سورة النساء

سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

قوله تعالى { يا أيها الناس } قال ابن عباس رضي اللّه عنه في قوله تعالى { يا أيها الناس } يعني الناس عامة وقد يكون { يا أيها الناس } خاصا لأهل مكة وفي هذا الموضع عام لجميع الناس { اتقوا ربكم } يعني اخشوا ربكم ويقال أطيعوا ربكم ويقال احذروا المعاصي لكي تنجوا من عقوبة ربكم ويقال وحدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا

ثم دل على وحدانيته ونفسه بصنعه فقال { الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم { وخلق منها زوجها } يعني من نفس آدم زوجها حواء وذلك أن اللّه تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم فكان آدم بين النائم واليقظان فخلق من ضلع من أضلاعه اليسرى حواء فلما استيقظ قيل له من هذه يا آدم قال إمرأة لأنها خلقت من المرء فقيل ما اسمها قال حواء لأنها خلقت من حي وقد قيل إنما سميت حواء لأنه كان على شفتيها حوة وقيل لأن لونها كان يضرب إلى السمرة فسميت حواء من قولك أحوى كقوله تعالى { فجعله غثاء أحوى } الأعلى ٥

ثم قال تعالى { وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } يعني خلق منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء كثيرة قال مقاتل يعني خلق منهما ألف ذرية من الناس يعني من صلبه

ثم قال { واتقوا اللّه } يعني أطيعوا اللّه { الذين تساءلون به } قرأ حمزة والكسائي وعاصم وأبو عمرو في رواية هارون { تسألون } بغير تشديد وقرأ الباقون بالتشديد فمن قرأ بالتشديد لأن أصله تتساءلون فأدغم إحدى التاءين في السين وأقيم التشديد مقامه ومن قرأ بالتخفيف فالأصل أيضا تتساءلون فحذف إحدى التاءين لاجتماع الحرفين من جنس واحد للتخفيف

ثم قال تعالى { والأرحام } قرأ حمزة بكسر الميم والباقون بنصب الميم ومعناه واتقوا اللّه الذي تسألون به الحاجات يعني الذي يسأل الناس بعضهم بعضا فيقول الرجل للرجل أسألك باللّه وأنشدك باللّه { والأرحام } يقول واتقوه في ذوي الأرحام فصلوها ولا

تقطعوها وأما من قرأ بالكسر معناه أسألك باللّه وبالرحم أن تعطيني شيئا وقال الزجاج من قرأ بالخفض فخطأ في العربية وفي أمر الدين أما الخطأ في العربية لأن الاسم يعطف على الاسم المفصح به ولا يعطف على المكنى به إلا في اضطرار الشعر كقول القائل

( قد كنت من قبل تهجونا وتفضحنا فما لنا بك والأيام من عجب )

وأما في غير الشعر فلا يستعمل وأما الخطأ الذي في الدين لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال لا تحلفوا بآبائكم فمن حلف فليحلف باللّه أو ليذر فالسؤال بالأرحام أمر عظيم لأنه تحليف بها ولكن روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يقرأ أيضا بالخفض أيضا

ثم قال { إن اللّه كان عليكم رقيبا } يعني حفيظا لأعمالكم يسألكم عنها فيما أمركم به وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما من عمل حسنة أسرع ثوابا من صلة الرحم وما من عمل سيئة أسرع عقوبة من البغي واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن اللّه لما خلق الرحم قال له صل من وصلك واقطع من قطعك ويقال الرحم مشتق من الرحمة فمن قطعها فليس له من رحمة اللّه تعالى نصيب وقال صلّى اللّه عليه وسلّم الرحم معلق بالعرش فمن قطعها قطعني ومن وصلها وصلني

٢

قوله تعالى { وآتوا اليتامى أموالهم } يقول للأولياء أعطوا اليتامى أموالهم التي عندكم إذا بلغوا النكاح يعني الحلم { ولا تتبدلوا الخبيث } يعني الحرام { بالطيب } يعني بالحلال من أموالكم يقول لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى ويقال لا تخلطوا الخبيث بالطيب ويقال لا تخلطوا من مالكم الرديء وتأخذوا الجيد من مال اليتيم يعني أن يرسل شاة عجفاء في غنمه ويأخذ مكانها شاة سمينة وفي الحبوب كذلك ويقال لا تجعلوا أموالهم وقاية لأموالكم

ثم قال تعالى { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني مع أموالكم { إنه كان حوبا كبيرا } يعني إثما عظيما قرأ الحسن { حوبا } بنصب الحاء قال مقاتل هو بلغة الحبش

قال القتبي الحوب والحوب واحد وهو الإثم

وقال مقاتل نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخيه فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه العم فنزلت الآية فقرأها عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال الرجل أطعنا اللّه ورسوله ونعوذ باللّه من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لقد أصاب الأجر وبقي الوزر فقالوا كيف بقي الوزر وقد أنفقه في سبيل اللّه فقال أصاب الغلام الأجر وبقي الوزر على والده

٣

قوله تعالى { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } يعني ألا تعدلوا في أموال اليتامى يقال في اللغة أقسط الرجل إذا عدل وقسط إذا جار وقال صلّى اللّه عليه وسلّم المقسطون في الدنيا على منابر من نور يوم القيامة يعني العادلون قال اللّه تعالى { وأما القسطون فكانوا لجهنم حطبا } الجن ١٥ يعني الجائرون

ثم قال تعالى { فانكحوا ما طاب لكم } وذلك أنهم كانوا يسألون عن أمر اليتامى ويخافون إلا يعدلوا وكانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا فنزلت هذه الآية { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم } { من النساء مثنى ثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا } يعني فكما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم ألا تعدلوا بينهن وروى عروة عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت كان الناس يتزوجون اليتامى ولا يعدلون بينهن ولم يكن لهن أحد يخاصم عنهن فنهاهم اللّه عن ذلك فقال { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } الآية ويقال إنهم كانوا يتزوجون امرأة لها أولاد أيتام وكانوا لا يحسنون النظر إليهم فنزل { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم } يعني بغير ولد { مثنى وثلاث ورباع }

ثم قال تعالى { فإن خفتم ألا تعدلوا } في القسم بين النساء والنفقة { فواحدة } يقول تزوجوا امرأة واحدة وإن خفتم ألا تعدلوا في الواحدة { أو ما ملكت أيمانكم } يعني الإماء ويقال إن خفتم ألا تعدلوا في القسم بين النساء فواحدة أي واشتروا الإماء لأن الواحدة لا تحتاج إلى القسمة والإماء لا يحتاج فيهن إلى القسمة وقال بعض الروافض بظاهر هذا الآية

أنه يحوز نكاح تسع نسوة لأنه قال { مثنى وثلاث ورباع } فيكون ذلك تسعا ولكن أجمع المفسرون أن المراد به التفصيل لا الاجتماع لان الواو للبدل الجمع ومعناه مثنى أو ثلاث أو رباع وبذلك جاءت الآثار وهو حديث غيلان بن سلمة أنه اسلم ومعه عشر نسوة فخيره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فاختار أربعا وفارق البواقي وروي الكلبي ومقاتل أن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فلما نزلت هذه الآية أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا وروى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير أن في ذلك كان الحارث بن قيس الأسدي وهذا هو المعروف عند الفقهاء

ثم قال تعالى { ذلك أدنى ألا تعولوا } يعني واحدة أحرى ألا تميلوا ولا تجوروا ولا تظلموا

٤

قوله تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } يعني أعطوا النساء مهورهن فريضة ويقال ديانة كما يقال فلان ينتحل مذهب كذا أي يدين بكذا ويقال نحلة أي صدقة وهبة لأن المهر نحلة من اللّه تعالى للنساء حيث لم يوجب عليهن وأوجب لهن وقال في رواية الكلبي إن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وإن كانت غريبة حملوها على بعير إلى زوجها ولا يعطونها من مهرها غير ذلك البعير شيئا فنزل قوله تعالى { وآتوا النساء صدقاتهن } يعني به الأولياء يعني أعطوهن مهورهن نحلة يقول عطية لهن وقال في رواية مقاتل كان الرجل يتزوج بغير مهر ويقول أرثك وترثيني فنزلت الآية { وآتوا النساء } يعني الأزواج { صدقاتهن نحلة } يعني مهور النساء { نحلة } يعني فريضة { فإن طبن لكم } يا معشر الأزواج أي إن أحللن لكم ووهبن لكم وقال في رواية الكلبي يعني إذا وهبت المرأة المهر للولي فذلك قوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } أي طيبا لا إثم منه { مريئا } أي لا أذى فيه { مريئا } لا داء فيه ويقال { هنيئا مريئا } يعني حلالا طيبا وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال إذا كان أحدكم مريضا فليسأل من امرأته درهمين من مهرها حتى تهب له بطيبة نفسها

فيشتري بذلك عسلا فيشربه مع ماء المطر وقد اجتمع الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك يعني أن اللّه تعالى سمى المهر هنيئا مريئا إذا وهبت وسمى العسل شفاء وسمى ماء المطر مباركا فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء

٥

قوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يعني النساء والأولاد الصغار يعني لا يجعل الرجل ماله في يدي امرأته وأولاده ثم يدع نفسه محتاجا إليهم فلا يدفعون إليه عند حاجته ويقال لا تدفعوا أموالكم مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا فذلك قوله تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } يعني الجهال بالأحكام ويقال لا تدفعوا إلى الكفار ولهذا كره علماؤنا أن يوكل المسلم ذميا بالبيع والشراء أو يدفع إليه مضاربه

ثم قال تعالى { التي جعل اللّه لكم قياما } يعني الأموال التي جعل اللّه قواما لمعاشكم ثم قال { وارزقوهم فيها } يعني الأولاد الصغار أطعموهم { وأكسوهم } من أموالكم وكونوا أنتم القوام على أموالكم { وقولوا لهم قولا معروفا } يعني إذا طلبوا منكم النفقة ولم يكن عندكم في ذلك الوقت شيء فعدوا لهم عدة حسنة يقول سأفعل ذلك

سورة النساء الآية ٦

٦

ثم قال { وابتلوا اليتامى } يقول اختبروا اليتامى وجربوا عقولهم { حتى إذا بلغوا النكاح } يعني الحلم ويقال مبلغ الرجال { فإن آنستم منهم رشدا } يقول إذا رأيتم منهم رشدا وصلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم { فادفعوا إليهم أموالهم } التي معكم { ولا تأكلوها إسرافا } في غير حق { وبدارا } يعني مبادرة في آكلة { أن يكبروا } يعني مخافة أن يكبروا فيأخذوا أموالهم منكم

ثم قال { ومن كان غنيا فليستعفف } يعني ليحفظ نفسه عن مال اليتيم { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وقد اختلف الناس في تأويل هذه الآية وقالوا فيها ثلاثة أقوال قال بعضهم يجوز للمعسر أن يأكل على قدر قيامه عليه وقال بعضهم لا يجوز أن يأكل إلا على وجه القرض فيرد عليه إذا كبر وقال بعضهم لا يجوز في الأحوال كلها

فأما من قال إنه يجوز أكله على قدر قيامه عليه فإنه احتج بما روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال إني أنزلت مال اللّه مني بمنزلة مال اليتيم { فمن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أن رجلا سأله فقال يا ابن عباس إن عندي مواشي أيتام فهل علي جناح إن أصبت من رسل مواشيهم قال ابن

عباس إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حياضها ولا تفرط لها يوم وردها فلا جناح عليك إن أصبت من رسلها وقال مجاهد كانوا يقول من أدركت من أصحاب نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن للوصي أن يأكل بالمعروف مع اليتيم فإنه يحلب غنمه ويقوم على ماله ويحفظه

وأما من قال إنه يجوز أكله على وجه القرض احتج بما روي عن محمد بن سرين أنه قال سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } قال هو قرض ثم يرد عليه إذا كبر فقال ألا ترى أنه قال في سياق الآية { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } وقال أبو العالية ما أكل فهو دين عليه وقال الشعبي مثله

وأما من قال إنه لا يجوز أكله لأن اللّه تعالى قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } النساء ١٠ وتلك الآية محكمة وهذه من المتشابهة لأنه يحتمل التأويل أنهم يأكلون على وجه القرض أو على وجه الإباحة فيرد حكم المتشابه إلى المحكم وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بتلك الآية قال الفقيه رحمه اللّه إذا كان الوصي فقيرا فأكل من مال اليتيم مقدار قيامه عليه أرجو أن لا بأس به لأن كثيرا من العلماء أجازوا ذلك والاحتراز عنه أفضل

قرأ نافع وابن عامر { التي جعل اللّه لكم قيما } بكسر القاف ونصب الياء بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما قريب وقال أهل اللغة قياما وقواما وقيما بمعنى واحد

وقال تعالى { فإذا دفعتم إليهم أموالهم } يعني إذا أدرك اليتامى ودفعتم إليهم أموالهم { فأشهدوا عليهم } ذلك وإنما الإشهاد على معنى الاستحباب لنفي التهمة عن نفسه ولو لم يشهد على ذلك لجاز كقوله تعالى { واشهدوا إذا تبايعتم }

ثم قال { وكفى باللّه حسيبا } يعني شهيدا في أمر الآخرة وأما في أمر الدنيا فينبغي أن يشهد العدول على ذلك ليدفع القالة عن نفسه لأن اللّه تعالى لا يشهد له في الدنيا

٧

قوله تعالى { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال من كان يقاتل ويحوز الغنيمة حتى مات أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلاث بنات وترك امرأة يقال لها أم كجة فقام ابن عمه وأخذ ماله فجاءت المرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذكرت له القصة ويقال مات رفاعة وترك ابنة وابنته فأخذ الابن ميراثه

كله فجاءت المرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته بذلك فنزل قوله { للرجال نصيب } يقول حظ { مما ترك الوالدان والأقربون } { وللنساء نصيب } يعني حظ { مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه } يعني قل المال { أو كثر نصيبا مفروضا } يعني حظا معلوما لكل واحد منهم من الميراث فبين في هذه الآية أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكن لم يبين مقدار نصيب كل واحد منهم ثم بين في الآية التي بعدها

٨

فقال { وإذا حضر القسمة أولو القربى } قال مقاتل فيها تقديم وتأخير معناه إذا حضر أولو القربى قسمة الميراث { فارزقوهم منه } يعني أعطوهم من الميراث قال مقاتل وهذا كان قبل قسمة الميراث

وقال تعالى { وقولوا لهم قولا معروفا } يعني إذا كانت الورثة كبارا يعطون من الميراث لذوي القربى وإن كانت الورثة صغارا فقولوا لهم { قولا معروفا } يعني عدوا لهم عدة حسنة تقول لهم الأولياء إذا أدرك الصغار أمرناهم حتى يعطوكم شيئا ويعرفوا حقكم وقال القتبي { إذا حضر القسمة } فيه قولان أحدهما أن تكون قسمة الوصية إذا حضرها أقرباؤكم فاجعلوا لهم حظا من الثلث ووجه آخر أن تكون قسمة الميراث فارضخوا لهم منها

٩

قوله تعالى { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم } يقول وليخش على أولاد الميت الضياع كما أنكم لو تركتم أولادا { ذرية ضعافا خافوا عليهم } يقول عجزة صغارا يعني الذي يحضره الموت لا يقال له قدم لنفسك وأوص بكذا وكذا حتى يوصي بعامة ماله فليخش على ذرية الميت كما يخشى على ذرية نفسه

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول له أوص بمالك فإن اللّه تعالى رازق أولادك ولكن يقول له قدم لنفسك واترك لولدك فذلك قوله تعالى { فليتقوا اللّه وليقولوا قولا سديدا } يعني يقولوا للميت قولا عدلا ويقال وليقولوا قولا سديدا وهو أن يلقنه لا إله إلا اللّه ولا يأمره بذلك ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمعه منه ويتلقن وهكذا قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لقنوا موتاكم لا إله إلا اللّه ولم يقل مروهم بذلك لأنه لو أمر بذلك فلعله يغضب ويجحد

١٠

قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } يعني بغير حق { إنما يأكلون في بطونهم نارا } يعني حراما لأن الحرام يوجب النار فسماه اللّه باسمها ويقال إنه يلقم من النار إذا صار إلى جهنم فذلك قوله تعالى { إنما يأكلون في بطونهم نارا } وروي في الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في بعض قصة المعراج أنه قال رأيت أقواما بطونهم كالجبال فيها

الحيات والعقارب فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا { وسيصلون سعيرا } يعني سيدخلونها في الآخرة

قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وسيصلون بضم الياء على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب الياء وهذا كقوله { سيدخلون جهنم } وسيدخلون وقال القتبي في قوله { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم } معناه وليخش الذين يكفلون اليتامى وليفعل بهم ما يحب أن يفعله بولده من بعده

١١

قوله تعالى { يوصيكم اللّه في أولادكم } يعني يبين اللّه لكم ميراث أولادكم كما بين قسمة المواريث يعني إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولادا ذكورا وإناثا ف { للذكر مثل حظ الأنثيين } يعني لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال كان ابن عباس يقول كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ اللّه من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس وللمرأة الثمن أو الربع وللزوج النصف أو الربع

ثم قال تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين } يعني إذا ترك الميت بناتا ولم يترك أبناء فللبنات إن كن اثنتين فصاعدا { فلهن ثلثا ما ترك } من الميراث ولم يذكر في الآية حكم البنتين ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن عبد اللّه بن عباس أنه قال للاثنتين النصف كما كان يكون للإبنة الواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا إن للاثنتين الثلثين وبذلك جاء الأثر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم روى جابر بن عبد اللّه قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هاتان ابنتا سعد قد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا ولهما مال فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سيقضي اللّه في ذلك فأنزل اللّه آية الميراث فبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عمهما وقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن والباقي لك

ثم قال تعالى { وإن كانت واحدة فلها النصف } يعني إن ترك الميت بنتا واحدة فلها النصف من الميراث والباقي للعصبة بالخبر قرأ نافع { وإن كانت واحدة } بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر ويكون الاسم فيه مضمرا

ثم قال تعالى { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك } الميت من المال { إن كان له ولد } يعني إن كان له ولد ذكر أو أنثى أو ولد الابن { فإن لم يكن له } للميت { ولد } ولا ولد ابن { وورثه أبواه } يعني إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين { فلأمه الثلث } يعني للأم ثلث المال والباقي للأب قرأ حمزة والكسائي { فلإمه } بكسر الألف لكسر ما قبله وقرأ الباقون { فلأمه } بضم الألف

ثم قال تعالى { وإن كان له إخوة فلأمه السدس } يعني إذا كان للميت إخوة وقد اتفق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعدا إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعدا واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء فيكون للأم السدس والباقي للأب

ثم قال تعالى { من بعد وصية } يعني قسمة الميراث من بعد وصية { يوصي بها } الميت { أو دين } يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية وروى الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالدين قبل الوصية وأنتم تقرؤون { من بعد وصية يوصي بها أو دين } يعني في الآية تقديم وتأخير وروي عن ابن عباس هكذا قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم { يوصى بها } على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يوصي بها } يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين

ثم قال تعالى { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } يعني في الآخرة إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل اللّه تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } يعني أيهم أرفع درجة فيلحق به صاحبه ويقال معناه أن اللّه علمكم قسمة المواريث وأنكم لا تدرون { إيهم أقرب لكم نفعا } يعني حيا حتى تعطوه حصته ويقال { لا تدرون أيهم أقرب } موتا فيرث منه الآخر

ثم قال تعالى { فريضة من اللّه } يعني بيان قسمة المواريث من اللّه تعالى ويقال القسمة فريضة من اللّه تعالى لا يجوز تغييرها عما أمر اللّه بذلك

ثم قال تعالى { إن اللّه كان عليما } بقسمة المواريث { حكيما } حكم قسمتها وبينها لأهلها وقال الزجاج معناه كان اللّه { عليما } بالأشياء قبل خلقها { حكيما } فيما يقدر ويدبر منها وقال بعضهم لأن اللّه تعالى لم يزل ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر

بالاستقبال وقال سيبويه كأن القوم شاهدوا علما وحكما فقيل لهم إن اللّه تعالى كان كذلك أي لم يزل على ما شاهدتم

١٢

ثم قال تعالى { ولكن نصف ما ترك أزواجكم } يعني إذا ماتت المرأة وتركت زوجا فللزوج النصف { إن لم يكن لهن ولد } ذكر أو أنثى أو ولد ابن { فإن كان لهن ولد } أو ولد ابن { فلكم الربع } أي للزوج الربع { مما تركن } يعني مما تركت المرأة { من بعد وصية يوصين بها أو دين }

ثم قال تعالى { ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية يوصون بها أو دين } يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع { إن لم يكن لكم ولد } ولا ولد ابن { فإن كان لكم ولد } فإن كان للميت أي الزوج ولد أو ولد ابن { فلهن الثمن } سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير الولد والثمن مع الولد لأنه قال { ولهن الربع } فجعل حصتهن الربع أو الثمن ثم قال { من بعد وصية توصون بها أو دين }

ثم قال تعالى { وإن كان رجل يورث كلالة } والكلالة ما خلا الوالد والولد ويقال هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد قال أبو عبيدة هو مصدر من تكللّه النسب أي أحاط به والأب والابن طرفا الرجل فسمي لذهاب طرفيه كلالة وقرأ بعضهم { يورث } بكسر الراء قال أبو عبيدة من قرأ { يورث } بكسر الراء جعل الكلالة الورثة ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت

وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر أنهما قالا الكلالة من لا ولد ولا والد وروي عنهما

أيضا أنهما قالا الكلالة ما سوى الولد والوالد وقال { أو امرأة } يعني إن كانت الكلالة هي امرأة

ثم قال تعالى { وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } من الميراث { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } يعني الإخوة من الأم وقد أجمع المسلمون أن المراد هاهنا الإخوة من الأم لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلث ففهموا أن المراد ههنا الإخوة من الأم { من بعد وصية يوصي بها أو دين } قد ذكرناه

ثم قال تعالى { غير مضار وصية من اللّه } يعني غير مضار للورثة فيوصي بأكثر من الثلث { وصية من اللّه } يعني تلك القسمة فريضة من اللّه { واللّه عليم حليم } يعني { عليم } بأمر الميراث { حليم } على أهل الجهل منكم قال عليه صلّى اللّه عليه وسلّم من قطع ميراثا فرضه اللّه قطع اللّه ميراثه في الجنة وقرأ بعض المتقدمين { واللّه عليم حكيم } يعني حكم بقسمة الميراث والوصية وقضاء الدين

١٣

ثم قال تعالى { تلك حدود اللّه } يعني هذه فرائض اللّه فيما أمركم به من قسمة المواريث ويقال تلك أحكام اللّه ويقال { تلك } بمعنى هذه يعني هذه أحكام اللّه قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها

١٤

قوله { ومن يطع اللّه ورسوله } في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره اللّه { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } يعني ذلك الثواب هو النجاة الوافرة

قال تعالى { ومن يعص اللّه ورسوله } في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها كما أمر اللّه { ويتعد حدوده } يعني يخالف أمره { يدخله نارا خالدا فيها } لأنه إذا جحد صار كافرا { وله عذاب مهين } يهان فيه قرأ نافع وابن عامر { ندخله جنات } { ندخله نارا } كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم اللّه تعالى

١٥

قوله تعالى { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت { فاستشهدوا عليهن } يعني اطلبوا عليهن { أربعة } من الشهود { منكم } يعني من أحرار

المسلمين عدولا { فإن شهدوا } عليهن بالزنى { فأمسكوهن في البيوت } يعني احبسوهن في السجن { حتى يتوفاهن الموت } يعني يمتن في السجن { أو يجعل اللّه لهن سبيلا } يعني محيصا ومخرجا من الحبس ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال خذوا عني خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة

١٦

ثم ذكر في الآية حد البكرين فقال { واللذان } لم يحصنا { يأتيانها } الفاحشة { منكم } يعني الأحرار المسلمين { فآذوهما } باللسان يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا { فإن تابا } من بعد الزنى { وأصلحا } العمل { فأعرضوا عنهما } يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة { إن اللّه كان توابا } يعني متجاوزا { رحيما } بهما ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قال { واللاتي يأتين الفاحشة } { واللذان يأتيانها منكم } كان ذلك في أول الأمر ثم فنسختها الآية التي في سورة النور قرأ ابن كثير { واللذان } بتشديد النون لأن الأصل واللذيان فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه وقرأ الباقون بالتخفيف

١٧

قوله تعالى { إنما التوبة على اللّه } يعني قبول التوبة على اللّه ويقال توفيقه على اللّه ويقال إنما التجاوز من اللّه { للذين يعملون السوء بجهالة } قال ابن عباس كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله ويقال إنما الجهالة إنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا

ثم قال تعالى { ثم يتوبون من قريب } قال ابن عباس كل من تاب قبل موته فهو قريب { فأولئك يتوب اللّه عليهم } يعني يقبل توبتهم { وكان اللّه عليما حكيما } يعني { عليما } بأهل التوبة { حكيما } حكم بالتوبة وقال مقاتل نزلت الآية في رجل من قريش سكر وذكر فيه شعرا وذكر اللات والعزى وأنكر البعث فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك ثم استرجع فنزلت الآية { ثم يتوبون من قريب } يعني قبل الموت

قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو حفص عن صالح المري عن الحسن قال من عير أخاه بذنب قد تاب إلى اللّه فيه ابتلاه اللّه به وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر وقال الحسن إن إبليس لما أهبط من الجنة قال بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده قال اللّه تعالى فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه قال أبو العالية الرياحي نزلت أول الآية في المؤمنين والوسطى في المنافقين والأخرى في الكافرين فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى وأما ذكر توبة المنافقين

١٨

 فقوله تعالى { وليست التوبة للذين يعملون السيئات } الآية يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت { قال إني تبت الآن } فليس لهذا توبة ثم ذكر توبة الكفار فقال { ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } يعني وجيعا دائما

١٩

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قال ابن عباس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها أو وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها وورث نكاحها بالصداق الأول ويقول أنا ولي زوجك فورثتك فإن كانت جميلة أمسكها وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه فنزلت هذه الآية وقال في رواية الضحاك كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرها فذلك قوله تعالى { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع { كرها } بنصب الكاف وقرأ حمزة والكسائي { كرها } بالضم قال القتبي الكره بالنصب بمعنى الإكراه والكره المشقة ويقال ليفعل ذلك طوعا أو كرها يعني طائعا أو مكرها

ثم قال تعالى { ولا تعضلوهن } يعني لا تمنعوهن من الأزواج { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} من المهر { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي المعصية في النشوز على زوجها فيحل له ما أخذ منها ويقال إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منه يعني إذا كانت بطيبة نفسها قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر { بفاحشة مبينة } بنصب الياء وقرأ الباقون بكسر الياء فمن قرأ بالكسر يكون الفعل للفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول

قال مقاتل نزلت هذه الآية في محصن بن قيس وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة

وقال الكلبي نزلت في حصين بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن

ثم قال تعالى { وعاشروهن بالمعروف } يقول صاحبوهن بالجميل { فإن كرهتموهن } يعني كرهتم صحبتهن { فعسى } يقول فلعل { أن تكرهوا شيئا } من صحبتكم إياهن { ويجعل اللّه فيه خيرا كثيرا } يعني في صحبتهن يرزق لكم ولدا صالحا وهذا كقوله عز وجل { وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم } ويقال { ويجعل اللّه فيه خيرا كثيرا } يعني لعله إن أمسكها فيعطفه اللّه عليها من بعد ذلك وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها اللّه زوجا غيره فيرزقها اللّه منه الولد

٢٠

قوله تعالى { وإن أردتم استبدال زوج } يعني تغيير زوج { مكان زوج } يعني إذا أراد أن يطلق امرأته ولم يكن منها نشوز وأراد أن يتزوج غيرها { وآتيتم إحداهن قنطار } من المهر من ذهب قال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار وقال عطاء سبعة آلاف دينار وقال الحسن ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وقال قتادة يقال القنطار مائة رطل من ذهب أو ثمانون ألفا من ورق وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس قال القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة

ثم قال تعالى { فلا تأخذوا منه شيئا } يقول فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئا إذا لم يكن النشوز من قبلها ثم قال { أتأخذونه بهتانا } يقول أتستحلون أخذه ظلما { وإثما مبينا } يعني ذنبا ظاهرا

٢١

ثم قال تعالى { وكيف تأخذونه } يقول كيف تستحلون أخذه يعني أخذ مهورهن { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } يقول قد اجتمعا في لحاف واحد قال الفراء الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وجامعها أو لم يجامعها إذا كان معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها فقد وجب المهر وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر والعدة وقال مقاتل

الأفضاء الجماع وبهذا القول قال بعض الناس وأما علماؤنا رحمهم اللّه قالوا إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها

ثم قال { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } يقول أوجبن عليكم عهدا وثيقا بالنكاح وهو قوله { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن } البقرة ٢٢٩ فصار ذلك على الرجال ميثاقا غليظا من النساء ثم بين ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال

٢٢

فقال تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤهم من النساء } يعني لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء ويقال اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ثم قال { إلا ما قد سلف } يقول لا تفعلوا سوى قد فعلتم في الجاهلية وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } حتى نزلت الآية { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } الآية فصار حراما في الأحوال كلها ويقال { إلا ما قد سلف } يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا } النساء ٩٢ يعني ولا خطأ وقد قيل إن في الآية تقديما وتأخيرا ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء { إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } إلا ما قد سلف وقد قيل إن في الآية إضمارا يقول { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون { إلا ما قد سلف } ثم قال { إنه كان فاحشة } أي معصية { ومقتا } أي بعضا { وساء سبيلا } أي بئس المسلك

٢٣

ثم قال تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } يعني نكاح أمهاتكم فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات

ثم قال تعالى { وبناتكم } ذكر البنات والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد

ثم قال تعالى { وأخواتكم } يعني من النسب إلى قوله { وأخواتكم من الرضاعة } { وعماتكم } يعني أخوات أبيكم { وخالاتكم } يعني أخوات أمكم { وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة }

ثم قال تعالى { وأمهات نسائكم } يعني نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك

ثم قال { وربائبكم اللاتي في حجوركم } يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم { اللاتي في حجوركم } يعني التي يربيها في حجره إذا دخل بأمها { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } يعني إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط غير قول روي عن بعض المتقدمين وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم وتسميتهم بذلك الاسم

ثم قال تعالى { وحلائل أبنائكم } يعني حرام عليكم نساء أبنائكم { الذين من أصلابكم } يقال إنما اشترط كون الأبناء الأصلاب لزوال الاشتباه لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة وتبنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زيد بن حارثة فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها فتزوجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فعيره المشركون بذلك وقالوا تزوج امرأة ابنه فنزل قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } الأحزاب ٤٠ وذكر في هذه الآية فقال { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه

ثم قال تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } يعني حرام عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة ثم قال { إلا ما قد سلف } يقول إلا ما قد مضى في الجاهلية وروى هشام بن عبيد اللّه عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب والثانية الجمع بين الأختين ألا ترى أنه قال { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } ويقال { إلا ما قد سلف } يعني دع ما قد مضى { إن اللّه كان غفورا } لما كان في الجاهلية { رحيما } بما كان في الإسلام لمن تاب من ذلك

٢٤

ثم قال تعالى { والمحصنات من النساء } قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك يعني ذوات الأزواج حرام عليكم { إلا ما ملكت أيمانكم } من السبايا فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة فهي حلال له وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين فتأثم المسلمون منهن وقالوا لهن أزواج فأنزل اللّه تعالى { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم }

يقول ما أفاء اللّه عليكم من ذلك وإن كان لهن أزواج من المشركين فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها وقال في رواية مقاتل { والمحصنات من النساء } يعني كل امرأة ليست تحتكم فهي حرام عليكم ثم استثنى من المحصنات فقال { إلا ما ملكت أيمانكم } يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع

ثم قال تعالى { كتاب اللّه عليكم } يقول هذا ما حرم عليكم في الكتاب ويقال { كتاب اللّه عليكم } معناه هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب اللّه تعالى فاتبعوه ولا تخالفوه وقال الزجاج { كتاب اللّه عليكم } منصوب على التأكيد محمول على المعنى لأن معناه { حرمت عليكم أمهاتكم } كتب اللّه عليكم هذا كتابا ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر كأنه قال الزموا كتاب اللّه ويكون { عليكم } تفيسرا له

ثم قال تعالى { وأحل لكم ما رواء ذلكم } يقول رخص لكم ما سوى ذلكم فاللّه تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } أربع عشرة من المحرمات سبع بالنسب وسبع بالسبب ثم بين المحللات فقال { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية لكان يجوز ما سوى ذلك إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وقال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا تنكح الأمة على الحرة فوجب اتباعه لأن اللّه تعالى قال { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا } الحشر ٧ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وأحل لكم } بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله { حرمت عليكم } ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله { كتاب اللّه عليكم }

ثم قال تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } يعني أن تتزوجوا بأموالكم ويقال تشتروا بأموالكم الجواري ثم قال { محصنين غير مسافحين } يقول كونوا متعففين من الزنى غير زانين

ثم قال { فما استمتعتم به منهن } قال مقاتل يعني به المتعة أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى { فآتوهن أجورهن } يعني أعطوهن ما شرطتم لهن من المال وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي ثم نهي عن ذلك وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { فما استمتعتمبه منهن} إلى أجل مسمى

وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللّه بها هذه الأمة ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي

وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال إنما رخص في المتعة في بعض المغازي ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال { فما استمتعتم به منهن } قال النكاح يعني إن تمتعتم { فآتوهن أجورهن } يعني مهورهن وقال في رواية الكلبي { فما استمتعتم به منهن } بعد النكاح فآتوهن أجورهن يعني مهورهن { فريضة } لهن عليكم وقال الضحاك { فما استمتعتم به منهن } يعني فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن

ثم قال تعالى { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } قال بعضهم يعني المتعة قبل أن تنسخ أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال وقال بعضهم يعني المهر لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر { إن اللّه كان عليما } فيما رخص لكم من نكاح الأجانب { حكيما } فيما حرم عليكم من ذوات المحارم

٢٥

ثم قال تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا } أي غنى يقول من لم يجد منكم سعة في المال { إن ينكح المحصنات المؤمنات } يعني الحرائر فليتزوج { فمن ما ملكت أيمانكم } من الإماء ويقال { من لم يستطع منكم طولا } يعني من لم تكن له مقدرة على الحرة فليتزوج الأمة يعني إذا لم يكن له امرأة حرة وقد قال بعض الناس إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة وفي قول علمائنا يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل

ثم قال تعالى { من فتياتكم المؤمنات } يعني يتزوج الأمة المسلمة وقال بعض الناس لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية لأن اللّه تعالى قال { من فتياتكم المؤمنات } وفي

قول علمائنا يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها وهذا بمنزلة قوله { فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة } النساء ٣ فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز ولكن الأفضل أن لا يتزوج فكذلك هاهنا الأفضل أن لا يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز

ثم قال تعالى { واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض } في الحقيقة وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه فما ملكت أيمانكم { بعضكم من بعض } يعني يتزوج هذا وليدة هذا وهذا وليدة هذا ثم قال { واللّه أعلم بإيمانكم } يعني بعضكم من بعض في النسب يعني كلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم ويقال دينكم واحد يعني بعضكم على دين بعض

ثم قال تعالى { فانكحوهن بإذن أهلهن } يعني الولائد بإذن أربابهن { وآتوهن أجورهن بالمعروف } يقول أعطوهن مهورهن { بالمعروف } يقول مهرا غير مهر البغي بعدما أطلق ذلك

ثم قال { محصنات } يقول عفائف { غير مسافحات } يقول غير زواني ويقال غير معلنات بالزنى { ولا متخذات أخدان } يعني أخلاء في السر لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخذانا يعني أخلاء في السر ولا يفعلن بالعلانية فنهى اللّه عن نكاح الفريقين جميعا فقال تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر قرأ الكسائي { محصنات } بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله { والمحصنات من النساء } وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب

وقوله عز وجل { فإذا أحصن } يعني أسلمن ويقال إذا أعففن قرأ عاصم وحمزة والكسائي { فإذا أحصن } بالنصب وقرأ الباقون { فإذا أحصن } بضم الألف وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب ومعناه إذا أسلمن وقرأ ابن عباس بالضم يعني أحصن بالأزواج { فإن أتين بفاحشة } يعني الزنى { فعليهن } يعني وجب عليهن { نصف ما على المحصنات من العذاب } يعني إذا زنت الأمة فحدها نصف حد الحرة خمسون جلدة والفائدة في نقصان حدهن واللّه أعلم أنهن أضعف من الحرائر فجعل عقوبتهن أقل ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن ويقال لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ألا ترى أن اللّه تعالى قال لأزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين } سورة الأحزاب ٣٠ فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى وذكر في الآية حد الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد ولكن حد العبيد والإماء سواء خمسون جلدة في الزنى وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق

وذلك في العبد موجود

ألا ترى أنه روي وروي عن عمر بن الخطاب وعلي رضي اللّه عنهما أنهما قالا حد العبد نصف حد الحر

ثم قال تعالى { ذلك } أي هذا الذي ذكر في الآية وهو رخصة نكاح الأمة { لمن خشي العنت منكم } يعني الإثم في دينه ويقال الزنى والفجور قال القتبي أصله الضر والإفساد

ثم قال تعالى { وأن تصبروا } يعني عن نكاح الإماء { خير لكم} من تزوجهن لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبدا وروي عن عمر أنه قال أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه يعني يصير ولده رقيقا فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده

وقال مجاهد { وأن تصبروا } على نكاح الأمة { خير لكم } من أن تقعوا في الفجور { واللّه غفور } لما أصبتم منهن قبل تحليله { رحيم } حين رخص في نكاح الأمة ويقال { رحيم } إذا لم يعجل العقوبة

٢٦

قوله تعالى { يريد اللّه ليبين لكم } يعني بين لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء ويقال يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر ثم قال { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } يعني شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء وقد أحل لكم ذلك وقال مقاتل { يريد اللّه ليبين لكم } حلاله وحرامه من النساء { ويهديكم } أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم { ويتوب عليكم } يعني يتجاوز عنكم ما فعلتم قبل التحريم { واللّه عليم } بمن فعله منكم بعد التحريم { حكيم } فيما نهاكم عن نكاح الإماء يعني لمن لم يجد طولا والنهي نهي استحباب لا نهي الوجوب ويقال إن هذا ابتداء القصة { يريد اللّه أن يبين لكم } كيفية طاعته { ويهديكم } يعني يعرفكم { سنن الذين من قبلكم } أي أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم { واللّه عليم } بمن تاب { حكيم } حكم بقبول التوبة

٢٧

ثم قال تعالى { واللّه يريد أن يتوب عليكم } يعني يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم ويقال ويتجاوز عنكم الزلل والخطايا { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } يعني أن تخطئوا خطأ عظيما لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب ويقال اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا يعني أن اللّه قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزنا والخطايا

٢٨

ثم قال { يريد اللّه أن يخفف عنكم } يقول يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح

الأمة { وخلق الإنسان ضعيفا } يعني لا يصبر على النكاح وقال الضحاك { يريد اللّه ان يخفف عنكم } يريد أن يضع عنكم أوزاركم ويضع عنكم آثامكم

٢٩

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه في تجارته ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ويقال إلا ما كان بينهما تجارة وهو أن يكون مضاربا فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر ويقال إلا ما يأكل الرجل شيئا عند الشراء ليذوقه وقد قرأ حمزة والكسائي وعاصم { تجارة } بنصب الهاء على معنى خبر تكون وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم

ثم قال تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } يعني لا يقتل بعضكم بعضا فإنكم أهل دين واحد وقيل { ولا تقتلوا أنفسكم } يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه فإيجابه باطل وقال القتبي { ولا تأكلوا أموالكم } يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ولا يقتل بعضكم بعضا كقوله { ولا تلمزوا أنفسكم } ( سورة الحجرات ١١ ) أي لا تعيبوا إخوانكم ويقال { ولا تقتلوا أنفسكم } يعني لا تقتلوها بالكسل والبخل { إن اللّه كان بكم رحيما } إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال بالباطل

٣٠

قوله تعالى { ومن يفعل ذلك عدوانا } يعني اعتداء ويقال مستحلا { وظلما } وجورا { فسوف نصليه نارا } هذا وعيد لهم من اللّه تعالى يعني يدخله في الآخرة النار { وكان ذلك على اللّه يسيرا } يعني عذابه هين على اللّه

٣١

قول تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } قال مقاتل يعني ما نهي عنه أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنه { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الكبائر كل شيء سمى اللّه فيه النار لمن عمل بها أو شيء نزل فيه حد في الدنيا فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر اللّه عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء اللّه تعالى

قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحاك عن مسروق عن ابن مسعود

قال الكبائر من أول السورة إلى قوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وروي عن ابن مسعود أنه قال الكبائر أربعة الإياس من روح اللّه والقنوط من رحمة اللّه والأمن من مكر اللّه والشرك باللّه وروى عامر الشعبي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين واستحلاله حرمة بيت اللّه الحرام واليمين الغموس وقال ابن عمر الكبائر تسعة الشرك باللّه وقتل المؤمن متعمدا والفرار من الزحف وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربا والسحر وعقوق الوالدين واستحلال حرمة البيت الحرام ويقال الكبائر ما أصر عليها صاحبها ويقال لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار

ثم قال تعالى { نكفر عنكم سيئاتكم } يقول نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر { وندخلكم مدخلا كريما } في الآخرة وهي الجنة قرأ نافع { مدخلا } بنصب الميم والباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعا

٣٢

قوله تعالى { ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض } قال ابن عباس يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا دابته ولكن ليقل اللّهم ارزقني مثله وقال الكلبي مثله وفيها وجه آخر وهو أن الرجال قالوا إن اللّه فضلنا على النساء فلنا سهمان ولهن سهم ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال وقالت أم سلمة ليت الجهاد كتب على النساء فنزلت هذه الآية { ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض } { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } ويقال إن النساء قلن كما نقص سهمنا في الميراث كذلك ينقص من أوزارنا ويكون الإثم علينا أقل من الرجال فنزلت الآية { للرجال نصيب مما اكتسبوا } ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل { وللنساء نصيب مما اكتسبن } من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم

قوله تعالى { واسألوا اللّه } جميعا الرجال والنساء { من فضله } أي من رزقه { إن اللّه كان بكل شيء عليما } فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام وبمن يصلح للجهاد قرأ ابن كثير

والكسائي { وسلوا اللّه } بغير همز في جميع القرآن وقرأ الباقون { واسألوا اللّه } بالهمز وأصله الهمز إلا أنه حذف الهمز للتخفيف

٣٣

قوله تعالى { ولكل جعلنا موالي } يعني بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم ويقال الموالي العصبة العم وابن العم وذوو القربى كقوله { وإنى خفت المولى } سورة مريم ٥ معناه ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث { مما ترك } وهم { الوالدان والأقربون }

ثم قال { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } قال الكلبي ومقاتل كان الرجل يرغب في الرجل فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال { فآتوهم نصيبهم } يعني أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقول تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } سورة الأنفال ٧٥ ويقال إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث ويقال أراد به مولى الموالاة كانوا يورثون السدس

ثم قال تعالى { إن اللّه كان على كل شيء شهيدا } يعني شاهدا إن اعطيتم أو لم تعطوهم قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم { والذين عقدت أيمانكم } بغير ألف والباقون بالألف قال أبو عبيدة والاختيار { عاقدت } بالألف لأنه من معاقدة الحلف فلا يكون إلا بين اثنين ومن قرأ { عقدت } معناه بالألف لأنه من معاقدة الحلف فلا يكون إلا بين اثنين ومن قرأ { عقدت } معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم

٣٤

قوله تعالى { الرجال قوامون على النساء } نزل في سعد بن الربيع لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة فجاءت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالقصاص فنزل عليه جبريل عليه السلام من ساعته بهذه الآية { الرجال قوامون على النساء } يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهن { بما فضل اللّه بعضهم على بعض } وذلك ان الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها ودفع الحق إليها ويقال إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء ويقال للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة وطبع النساء غلبت عليهن الرطوبة والبرودة فيكون فيها معنى اللين والضعف فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك

ثم قال تعالى { وبما أنفقوا من أموالهم } يعني فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة ثم قال { فالصالحات قانتات } يعني المحصنات من النساء في الدين { قانتات } أي مطيعات للّه تعالى ولأزواجهن ويقال { الصالحات } يعني المحسنات إلى أزواجهن { قانتات } يعني مطيعات للّه عز وجل ولأزواجهن ويقال الصالحات يعني الموحدات { قانتات } يعني قائمات بأمور أزواجهن { حافظات للغيب } يعني لغيب أزواجهن في فروجهن وفي أموال الأزواج { بما حفظ اللّه } يقول يحفظ اللّه إياهن قال مقاتل وما صلة يعني يحفظ اللّه لهن

ثم قال عز وجل { واللاتي تخافون نشوزهن } يعني تعلمون عصيانهن { فعظوهن } باللّه يعني يقول لها اتقي اللّه فإن حق الزوج عليك واجب فإن لم تقبل ذلك فقوله تعالى { واهجروهن في المضاجع } قال الكلبي يعني يسبها وذلك هو الهجر ويقال لا يقرب فراشها لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيتبين أن النشوز من قبلها وقال الضحاك { واهجروهن في المضاجع } يعني يعرض عنها فإن ذلك يغيظها فإن لم ينفعها ذلك { واضربوهن } يعني ضربا غير مبرح { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } يقول لا تطلبوا عليهن عللا ولا تكلفوهن من الحب لكم فإن الحب أمر القلب وليس ذلك بيدها { إن اللّه كان عليا كبيرا } يعني رفيعا علا فوق كل كبير فلا يطلب من عباده الحب ولا يكلفهم ما لا يطيقون ويطلب منهم الطاعة فأنتم أيضا لا تكلفوهن ويقال إن اللّه مع علوه يتجاوز عن عبادة فأنتم أيضا تجاوزوا ولا تطلبوا العلل

٣٥

ثم قال تعالى للأولياء { وإن خفتم شقاق بينهما } يقول إن علمتم خلافا بين الزوجين ويقال إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من قبل أيهما يقع النشوز { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } يعني رجلا عدلا من أهل الزوج له عقل وتمييز يذهب إلى الرجل ويخلو به ويقول له أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم بمرادك فإن قال لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها فيعرف أن من قبله جاء النشوز وإن قال فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها فيعرف أنه ليس بناشز ويخلو ولي المرأة بها ويقول أتهوين زوجك أم لا فإن قالت فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد علم أن النشوز من قبلها وإن قالت لا تفرق بيننا ولكن حثه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي

علم أن النشوز ليس من قبلها فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالغلظة والزجر والنهي وذلك قوله تعالى { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } { إن يريدا إصلاحا } يعني عدلا فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة { يوفق اللّه بينهما } بالصلاح ويقال كل أثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة يقع الصلح بينهما لقوله تعالى { أن يريدا إصلاحا يوفق اللّه بينهما }

ثم قال { إن اللّه كان عليما خبيرا } يعني { عليما } بهما { خبيرا } بنصيحتهما وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى اللّه تعالى فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل

٣٦

قوله تعالى { واعبدوا اللّه } قال بعضهم هذا الخطاب للكفار { واعبدوا اللّه } يعني وحدوا اللّه { ولا تشركوا به شيئا } يعني لا تثبتوا على الشرك ويقال الخطاب للمؤمنين { اعبدوا اللّه } يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به ويقال { اعبدوا اللّه } يعني أطيعوا اللّه فيما أمركم به وأخلصوا له الأعمال { ولا تشركوا به شيئا } ويقال هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار فأمر المؤمنين بالطاعة والمنافقين بالإخلاص والكفار بالتوحيد وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد ويقال هذه الآيات محكمات في جميع الكتب وذكر فيها أحكاما كانت تعرف عن طريق العقل وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى { واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا } { وبالوالدين إحسانا } يعني احسنوا إلى الوالدين { وبذى القربى } يعني صلوا القرابات { واليتامى } يعني أحسنوا إلى اليتامى ويقال هذا للأوصياء بالقيام على أموالهم ثم قال { والمساكين } يعني عليكم بإطعام المساكين ثم قال { والجار ذي القربى } أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابه فله ثلاثة حقوق هكذا روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن قال الجيران ثلاثة جار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فلجار القريب المسلم فله حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان وهو الجار المسلم الأجنبي فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الجار الكافر له حق الجوار

ثم قال تعالى { والجار الجنب } يعني الجار الذي لا قرابة بينهما وهو من قوم آخري

{ والصاحب بالجنب } يعني الرفيق في السفر وروي عن معاذ بن جبل أنه قال الصاحب بالجنب يعني المرأة ثم قال { وابن السبيل } يعني الضيف ينزل عليكم فأحسنوا إليه وحقه ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهو صدقة ثم قال { وما ملكت أيمانكم } من الخدم أحسنوا إليهم وقد روي في الخبر أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإنهم لحم ودم وخلق أمثالكم رواه علي عن أبي طالب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال اللّه اللّه فيما ملكت أيمانكم وذكر الحديث

وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها أعتقوا وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يخفي فمي عن الأسنان وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا

ثم قال تعالى { إن اللّه لا يحب من كان مختالا فخورا } يعني من كان { مختالا } في مشيه { فخورا } على الناس وهذا قول الكلبي وقال القتبي المختال ذو الخيلاء والكبر وهذا قريب من الأول ويقال { فخورا } في نعم اللّه لا يشكره ويتكبر على الناس

٣٧

ثم قال تعالى { الذين يبخلون } وقال مجاهد ومقاتل نزلت في اليهود يبخلون بكتمان صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم في كتابهم { ويأمرون الناس بالبخل } يعني أمروا قومهم أن يكتموا صفته صلّى اللّه عليه وسلّم { ويكتمون ما آتاهم من فضله } في التوراة ويقال أبخل الناس الذي يبخل بعلمه ويقال { الذين يبخلون } يعني في المال لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحدا من أموالهم شيئا لأن عادتهم كان الأخذ والمنع وكانوا أيضا يأمرون بالبخل لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيرهبذلك لكي لا يظهر عيبه { ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله } يعني لا يشكرون على ما أعطاهم اللّه من نعمته ولا يخرجون الزكاة

ثم قال تعالى { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } يعني شديدا قرأ حمزة والكسائي { بالبخل } بنصب الباء والخاء وهي لغة الأنصار وقرأ الباقون { بالبخل } بضم الباء وجزم الخاء وقال بعض أهل اللغة هاهنا أربع لغات بخل وبخل وبخل وبخل إلا أنه قرئ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين

٣٨

قوله تعالى { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } قال مقاتل يعني اليهود وقال الضحاك يعني المنافقين ينفقون أموالهم مراءاة للناس { ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر } يعني ولا يصدقون في السر ويقال نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر

ثم قال { ومن يكن الشيطان له قرينا } ففي الآية مضمر فكأنه قال ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } يعني قرينهم الشيطان في الدنيا والشيطان يأمرهم بالبخل ويقال قرينه في النار في السلسلة

٣٩

ثم قال تعالى { وماذا عليهم } يعني وما كان عليهم { لو أمنوا باللّه } مكان الكفر { وأنفقوا مما رزقهم اللّه } مكان البخل في غير رياء ويقال { وماذا عليهم } يعني لم يكن عليهم شيء من العذاب { لو آمنوا باللّه واليوم الآخر } وأنفقوا مما رزقهم اللّه من الأموال وهي الصدقة { وكان اللّه بهم عليما } أنهم لم يؤمنوا ويقال إن اللّه عليم بثواب أعمالهم ولا يظلمهم شيئا من ثواب أعمالهم

٤٠

قوله تعالى { إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة } يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة قال الكلبي وهي النملة الحمراء الصغيرة ويقال هو الذي يظهر في شعاع الشمس ويقال { لا يظلم مثقال ذرة } أي لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة ولا ينقص من ثواب المؤمن مثقال ذرة

ثم قال تعالى { وإن تك حسنة يضاعفها } قرأ نافع وابن كثير { وإن تك حسنة } بضم الهاء لأنه اسم تك بمنزلة اسم كان قرأ الباقون { حسنة } بالنصب وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر ومعناه وإن يكن الفعل حسنة يضاعفها يعني إذا زاد على حسناته مثقال ذرة منحسنة يضاعفها اللّه تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة فذلك قوله تعالى { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } يعني الجنة وروى عبد اللّه بن مسعود أنه قال خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها قوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } سورة النساء ٣١ الآية وقوله { إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة } الآية وقوله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } سورة النساء ٤٨الآية وقوله { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } سورة النساء٦٤ الآية وقوله { ومن يعمل سوءا يجز به } سورة النساء ١٢٣ الآية

٤١

وقوله تعالى { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } يعني فكيف يصنعون وكيف يكون حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني بنبيها هو شهيدها شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم { وجئنا بك } يا محمد { على هؤلاء شهيدا } يعني على أمتك شهيدا بالتصديق لهم لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة وذلك أنه إذا كان يوم القيامة يقول اللّه تعالى للأمم الخالية هل بلغكم الرسل رسالاتي فيقولون لا فتقول الرسل قد بلغنا ولنا شهود فيقول عز وجل ومن شهودكم فيقولون أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون بتبليغ الرسالة بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية فتقول الأمم الخالية إن فيهم زواني وسراقا فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيقول المشركون { واللّه ربنا ما كنا مشركين } سورة الأنعام ٢٣ فيختم على أفواهم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون فذلك قوله تعالى { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } يعني تخسف بهم الأرض ويقال { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة ويشهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على أمته بتبليغ الرسالة لمن قبل ولمن لم يقبل

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو منيع قال حدثنا أبو كامل قال حدثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وأناس من الصحابة فأمر قارئا فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أخضلت وجنتاه فقال يا رب هذا علمي بمن أنا بين ظهرانيهم فكيف بمن لم أرهم

٤٢

ثم قال تعالى { يومئذ يود الذين كفروا } يعني الكفار { وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } يعني يكونون ترابا يمشي عليهم أهل الجمع { ولا يكتمون اللّه حديثا } وهو قولهم { واللّه ربنا ما كنا مشركين } قال الزجاج قال بعضهم { ولا يكتمون اللّه حديثا } مستأنف لأن ما عملوا ظاهر عند اللّه تعالى

لا يقدرون على كتمانه وقال بعضهم هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا اللّه حديثا لأنه أظهر كذبهم قرأ حمزة والكسائي { تسوى } بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني تخسف بهم الأرض وقرأعاصم وابن كثير وأبو عمرو { تسوى } بضم التاء على فعل سالم يسمى فاعله يعني فتسوى أي يصيرون ترابا فتسوى بهم الأرض وقرأ نافع وابن عامر { تسوى } بنصب التاء وتشديد السين والواو لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين

٤٣

قوله تعالى { يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } قال مقاتل وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما فدعا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسعدا رضي اللّه عنهم فأكلوا وسقاهم خمرا فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ { قل يأيها الكافرون } سورة الكافرون ١ على غير الوجه فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } يعني موضع الصلاة وهو المسجد { حتى تعلموا ما تقولون } ويقال حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون فحينئذ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة

ثم قال { ولا جنبا إلا عابري سبيل } يقول ولا تقربوا الصلاة جنبا { إلا عابري سبيل } يعني إلا أن يكون مسافرا فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي وإن كان جنبا وقال الزجاج وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنبا { حتى تغتسلوا } إلا أن لا تقدروا على الماء وقال القتبي { لا تقربوا الصلاة } يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنبا إلا مجتازين وقال بعضهم { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } من النوم وروى السدي عمن حدثه عن ابن عباس في قوله { ولا جنبا إلا عابري سبيل } قال في السفر يتيمم ويصلي ويقال إلا أن تكون في المسجد عين فيدخل ليغترف الماء

ثم قال تعالى { وإن كنتم مرضى } نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح فرخص له بأن يتيمم ثم صارت الآية في جميع الناس وروي عن عبد اللّه بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة أن رجلا كان به جدري على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك فأخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال قتلوه قتلهم اللّه فهلا يمموه وروي عن ابن عباس أنه قال { وإن كنتم مرضى } قال فإنما هو للمجذوم والمجدور والمقروح

ثم قال { أو على سفر } يعني إذا كنتم مسافرين { أو جاء أحد منكم من الغائط } والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة ثم قال { أو لامستم النساء } قرأ حمزة والكسائي { أو لمستم } وقرأ الباقون { لامستم } من الملامسة قال ابن عباس يعني الجماع وقال بعضهم هو المس باليد { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } يعني إذا أصابكم الحدث أو الجنابة ولم تجدوا ماء { فتيمموا صعيدا طيبا } يعني ترابا نظيفا ويقال الصعيد هو ما علا وجه الأرض { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } قال بعضهم الوجه والكفين وهو قول الأعمش والأوزاعي وقال بعضهم إلى المنكبين وهو قول الزهري وقال عامة أهل العلم الوجه واليدين إلى المرفقين وبذلك جاءت الآثار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعن عامة الصحابة رضوان اللّه عليهم اعتبارا بالوضوء

ثم قال تعالى { إن اللّه كان عفوا } يعني ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء { غفورا } لتقصيركم

٤٤

قوله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يعني أعطوا حظا من علم التوراة { يشترون الضلالة } يعني يختارون الكفر على الإسلام قال القتبي وهذا من الاختصار ومعناه { يشترون الضلالة } بالهدى يعني يستبدلون هذا بهذا كقوله { إن العهد كان مسئولا } سورة الإسراء ٣٤ مسؤولا عنه

ثم قال { ويريدون أن تضلوا السبيل } يعني تتركوا طريق الهدى وهو طريق الإسلام

٤٥

 { واللّه أعلم بأعدائكم } يعني يعلم بعداوتهم إياكم يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر ويقال هذا وعيد لهم فكأنه يقول هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى { واللّه أعلم بالظلمين } سورة الأنعام ٥٨ يعني بعقوبتهم ومجازاتهم

ثم قال { وكفى باللّه وليا } يعني ناصرا لكم ومعينا لكم { وكفى باللّه نصيرا } يعني مانعا لكم

٤٦

قوله تعالى { من الذين هادوا } يعني مالوا عن الهدى قال الزجاج { من الذين هادوا } فيه قولان فجائز أن يكون { من } صلة والمعنى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الذين هادوا ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم { يحرفون الكلم عن مواضعه } يعني

يحرفون نعته عن مواضعه وهو نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ويقولون سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { واسمع غير مسمع } يعني غير مسمع منك { وراعنا ليا بألسنتهم } يعني يلوون ألسنتهم بالسب { وطعنا في الدين } يعني في دين الإسلام وقال القتبي كانوا يقولون للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حدثهم وأمرهم يقولون سمعنا ويقولون في أنفسهم وعصينا أمرك وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا اسمع يا أبا القاسم ويقولون في أنفسهم لا سمعت ويقولون { راعنا } يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد ويريدون به السب بالرعونة { ليا بألسنتهم } أي قلبا للكلام بها { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا } مكان سمعنا وعصينا { واسمع } مكان اسمع لا سمعت { وانظرنا } مكان قولهم راعنا { لكان خيرا لهم وأقوم } يعني وأصوب من التحريف والطعن

ثم قال تعالى { ولكن لعنهم اللّه بكفرهم } يعني خذلهم اللّه وطردهم مجازاة لهم بكفرهم { فلا يؤمنون إلا قليلا } يعني لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يؤمنون بجميع ما عندهم ولا بسائر الكتب وإنما يصدقون ببعض ما عندهم ويقال لا يؤمنون إلا القليل منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب ويقال أنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول فلان قليل الخير يعني إنه لا خير فيه

٤٧

ثم خوفهم فقال { يا أيها الذين آتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا } يعني صدقوا بالقرآن { مصدقا لما معكم } يعني موافقا للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع { من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } وطمسها أن يردها على بصائر الهدى ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية ويقال يخسف الأنف والعين فيجعلها طمسا ويقال من قبل أن يسود الوجوه قال بعضهم يعني به في الآخرة ويقال هذا تهديد لهم في الدنيا وذكر أن عبد اللّه بن سلام قدم من الشام فلم يأت أهله حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ويقال { من قبل أن نطمس وجوها } يعني وجه القلب وهو كناية عن القسوة وقال مقاتل يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله { ولكل وجهة هو موليها } سورة البقرة ١٤٨ثم قال { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } يعني

نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة ثم قال { وكان أمر اللّه مفعولا } يعني كائنا وهذا وعيد من اللّه تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا

٤٨

قوله تعالى { إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك } يعني دون الشرك { لمن يشاء } يعني لمن مات موحدا نزلت الآية في شأن الوحشي قاتل حمزة وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل الوحشي حرا إن قتل حمزة فقتله لم يوف له فلما قدم مكة ندم على صنيعه الذي صنع هو وأصحابه معه فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتابا إنا قد ندمنا على صنيعنا وإنه ليس يمنعنا من الدخول في الإسلام معك إلا أنا سمعناك تقول إذ كنت عندنا بمكة { والذين لا يدعون مع اللّه إلها أخر } سورة الفرقان ٦٨ إلى قوله { يضعف له العذاب يوم القيامة } سورة الفرقان ٦٩ وقد دعونا مع اللّه إلها آخر وقتلنا النفس وزنينا فلولا هذه الآيات لاتبعناك فنزل { إلا من تاب وءامن وعمل صلحا } سورة مريم ٦٠ الآية فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآية الى الوحشي وأصحابه فلما قرؤوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد نخاف ألا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزل { إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فبعث إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه إن في هذه الآية شرطا أيضا نخاف ألا نكون من أهل مشيئته فنزل قوله { قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم } سورة الزمر ٥٣الآية فبعثها إليهم فلما قرؤوها وجدوها أوسع مما كان قبلها فدخل هو وأصحابه في الإسلام وروي عن ابن عمر أنه قال كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية { إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فأمسكنا عن الشهادة وهذه الآية رد على من يقول إن من مات على كبيرة يخلد في النار لأن اللّه تعالى قد ذكر في آية أخرى { إن الحسنات يذهبن السيئات } سورة هود ١١٤يعني ما دون الكبائر فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر ثم قال تعالى { ومن يشرك باللّه فقد افترى إثما عظيما } يعني اختلق على اللّه كذبا عظيما ويقال فقد أذنب ذنبا عظيما

٤٩

قوله تعالى { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } يقول يبرئون أنفسهم من الذنوب وذلك أن رؤساء اليهود كانوا يقولون هل على أولادنا من ذنب فما نحن إلا كهيئتهم فهذا الذي زكوا به أنفسهم قال اللّه تعالى { بل اللّه يزكي من يشاء } يعني يصلح ويبرئ من يشاء من الذنوب ويقال يكرم من يشاء بالإسلام { ولا يظلمون فتيلا } قال الكلبي ومقاتل الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض ويقال هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ إذا مسحت إحداهما بالأخرى يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك

المقدار

٥٠

ثم قال تعالى { انظر كيف يفترون على اللّه الكذب } يعني يختلفون على اللّه الكذب { وكفى به إثما مبينا } يعني ذنبا مبينا روى مقاتل عن الضحاك قال الفتيل والنقير والقطمير كلها في النواة

٥١

ثم قال تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } يعني أعطوا حظا من علم التوراة { يؤمنون بالجبت والطاغوت } الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وقال القتبي كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت ويقال الجبت السحر والسحرة والطاغوت الكهنة وقيل الجبت في هذه السورة رجلان من اليهود وإيمانهم بهما تصديقهم إياهما وطاعتهم إياهما

ثم قال تعالى { ويقولون للذين كفروا } يعني لمشركي مكة { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أحد ونقضوا العهد وبايعوا المشركين وقالوا أنتم أهدى سبيلا من المسلمين

حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة فأتيا قريشا فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن ديننا القديم ودين محمد الحديث ونحن نصل الرحم ونسقي الحجيج ونفك العاني ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار فنحن أهدى أم هو قالا بل أنتم أهدى سبيلا منهم فأنزل اللّه تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } إلى قوله { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } يعني أهدى دينا منهم أي من المهاجرين والأنصار

٥٢

قوله تعالى { أولئك الذين لعنهم اللّه } يعني خذلهم وطردهم اللّه من رحمته ويقال عذبهم بالجزية { ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيرا } يعني مانعا

٥٣

قوله تعالى { أم لهم نصيب من الملك } يقول لو كان لهم يعني لليهود حظ من الملك { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } يعني لا يعطون أحدا من بخلهم وحسدهم نقيرا والنقير النقطة

التي على ظهر النواة { أم يحسدون الناس } يعني أيحسدون الناس ويقال بل يحسدون الناس يعني به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { على ما آتاهم اللّه من فضله } من النبوة والرسالة وكثرة تزوجه النساء ويقولون لو كان نبيا لشغلته النبوة عن كثرة النساء فيحسدونه بذلك

٥٤

قال اللّه تعالى { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } يعني النبوة والعلم والفهم { وآتيناهم ملكا عظيما } فكان يوسف عليه السلام ملكا على مصر وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكا وكانت له ثلاثمائة امرأة حرة سوى السرية هكذا قال مقاتل وقال الكلبي كانت له سبعمائة امرأة سوى ثلاثمائة سرية وكان لداود عليه السلام مائة امرأة فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك ويقال الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبيا وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا ويقال إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من قبل الأب وقبيلة من قبل الأم فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فيكونون عونا له على أعدائه ويقال إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشهد لأن الذي لا يكون تقيا إنما يتفرج بالنظر والمس ألا ترى إلى ما روي في الخبر العينان تزنيان واليدان تزنيان فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة فلا ينظر التقي ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا وقال أبو بكر الوراق كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك

٥٥

قوله تعالى { فمنهم من آمن به } يعني من اليهود من آمن بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ومنهم من صد عنه } يعني أعرض عنه مكذبا وهذا قول الكلبي وقال مقاتل { فمنهم من آمن به } يعني من آل إبراهيم { من آمن به } يعني بالكتاب الذي جاء به { ومنهم من صد عنه } يعني لم يؤمن به وقال الضحاك { أم يحسدون الناس } يعني اليهود يحسدون قريشا لأن النبوة كانت فيهم { فقد آتينا إبراهيم الكتاب } يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط { الكتاب } يعني التنزيل { والحكمة } يعني السنة { وآتيناهم ملكا عظيما } يعني قريشا وبني هاشم { ملكا عظيما } يعني الخلافة لا تصلح إلا بقريش { فمنهم من آمن به } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { ومنهم من صد عنه } أي كفر به ثم قال تعالى { وكفى بجهنم سعيرا } يعني وقودا لمن كفر به

٥٦

ثم بين مصير من كذب به وموضع من آمن به فقال عز وجل { إن الذين كفروا بآياتنا } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن { سوف نصليهم نارا } يعني ندخلهم نارا في الآخرة ويقال

صلي إذا دخل النار لأجل شيء وأصلاه إذا أدخله للاحتراق والاصطلاء بالنار الاستدفاء ثم قال { كلما نضجت جلودهم } يقول كلما احترقت جلودهم { بدلناهم } يعني جددنا لهم { جلودا غيرها } لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقا جديدا ثم عادت تحرقهم فهذا دأبهم فيها وقال مقاتل تجدد في كل يوم سبع مرات وقال الحسن بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة وقال الضحاك سبعين جلدا في كل يوم وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا إن الذي يبدل الجلد لم يذنب فكيف يستحق العقوبة والعذاب قيل لهم إن ذلك الجلد هو الجلد الأول ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها اللّه تعالى فكذلك هاهنا وقوله تعالى { جلودا غيرها } على وجه المجاز كما قال في آية أخرى { يوم تبدل الأرض غير الأرض } سورة إبراهيم ٤٨ قال ابن عباس يعني يزاد في سعتها وتسوى جبالها وأوديتها

وقوله تعالى { ليذوقوا العذاب } يعني لكي يجدوا مس العذاب { إن اللّه كان عزيزا } في نقمته { حكيما } في أمره حكم عليهم بالنار ثم بين مصير الذين

٥٧

 فقال عز وجل { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن { وعملوا الصالحات } يعني الطاعات التي أمرهم اللّه تعالى { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } يعني مقيمين فيها { أبدا لهم فيها أزواج مطهرة } في الخلق والخلق { وندخلهم ظلا ظليلا } قال الضحاك يعني ظلال أشجار الجنة وظلال قصورها وقال الكلبي { ظلا ظليلا } يعني دائما وقال مقاتل { ظلا } يعني أكناف القصور { ظليلا } يعني لا خلل فيها

٥٨

قوله تعالى { إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة وكانت السقاية في يد بني هاشم فلما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له هات المفتاح فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس فجاء بالمفتاح وقال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خذه بأمانة اللّه فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم البيت فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه السلام مصور على الحائط وفي يده قداح وعنده إسماعيل عليه السلام والكبش مصوران فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قاتل اللّه الكفار ما لإبراهيم والقداح فأمر بالصور فمحيت فقضى حاجته من البيت ثم خرج فطلب منه عمه العباس بأن يدفع إليه المفتاح فنزلت هذه الآية { أن اللّه يأمركم إن تؤدوا الإمانات إلى أهلها } ودفع المفتاح إلى عثمان بن طلحة ثم صارت الآية عامة

لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها ويقال نزلت في شأن اليهود حيث كتموا نعت محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكانت أمانة عندهم فمنعوها ويقال هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى { إنا عرضنا الأمانة على السموات } إلى قوله { وحملها الإنسان }

ثم قال تعالى { وإذا حكمتم بين الناس } يعني بين القوم { أن تحكموا بالعدل } يقول بالحق وقال الضحاك { بين الناس } يعني بين الخصوم { أن تحكموا بالعدل } يعني على بالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه { إن اللّه نعما يعظكم به } يعني يأمركم بالعدل والنصيحة والاستقامة وأداء الأمانة { إن اللّه كان سميعا } بمقالة العباس { بصيرا } برد المفتاح إلى أهله قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة { نعما } بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة وذلك قوله { إن تبدوا الصدقات فنعما هي }

٥٩

وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه } يعني في الفرائض { وأطيعوا الرسول } يعني في السنن ويقال { وأطيعوا اللّه } فيما فرض { وأطيعوا الرسول } فيما بين ويقال { أطيعوا اللّه } بقول لا إله إلا اللّه { وأطيعوا الرسول } بقول محمد رسول اللّه { وأولي الأمر منكم } قال الكلبي ومقاتل يعني أمراء السرايا وقال الضحاك يعني الفقهاء والعلماء في الدين ويقال الخلفاء والأمراء يجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية

ثم قال { فإن تنازعتم في شيء } من الحلال والحرام والشرائع { فردوه إلى اللّه والرسول } يعني إلى أمر اللّه فيما يأمر بالوحي وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي ثم بعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب اللّه تعالى وإلى سنة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ويقال معناه إذا أشكل عليكم شيء فقول اللّه ورسوله أعلم وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقال الخليل بن أحمد البصري الناس أربعة رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فهذا أحمق فاجتنبوه ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهذا جاهل فعلموه ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهذا نائم فأيقظوه ورجل يدري ويدري أنه يدري فهذا عالم فاتبعوه

ثم قال تعالى { إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر } يعني إن كنتم تصدقون باللّه وبالبعث بعد الموت { ذلك خير } يعني الرد إلى كتاب اللّه تعالى وإلى سنة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم خير من الاختلاف { وأحسن تأويلا } يعني وأحسن عاقبه وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك وجب على

المسلمين أن يطيعوه فإن اللّه تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ثم أمرنا بطاعتهم وقال مجاهد { وأولي الأمر منكم } العلماء والفقهاء وهكذا روي عن جابر

٦٠

قوله تعالى { إلم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } وذلك أن منافقا يقال له بشر كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي انطلق بنا إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافقين وفي حكم اليهود على اليهود فقال اليهودي نأتي محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يحكم بيننا وقال المنافق بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قولهما فقال ما شأنكما فأخبراه بالقصة فقال عمر أنا أحكم بينكما فأجلسهما ثم دخل البيت وخرج بالسيف وقتل المنافق فنزلت الآية { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } يعني القرآن { وما أنزل من قبلك } يعني سائر الكتب المنزلة { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } وهو كعب بن الأشرف { وقد أمروا أن يكفروا به } يعني أمروا بتكذيبه وقال الضحاك نزلت الآية في شأن المنافقين لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فذلك قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } يعني إلى كهنة اليهود وسحرتهم

ثم قال { ويريد الشيطان أن يضلهم } عن الهدى وعن الحق { ضلالا بعيدا } عن الحق

٦١

 ثم قال { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول } يعني إلى ما أمر اللّه في كتابه وإلى ما أمر الرسول { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } يعني يعرضون عنك إعراضا ويقال صد يصد يكون لازما ويكون متعديا وإنما يتبين ذلك بالمصدر ويقال صد يصد صدا إذا صرف غيره كقوله تعالى { فصدهم عن السبيل } سورة النمل ٢٤ وصد يصد صدودا إذا أعرض بنفسه كقوله تعالى { فمنهم من ءامن به ومنهم من صد عنه } سورة النساء ٥٥ وكقوله { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } النساء ٦١

٦٢

قوله تعالى { فكيف إذا أصابتهم مصيبة } يقول فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة ( بما قدمت أيديهم ) يعني بما عملت أيديهم { ثم جاؤوك يحلفون باللّه } قال في رواية الكلبي

نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير فخرجا من عنده فمرا على المقداد بن الأسود فقال المقداد لمن كان القضاء يا ثعلبة فقال ثعلبة قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء فنزلت هذه الآية { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } أي يليه شدقه فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعتذر إليه ويحلف وهو قوله { ثم جاؤوك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحسانا } يعني ما أردنا إلا الإحسان في المقالة { وتوفيقا } يقول صوابا وقال الضحاك ومقاتل نزلت في شأن الذين بنوا مسجد الضرار فلما أظهر اللّه تعالى نفاقهم وأمر بهدم المسجد حلفوا للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم دفعا عن أنفسهم ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة اللّه تعالى وموافقة الكتاب

٦٣

قوله تعالى { أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم } من الضمير وقال الزجاج معناه قد علم اللّه أنهم منافقون والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون قال ومعنى قوله { وتوفيقا } أي طلبا لما وافق الحق

ثم قال تعالى { فأعرض عنهم } ولا تعاقبهم { وعظهم } بلسانك { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } يعني خوفهم وهددهم إن فعلتم الثانية عاقبتكم وقال مقاتل تقدم إليهم تقديما وثيقا ثم نسخ بقوله { يأيها النبي جهد الكفار والمنفقين واغلظ عليهم } سورة التوبة ٧٣

٦٤

قوله تعالى { وما أرسلنا من رسول } و { من } صلة فكأنه قال وما أرسلنا رسولا { إلا ليطاع بإذن اللّه } لكي يطاع بأمر اللّه ثم قال { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بصنيعهم { جاؤوك } بالتوبة { فاستغفروا اللّه } لذنوبهم { واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توابا رحيما } متجاوزا

٦٥

قوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون } كقول القائل لا واللّه لا يؤمنون { حتى يحكموك } يعني حتى يقروا ويرضوا بحكمك يا محمد { فيما شجر بينهم } يعني فيما اختلفوا فيه ويقال تشاجرا أي اختلفا ويقال فيما التبس عليهم

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه عن سفيان عن عمرو عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة أنها قالت كان بين الزبير بن العوام وبين رجل خصومه فقضى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للزبير فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته

فأنزل اللّه تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } { ثم لا يجدوا في أنفسهم } يعني في قلوبهم { حرجا } أي شكا { مما قضيت } أنه الحق { ويسلموا تسليما } يعني ويخضعوا لأمرك في القضاء خضوعا قال الزجاج { تسليما } مصدر مؤكد فإذا قلت ضربة ضربا فكأنك قلت لا شك فيه كذلك { ويسلموا تسليما } أي ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا

٦٦

قوله تعالى { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } يعني لو فرضنا عليهم القتل { أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم } والقليل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس قالوا لو أن اللّه تعالى أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي قرأ ابن عامر { إلا قليلا منهم } بالألف وهكذا في مصاحف أهل الشام وقرأ الباقون { إلا قليل منهم } بالضم قرأ بالضم فمن فمعناه ما فعلوه ويفعله قليل منهم على معنى الأستئناف ومن قرأ بالنصب على معنى أنه خلاف الأول للاستثناء كقوله تعالى { إلا المستضعفين } النساء ٩٨

ثم قال تعالى { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } يعني ما يؤمرون به { لكان خيرا لهم } في الآخرة في الثواب { وأشد تثبيتا } يعني تحقيقا في الدنيا

٦٧

قوله تعالى { وإذا لآتيناهم } يقول حينئذ لأعطيناهم { من لدنا } يعني من عندنا { أجرا عظيما } في الآخرة يعني الجنة

٦٨

{ ولهديناهم صراطا مستقيما } يعني دينا قيما يرضاه لهم

٦٩

قوله تعالى { ومن يطع اللّه والرسول } قال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان شديد الحب له وكان قليل الصبر عنه حتى تغير لونه ونحل جسمه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما غير لونك فقال ما بي من مرض ولكني إذا لم أرك استوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك وأذكر الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك فنزل { ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم } في الجنة وقال في رواية الضحاك وذلك ان نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا يا نبي اللّه وإن صرنا إلى الجنة فإنك تفضلنا بدرجات النبوة فلا نراك فنزل { فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم } الآية

قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس قال حدثنا قتيبة قال حدثنا جهضم عن عطاء بن السائب عن الشعبي أن رجلا من الأنصار أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي فلولا أني آتيك فأراك لا ريب أني سوف أموت قال وبكى الأنصاري فقال ما أبكاك قال ذكرت أنك تموت ونموت وترفع مع النبيين ونكون نحن وإن دخلنا دونك فلم يجبه بشيء فأنزل اللّه تعالى { ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم } { من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } يعني من المسلمين

ثم قال { وحسن أولئك رفيقا } في الجنة يعني رفقاء كقوله تعالى { ثم نخرجكم طفلا } الحج ٥ أي أطفالا وكقوله { كل صيحة عليهم هم العدو } المنافقون ٤ يعني الأعداء

٧٠

 { ذلك الفضل من اللّه } يعني المن والعطية من اللّه { وكفى باللّه عليما } بالثواب في الآخرة

٧١

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } يعني عدتكم من السلاح { فانفروا ثبات } يعني عصبا سرايا { أو انفروا جميعا } مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأجمعكم قال الزجاج الثبات الجماعة المتفرقة فتأويله انفروا جماعات متفرقة أو انفروا مجتمعا بعضكم إلى بعض

٧٢

قوله تعالى { وإن منكم لمن ليبطئن } فاللام الأولى زيادة للتأكيد واللام الثانية للقسم يعني وإن منكم من يتثاقل ويتخلف عن الجهاد يعني المنافقين فهذا الخطاب للمؤمنين فكأنه يقول إن فيكم منافقين يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد { فإن أصابتكم } يا معشر المسلمين { مصيبة } يعني نكبة وشدة وهزيمة من العدو { قال } ذلك المنافق الذي فيكم وتخلف عن الجهاد { قد أنعم اللّه علي } بالجلوس { إذا لم أكن معهم شهيدا } يعني حاضرا في تلك الغزوة

٧٣

قوله تعالى { ولئن أصابكم فضل من اللّه } يعني الفتح والغنيمة { ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } يعني معرفة وودا في الدين { يا ليتني كنت معهم } في تلك الغزوة { فأفوز فوزا عظيما } فأصيب غنائم كثيرة وقال مقاتل في الآية تقديم وتأخير ومعناه فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم اللّه علي إذ لم أكن معهم شهيدا كأن لم يكن بينكم وبينه مودة في الدين

ولا ولاية قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { كأن لم تكن } بالتاء لأن المودة مؤنثه وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي

٧٤

ثم أمر المنافقين بأن يقاتلوا لوجه اللّه تعالى فقال عز وجل { فليقاتل في سبيل اللّه } يعني فليقاتل الذين معكم في طاعة اللّه { الذين يشرون الحياة الدنيا } يعني يختارون الدنيا على الآخرة ويقال هذا الخطاب للمؤمنين فكأنه يقول فليقاتل في سبيل اللّه الكفار الذين يشرون الحياة الدنيا { بالآخرة }

ثم قال { ومن يقاتل في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه { فيقتل } يقول فيستشهد { أو يغلب } يعني يقتل العدو ويهزمهم { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } يعني ثوابا عظيما في الجنة فجعل ثوابهما واحدا يعني إذا غلب أو غلب يستوجب الثواب في الوجهين جميعا وقال الضحاك في قوله تعالى { ومن يقاتل في سبيل اللّه } قال ومن قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة غفرت له ذنوبه ووجبت له الجنة فذلك قوله تعالى { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } أي ثوابا عظيما في الجنة

ثم حث المؤمنين على القتال

٧٥

 فقال تعالى { وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين } يعني وعن المستضعفين { من الرجال والنساء والولدان } ويقال وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وسبيل المستضعفين ويقال { وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه } وفي خلاص المستضعفين وقال الضحاك وذلك أن كفار قريش أسروا سبعة نفر من المسلمين وكانوا يعذبونهم فأمر اللّه بقتال الكفار ليستنقذوا الأسرى من أيديهم { الذين يقولون } يعني المستضعفين الذين بمكة يدعون اللّه تعالى ويقولون { ربنا أخرجنا من هذه القرية } يعني مكة { الظالم أهلها } بالشرك { واجعل لنا من لدنك وليا } يعني من عندك وليا حافظا يحفظنا { واجعل لنا من لدنك نصيرا } يعني مانعا يمنعنا منهم قال الكلبي لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة جعل اللّه لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وليا وهو عتاب بن أسيد نصيرا وكان عتاب بن أسيد ينصف الضعيف من الشديد فنصرهم اللّه به وأعانهم وكانوا أعز من بمكة من الظلمة قبل ذلك أي صار المسلمون الضعفاء أعزاء كما كان الكفار قبل ذلك

ثم مدح اللّه المؤمنين بقتالهم لوجه اللّه تعالى

٧٦

 فقال { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل اللّه } أي في طاعة اللّه تعالى وإعزاز الدين وذم المشركين المنافقين وبين أن قتالهم للشيطان فقال { والذين كفروا يقاتلون في سبيل اللّه الطاغوت } يعني في طاعة الشيطان

ثم حرض المؤمنين على القتال فقال { فقاتلوا أولياء الشيطان } يعني جند الشيطان وهم المشركون { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } يعني مكر الشيطان كان واهيا ويقال أراد به يوم بدر حيث قال لهم الشيطان يعني للكفار لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه ويقال { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } يعني مكروها ضعيفا لا يدوم وهذا كما يقال للحق وللباطل جولة

٧٧

ثم قال تعالى { ألم تر إلى الذين قيل لهم } يعني ألم تخبر عنهم ويقال معناه ألا ترى إلى هؤلاء وذلك أن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين كانوا بمكة استأذنوا في قتل كفار مكة سرا لما كانوا يلقون منهم من الأذى فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مهلا { كفوا أيديكم } عن قتالهم { وأقيموا الصلاة } فإني لم أؤمر بقتالهم فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة أمره اللّه تعالى بالقتال فكره بعضهم فنزلت هذه الآية { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } عن القتل { وأقيموا الصلاة } أي أتموها { وآتوا الزكاة } يعني أقروا بها وأعطوها إذا وجبت عليكم { فلما كتب عليهم القتال } يعني فرض عليهم القتال بالمدينة { إذا فريق منهم يخشون الناس } يعني يخشون عذاب الكفار { كخشية اللّه } يقول كخشيتهم من عذاب اللّه { أو أشد خشية } يعني بل أشد خشية ويقال معناه وأشد خشية يعني أكثر خوفا { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } يقول لم فرضت علينا القتال { لولا أخرتنا } أي يقولون هلا أجلتنا { إلى أجل قريب } وهو الموت فبين اللّه تعالى لهم أن الدنيا فانية فقال { قل متاع الدنيا قليل } يقول منفعة الدنيا قليلة لأنها لا تدوم وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها

ثم قال تعالى { والآخرة خير لمن اتقى } ثواب الآخرة أفضل لمن اتقى الشرك والمعاصي { ولا تظلمون فتيلا } وقد ذكرناه قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير { ولا تظلمون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر يعني المتقين

٧٨

قوله تعالى { أينما تكونوا يدرككم الموت } يعني في أي موضع يأتيكم الموت { ولو كنتم في بروج مشيدة } يعني في القصور الطوال المشيدة المبنية إلى السماء حتى لا يخلص إليه أحد من بني آدم وقال القتبي البروج الحصون والمشيدة المطولة وذلك أنهم لما تثاقلوا عن الخروج إلى الجهاد مخافة الموت فأخبرهم اللّه تعالى لا يموتون قبل الأجل إذا جاء أجلهم لا ينجون من الموت وإن كانوا في موضع حصين وهذا قوله تعالى { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صدقين } آل عمران ١٦٨

ثم أخبر عن المنافقين فقال { وإن تصبهم حسنة } يعني الفتح والغنيمة والخصب { يقولوا هذه من عند اللّه وإن تصبهم سيئة } يعني نكبة وهزيمة { يقولوا هذه من عندك } يعني من شؤمك يعني أصابتنا بسببك أنت الذي حملتنا على هذا { قل كل من عند اللّه } يقول الرخاء والشدة من اللّه ويقال القدر خيره وشره من اللّه تعالى

ثم قال تعالى { فما لهؤلاء القوم } يعني ما للمنافقين { لا يكادون يفقهون حديثا } يعني لا يفهمون قولا إن الشدة والرخاء من اللّه تعالى لا يسمعون ولا يفقهون ما أتاهم ربهم في القرآن

٧٩

قوله تعالى { ما أصابك من حسنة } يعني النعمة وهو الفتح والغنيمة { فمن اللّه } أي بفضله { وما أصابك من سيئة } يعني البلاء والشدة من العدو أو الشدة في العيش { فمن نفسك } يعني فبذنبك وأنا قضيته عليك ويقال { ما أصابك من حسنة } يوم بدر فمن اللّه { وأصابك من سيئة } يوم أحد فمن نفسك يعني بذنب أصحابك يعني بتركهم المركز ويقال { ما أصابك من حسنة } يعني الدلائل والعلامات لنبوتك فمن اللّه { وما أصابك من سيئة } يعني انقطاع الوحي فمن نفسك يعني بترك الاستثناء حيث انقطع عنك جبريل عليه السلام أياما بترك استثنائك به ويقال { ما أصابك من حسنة } يعني تكثير الأمة فمن اللّه { وما أصابك من سيئة } يعني من أذى الكفار فبتعجيلك كقوله تعالى { لعلك بخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} الشعراء ٣ ويقال فيه تقديم وتأخير ومعناه { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } النساء ٧٨ ويقولون { ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيئة فمن نفسك } { قل كل من عند اللّه } النساء ٧٨

ثم قال تعالى { وأرسلناك للناس رسولا } يعني ليس عليك سوى تبليغ الرسالة { وكفى باللّه شهيدا } على مقالتهم وفعلهم

٨٠

ثم قال تعالى { ومن يطع الرسول فقد أطاع اللّه } يعني من يطع الرسول فيما أمره فقد أطاع اللّه لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يدعوهم بأمر اللّه تعالى وفي طاعته طاعة اللّه تعالى ويقال أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال من أحبني فقد أحب اللّه ومن أطاعني فقد أطاع اللّه فقال المنافقون إن هذا الرجل يريد أن نتخذه حنانا فأنزل اللّه تعالى تصديقا لقوله { قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعونى يحببكم اللّه } آل عمران ٣١ وقال { من يطع الرسول فقد أطاع اللّه }

ثم قال تعالى { ومن تولى } يعني أعرض عن طاعة اللّه وطاعة رسوله { فما أرسلناك عليهم حفيظا } أي رقيبا وكان ذلك قبل الأمر بالقتال

ثم أخبر عن أمر المنافقين

٨١

 فقال { ويقولون طاعة } يعني يقولون بحضرتك قولك طاعة وأمرك معروف فمرنا بما شئت فنحن لأمرك نتبع ( فإذا برزوا ) يقول خرجوا { من عندك بيت } يقول ألغت ويقال غيرت { طائفة منهم غير الذي تقول } وقال الزجاج يقال لكل أمر قضي بليل قد بيت قرأ أبو عمرو وحمزة { بيت طائفة } بالإدغام لقرب مخرج التاء من الطاء وقرأ الباقون بالإظهار لأنهما كلمتان

ثم قال تعالى { واللّه يكتب ما يبيتون } يعني يحفظ عليهم ما يغيرون وقال الزجاج { واللّه يكتب } له وجهان يجوز أن يكون ينزله إليك في كتابه وجائز أن يكون يحفظ ما جاؤوا به

ثم قال تعالى { فأعرض عنهم } يعني اتركهم { وتوكل على اللّه وكفى باللّه وكيلا } يعني شهيدا ويقال { وتوكل على اللّه } يعني ثق باللّه { وكفى باللّه وكيلا } يعني ثقة لك ثم نسخ بقوله تعالى { يأيها النبي جهد الكفار والمنافقين } التوبة ٧٣ والتحريم ٩

٨٢

قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } يعني أفلا يتفكرون في مواعظ القرآن ليعتبروا بها ويقال أفلا يتفكرون في معاني القرآن فيعلمون أنه من عند اللّه تعالى لأنه { ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } يعني تناقصا كثيرا ويقال أباطيل وكذبا كثيرا لأن الاختلاف في قول الناس وقول اللّه تعالى لا اختلاف فيه فلهذا قال أهل النظر إن الإجماع حجة لأن الإجماع من اللّه تعالى ولو لم يكن من اللّه تعالى لوقع فيه الاختلاف ولهذا قالوا إن القياس إذا انتقض سقط الاحتجاج به لأنه لو كان حكم اللّه تعالى لم يرد عليه نقض

٨٣

قوله تعالى { وإذا جاءهم أمر من الأمن } يعني المنافقين جاءهم خبر من أمر السرية بالفتح والغلبة على العدو سكتوا وقصروا عما جاءهم من الخبر { أو الخوف } يعني وإن جاءهم خبر من السرية ببلاء وشدة نزلت بالمؤمنين { أذاعوا به } يعني أفشوه { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } قال الكلبي لو سكتوا عن إفشائه حتى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي يفشيه { وأولو الأمر } منهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } يقول يتبعونه منهم فيكون هؤلاء الذين يسمعونه ويفشونه ويعلمونه { إلا قليلا منهم }

قال تعالى { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } يعني لولا من اللّه عليكم ونعمته { لاتبعتم الشيطان } فيه تقديم وتأخير وقال مقاتل أذاعوا به يعني أفشوه { إلا قليلا } منهم لا يفشون الخبر وقال الزجاج { أذعوا به } يعني أظهروه ومعنى { يستنبطونه منهم } يعني يستخرجونه وأصله من النبط وهو أول الماء الذي يخرج من البئر إذا حفرت ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوا من قبل الرسول ومن قبل أولي الأمر منهم لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعف المؤمنين وعلموا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وذوي العلم وكانوا يعلمون مع ذلك وقال عكرمة لعلمه الذين يخوضون فيه ويسألون عنه وقال أبو العالية يعني الذين يتجسسونه منهم وقال الضحاك ولو ردوا أمرهم في الحلال والحرام إلى الرسول في التصديق به والقبول منه { وإلى أولي الأمر منهم } يعني حمله الفقه والحكمة { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } يعني يتفحصون عن العلم { ولولا فضل اللّه عليكم } بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم { ورحمته } بالقرآن { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } وهم الذين امتحن اللّه قلوبهم للتقوى وفي هذه الآية دليل على جواز الاستنباط من الخبر والكتاب لأن اللّه تعالى قد أجاز الاستنباط من قبل الرسول وأهل العلم

٨٤

قوله تعالى ( فقاتل في سبيل اللّه ) يعني في طاعة اللّه { لا تكلف إلا نفسك } قال مقاتل يعني ليس عليك ذنب غيرك وقال الزجاج أمر اللّه تعالى رسوله صلّى

اللّه عليه وسلّم بالجهاد وإن قاتل

وحده لأنه قد ضمن له النصرة وقال أبو بكر رضي اللّه عنه في أهل الردة لو خالفتني يميني لجاهدت بشمالي ويقال واعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبا سفيان بأن يخرج إلى بدر الصغرى فكرة المسلمون الخروج فأمر اللّه تعالى بأن يخرج وإن كان وحده فقال { وحرض المؤمنين } على القتال يعني على الجهاد بقتال أعداء اللّه تعالى { عسى اللّه أن يكف } يعني يمنع { بأس الذين كفروا } يعني قتال الذين كفروا والبأس هو القتال كما قال في آية أخرى { وحين البأس } البقرة ١٧٧

ثم قال تعالى { واللّه أشد بأسا } يعني عذابا ويقال قوة { وأشد تنكيلا } يعني أشد عقوبة في الآخرة من عقوبة الكفار في الدنيا

٨٥

قوله تعالى { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } قال الضحاك يعني من سن سنة حسنة في الإسلام فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } يعني من سن سنة قبيحة محدثة في الإسلام فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وقال الكلبي { من يشفع شفاعة حسنة } يعني يصلح بين اثنين يكن له أجر منها { ومن يشفع شفاعة سيئة } يعني بالنميمة والغيبة { يكن له كفل منها } يعني إثم منها وقال مجاهد إنما هي شفاعة في الناس بعضهم لبعض يعني يشفع لأخيه المسلم في دفع المظلمة عنه وروى سفيان عن عمرو بن دينار أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال اشفعوا إلي تؤجروا فإن الرجل منكم يسألني الأمر فأمنعه كي ما تشفعوا فتؤجروا وقال الحسن الشفاعة تجري أجرها لصاحبها ما جرت منفعتها والكفل في اللغة النصيب كقوله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته } الحديد ٢٨

ثم قال تعالى { وكان اللّه على كل شيء مقيتا } والمقيت المقتدر يقال أقات على الشي يعني اقتدر ويقال المقيت الشاهد على الشيء الحافظ له ويقال { مقيتا } يعني بيده الرزق وعليه قوت كل دابة كقوله { وقدر فيها أقواتها } فصلت ١٠

٨٦

قوله تعالى { وإذا حييتم بتحية } يعني إذا سلم عليكم { فحيوا بأحسن منها } يعني ردوا جوابها بأحسن منها { أو ردوها } يعني مثلها فأمر اللّه تعالى المسلمين برد السلام بأن

يردوا بأحسن منها وهو أن يقولوا وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته أو يرد مثله فيقول وعليكم السلام وقال قتادة { فحيوا بأحسن منها } للمسلمين { أو ردوها } لأهل الذمة فيقول لهم وعليكم وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن رجلا دخل عليه وقال السلام عليكم فقال له وعليكم السلام فلك عشر حسنات ودخل آخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه فرد عليه فقال لك عشرون حسنة ودخل آخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه فقال لك ثلاثون حسنة وروي عنه أنه نهى أن ينقص الرجل من سلامه أو من رده وهو أن يقول السلام عليك ولكن ليقل السلام عليكم ويقال إنما ذلك للمؤمنين لأن المؤمن لا يكون وحده ولكن يكون معه الملائكة وفي هذه الآية دليل أن السلام سنة والرد واجب لأن اللّه تعالى أمر بالرد والأمر من اللّه تعالى واجب ويقال { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } يعني إذا أهدي إليكم بهدية فكافئوا بأفضل منها أو مثلها وهذا التأويل ذكر عن أبي حنيفة رحمه اللّه ثم قال { إن اللّه كان على كل شيء حسيبا } يعني مجازيا

٨٧

قوله تعالى { اللّه لا إله إلا هو } نزلت في شأن الذين شكوا في البعث فأقسم اللّه تعالى بنفسه { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } وهذه لام القسم وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم وقال بعضهم { إلى } صلة في الكلام معناه ليجمعنكم يوم القيامة ويقال ليجمعنكم في الموت وفي قبوركم إلى يوم القيامة ثم يبعثكم { لا ريب فيه } يعني لا شك فيه وهو البعث يعني لا شك فيه عند المؤمنين ويقال لا ينبغي أن يشك فيه

ثم قال تعالى { ومن أصدق من اللّه حديثا } يعني من أوفى من اللّه قولا وعهدا قرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي وقرأ الباقون { أصدق } وأصله الصاد إلا أنه لقرب مخرجيهما يجعل مكانه الزاي

٨٨

قوله تعالى { فما لكم من المنافقين فئتين } نزلت في تسعة نفر ارتدوا عن الإسلام فخرجوا من المدينة وانطلقوا إلى مكة ثم أنهم خرجوا تجارا إلى الشام فقال بعض المسلمين نخرج إلى هؤلاء ونقتلهم ونأخذ أموالهم وقال بعضهم هم مسلمون فلا يجوز أخذ أموالهم ويقال كان قوم من المنافقين بمكة خرجوا إلى الشام فاختلف المسلمون في أمرهم فبين اللّه تعالى للمسلمين نفاقهم فقال تعالى { فما لكم في المنافقين فئتين } يعني صرتم في أمر المنافقين فئتين يعني فريقين تختصمون في أمرهم { واللّه أركسهم بما كسبوا } يعني أذلهم ويقال أهلكهم ويقال { أركسهم } يعني ردهم إلى كفرهم ويقال ركست الشيء وأركسته إذا رددته إلى الحال الأول

ثم قال تعالى { أتريدون أن تهدوا من أضل اللّه } يعني ترشدون إلى الهدى من أضله اللّه تعالى { ومن يضلل اللّه } عن الهدى { فلن تجد له سبيلا } يعني دينا ويقال مخرجا

٨٩

ثم قال تعالى { ودوا لو تكفرون } يعني لو ترجعون عن هجرتكم { كما كفروا } يعني كما رجعوا { فتكونون سواء } يعني فتكونون أنتم وهم على الكفر سواء ومن هذا يقال في المثل إن من أحرق يوما كدسه يتمنى حرق أكداس الناس فكذلك الكفار كانوا يتمنون ان يكون الناس كلهم كفارا حتى يحترقوا معهم

قال اللّه تعالى { فلا تتخذوا منهم أولياء } في الدين والنصرة { حتى يهاجروا في سيبل اللّه } يعني حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دار الهجرة بالمدينة { فإن تولوا } يعني أبوا الهجرة { فخذوهم } يعني فأسروهم { واقتلوهم حيث وجدتموهم } يعني أين وجدتموهم من الأرض { ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } في العون

ثم استثنى الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد

٩٠

فقال { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } وهم خزاعة وبنو مدلج وبنو خزيمة وهلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه صالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أن كل من أتاهم من المسلمين فهو آمن ومن جاء منهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فهو آمن وفي هذه الآية إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كانت في الموادعة مصلحة للمسلمين

ثم قال تعالى { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } يعني ضاقت قلوبهم { أن يقاتلوكم }

من قبل العهد { أو يقاتلوا قومهم } معكم من قبل القرابة ثم قال { ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } ذكر منته على المؤمنين أنه يدفع عنهم البلاء ومنعهم عن قتالهم

ثم قال تعالى { فإن اعتزلوكم } في القتال { فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم } يعني الصلح معناه أنهم لو ثبتوا على صلحهم فلا تقاتلوكم فذلك قوله { فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلا } يعني حجة وسلطانا في قتالهم

٩١

ثم قال تعالى { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } وهم أسد وغطفان كانوا إذا أتوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون آمنا بك وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا آمنا بالعقرب والخنفساء يقول إنهم لم يريدوا بذلك تصديق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما أرادوا به الاستهزاء وقال مجاهد هم ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون بالأوثان ويريدون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فذلك قوله تعالى { كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها } يقول كلما دعوا إلى الشرك عادوا إليه ودخلوا فيه { فإن لم يعتزلوكم } في القتال { ويلقوا إليكم السلم } يعني لم يلقوا إليكم الصلح { ويكفوا أيديهم } عن قتالكم يعني إن لم يكفوا أيديهم { فخذوهم } يعني أسروهم { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } يعني حيث أدركتموهم ووجدتموهم { وأولئكم } يعني أهل هذه الصفة { جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } يعني حجة مبينة في القتال

٩٢

قوله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } يقول وما جاز لمؤمن أن يقتل مؤمنا متعمدا إلا خطأ بغير قصد منه ويقال معناه ولا خطأ يعني ما جاز له يقتل عمدا ولا خطأ ثم قال { ومن قتل مؤمنا خطأ } نزلت الآية في شأن عياش بن أبي ربيعة حين قتل الحارث بن زيد وذلك أن عياشا هاجر إلى المدينة مؤمنا فجاءه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخواه لأمه ومعها الحارث بن زيد فقالوا له إن أمك تناشدك بحقها ورحمها أن ترجع إليها وأنك أحب الأولاد إليها وقد حلفت ألا يظلها بيت ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها فارجع إليها وكن على دينك فخرج معهم فلما خرج من المدينة أوثقوه بحبل وضربوه وحملوه إلى مكة وألقوه في الشمس وحلفت أمه بأن

لا يحله أحد ما لم يكفر باللّه فتركوه على حاله حتى أعطاهم الذي أرادوه فحلوه من الوثاق فقال له الحارث بن زيد إن كان الذي كنت عليه هدى فقد تركته وإن كان ضلالة فقد كنت في ضلالة فحلف عياش بأن يقتل الحارث بن زيد إذا لقيه خاليا ثم إن عياشا خرج إلى لمدينة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأسلم ثم أسلم الحارث بن زيد بعد ذلك فلقيه عياش في بعض سكك المدينة ولم يعلم بإسلامه فقتله ثم علم بإسلامه فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بالأمر الذي كان منه فنزلت هذه الآية فيه وصارت الآية عامة لجميع الناس وهو قوله { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } يعني فعليه عتق رقبة مؤمنة ولو أعتق رقبة كافرة لم يجز بالإجماع { ودية مسلمة إلى أهله } يعني وعليه دية مسلمة إلى أهل القتيل والدية مائة من الإبل { إلا أن يصدقوا } وأصله أن يتصدقوا فأدغم التاء في الصاد وأقيم التشديد مقامه ومعناه إلا أن يعفو عنه أولياء القتيل ولا يأخذوا منه شيئا

ثم قال تعالى { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } يعني إن كان القتيل من أهل الحرب وقد أسلم في دار الحرب فقتله رجل في دار الحرب فعلى القاتل الكفارة عتق رقبة مؤمنة ولا دية عليه وهذا بالإجماع وقد نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد قتل رجلا يقال له مرداس وكان مسلما فنزلت هذه الآية وروي عن عطاء بن السائب عن أبي عياض أنه قال كان الرجل يأتي ويسلم ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم فيغزوهم الجيش من جيوش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيقتل الرجل فنزلت هذه الآية { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } { فتحرير رقبة مؤمنة } وليس عليه دية

ثم قال تعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } يعني إن كان المقتول من أهل الذمة { فدية مسلمة } يعني فعليه دية مسلمة { إلى أهله } { و } عليه أيضا { تحرير رقبة مؤمنة } وروي عن عبد اللّه بن عباس أن مستأمنين دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكساهما وحملهما فلما خرجا من عنده لقيهما عمرو بن أمية الضمري فقتلهما ولم يعلم أنهما مستأمنان فقداهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بدية حرين مسلمين فنزلت هذه الآية { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } ولهذا قال علماؤنا إن دية الذمي والمسلم سواء

وهكذا روي عن أبي بكر وعمر وعثمان أن دية الذمي والمسلم سواء مائة من الإبل

ثم قال تعالى { فمن لم يجد } يعني قاتل الخطأ إذا لم يجد رقبة مؤمنة { فصيام شهرين } يعني فعليه صيام شهرين { متتابعين توبة من اللّه } يعني تلك الكفارة توبة للقاتل من اللّه تعالى ويقال سبب للتجاوز من اللّه تعالى { وكان اللّه عليما } بالقاتل { حكيما } يعني حكم بالكفارة على من قتل خطأ

 

٩٣

قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } روي عن سالم بن أبي الجعد قال كنت عند عبد اللّه بن عباس بعدما كف بصره فجاءه رجل فناداه ما تقول فيمن قتل مؤمنا متعمدا فقال { جزاؤه جهنم خالدا فيها } { وغضب اللّه عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } فقال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال وأنى له الهدى سمعت نبيكم صلّى اللّه عليه وسلّم يقول يأتي قاتل المؤمن متعمدا ويتعلق به المقتول عند عرش الرحمن فيقول يا رب سل هذا فيم قتلني فوالذي نفسي بيده في هذا نزلت هذه الآية فما نسختها آية بعد نبيكم وما نزل بعده من برهان

وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما قالا لا توبة له وقال غيرهما له التوبة لأن اللّه تعالى ذكر الشرك والقتل والزنى ثم قال ( ألا من تاب وءامن ) إلى قوله { فأولئك يبدل اللّه سيئاتهم حسنات } الفرقان ٧٠ويقال معنى { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } يعني داخلا فيها لأنه لم يذكر فيها الأبد كما أن الرجل يقول خلدت فلانا في السجن يعني أدخلته ويقال معناه { فجزاؤه جهنم } أي إن جازاه

وروى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إذا وعد اللّه لعبده ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ويقال معناه { من يقتل مؤمنا متعمدا } يعني مستحلا لقتله { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } لأنه كفر باستحلاله ويقال { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } متعمدا لأجل إيمانه كما روي في الأثر أن بغض الأنصار كفر إن كان بغضهم لأجل نصرتهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكذلك هاهنا إذا قتله لأجل إيمانه صار كافرا ويقال هو منسوخ بقوله تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } النساء ٤٨ - ١١٦ ويقال معناه فجزاؤه جهنم بقتله خالدا فيها بارتداده لأن الآية نزلت في شأن رجل قتل مؤمنا متعمدا ثم ارتد عن الإسلام وهو مقيس بن ضبابة الكناني وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلا في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبعث معه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من بني فهر إلى بني النجار وأمره بأن يقرئهم السلام ويأمرهم بأن يطلبوا قاتله فإن وجدوه قتلوه وإن لم يجدوه حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية فلما أتاهم مقيس بن ضبابة ورسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معه بلغهم الرسالة فقالوا سمعا وطاعة لأمر اللّه ورسوله وقالوا ما نعرف قاتله فحلفوا وغرموا الدية فلما رجع مقيس بن ضبابة قال في نفسه إني بعت دم أخي بمائة من الإبل ودخلت فيه حمية الجاهلية وقال أقتل هذا الفهري مكان أخي وتكون الدية فضلا لي فقتله وتوجه إلى مكة وقال في ذلك شعرا

( قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع )

( فأدركت ثأري واضطجعت توسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع ) فنزلت هذه الآية في شأنه إن جزاؤه جهنم خالدا فيها وكل من يعمل مثل عمله

٩٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه } يقول إذا خرجتم وضربتم في الجهاد { فتبينوا } نزلت الآية في شأن أسامة بن زيد لقي رجلا يقال له مرداس فقال له مرداس قال السلام عليكم وقال إني مؤمن وقال لا إله إلا اللّه فقتله أسامة ولم يصدقه بأنه مسلم فأخبر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقتلت رجلا يقول لا إله إلا اللّه فقال أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه فقال صلّى اللّه عليه وسلّم هلا شققت عن قلبه فقال أسامة استغفر لي فقال له فكيف استغفر لك بلا إله إلا اللّه ثلاث مرات ثم استغفر له الرابعة وأمره بأن يعتق رقبة

وروى شهر بن حوشب عن جندب بن سفيان عن رجل من بجيلة قال كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ جاءه بشير من السرية فأخبره بالفتح وقال يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم اللّه فقصدت رجلا بالسيف فلما أحس أن السيف واقع به فقال إني مسلم فقتلته فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أقتلت مسلما فقال يا رسول اللّه إنه قال متعوذا فقال صلّى اللّه عليه وسلّم أفلا شققت عن قلبه فقال يا رسول اللّه استغفر لي فقال لا أستغفر لك فمات الرجل فدفنوه ثم أصبح على وجه الأرض ثم دفنوه فأصبح على وجه الأرض ثلاث مرات فلما رأى ذلك قومه استحيوا منه وحزنوا فحملوه وألقوه في شعب من تلك الشعاب فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل اللّه فتبينوا } يعني قفوا وانظروا من تقتلون قرأ حمزة والكسائي { فتثبتوا } بالثاء وقرأ الباقون { فتبينوا } بالباء فمن قرأ بالثاء فهو من التثبت وهو التأني يعني قفوا ولا تعجلوا في الأمر حتى يتبين لكم الكافر من المسلم ومن قرأ بالباء فهو من التبين ومعناهما قريب

ثم قال تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } قرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير والكسائي { السلام } بالألف وقرأ نافع وابن عامر وحمزة { السلم } بغير ألف وأما من قرأ { السلام } فلأن مرداسا قال لهم السلام عليكم وأما من قرأ { السلم } فهو الدخول في

الانقياد والمتابعة يعني إن انقاد لكم وتابعكم فلا تقولوا له { لست مؤمنا } وأسلم واستسلم بمعنى واحد أي دخل في الانقياد كما تقول أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وأربع إذا دخل في الربيع ثم قال { تبتعون عرض الحياة الدنيا } وذلك أن الرجل كانت معه غنيمة حين قتلوه وأخذوا ما معه من الغنيمة فعيرهم اللّه تعالى بطمعهم في المال ثم قال { فعند اللّه مغانم كثيرة } يعني عند اللّه ثواب كثير في الآخرة لمن اتقى ويقال غنائم كثيرة في الدنيا فاطلبوا من حيث أذن لكم وأبيح لكم

ثم قال تعالى { كذلك كنتم من قبل } يعني هكذا كنتم من قبل الهجرة بمنزلة مرداس تأمنون في قومكم بالتوحيد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتعصم دماؤكم وأموالكم ولا تخيفون أحدا وكنتم تأمنون بمثله قبل هجرتكم { فمن اللّه عليكم } بالهجرة ويقال هكذا كنتم يعني كنتم تكتمون إيمانكم من قبل ويقال أي كنتم كفار فمن اللّه عليكم بالإسلام ثم قال { فتبينوا } يعني قفوا وانظروا في أمركم لكيلا تقتلوا مؤمنا فصارت الآية عامة لجميع السرايا إذا دخلوا دار الحرب ينبغي أن يتبينوا لكي لا يقتلوا مؤمنا ثم قال { أن اللّه بما تعملون خبيرا } يعني عالما بكم وبأعمالكم

٩٥

ثم قال تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } يعني القاعدين عن الجهاد لا يكون حالهم مثل حال الذين يجاهدون في الثواب والأجر { غير أولي الضرر } يعني القاعدين الذين لا عذر لهم ومن كان له عذر فهو خارج من هذا قال ابن عباس يعني ابن أم مكتوم ومحمد بن جحش ويقال عبد اللّه بن جحش فقالا إنا أعميان فهل لنا من رخصة فنزلت { غير أولي الضرر }

حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن داود قال حدثنا عبد العزيز بن عبد اللّه الأوسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي قال رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أملى عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر } { والمجاهدون في سبيل اللّه } فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول اللّه لو أني أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وفخذه على فخذي فثقلت علي

حتى خفت أن يرض فخذي ثم سري عنه فأنزل اللّه تعالى { غير أولي الضرر } يعني إلا أن يكون أولي الضرر

قرأ نافع والكسائي وابن عامر { غير أولي الضرر } بنصب الراء وقرأ حمزة وعاصم وابن كثير وأبو عمرو { غير أولي الضرر } بالضم وقرأ بعضهم { غير أولي الضرر } بالكسر فمن قرأ بالضم جعله نعتا ل { القاعدون } يعني لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر ومن قرأ بالنصب فهو على معنى الاستثناء ويقال هو نصب على الحال ومن قرأ بالكسر فلحرف الكسر { المؤمنين }

ثم قال تعالى { فضل اللّه المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين } يعني بغير عذر { درجة } يعني فضيلة في الآخرة { وكلا } يعني المجاهدين والقاعدين والمعذورين { وعد اللّه الحسنى } يعني وعد اللّه لهم الثواب وهو الجنة

ثم قال تعالى { وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين } يعني بغير عذر { أجرا عظيما } ثم بين الأجر

٩٦

 فقال { درجات منه } يعني فضائل من اللّه تعالى في الجنة يعني سبعين درجة وروى هشام بن حسان عن جبلة بن عطية عن ابن محيريز قال ما بين الدرجتين حضر الفرس أو الجواد سبعين عاما ثم قال { ومغفرة } يعني مغفرة لذنوبهم { ورحمة } يعني نعمة في الجنة { وكان اللّه غفورا } لمن جاهد { رحيما } إذ سوى بين من له عذر بالفضل مع غيره

٩٧

قوله تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة } يعني ملك الموت يقبض أرواحهم { ظالمي أنفسهم } يعني الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة وخرجوا مع المشركين إلى بدر فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا وكفروا فقتل بعضهم فأخبر اللّه تعالى عن حالهم فقال { قالوا فيم كنتم } يعني الملائكة تقول لهم في أي شيء كنتم ويقال أين كنتم عن الهجرة { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } يقولون كنا مقهورين في أرض مكة لا نقدر أن نظهر الإيمان { قالوا } يعني قالت لهم الملائكة عليهم السلام { ألم تكن أرض اللّه واسعة } يعني المدينة مطمئنة رحبة { فتهاجروا فيها } يعني إليها فقال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { فأولئك مأواهم جهنم } أي منزلهم ومصيرهم إلى النار { وساءت مصيرا } يعني بئس المصير صاروا إليها

حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عكرمة عن ابن عباس قال كان ناس من المسلمين مع المشركين يكثرون سواد المشركين يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله فأنزل اللّه تعالى { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية

ثم استثنى أهل العذر

٩٨

 فقال { إلا المستضعفين } يعني المقهورين { من الرجال والنساء والولدان } فليس مأواهم جهنم وهم الذين { لا يستطيعون حلية ولا يهتدون سبيلا } يعني لا يجدون سعة الخروج عنهم إلى المدينة ولا يعرفون طريقا إلى المدينة

٩٩

 { فأولئك عسى اللّه أن يعفو عنهم } أي يتجاوز عنهم و { عسى } من اللّه تعالى واجب { وكان اللّه عفوا } عنهم { غفورا } لهم فلا يعاقبهم فقال عبد اللّه بن عباس أنا ممن استثنى اللّه يومئذ كنت غلاما صغيرا وكان ذلك قبل نسخ الهجرة ثم نسخت الهجرة بعد فتح مكة

حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا الطحاوي قال حدثنا أبو أمية قال حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا عبيد اللّه بن موسى قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة خطب الناس فقال في خطبته ولا هجرة بعد الفتح وروى عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم الفتح إنه لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا

١٠٠

قوله تعالى { ومن يهاجر في سبيل اللّه } يقول في طاعة اللّه إلى المدينة { يجد في الأرض مراغما كثيرا } يقول ملجأ متحولا من الكفر إلى الإيمان { وسعة } في الرزق وقال القتبي المراغم والمهاجر واحد ويقال راغمت وهاجرت لأنه إذا أسلم خرج مراغما لأهله أي مغايظا لهم والمهاجر المنقطع وقيل للذاهب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مهاجر مراغم لأنه إذا خرج هجر قومه وروي عن معمر عن قتادة قال لما نزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية فقال رجل من المسلمين وهو مريض واللّه مالي من أني أجد الدليل في الطريقوإني لموسر فاحملوني فحملوه فأدركه الموت في الطريق فقال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لو بلغ إلينا لتم أجره وقد دفن بالتنعيم وجاء بنوه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبروه بالقصة فنزلت هذه الآية { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت } يعني مات في الطريق { فقد وقع أجره على اللّه } يعني ثوابه على اللّه الجنة { وكان اللّه غفورا } لما كان منه في الشرك { رحيما } حين قبل توبته وكان اسمه جندع بن ضمرة

١٠١

قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض } يعني إذا خرجتم إلى السفر { فليس عليكم جناح } ويقول لا إثم ولا حرج عليكم { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } يعني يقتلكم والفتنة في أصل اللغة الاختبار ثم سمي القتل فتنة لأن فيه معنى الاختبار كما قال { على خوف من فرعون وملإيهم أن يفتنهم } يونس ٨٣ يعني يقتلهم فاللّه تعال قد أباح قصر الصلاة عند الخوف ثم صار ذلك عاما لجميع المسافرين أن يقصروا من الصلاة خافوا أو لم يخافوا وروي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صدقة تصدق اللّه عليكم فاقبلوا صدقته

ثم قال تعالى { إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } يعني ظاهر العداوة ومعناه كونوا بالحذر منهم

١٠٢

قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } يعني بالمؤمنين ومعناه إذا كنت

بحضرة العدو وحضرت الصلاة { فلتقم طائفة منهم } يعني جماعة منهم { معك } في الصلاة { وليأخذوا أسلحتهم } يعني الذين يصلون معك ويقال { وليأخذوا أسلحتهم } الذين هم بإزاء العدو { فإذا سجدوا } يعني إذ صلوا الذين خلف الإمام ركعة واحدة { فليكونوا من ورائكم } يعني ينصرفون إلى موضع العدو ويقفون هناك { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } يعني الذين كانوا بإزاء العدو { فليصلوا معك } ركعة أخرى ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ولكن روي في الخبر عن عبد اللّه بن عمر وغيره أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حين صلّى صلاة الخوف صلّى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما ذكر في الآية ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه الطائفة إلى موضع العدو حتى قضت الطائفة الأولى الركعة الأخرى وسلّموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى وسلّموا حتى تم لكل طائفة ركعتان وهذا اختيار أصحابنا في صلاة الخوف

ثم قال تعالى { ود الذين كفروا } يقول تمنى الذين كفروا { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } يعني أمتعة الحرب { فيميلون عليكم ميلة واحدة } يعني يحملون عليكم حملة واحدة وإنما حذرهم لكي يكونوا بالحذر منهم

ثم قال تعالى { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان في غزوة أنمار فهزمهم وسبى ذريتهم فلما رجعوا أصابهم المطر فنزلوا واديا تحت الأشجار فوضع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه وكان بعض المشركين على الجبل فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه فجاءه واحد منهم يقال له حويرث بن الحارث وقال أنا أقتله فأتاه وقال يا محمد من يمنعك مني فقال اللّه تعالى يمنعني منك فسل سيفه وأراد أن يضربه فدفع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الكافر في صدره دفعة فسقط السيف من يده فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخذ سيفه وقال من يخلصك مني فقال لا أحد فقال له إن أسلمت أرد عليك سيفك فقال لا أسلم ولكن أعاهد اللّه تعالى ألا أكون عليك ولا لك أبدا فرد عليه سيفه فقال الرجل يا محمد أنت خير مني لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني فرجع الكافر إلى أصحابه فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم ثم انقطع السيل وجاء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة وقرأ عليهم هذه الآية { ولا جناح عليكم أن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى } يعني أصابتكم الجراحات { أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } من العدو يعني كونوا بالحذر منهم وقال الضحاك { وخذوا حذركم } يعني تقلدوا سيوفكم فإنما ذلك هيبة الغزاة

ثم قال تعالى { إن اللّه أعد للكافرين } في الآخرة { عذابا مهينا } يهانون فيه

١٠٣

ثم قال تعالى { فإذا قضيتم الصلاة } قال بعضهم فإذا فرغتم من الصلاة { فاذكروا اللّه } بالقلب واللسان على أي حال كنتم { قياما وقعودا وعلى جنوبكم } ويقال { فإذا قضيتم الصلاة}

قال بعضهم إذا فرغتم من الصلاة أي صلاة الخوف { فاذكروا اللّه } بالقلب واللسان أي حال كنتم { قياما وقعودا وعلى جنوبكم } يقول فصلوا للّه صلاة الصحيح قياما أو المريض قاعدا أو على جنوبكم إذا كان المرض أشد من ذلك كما قال في آية أخرى { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ويقال { فإذا قضيتم الصلاة } أي فرغتم من صلاة الخوف { فاذكروا اللّه } أي فصلوا صلاة الصحيح قائما أو المريض قاعدا أو على جنوبكم إن كان المرض أشد من ذلك

ثم قال تعالى { فإذا اطمأننتم } يقول أمنتم ورجعتم إلى منازلكم { فأقيموا الصلاة } يعني فأتموا الصلاة أربعا وهذا كقوله { يمشون مطمئنين } أي مقيمين

ثم قال تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } يعني فرضا مفروضا معلوما للمسافر ركعتان وللمقيم أربع وقال مقاتل { كتابا موقوتا } يعني فريضة معلومة كقوله { كتب عليكم } البقرة ١٧٨ وغيرها يعني فرض عليكم وقال الزجاج { كتابا موقوتا } أي مفروضا موقوتا فرضه

١٠٤

قوله تعالى { ولا تهنوا } يقول لا تضعفوا { في ابتغاء القوم } يعني في طلب المشركين أبي سفيان وأصحابه بعد يوم أحد وذلك أن المسلمين لما أصابتهم الجراحات يوم أحد فكانوا يضعفون عن الخروج إلى الجهاد فأمرهم اللّه تعالى بأن يظهروا من أنفسهم الجد والقوة وهذا الخطاب لهم ولجميع الغزاة إلى يوم القيامة

ثم قال { إن تكونوا تألمون } قال عكرمة الألم الوجع وكذلك قال الضحاك والسدي يعني إن أصابكم الوجع والجراحات في الحرب { فإنهم يألمون كما تألمون } يعني يصيبهم الوجع مثل ما يصيبكم ولكم زيادة ليست للمشركين وذلك قوله تعالى { وترجون من اللّه ما لا يرجون } يعني الثواب في الآخرة { وكان اللّه عليما } بما كان { حكيما } بما يكون

١٠٥

ثم قال تعالى { إنا أنزلنا الكتاب بالحق } يعني أنزلنا عليك جبريل عليه السلام ليقرأ عليك القرآن بالعدل والأمر والنهي { لتحكم بين الناس بما أراد اللّه } يعني بما أعلمك اللّه وألهمك بما أوحي إليك { ولا تكن للخائنين خصيما } يعني ولا تكن للسارقين معينا

وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جده قال عن قتادة بن النعمان قال كان بنو أبيرق ثلاثة بشر وبشير ومبشر فكان بشر يكنى أبا طعمة وكان شاعرا وكان منافقا وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم يقول قاله فلان وكان لعمي رفاعة بن زيد عليه فيها طعام وسلاح فطرقه بشير من الليل فأخذ ما فيها من الطعام والسلاح فلما أصبح عمي دعاني وقال لي إنه أغير علينا الليلة فقلت من فعله فقال بشير وأخواه فجئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته أن بشيرا قد سرق من عمي الطعام والسلاح فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه وأما السلاح فليردوه علينا فجاء قومه وكانوا أهل لسان وبيان فقالوا إن رفاعة وابن أخيه عمدوا إلى أهل بيت منا يتهمونهم بالسرقة فوقع قولهم عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم موقعا فبين اللّه خيانتهم فنزل { ولا تكن للخائنين خصيما } وهو طعمة وقال الضحاك سرق طعمة بن أبيرق اليهودي درعا للزبير بن العوام فاختصما إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال للزبير لا بد لك من أن تأتي على ذلك بحجة قيمة وشهادة صحيحة فأنزل اللّه تعالى تصديقا لقول الزبير { ولا تكن للخائنين خصيما } وقال مقاتل سرق طعمة المنافق ابن ابيرق درعا من يهودي فلما جاؤوا إلى بيته بالأثر رمى الدرع في دار رجل من الأنصار وأنكر فجاء قومه ليبرئوه من السرقة فنزلت هذه الآية وقال الكلبي سرق طعمة بن أبيرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان فوضعه عند رجل من اليهود يقال له زيد بن الشخير وأنكر السرقة فجاء قومه يخاصمون عنه فنزلت هذه الآية

١٠٦

قوله تعالى { واستغفر اللّه } يعني استغفر عند جدالك عن طعمة حين جادلت { إن اللّه كان غفورا رحيما }

١٠٧

ثم قال تعالى { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يقول ولا تخاصم عن الذين يضرون أنفسهم بالسرقة { إن اللّه لا يجب من كان خوانا أثيما } يعني خائنا بالسرقة فاجرا برميه على غيره

١٠٨

ثم قال تعالى { يستخفون من الناس } قال الضحاك لما سرق الدرع اتخذ حفره في بيته وجعل الدرع تحت التراب فنزل { يستخفون من الناس } بالتراب { ولا يستخفون من اللّه } يقول لا يخفى مكان الدرع على اللّه { وهو معهم } عالم بهم وبخيانتهم ويقال { يستخفون } يعني يستترون من الناس وهم قوم طعمة { ولا يستخفون } من اللّه يقول ولا يقدرون أن يستتروا من اللّه تعالى { وهم معهم } يعني عالما بهم

وبخيانتهم { إذ يبيتون } يقول إذ يؤلفون ويغيرون { ما لا يرضى } اللّه { من القول } يقول ما لا يرضوا لأنفسهم من القول وهم سرقوا

ويقال ما لا يرضى اللّه تعالى ولا يحبه ثم قال { وكان اللّه بما يعملون محيطا } يعني عالما بهم وبخيانتهم

ثم أقبل على قوم طعمة

١٠٩

 فقال { ها أنتم هؤلاء } يقول أنتم يا هؤلاء { جادلتم } أي خاصتم { عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوما القيامة } يقول فمن يخاصم اللّه عنهم { يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } يعني كفيلا ويقال خصيما

وقال الضحاك أراد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقيم الحد على طعمة بن أبيرق وكان طعمة مطاعا في اليهود فجاءت اليهود شاكين السلاح وهربوا بطعمة وجادلوا عنه فنزل { ها أنتم هؤلاء } يعني اليهود الآية

١١٠

ثم قال عز وجل { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } قال الضحاك نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك باللّه وقتل حمزة رضي اللّه عنه ثم جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أني لنادم فهل لي من توبة فنزل { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } { ثم يستغفر اللّه } الآية وقال الكلبي نزلت في شأن طعمة { ومن يعمل سوءا } بسرقة الدرع أو يظلم نفسه برميه غيره وجحوده ثم يستغفر اللّه يعني يتوب إلى اللّه { يجد اللّه غفورا } متجاوزا { رحيما } لمن اتقى الشرك وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال كنت إذا سمعت حديثا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفعني اللّه به ما شاء وإذا سمعته من غيره حلفته وحدثني أبو بكر الصديق وصدق أبو بكر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر اللّه تعالى إلا غفر اللّه له وتلا هذه الآية { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية صدق أبو بكر رضي اللّه عنه

١١١

قوله تعالى { ومن يكسب إثما } يعني الشرك باللّه تعالى { فإنما يكسبه على نفسه } أي يضر بنفسه { وكان اللّه عليما حكيما }

١١٢

ثم قال { ومن يكسب خطيئة أو إثما } يعني عمل بالمعصية { ثم يرم به بريئا } قامقاتل وهو طعمة حين رمى بالدرع في دار الأنصاري واتهمه به وهو قوله { ثم يرم به بريئا } وقال الضحاك يعني به المنافقين حيث قالوا في عائشة رضي اللّه عنها قولا عظيما فقال { ومن يكسب خطيئة أو إثما } بالمعاصي { ثم يرم به بريئا } يعني عائشة وصفوان ثم قال اللّه تعالى { فقد احتمل بهتانا } يقول فقد قال كذبا { وإثما مبينا } يعني ذنبا ظاهرا

١١٣

قوله تعالى { ولولا فضل اللّه عليك ورحمته } يعني لولا فضل اللّه عليك بالنبوة ورحمته بالوحي { لهمت طائفة منهم } يعني جماعة { أن يضلوك } يعني يخطئوك في الحكم { وما يضلون إلا أنفسهم } يعني وما يرجع وبال ذلك إلا على أنفسهم { وما يضرونك من شيء } وإنما يضرون بأنفسهم قال الضحاك نزلت في وفد ثقيف قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا جئناك لنبايعك على ان لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا فلم يجبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فنزلت { لهمت طائفة منهم أن يضلوك } وقال الكلبي يعني قوم طعمة

ثم قال تعالى { وأنزل عليك الكتاب } يعني القرآن { والحكمة } يعني القضاء والمواعظ { وعلمك } بالوحي { ما لم تكن تعلم } قبل الوحي { وكان فضل اللّه عليك عظيما } بالنبوة

١١٤

ثم قال تعالى { لا خير في كثير من نجواهم } وهو ما يتناجون فيما بينهم ويقال في كثير من أحاديثهم وهم وفد ثقيف أو قوم طعمة { إلا من أمر بصدقه } يقول إلا نجوى من أمر بصدقه { أو معروف } يعني القرض كقوله { فليأكل المعروف } النساء ٦ ويقال بالمعروف يعني القول بالمعروف والنهي عن المنكر { أو إصلاح بين الناس } يعني يذهب بالصلاح فيم بين اثنين ليصلح بينهما { ومن يفعل ذلك } يعني الذي ذكرنا { ابتغاء مرضاة اللّه } يعني طلبا لمرضاة اللّه تعالى { فسوف نؤتيه } يعني في الآخرة { أجرا عظيما } قرأ حمزة وأبو عمرو { يؤتيه } بالياء يعني يؤتيه اللّه تعالى وقرأ الباقون { نؤتيه } بالنون يعني نحن نعطيه في الآخرة { أجرا عظيما } أي ثوابا عظيما

١١٥

قوله تعالى { ومن يشاقق الرسول } يعني يخالفه في التوحيد { من بعد ما تبين له الهدى } يعني من بعد ما تبين له التوحيد { ويتبع غير سبيل المؤمنين } يعني يتبع دينا غير دين المؤمنين ويقال يتبع طريقا أو مذهبا غير طريق المؤمنين وفي الآية دليل أن الإجماع حجة لأن من خالف الإجماع فقد خالف سبيل المؤمنين

وقال الضحاك قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين لالهدى} يعني دين الإسلام { ويتبع غير سبيل المؤمنين } { نوله ما تولى } يعني نكله إلى الأصنام يوم القيامة وهم لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا ينجوهم من عذاب اللّه تعالى

وقال مقاتل { نوله ما تولى } أي نتركه وما اختار لنفسه

وقال الكلبي نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا وهذا كما قال بعض الحكماء من أراد أن يعلم كيف يعامل معه الآخرة فلينظر كيف يعامل هو مع اللّه في الدنيا

وقال الكلبي نزلت الآية في شأن طعمة لما ظهر حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد فنقب بمكة حائطا لرجل فسقط حجر فبقي في النقب حتى وجدوه على حاله فأخرجوه من مكة فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه فنزل قوله { نوله ما تولى }

{ ونصله جهنم وساءت مصيرا } قرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو { نوله ونصله } بجزم الهاء وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان

١١٦

ثم قال عز وجل { إن اللّه لا يغفر أن يشرك به } قال الضحاك وذلك أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا إني لم أشرك باللّه مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على اللّه تعالى ولا مكابرة له وإني لنادم وتائب مستغفر فما حالي عند اللّه فأنزل اللّه تعالى { إن اللّه لا يغفر أن يشرك به } { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ويقال نزل في شأن وحشي وقد ذكرناه من قبل { ومن يشرك باللّه } يعني من يعبد غير اللّه تعالى { فقد ضل ضلالا بعيدا } يعني فقد ضل عن الهدى { ضلالا بعيدا } عن الحق

١١٧

ثم إن اللّه تعالى ذم الكفار وبين جهلهم فقال { إن يدعون من دونه إلا إناثا } يقول ما يعبدون من دون اللّه إلا أصناما أمواتا وهذا قول ابن عباس

وعن الحسن أنه قال { إلا إناثا } الشيء الميت الذي ليس فيه روح وقال السدي سموها إناثا اللات والعزى ومناة ثم قال { وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } وذلك أن الشيطان كان يدخل في الصنم ويكلمهم وهم يعبدون الصنم وفيه الشيطان ويقال إبليس زين لهم

عبادة الأصنام فإذا عبدوا بإذنه فكأنهم عبدوا الشيطان ثم قال { مريدا } أي ماردا مثل قدير وقادر والمارد العاتي ويقال كل فاسد مفسد يكون مريدا يعني يكون { مريدا } أي يكون فاسدا بنفسه ويفسده غيره

١١٨

ثم قال عز وجل { لعنة اللّه } يعني طرده اللّه من رحمته وهو إبليس حيث لم يسجد لآدم فلما لعنه { وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } يعني حظا معلوما قال مقاتل يعني من كل ألف واحد في الجنة وسائرهم في النار فهذا نصيب مفروض

١١٩

ثم قال عز وجل { ولأضلنهم } يعني عن الهدى والحق { ولأمنينهم } يعني لأخبرنهم بالباطل أنه لا جنة ولا نار ولا بعث { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } وهي البحيرة وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشقون آذان الأنعام ويسمونها بحيرة وذكر قصتهم في سورة المائدة ثم قال { ولآمرنهم فليغيرون خلق اللّه } قال عكرمة هو الخصاء وهكذا روي عن ابن عباس وأنس بن مالك وروي عن سعيد بن جبير قال هو دين اللّه وهكذا قال الضحاك ومجاهد وقيل لمجاهد إن عكرمة يقول هو الخصاء فقال ما له لعنة اللّه وهو يعلم أنه غير الخصاء فبلغ ذلك عكرمة فقال هو فطرة اللّه وقال الزجاج إن اللّه تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها فقد غيروا خلق اللّه تعالى { ومن يتخذ الشيطان وليا } يعني يعبد الشيطان ويطيعه { من دون اللّه } تعالى يعني ترك أمر اللّه تعالى وطاعته { فقد خسر خسرانا مبينا } يعني ضل ضلالا { مبينا } بينا عن الحق

١٢٠

ثم قال تعالى { يعدهم } يعني الشيطان يخوفهم بالفقر حتى لا يصلوا رحما ولا ينفقوا في خير { ويمنيهم } يعني يخبرهم بالباطل أنه لا ثواب لهم في ذلك العمل { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} يعني باطلا

١٢١

قوله تعالى { أولئك مأواهم جهنم } يعني الذين يطيعون الشيطان مصيرهم إلى جهنم { لا يجدون عنها محيصا } يعني مفرا ومهربا

١٢٢

قوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني صدقوا باللّه تعالى والرسولوالقرآن وأدوا الفرائض وانتهوا عن المحارم { سندخلهم جنات } وهي البساتين { تجري من تحتها الأنهار } وهي أربعة أنهار نهر من ماء غير آسن ونهر من لبن ونهر من خمر ونهر من عسل مصفى { خالدين فيها أبدا } يعني مطمئنين فيها لا يتغير بهم الحال فهذا وعد من اللّه تعالى

ثم قال { وعد اللّه حقا } يعني صدقا وكائنا أنجز لهم ما وعد لهم من أمر الجنة { ومن أصدق من اللّه قيلا } يعني قولا ووعدا

١٢٣

قوله تعالى { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } وذلك أن أهل الكتاب قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال المؤمنون إنا أسلمنا لا تضرنا الذنوب فنزل { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } يقول ليس لكم يا معشر المسلمين ما تمنيتم ولا أهل الكتاب ما تمنوا { من يعمل سوءا يجز به } يعني من يعمل معصية دون الشرك يعاقب به

وقال الزجاج معناه ليس ثواب اللّه بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب وقد جرى ما يدل على إضمار الثواب وهو قوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي إنما يدخل الجنة من آمن وعمل صالحا ليس كما تمنيتم { من يعمل سوءا يجز به } أي لا ينفعه تمنيه

ويقال لما نزلت هذه الآية { من يعمل سوءا يجز به } شق ذلك على المسلمين وقال أبو بكر كيف الفلاح بعد هذه الآية يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه وسلّم ألست تمرض ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء أي الشدة فذلك كله جزاؤه

حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا العباس قال حدثنا الحسن بن صباح قال حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن زياد عن علي بن زيد عن مجاهد قال مر ابن عمر على ابن الزبير وهو مصلوب فنظر إليه فقال يغفر اللّه لك ثلاثا واللّه ما علمتك إلا كنت صواما قواما وصالا للرحم أما واللّه إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن لا يعذبك اللّه بعد هذا أبدا ثم التفت فقال سمعت أبا بكر الصديق يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من يعمل سوءا يجز به في الدنيا

وروى محمد بن قيس عن أبي هريرة قال لما نزلت { من يعمل سوءا يجز به } شق ذلك على المسلمين فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال قاربوا وسدودا فكل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة تشاكه والنكبة تنكبه أي الشدة

وقال الضحاك السوء الكفر

وقال مجاهد قالت قريش لن نبعث ولن نعذب فنزل { ليس بأمانيكم } يعني أماني كفار قريش ولا أماني أهل الكتاب { من يعمل سوءا يجز به } يعني يعاقب عليه

ثم قال تعالى { ولا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا } يعني الكافر لا يجد لنفسه

{ من دون اللّه } أي من عذاب اللّه { وليا } يمنعه { ولا نصيرا } ينفعه ويمنعه من العذاب

١٢٤

ثم قال عز وجل { ومن يعمل من الصالحات } يعني يؤدي الفرائض وينتهي عن المحارم { من ذكر أو أنثى } أي من رجل أو امرأة { وهو مؤمن } يعني مصدق بالثواب والعقاب { فأولئك يدخلون الجنة } لا شك فيها { ولا يظلمون } أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم { نقيرا } وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة قرأ أبو عمرو وابن كثير { يدخلون } بضم الياء ونصب الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يدخلون } بنصب الياء وضم الخاء يعني أنهم يدخلون الجنة بأعمالهم

١٢٥

ثم فضل دين الإسلام على سائر الأديان فقال تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه } يعني أخلص { وجهه } أي دينه { وهو محسن } في عمله وقيل هو موحد { واتبع ملة إبراهيم حنيفا } يعني مستقيما ويقال مائلا إلى دين الإسلام

ثم قال تعالى { واتخذا اللّه إبراهيم خليلا } وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان يوسع على الضعفاء الطعام فاحتاج في بعض الأوقات إلى الطعام فبعث غلمانه مع الجمال إلى خليل له بمصر ليقرضه شيئا من الطعام فيرد عليه إذا أدرك إنزاله فلما انتهوا إليه فقال إني أخاف أن احتاج قبل إدراك الإنزال فلم يدفع إليهم شيئا فرجعوا فاستحيا الغلمان أن يدخلوا في قرية إبراهيم والناس ينظرون إليهم وليس معهم شيء شيئا فجعلوا الرمل في الجواليق وحملوا على الجمال وجاؤوا إلى منزل إبراهيم عليه السلام وألقوا الأحمال وتفرقوا وجاء واحد منهم وأخبر إبراهيم بالقصة فاغتم لذلك ودخل البيت ونام فخرجت جواريه ونظرن إلى الأحمال فإذا الجواليق دقيق فرفعن منها وجعلن يخبزن خبزا حتى إذا استيقظ إبراهيم عليه السلام وخرج وقال من أين هذا الدقيق فقلن من عند خليلك المصري فقال إبراهيم ليس هذا من عند خليلي المصري ولكن من عند خليل السماء فاتخذه اللّه تعالى خليلا بذلك

ويقال لما دخلت عليه الملائكة عليهم السلام في شبه الآدميين وجاءهم بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم أعطوني ثمنه وكلوه فقالوا وما ثمنه قال أن تقولوا في أوله بسم اللّه وفي آخره الحمد للّه فقالوا فيما بينهم حق على اللّه أن يتخذه خليلا فاتخذه اللّه خليلا

ويقال إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له ما حاجتك فقال حاجتي أن تسجدوا للّه سجدة فسجدوا فدعا اللّه تعالى وقال اللّهم إني قد فعلت

أمكنني فافعل أنت أهل ذلك فوفقهم اللّه تعالى للإسلام فاتخذه اللّه خليلا لذلك

وروى جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال اتخذ اللّه إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام

١٢٦

ثم قال عز وجل { وللّه ما في السموات وما في الأرض } كلهم عبيده وفي ملكه وحكمه نافذ فيهم { وكان اللّه بكل شيء محيطا } يعني أحاط علمه بها

١٢٧

قوله تعالى { ويستفتونك في النساء } يعني يسألونك عن ميراث النساء نزلت في أم كجة التي ذكرنا في أول السورة { قل اللّه يفتيكم فيهن } يعني يبين لكم ما لهن من الميراث { وما يتلى عليكم في الكتاب } يعني في كتاب اللّه تعالى يفتيكم بذلك { في يتامى النساء } يعني في ميراث يتامى النساء { اللاتي لا تؤتونهن } لا تعطونهن { ما كتب لهن } يعني ما فرض لهن من الميراث { وترغبون } يعني وتزهدون { أن تنكحوهن } لدمامتهن

وروى معمر عن إبراهيم قال كان الرجل يكون عنده اليتيمة الدميمة ولها مال فيكره أن يتزوجها من أجل دمامتها ويكره أن يزوجها من غيره من أجل مالها قال إبراهيم وكان عمر رضي اللّه عنه يأمر الرجل إذا كانت عنده اليتيمة ولها مال أن يتزوجها

وروى عروة عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت كانت يتيمة في حجر رجل فأراد أن يتزوجها ولم يكمل صداق نسائها فأمروا بإكمال الصداق وقال مجاهد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئا ويقولون لا يغزون ففرض اللّه تعالى لهم الميراث وأمر لليتيم بالقسط

ثم قال تعالى { والمستضعفين } يقول يسألونك عن ميراث المستضعفين { من الولدان } ويقال يفتيكم في المستضعفين من الولدان { وأن تقوموا } يعني يفتيكم أن تقوموا { لليتامى بالقسط } أي بالعدل { وما تفعلوا من خير فإن اللّه كان به عليما } يجازيكم وفي هذه الآية دليل على أن ما سوى الأب والجد إذا زوج اليتيمة جاز وفيها دليل أنه إذا زوج من نفسه جاز إذا كانت غير ذي رحم محرم منه

١٢٨

قوله تعالى { وإن امرأة خافت } يعني علمت { من بعلها } يعني من زوجها { نشوزا } يعني عصيانا في العشرة { أو إعراضا } عنها وترك محدثتها نزلت في ابنة محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الزبير تزوجها وهي شابة فلما أدبرت وعلاها الكبر تزوج عليها امرأة شابة وآثرها عليها وجفا بنت محمد بن مسلمة فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فشكت إليه فنزلت { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا } يعني ترك مجامعتها { أو إعراضا } يعني يعرض بوجهه عنها ويقل مجالستها ومحادثتها { فلا جناح عليهما } يعني لا إثم على الزوج والمرأة { أن يصلحا بينهما صلحا } قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { أن يصلحا } بضم الياء وهو من الصلح وقرأ الباقون { أن يصالحا } بالألف وتشديد الصاد لأن أصله يتصالحا فأدغمت التاء في الصاد وأقيم التشديد مكانه

ثم قال تعالى { والصلح خير } يعني الصلح خير من الفرقة ويقال الصلح خير من النشوز ويقال الصلح خير من الخصومة والخلاف وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا } قال قول الرجل لامرأته أنت كبيرة وإني أريد أن أستبدل بك شابة فقري على ولدك ولا أقسم لك من نفسي شيئا ورضيت بذلك فذلك الصلح بينهما قال وهذا قول أبي السنابل بن بعكك حين جرى بينهما هذا الصلح ثم صارت الآية عامة في جواز الصلح الذي يجري فيما بين الناس لقوله تعالى { والصلح خير }

ثم قال تعالى { وأحضرت الأنفس الشح } حملها على أن تدع نصيبها ويقال شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى وشح الرجل بنصيبه من الأخرى وقال مقاتل طمعها وحرصها يجرها إلى أن ترضى

ثم قال تعالى { وإن تحسنوا } يقول تحسنوا إليهن { وتتقوا } الميل والجور { فإن اللّه كان بما تعملون خبيرا } في الإحسان والجور

١٢٩

قوله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } يقول لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب أي بين الشابة والكبيرة { ولو حرصتم } يعني ولو جهدتم ولكن اعدلوا في القسمة والنفقة { فلا تميلوا كل الميل } بالنفقة والقسمة إلى الشابة { فتذروها كالمعلقة } بغير قسمة كالمسجونة لا أيم ولا ذات بع

وروي عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال من كان له أمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وفي رواية أخرى وأحد شقيه ساقط وروى أبو أيوب عن أبي قلابة قال كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل في القسمة ويقول اللّهم هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني الحب والجماع

ثم قال تعالى { وأن تصلحوا } يعني بينهما بالسوية { وتتقوا } الجور والميل { فإن اللّه كان غفورا رحيما } حيث رخص لكم في الصلح

١٣٠

ثم قال عز وجل { وإن يتفرقا } يعني الزوج والمرأه { يغني اللّه كلا من سعته } يعني من رزقه وقال مجاهد يعني الطلاق وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره بالنكاح فذهب الرجل وتزوج ثم جاء إليه فشكا إليه الفقر فأمره بالطلاق فسئل عن ذلك فقال أمرته بالنكاح وقلت لعله من أهل هذه الآية { إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله } النور٣٢ فلما لم يكن من أهل تلك الآية قلت فلعله من أهل هذه الآية { وإن يتفرقا يغن اللّه كلا من سعته } وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ { فتذروها كأنها مسجونة } ثم قال { وكان اللّه واسعا } يعني واسع الفضل { حكيما } حكم فرقتهما وتسويتهما

١٣١

ثم قال تعالى { وللّه ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا } يعني أمرنا { الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } يعني أهل التوراة والإنجيل { وإياكم } يعني أمرناكم يا أمة محمد في كتابكم { أن اتقوا اللّه } فيما أوصاكم به في كتابكم من التوحيد ثم من بعد التوحيد بالشرائع { وإن تكفروا } يقول تجحدوا بما أوصاكم وبوحدانية اللّه تعالى { فإن للّه ما في السموات وما في الأرض } يعني هو غني عن عبادتكم { وكان اللّه غنيا } عن إيمان الخلق وطاعتهم { حميدا } محمودا في أفعاله

١٣٢

وقوله تعالى { وللّه ما في السموات وما في الأرض } يعني كلهم عبيده وإماؤه ويقال هذا موصول بالأول { وكان اللّه غنيا حميدا } في أفعاله لأن له ما في السموات وما في الأرض وهو رازقهم والمدبر في أمورهم ثم قال { وكفى باللّه وكيلا } يعني حفيظا وربا

ثم ذكر التهديد لمن رجع عن طاعته

١٣٣

فقال { إن يشأ يذهبكم أيها الناس } يعني يهلككم

إذا عصيتموه { ويأت بآخرين } يعني يخلق خلقا غيركم من هو أطوع للّه منكم وهذا كما قال في آية أخرى { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثلكم } محمد ٣٨

ثم قال تعالى { وكان اللّه على ذلك قديرا } أي يذهبكم ويأت بغيركم ويقال في الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية أو إمارة أو رئاسة فلا يعدل في رعيته أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس أن يذهبه ويأتي بغيره

١٣٤

قوله تعالى { من كان يريد ثواب الدنيا } يعني من كان يطلب الدنيا بعمله الذي يعمل ولا يريد به وجه اللّه تعالى فليعمل على وجه التقديم لآخرته كما قال { فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة } يعني الرزق في الدنيا والثواب في الآخرة وهو الجنة ويقال في الآية مضمر فكأنه يقول { من كان يريد ثواب الدنيا } نؤته منها { ومن يرد ثواب الآخرة } نؤته منها { فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة } وقال الزجاج كان المشركون مقرين بأن اللّه تعالى خالقهم وأنه يعطيهم خير الدنيا فأخبر اللّه تعالى أن خير الدنيا والآخرة إليه وروي عن عيسى بن مريم إنه قال للحواريين أنتم لا تريدون الدنيا ولا الآخرة لأن الدنيا والآخرة للّه تعالى فاعبدوه إما لأجل الدنيا وأما لأجل الآخرة وروي في بعض الأخبار أن في جهنم واديا تتعوذ منه جهنم أعد للقراء المرائين

ثم قال تعالى { وكان اللّه سميعا بصيرا } يعني عالما بنية كل واحد وروى سهل بن سعد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال نية المؤمن خير من عمله وعمل المنافق خير من نيته وكل يعمل على نيته

١٣٥

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء للّه } يعني كونوا قوامين بالعدل وأقيموا الشهادة للّه بالعدل ومعناه قولوا الحق { ولو على أنفسكم } وإذا كانت عندكم شهادة فأدوا الشهادة ولو كانت الشهادة على أنفسكم { أو الوالدين والأقربين }

ثم قال { إن يكن غنيا أو فقيرا } يعني أدوا الشهادة لا تكتموها سواء كان لغني أو لفقير ولا تميلوا إلى الغني لأجل غناه ولا تكتموا الشهادة على الفقير لأجل فقره ويقال اشهدوا على الوالدين غنيين كانا أو فقيرين { فاللّه أولى بهما } يعني بالغني وبالفقير ويقال أولى بالوالدين وأرحم بهما إن كانا غنيين أو فقيرين { فلا تتبعوا الهوى } يعني لا تشهدوا بهواكم ولكن أشهدوا على ما أشهدتم عليه

ثم قال تعالى { أن تعدلوا } يعني اللّه تعالى أولى بهما أن تعدلوا على وجه التقديم والتأخير ويقال فلا تتبعوا الهوى أن لا تعدلوا وقال مقاتل يعني فلا تتبعوا الهوى للقرابة واتقوا اللّه أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى ثم قال تعالى { وإن تلووا } يعني تحرفوا الشهادة وتلجلجوا بها ألسنتكم فلا تقيموها على الوجه لتبطل به الشهادة { أو تعرضوا } عنها فلا تشهدوا بها عند الحاكم قرأ حمزة وابن عامر { وأن تلوا } بواو واحدة من الولاية يعني أقيموا الشهادة إذا وليتم وقرأ الباقون { تلووا } بواوين من التحريف { فإن اللّه كان بما تعملون } من كتمان الشهادة وإقامتها { خبيرا } يعني عالما فهذا تهديد للشهود لكيلا يقصروا في أداء الشهادة ولا يكتموا الشهادة وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من كان باللّه واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجحد لحق هو عليه وليؤده ولا يلجئه إلى السلطان والخصومة وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أكرموا الشهود فإن اللّه يحيي بهم الحقوق

١٣٦

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله } قال الضحاك يعني اخبار اهل الكتابين الذين آمنوا بموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام آمنوا باللّه ورسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقال الكلبي نزلت في عبد اللّه بن سلام وأسيد وأسد ابني كعب وثعلبة بن قيس وغيرهم قالوا يا رسول اللّه نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزيز ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بل آمنوا باللّه ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان من قبل فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } ويقال { يا أيها الذين آمنوا } خاطب به جميع المؤمنين { آمنوا باللّه } يعني اثبتوا على الإيمان ويقال { ياأيها الذين آمنوا } يعني يوم الميثاق { آمنوا باللّه ورسوله } ويقال نزلت في شأن أهل الكتاب لأنه علم أن فيهم من يؤمن فلقربهم من الإيمان سماهم مؤمنين كما قال { إنهم جند مغرقون } الدخان٢٤ وكانوا لم يغرقوا بعد ويقال إنهم كانوا يقولون نحن مؤمنون فقال لهم { يا أيها الذين آمنوا } يعني بزعمهم كما قال

{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } الدخان٤٩ يعني بزعمه قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائ

{ والكتاب الذي نزل } بنصب النون والزاي { والكتاب الذي أنزل } بنصب الألف وقرأ الباقون نزل بضم النون وكسر الزاي و { وأنزل } بضم الألف على معنى فعل ما لم يسم فاعله

ثم قال تعالى { ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } يعني من يجحد بوحدانية اللّه تعالى وملائكته أنهم عبيده وبرسله أنهم أنبياؤه وعبيده وبالبعث بعد الموت { فقد ضل } عن الهدى { ضلالا بعيدا } عن الحق

١٣٧

وقوله تعالى { إن الذين آمنوا ثم كفروا } وقال مقاتل يعني آمنوا بالتوراة وبموسى عليه السلام ثم كفروا من بعد موسى { ثم آمنوا } بعيسى عليه السلام والإنجيل { ثم كفروا } من بعده { ثم ازدادوا كفرا } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن ويقال إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم من قبل أن يبعث ثم كفروا به بعدما بعث { ثم ازدادوا كفرا } يعني ثبتوا على كفرهم وقال في رواية الكلبي آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا به بعده ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقال في رواية الضحاك نزلت في شأن أبي عامر الراهب وهو الذي بنى مسجد الضرار آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ثم كفر ثم آمن ثم مات على كفره وقال الزجاج يجوز أن يكون محاربا آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ويجوز أن يكون منافقا أظهر الإيمان وأبطن الكفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا بإقامته على النفاق فإن قيل إن اللّه تعالى لا يغفر كفرا مرة واحدة فأيش الفائدة في قوله { آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } قيل له لأن الكافر إذا أسلم فقد غفر له ما قد سلف من ذنبه فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر اللّه له الكفر الأول فهو مطالب بجميع ما فعل في كفره الأول فذلك قوله عز وجل { لم يكن اللّه ليغفر لهم } يعني إذا ماتوا على كفرهم { ولا ليهديهم سبيلا } يعني لا يوفقهم طريقا

١٣٨

ثم قال تعالى { بشر المنافقين } وذلك أنه لما نزل قوله تعالى { ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر } الفتح ٢ فقال المؤمنون هذا هنيئا لك فما لنا فنزل قوله تعالى { وبشر المؤمنين بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا } الأحزاب ٤٧ فقال المنافقون فما لنا فنزل قوله تعالى { بشر المنافقين } { بأن لهم عذابا أليما } يعني في الآخرة

ثم نعت المنافقين

١٣٩

فقال { الذين يتخذون الكافرين } يعني اليهود { أولياء } في العون والنصرة { من دون المؤمنين } ثم عيرهم بذلك فقال { أيبتغون عندهم العزة } يعني يطلبون عندهم المنعة والظفر على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى أصحابه العزة في اللغة المنعة والغلبة كما يقال من عز بز أي من غلب سلب ويقال عز الشيء إذا اشتد وجوده

ثم ذكر أنه لا نصرة لهم من الكفار وإنما النصرة من اللّه تعالى فقال { فإن العزة للّه جميعا} يعني الظفر والنصر كله من اللّه تعالى وهذا كما قال في آية أخرى { وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين } المنافقون ٨

١٤٠

ثم قال عز وجل { وقد نزل عليكم في الكتاب } وذلك أن المشركين بمكة كانوا يستهزئون بالقرآن فنهى اللّه تعالى المسلمين عن القعود معهم وهو قوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم } إلى قوله { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين } الأنعام ٦٨ فامتنع المسلمون عن القعود معهم فلما قدموا المدينة كانوا يجلسون مع اليهود والمنافقين وكان اليهود يستهزئون بالقرآن فنزل { فقد نزل عليكم في الكتاب } يعني في سورة الأنعام { أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها } يعني يجحد بها { ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } يعني فلا تجلسوا معهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } يعني حتى يأخذوا في كلام آخر

ثم قال { إنكم إذا مثلهم } يعني لو جلستم معهم كنتم معهم في الوزر وفي هذه الآية دليل أن من جلس في مجلس المعصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها فإن لم يقدر بأن ينكر عليهم ينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية وروى جويبر عن الضحاك أنه قال دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة قرأ عاصم { وقد نزل عليكم } بنصب النون والزاي وقرأ الباقون بضم النون وكسر الزاي على معنى فعل ما لم يسم فاعله

ثم قال تعالى { إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } يعني إذا ماتوا على كفرهم ونفاقهم فبدأ بالمنافقين لأنهم أشد من الكفار وجعل مأواهم جميعا النار وقال الكلبي رواية في قوله تعالى { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } نسخ بقوله تعالى { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } الأنعام ٦٩ وقال عامة المفسرين إنها محكمة وليست بمنسوخة

١٤١

ثم أخبر عن المنافقين فقال عز وجل { الذين يتربصون بكم } يعني ينتظرون بكم الدوائر وهو تغير الحال عليكم { فإن كان لكم فتح من اللّه } يعني النصرة والغلبة على العدو { قالوا ألم نكن معكم } فأعطونا من الغنيمة { وإن كان للكافرين نصيب } يعني الظفر والغلبة على المؤمنين { قالوا } للكفار { ألم نستحوذ عليكم } يعني ألم نخبركم بعورة المسلمين ونطلعكم على سرهم ونخبركم عن حالهم ويقال { ألم نستحوذ عليكم } يعني ألم نغلب عليكم بالموالاة والاستحواذ هو الاستيلاء على الشيء كقوله { استحوذ عليهم الشيطن } المجادلة ١٩ ثم قال { ونمنعكم من المؤمنين } يعني نجادل المؤمنين عنكم ونجنبهم عنكم

قال اللّه تعالى { فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة } يعني بين المؤمنين والمنافقين والكافرين { ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا } بأنهم يسلطون علينا ويقال دولة دائمة يعني لا تدوم دولتهم وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه سئل عن قوله عز وجل { ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا } وهم يسلطون علينا ويغلبوننا فقال لا يسلط الكافر على المؤمن في الآخرة في يوم القيامة

ثم بين حال المنافقين في الدنيا وخداعهم

١٤٢

 فقال عز وجل { إن المنافقين يخادعون اللّه } يعني يظنون أنهم يخادعون اللّه { وهو خادعهم } يعني يجازيهم جزاء خداعهم وهو أنهم يمشون مع المؤمنين على الصراط يوم القيامة ثم يسلبهم فيبقون في ظلمة ثم قال { وإذا قاموا إلى الصلاة } يعني المنافقين { قاموا كسالى } يعني متثاقلين { يراؤون الناس } يعني لا يرونها حقا ويصلون مراءاة للناس وسمعة { ولا يذكرون اللّه إلا قليلا } قال ابن عباس لو كان ذلك القليل للّه تعالى لكان كثيرا وتقبل منهم ولكن لم يريدوا به وجه اللّه تعالى

١٤٣

ثم قال تعالى { مذبذبين بين ذلك } يعني مترددين ويقال متفحصين بين ذلك { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } يعني ليسوا مع المؤمنين في التصديق ولا مع اليهود في الظاهر { ومن يضلل اللّه } يعني من يخذله اللّه عن الهدى { فلن تجد له سبيلا } يعني مخرجا

١٤٤

ثم قال عز وجل { يا أيها الذين آمنوا } أي صدقوا قال مقاتل الذين آمنوا بزعمهم وهم المنافقون { ولا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } ويقال { يا أيها الذين آمنوا } في الظاهر وأسروا النفاق ويقال يعني المؤمنين المخلصين كانت بينهم وبين اليهود صداقة وكانوا يأتونهم فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك فقال { لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } ثم قال { أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطانا مبينا } يعني حجة بينة في الآخرة

١٤٥

ثم بين مأوى المنافقين في الآخرة فقال { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } المنافق في اللغة اشتقاقه من نافقاء اليربوع ويقال لليربوع حجران أحدهما نافقاء والآخر قاصعاء فيظهر نفسه في أحدهما ويخرج من الآخر ولهذا يسمى المنافق منافقا لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم ويخرج عن الإسلام إلى الكفر قرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي وعاصم { الدرك } بجزم الراء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان الدرك والدرك وجمعهما أدراك وهي المنازل بعضها أسفل من بعض فأعد للمنافقين الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية ثم قال { ولن تجد لهم نصيرا } يعني مانعا يمنعهم من العذاب

١٤٦

ثم قال عز وجل { إلا الذين تابوا } من النفاق { وأصلحوا } أعمالهم { واعتصموا باللّه } يعني تمسكوا بدين اللّه تعالى وبتوحيده { وأخلصوا دينهم للّه } يعني بتوحيدهم للّه بالإخلاص فإن فعلوا ذلك { فأولئك مع المؤمنين } يعني المصدقين على دينهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم

ثم قال { وسوف يؤت اللّه المؤمنين } يعني يعطي اللّه المؤمنين { أجرا عظيما } يعني ثوابا عظيما في الآخرة وفي هذه الآية دليل أن المنافقين هم أشر خلق اللّه تعالى لأنه أوعدهم الدرك الأسفل من النار ثم استثنى لهم أربعة أشياء التوبة والإخلاص والإصلاح والاعتصام ثم قال بعد هذا كله { فأولئك مع المؤمنين } ولم يقل هم المؤمنون ثم قال { وسوف يؤت اللّه المؤمنين } ولم يقل سوف يؤتيهم اللّه بغضا لهم وإعراضا عنهم والمنافقون هم الزنادقة والقرامطة الذين هم بين المؤمنين يظهرون من أنفسهم الإسلام وإذا اجتمعوا فيما بينهم يسخرون بالإسلام وأهله فهم من أهل هذه الآية ومأواهم الهاوية

١٤٧

قوله تعالى { ما يفعل اللّه بعذابكم } يعني ما يصنع اللّه بعذابكم { إن شكرتم } يعني إن آمنتم باللّه تعالى ووحدتموه ويقال معناه ما حاجة اللّه إلى تعذيبكم لو كنتم موحدين شاكرين له { وآمنتم } به وصدقتم رسله ثم قال { وكان اللّه شاكرا } يعني { شاكرا } للقليل من أعمالكم { عليما } بأعمالكم وثوابكم ويقال { شاكرا } يقبل اليسير ويعطي الجزيل { عليما } بما في صدوركم ويقال { عليما } بمن شكر وآمن فلا يعذب شاكرا ولا مؤمنا

١٤٨

قوله تعالى { لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول } يعني لا يحب أن يذكر بالقول القبيح أحد من الناس { إلا من ظلم } فيقتص من القول بمثل ما ظلم فلا حرج عليه نزلت الآية في شأن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه شتمه رجل فسكت أبو بكر مرارا ثم رد عليه ويقال { إلا من ظلم } فيدعو اللّه تعالى على ظالمه وقال الفراء { إلا من ظلم } يعني ولا من ظلم وقال السدي قوله { إلا من ظلم } فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح وقال الضحاك { لا يحب اللّه الجهر بالسوء } أي لا يحب لكم أن تنزلوا برجل فإذا ارتحلتم عنه تذمون طعامه إلا رجلا أردتم النزول عليه عند حاجتكم فمنعكم وقال مجاهد هو في الضيافة إذا دخل الرجل المسافر إلى القوم يريد أن ينزل عليهم فلم يضيفوه فقد رخص له أن يذكر كلاما عنهم يقول فيهم ويقال يعني يسبه بمثل ما سبه ما لم يكن كلاما فيه حد أو كلمة لا تصلح ولو لم يقل لكان أفضل وقرأ بعضهم { إلا من ظلم } بالفتح متصل بقوله { ما يفعل اللّه بعذابكم } { إلا من ظلم } يعني إلا من أشرك باللّه وهو شاذ من القراءة ثم قال { وكان اللّه سميعا } يعني دعاء المظلوم { عليما } بعقوبة الظالم

ثم أخبر عن التجاوز أنه خير من الانتصار

١٤٩

فقال عز وجل { وإن تبدوا خيرا } يعني إن تظهروا حسنة { أو تخفوه } يعني الحسنة { أو تعفوا عن سوء } يعني يتجاوز عن ظالمة ولا يجهر بالسوء عنه فهذا أفضل لأن اللّه تعالى قادر على عباده فيعفو عنهم وهو قوله { فإن اللّه كان عفوا قديرا } يعني أن اللّه قادر على العقوبة لكم فيعفو عنكم

١٥٠

قوله تعالى { إن الذين يكفرون باللّه ورسله } قال ابن عباس نزلت الآية في أهل الكتاب يؤمنون بموسى وعيسى عليهما السلام ويكفرون بغيرهما وهو قوله { ويريدون أن يفرقوا بين اللّه ورسله } يعني يريدون أن يتخذوا دينا لم يأمر به اللّه ورسوله به قوله { ويقولون نؤمن ببعض } بموسى وعزير والتوراة { ونكفر ببعض } بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وبعيسى والإنجيل { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } يعني بين اليهودية والإسلام

١٥١

قوله تعالى { أولئك هم الكافرون حقا } حين كفروا ببعض الرسل { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } يهانون فيه

١٥٢

قوله تعالى { والذين آمنوا باللّه ورسله } يعني أقروا بوحدانية اللّه تعالى وصدقوا بجميع

الرسل { ولم يفرقوا بين أحد منهم } في الإيمان والتصديق يعني لم يكفروا ولم يجحدوا بأحد من الأنبياء والرسل عليهم السلام ويصدقون بجميع الكتب { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { سوف نؤتيهم أجورهم } يعني سنعطيهم ثوابهم في الجنة { وكان اللّه غفورا } لذنوبهم { رحيما } لما كان منهم في الشرك قرأ عاصم في رواية حفص { يؤتيهم } بالياء وقرأ الباقون { نؤتيهم } بالنون

١٥٣

قوله تعالى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } يعني جملة واحدة كما جاء به موسى عليه السلام ويقال إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وأصحابهما قالوا لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا تحمله الملائكة إلينا فتقرؤه قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } يعني إن هؤلاء من أصل أولئك القوم الذين { فقالوا } لموسى عليه السلام { أرنا اللّه جهرة } يعني عيانا وهم القوم الذين ساروا مع موسى عليه السلام إلى طور سيناء { فأخذتهم الصاعقة } يعني أحرقتهم النار { بظلمهم } يعني بقولهم وسؤالهم { ثم اتخذوا العجل } يعني ومع ذلك قد عبدوا العجل وهم قوم موسى عليه السلام في حال غيبته { من بعد ما جاءتهم البينات } يعني جاءهم موسى عليه السلام بالآيات والعلامات { فعفونا عن ذلك } كله ولم نستأصلهم { وآتينا موسى سلطانا مبينا } يعني حجة بينة وهي اليد والعصا

١٥٤

{ ورفعنا فوقهم } يقول رفعنا فوقهم الطور { الطور بميثاقيهم } يعني بإقرارهم بما في التوراة حتى أبوا أن يقبلوا الشرائع { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا } يعني باب أريحة منحنية أصلابهم { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } يقول لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت قرأ نافع في رواية ورش { لا تعدوا } بالتشديد لأن أصله لا تعتدوا فأدغم التاء في الدال وأقيم التشديد مقامه وقرأ الباقون { ولا تعدوا } بالتخفيف من عدا يعدو عدوانا

ثم قال تعالى { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } يعني إقرارا وثيقا شديدا في التوراة يعني تركوا هذه الأشياء كلها ونقضوا الميثاق

١٥٥

ثم قال عز وجل { فبما نقضهم ميثاقهم } ولم يذكر في هذه الآية جوابهم والجواب فيه مضمر فكأنه قال وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فنقضوا الميثاق فبنقضهم الميثاق لعنهم اللّه تعالى وخذلهم كقوله { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } النساء ١٥٥

ثم قال { وكفرهم بآيات اللّه } يعني بكفرهم بآيات اللّه لعنهم اللّه وخذلهم { وقتلهم الأنبياء بغير حق } يعني بغير جرم { وقولهم قلوبنا غلف } يعني ذات أغلفة فلا نفقة حديثك وقرأ بعضهم { غلف } بضم اللام وهو جمع الغلاف يعني أن قلوبنا أوعية لكل علم ولا نفقة حديثك

قال اللّه تعالى { بل طبع اللّه عليها } يعني ختم اللّه على قلوبهم { بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا } يعني لا يؤمنون إلا القليل منهم ويقال لا يؤمنون إلا بالقليل لأنهم آمنوا ببعض وكفروا ببعض وقال مقاتل يعني ما أقل ما يؤمنون يقول بأنهم لا يؤمنون البتة

١٥٦

ثم قال تعالى { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } وذلك أن مريم كانت متعبدة ناسكة اصطفاها اللّه تعالى بولد بغير أب فعيرها اليهود واتهموها وقذفوها بيوسف بن ماثان وكان يوسف خادم بيت المقدس ويقال كان ابن عمها فأنزل اللّه تعالى إكذابا لقولهم وبين بهتانهم فقال { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } يعني لعنهم اللّه وخذلهم بذلك

١٥٧

{ وقولهم } يعني وبقولهم { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه } هذا قول اللّه لا قول اليهود وقول اليهود إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم

ثم قال اللّه تعالى { رسول اللّه } يعني الذي هو رسول اللّه تعالى وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتله هرب منهم ودخل في بيت فأمر ملك اليهود رجلا يدخل البيت يقال له يهوذا ويقال ططيانوس فجاء جبريل عليه السلام ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء فلما دخل الرجل إلى البيت لم يجده فألقى اللّه تعالى شبه عيسى عليه فلما خرج ظنوا أنه عيسى فقتلوه وصلبوه ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى فاختلفوا فيما بينهم فأنزل اللّه تعالى إكذابا لقولهم فقال { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } يعني ألقي شبه عيسى على غيره فقتلوه

ثم قال تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } من قتله { ما لهم به من علم } يعني لم يكن عندهم علم يقين أنه قتل أو لم يقتل { إلا اتباع الظن } يعني قالوا قولا بالظن { وما قتلوه يقينا } يعني لم يستيقنوا بقتله ويقال { ما قتلوه } يعني يقينا أنهم لم يقتلوه

١٥٨

 { بل رفعه اللّه إليه } وقال مقاتل بل رفعة اللّه إلى السماء في شهر رمضان ليلة القدر وقال الضحاك رفعة

اللّه إلى السماء في يوم عاشوراء بين الصلاتين يعني بين المغرب والعشاء ثم قال { وكان اللّه عزيزا } يعني منيعا حين منع عيسى من القتل { حكيما } حين حكم رفعه إلى السماء

١٥٩

قوله تعالى { وإن من أهل الكتاب } يقول وما من أهل الكتاب { إلا ليؤمنن به } يعني بعيسى عليه السلام { قبل موته } وذلك أن اليهودي إذا حضرته الوفاة وعاين أمر الآخرة ضربته الملائكة وقالت له يا عدو اللّه أتاك عزيز فكذبته ويقال للنصراني يا عدو اللّه أتاك عبد اللّه ورسوله عيسى عليه السلام فزعمت أنه ابن اللّه فيؤمن عند ذلك ويقر أنه عبد اللّه ورسوله ولا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ويكون إيمانهم عليهم شهيدا يوم القيامة وروي عن مجاهد أنه قال ما من أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام قبل موته فقيل له وإن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى عليه السلام فقال نعم وروي أن الحجاج بن يوسف سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان فقال له شهر بن حوشب إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد اللّه ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه فقال له الحجاج من أين أخذت هذا قال أخذته من محمد بن الحنفية فقال له الحجاج أخذت من عين صافية وروي عن سعيد بن جبير أنه قال { قبل موته } يعني قبل موت عيسى عليه السلام هكذا قال الحسن

قال الفقيه حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } قال قبل موت عيسى واللّه إنه لحي عند اللّه الآن ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون وروي عن ابن عباس أنه قال يمكث عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنة نبيا إماما مهديا ثم يموت وتصلي عليه هذه الأمة وقال الضحاك يهبط عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بعد خروج الدجال فيكون هبوطه على صخرة بيت المقدس ثم يقتل الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس ولا يبقى على وجه الأرض يهودي ولا نصراني إلا آمن بالمسيح ودخل في الإسلام

ثم قال تعالى { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } يعني يكون عليهم عيسى عليه السلام شهيدا بأنه قد بلغهم الرسالة

١٦٠

قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } يعني بشركهم حرمنا عليهم أشياء كانت حلالا لهم وهو كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم أحلت لهم { ويصدهم عن سبيل اللّه كثيرا } يعني بصرفهم كثيرا من الناس عن دين اللّه على وجه التقدي

١٦١

{ وأخذهم الربا } يعني حرم عليهم الحلال بكفرهم وبصرف الناس عن دين اللّه تعالى وبأخذهم الربا { وقد نهوا عنه } يعني عن أخذ الربا في التوراة { وأكلهم أموال الناس بالباطل } وهو أخذ الرشوة في الحكم { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } يعني هيأنا لهم عذابا وجيعا دائما

١٦٢

قوله تعالى { لكن الراسخون في العلم منهم } يعني المبالغون في العلم الذين أدركوا علم الحقيقة وهم مؤمنو أهل الكتاب وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا فنزل { لكن الراسخون في العلم منهم } يصدقون بما أنزل إليك أنه الحق ويقال إن مؤمني أهل الكتاب يعلمون أن الذي أنزل إليك من القرآن هو الحق وأنك نبي مبعوث وهو مكتوب عندهم

ثم قال { والمؤمنون } يعني أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } يعني يصدقون بالقرآن وبالكتب التي أنزلت قبل القرآن

ثم وصفهم فقال { والمقيمين الصلاة } قال بعض الجهال هذا غلط من الكاتب حين كتب مصحف الإمام كان ينبغي أن يكتب والمقيمون فأوهم وكتب والمقيمين واحتج بما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت ثلاثة أحرف في المصحف غلط من الكاتب قوله { والمقيمين الصلاة } وقوله { والصابئون والنصارى } وقوله { إن هذان لساحران }

وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ولكن هذا بعيد عند أهل العلم والخبر لم يثبت عن عثمان ولا عن عائشة لأن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا حماة الدين والقدوة في الشرائع والأحكام فلا يظن بهم أنهم تركوا في كتاب اللّه تصحيفا يصلحه غيرهم وهم أخذوه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى في قوله { والمقيمين الصلاة }

قال بعضهم يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة يعني بالنبيين المقيمين الصلاة

وقال بعضهم { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون } ومن المقيمين الصلاة { يؤمنون بما أنزل إليك }

ثم قال تعالى { والمؤتون الزكاة } يعني الذين يعطون الزكاة المفروضة { والمؤمنون باللّه واليوم الآخر } يعني المقرون بوحدانية اللّه تعالى وبالبعث بعد الموت ثم قال { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { سنؤتيهم أجرا عظيما } يعني يعطيهم اللّه في الآخرة ثوابا عظيما هو الجنة قرأ حمزة { سيؤتيهم } بالياء وقرأ الباقون بالنون

١٦٣

قوله تعالى { إنا أوحينا إليك } يعني أرسلنا إليك جبريل { كما أوحينا إلى نوح } يعني كما أرسلنا إلى نوح عليه السلام ويقال { أوحينا إليك } بأن تثبت على التوحيد وتأمر الناس بالتوحيد { كما أوحينا إلى نوح } بأن يثبت على التوحيد ويدعو الناس إلى التوحيد { والنبيين من بعده } يعني أوحينا إليهم بذلك { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق } وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام { ويعقوب } وهو ابن إسحق { والأسباط } وهم أولاد يعقوب عليه السلام كانوا اثني عشر سبطا أوحينا إلى أنبيائهم بأن يثبتوا على التوحيد ويدعوا الناس إلى ذلك { و } أوحينا إلى { عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } قرأ حمزة { زبورا } بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن ومعناهما واحد وهو عبارة عن الكتاب

١٦٤

ثم قال عز وجل { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل } يعني قد سميناهم لك من قبل يعني بمكة { ورسلا لم نقصصهم عليك } يعني لم نسمهم لك وقد أرسلناك كما أرسلنا هؤلاء وروي عن كعب الأحبار أنه قال كان الأنبياء عليهم السلام ألفي ألف ومائتي ألف وقال وقاتل كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائه ألف وأربعة وعشرين ألفا

وروي عن أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد القاضي قال حدثنا إبراهيم بن خشيش البصري عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال قلت يا رسول اللّه كم كانت الأنبياء عليهم السلام وكم كان المرسلون فقال صلّى اللّه عليه وسلّم كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر

ثم قال تعالى { وكلم اللّه موسى تكليما } قال بعضهم معناه أنه قد أوحى إليه وإنما سماه كلاما على وجه المجاز كما قال في آية أخرى { أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو يتكلم } الروم ٣٥ يعني يستدلون بذلك والعرب تقول قال الحائط كذا وكذا وقال عامة المفسرين وأهل العلم إن هذا كلام حقيقة لا مجازا لأنه قد أكده بالمصدر حيث قال { وكلم اللّه موس تكليما} والمجاز لا يؤكد لأنه لا يقال قال الحائط قولا فلما أكده بالمصدر نفى عنه المجاز وقال في موضع آخر { إنما قولنا لشيء أردنه أن نقول له كن فيكون } النحل ٤٠ وقد أكده بالتكرار ونفى عنه المجاز وقال في موضع آخر { وما كان لبشر أن يكلمه اللّه إلا وحيا } الشورى ٥١ يعني الأنبياء الذين لم يكونوا مرسلين فأراهم في المنام أو من وراء حجاب بكلمة مثل ما كلم موسى أو يرسل رسولا وهو رسالة جبريل عليه السلام إلى المرسلين

١٦٥

ثم قال عز وجل { رسلا مبشرين ومنذرين } يعني أرسلنا رسلا مبشرين بالجنة ومنذرين بالنار { لئلا يكون } يقول { لكيلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل } يعني بعد إرسال الرسل كي لا يقولوا يوم القيامة إنك لم ترسل إلينا رسولا ولو أن اللّه تعالى لم يرسل رسولا كان ذلك عدلا منه إذا أعطى كل واحد من خلقه من العقل ما يعرفه ولكن أرسل تفضلا منه ولكي يكون زيادة في الحجة عليهم

ثم قال تعالى { وكان اللّه عزيزا } بالنقمة لمن يجحده { حكيما } حكم إرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام

١٦٦

قوله تعالى { لكن اللّه يشهد بما أنزل إليك } قال ابن عباس وذلك أن رؤساء مكة أتوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم فأتنا بمن يشهد لك بأنك نبي مبعوث ويظهر نبوتك فنزل { لكن اللّه يشهد } يعني إن لم يشهد لك أحد منهم فاللّه تعالى أعظم شهادة من خلقه هو يشهد لك بأنك نبي ويظهر نبوتك

قال القتبي هذا من الاختصار لأنه لما نزل { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح } سورة النساء ١٦٣ قال المشركون لا نشهد لك بهذا فمن يشهد لك فنزلت هذه الآية حكاية قولهم فقال تعالى { لكن اللّه يشهد } { بما أنزل إليك } لأن كلمة { لكن } إنما تجيء بعد نفي شيء فوجب ذلك الشيء بها

ثم قال تعالى { أنزله بعلمه } يعني يأمره ويقال أنزل القرآن الذي فيه علمه

ثم قال { والملائكة يشهدون } أيضا على شهادتك بالذي شهدت أنه حق { وكفى باللّه شهيدا } فلا أحد أفضل من اللّه تعالى بأنه أنزل القرآن عليك

١٦٧

قوله تعالى { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه } يعني صرفوا الناس عن دين اللّه { قد ضلوا } عن الحق { ضلالا بعيدا } يعني بعيدا عن الحق

١٦٨

ثم قال عز وجل { إن الذين كفروا وظلموا } يعني جحدوا وأشركوا { لم يكن اللّه ليغفر لهم } يعني ما داموا على شركهم { ولا ليهديهم طريقا } يعني لا يوفقهم لطريق الإسلام { إلطريق جهنم} يعني يتركهم ويخذلهم في طريق الكفر عقوبة لكفرهم ولجحودهم وهو طريق جهنم ويقال إلا العمل الذي يجرهم إلى جهنم

وقال الضحاك لا يهديهم طريقا يوم القيامة يعني لا يرفع لهم إلا طريق جهنم وذلك أن اليهود أهل الإيمان يرفع لهم في الموقف طريق تأخذ بهم إلى الجنة ويرفع لأهل الكفر طريق ينتهي بهم إلى النار

١٦٩

ثم قال { خالدين فيها أبدا } يعني دائمين فيها { وكان ذلك على اللّه يسيرا } يعني خلودهم وعذابهم في النار هين على اللّه تعالى

١٧٠

 

قوله تعالى { يا أيها الناس } قال ابن عباس يعني يا أهل مكة { قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم } أي بشهادة أن لا إله إلا اللّه ويقال ببيان الحق ويقال بالحق يعني بالفرض والحجة وقوله { قد جاءكم } على وجه المجاز لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد كان فيهم ولكن معناه أنه قد ظهر فيكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما قال في آية أخرى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } سورة التوبة ١٢٨ أي ظهر فيكم ثم قال { فآمنوا خيرا لكم } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى والقرآن الذي جاءكم به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم خير لكم من عبادة الأوثان لأن عبادة الأوثان لا تغنيكم شيئا

١٧١

ثم قال تعالى { وإن تكفروا } يعني إن تجحدوا باللّه وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فإن اللّه غني عنكم { فإن للّه ما في السموات والأرض } كلهم عبيده وإماؤه { وكان اللّه عليما } بخلقه { حكيما } في أمره

ثم قال عز وجل { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قال الضحاك يعني لا تكذبوا في دينكم وقال بعض أهل اللغة الغلو مجاوزة القدر في الظلم ويقال الغلو أن تتجاوز لما حد لك وقال القتبي لا تفرطوا في دينكم فإن دين اللّه بين المقصر والغالي وغلا في القول إذا تجاوز المقدار وقال ابن عباس وذلك أن اليعقوبية وهم صنف من النصارى قالوا عيسى هو اللّه وقالت النسطورية هو ابن اللّه وقالت المرقوسية هو ثالث ثلاثة فنزل { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قال مقاتل الغلو في الدين أن يقول على اللّه غير الحق ويقال لا تتعمقوا في دينكم

ثم قال تعالى { ولا تقولوا على اللّه إلا الحق } يعني لا تصفوا باللّه بما لا يليق بصفاته فإن اللّه تعالى واحد لا شريك له ولا ولد له

ثم قال تعالى { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم } وهو قوله { كن فيكون } سورة النحل ٤٠ثم قال { وروح منه } قال ابن عباس في رواية الكلبي يعني أمر منه فأتاها جبريل فنفخ في جيب درعها فدخلت تلك النفخة بطنها فحملت بعيسى ثم وصل إلى عيسى ابن مريم فتحرك في بطنها وأمه أمة اللّه تعالى

ثم قال تعالى { فآمنوا باللّه ورسله } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى وبما جاءكم به الرسل من اللّه تعالى { ولا تقولوا ثلاثة } يعني لا تقولوا إن اللّه ثالث ثلاثة ثم قال { انتهوا خيرا لكم } يقول توبوا إلى اللّه تعالى من مقالتكم فالتوبة خير لكم من الإصرار على الكفر

ثم قال تعالى { إنما اللّه إله واحد } ثم نزه نفسه عما قال الكفار فقال { سبحانه أن يكون له ولد } ثم قال { وله ما في السموات وما في الأرض } من الخلق { وكفى باللّه وكيلا } يعني كفيلا ويقال شاهدا ولا شاهد أفضل من اللّه تعالى

١٧٢

قوله تعالى { لن يستنكف المسيح } يعني لن يتعظم ولن يأنف ولن يتكبر ويقال لن يحتشم { أن يكون عبدا للّه } وذلك ان وفد نجران أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان عبد اللّه ورسوله فقالوا لا تقل هكذا فإن عيسى يأنف عن هذا القول فنزل تكذيبا لقولهم { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا للّه } يعني كان عيسى مقرا بالعبودية ثم قال { ولا الملائكة المقربون } يعني حملة العرش لم يأنفوا عن الإقرار بالعبودية وقال مقاتل الملائكة المقربون أقرب إليه فلم يأنفوا عن عبادته فكيف يأنف عيسى عليه السلام عن عبادته وهو عبد من عباده

ثم قال تعالى { ومن يستنكف } يعني يتعظم { عن عبادته ويستكبر } والاستكبار هو الاستنكاف يقال استنكف واستكبر يعني استكبر عن طاعته { فسيحشرهم إليه جميعا } يأمر بهم إلى النار

١٧٣

ثم قال عز وجل { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { فيوفيهم أجورهم } يعني يوفر لهم ثواب أعمالهم { ويزيدهم من فضله } يعني من رزقه في الج

ثم قال تعالى { وأما الذين استنكفوا واستكبروا } عن عبادة اللّه تعالى { فيعذبهم عذابا أليما } وجيعا دائما { ولا يجدون لهم من دون اللّه } يعني عذاب اللّه { وليا } يعينهم { ولا نصيرا } يعني مانعا يمنعهم من عذاب اللّه تعالى

١٧٤

ثم قال عز وجل { يا أيها الناس } يعني يا أهل مكة { قد جاءكم برهان من ربكم } يعني بيانا من ربكم وحجة من ربكم وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { وأنزلنا إليكم نورا مبينا } يعني بيانا من العمى وبيان الحلال وهو القران

١٧٥

قوله تعالى { فأما الذين آمنوا باللّه } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى { واعتصموا به } يعني تمسكوا بدينه { فسيدخلهم في رحمة منه } يعني الجنة { وفضل } يعني الثواب { ويهديهم إليه } يعني يرشدهم إلى دينه ويوفقهم لذلك وفي الآية تقديم وتأخير فكأنه يقول يهديهم في الدنيا { صراطا مستقيما } يعني دينا لا عوج ويثيبهم على ذلك ويدخلهم في الآخرة في رحمة منه وفضل وهو الجنة والكرامة

١٧٦

قوله تعالى { يستفتونك } يعني يسألونك عن حكم الميراث { قل اللّه يفتيكم في الكلالة } روي عن قتادة أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد وكذلك

قال ابن عباس وروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال إني قد رأيت رأيا فإن يكن صوابا فمن اللّه وإن يكن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان الكلالة ما عدا الوالد والولد وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال ثلاث لئن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينهن لنا كان أحب إلي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة وأبواب الربا

وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن الكلالة فقال ألم تر الآية التي أنزلت في النساء { قل اللّه يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد} يعني هذا تفسير الكلالة وهذه الآية نزلت في شأن جابر بن عبد اللّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال إن لي أختا فما لي من ميراثها فنزلت هذه الآية فبين ميراث جابر أولا ثم ميراث أخته فصارت الآية عامة لجميع الناس

قال تعالى { إن امرؤ هلك } يعني إن مات رجلا { ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } من المال { وهو يرثها } يعني إذا ماتت الأخت والأخ حي ورثها { إن لم يكن لها ولد } وقد ذكرت الآية حكم الأخ والأخت إذا لم يكن لهما ولد ولم يبين أنه لو كان لأحدهما ولد فمات أحدهما فما حكمه ولكن بين على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن الأخ إذا مات وترك أبنة وأختا أن للابنة النصف وما بقي فللأخت وإن كانت الأخت هي التي ماتت وتركت ابنة وأخا فللأبنة النصف وما بقي فللأخ وفي هذا إجماع وفي الأول اختلاف

قال ابن عباس رضي اللّه عنه لا ترث الأخت مع الابنة شيئا وخالفه جميع الصحابة رضي اللّه عنهم وقالوا كلهم الأخت مع البنات عصبة

ثم قال تعالى { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } يعني إذا كان للميت أختان أو أكثر فلهما الثلثان إذا كانتا اثنتين وإن كن أكثر من ذلك فلهن الثلثان أيضا بالإجماع

ثم قال { وإن كانوا أخوة رجالا ونساء } يعني أخوة وأخوات { فللذكر مثل حظ الأنثيين } يعني لكل أخ سهمان ولكل أخت سهم هذا إذا كانت الإخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب خاصة فأما إذا كانوا من قبل الأم فهم شركاء في الثلث ليس لهم أكثر من ذلك كما ذكر في أول السورة وهذا بالإجماع

ثم قال تعالى { يبين اللّه لكم أن تضلوا } يعني يبين اللّه لكم قسمة المواريث لكي لا تضلوا ولا تخطئوا في قسمتها وقد يحذف لا فيراد به إثباته كقوله { وألقى فى الأرض روسى أن تميد بكم } سورة لقمان١٠ يعني أن لا تميد بكم وقد يثبت ويراد به حذفه كقوله تعالى { قال ما منعك ألا تسجد } سورة الأعراف١٢ يعني أن تسجد وكقوله { فلا أقسم } سورة القيامة١ يعني أقسم

ثم قال { واللّه بكل شيء عليم } من قسمة المواريث وغيره يعني اتبعوا ما أنزل اللّه تعالى وبين لكم في كتابه واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما

﴿ ٠