظفركم عليهم { ليبتليكم } بمعصية الرسول بالقتل والهزيمة { ولقد عفا } اللّه { عنكم } ولم يعاقبكم عند ذلك فلم تقتلوا جميعا { واللّه ذو فضل } في عفوه وإنعامه { على المؤمنين } بالعفو والإنعام ١٥٣قوله تعالى { إذ تصعدون } يعني إلى الجبل هاربين حيث صعدوا الجبل منهزمين من العدو وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدعوهم يا معشر المسلمين أنا رسول اللّه فلم يلتفت إليه أحد حتى أتوا على الجبل فذلك قوله تعالى { إذ تصعدون } يعني الجبل وهذا قول الكلبي وقال الضحاك { إذ تصعدون } في الوادي منهزمين وقال القتبي يعني تبعدون في الهزيمة في الوادي يقال أصعد في الجبل إذا أمرع في الهزيمة وقرأ الحسن { تصعدون } بنصب التاء أي تصعدون الجبل وقرأ العامة بضم التاء ثم قال تعالى { ولا تلوون على أحد } يقول ولا تقيمون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال لا يقيم بعضكم على بعض { والرسول يدعوكم في أخراكم } يقول من خلفكم { فأثابكم غما بغم } يقول جعل ثوابكم غما على غم ويقال غما متصلا بالغم فأما الغم الأول فإشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين وهم في ذلك الجبل وهذا قول الكلبي وقال مقاتل الغم الأول ما فاتهم من الفتح والغنيمة فاجتمعوا وكانوا يذكرون فيما بينهم ما أصابهم في ذلك اليوم والغم الثاني إذ صعد خالد بن الوليد فلما عاينوه أذعرهم ذلك أي خوفهم ذلك فأنساهم ما كانوا فيه من الحزن فذلك قوله تعالى { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من الغنيمة والفتح { ولا ما أصابكم } من القتل والهزيمة ويقال الغم الأول الجرح والقتل والغم الثاني أنهم سمعوا بأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد قتل فأنساهم الغم الأول ثم قال { واللّه خبير بما تعملون } يعني لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بها ١٥٤قوله تعالى { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } الأمنة في اللغة الأمن قال الكلبي إذا أمن القوم نعسوا وقال الضحاك النعاس عند القتال أمنة من اللّه تعالى ويقال الذي يصيبه الغم والهمزيمة لا يكون له شيء أحسن من النعاس فيذهب عنه همه فأصاب القوم النعاس فذهب عنهم الغم وأمنوا قوله تعالى { يغشى طائفة منكم } يعني النعاس يغشى ويعلو { طائفة منكم } من كان من أهل الصدق واليقين قرأ حمزة والكسائي { تغشى } بالتاء وقرأ الباقون بالياء فمن قرأ بالتاء انصرف إلى قوله { أمنة } ومن قرأ بالياء يكون نعتا للنعاس ثم قال تعالى { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } يعني أهل النفاق وقال الكلبي هو معتب بن قشير وأصحابه { يظنون باللّه غير الحق } يعني أنهم يظنون أن لا ينصر اللّه محمدا وأصحابه { ظن الجاهلية } قال الكلبي يعني كظنهم في الجاهلية وقال مقاتل ظن الجاهلية كظن جهال المشركين مثل أبي سفيان وأصحابه { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } يعني النصرة والفتح { قل إن الأمر كله للّه } يعني النصرة والغنيمة كله من اللّه { يخفون في أنفسهم } يعني يسرون في أنفسهم { ما لا يبدون لك } يعني يقولون ما لا يظهرون لك { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا } يقولون لو كان ديننا ما قتلنا { ها هنا } قال الكلبي وفي الآية تقديم وتأخير ومعناه يقولون هل لنا من الأمر من شيء يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا { قل إن الأمر كله للّه } وقال الضحاك { قل إن الأمر كله } خيره وشره من اللّه قرأ أبو عمرو { قل إن الأمر كله للّه } بضم اللام والباقون بالنصب فمن رفع جعله اسما مستأنفا ومن نصب جعله نعتا للأمر ثم قال تعالى { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز } يقول لظهر ويقال لخرج { الذين كتب عليهم القتل } أي قضي عليهم القتل { إلى مضاجعهم } أي إلى مواضع مصارعهم معناه أنهم وإن لم يخرجوا إلى العدو وقد قضى اللّه عليهم بالقتل لخرجوا إلى مواضع قتلهم لا محالة حتى ينفذ فيهم القضاء ثم قال تعالى { وليبتلي اللّه ما في صدوركم } يعني ليختبر ويظهر ما في صدوركم { وليمحص } يعني ليظهر ويكفر { ما في قلوبكم } من الذنوب { واللّه عليم بذات الصدور } يعني بما في القلوب من الخير والشر ١٥٥ثم نزل في المنهزمين فقال { إن الذين تولوا منكم } يقول انهزموا منكم { يوم التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع المشركين { إنما استزلهم الشيطان } قال القتبي { استزلهم } يعني طلب زلتهم كما يقال استعجلت فلانا أي طلبت عجلته واستعملته أي طلبت عمله ويقال زين لهم الشيطان { ببعض ما كسبوا } يعني الذي أصابهم كان بأعمالهم كما قال في آية أخرى { وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } الشورى ٣٠ { ولقد عفا اللّه عنهم } حيث لم يستأصلهم { إن اللّه غفور } لذنوبهم { حليم } إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير أن عثمان بن عفان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال له عبد الرحمن أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهدها وبايعت تحت الشجرة ولم تبايع وقد كنت توليت فيمن تولى يوم الجمع أي يوم أحد فرد عليه عثمان وقال أما قولك إنك شهدت بدرا ولم أشهد فإني لم أغب عن شيء شهده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا أن ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانت مريضة فكنت معها أمرضها وضرب لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسهم في سهام المسلمين وأما بيعة الشجرة فبعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ردا على المشركين بمكة فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمينه على شماله فقال هذه لعثمان فيمين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشماله إلي خير من يميني وشمالي وأما يوم الجمع فقال اللّه تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا اللّه عنهم } فكنت فيمن عفى اللّه عنهم فخصم عثمان عبد الرحمن بن عوف ١٥٦قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } يقول كمنافقي أهل الكتاب { وقالوا لإخوانهم } من المنافقين { إذا ضربوا في الأرض } يقول ساروا في الأرض تجارا مسافرين فماتوا في سفرهم { أو كانوا غزى } يعني خرجوا في الغزو فقتلوا قال القتبي { غزى } جمع غاز مثل صائم وصوم ونائم ونوم وعافي وعفى { لو كانوا عندنا } بالمدينة { ما ماتوا } في سفرهم { وما قتلوا } في الغزو { ليجعل اللّه ذلك } الظن { حسرة في قلوبهم } ويقال جعل اللّه ذلك القول { حسرة في قلوبهم } لأنه ظهر نفاقهم وقال الضحاك { ليجعل اللّه ذلك حسرة } في قلوب المنافقين لأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أشجار الجنان حيث شاءت وأرواح قتلى المنافقين في حواصل طير سود تسرح في الجحيم ثم قال تعالى { واللّه يحيي ويميت } يعني يحيي في السفر ويميت في الحضر ويحيي في الحضر ويميت في السفر ويقال واللّه يحيى قلوب المؤمنين ويميت قلوب الكافرين وقيل يحيي قلوب المؤمنين بالنصر والخروج إلى الغزو ويميت قلوب المنافقين بالتخلف وسوء ظن وقال الضحاك يعني يحيي من أحيا من نطفة بقدرته ويميت من أمات بعزته وسلطانه { واللّه بما تعملون بصير } قرأ عبد اللّه بن كثير وحمزة والكسائي { يعملون } بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون بالتاء ومعناه قل لهم واللّه بما تعملون بصير ١٥٧قوله تعالى { ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم } يعني إن متم في إقامتكم أو قتلتم في سبيل اللّه وأنتم مؤمنون { لمغفرة من اللّه } لذنوبكم { ورحمة } يعني ونعمة وجنة { خير مما تجمعون } يا معشر المنافقين في الدنيا من الأموال قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم { متم } بضم الميم في جميع القرآن والباقون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد ١٥٨ثم قال { ولئن متم أو قتلتم } في الغزو { لإلى اللّه تحشرون } بعد الموت قرأ عاصم في رواية حفص { خير مما يجمعون } بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة ١٥٩قوله تعالى { فبما رحمة من اللّه لنت لهم } يقول فبرحمة من اللّه وما صلة فاللّه تعالى ذكر منته أن جعل رسوله رحيما رؤوفا بالمؤمنين فقال { فبما رحمة من اللّه } يا محمد { لنت لهم } جانبك وكنت رؤوفا رحيما بالمؤمنين { ولو كنت فظا غليظ القلب } يعني خشنا في القول غليظ القلب { لانفضوا من حولك } أي لتفرقوا من عندك واللّه جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارا رحيما هكذا قال الضحاك ثم قال { فاعف عنهم } أي تجاوز عنهم ولا تعاقبهم بما يكون منهم من الزلة والذنب { واستغفر لهم } من ذلك الذنب { وشاورهم في الأمر } يقول إذا أردت أن تعمل عملا فاعمل بتدبيرهم ومشاورتهم ويقال ناظرهم في الأمر ويقال ناظرهم عند القتال وروي عن عبد اللّه بن عباس أنه كان يقرأ { وشاورهم في بعض الأمر } لأنه كان يشاورهم فيما لم ينزل عليه الوحي فيه وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عاقلا ذا رأي ولكنه أمر بالمشورة ليقتدي به غيره ولأن في المشاورة يتودد لأصحابه لأنه إذا شاورهم يتودد قلوبهم وفي المشورة أيضا ترك الملامة لأنه يقول فعلت كذا بمشاورتكم وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما شقي عبد قط بمشورة وما سعد عبد باستغناء رأي ثم قال تعالى { فإذا عزمت فتوكل على اللّه } يعني لا تتكل على المشورة ولكن توكل على اللّه بعد المشورة لا على الأصحاب { إن اللّه يحب المتوكلين } الذين يتوكلون على اللّه ١٦٠ثم أخبر عز وجل أن النصرة كلها من اللّه فقال { إن ينصركم اللّه } يقول إن يمنعكم اللّه { فلا غالب لكم } من العدو يعني يوم بدر { وإن يخذلكم } يعني يوم أحد { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } يعني من يمنعكم من عدوكم { وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون } يعني فليتق الواثقون في النصرة ويقال على المؤمنين أن يتوكلوا على اللّه لأنهم عرفوا أنه لا ناصر لهم غيره قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر { متم } بضم الميم في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان ومعناها واحد ١٦١قوله تعالى { وما كان لنبي أن يغل } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم { يغل } بنصب الياء قرأ وقرأ الباقون { يغل } بضم الياء ونصب الغين فمن قرأ بالنصب معناه وما كان لنبي أن يخون في الغنيمة ومن قرأ بالضم فمعناه لا ينبغي لنبي أن ينسب إلى الغلول وذلك أنه لما كان يوم أحد أخذوا في النهب والغارة وتركوا القتال وخافوا أن تفوتهم الغنيمة وظنوا أن من أخذ شيئا يكون له وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يقسم لهم فنزلت هذه الآية { وما كان لنبي أن يغل } يقول ما جاز لنبي أن يخون في الغنيمة وما جاز لأصحابه أن ينسبوه إلى الخيانة ثم قال { ومن يغلل } يعني يخن في الغنيمة { يأت بم غل يوم القيامة } يعني يحمله على ظهره وهذا كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لأعرفن أحدكم يوم القيامة يأتي على عنقه شاة لها ثغاء فيقول يا محمد فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا يريد أن من غل شاة أو بقرة أتى بها يوم القيامة يحملها ويقال من غل شيئا في الدنيا يمثل له يوم القيامة في النار ثم يقال له أنزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله فكلما انتهى به إلى الباب سقط منه إلى أسفل جهنم فيرجع فيأخذه فلا يزال هكذا ما شاء اللّه ويقال { يأت بما غل } يعني تشهد عليه يوم القيامة تلك الخيانة والغلول ويقال هذا على سبيل التمثيل { يأت بما غل } يعني يأتي بوباله فيكون وباله على عنقه كما قال في آية أخرى { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } الأنعام٣١ قوله تعالى { ثم توفى كل نفس } يعني توفى وتجازى كل نفس ما عملت من خير أو شر { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ١٦٢ثم قال { أفمن اتبع رضوان اللّه } قال الكلبي يعني أفمن أخذ الحلال من الغنيمة { كمن باء بسخط من اللّه } يعني كمن استوجب سخطا من اللّه بأخذ الغلول من الغنائم ثم بين مستقر من غل من الغنيمة ومن أخذ من الحلال فقال لمن غل { ومأواه جهنم وبئس المصير } الذي صاروا إليه يعني النار وقال لمن أخذ من الحلال ١٦٣{ هم درجات عند اللّه } يعني لهم درجات عند اللّه في الجنة ويقال هم ذوو درجات عند اللّه { واللّه بصير بما يعملون } يعني بمن غل وبمن لم يغل وقال القتبي هم طبقات عند اللّه في الفضل فبعضهم أرفع من بعض وقال أبو عبيدة والكسائي لهم درجات عند اللّه ويقال لمن لم يغل درجات في الجنة ولمن غل دركات في النار ١٦٤قوله تعالى { لقد من اللّه على المؤمنين } يعني أنعم اللّه على المؤمنين { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } يعني من أصلهم ونسبهم من العرب يعرفون نسبه ويقال { من أنفسهم } يعني من جنسهم من بني آدم ولم يجعله من الملائكة وإنما خاطب بذلك المؤمنين خاصة لأن المؤمنين هم الذين صدقوه فكأنه منهم وقرئ في الشاذ { من أنفسكم } بنصب الفاء يعني من أشرفهم وقد كانت له فضيلة في ثلاثة أشياء أحدها أنه كان من نسب شريف لأنهم اتفقوا أن العرب أفضل ثم من العرب قريش ثم من قريش بنو هاشم فجعله من بني هاشم والثاني أنه كان أمينا فيهم قبل الوحي والثالث أنه كان أميا لكي لا يرتاب فيه الافتعال ثم قال { يتلو عليهم آياته } يعني يعرض عليهم القرآن { ويزكيهم } يعني يأخذ منهم الزكاة ليطهر أموالهم ويقال يعني يطهرهم من الذنوب والشرك ويقال { ويزكيهم } يعني يأمرهم بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا اللّه ثم قال { ويعلمهم الكتاب } يعني القرآن { والحكمة } يعني الفقه وبيان الحلال والحرام { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } يعني وقد كانوا من قبل مجيء محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لفي خطأ بين ١٦٥ثم رجع إلى قصة أحد وذكر التعزية للمؤمنين بما أصابهم من الجراحات فقال { أو لما أصابتكم مصيبة } يوم أحد { قد أصبتم مثليها } يوم بدر لأن المسلمين يوم بدر قتلوا سبعين نفسا من صناديد قريش وأسروا سبعين وقتل من المسلمين يوم أحد سبعين ولم يؤسر منهم أحد فذلك قوله { قد أصبتم مثليها } وقوله { اولما } فالألف للاستفهام والواو للعطف وما صلة فكأنه يقول ولئن متم أو قتلتم أو أصابتكم مصيبة يوم أحد قد أصبتم مثليها يوم بدر { قلتم آنى هذا } يعني قلتم فمن أين لنا هذا وكيف أصابنا هذا ونحن مسلمون { قل هو من عند أنفسكم } يعني من عند قومكم بمعصية الرماة بتركهم ما أمرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال الضحاك { قل هو من عند أنفسكم } يعني بذنوبكم التي سلفت منكم فبل القتال يعني أن في ذلك تطهيرا لما سلف من ذنوبكم وهذا كقوله تعالى { وما اصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } الشورى٣٠ { إن اللّه على كل شيء قدير } من النصرة والهزيمة ١٦٦قوله تعالى { وما أصابكم يوم التقى الجمعان } جمع المسلمين وجمع المشركين { فبإذن اللّه } أي فبإرادة اللّه أصابكم { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } يعني أصابتكم المصيبة لكي يظهر المؤمن من المنافق ثم بين أمر المنافقين وصنيعهم وقلة حسبتهم في أمر الجهاد فقال { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا } يعني إن لم تقاتلوا لوجه اللّه فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم قال الكلبي ويقال { ادفعوا } يعني كثروا وقال القتبي { ادفعوا } أي كثروا لأنكم إذا كثرتم دفعتم القوم بكثرتكم { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } يعني لجئنا معكم قال الضحاك وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما خرج يوم أحد أبصر كتيبة خثناء وفيها كبكبة من الناس فقال من هؤلاء فقيل يا نبي اللّه هؤلاء حلفاء عبد اللّه بن أبي فقال إنا لا نستعين بالكفار فرجع عبد اللّه مع حلفائه من اليهود فقال له عمر أقم مع المؤمنين فقال { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } ١٦٧قال اللّه تعالى { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } يعني ميلهم إلى الكفر أقرب من ميلهم إلى الإيمان ويقال عونهم للكفار أكثر من عونهم للمؤمنين { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } ذكر الأفواه على معنى التأكيد لأن الرجل قد يقول بالمجاز بالإشارة وهذا كما قال { يكتبون الكتب بأيديهم } البقرة ٧٩ و { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } الفتح ١١ قال اللّه تعالى { واللّه أعلم بما يكتمون } من النفاق والكفر ١٦٨ونزل فيهم أيضا { الذين قالوا لإخوانهم } من المنافقين { وقعدوا } عن الجهاد { لو أطاعونا } في القعود عن الجهاد { ما قتلوا } أي في الغزو { قل } لهم يا محمد { فادرؤوا عن أنفسكم } في حال حضر { الموت إن كنتم صادقين } في مقالتكم قال الفقيه سمعت بعض المفسرين بسمرقند يقول لما نزلت هذه الآية { فادرؤوا عن أنفسكم الموت } مات يؤمئذ سبعون نفسا من المنافقين ١٦٩ثم نزل في شأن الشهداء { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه { أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } من التحف وذلك أن المسلمين كانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنزلت هذه الآية { بل أحياء عند ربهم يرزقون } وهذا قول الكلبي ويقال ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا كسائر الأموات { بل أحياء } يعني هم كالأحياء عند ربهم لأنه يكتب لهم أجورهم إلى يوم القيامة فكأنهم أحياء في الآخرة ويقال لا يظن بهم كما يظن الكفار بهم أنهم لا يبعثون بل يبعثهم اللّه ويقال ارواحهم في المنزلة والكرامة بمنزلة الأحياء وروى عطاء عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما وجدوا طيب منقلبهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد اللّه لهم من الكرامة وما هم فيه من النعيم قالوا يا ليت إخواننا علموا ما أعد اللّه لنا من الكرامة وما نحن فيه من النعيم فلم ينكلوا عند اللقاء ولم يجبنوا عند القتال فقال اللّه تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل اللّه تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ١٧٠{ فرحين } يعني معجبين { بما آتاهم اللّه من فضله } أي من رزقه في الجنة { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } من إخوانهم من بعدهم أن يأتوهم ثم رجع إلى الشهداء فقال تعالى { ألا خوف عليهم } فيما يستقبلهم { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من الدنيا قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة { ولا تحسبن } بنصب السين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالكسر وقرأ ابن عامر { قتلوا } بتشديد التاء على معنى التكثير أنهم يقتلون واحدا فواحدا وقرأ الباقون بالتخفيف ١٧١قوله تعالى { ويستبشرون بنعمة من اللّه } يقول بجنة من اللّه ويقال بمغفرة من اللّه { وفضل } يعني الكرامات في الجنة وروي عن مجاهد أنه قال السيوف مفاتيح الجنة وروت عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال الشهيد يشفع في سبعين من أهله قال الفقيه أروي هذا الحديث بمعناه لا بلفظه إن اللّه تعالى أكرم الشهداء بخمس كرامات لم يكرم بها أحد من الأنبياء ولا أنا إحداها أن جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت وهو الذي سيقبض روحي وأما الشهداء فاللّه تعالى هو الذي يقبض أرواحهم بقدرته كيف يشاء ولا يسلط على أرواحهم ملك الموت والثانية أن جميع الأنبياء قد غسلوا بعد الموت وأنا أغسل بعد الموت وأما الشهداء فلا يغسلون ولا حاجة لهم إلى ماء الدنيا والثالثه أن جميع الأنبياء قد كفنوا وأنا أكفن أيضا والشهداء لا يكفنون بل يدفنون في ثيابهم والرابعة أن الأنبياء لما ماتوا فقد سموا أمواتا وإذا مت أنا يقال قد مات والشهداء لا يسمون موتى والخامسة أن الأنبياء تعطى لهم الشفاعة يوم القيامة وشفاعتي أيضا يوم القيامة وأما الشهداء فيشفع لهم كل يوم من يستشفعون ثم قال تعالى { وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين } قرأ الكسائي { وإن اللّه } بكسر الألف والباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه يستبشرون بنعمة من اللّه ويستبشرون بأن اللّه لا يضيع ثواب المؤمنين الموحدين ومن قرأ بالكسر على معنى الابتداء إن اللّه لا يبطل ثواب عمل الموحدين وهذا الخبر للترغيب في الشهداء وأما الشهداء والأولياء فيشفع لهم لا يبلغون درجة الأنبياء ومن قال إنهم يبلغون درجة الإباحة ومن أنكر كرامات الأولياء فهو معتزلي ١٧٢قوله تعالى { الذين استجابوا للّه والرسول } قال في رواية الكلبي وذلك أن أبا سفيان حين رجع من أحد نادى فقال يا محمد إن الموعد بيننا وبينك بدر الصغرى فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لغمر قل له ذلك بيننا وبينك إن شاء اللّه ثم ندم أبو سفيان فقال لنعيم بن مسعود وكان يخرج إلى المدينة للتجارة إذا أتيت المدينة فخوفهم لكيلا يخرجوا فلما قدم نعيم المدينة قال إن أبا سفيان قد جمع خلقا كثيرا فكره أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الخروج إليهم وتثاقلوا فلما رأى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم قال والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم وإن لم يخرج معي منكم أحد قال فمضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للميعاد ومعه نحوا من سبعين رجلا حتى انتهوا إلى ذلك الموضع وكان هنالك سوق فلم يخرج أحد من أهل مكة فتسوقوا من السوق حاجتهم وانصرفوا فنزل قوله تعالى { الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح } يعني بعدما أصابتهم الجراحات يوم أحد { للذين أحسنوا منهم } أي الذين أوفوا الميعاد { واتقوا } السخط في معصية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لهم { أجر عظيم } أي ثواب كثير ١٧٣قوله تعالى { الذين قال لهم الناس } يعني نعيم بن مسعود وإنما أراد به جنس الناس وكان رجلا واحدا { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان وأصحابه { فاخشوهم } يعني ولا تخرجوا إليهم { فزادهم إيمانا } يعني تصديقا ويقينا وجرأة على القتال { وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل } يعني ثقتنا باللّه وأيقنوا أن اللّه لا يخذل محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم { ونعم الوكيل } أي ونعم الثقة لنا ١٧٤{ فانقلبوا } أي انصرفوا { بنعمة من اللّه } يعني بأجر من اللّه { وفضل } يعني ما تسوقوا به من السوق واشتروا الأشياء بسعر رخيص { لمن يمسسهم سوء } يعني قتال { وابتعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم } يعني ذو من عظيم وقال في رواية الضحاك كان ذلك يوم أحد لما انهزمت قريش ونزلت في مواضع وكثرت الجراحات في أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالخروج إليهم فأجابه سبعون رجلا فنزلت هذه الآية ١٧٥قوله تعالى { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } يعني نعيم بن مسعود لأن كل عات متمرد شيطان يخوف أولياءه يعني بأوليائه الكفار ويقال يخوف أشكاله وقال الزجاج { إنما ذلكم الشيطان } يعني ذلك التخويف عمل الشيطان يخوفكم بأوليائه وقال القتبي { يخوف أولياءه } يعني بأوليائه كما قال { لينذر بأسا شديدا } الكهف ٢ أي لينذركم ببأس شديد ثم قال تعالى { فلا تخافوهم } في الخروج { وخافون } في القعود { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين قال الزجاج معناه إن كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم ١٧٦قوله تعالى { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } قال الكلبي يعني به المنافقين ورؤساء اليهود كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في الكتاب فنزل { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } ويقال إن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا شق ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأن الناس ينظرون إليهم ويقولون إنهم أهل الكتاب فلو كان قوله حقا لاتبعوه فنزلت هذه الآية ويقال نزلت في مشركي قريش لأنهم كانوا أقرباءه والناس يقولون لو كان قوله حقا لاتبعه أقرباؤه فشق ذلك عليه فنزلت { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } يعني يبادرون في الكفر ولا يصدقونك { إنهم لن يضروا اللّه شيئا } يعني لن ينقصوا من ملك اللّه وسلطانه شيئا بكفرهم وهذا كما روى أبو ذر الغفاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال قال اللّه لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك اللّه شيئا ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص من ملك اللّه جناح بعوضة ثم قال تعالى { يريد اللّه أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة } يعني نصيبا في الجنة { ولهم عذاب عظيم } في الآخرة وقرأ نافع { ولا يحزنك } بضم الياء وكسر الزاي وكذلك ما كان نحو هذا في جميع القرآن إلا في قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } الأنبياء ١٠٣ وقرأ الباقون بنصب الياء وضم الزاي وهما لغتان وتفسيرهما واحد ١٧٧ثم قال تعالى { إن الذين اشتروا } يعني اختاروا { الكفر } على الإيمان { لن يضروا اللّه شيئا } يقول لن ينقصوا من ملك اللّه شيئا وإنما أضروا بأنفسهم حيث استوجبوا لأنفسهم العذاب { ولهم عذاب إليم } في الآخرة ١٧٨قوله تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } يعني لا يظنن الكفار أن الذي نملي لهم ونمهلهم خير لهم ويقال ما نعطيهم من المال والولد لا يظنن أن ذلك خير لهم في الآخرة يعني إنما نعطيهم المال والولد لأجل ذلك استدراجا بل هو شر لهم في الآخرة { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } أي يهانون فيه ويقال { إنما نملي لهم } أي ونؤخر العذاب عنهم ليزدادوا إثما أي جرأة على المعاصي وإنما كان ذلك مجازاة لكفرهم وخبث نياتهم ويقال إنما نملي لهم ما أصابوا من الظفر يوم أحد لم يكن ذلك خيرا لأنفسهم وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان برا فقد قال اللّه تعالى { وما عند اللّه خير للأبرار } آل عمران ١٩٨ وإن كان فاجرا فقد قال اللّه تعالى { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } قرأ حمزة بن عامر { ولا تحسبن } بالتاء وقرأ الباقون بالياء كذلك الذي بعد هذا ١٧٩قوله تعالى { ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } قال الكلبي وذلك ان قريشا من أهل مكة من المشركين قالوا يا رسول اللّه إنك تزعم أن الرجل منا في النار وإذا ترك ديننا واتبع دينك قلت هو من أهل الجنة فأخبرنا عن هذا من أين هو وأخبرنا من يأتيك منا ومن لا يأتيك منا فأنزل اللّه تعالى { ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } من الكفر والنفاق { حتى يميز الخبيث من الطيب } يقول حتى يخلص الكافر من المؤمنين { وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب } يعني ليبين لكم المؤمن من الكافر قبل أن يؤمن قال الفراء لم يكن اللّه ليعلم أو يطلع على غيبه { ولكن اللّه يجتبي } يقول يصطفي { ومن رسله من يشاء } للنبوة والرسالة من خلقه فيوحي إليه بإذنه قال في رواية الضحاك إن المنافقين أعلنوا الإسلام وأسروا الكفر وصلوا وجاهدوا مع المؤمنين فأحب اللّه أن يميز بين الفريقين وأن يدل رسوله على سرائر المنافقين فقال تعالى { ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } يعني المنافق من المؤمن { وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب } ولكن اللّه يطلع أنبياءه ورسله يعني أن المؤمنين لا يعلمون سر المنافقين ولكن اللّه يبين ذلك للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال { ما كان اللّه ليذر } يعني ليترك من علم أنه من أهل الإيمان على ما أنتم عليه من الكفر حتى يوفقه للإيمان { وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب } ولكن اللّه يطلع أنبياءه ورسله بالوحي حتى يكون ذلك علامة لنبوتهم ثم قال تعالى { فآمنوا باللّه ورسله وإن تؤمنوا } باللّه ورسله { وتتقوا } الشرك والمعصية { فلكم أجر عظيم } يعني ثواب في الجنة ويقال إن الكفار لما سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبين لهم من يؤمن منهم فنزل { فآمنوا باللّه ورسوله } يعني لا تشتغلوا بما لا يعنيكم واشتغلوا بما يعنيكم وهو الإيمان باللّه ورسله فإنكم إن فعلتم ذلك فلكم أجر عظيم قرأ حمزة والكسائي { حتى يميز } بضم الياء ونصب الميم وكسر الياء مع التشديد وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الميم بغير تشديد وتفسيرهما واحد إلا أنك إذا قرأت بالتشديد قد يكون عبارة عن الكثرة وبالمبالغة ١٨٠قوله تعالى { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله } يعني بما أعطاهم اللّه من المال يبخلون ويمنعون الزكاة والصدقة وصلة الأرحام فلا تظنوا ان ذلك { هو خير لهم} {بل هو شر لهم} يعني البخل شر لهم ويقال الفضل شر لهم { سيطوقون } يقول سيوثقون { ما بخلوا به } من الزكاة كهيئة الطوق وروي عن ابن عباس أنه قال يأتي كنز أحدهم شجاعا أقرع له زبيبتان طوقا في عنقه تلدغ خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو هذا فذلك قوله تعالى { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } ويقال هو طوق من نار في عنقه ويقال هو على وجه المثل يعني وبال ذلك في عنقهم كما قال في آية أخرى { وكل إنسن ألزمنه طيره فى عنقه } الأسراء١٣ ثم قال { وللّه ميراث السموات والأرض } يعني إذا هلك الخلق كلهم أهل السموات من الملائكة وأهل الأرض من الإنس والجن وسائر الخلق ويبقى رب العالمين ثم يقول { لمن الملك اليوم } غافر١٦ فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول { للّه الوحد القهار } يوسف٣٩ وغيرها فذلك قوله { وللّه ميراث السموات } يعني يهلك أهل السموات والأرض ولم يبق لأحد ملك وإنما سمي ميراثا على وجه المجاز لأن القرآن بلغة العرب وكانوا يعرفون أن من رجع الملك إليه يكون ميراثا على وجه المجاز وأما في الحقيقة فليس بميراث لأن الوراث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن يملكه من قبل واللّه عز وجل مالكهما وكانت السموات وما فيها والأرض وما فيها له وإنما كانت الأموال عارية عند أربابها فإذا ماتوا رجعت العارية إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ومعنى الآية أن اللّه تعالى أمر عباده أن ينفقوا ولا يبخلوا قبل أن يموتوا ويتركوا المال ميراثا للّه تعالى ولا ينفعهم إلا ما أنفقوا ثم قال تعالى { واللّه بما تعملون خبير } يعني عالم بمن يؤدي الزكاة وبمن يمنعها فيجازي كل نفس بما عملت قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يعملون } بالياء والباقون بالتاء على وجه المخاطبة ١٨١قوله تعالى { لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء } وقال في رواية الضحاك لما نزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم { من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا } ( البقرة ٢٤٥ ) ( والحديد ١١ ) قالت الفجرة من كفرة اليهود أفقير ربنا فيستقرضنا قالوا ذلك على وجه الاستهزاء فنزلت هذه الآية ويقال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث أبا بكر إلى اليهود ليأمرهم بالإسلام وأن يعطوا الصدقة ويؤمنوا فلما انتهى إليهم أبو بكر قال فنحاص بن عازورا أيسأل اللّه منا الصدقة فهو فقير ونحن أغنياء فنزلت هذه الآية { سنكتب ما قالوا } يعني نحفظ قولهم ونجازيهم ويقال { سنكتب ما قالوا } يعني يكتب عليهم الكرام الكاتبون ويؤاخذون به في الآخرة { وقتلهم } يعني نكتب قتلهم { الأنبياء بغير حق } بلا جرم { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } يعني تقول لهم خزنة جهنم في الآخرة ذلك قرأ حمزة { سيكتب } بضم الياء ونصب التاء { وقتلهم الأنبياء } بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله يعني يكتب قتلهم الأنبياء ويقول بالياء والباقون { سنكتب } بالنون مع فتحها وضم التاء { وقتلهم } بنصب اللام ونقول بالنون وقوله { ذوقوا عذاب الحريق } روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لو أن شرارة وقعت بالمشرق لغلت منها جماجم قوم بالمغرب ولو أن حلقة من سلاسل أهل النار وضعت على رأس جبل لأحرقت إلى سبع أرضين فهذا معنى قوله { عذاب الحريق } ١٨٢ثم قال تعالى { ذلك بما قدمت } يعني يقال لهم ذلك العذاب بما قدمت { أيديكم } من الكفر والتكذيب يعني بما قدمتم وذكر الأيدي على معنى الكناية ثم قال تعالى { وأن اللّه ليس بظلام للعبيد } يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب ١٨٣قوله تعالى { الذين قالوا } يعني كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وغيرهما من رؤساء اليهود قالوا { إن اللّه عهد إلينا } يعني أمرنا في التوراة { أن لا نؤمن } يعني أن لا نصدق { لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } تجيء نار من السماء فتأكل القربان فإن جئتنا بها صدقناك قال اللّه تعالى { قل } يا محمد { قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم } يعني بالآيات والعلامات { وبالذي قلتم } يعني قد جاءكم الرسول بالذي قلتم من أمر القربان { فلم قتلتموهم } يعني زكريا ويحيى وغيرهما { إن كنتم صادقين } فيما تقولون ١٨٤قوله تعالى { فإن كذبوك } بما تقول لهم { فقد كذب رسل من قبلك } فاللّه تعالى يعزي نبيه ليصبر على تكذيبهم { جاؤوا بالبينات } بالآيات والعلامات { والزبر } قال الكلبي يعني بأحاديث الأنبياء من قبلهم بالنبوة على ما يكون { والكتاب المنير } يعني الحلال والحرام وقال الزجاج { الزبر } جماعة الزبور وهو الكتاب يقال زبرت أي كتبت ويقال زبرت أي قرأت { والكتاب المنير } يعني المضيء بالحلال والحرام قرأ ابن عامر { بالزبر } بالباء وقرأ الباقون { والزبر } بغير الباء ١٨٥ثم قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } قال الكلبي لما نزل قوله تعالى { كل من عليها فان } الرحمن ٢٦ قالت الملائكة هلك أهل الأرض فلما نزل { كل نفس ذائقة الموت } أيقنت الملائكة أنها تهلك معهم ثم قال { وإنما توفون أجوركم } يعني توفون ثواب أعمالكم { يوم القيامة فمن زحزح عن النار } يعني بعد ونحي عنها { وأدخل الجنة فقد فاز } يعني نجا وسعد في الجنة حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا المسيب عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن عن عبد رب الكعبة عن عبد اللّه بن عمرو أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه قوله تعالى { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } قال ابن عباس { متاع الغرور } مثل الكوز والقارورة والسكرجة ونحو ذلك لأن ذلك لا يدوم وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى ويقال هو مثل الزجاج الذي يسرع الكسر إليه ولا يصلحه الجبر ويقال كزاد المسافر يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا ١٨٦قوله تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } يقول لتختبرن في أموالكم بالنقصان والذهاب ويقال بوجوب الحقوق فيها وفي { أنفسكم } بالأمراض والأوجاع والقتل { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } حين قالوا { إن اللّه فقير ونحن أغنياء } آل عمران ١٨١ { ومن الذين أشركوا } يعني مشركي العرب { أذى كثيرا } باللسان والفعل ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي اللّه عنه فكانوا يهددونه ويشتمونه ويقولون ما يفعله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إنما يفعله بمشاورته فأمره اللّه تعالى بأن يصبر على أذاهم ثم قال { وإن تصبروا } على أذاهم { وتتقوا } المكافأة ويقال وتتقوا معاصيه { فإن ذلك من عزم الأمور } يعني من حقائق الأمور ويقال إن ذلك الصبر من خير الأمور ١٨٧قوله تعالى { وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يعني أخذ عليهم الميثاق حين أخرج ذرية آدم من ظهورهم ويقال أخذ عليهم الميثاق بالوحي في كتب الأنبياء { لتبيننه للناس } يعني نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته { ولا تكتمونه } عنهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { ليبيننه للناس ولا يكتمونه } كلاهما بالياء وقرأ الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق لكي يبينوه ولا يكتموه وأما من قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق وقال لهم لتبيننه للناس ولا تكتمونه ثم أخبر عن سوء معاملتهم ونقضهم الميثاق فقال { فنبذوه وراء ظهورهم } يعني طرحوه خلف ظهورهم يعني تركوا الميثاق ولم يعملوا به { اشتروا به } بكتمان نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته { ثمنا قليلا } يعني عرضا يسيرا من متاع الدنيا { فبئس ما يشترون } يعني بئس ما يختارون لأنفسهم الدنيا على الآخرة ١٨٨ثم قال تعالى { لا تحسبن } يقول لا تظنن يا محمد { الذين يفرحون بما أوتوا } يقول يعجبون بما أوتوا يعني بما غيروا من نعته وصفته وهذا قول الكلبي وقال الضحاك إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن اللّه يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة فلما بعثه اللّه سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم فقالت اليهود طعما في أموال الملوك هو غير هذا فأعطاهم الملوك مالا فقال اللّه تعالى { لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا } يعني بما أعطاهم الملوك ثم قال تعالى { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } لأنهم كانوا يقولون نحن على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكونوا على دينه ويقال كانوا يقولون نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب ويريدون أن يحمدوا بذلك يقول اللّه تعالى { فلا تحسبنهم } يقول فلا تظنهم { بمفازة من العذاب } معناه لا تظنن أنهم ينجون من العذاب بذلك { ولهم عذاب أليم } يعني عذاب دائم لا يخرجون منه أبدا ١٨٩ثم قال تعالى { وللّه ملك السموات والأرض } يعني خزائن السموات المطر وخزائن الأرض النبات ويقال جميع من في السموات والأرض عبيده وفي ملكه { واللّه على كل شيء قدير } من النبات وغيره ويقال هذا معطوف على أول الكلام أنهم لا ينجون من عذابه يأخذهم متى شاء لأنه على كل شيء قدير ١٩٠قوله تعالى { إن في خلق السموات والأرض } وذلك أن أهل مكة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم بآية لصحة دعواه لأنه كان يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده فنزل { إن في خلق السموات والأرض } أي خلقين عظيمين ويقال فيما خلق في السموات من الشمس والقمر والنجوم وما خلق في الأرض من الجبال والبحار والأشجار { واختلاف الليل والنهار } يعني ذهاب الليل ومجيء النهار ويقال اختلاف لونيهما { لآيات } لعبرات { لأولي الألباب } لذوي العقول ١٩١قوله تعالى { الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا } يعني يصلون للّه قياما إن استطاعوا على القيام وقعودا إن لم يستطيعوا القيام { وعلى جنوبهم } إن لم يستطيعوا القعود لزمانه بهم ويقال معناه الذين يذكرون اللّه في الأحوال كلها في حال القيام والقعود والاضطجاع كما قال في آية أخرى { اذكروا اللّه ذكرا كثيرا } الأحزاب ٤١ ثم قال تعالى { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } يعني يعتبرون في خلقهما قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن زرارة الحلبي عن أبي حباب عن عطاء بن أبي رباح قال دخلت مع ابن عمر وعبيد بن عمير على عائشة فسلمنا عليها فقالت من هؤلاء فقلت عبد اللّه بن عمر وعبيد اللّه بن عمير فقالت مرحبا بك يا عبيد بن عمير ما لك لا تزورنا فقال عبيد زر غبا تزدد حبا فقال ابن عمر دعونا من هذا حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبكت بكاء شديدا ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في فراشي حتى ألصق جلده بجلدي فقال يا عائشة أتأذنين لي أن أعبد لربي فقلت واللّه إني أحب قربك وإني لأحب هواك فقام إلى قربة ماء فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى روت الدموع حجره ثم اتكأ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى روت الدموع الأرض ثم أتاه بلال بعدما أذن للفجر فلما رآه يبكي قال أتبكي يا رسول اللّه وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا وما لي لا أبكي وقد أنزلت علي الليلة { وأن في خلق السموات والأرض} إلى قوله { فقنا عذاب النار } ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق وقال صلّى اللّه عليه وسلّم تفكر ساعة خير من عبادة سنة ثم قال تعالى { ربنا ما خلقت هذا باطلا } يعني يتفكرون ويقولون { ربنا ما خلقت هذا باطلا } عبثا بغير شيء ولكن خلقتهما لأمر هو كائن { سبحانك فقنا عذاب النار } يعني ادفع عنا عذاب النار وقال الزجاج معنى { سبحانك } أي تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا { فقنا عذاب النار } أي صدقنا رسلك وسلّمنا أن لك جنة ونارا { فقنا عذاب النار } ١٩٢قوله تعالى { ربنا إنك من تدخل النار } يعني ويقولون { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } يعني أهنته وفضحته { وما للظالمين من أنصار } يعني ما للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب إذ أنزل بهم ويقولون أيضا { ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يدعو إلى التصديق { أن آمنوا بربكم } يعني صدقوا بتوحيد ربكم { فآمنا } يعني صدقنا وقال محمد بن كعب القرظي ليس كل الناس لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن المنادي هو كتاب اللّه يدعو إلى الإيمان بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن آمنوا بربكم فآمنا { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا } وقال الكلبي الذنوب الكبائر دون الصغاير والسيئات الشرك وقال الضحاك { ذنوبنا } يعني ما عملوا في حال الجاهلية { وكفر عنا سيئاتنا } يعني ما عملوا في حال الإسلام ويقال الذنوب والسيئات بمعنى واحد ويقال الذنوب هي الكبائر والسيئات ما دون الكبائر التي تكفر من الصلاة إلى الصلاة ثم قال تعالى { وتوفنا مع الأبرار } يعني مع المطيعين والصالحين ويقال اجعل أرواحنا مع أرواح المطيعين والصالحين ويقولون أيضا { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } يعني أعطنا ما وعدتنا من الخير والجنة على لسان رسلك ويقال هو ما ذكر من استغفار الأنبياء والملائكة للمؤمنين وهو قول تعالى { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } الشورى ٥ وما ذكر من دعاء نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين ١٩٤ثم قال تعالى { ولا تخزنا يوم القيامة } يعني لا تعذبنا ويقال لا تخذلنا يوم القيامة { إنك لا تخلف الميعاد } يعني ما وعدت من الخير والثواب للمؤمنين ١٩٥قوله تعالى { فاستجاب لهم ربهم } فأخبر اللّه عن فعلهم وذكر ما أجابهم به وأنجز لهم موعده وبين لهم ثوابه وهو قوله { فاستجاب لهم ربهم } روي عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من دعا اللّه تعالى بهذه الدعوات فإنه يستجاب له لأنه قال لهم { إني لا أضيع عمل عامل منكم } يعني لا أبطل ثواب عمل عامل في طاعتي { من ذكر أو أنثى } يعني رجلا أو امرأة قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة يقال له سلمة بن الأكوع عن أم سلمة أنها قالت يا رسول اللّه إني أسمع اللّه ذكر الهجرة فذكر فيها الرجال ولم يذكر فيها النساء فأنزل اللّه تعالى { إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } ويقال إن امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه إن اللّه خلق الرجال والنساء وقد آمن به النساء كما آمن به الرجال فما بالهن لم يذكرن كما يذكر الرجال فنزل قوله تعالى { إن المسلمين والمسلمات } الآية ونزل { إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } ثم قال تعالى { بعضكم من بعض } قال الكلبي يعني بعضكم أولياء بعض في الدين وقال الضحاك يعني يشبه بعضكم بعضا في الطاعة ويقال بعضكم على أثر بعض ويقال بعضكم على دين بعض ثم قال تعالى { فالذين هاجروا } من مكة إلى المدينة { وأخرجوا من ديارهم } يعني أن أهل مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة { وأوذوا في سبيلي } يعني عذبوا في طاعتي { وقاتلوا } مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المشركين { وقتلوا } يعني قتلهم المشركون قرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا على معنى التقديم والتأخير كقوله تعالى { إنى متوفيك ورافعك } آل عمران ٥٥ وقرأ الباقون وقاتلوا وقتلوا إلا ابن كثير وابن عامر قرأ وقتلوا بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة فذكر اللّه فعلهم ثم ذكر ثوابهم فقال ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ) يعني لأمحون عنهم ذنوبهم { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } يعني من تحت أشجارها وقصورها الأنهار { ثوابا من عند اللّه } يعني الجنات جزاء لأعمالهم من عند اللّه تعالى وقال الزجاج إنما صار نصبا لأنه مصدر مؤكد معناه لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ولأثيبنهم ثوابا وروي عن الفراء أنه قال إنما صار نصبا على التفسير ثم قال تعالى { واللّه عنده حسن الثواب } يعني حسن الجزاء وهو الجنة ويقال حسن المرجع في الآخرة خير من الدنيا ١٩٦قوله تعالى { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } يقول لا يحزنك يا محمد ذهابهم ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض ويقال هذا الخطاب للمؤمنين ومعناه لا يغرنكم تجارات الكفار وتصرفهم في أموالهم لأن ذلك { متاع قليل } لأن الكفار كانوا في رخاء وعيش وكانت لهم رحلة الشتاء والصيف وكان المؤمنون في ضيق وشدة فأخبر اللّه تعالى بمرجع الكفار في الآخرة وبمرجع المؤمنين فقال { لا يغرنك } ما هم فيه من العيش والسعة فإنما هو { متاع قليل } يعني بعد وقت قريب ١٩٧ثم قال تعالى { ثم مأواهم جهنم } يعني مصيرهم إلى جهنم { وبئس المهاد } يعني بئس موضع القرار في النار وبئس المصير إليها فما ينفعهم تجاراتهم وأموالهم ١٩٨ثم ذكر مرجع المؤمنين ومصيرهم فقال { لكن الذين اتقوا } اتقوا الشرك والفواحش ووحدوا { ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } أبدا لا يموتون فيها ولا يخرجون منها أبدا { نزلا من عند اللّه } يقول ثوابا من عند اللّه للمؤمنين الموحدين خاصة { وما عند اللّه } أي الجنة { خير } من الدنيا { للأبرار } يعني للمؤمنين المطيعين ١٩٩ثم قال تعالى { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه } يعني مؤمني أهل الكتاب معناه من أهل الكتاب من آمن باللّه فصدق { وما أنزل إليكم } من القرآن وصدق بما { وما أنزل إليهم } من التوراة والإنجيل يعني على أنبيائهم فذكر حالهم وبين ثوابهم لكي يرغب غيرهم من أهل الكتاب ليؤمنوا إذا علموا بثوابهم ثم نعتهم فقال { خاشعين للّه } يعني متواضعين للّه والخشوع أصله التذلل وكذلك الخضوع وقد فرق بعض أهل اللغة بين الخشوع والخضوع فقال الخضوع في البدن خاصة والخشوع يكون في البدن والبصر والصوت والقلب قال اللّه تعالى { وخشعت الأصوات للرحمن } طه ١٠٨ وقال { خاشعة أبصارهم } القلم ٤٣ المعارج ٤٤ ثم قال تعالى { ولا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا } يعني عرضا يسيرا كفعل اليهود { أولئك لهم أجرهم } يعني ثوابهم { عند ربهم } الجنة { إن اللّه سريع الحساب } يعني شديد العقوبة ويقال سريع الحفظ والتعريف ٢٠٠قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على البلاء والجهاد وأداء الفرائض وعن المعاصي { وصابروا } مع نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم على عدوكم حتى يدعوا دينهم إلى دينكم يعني يتركوا الشرك ويدخلوا في الإيمان { ورابطوا } مع عدوكم ما أقاموا وهذا قول الكلبي وقال عكرمة { اصبروا } على البلاء وعلى طاعة اللّه { وصابروا } أهل الضلالة { ورابطوا } الخيول وقال الزجاج { اصبروا } على دينكم { وصابروا } على عدوكم { ورابطوا } أي أقيموا على جهادكم بالحرب وقيل { اصبروا } بأبدانكم { وصابروا } بقلوبكم { و رابطوا } بأرواحكم { واتقوا اللّه } في جميع ما أمركم ونهاكم وقال القتبي أصل المرابطة أن يربطوا خيولهم في الثغر ثم قال تعالى { لعلكم تفلحون } يقول تفوزون وتأمنون النار وتنجون منها ويقال أصل الفلاح البقاء في النعمة ويقال الفلاح أن يبلغ الإنسان نهاية ما يأمله واللّه سبحانه وتعالى أعلم وصلي اللّه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله صحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين آمين |
﴿ ٠ ﴾