٣

قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } يعني حرم عليكم أكل الميتة والميتة كل ما مات حتف أنفه بغير ذكاة فهو حرام إلا الجراد والسمك فقد أباحها على لسان رسول اللّه حيث

قال صلّى اللّه عليه وسلّم أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال ثم قال { والدم } يعني حرم عليكم أكل الدم وشربه وهو الدم المسفوح كما قال في آية أخرى { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } الأنعام ١٤٥وأما الدم الذي بقي بعد الأنهار فهو مباح مثل الطحال والكبد والصفرة التي بقيت في اللحم ثم قال { ولحم الخنزير } يعني أكل لحم الخنزير فذكر اللحم والمراد به اللحم والشحم وغير ذلك وهذا حرام بإجماع المسلمين

ثم قال { وما أهل لغير اللّه به } يعني حرم عليكم أكل ما ذبح لغير اللّه وأصل الإهلال رفع الصوت ومنه استهلال الصبي وإهلال الحج وإنما سمي الذبح إهلالا لأنهم كانوا يرفعون الصوت عند الذبح بذكر آلهتهم فحرم اللّه تعالى ذلك

ثم قال { والمنخنقة } وهي الشاة التي تخنق فتموت وكان بعض أهل الجاهلية يستحلون ذلك ويأكلونها

ثم قال { والموقوذة } يعني حرم عليكم أكل الموقوذة وهي التي تضرب بالخشب فتموت وأصله في اللغة هو الإشراف على الهلاك فإذا ضرب بالخشب حتى يشرف على الموت ثم يتركه يقال موقوذة ويقال فلان وقيذ وقذته العبادة أي ضعف وأشرف على الهلاك

ثم قال { والمتردية } وهي الشاة التي تخر من الجبل أو تتردى في بئر فتموت

ثم قال { والنطيحة } وهي الشاة التي تنطح صاحبها فيقتلها

ثم قال { وما أكل السبع } وهي فريسة السبع فحرم اللّه تعالى أكل هذه الأشياء كلها على المؤمنين ثم استثنى فقال { إلا ما ذكيتم } يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه قبل أن يموت فلا بأس بأكله

قال القتبي أصل الذكاة من التوقد يقال ذكيت النار إذا ألقيت عليها شيئا من الحطب وإنما سميت الذكية ذكية لأنها صارت بحال ينتفع بها وقال الزجاج أصل الذكاة تمام الشيء وقوله { إلا ما ذكيتم } يعني ما أدركتم ذبحه على التمام

ثم قال { وما ذبح على النصب } قال القتبي النصب هو حجر أو صنم منصوب كانوا يذبحون عنده وجمعه أنصاب ويقال كانوا يذبحون لأعيادهم باسم آلههتهم

ثم قال { وأن تستقسموا بالأزلام } والأزلام القداح واحدها زلم على ميزان قلم وأقلام وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يجتمعون عشرة أنفس ويشترون جزورا ويجعلون لحمه على تسعة أجزاء ويعطى كل واحد منهم سهما من سهامه ويجمعون السهام عند واحد منهم أو شيء من الأحجار ثم يخرج هذا الرجل واحدا من السهام فكل من خرج سهمه يأخذ جزءا من ذلك اللحم فإذا خرج تسعة من السهام لا يبقى شيء من اللحم ولا يكون للذي بقي اسمه آخرا شيء من اللحم وكان ثمن الجزور كله عليه

وكان نوع آخر أنهم كانوا يجعلون عشرة من القداح وكان لكل واحد منها سهم ولم يكن لثلاثة منها نصيب من اللحم وهو السفيح والمنيح والوعيد وكان للسبعة لكل سهم نصيب وهو القذ والتوأم والرقيب والمعلى والحلس والناقس والمسبل ويقال كان إذا أراد واحد منهم السفر أخرج سهمين من القداح في أحدهما مكتوب أمرني ربي وفي الآخر نهاني ربي فيخرج أحدهما فإن خرج باسمه أمرني ربي وجب عليه الخروج الخروج ولم يسعه التخلف وإن خرج الآخر لا يسعه الخروج فنهى اللّه تعالى عن ذلك كله وقال { ذلكم فسق } يعني هذه الأفعال معصية وضلالة و واستحلالها كفر

ثم قال تعالى { واليوم يئس الذين كفروا من دينكم } يعني كفار العرب أن تعودوا كفارا حين حج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حجة الوداع وليس معهم مشرك وقال الضحاك نزلت هذه الآية حين فتح مكة وذلك أن رسول صلّى اللّه عليه وسلّم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ويقال سنة ثمان ودخلها ونادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألا من قال لا إله إلا اللّه فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن فانقادت قريش لأمر اللّه تعالى ورفعوا أيديهم وأسلموا

قال اللّه تعالى { فلا تخشوهم } يقول فلا تخشوا صولة المشركين فأنا معكم وناصركم { واخشون } في ترك أمري

ثم قال { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني أتممت لكن شرائع دينكم وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حيث كان بمكة لم يكن إلا فريضة الصلاة وحدها فلما قدم المدينة أنزل اللّه الحلال والحرام فنزلت هذه الآية { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني دينكم حلالكم وحرامكم وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار أن ابن عباس أنه قرأ { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال له يهودي لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيدين في يوم الجمعة وكان يوم عرفة

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا ابن صاعد قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق ان اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال عمر رضي اللّه عنه إني لأعلم حيث أنزلت وفي أي يوم أنزلت أنزلت بيوم عرفة ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واقف بعرفة فإن قيل في ظاهر هذه الآية دليل أن الدين يزيد وينقص حيث قال { اليوم أكملت لكم دينكم } قيل له ليس فيها دليل لأنه أخبر أنه أكمل في ذلك اليوم وليس فيها دليل أنه لم يكمل قبل ذلك ألا ترى أنه قال في

سياق الآية { ورضيت لكم الإسلام دينا } ليس فيه دليل أنه لم يرض قبل ذلك ولكن معناه أنه قد أظهر وقرر كما جاء في الخبر أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه فأعتق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اثنين منهم يعني أظهر عتقهما وقرر ولم يرد به الابتداء وقال مجاهد معناه اليوم أتممت لكم ظهور دينكم وغلبة دينكم ونصرته وقال قتادة معناه أخلص لكم دينكم

ثم قال تعالى { وأتممت عليكم نعمتي } يعني منتي فلم يحج معكم مشرك { ورضيت } يعني أخترت { لكم الإسلام دينا } وروي في الخبر ان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عاش بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ثم مضى لسبيله صلّى اللّه عليه وسلّم وقال الزجاج { اليوم } صار نصبا للظرف ومعناه في اليوم أكملت لكم دينكم وقال معاذ بن جبل النعمة لا تكون إلا بعد دخول الجنة فصار كأنه قال رضيت لكم الجنة لأنه لا تكون النعمة تماما إلا حتى يضع قدميه فيها

ثم رجع إلى أول الآية فقال تعالى { فمن اضطر في مخمصة } وذلك أنه لما بين المحرمات علم أن بعض الناس اضطروا إلى أكله فأباح لهم أكله عند الضرورة فقال { فمن اضطر } يعني أجهد إلى شيء مما حرم اللّه تعالى عليه { في مخمصة } يعني في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن ودقته فإذا جاع فقد خمص بطنه ثم قال { غير متجانف لإثم } يعني غير متعمد المعصية لأكله فوق الشبع وأصل الجنف الميل وقال الزجاج يعني غير متجاوز للحد وغير آكل لها على وجه التلذذ فلا إثم عليه في أكله وقال أهل المدينة المضطر يأكل حتى يشبع وقال أبو حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه إنه يأكل مقدار ما يأمن به الموت وكذلك قال الشافعي رحمه اللّه { فإن اللّه غفور رحيم } يعني { غفور } فيما أكل { رحيم } حين رخص له أكله عند الاضطرار قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو { فمن اضطر } بكسر النون لاجتماع الساكنين وقرأ الباقون بالضم

﴿ ٣