سورة الأنعام

مكية إلا ثلاث آيات مدنية وهي مائة وخمس وستون آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال مقاتل سورة الأنعام كلها مكية غير قوله { وما قدروا اللّه حق قدره } الآية وقال ابن عباس في رواية أبي صالح سورة الأنعام كلها مكية غير ست آيات { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى آخر الآيات الثلاث وقوله { ما قدروا اللّه حق } . . . وقوله { ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا }

وقيل نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك قال شهر بن حوشب نزلت الأنعام جملة واحدة وهي مكية غير آيتين { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وقال بعضهم كلها مكية وقال كعب الأحبار مفتاح التوراة قوله تعالى { الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض } وخاتمتها خاتمة سورة هود { وللّه غيب السموات والأرض } سورة هود ١٢٣

١

قوله تعالى { الحمد للّه } حمد الرب نفسه ودل بصنعه على توحيده { الذي خلق السموات والأرض } يعني خلق السموات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم وخلق الأرض وما فيها { وجعل الظلمات والنور } يعني خلق الليل والنهار ويقال الكفر والإسلام وقال الضحاك هذه الآية نزلت في شأن المجوس قالوا اللّه خالق النور والشيطان خالق الظلمة فأنزل اللّه تعالى إكذابا لقولهم وردا عليهم فقال { وجعل الظلمات والنور } يعني أن اللّه واحد لا شريك له وهو الذي خلق السموات والأرض وهو الذي خلق الظلمات والنور { ثم الذين كفروا } يعني المجوس { بربهم يعدلون } يعني يشركون ويقال { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } يعني مشركي مكة { بربهم يعدلون } يعني يعبدون الأصنام

٢

ثم قال { هو الذي خلقكم من طين } يعني آدم وأنتم من ذريته ونسله { ثم قضى أجلا } يعني أجل ابن آدم منذ يوم ولد إلى يوم يموت { وأجل مسمى عنده } يعني البرزخ

منذ يموت إلى يوم البعث فهو مكتوب في اللوح المحفوظ فهذا قول مقاتل والحسن وقال عكرمة { أجلا } يعني أجل الدنيا { وأجل مسمى } يعني أجل الآخرة وهكذا قال سعيد بن جبير ويقال { أجلا } يعني أجل واحد { وأجل مسمى } يعني يوم القيامة { ثم أنتم تمترون } يعني تشكون في البعث بعد الموت وفي الأجل المسمى

٣

ثم قال { وهو اللّه في السموات وفي الأرض } يعني هو المتفرد بالتدبير في السموات { وفي الأرض } وهذا كقوله { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } الزخرف ٨٤ يعني وهو خالق السموات والأرض ويقال هو الذي يوحد ويقر بوحدانيته أهل السموات والأرض ويقال عالم بما في السموات وبما في الأرض { يعلم سركم } يعني يعلم سر أعمالكم { وجهركم } يعني علانيتكم { ويعلم ما تكسبون } من الخير والشر فيجازيكم بذلك

٤

ثم أخبر عن أمر المشركين فقال { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } ولم يتفكروا فيها ليعتبروا في توحيد اللّه تعالى وذلك أن مشركي مكة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريهم علامة وقالوا إنا نريد أن تدعو لينشق القمر نصفين لنؤمن بك وبربك ونصدقك فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فانشق القمر نصفين وذهب أحد النصفين إلى جانب حراء والآخر إلى جانب آخر وهم ينظرون إليه وقال ابن مسعود أنا رأيت حراء بين فلقتي القمر فأعرضوا عنه فلم يؤمنوا وقالوا هذا سحر مبين فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا ءاية يعرضوا } القمر ١ - ٢ ونزلت هذه الآية { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } يعني انشقاق القمر { إلا كانوا عنها معرضين }

٥

يقول اللّه تعالى { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } يعني بالقرآن حين جاءهم به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم واستهزؤوا بالقرآن بأنه ليس من اللّه تعالى { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } يعني سيعلمون جزاء تكذيبهم واستهزائهم بالقرآن بأنه ليس من اللّه تعالى ويقال يأتيهم أخبار { ما كانوا به يستهزئون } من العذاب حين رأوها معاينة فهذا وعيد لهم أنه يصل إليهم العذاب إما في الدنيا وأما في الآخرة

ثم وعظهم ليخافوا ويرجعوا

٦

فقال { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني من قبل كفار مكة { مكناهم في الأرض } يعني مكناهم وأعطيناهم من المال والولد { ما لم نمكن لكم} يا أهل مكة { وأرسلنا السماء عليهم مدرارا } يعني أرسلنا المطر متتابعا كلما احتاجوا إليه { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم } يعني عذبناهم { بذنوبهم } وبتكذيبهم رسلهم { وأنشأنا من بعدهم } يعني وجعلنا من بعد هلاكهم { قرنا آخرين }

قال الزجاج القرن أهل كل مدة فيها نبي أو فيها طبقة من أهل العلم كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خير القرون أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم

٧

ثم قال تعالى { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } ذلك أن النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أمية وغيرهما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا من السماء قال تعالى { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس } يقول مكتوبا في صحيفة { فلمسوه بأيديهم } يقول عاينوه وأخذوه بأيديهم ما يصدقونه { لقال الذين كفروا } أي يقول الذين كفروا { إن هذا إلا سحر مبين } ولا يؤمنون به

٨

ثم قال { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } من السماء فيكون معه نذيرا قال اللّه تعالى { ولو أنزلنا ملكا } يعني من السماء { لقضي الأمر } يعني لهلكوا إذا عاينوا الملك ولم يؤمنوا ولم يصدقوا لنزل العذاب بهم { ثم لا ينظرون } يعني لا ينتظر بهم حتى يعذبوا ويقال لو نزل الملك لنزل بإهلاكهم ويقال لو أنزلنا ملكا لا يستطيعون النظر إليه فيموتون

٩

ثم قال { ولو جعلناه ملكا } يعني لو أنزلنا ملكا بالنبوة { لجعلناه رجلا } يعني لأنزلناه على شبه رجل على صورة آدمي ألا ترى أنهم حين جاؤوا إلى إبراهيم عليه السلام جاؤوا على صورة الضيفان وعلى داود عليه السلام مثل الخصمين وكان جبريل عليه السلام ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على صورة دحية الكلبي

ثم قال تعالى { وللبسنا عليهم ما يلبسون } يعني لو نزل الملك على أشباه الآدميين لا يزول عنهم الاشتباه والتلبس وروى بعضهم عن ابن عامر أنه قرأ { ما يلبسون } بنصب الباء يعني جعلنا عليه من الثياب ما يلبسونه على أنفسهم ظنوا أنه آدمي والقراءة المعروفة بالكسر يقال لبس يلبس إذا لبس الثوب ولبس يلبس إذا خلط الأمر وقال القتبي { وللبسنا } يعني أظللناهم بما ضلوا به من قبل أن يبعث الملك

١٠

ثم قال تعالى { ولقد استهزئ برسل من قبلك } يا محمد كما استهزأ بك قومك في أمر

العذاب { فحاق بالذين } يقول وجب ونزل بالذين { سخروا منهم ما كونوا به يستهزئون } بالرسل ويقال { فحاق } أي فرجع وقال أهل اللغة الحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعلته نفسه كقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } فاطر ٤٣ وقال الضحاك كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جالسا في المسجد الحرام مع المستضعفين من المؤمنين بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين فمر بهم أبو جهل بن هشام في ملأ من قريش وقال يزعم محمد أن هؤلاء ملوك أهل الجنة فأنزل اللّه تعالى على رسوله هذه الآية ليثبت بها فؤاده ويصبره على أذاهم فقال { ولقد استهزئ برسل من قبلك } يعني إن سخر أهل مكة من أصحابك فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم فجعل اللّه تعالى دائرة السوء على أهل ذلك الاستهزاء

١١

ثم أمر المشركين بأن يعتبروا بمن قبلهم وينظروا إلى آثارهم في الأرض فقال تعالى { قل سيروا في الأرض } أي قل لأهل مكة سافروا في الأرض { ثم انظروا } يعني اعتبروا { كيف كان عاقبة } يعني آخر أمر { المكذبين } بالرسل والكتب وقال الحسن { سيروا في الأرض } يعني اقرؤوا القرآن فانظروا كيف كان عاقبة المتقدمين في العذاب فقال أهل مكة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن فعلت هذا الفعل لطلب المال فاترك هذا الفعل فإنا نجمع لك مالا تصير به أغنى أهل مكة

١٢

 فنزل { قل لمن ما في السموات والأرض } فإن أجابوك وإلا ف { قل للّه } يعني ما في السموات وما في الأرض كلها اللّه تعالى يعطي منها من يشاء من عباده

ثم قال { كتب على نفسه الرحمة } فلا يعذبكم في الدنيا وروى عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن للّه مائة رحمة أنزل منها واحدة فقسمها بين الخلق فبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وادخر لنفسه تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة

ثم قال { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } يعني ليجمعنكم يوم القيامة وهذا كما يقال جمعت هؤلاء إلى هؤلاء أي ضممت بينهم في الجمع { لا ريب فيه } يعني في البعث أنه كائن

ثم نعتهم فقال { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } وقال بعضهم هذا ابتداء وخبره { لا يؤمنون } وقال بعضهم هذا بدل من قوله { ليجمعنكم }

١٣

ثم عظم نفسه فقال { وله ما سكن } يعني ما استقر { في الليل والنهار } من الدواب والطير في البحر والبر فمنها ما يستقر بالليل وينتشر بالنهار ومنها ما يستقر بالنهار وينتشر الليل

ثم قال { وهو السميع العليم } يعني { السميع } لمقالتهم { العليم } بعقوبتهم

١٤

ثم قال { قل أغير اللّه أتخذ وليا } يعني ربا وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن آباءك كانوا على مذهبنا وديننا وإنما تركت أنت مذهبهم ودينهم للحاجة فارجع إلى مذهب آبائك حتى نعينك بالمال فنزل { قل أغير اللّه أتخذ وليا } يعني أعبد ربا { فاطر السموات والأرض } يعني خالق السموات والأرض ويقال مبتدئهما ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه على ابتداء الخلقة وهو الإقرار باللّه حين أخذ عليهم العهد في أصلاب آباءهم وإنما صار { فاطر } كسرا لأنه من صفة اللّه تعالى يعني أغير اللّه فاطر السموات والأرض وقال الزجاج يجوز الضم على معنى هو فاطر السموات والأرض ويجوز النصب على معنى اذكروا فاطر السموات إلا أن الاختيار الكسر

ثم قال { وهو يطعم ولا يطعم } يعني يرزق الخلق ولا يرزق ويقال هو يرزق ولا يعان على رزق الخلق وقرأ بعضهم { يطعهم ولا يطعم } بنصب الياء يعني يرزق ولا يأكل

١٥

ثم قال { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } من أهل مكة يعني أول من أسلم من أهل مكة واستقام على التوحيد { ولا تكونن من المشركين } يعني قال لي ربي لا تكونن من المشركين بقولهم ارجع إلى دين آبائك

قوله تعالى { قل إني أخاف إن عصيت ربي } يعني إني أعلم إن عصيت ربي فرجعت إلى دين آبائي وعبدت غيره { عذاب يوم عظيم } يعني عذابا شديدا في يوم القيامة

١٦

{ من يصرف عنه } سوء العذاب { يومئذ فقد رحمه } يعني غفر له وعصمه قرأ ابن كثير ونافع وأبو عامر وعاصم في رواية حفص { من يصرف عنه } بضم الياء ونصب الراء على معنى

فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { من يصرف } بنصب الياء ومعناه من يصرف اللّه عنه ولأنه سبق ذكره قوله { ربي } فانصرف إليه

ثم قال { وذلك الفوز المبين } يعني صرف العذاب هو النجاة الوافرة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لا ينجو أحد بعمله قالوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه برحمته يعني أن الخلق كلهم ينجون برحمة اللّه تعالى

١٧

ثم خوفه ليتمسك بدينه فقال تعالى { وإن يمسسك اللّه بضر } يعني إن يصبك اللّه بشده أو بلاء { فلا كاشف له إلا هو } يعني لا يقدر أحد من الآلهة التي يدعونها ولا غيرها كشف الضر إلا اللّه { وإن يمسسك بخير } يقول وإن يصبك بسعة أو صحة الجسم فإنه لا يقدر أحد على دفع ذلك { فهو على كل شيء قدير } من الغنى والفقر والعافية

١٨

ثم قال { وهو القاهر فوق عباده } يقول الغالب والعالي عليهم ويقال القادر والمالك عليهم { وهو الحكيم } في أمره { الخبير } بأفعال الخلق

١٩

ثم قال { قل أي شيء أكبر شهادة } وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا محمد أما وجد اللّه رسولا غيرك وما نرى أحدا من أهل الكتاب يصدقك بما تقول فأرنا من يشهد لك أنك رسول فقال اللّه تعالى { قل } لأهل مكة { أي شيء أكبر شهادة } يعني حجة وبرهانا ويقال من أكبر شهادة فإن أجابوك وإلا ف { قل اللّه شهيد بيني وبينكم } بأني رسول اللّه والشهيد في اللغة هو المبين وإنما سمى الشاهد شاهدا لأنه يبين دعوى المدعي بأمر اللّه نبيه عليه السلام بأن يحتج عليهم باللّه الواحد القهار الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وخلقهم أطوارا

ثم قال { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } يعني لأخوفكم بالقرآن يا أهل مكة { ومن بلغ } يعني ومن بلغه القرآن سواكم فأنا نذير وبشير من بلغه القرآن من الجن والإنس قال قتادة قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بلغوا عني ولو آية من كتاب اللّه تعالى فمن بلغه فكأنما عاين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وكلمه وقال كعب بن محمد القرظي من بلغه القرآن فكأنما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قرأ

{ لأنذركم به ومن بلغ } وقال مجاهد { لأنذركم به } يعني أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { من بلغ } يعني من العجم وغيرهم

ثم قال { أإنكم لتشهدون أن مع اللّه آلهة أخرى } من الأصنام فإن قالوا نعم { قل لا اشهد } بما شهدتم ولكن { قل } أشهد { إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } من الأصنام والأوثان

٢٠

قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } يعني التوراة والإنجيل { يعرفونه } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بنعته وصفته { كما يعرفون أبناءهم } وقال عبد اللّه بن سلام أنا أعرف بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مني ولا بني لأني أشهد أنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا أشهد لابني لأني لا أدري ما أحدث النساء بعدي

ثم قال { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } يعني كعب بن الأشرف ومن تابعه ممن طلبوا الرئاسة وآثروا الدنيا على الآخرة

٢١

قوله تعالى { ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا } يعني ممن ختلق على اللّه كذبا باتخاذ الآلهة وقولهم الشرك { أو كذب بآياته } يعني بالقرآن أنه ليس من عند اللّه { إنه لا يفلح الظالمون } يعني أنه لا يأمن الكافرون من عذابه قال في اللغة { إنه } مرة تكون للإشارة مثل قوله { إنه هو الغفور الرحيم } يوسف ٩٨ومرة تكون للعماد مثل قوله { إنه لا يفلح الكفرون } المؤمنون ١١٧ { وإنه لا يفلح الظالمون }

٢٢

قوله تعالى { ويوم نحشرهم جميعا } يوم القيامة { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } يعني أين آلهتكم التي تزعمون يعني تعبدون من دون اللّه { ثم لم تكن فتنتهم } وأصل الفتنة في اللغة هو الاختبار ويقال فتنت الذهب في النار إذا أدخلته فيها لتعلم جودته وإنما سمي جوابهم فتنة لأنهم حين سئلوا اختبروا بما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب من ذلك الاختبار فتنة إلا هذا القول ويقال ثم لم تكن معذرتهم وجوابهم { إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين } قال مجاهد إن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن اللّه لا يغفر ذنوبهم يقول بعضهم لبعض يا ويلكم جئتم بما لا يغفر اللّه لكم هلموا الآن فلنكذب على أنفسنا ونحلف على ذلك فحلفوا فحينئذ ختم على أفواههم فتشهد أيديهم وأرجلهم عليهم

قرأ ابن عامر وابن كثير وعاصم في رواية حفص { ثم لم تكن فتنتهم } بالتاء لأن الفتنة مؤنث و { فتنتهم } بضم التاء لأنه اسم تكن والخبر { إلا إن قالوا } وقرأ حمزة والكسائي { ثم لم يكن } بالياء لأن الفتنة مؤنثة إلا إن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفتنة بمعنى الإفتان فانصرف إلى المعنى { فتنتهم } بالنصب فجعلاه خبر تكن والاسم ما بعده وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر

٢٣

 { ثم لم تكن } بالتاء والنصب وقرأ حمزة والكسائي { واللّه ربنا } بنصب الباء ومعناه يا ربنا وقرأ الباقون { واللّه ربنا } بكسر الباء على معنى النعت

٢٤

قال اللّه تعالى لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } يعني كيف صار وبال تكذيبهم على أنفسهم ويقال يقول اللّه تعالى للملائكة { انظروا كيف كذبوا على أنفسهم } يعني انظروا إليهم كيف يكذبون على أنفسهم { وضل عنهم } يعني ذهب عنهم ويقال اشتغل عنهم الآلهة بأنفسها { ما كانوا يفترون } على اللّه من الكذب في الدنيا

٢٥

قوله تعالى { ومنهم من يستمع إليك } يعني إلى حديثك وقرأءتك { وجعلنا على قلوبهم أكنة } يعني يستمعون ولا ينفعهم ذلك { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } يعني غطاء مجازاة لكفرهم { وفي آذانهم وقرأ } يعني صمما وثقلا لا يفقهون حديثك وقال قتادة يسمعونه بآذانهم ولا يفهمون منه شيئا كمثل البهيمة التي تسمع القول ولا تدري ما هو

ثم قال { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } يعني انشقاق القمر وغيره { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } يعني يخاصمونك بالباطل وينكرون أن القرآن من اللّه تعالى { يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } وذلك أن النضر بن الحارث كان يخبر أهل مكة بسير المتقدمين وبأخبارهم فقالوا له ما ترى فيما يقول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قال لا أفهم مما يقول شيئا ولا أدري أنه من أساطير الأولين الذي أخبركم به مثل حديث رستم واسفنديار وقال القتبي { أساطير الأولين } واحدها أسطورة واسطارة ومعناها الأباطيل والترهات والبسابس وهي شيء لا نظام له وليس بشيء وفي هذا دلالة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بالسر فيظهر اللّه أسرارهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم

٢٦

قوله تعالى { وهم ينهون عنه وينأون عنه } يعني أهل مكة ينهون الناس عن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتبعوه ويتباعدون عنه ويقال نزل في شأن أبي طالب كان يقول للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن قريشا لن

يصلوا إليك حتى أوسد في التراب فامض يا ابن أخي فما عليك غضاضة يعني ذلا وكان لا يسلم لأجل المقالة { وهم ينهون عنه } يعني أن أبا طالب ينهي قريشا عن إيذائه وينأى عنه أي يتباعد عن دينه وهذا قول الكلبي والضحاك ومقاتل والقول الأول أيضا قول الكلبي

ثم قال { وإن يهلكون إلا أنفسهم } يعني وما يهلكون إلا أنفسهم { وما يشعرون } بذلك

٢٧

قوله تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على النار } قال الكلبي يعني حبسوا على النار وقال مقاتل يعني عرضوا على النار وقال الضحاك يعني جمعوا على أبوابها ويقال وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم وروي في الخبر أن الناس كلهم وقفوا على متن جهنم وجهنم كأنها متن إهالة ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي

ثم قال { فقالوا يا ليتنا نرد } يعني إلى الدنيا ولم يذكر في الآية الجواب لأن في الكلام ما دل عليه فكأنه يقول ولو ترى يا محمد كفار قريش حين وقفوا على النار لعجبت من ذلك فقالوا { يا ليتنا نرد إلى الدنيا } { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } أي مصدقين قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص { ولا نكذب } { ونكون } كلاهما بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم في رواية أبي بكر { ولا نكذب } { ونكون } كلاهما بالضم على معنى الخبر ومن قرأ بالنصب فلأنه جواب التمني وجواب التمني إذا كان بالواو أو بالفاء يكون بالنصب كقولك ليتك تصير إلينا ونكرمك وقرأ بعضهم { ولا نكذب } بالضم و { نكون } بالنصب في رواية هشام بن عمار عن ابن عامر وقرأ عبد اللّه بن مسعود { فلا نكذب } بالفاء

٢٨

يقول اللّه عز وجل { بل بدا لهم } يعني ظهر لهم { ما كانوا يخفون من قبل } بألسنتهم لأن الجوارح تشهد عليهم بالشرك فحينئذ يتمنون الرجعة

يقول اللّه تعالى { ولو ردوا } إلى الدنيا { لعادوا لما نهو عنه } يعني رجعوا إلى كفرهم { وإنهم لكاذبون } في قولهم { ولا نكذب بآيات ربنا } لأنهم قد علموا في الدنيا وعاينوه وقد عاين إبليس وشاهد ومع ذلك قد كفر وكذلك هاهنا لو رجعوا لكفروا كما كفروا من قبل لأنك ترى في الدنيا إنسانا أصابه مرض أو حبس في السجن أخلص بالتوبة للّه تعالى أن لا يرجع إلى الفسق فإذا برأ من مرضه أو أطلق من الحبس رجع إلى الحال الأول

٢٩

قوله تعالى { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } يعني ما هي إلا آجالنا تنقضي في الدنيا فيموت الآباء ويجيء الأبناء { وما نحن بمبعوثين } بعد الموت فيبين اللّه تعالى حالهم يومئذ

٣٠

فقال { ولو ترى إذ وقفوا } يعني عرضوا وسيقوا وحبسوا { على ربهم } يعني عند ربهم وعند عذاب ربهم { قال أليس هذا } يعني أليس هذا العذاب والبعث { بالحق قالوا بلى وربنا } أقروا في وقت لا ينفعهم الإقرار { قال فذوقوا العذاب } يعني يقول لهم الخزنة { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } به وتجحدون

٣١

قوله تعالى { قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه } يعني غبن الذين جحدوا باللّه وبالبعث حين اختاروا العقوبة على الثواب { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } يعني فجأة ومعناه أنهم جحدوا وثبتوا على جحودهم حتى إذا جاءتهم القيامة { قالوا يا حسرتنا } يعني يا ندامتنا وخزينا والعرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن أمر عظيم تقع فيه جعلته نداء كقوله { يا حسرتنا } و { يويلتنا } الكهف ٤٩ ويا ندامتنا { على ما فرطنا } يعني ضيعنا وتركنا العمل { فيها } يعني الدنيا من عمل الآخرة { وهم يحملون أوزارهم } يعني آثامهم { على ظهورهم } يعني إنهم يحملون آثامهم

وروى أسباط عن السدي قال ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلا آتاه ملك قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة فإذا رآه قال ما أقبح وجهك فيقول كذلك كان عملك قبيحا فيقول ما أنتن ريحك فيقول كذلك كان عملك منتنا فيقول من أنت فيقول أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره حتى يدخله النار قال وذلك قوله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } وذلك على سبيل المجاز يعني يعملون وبال ذلك على ظهورهم وعقوبته ويقال أوقرت ظهورهم من الآثام أي ثقلت وحملت وأصل الوزر في اللغة هو الثقل ثم قال تعالى { ألا ساء ما يزرون } يعني بئس ما يزرونه يعني يحملونه

٣٢

قوله تعالى { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } يعني لعب كلعب الصبيان يبنون بنيانهم ثم يهدمونه ويلعبون ويلهون به ويبنون ما لا يسكنون ويأملون ما لا يدركون

ثم قال { وللدار الآخرة } يعني الجنة { خير للذين يتقون } الشرك والفواحش { أفلا تعقلون } أي أن الآخرة أفضل من الدنيا قرأ ابن عامر { ولدار الآخرة } بلام واحدة بالتخفيف وبكسر الآخرة على معنى الإضافة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص { أفلا تعقلون } بالتاء على معنى المخاطبة والباقون بالياء على معنى المغايبة

٣٣

قوله تعالى { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } روى سفيان عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب قال أبو جهل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به فنزلت هذه الآية وروى أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال جاء جبريل إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو حزين فقال ما يحزنك قال كذبني هؤلاء فقال إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنك صادق فنزلت هذه الآية { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } من تكذيبهم إياك في العلانية { فإنهم لا يكذبونك } في السر ويعلمون أنك صادق وكانوا يسمونه أمينا قبل أن يوحى إليه فلما أوحى إليه كذبوه فقال { ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون } وهم يعلمون أنك صادق والجحد يكون ممن علم الشيء ثم جحده كقوله تعالى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } النمل ١٤ قرأ نافع والكسائي { فإنهم لا يكذبونك } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أنهم لا يجدونك كاذبا ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنهم لا ينسبونك إلى الكذب ولا يكذبوك في السر وقرأ نافع { يحزنك } برفع الياء وكسر الزاي وقرأ الباقون { ليحزنك } بالنصب ومعناهما واحد

٣٤

ثم عزاه ليصبر على أذاهم فقال تعالى { ولقد كذبت رسل من قبلك } يعني أن قومهم كذبوهم كما كذبك قريش { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } يعني صبروا على تكذيبهم وأذاهم { حتى أتاهم نصرنا } يعني عذابنا لهلاكهم { ولا مبدل لكلمات اللّه } يعني لا مغير لوعد اللّه فهذا وعد من اللّه تعالى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالنصرة كما نصر النبيين من قبله

ثم قال { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } يعني من خبر المرسلين كيف أنجيت المرسلين وكيف أهلكت قومهم فلما وعد اللّه تعالى النصرة للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم تعجل أصحابه لذلك فأرادوا أن يعجل بهلاك الكفار فنزل { وإن كان كبر عليك إعراضهم } خاطب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأرا

به قومه فقال إن عظم عليك إعراضهم عن الإيمان ولا تصبر على تكذيبهم إياك { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض } يعني إن قدرت أن تطلب سربا في الأرض والنافقاء إحدى جحر اليربوع { أو سلما في السماء } يعني مصعدا إلى السماء { فتأتيهم بآية } فافعل ذلك وجه الإضمار وهذا كما قال في آية أخرى { من كان يظن أن لن ينصره اللّه في الدنيا والأخرة فليمدد بسبب إلى السماء } الحج ١٥ الآية

وروى محمد بن المنكدر أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن اللّه أمر السماء أن تطيعك وأمر الأرض أن تطيعك وأمر الجبال أن تطيعك فإن أحببت أن ينزل عذابا عليهم قال يا جبريل أوخر عن أمتي لعل اللّه يتوب عليهم

٣٥

ثم قال تعالى { ولو شاء لجمعهم على الهدى } يعني لهداهم إلى الإيمان ويقال ولو شاء اللّه لاضطرهم إلى الهدى كما قال في آية أخرى { إن نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعين } الشعراء ٤ ومعناه ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى قهرا وجبرا ولكن ما فعل وكلفهم وتركهم باختيارهم

ثم قال { فلا تكونن من الجاهلين } يعني بأنه لو شاء لهداهم وقال الضحاك يعني القدر خيره وشره من اللّه تعالى فلا تجعل معرفة ذلك بعد البيان وقيل { فلا تكونن من الجاهلين } بأنه يؤمن بك البعض وإن لم يؤمن بك البعض وإنما يؤمن بك الذي وفقه اللّه تعالى للّهدى وهو أهل لذلك

٣٦

ثم قال تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون } يعني يطيعك ويصدقك الذين يسمعون منك كلام الهدى والمواعظ قال الزجاج يعني يسمع سماع قابل فالذي لا يقبل كأنه أصم كما قال القائل أصم عما سواه سميع ويقال { فلا تكونن من الجاهلين } بأنه يؤمن بك بعضهم ولن يؤمن بك البعض وإنما يؤمن بك الذي وفقه اللّه للّهدى وهو أهل لذلك وقال { إنما يستجيب الذين يسمعون } يعني يعقلون الموعظة

ثم قال { والموتى يبعثهم اللّه } يعني كفار مكة سماهم اللّه موتى لأنه لا منفعة لهم في حياتهم { يبعثهم اللّه } يعني يحييهم بعد الموت { ثم إليه يرجعون } يعني الكفار في الآخرة فينبئهم بأفعالهم فهذا تهديد لهم

٣٧

قوله تعالى { وقالوا لولا نزل عليه } يعني أن الكفار قالوا هلا نزل عليه { آية من ربه } يعني علامة لنبوته { قل إن اللّه قادر على أن ينزل آية } كما سألوك { ولكن أكثرهم لا يعلمون }

بأن اللّه قادر على أن ينزلها ويقال قادر على أن ينزلها ويقال { لا يعلمون } ما في نزول الآية لأنه لو نزلت الآية عليهم فلم يؤمنوا بها لاستوجبوا العذاب

٣٨

قوله تعالى { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } فذكر الجناحين للتأكيد لأنه يقال طار في الأمر إذا أسرع فيه فإذا ذكر الجناحين صار تأكيدا له وقرأ بعضهم { ولا طائر } بالضم لأن معناه وما دابة في الأرض ولا طائر لأن { من } زيادة فيكون الطائر عطفا ورفعا وهي قراءة شاذة

ثم قال { إلا أمم أمثالكم } أي في الخلق والموت والبعث تعرف بأسمائهم { ما فرطنا } يقول ما تركنا { في الكتاب } يعني في اللوح المحفوظ { من شيء } مما يحتاج إليه في القرآن { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الدواب والطيور { يحشرون } ثم يصيرون ترابا

وروى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال يحشر اللّه تعالى الخلق كلهم يوم القيامة والبهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا وعن أبي ذر قال انتطحت شاتان عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا أبا ذر هل تدري فيما انتطحتا قلت لا قال لكن اللّه تعالى يدري فسيقضي بينهما

وقال بعضهم هذا على وجه المثل لأنه لا يجري عليهم القلم فلا يجوز أن يؤاخذوا به

وقال بعضهم هذا على سبيل الحقيقة لأنه يجري عليهم القلم في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به

٣٩

ثم قال تعالى { والذين كذبوا بآياتنا } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { صم } عن الخير فلا يسمعون الهدى { وبكم } يعني خرس لا يتكلمون بالخير { في الظلمات } يعني في الضلالات { من يشاء اللّه يضللّه } يعني يخذله فيموت على الكفر { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } يعني يستنقذه من الكفر فيوفقه للإسلام

٤٠

ثم قال { قل أرأيتكم } الكاف زيادة في بيان الخطاب { إن أتاكم عذاب اللّه } في الدنيا { أو أتتكم الساعة } يعني القيامة ثم رجع إلى عذاب الدنيا فقال { أغير اللّه تدعون } أي ليدفع عنكم العذاب { إن كنتم صادقين } بأن مع اللّه آلهة أخرى

٤١

قوله { بل إياه تدعون } قال أهل اللغة بل للاستدراك والإيجاب بعد النفي وإنما تستعمل في موضعين أحدهما لتدارك الغلط والثاني لترك شيء وأخذ شيء آخر فهاهنا بين أنهم لا يدعون غير اللّه تعالى وإنما يدعون اللّه عنهم ليكشف عنهم العذاب

ثم قال { فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } وإنما قرن بالاستثناء وبالمشيئة لأن كشف العذاب فضل اللّه تعالى وفضل اللّه تعالى يؤتيه من يشاء

ثم قال { وتنسون ما تشركون } يعني تتركون دعاء الآلهة عند نزول الشدة

٤٢

ثم ذكر حال الأمم الماضية لكي يعتبروا فقال عز وجل { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } فكذبوهم على وجه الإضمار { فأخذناهم بالبأساء } يعني بالخوف والشدة { والضراء } يعني الزمانة والفقر وسوء الحال والجوع وقال الزجاج البأساء الجوع والضراء النقص في الأموال والأنفس { لعلهم يتضرعون } يعني لكي يرجعوا إليه ويؤمنوا به

٤٣

{ فلولا إذ جاءهم بأسنا } يقول فهلا إذا جاءهم عذابا { تضرعوا } أي يرجعوا إلى اللّه ويؤمنوا به حتى يرفع عنهم العذاب يعني أنهم لو آمنوا لدفع عنهم العذاب ولكن أصروا على ذلك فذاك قوله تعالى { ولكن قست قلوبهم } يعني جفت ويبست قلوبهم { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } من عبادتهم الأصنام

٤٤

ثم قال { فلما نسوا ما ذكروا به } يعني الأمم الخالية حين لم يعتبروا بالشدة ولم يرجعوا { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من النعم والخصب ويقال إن اللّه تعالى يبتلي العوام بالشدة فإذا أنعم عليهم يكون استدراجا وأما الخواص فيبتليهم بالنعمة والرخاء فيعرفون ويعدون ذلك بلاء كما روي في الخبر إن اللّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته فهؤلاء الذين أرسل عليهم ابتلاهم اللّه تعالى بالشدة فلم يعتبروا فيها ولم يرجعوا ثم فتح عليهم أبواب كل خير عقوبة لهم لكي يعتبروا

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا عبد اللّه بن أحمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن حميد عن شهاب بن خراش عن حرملة عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا رأيت اللّه يعطي عبدا من الدنيا على معصية مما يحب فإنما ذلك منه استدراج ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } الآية وقال الحسن واللّه ما أحد من الناس بسط اللّه له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه وما أمسكها اللّه تعالى عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص عمله وعجز رأيه قوله { فلما نسوا ما ذكروا به } يعني تركوا ما وعظوا به { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } يعني أرسلنا عليهم كل خير ويقال { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من الرزق قرأ ابن عامر { فتحنا } بالتشديد على المبالغة والباقون بالتخفيف { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } من أنواع الخير فأعجبهم ما هم فيه { أخذناهم بغتة } يعني أصبناهم بالعذاب فجأة { فإذا هم مبلسون } يعني آيسين من كل خير وقال مجاهد الإبلاس الفضيحة وقال الفراء المبلس المنقطع بالحجة وقال الزجاج المبلس الشديد الحسرة والآيس الحزين وقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه فلما فتحنا عليهم أبواب كل شيء ونسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

٤٥

 ثم قال عز وجل { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } يعني قطع أصلهم فلم يبق منهم أحد { والحمد للّه رب العالمين } على هلاك أعدائه واستئصالهم ويقال الحمد للّه الذي ينتقم من أعدائه ولا ينتقم منه أحد ويقال هذا تعليم ليحمدوه سبحانه على إهلاك الظالمين

٤٦

قوله تعالى { قل أرأيتم } أي قل لأهل مكة { أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم } فلم تسمعوا شيئا { وأبصاركم } فلم تبصروا شيئا { وختم على قلوبكم } فلم تعقلوا شيئا { من إله غير اللّه يأتيكم به } يعني هل أحد غير اللّه بخلقها لكم

ثم قال { انظر كيف نصرف الآيات } أي كيف تبين لهم العلامات فيما ذكر تخويفهم { ثم هم يصدفون } يعني يعرضون ولا يعتبرون قرأ نافع { آرأيتم } بمد الألف

بغير همز وقرأ الكسائي بغير مد ولا همز وقرأ الباقون بالهمز فهي كلها لغات العرب

٤٧

ثم قال { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب اللّه بغتة أو جهرة } يعني فجأة أو علانية { هل يهلك إلا القوم الظالمون } يعني لا يهلك إلا القوم الكافرون

٤٨

ثم قال { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } يعني ليس لهم أن يقترحوا من أنفسهم وإنما أرسلهم بتبليغ الرسالة مبشرين بالجنة لمن أطاعه ومنذرين بالنار لمن عصاه { فمن آمن } يعني صدق بالرسل { وأصلح } يعني سلك طريقهم وأصلح العمل ويقال أخلص العمل بعد الإيمان { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } يعني { لا خوف عليهم } من أهوال القيامة { ولا هم يحزنون } عند الصراط

٤٩

ثم قال { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } يعني يصيبهم العذاب بكفرهم ولا يعذب أحدا بغير ذنب

٥٠

ثم قال { قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه } يعني مفاتيح الرزق { ولا أعلم الغيب } يعني متى ينزل العذاب بكم هذا جواب لقولهم { لولا أنزل عليه ملك } الأنعام ٨ { لولا نزل عليه ءاية من ربه } الأنعام ٣٧ { ولا أقول لكم إني ملك } من السماء إنما أنا بشر مثلكم { إن أتبع } يعني ما أتبع { إلا ما يوحى إلي } من القرآن { قل هل يستوي الأعمى والبصير } يعني الكافر والمؤمن { أفلا تتفكرون } في أمثال القرآن ومواعظه

٥١

قوله تعالى { وأنذر به } يعني خوف بالقرآن { الذين يخافون } يعني الذين يعلمون { أن يحشروا إلى ربهم } في الآخرة وإنما خص بالإنذار الذين يعلمون وإن كان منذرا لجميع الخلق لأن الحجة عليهم وجبت لاعترافهم بالمعاندة وهم أهل الكتاب كانوا يقرون بالبعث ويقال هم المسلمون يعلمون أنهم يبعثون يوم القيامة ويؤمنون به

{ ليس لهم من دونه } يعني يعلمون أنه ليس لهم من دون اللّه يعني من عذاب اللّه { ولي } في الدنيا { ولا شفيع } في الآخرة { لعلهم يتقون } يعني أنذرهم لكي يتقوا المعاصي ويقال { لعلهم يتقون } لكي يتقوا ويثبتوا على الإسلام فإنهم إن لم يثبتوا { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع }

٥٢

قوله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال نزلت هذه الآية في وفي ستة من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم عبد اللّه بن مسعود قالت قريش تدني هؤلاء السفلة هم الذين يلونك فوقع في قلبه أن يطردهم فنزل { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال كان رجال يستبقون إلى مجلس النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم بلال وصهيب فيجيء أشراف من قومه وسادتهم فيجلسون ناحية فقالوا له إنا سادات قومك وأشرافهم فلو أدنيتنا لأسلمنا فهم أن يفعل فنزل { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية ويقال إن أبا جهل وأصحابه احتالوا ليطرد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه عن نفسه فقالوا إن محمدا يتبعه الموالي والأراذل فلو طردهم لاتبعناه فاستعانوا بعمر فأخبر عمر بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يفعل ذلك فنزل { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } يعني يعبدون ربهم { بالغداة والعشي } يعني يصلون للّه في أول النهار وآخره { يريدون } يعني يريدون بصلواتهم { وجه اللّه تعالى ما عليك من حسابهم من شيء } يعني ما عليك من عملهم من شيء { وما من حسابك عليهم من شيء } يعني الإثم ويقال معناه فما عليك إن لم يسلموا فليس عليك من أوزارهم شيء ويقال يعني به الضعفة من المسلمين فلا تطردهم لأنه ليس عليك من حسابهم من شيء أي ليس عليك من أرزاقهم شيء لكن أرزاقهم على اللّه

ثم قال { فتطردهم فتكون من الظالمين } يعني لو طردتهم من مجلسك فتكون من { الظالمين } أي من الضارين بنفسك قرأ ابن عامر { بالغدوة } وقرأ الباقون { بالغداة } وهما لغتان

٥٣

ثم قال { وكذلك فتنا } يقول هكذا ابتلينا { بعضهم ببعض } يعني الشريف بالوضيع والعربي بالمولى والغني بالفقير { ليقولوا أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا } فلم يكن الاختبار لأجل أن يقولوا ذلك ولكن الاختبار كان سببا لقولهم وهذا قوله تعالى { فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } القصص ٨ فلم يأخذوه لأجل ذلك ولكن كان أخذهم سببا لذلك فكأنهم أخذوه لأجل ذلك فكذلك هاهنا كان الاختبار لا لأجل أن يقولوا أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا لأنهم كانوا يقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه ومعناه ليظهر الذين يقولون أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا

قال اللّه تعالى { أليس اللّه بأعلم بالشاكرين } يعني بالموحدين منكم من غيرهم قال

الكلبي فلما نزلت هذه الآية جاء عمر فاعتذر

٥٤

 فنزلت هذه الآية { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } يعني عمر رضي اللّه عنه { فقل سلام عليكم } يعني قبلت توبتكم ويقال قبل اللّه عذركم ويقال المعنى { وإذا جاءك الذين يؤمنون } يعني الضعفة من المسلمين فابتدئ بالسلام { فقل سلام عليكم } { كتب ربكم على نفسه الرحمة } يعني أوجب الرحمة وقبول التوبة { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } يعني من ركب معصية وهو جاهل بركوبها وإن كان يعلم أنها معصية { ثم تاب من بعده } بعد السوء { وأصلح } العمل { فإنه غفور رحيم } يعني متجاوز للذنوب { رحيم } حين قبل التوبة ويقال معناه من عمل منكم سوءا ثم تاب يغفر له فكيف لمن كان قصده الخير فهو أولى بالرحمة

وروى سفيان عن مجمع عن ماهان الحنفي قال جاء قوم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد أصابوا ذنوبا عظاما فأعرض عنهم فنزل { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة } قرأ عاصم وابن عامر { أنه من عمل } بنصب الألف فإنه غفور بالنصب على معنى البناء و { فإنه } بالكسر على معنى الابتداء وقرأ الباقون كلاهما بالكسر على معنى الابتداء

٥٥

ثم قال تعالى { وكذلك نفصل الآيات } قال القتبي يعني نأتي بها متفرقة شيئا بعد شيء ولا ننزلها جملة واحدة متصلة وقيل { نفصل الآيات } يعني نبين الآيات يعني القرآن { ولتستبين سبيل المجرمين } يعني طريق المشركين لماذا لا يؤمنون لأنهم إذا رأوا الضعفاء يسلمون قبلهم امتنعوا ويقال { ولتستبين سبيل المجرمين } يعني تعرفهم قرأ ابن كثير وأبو عامر وعاصم في رواية حفص { ولتستبين } بالتاء و { سبيل } بالضم لان السبيل مؤنث كقوله { قل هذه سبيلى أدعوا إلى اللّه } يوسف ١٠٨ ومعناه ليظهر لكم طريق المشركين وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وليستبين } بالياء { سبيل المجرمين } بالضم لأن السبيل هو الطريق والطريق يذكر ويؤنث وقرأ نافع { ولتستبين } بالتاء { سبيل } بالنصب يعني لتعرف يا محمد طريق المشركين

٥٦

قوله تعالى { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون اللّه } يعني الأصنام ويقال معناه قل إني نهيت عن طرد الضعفاء عن مجلسي كما نهيت عن عبادة الأصنام

ثم قال { قل لا أتبع أهواءكم } يعني لا أذهب مذهبكم ويقال {لا أتبع هواكم} يعني لا أرجع إلى دينكم في بغض الفقراء ومجانبتهم { قد ضللت إذا } يعني إن فعلت ذلك ف{قد ضللت إذا } قرأ بعضهم { ضللت } بالكسر وهو شاذ يعني ضللت سبيل الهدى { وما أنا من المهتدين } يعني لم أكن على الحق

٥٧

ثم قال { قل إني على بينة من ربي } يعني على أمر بين ويقال على دين من ربي { وكذبتم به } يعني بالقرآن ويقال بالعذاب وذلك أن النضر بن الحارث قال إن كان ما تقوله حقا فأتنا بعذاب اللّه فنزل { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب { إن الحكم إلا للّه } يعني ما القضاء في ذلك إلا للّه في نزول العذاب { يقص الحق } بنزول العذاب وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم { يقص الحق } بالضاد يعني يبين الحق ويقال يأمر بالحق وقرأ الباقون { يقص الحق } من القصص ولكن لا يكتب بالياء لأن الياء سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ويقوم الكسر مقام الياء كقوله تعالى { سندع الزبانية } العلق ١٨ فحذفت الواو وتفسيره يقضي قضاء الحق قال ابن عباس رضي اللّه عنه يعني يقضي بالحق

ثم قال { وهو خير الفاصلين } يعني الحاكمين وقيل القاضين

٥٨

ثم قال { قل لو أن عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب { لقضي الأمر بيني وبينكم } بالعذاب { واللّه أعلم بالظالمين } يعني بعقوبة الظالمين أي هو أعلم متى ينزل بهم العذاب

٥٩

قوله تعالى { وعنده مفاتح الغيب } يعني خزائن الأرض والرزق ونزول العذاب ويقال عنده الوصلة إلى علم الغيب { لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر } يعني يعلم ما يهلك في بر أو بحر ويقال يعلم ما في البر من النبات والحب والنوى وما في البحر من الدواب وقوت ما فيها { وما تسقط من ورقة } يعني من الشجر { إلا يعلمها } يعلم وقت سقوطها وموضع مسقطها

وروى مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنه قال ليس أحد من خلق اللّه أكثر من الملائكة وليس من شجرة تخرج إلا وملك موكل بها ويقال إن الإنسان كالشجرة وأعضاءه كالأغصان والحركات منه كالأوراق فهو يعلم حركة بني آدم

ثم قال تعالى { ولا حبة في ظلمات الأرض } يعني تحت الصخرة التي هو أسفل الأرضين السابعة ويقال الحبة التي تحت الأرض التي يخرج منها النبات

ثم قال تعالى { ولا رطب } يعني الماء { ولا يابس } يعني الحجر ويقال { ولا رطب } يعني العمران والامصار والقرى { ولا يابس } يعني الخراب والبادية { إلا في كتاب مبين } يعني في اللوح المحفوظ ويقال { ولا رطب ولا يابس } يعني لا قليل ولا كثير { إلا في كتاب مبين } يعني في اللوح المحفوظ ويقال القرآن قد بين فيه كل شيء بعضه مفسر وبعضه يعرف بالاستدلال والاستنباط وقرأ بعضهم { ولا حبة } { ولا رطب ولا يابس } كل ذلك بالضم على معنى الابتداء وهي قراءة شاذه والقراءة المعروفة بالكسر لأجل { من }

٦٠

قوله تعالى { وهو الذي يتوفاكم بالليل } يعني يقبض أرواحكم في منامكم { ويعلم ما جرحتم بالنهار } يعني ما كسبتم من خير أو شر بالنهار { ثم يبعثكم فيه } يعني يحييكم من النوم في النهار ويرد إليكم أرواحكم { ليقضى أجل مسمى } يعني ليتم اجلكم وتأكلون رزقكم إلى آخر العمر

قال بعضهم إذا نام الإنسان تخرج منه روحه كما روي في الخبر الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف يعني الأرواح إذا تعارفت وقعت الألفة بين الأبدان وإذا لم تتعارف الأرواح تناكرت الأبدان

وقال بعضهم إن الروح إذا خرجت في المنام من البدن تبقى فيه الحياة فلهذا تكون فيه الحركة والنفس وإذا انقضى عمره خرجت روحه وانقطعت حياته وصار ميتا لا يتحرك ولا يتنفس

فإن قيل لو خرجت روحه فكيف لا يتوجع لخروجها إذا نام قيل لأنه يخرج بطيبة نفسه ويعلم أنها تعود وأما إذا انقطع عمره خرج بالكره فيتوجع به

وقال بعضهم لا تخرج منه الروح ولكن يخرج منه الذهن وهو الذي يسمى بالفارسية روان

وقال بعضهم إنما هو ثقل يدخل في نفسه وهو سبب لراحة البدن وغذائه كقوله { وجعلنا نومكم سباتا } النبأ٩ أي راحة الأبدان أخذ من السبوت ويقال هذا أمر لا يعرف حقيقته أحد إلا اللّه وهذا أصح الأقاويل

قوله تعالى { ثم إليه مرجعكم } يعني مصيركم في الآخرة { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون } من خير أو شر فيجازكم بذلك

٦١

قوله تعالى { وهو القاهر فوق عباده } يعني القادر والغالب عليهم { ويرسل عليكم حفظة } والحفظة جمع الحافظ مثل الكتبة والكاتب يعني به الملائكة الموكلين ببني آدم ملكين بالليل وملكين بالنهار ويكتب أحدهما الخير والآخر الشر فإذا مشى يكون أحدهما بين يديه والآخر خلفه فإذا جلس يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله كقوله تعالى

{ عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } ق١٧ - ١٨ ويقال لكل إنسان خمسة من الملائكة اثنان بالليل واثنان بالنهار الخامس لا يفارقه بالليل ولا بالنهار

قوله تعالى { حتى إذا جاء أحدكم الموت } يعني حضر أحدكم الوفاة عند انقضاء أجله { توفته رسلنا } يعني ملك الموت وأعوانه قرأ حمزة { توفاه } بلفظ التذكير بالإمالة وقرأ الباقون { توفته } بلفظ التأنيث لأن فعل الجماعة إذا تقدم على الاسم جاز أن يذكر ويؤنث { وهم لا يفرطون } يعني لا يؤخرون طرفة عين ويقال معه سبعون من ملائكة الرحمة وسبعون من ملائكة العذاب فإذا قبض نفسا مؤمنه دفعها إلى ملائكة الرحمة فيبشرونها بالعذاب ويفزعونها ثم يصعدون بها إلى السماء ثم ترد إلى سجين وروح المؤمن إلى عليين

٦٢

{ ثم ردوا إلى اللّه مولاهم الحق } يعني يرد أمورهم إلى اللّه تعالى { ألا له الحكم } { ألا } كلمة التنبيه ومعناه اعلموا أن الحكم للّه يحكم في خلقه ما يشاء ويقضي بينهم يوم القيامة { وهو أسرع الحاسبين } يعني إذا حاسب فحسابه سريع ويقال وهو أحكم الحاكمين وأعدل القاضين

٦٣

قوله تعالى { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } يعني من أهوالهما وشدائدهما والظلمات كناية عن الأهوال والشدائد { تدعونه تضرعا وخفية }

وقال الكلبي سرا وعلانية وقال مقاتل يعني في خفض وسكون قرأ عاصم في رواية أبي بكر { خفية } بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان وكلاهما واحد { لئن أنجانا من هذه } يعني من غم هذه الاهوال والشدائد { لنكونن من الشاكرين } يعني من الموحدين

٦٤

 { قل اللّه ينجيكم منها } يعني من أهوال البر والبحر { ومن كل كرب } يعني ينجيكم من كل كرب يعني من كل غم وشدة { ثم أنتم تشركون } يعني ترجعون إلى الشرك وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { لئن أنجانا } بالألف يعني أنجانا اللّه تعالى وقرأ الباقون { لأن أنجيتنا } على المخاطبة وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { قل اللّه ينجيكم منها } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد ويقال أنجى ينجي ونجى ينجي

٦٥

قوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } يعني الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط والغرق كما أرسل على قوم نوح يعني إن استكبرتم وأصررتم وكذبتم رسلي مثل ما فعل قوم نوح أو فعلتم مثل ما فعل قوم لوط

ثم قال { أو من تحت أرجلكم } يعني يخسف بكم كما خسف بقارون ومن معه يعني إن استكبرتم واغتررتم بالدنيا كما فعل بقارون ومن معه

ثم قال { أو يلبسكم شيعا } أي يخلطكم يعني الأهوال المختلفة كما ألبس بني إسرائيل إن تركتم أمر رسولي وأتبعتم هواكم كما فعل بنو إسرائيل { ويذيق بعضكم بأس بعض } يعني يقتل بعضكم بعضا بالسيف كما فعل بالأمم الخالية إن فعلتم مثل ما فعلوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يا جبريل ما بقاء أمتي على ذلك قال له جبريل إنما أنا عبد مثلك فادع ربك وسله لأمتك فقام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى فأحسن الصلاة ثم دعا فنزل جبريل فقال فقال‏:‏ إن اللّه تعالى سمع مقالتك وأجارهم من خصلتين وهو العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏.‏ فقال‏:‏ «يا جبريل ما بقاء أمتي إذا كان فيهم أهواء مختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض‏؟‏» فنزل جبريل بهذه الآية {‏الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ ١/٢‏]‏ الآية

وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ «افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة وتفترق أمتي اثنان وسبعون فرقة كلهم في النار إلا واحدة» قالوا‏:‏ يا رسول الله ما هذه الواحدة‏؟‏ قال‏: «أهل السنة والجماعة الذي أنا عليه وأصحابي» وفي خبر آخر‏.‏ «السواد الأعظم»

وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبد اللّه أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم‏}‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ «أعوذ بوجه اللّه» فلما نزلت{‏أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ قال‏:‏ «هاتان أهون» ويقال‏:‏ عذابا من فوقكم يعني‏:‏ سلطانا جائرا ‏{‏أو من تحت أرجلكم‏}‏ من سفهائكم يقلبون عليكم ‏{‏أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض‏}يعني‏:‏ الفتنة بين المحلتين أو القريتين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرف الايات‏}يعني‏:‏ نبين الآيات من البلاء والعذاب في القرآن ‏{‏لعلهم يفقهون‏}يعني‏:‏ يعقلون ما هم عليه‏.‏

٦٦

{‏وكذب به قومك به قومك وهو الحق‏}يعني‏:‏ القرآن ‏{‏قل لست عليكم بوكيل‏}يعني‏:‏ بحفيظ ومسلط‏.‏ وهذا قبل الأمر بالقتال‏.‏ ‏

٦٧

ثم قال‏: ‏{‏لكل نبإ مستقر‏}‏ المستقر‏:‏ هو غاية ينتهي إليها‏.‏ يقال‏:‏ لكل قول وفعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه وما كان منه في الآخرة فسوف تبدو لكم وستعلمون ذلك في الدنيا وفي الآخرة ويقال‏:‏ معناه‏:‏ سوف أؤمر بقتالكم إذا جاء وقته ‏{‏وسوف تعلمون‏}‏ في ذلك الوقت‏

٦٨

قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } يعني يستهزئون بالقرآن { فأعرض عنهم } يعني قم من عندهم واترك مجالستهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } يعني حتى يكون خوضهم واستهزاؤهم في غير القرآن { وأما ينسينك } يقول إن أنساك { الشيطان } وصية اللّه تعالى فجلست معهم فقم { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } يقول قم إذا ذكرت ودع { القوم الظالمين } يعني المشركين قرأ ابن عامر { وأما ينسينك الشيطان } بنصب النون وتشديد السين وقرأ الباقون بالتخفيف والجزم وهما لغتان نسيته وأنسيته

٦٩

ثم قال { وما على الذين يتقون } يعني الشرك والاستهزاء { من حسابهم } يعني من آثامهم { من شيء ولكن ذكرى } يعني ذكرهم بالقرآن إذا فعلوا ذلك { لعلهم يتقون } يعني لكي يتقوا الاستهزاء قال الكلبي وذلك أن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا يا رسول اللّه لئن كنا كلما استهزؤوا بالقرآن قمنا من عندهم لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام فنزل { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } الآية

٧٠

قوله تعالى { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } قال الضحاك يعني كفار قريش نصبوا أصنامهم في المسجد الحرام وقرطوها بالأقراط وعلقوا بيض النعام في أعناقها فنزل { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا }

وقال الكلبي إن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه للّه تعالى وكل قوم اتخذوا دينهم يعني عيدهم لهوا ولعبا إلا هذه الأمة فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة اللّه وخصنا بالصدقة وهي الجمعة والفطر والأضحى

وقال مقاتل اتخذوا دينهم الإسلام لعبا يعني باطلا ولهوا عنه

ثم قال { وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به } يعني عظ وخوف بالقرآن { أن تبسل نفس } يعني لكي لا تهلك نفس { بما كسبت } يعني بما عملت ويقال { أن تبسل نفس } يعني أن تسلم نفس بذنوبها إلى النار وهذا قول الضحاك وقال الأخفش أن ترهن نفس بما عملت ويقال تحبس

وقال القتبي أن تسلم إلى الهلكة ويقال تخذل ولا تنصر

ثم قال { ليس لها من دون اللّه ولي } يعني إذا وقع العذاب لم يكن لها مانع يمنعها من العذاب { ولا شفيع } يشفع لها { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } يقول لو جاءت بعدل نفسها رجلا مكانها أو يفتدي بما في الأرض جميعا { لا يؤخذ منها } يعني لا يقبل منها { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } يعني أهلكوا ويقال أبسلوا بذنوبهم إلى النار { لهم شراب من حميم } يعني ماء حار قد انتهى حره { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } في الدنيا

٧١

قوله تعالى { قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرنا } قال مقاتل وذلك أن كفار مكة عذبوا نفرا من المسلمين وراودوهم على الكفر قال اللّه تعالى للمسلمين قولوا لهم { أندعوا من دون اللّه } يعني الأوثان { ما لا ينفعنا } في الآخرة { ولا يضرنا } في الدنيا { ونرد على أعقابنا } يعني نعود ونرجع إلى الشرك { بعد إذ هدانا اللّه } إلى الإسلام { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } فإن مثلنا إن اتبعناكم كمثل الذي { استهوته الشياطين } يعني كمثل رجل كان مع قوم فضل الطريق فحيره الشيطان و { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } يعني إلى الطريق أن { ائتنا } فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم فذلك مثلنا إن تركنا دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقال مجاهد هذا مثل ضربه اللّه تعالى للكفار يقول الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب الكافر وقال ابن عباس في رواية أبي صالح نزلت الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فأبى أن يأتيهما وهو يدعوهما إلى الشرك فضرب اللّه تعالى له المثل بالذي استهوته الشياطين يعني أضلته

{ قل إن هدى اللّه هو الهدى } يعني دين اللّه هو الإسلام { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } يعني لنخلص بالعبادة والتوحيد للّه تعالى قرأ حمزة { استهواه } بلفظ التذكير بالإمالة وقرأ الباقون { استهوته } بلفظ التأنيث لأن فعل الجماعة مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث كقوله { توفته رسلنا } الأنعام ٦١

٧٢

قوله تعالى { وأن أقيموا الصلاة } يعني وأمرنا بالهدى وبالعمل يعني أقيموا الصلاة

{ واتقوه } يعني وحدوه ويقال أطيعوه ويقال هذا عطف على قوله و { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } وإلى إقامة الصلاة ويقال معناه أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة

ثم خوفهم

 فقال { وهو الذي إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه

٧٣

 فقال { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } يعني للحق وللعبرة { ويوم يقول } اليوم صار نصبا لأن معناه واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ويقال معناه واذكروا يوم يقول { كن فيكون } يعني يوم البعث يقول انتشروا في الأرض فانتشروا كلهم من القبور كقوله { يخرجون من الأجداث } يعني من القبور { كأنهم جراد منتشر } القمر ٧

ثم قال { قوله الحق } قرأ ابن عامر { فيكون } بالنصب على معنى الجزاء في كل القرآن إلا في موضعين هاهنا وفي آل عمران وقرأ الباقون بالرفع على معنى الخبر و { قوله } رفع الابتداء وخبره الحق يعني قوله الصدق أنه كائن

{ وله الملك يوم ينفخ في الصور } اليوم صار نصبا لنزع الخافض ومعناه وله الملك في يوم ينفخ في الصور وهذا كقوله عز وجل { لمن الملك اليوم } غافر ١٦ كقوله { ملك يوم الدين } الفاتحة ٤ ويقال هذا مبين لقوله الأول ومعناه يوم يقول { كن فيكون } { يوم ينفخ في الصور } وروي عن أبي عبيدة أنه قال معناه يوم ينفخ الأرواح في الصور يعني في الأجسام وهذا خلاف أقاويل جميع المفسرين لأنهم كلهم قالوا هو نفخ إسرافيل في الصور وروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وفي خبر آخر وصاحب الصور قد التقمه ينتظر متى يؤمر فينفخ فيه

ثم قال { عالم الغيب والشهادة } { الغيب } ما غاب عن العباد { والشهادة } ما علم العباد به ويقال السر والعلانية ويقال { عالم } بما يكون وبما قد كان ويقال { عالم } بأمر الآخرة وبأمر الدنيا { وهو الحكيم الخبير } يعني { الحكيم } في أمره { الخبير } بأفعال الخلق وبأمر البعث

٧٤

قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } وكان اسم أبيه تارح بن ناخور بلغة قومه وبلغة غيرهم كان آزر وقال السدي كان اسم أبيه آزر وهكذا قال الكلبي وقال بعضهم لم يكن آزر اسم أبيه ولكن كان اسم أكبر أصنامهم فقال أبوه لإبراهيم ربي آزر فقال إبراهيم على وجه التعجب آزر { أتتخذ أصناما آلهة } وقال مجاهد آزر ليس اسم أبيه وإنما هو اسم

صنم وقال الضحاك عن ابن عباس إن في هذه الآية تقديما فكأنه قال أتتخذ آزر أصناما آلهة يعني أتتخذ الصنم إلها ويقال آزر بلغتهم المخطئ الضال ومعناه { وإذ قال إبراهيم لأبيه } يا آزر المخطئ الضال أتتخذ أصناما آلهة وقرأ الحسن ويعقوب الحضرمي { آزر } بالضم ويكون معناه وإذ قال إبراهيم لأبيه يا آزر والقراءة المعروفة بالنصب لأنه على ميزان أفعل فلا ينصرف فصار نصبا في موضع الخفض ولأنه اسم أعجمي فلا ينصرف

ثم قال { إني أراك وقومك في ضلال مبين } يعني في خطأ وجهل بين بعبادتكم الأصنام

٧٥

ثم قال { وكذلك نري إبراهيم ملكوت } والملكوت والملك بمعنى واحد إلا أن الملكوت أبلغ في الوصف مثل رهبوت ورحموت كما يقال في المثل الرهبوت خير من الرحموت يعني أن ترهب خير من أن ترحم يعني أن إبراهيم لما برئ من دين أبيه آزر أراه اللّه { ملكوت السموات والأرض } يعني عجائب السموات والأرض { وليكون من الموقنين } يعني لكي يكون من الموقنين والواو زيادة كقوله { ولنحمل خطيكم } العنكبوت ١٢ يعني لكي نحمل وكذلك هاهنا { ليكون من الموقنين } يعني حتى يثبت على اليقين قال بعضهم صارت فرجة في السماء حتى رأى إلى سبع سماوات وصارت فرجة في الأرض حتى رأى إلى تحت الصخرة ويقال حين عرج به إلى السماء فنظر إلى عجائب السموات وروي عن عطاء انه قال لما رفع إبراهيم في ملكوت السماوات أشرف على عبد يزني فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر يزني فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له ربه عز وجل على رسلك يا إبراهيم فإنك مستجاب لك اكفف دعوتك عن عبادي فإن عبيدي عندي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وأما أن أخرج منه ذرية طيبة وأما أن يتمادى فيما هو فيه فأنا من ورائه أي أنا قادر عليه

وروي عن سلمان الفارسي أنه قال لما رأى إبراهيم ملكوت السموات رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك فقال اللّه تعالى أنزلوا عبدي كي لا يهلك عبادي ويقال إنه كان يقول أنا أرحم الخلق فلما رأى المعصية فدعا عليهم قال اللّه تعالى أنا أرحم أنا أرحم بعبادي منك اهبط لعلهم يرجعون

ويقال إن نمروذ بن كنعان قالت له كهنته يولد في هذه السنة غلام ينازعك في ملكك فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك السنة ويقال رأى في المنام أن كبشا دخل عليه فنطح سريره بقرنيه فسأل المعبرين فأخبروه أنه يولد غلام ينازعك في ملكك فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم بإبراهيم ولم يتبين حملها ولم يعرف أحد أنها حامل حتى أخذها الطلق فخرجت إلى جبل من الجبال ودخلت في غار فولدت إبراهيم عليه السلام وخرجت

ووضعت صخرة على باب الغار فجاءه جبريل عليه السلام ووضع إبهامه في فمه وكان يمصه ويخرج منه اللبن وكان يجعل سبابته في فمه فيمصها ويخرج منها العسل حتى كبر وأدرك في أيام قليلة ويقال إن أمه كانت تختلف إليه وترضعه حتى أرضعته سنتين وتحمل إليه الطعام حتى أدرك في المدة التي يدرك فيها الصبيان فخرج من الغار فنظر إلى السماء وإلى الأرض وإلى الجبال فتفكر في نفسه ثم قال إن لهذه الأشياء خالقا خلقها والذي خلق هذه الأشياء هو الذي خلقني فذلك قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } فكان في ذلك التفكير إذا نظر إلى نجم مضيء وهو المشتري فرآه أضوأ الكواكب وقد علم أن اللّه تعالى أعلى الأشياء ولا يشبهه شيء من خلقه ورأى الكواكب أعلى الأشياء أحسنها فقال { هذا ربي } وقال ذلك بغير فكره فكان ذلك منه زلة

٧٦

قوله تعالى { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } وقال هذا بغير فكره فكان ذلك منه زلة ويقال إنما قال ذلك على طريق الاستفهام أهذا ربي { فلما أفل } يعني غاب الكوكب { قال لا أحب الآفلين } يعني لا أحب ربنا يتغير عن حاله ويزول { فلما رأى القمر بازغا } يعني طالعا ويقال كان ذلك في وقت السحر وكان ذلك في آخر الشهر فرأى كوكبا يعني الزهرة حين طلعت وكان من أضوأ الكواكب فلما ارتفع وطلع الفجر نقص ضوؤه ف { قال لا أحب الآفلين } يعني لا أحب ربنا يتغير

٧٧

{ فلما رأى القمر } ورأى ضوءه أكثر من ضوء الكوكب { قال هذا ربي } على سبيل الاستفهام { فلما أفل } يعني نقص وضوؤه حين أسفر الصبح { قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين } يعني لئن لم يحفظ ربي قلبي لقد كنت اتخذت إلها ما لم يكن إلها { فلما رأى الشمس بازغة } يعني طالعة قد ملأت كل شيء ضوءا ف { قال هذا ربي هذا أكبر } يعني أعظم وأكمل ضوءا وأكثر نورا

٧٨

 { فلما أفلت } يعني غربت علم أنه ليس بإله فجاءته أمه فقال لها من ربي قالت أنا قال ومن ربك قالت أبوك قال ومن رب أبي قالت نمروذ بن كنعان قال ومن ربه قالت له اسكت فقال لها كيف هو هل يأكل ويشرب وينام قالت لعمر قال هذا لا يصلح أن يكون ربا وإلها فرجعت الأم إلى أب إبراهيم فأخبرته بالقصة فخرج إليه فسأله مثل ذلك ثم قال له في آخره تعالى حتى نعبد الذي خلقي

وخلقك وخلق نمروذ فغضب أبوه فرجع عنه ثم دخلت عليه رأفة الوالد لولده فرجع إليه وقال له ادخل المصر لتكون معنا فدخل فرأى القوم يعبدون الأصنام فدعوه إلى عبادة الأصنام ف { قال } لهم حينئذ { يا قوم إني بريء مما تشركون } فقيل له من تعبد أنت يا إبراهيم فقال أعبد اللّه الذي خلقني وخلق السموات والأرض فذلك

٧٩

قوله تعالى { إني وجهت وجهي } يعني أخلصت ديني وعملي { للذي فطر السموات } يعني خلق السموات { والأرض حنيفا } يقول إني وجهت وجهي له مخلصا مستقيما { وما أنا من المشركين } على دينكم ويقال إن قوله { هذا ربي } قال ذلك لقومه على جهة الاستهزاء بهم كما قال { بل فعله كبيرهم هذا } الأنبياء٦٣ ويقال أراد بهذا أن يستدرجهم فيظهر قبح قولهم وفعلهم وخطأ مذهبهم وجهلهم لأنهم كانوا يعبدون النجوم والشمس والقمر فلما رأى الكوكب قال لهم { هذا ربي } وأظهر لهم أنه يعبد ما يعبدون فلما غاب الكوكب قال لهم { لا أحب الآفلين } فأخبرهم بأن الآفل لا يصلح أن يكون إلها ثم قال في الشمس والقمر هكذا كما روي عن عيسى عليه السلام أنه بعث رسولا إلى ملك أرض الروم فلما انتهى إليهم جعل يسجد ويصلي عند الصنم ويريهم أنه يعبد الصنم وهو يريد عبادة اللّه تعالى ثم أن الملك ظهر له عدو فقالوا لهذا الرسول أشر علينا بشيء في هذا الأمر فقال لهم نتشفع إلى هذا الذي تعبدونه فجعلوا يسجدون له ويتشفعون إليه فلا يسمعون منه جوابا فقالوا أنه لا ينفعنا شيئا قال لهم لم نعبد من لا يدفع عنا ضرا ارجعوا حتى نعبد من ينفعنا فقالوا له لمن نعبد قال لرب السماء فجعل يدعو ويدعون حتى فرج اللّه عنهم فآمن به بعضهم وكذلك هاهنا أراد إبراهيم أن يريهم قبح ما يعبدون من دون اللّه لعلهم يرجعون فلما لم يرجعوا قال { يا قوم إني بريء مما تشركون } قرأ حمزة والكسائي رأى كوكبا بكسر الراء والألف وهي لغة لبعض العرب والنصب أفصح

٨٠

قوله تعالى { وحاجة قومه } معناه وحاجة قومه في اللّه ويقال وحاجة قومه في دين اللّه يعني خاصموه ف { قال } لهم إبراهيم { أتحاجوني في اللّه } يعني أتخاصموني في دين اللّه { وقد هدان } لدينه قرأ نافع وابن عامر { أتحاجوني } بتشديد الجيم وتخفيف النون وقرأ الباقون

بتشديد النون لأن أصله أتجاجونني بنونين فأدغم أحدهما في الآخر فقال { أتحاجوني } يعني أتجادلوني في دين اللّه { وقد هداني } يعني بين لي الطريق وكانت خصومتهم أنهم حين سمعوه عاب آلهتهم فقالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا فتهلك فقال لهم قوله تعالى { ولا أخاف ما تشركون } إني لا أخاف ما لا يسمع ولا يبصر وقال الكلبي ومقاتل لما خوفوه بذلك قال لهم إنما تخافون أنتم إذ سويتم بين الذكر والأنثى والصغير والكبير أما تخافون من الكبير إذ سويتموه بالصغير فذلك قوله تعالى { ولا أخاف ما تشركون به }

ثم قال تعالى { إلا أن يشاء ربي شيئا } فأخاف منهم ويقال { إلا أن يشاء ربي شيئا } يعني أن اللّه تعالى لا يشاء أن أخافهم

ثم قال { وسع ربي كل شيء علما } يعني ملأ علم ربي كل شيء علما يعني يعلم السر والعلانية { أفلا تتذكرون } يعني أفلا تتعظون فتؤمنون به

٨١

قوله تعالى { وكيف أخاف ما أشركتم } يعني من الأصنام { ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه ما لم ينزل به عليكم سلطانا } يقول كتابا وعذرا وحجة لكم فيه { فأي الفريقين أحق بالأمن } من العذاب الموحد أم المشرك { إن كنتم تعلمون } ذلك أنا أعبد إلها واحدا وأنتم تعبدون آلهة شتى

٨٢

ثم قال { الذي آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قال بعضهم هذا قول اللّه تعالى لما حكى قول إبراهيم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال له على أثر ذلك { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } يعني لم يخالطوا تصديقهم بالشرك ولم يعبدوا غيره { أولئك لهم الأمن } من العذاب { وهم مهتدون } من الضلالة وقال بعضهم هذا كله قول إبراهيم لقومه وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال من ابتلى فصبر وأعطي فشكر وظلم فاستغفر وظلم فغفر قيل له ما لهم يا رسول اللّه قال { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا أبو كرب قال حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه بن مسعود قال لما نزلت هذه الآية { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } شق ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه وأينا لم يظلم نفسه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ألا ترون إلى قول لقمان لابنه { إن الشرك لظلم عظيم } لقمان ١٣ يعني إن الظلم هنا أراد به الشرك

٨٣

ثم قال تعالى { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } يعني أعطيناها إبراهيم على قومه يعني وفقناه للحجة فخاصم بها قومه { نرفع درجات من نشاء } يعني نرفع فضائل من نشاء في الدنيا بالحجة وفي الآخرة بالدرجات { إن ربك حكيم } في أمره { عليم } بخلقه من يصلح للنبوة قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { درجات }

بالتنوين وقرأ الباقون { درجات } على معنى الإضافة

 

٨٤

ثم قال { ووهبنا له } يعني لإبراهيم { إسحاق ويعقوب } قال الضحاك ولدت سارة إسحاق ولها تسعة وتسعون سنة ولإبراهيم مائة وعشرون سنة ثم ولد لإسحاق يعقوب { كلا هدينا } يعني إسحاق ويعقوب هديناهما بالنبوة والإسلام { ونوحا هدينا من قبل } يعني هديناه للنبوة والإسلام من قبل إبراهيم { ومن ذريته } قال الكلبي يعني من ذرية نوح وقال الضحاك يعني من ذرية إبراهيم { داود } النبي عليه السلام { وسليمان } وهو ابن داود { وأيوب } وهو من ولد عيصو بن إسحاق عليهما السلام { ويوسف } وهو ابن يعقوب عليهما السلام { وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } يعني نوفيهم أفضل الثواب

٨٥

{ وزكريا } يعني من ذرية إبراهيم زكريا عليهما السلام { ويحيى وعيسى وإلياس } عليهم السلام قال الضحاك كان إلياس من ولد إسماعيل وذكر عن القتبي أنه كان من سبط يوشع بن نون { كل من الصالحين } يعني من المرسلين

٨٦

ثم قال { وإسماعيل } وهو من صلب إبراهيم عليهما السلام { واليسع } وكان اليسع تلميذ إلياس وكان خليفته من بعده قرأ حمزة والكسائي بلامين { والليسع } مشددا وسكون الياء وقرأ الباقون { وليسع } بالتخفيف بلام واحدة فمن قرأ بالتشديد فالاسم منه ليسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار الليسع ومن قرأ بالتخفيف فالاسم منه يسع ثم أدخلت الألف واللام للتعريف فصار اليسع وكذا هذا الاختلاف في سورة { ص }

ثم قال { ويونس } عليه السلام وهو ابن متى { ولوطا } عليه السلام { وكلا فضلنا على العالمين } بالرسالة والنبوة في زمانهم

ثم ذكر آباءهم

٨٧

 فقال { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم } يعني واصطفيناهم بالنبوة يعني آدم ونوحا وإدريس وهودا وصالحا عليهم السلام { وهديناهم إلى صراط مستقيم } وهو دين الإسلام

٨٨

{ ذلك هدى اللّه } يعني دين الإسلام { يهدي به من يشاء من عباده } يعني

يكرم بدينه من يشاء من عباده { ولو أشركوا } يعني هؤلاء النبيين { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } في الدنيا يعني إنما فضلهم اللّه بالطاعة

٨٩

ثم قال { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم } يعني العلم والفهم والفقه { والنبوة فإن يكفر بها } أي الأنبياء { هؤلاء } يعني أهل مكة { فقد وكلنا بها } يعني ألزمنا بها { قوما ليسوا بها بكافرين }

قال سعيد بن جبير هم الأنصار ويقال { فإن يكفر بها } يعني بآياتنا { فقد وكلنا بها } يعني بالإيمان بها { قوما ليسوا بها بكافرين } يعني الأنبياء الذين سبق ذكرهم ويقال الملائكة وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني أمة محمد عليه السلام { فقد وكلنا بها قوما } يعني النبيين الذين قص اللّه تعالى عنهم

٩٠

ثم قال تعالى { أولئك الذين هدى اللّه } { الذين } الأنبياء عليهم السلام { فبهداهم } يعني بسنتهم وبتوحيدهم { اقتده } على دينهم واستقم واعمل به وفي هذه الآية دليل أن شرائع المتقدمين واجبة علينا ما لم يظهر نسخها إذا ثبت ذلك في الكتاب أو ظهر على لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لأن اللّه تعالى أمرنا بأن نقتدي بهداهم واسم الهدى يقع على التوحيد والشرائع مثل { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة ١ - ٢ والكتاب يشتمل على الشرائع وغيرها قرأ حمزة والكسائي { فبهداهم اقتده } بالهاء عند الوقف وبغير الهاء عند الوصل لأن الفاء دخلت فيه عند الوقف لتبين الكسرة في الدال وعند الوصل تبين فلا يحتاج إلى إدخالها وقرأ ابن عامر بغير الهاء في الوقف والوصل جميعا وقرأ الباقون بالهاء في الوصل والوقف جميعا لأنها هاء الوقف مثل قوله { كتابيه } و { حسابيه }

ثم قال تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا } يعني قل للمشركين لا أسألكم على الإيمان والقرآن جعلا { إن هو } يعني ما هو وهو القرآن { إلا ذكرى للعالمين } يعني موعظة للعالمين الإنس والجن

٩١

قوله تعالى { وما قدروا اللّه حق قدره } يعني ما عظموا اللّه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته نزلت في مالك بن الضيف خاصمه عمر في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه مكتوب في التوراة فغضب وقال { ما أنزل اللّه على بشر من شيء } وكان رئيس اليهود فعزلته اليهود عن الرئاسة بهذه الكلمة قال مقاتل نزلت هذه الآية بالمدينة وسائر السور بمكة ويقال إن هذه السورة كلها مكية وكان مالك بن الضيف خرج مع نفر إلى مكة معاندين ليسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن أشياء وقد

كان اشتغل بالتنعم وترك العبادة وسمن فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات يوم بمكة فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنشدك اللّه أتجد في التوراة أن اللّه يبغض الحبر السمين قال نعم قال فأنت الحبر السمين فقد سمنت من مأكلتك فضحك القوم فخجل مالك بن الضيف وقال ما أنزل اللّه على بشر من شيء فبلغ ذلك اليهود فأنكروا عليه فقال إنه قد أغضبني فقالوا له كلما غضبت قلت بغير حق وتركت دينك فأخذوا الرياسة منه وجعلوها إلى كعب بن الأشرف فنزلت هذه الآية { وما قدروا اللّه حق قدره } حيث جحدوا تنزيله { إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشر من شيء } يعني على رسول من كتاب

{ قل } يا محمد { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وهو التوراة { نورا } يعني ضياء { وهدى } يعني بيانا { للناس } من الضلالة { جعلونه قراطيس } يقول تكتبونه في الصحف { تبدونها } يقول تظهرونها في الصحف { وتخفون كثيرا } يعني تكتمون ما فيه صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته وآية الرجم وتحريم الخمر { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } يعني علمتم أنتم وآباؤكم في التوراة ما لم تعلموا ويقال { علمتم } على لسان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم فإن أجابوك وإلا ف { قل اللّه } أنزله على موسى { ثم ذرهم } إن لم يصدقوك { في خوضهم } يعني في باطلهم { يلعبون } يعني يلهون ويهزؤون ويفترون قرأ ابن كثير وأبو عمرو { يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفونها كثيرا } كل ذلك بالياء على لفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة لأن ابتداء الكلام على المخاطبة

٩٢

ثم قال تعالى { هذا كتاب أنزلناه } يعني القرآن أنزلناه على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { مبارك } أي لمن عمل به لأن فيه مغفرة للذنوب وقال الضحاك { مبارك } يعني القرآن لا يتلى على ذي عاهة إلا برئ ولا يتلى في بيت إلا خرج منه الشيطان { مصدق الذي بين يديه } يعني هو مصدق الذي بين يديه من الكتب { ولينذر } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ولينذر } بالياء يعني الكتاب يعني أنزلناه للإنذار والبركة وقرأ الباقون بالتاء يعني لتنذر به يا محمد { أم القرى } يعني أهل مكة وهي أصل القرى وإنما سميت أم القرى لأن الأرض كلها دحيت من تحت الكعبة ويقال لأنها مثلث قبلة للناس جميعا أي يؤمونها ويقال سميت أم القرى لأنها أعظم القرى شأنا ومنزلة { ومن حولها } يعني قرى الأرض كلها

ثم قال { والذين يؤمنون بالآخرة } يعني بالبعث { يؤمنون به } أي بالقرآن ومن هو في

علم اللّه أنه سيؤمن { وهم على صلاتهم يحافظون } بوضوئها وركوعها وسجودها ومواقيتها

٩٣

قوله تعالى { ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا } نزلت في مسيلمة الكذاب زعم أن اللّه تعالى أوحى إليه وهو قوله تعالى { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه } يعني عبد اللّه بن أبي سرح كان كاتب الوحي فكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أملى عليه { سميعا عليما } يكتب عليما حكيما وإذا أملى عليه عليما حكيما كتب هو سميعا بصيرا وشك وقال إن كان محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يوحى إليه فقد أوحي إلي وإن كان ينزل إليه فقد أنزل إلي مثل ما أنزل إليه فلحق بالمشركين وكفر وقال الضحاك هو مسيلمة الكذاب كان يقول بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى جسيم الأمور وبعثت إلى محقرات الأمور ويقال هذا جواب لقولهم { لو نشاء لقلنا مثل هذا } الأنفال ٣١

ثم قال { ولو ترى إذ الظالمون } يعني ولو تعلم إذ الكافرون { في غمرات الموت } أي في نزعات الموت وسكراته فحذف الجواب لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه لو رأيتهم لرأيتهم في عذاب شديد

ثم قال { والملائكة باسطو أيديهم } بالضرب ويقولون { أخرجوا أنفسكم } يعني أرواحكم الخبيثة

قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حسين قال حدثنا محمد بن سلمة قال حدثنا أبو أيوب عن القاسم بن الفضل الحراني عن قتادة عن أسامة بن زهير عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك ومن ضباير الريحان وتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين ويقال لها يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي راضية مرضية ومرضيا عنك إلى روح اللّه وكرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليه الحريرة وبعث بها إلى العليين وإن الكافر إذا حضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنتزع روحه انتزاعا شديدا ويقال لها أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطة عليك إلى هوان اللّه وعذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وإن لها نشيجا ويطوى عليها المسح ويذهب بها إلى سجين

ثم قال تعالى { اليوم تجزون } يعني إذا بعثوا يوم القيامة يقال لهم اليوم تجزون { عذاب الهون } يعني الهوان ويقال الشديد { بما كنتم تقولون على اللّه } أي في الدنيا { غير الحق } بأن معه شريكا { وكنتم عن آياته تستكبرون } يعني عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن ولم تقروا به

٩٤

قوله تعالى { ولقد جئتمونا فرادى } يعني في الآخرة { فرادى } لا ولد لكم ولا مال الفرادى جمع فرد يعني ليس معكم من دنياكم شيء { كما خلقناكم أول مرة } أي في الدنيا حين ولدتم { وتركتم ما خولناكم } يعني أعطيناكم من المال والولد { وراء ظهوركم } في الدنيا { وما نرى معكم شفعاءكم } يعني آلهتكم { الذين زعمتم } في الدنيا { أنهم فيكم شركاء } يعني قلتم لي شركاء ولكم شفعاء عند اللّه تعالى

{ لقد تقطع بينكم } قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية حفص { بينكم } بالنصب وقرأ الباقون { بينكم } بالضم فمن قرأ بالضم جعل البين اسما يعني نقطع وصلتكم ومودتكم ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم فيصير نصبا بالظرف كما تقول أصبحت بينكم أي فيما بينكم { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } يعني اشتغل عنكم ما كنتم تعبدون وتزعمون أنها شفعاؤكم

٩٥

قوله تعالى { إن اللّه فالق الحب والنوى } يعني يشق الحبة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر ويقال { فالق الحب } مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها { والنوى } كل ثمرة فيها نوى مثل الخوخ والمشمش والغبيراء والإجاص { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } وقد ذكرنا تأويله { ذلكم اللّه } ربكم يعني هذا الذي يفعل بكم هو اللّه تعالى وهو الذي يفعل هذه الأشياء { فأنى تؤفكون } يعني كيف تكفرون ومن أين تكذبون فذكر عيب آلهتهم

ثم دل على وحدانيته بصنعه

٩٦

قال { فالق الإصباح } يعني خالق الإصباح الإصباح والصبح واحد ويقال الإصباح مصدرا أصبح يصبح إصباحا والصبح اسم ويقال { فالق الإصباح } يعني خالق النهار { وجعل الليل سكنا } قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم { وجعل الليل } على معنى الخبر وقرأ الباقون { جاعل الليل } على معنى الإضافة { سكنا } يعني يسكن فيه الخلق

ثم قال { والشمس والقمر حسبانا } يعني وجعل الشمس والقمر { حسبانا } يعني منازلهما بالحساب لا يجاوزانه إذا انتهيا إلى أقصى منازلهما رجعا وهذا قول الكلبي وقال

مقاتل { حسبانا } يعني يعرف بهما عدد السنين والحساب وقال القتبي { حسبانا } أي حسابا يقال خذ كل شيء أي بحسبانه أي بحسابه وقال الكلبي ويقال للشيء المعلق حسبانا { ذلك تقدير العزيز العليم } يقال هذا فعل { العزيز } في ملكه { العليم } بخلقه لا فعل لأصنامكم فيه

٩٧

ثم قال { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } يعني لتعرفوا بها الطريق { في ظلمات البر والبحر } يعني لتهتدوا بالكواكب في الليالي وتعرفوا بها قبلتكم { قد فصلنا الآيات } يعني بينا العلامات لوحدانية اللّه تعالى { لقوم يعلمون } وإنما أضاف إلى أهل العلم لأنهم هم الذين ينتفعون به فكأنه بين لهم ويقال { لقوم يعلمون } يعني يصدقون أنه من اللّه تعالى

٩٨

ثم قال { وهو الذي أنشأكم } يعني خلقكم { من نفس واحدة } وهو آدم { فمستقر ومستودع } يعني { مستقر } في الرحم { ومستودع } في الصلب ويقال { مستقر } في الصلب { ومستودع } في الرحم ويقال { مستقر } في الدنيا { ومستودع } في القبر قرأ ابن كثير وأبو عمرو { فمستقر } بكسر القاف وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فمعناه فلكم مستقر ولكم مستودع يعني موضع قرار وموضع إيداع ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الفاعل يقال قر الشيء واستقر بمعنى واحد يعني كنتم مستقرين { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } يعني بينا العلامات لمن له عقل وذهن

٩٩

قوله تعالى { وهو الذي أنزل من السماء ماء } يعني المطر { فأخرجنا به } بالمطر { نبات كل شيء } يعني معاشا للخلق من الثمار والحبوب وغير ذلك { فأخرجنا منه خضرا } خضر وأخضر بمعنى واحد الأخضر يعني النبات الأخضر وهو أول ما يخرج

ثم قال { نخرج منه حبا متراكبا } يعني السنبلة قد ركب بعضها بعضا { ومن النخل من طلعها } يعني أخرجنا بالماء من النخل من طلعها يعني من عذوقها وثمرها { قنوان دانية } يعني عذوقا متدلية متدانية قريبة ينالها القائم والقاعد يعني من عذوقها عذوق قريبة

{ وجنات من أعناب } يعني يخرج بالماء ( جنات من أعناب ) قرأ الأعمش { وجنات } بالضم عطفها على قوله { قنوان دانية } وقرأ العامة بالكسر ومعناه وأخرجنا جنات من أعناب { والزيتون } يعني أخرجنا منه شجر الزيتون { والرمان متشابها } يعني ورقها في المنظر يشبه بعضها بعضا ويقال ثمرتها مشتبهة في المنظر { وغير متشابه } في الطعم يعني بعضها حلو وبعضها حامض

قوله { انظروا إلى ثمره } قرأ حمزة والكسائي { انظروا إلى ثمره } بضم الثاء والميم وقرأ الباقون بالنصب وكذلك ما بعده فمن قرأ بالنصب فهو اسم الثمرة وإنما أراد به الجنس ومن قرأ بالضم فهو جمع الثمار { إذا أثمر وينعه } يعني ونضجه يعني انظروا إلى نضجه واعتبروا به واعلموا أن له خالقا فهو قادر على أن يحييكم بعد الموت كما أخرج من الأرض اليابسة النبات الأخضر ومن الشجرة الثمار { إن في ذلكم لآيات } يعني في اختلاف ألوانه لعلامات { لقوم يؤمنون } يعني يصدقون ويرغبون في الحق

١٠٠

قوله تعالى { وجعلوا للّه شركاء الجن } يعني وضعوا للّه شركاء وقال مقاتل وذلك أن بني جهينة قالوا إن صنفا من الملائكة يقال لهم الجن بنات الرحمن وذلك قوله { وجعلوا للّه شركاء الجن } وقال الكلبي { وجعلوا للّه شركاء الجن } نزلت هذه الآية في الزنادقة قالوا إن اللّه تعالى وإبليس لعنه اللّه ولعنهم أخوان قالوا إن اللّه تعالى خالق الناس والدواب وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب كقوله { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } الصافات١٥٨ قال الزجاج معناه أطاعوا الجن فيما سولت من شركهم فجعلوهم شركاء اللّه وهذا قريب مما قاله الكلبي

ثم قال { وخلقهم } يعني جعلوا للّه الذي خلقهم شركاء ويقال { وخلقهم } يعني خلق الجن ويقال وخلقهم يعني الذين تكلموا به { وخرقوا له بنين وبنات } يعني وصفوا له البنين والبنات { بغير علم } يعني بلا علم تعلمونه ويقال بلا حجة وبيان وروى عبد اللّه بن موسى عن جويرية قال سمعت رجلا سأل الحسن عن قوله { وخرقوا له } قال كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب في نادي القوم يقول بعض القوم خرقها واللّه وقوله { وخرقوا له بنين وبنات } يعني أن اليهود لعنهم اللّه قالوا عزيز ابن اللّه والنصارى

لعنهم اللّه قالوا المسيح ابن اللّه وكفار قريش جعلوا الملائكة والأصنام بنات اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا

ثم نزه نفسه فقال { سبحانه } يعني تنزيها له { وتعالى عما يصفون } يعني هو أعلى وأجل مما يصف الكفار بأن له ولدا قرأ نافع { وخرقوا } بالتشديد على معنى المبالغة

١٠١

قوله تعالى { بديع السموات والأرض } يعني خالق السموات والأرض يعني مبدعهما وهو أن يبتدئ شيئا ولم يكن شيئا يعني أنه ابتدعهما ولم يكونا { أنى يكون له ولد } قال القتبي { أنى } على وجهين يكون بمعنى كيف كقوله { فأتوا حرثكم أنى شئتم } البقرة٢٢٣ وكقوله { أنى يحى هذه اللّه بعد موتها } البقرة٢٥٩ ويكون بمعنى من أين كقوله { قتلهم اللّه أنى يؤفكون } التوبة٣٨ وكقوله { أنى يكون له ولد } أي من أين يكون له الولد { ولم تكن له صاحبة } يعني زوجة { وخلق كل شيء } يعني الملائكة والجن وعيسى وغيرهم وهم خلقه وعبيده { وهو بكل شيء عليم } مما خلق

١٠٢

ثم قال { ذلكم اللّه ربكم } يعني الذي فعل هذا هو ربكم { لا إله إلا هو } يعني لا خالق غيره { خالق كل شيء فاعبدوه } يعني وحدوه وأطيعوه { وهو على كل شيء وكيل } يعني كفيل بأرزاقهم ويقال { وكيل } يعني حفيظ

ثم عظم نفسه فقال { لا تدركه الأبصار } قال مقاتل يعني لا يراه الخلق في الدنيا وروى الشعبي عن مسروق قال قلت لعائشة رضي اللّه عنها هل رأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ربه فقالت لقد اقشعر قلبي مما قلت وجلدي أين أنت من ثلاثة من حدثك بهن فقد كذب من حدثك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه فقد كذب ثم قرأت { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } ومن حدثك أنه قد علم ما في غد فقد كذب ثم قرأت { وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا } سورة لقمان٣٤ ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب ثم قرأت { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } المائدة٦٧

ثم قال { وهو يدرك الأبصار } يعني لا يخفى عليه شيء ولا يفوته قال الزجاج في هذه الآية دليل أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيف حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أنهم لا يحيطون بعلمه فكيف به

١٠٣

ثم قال { وهو اللطيف الخبير } يعني { اللطيف } في فعله { الخبير } بخلقه وبأعمالهم وقال أبو العالية { لا تدركه الأبصار } يعني في الدنيا وتدركه أبصار المؤمنين في الآخرة

١٠٤

قوله تعالى { قد جاءكم بصائر من ربكم } وهو القرآن الذي فيه البيان { فمن أبصر فلنفسه } يقول من صدق بالقرآن وآمن به فثوابه لنفسه { ومن عمي فعليها } يعني من لم يصدق بالقرآن ولم يؤمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فعليه جزاء العذاب { وما أنا عليكم بحفيظ } يعني بمسلط وهذا قبل أن يؤمر بالقتال

١٠٥

ثم قال { وكذلك نصرف الآيات } يعني نبين لهم الآيات في القرآن في كل وجه { وليقولوا درست } قرأ ابن كثير وأبو عمرو { دارست } يعني ذاكرت أهل الكتاب وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي { وليقولوا درست } بغير ألف يعني قرأت الكتب ويقال تعلمت من جبر ويسار وكانا غلامين بمكة عبرانيين فقال أهل مكة إنما يتعلم منهما وقرأ ابن عامر { درست } بنصب الراء والسين وسكون التاء يعني هذا شيء قديم قد خلقت وقرأ بعضهم { درست } أي قرئت وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قرأ { ليقولوا } بغير واو { درس } بغير تاء يعني لكي يقولوا درس النبي وكان نزول هذه الآيات سبب لقولهم هذا فأضاف قولهم إلى الآيات ثم قال تعالى { ولنبينه لقوم يعلمون } يعني أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

١٠٦

قوله تعالى { اتبع ما أوحي إليك من ربك } يعني اعمل بما أنزل إليك من ربك من أمره ونهيه وذلك حين دعي إلى ملة آبائه ثم قال { لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين } يعني لا خالق غيره اتركهم على ضلالتهم

١٠٧

ثم قال { ولو شاء اللّه ما أشركوا } يقول ولو شاء اللّه لجعلهم مؤمنين ويقال { ولو شاء اللّه } لأنزل عليهم آية يؤمنون بها ويقال { لو شاء } لاستأصلهم فقطعهم بسبب شركهم { وما جعلناك عليهم حفيظا } يعني أن لم يوحدوا { وما أنت عليهم بوكيل } يعني بمسلط

١٠٨

قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه كانوا يذكرون الأصنام بسوء ويذكرون عيبهم فقال المشركون لتنتهين عن شتم آلهتنا أو لنسبن ربكم فنهى اللّه تعالى المؤمنين عن شتم آلهتهم عندهم لأنهم جهله { فيسبوا اللّه عدوا }

يعني اعتداء { بغير علم } منهم يعني بلا علم ويقال { عدوا } ظلما صار نصبا بالمصدر وفي الآية دليل أن الإنسان إذا أراد أن يأمر بالمعروف فيقع المأمور به في أمر هو شر مما هو فيه من الضرب أو الشتم أو القتل فإنه ينبغي أن لا يأمر ويتركه على ما هو فيه

ثم قال تعالى { كذلك زينا } يقول هكذا زينا { لكل أمة } يعني لكل أهل دين عملهم يعني ضلالتهم في الدنيا عقوبة ومجازاة لهم { ثم إلى ربهم مرجعهم } أي في الآخرة { فينبئهم بما كانوا يعملون } يعني فيجازيهم بذلك

١٠٩

قوله تعالى { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبأئهم وبالأصنام وبغير ذلك وكانوا يحلفون باللّه تعالى وإذا كانت اليمين باللّه يسمونه جهد اليمين ولما نزل قوله { إن نشأ ننزل عليهم من السماء ءاية } الشعراء ٤ قالوا أنزلها فواللّه لنؤمنن بك وقال المسلمون أنزلها لكي يؤمنوا فنزل { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } يقول حلفوا باللّه { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } قال اللّه تعالى { قل إنما الآيات عند اللّه } إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها

ثم قال { وما يشعركم أنها } يقول وما يدريكم أنها { إذا جاءت } يعني الآية { لا يؤمنون } وقال مقاتل { وما يشعركم } يا أهل مكة أنها إذا جاءتكم لا تؤمنون وقال الكلبي يعني { وما يشعركم } أيها المؤمنون إنها إذا جاءت لا يؤمنون قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { إنها } بالكسر على معنى الابتداء وإنما يتم الكلام عند قوله { وما يشعركم } ثم ابتدأ فقال { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ويشهد لهذا قراءة عبد اللّه بن مسعود { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون } وقرأ الباقون { أنها } بالنصب على معنى البناء وتشهد لها قراءة أبي وما يشعركم لعلها إذا جاءت وقرأ ابن عامر وحمزة { لا تؤمنون } بالتاء على معنى المخاطبة وهذه القراءة توافق لقول مقاتل

١١٠

ثم قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } يعني نترك قلوبهم وأبصارهم معلقة كما هي ولا نوفقهم { كما لم يؤمنوا به أول مرة } قبل نزول الآيات ويقال عند انشقاق القمر لما لم يعتبروا به ولم يؤمنوا فعاقبهم اللّه تعالى وختم على قلوبهم فثبتوا على كفرهم

{ ونذرهم } يقول وندعهم { في طغيانهم } يعني في ضلال { يعمهون } يعني يترددون ويتحيرون فيه ويقال { كما لم يؤمنوا به أول مرة } يعني كما لم يؤمن به أوائلهم من الأمم الخالية لما سألوا الآية من أنبيائهم عليهم السلام

١١١

قوله تعالى { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } هذا جواب لقولهم { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } قال اللّه تعالى { ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة } كما سألوا حتى يشهدوا بأنك رسول اللّه { وكلمهم الموتى } بأنك رسول اللّه { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } قرأ نافع وابن عامر { قبلا } بكسر القاف ونصب الباء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالضم فمعناه جماعة القبيل والقبيل الكفيل ويقال { قبلا } أي أصنافا من الآدميين ومن الملائكة ومن الوحش ومن قرأ { قبلا } بالكسر معناه وحشرنا عليهم كل شيء معاينة فعاينوه { ما كانوا ليؤمنوا } وهذا إعلام للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأنهم لا يؤمنون كما أعلم نوحا { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن } هود ٣٦

ثم قال { إلا أن يشاء اللّه } يعني إلا من هو أهل لذلك فوفقه اللّه تعالى ويقال { إلا أن يشاء اللّه } يقول قد شاء اللّه أن لا يؤمنوا حيث خذلهم ولم يوفقهم { ولكن أكثرهم يجهلون } عن ذلك ويقال { أكثرهم يجهلون الحق } أنه من اللّه تعالى ويقال { يجهلون } ما في العلامة من وجوب هلاكهم بعد العلامة إن لم يؤمنوا

١١٢

قوله تعالى { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا } يعني أعداء ومعنى ذلك كما جعلنا لك ولأمتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه كذلك جعلنا لكل نبي عدوا { شياطين الإنس والجن }

قال مقاتل وذلك أن إبليس وكل شياطين الإنس وشياطين الجن يضلونهم فإذا التقى شيطان الجن مع شيطان الإنس قال أحدهما للآخر إنى أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا فذلك قوله { يوحي بعضهم إلى بعض } يعني يكلم بعضهم بعضا بالإضلال وقال عكرمة للجن شياطين مثل شياطين الإنس

وروي عن الزبير بن العوام أن جنيا شكا إليه ما لقي من الشيطان فعلمه دعاء ليخلص منه فدعا به ووجه آخر شياطين الإنس والجن يعني الشياطين من الإنس والشياطين من الجن لأن كل عات متمرد فهو شيطان

وروى عن أبي ذر الغفاري أنه قال دخلت على رسول للّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في المسجد فأمري أن أصلي ركعتين فصليت ثم جلست عنده قال يا أبا ذر تعوذ باللّه من شياطين الإنس وشياطين الجن فقلت يا رسول اللّه أو من الإنس شياطين فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو ما تقرأ قوله { شياطين الإنس والجن } وكذلك مثل هذين القولين في قوله تعالى { الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنة والناس}‏ ‏[‏الناس‏:‏ ٥ ٦‏]‏

ثم قال{‏يوحى بعضهم إلى بعض‏}‏ يعن يوسوس بعضهم بعضا‏.‏ ‏{‏زخرف القول غرورا‏} يعني‏:‏ ما زين منه وحسن وموه يعني‏:‏ يزين القول باطلا يغرهم بذلك‏.‏ وأصل الزخرف الذهب‏.‏ وسمى الزينة زخرفا لأن أصل الزينة من الذهب يعني‏:‏ يزين لبعض الأعمال‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏} يعني‏:‏ لو شاء ربك لمنعهم من الوسوسة ولكن الله يمتحن بما يعلم أنه أبلغ في الحكمة وأجزل في الثواب ‏{‏فذرهم وما يفترون‏} يعني‏:‏ خل عنهم وما يكذبون من القول والغرور‏.‏

 

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولتصغى إليه‏}‏ يقول‏:‏ ولتميل إلى ذلك الزخرف والغرور‏.‏ ‏{‏أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة‏}‏ إلى هذه الزينة والغرور ‏{‏وليرضوه‏}‏ يقول‏:‏ لكي يقبلوا من الشياطين الزينة والغرور ‏{‏وليقترفوا ما هم مقترفون‏} يعني‏:‏ ليكسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي وليعملوا ما هم عاملون‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏وليرضوه وليقترفوا‏}‏ بجزم اللام على معنى الأمر والمراد به التهديد كقوله ‏{‏إن الذين يلحدون فى ءاياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى ءامنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ ٤٠‏]‏ والقراءة المعروفة بكسر اللام والمراد به التهديد ومعناه‏:‏ اتركهم ليعلموا ما هم عاملون‏.‏

 

وقوله تعالى‏:‏

 

تفسير الآيات رقم ‏[‏١١٤- ١١٧‏]‏

 

‏{‏أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ‏(‏١١٤‏)‏ وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ‏(‏١١٥‏)‏ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ‏(‏١١٦‏)‏ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ‏(‏١١٧‏)‏‏}‏

 

{‏أفغير الله أبتغى حكما‏} يعني‏:‏ أعبد غير الله‏؟‏ ويقال‏:‏ أأطلب القضاء من غير الله‏؟‏ ‏{‏وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا‏} يعني‏:‏ مبينا فيه أمره ونهيه بلغة يعرفونها‏.‏ ويقال‏:‏ مفرقا سورة سورة وآية آية‏.‏ ‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب‏} يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب ‏{‏يعلمون أنه منزل من ربك بالحق‏} يعني‏:‏ القرآن منزل من الله بالعدل‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص ‏{‏منزل‏}‏ بتشديد الزاي وقرأ الباقون بالتخفيف‏.

 

٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩ ١٠ ١١ ١٢ ١٣ ١٤ ١٥ ١٦ ١٧ ١٨ ١٩ ٢٠ * الزاي وقرأ الباقون بالتخفيف

١١٤

ثم قال تعالى { فلا تكونن من الممترين } يعني الشاكين في أنه الحق وأنه من اللّه خاطبه بذلك وأراد به غيره من المؤمنين لكي لا يشكوا فيه

١١٥

قوله تعالى { وتمت كلمة ربك } يقول وجب قول ربك بأنه ينصر محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وأن عاقبة الأمر له { صدقا وعدلا } يعني { صدقا } فيما وعد له من النصرة { وعدلا } فيما حكم به { لا مبدل لكلماته } يقول لا مغير لوعده كقوله { لننصر رسلنا } غافر ٥١ ويقال { لا مبدل لكلماته } يعني لا ينقض بعضه بعضا ولا يشبه كلام البشر وروى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } قال هو قول لا إله إلا اللّه { وهو السميع العليم } { السميع } بما سألوا { العليم } بهم

١١٦

ثم قال تعالى { وإن تطع أكثر من في الأرض } يعني أهل أرض مكة فيما يدعونه إلى ملة آبائه ويقال { وإن تطع أكثر من في الأرض } يعني الكفار لأن أكثر من في الأرض كانوا كفارا { يضلوك عن سبيل اللّه } يعني يصرفونك عن دين اللّه الإسلام { إن يتبعون إلا الظن } يعني القوم يتبعون أكابرهم بالظن ويتبعونهم فيما لا يعلمون أنهم على الحق فإن قيل كيف يعذبون وهم ظانون على غير يقين قيل لهم لأنهم اقتصروا على الظن والجهل لأنهم اتبعوا أهواءهم ولم يتفكروا في طلب الحق ويقال { إن يتبعون إلا الظن } يعني في أكل الميتة واستحلالها { وإن هم إلا يخرصون } يعني ما هم إلا كاذبون باستحلالهم الميتة وأكلهم لأنهم كانوا يقولون ما قتل للّه فهو أولى بالحل وبأكله مما نذبحه بأيدينا

١١٧

ثم قال { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله } يعني عن دينه وعن شرائع الإسلام { وهو أعلم بالمهتدين } لدينه قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { وتمت كلمة ربك } بلفظ الوحدان وقرأ الباقون { كلمات } بلفظ الجماعة

١١٨

قوله تعالى { فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه } من الذبائح { إن كنتم بآياته مؤمنين } يعني مصدقين فقد بين اللّه تعالى أنه لا يجوز أكل الميتة وإنما يحل أكل ما ذبح وذكر اسم اللّه عليه

١١٩

ثم قال { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه } يعني مما ذبح وذكر اسم اللّه عليه { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } يعني بين لكم تحريمه في سورة المائدة وغيره من { ما حرم عليكم} يعني الميتة وغيرها { إلا ما اضطررتم إليه } يقول ما اجتهدتم إلى أكل الميتة عند الجوع قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو { فصل لكم } بضم الفاء { ما حرم عليكم } بضم الحاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وقد فصل } بالنصب { وما حرم } بالضم وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص كلاهما بالنصب يعني بين اللّه لكم ما حرم عليكم

ثم قال { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } يقول يدعون إلى أكل الميتة بغير علم { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } من الحلال إلى الحرام

١٢٠

قوله تعالى { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } يعني زنى السر والعلانية لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون الزنى في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فأخبر اللّه تعالى أن الزنى حرام في السر والعلانية ويقال { ظاهر الإثم } هو الزنى { وباطنه } القبلة واللمس والنظر وقال الضحاك { ظاهر الإثم } الزنى { وباطنه } نكاح الأمهات والأخوات وقال قتادة { ظاهر الإثم وباطنه } يعني قليله وكثيره ويقال ظاهره ارتكاب المعاصي وباطنه ترك الفرائض ويقال باطنه الرياء في الأعمال ويقال الكفر ويقال جميع المعاصي { إن الذين يكسبون الإثم } يقول يعملون الفواحش ويتكلمون بها { سيجزون بما يقترفون } يقول سيعاقبون بما كانوا يكسبون من الإثم قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بضم الياء يعني يضلون الناس وقرأ الباقون { ليضلون } بنصب الياء يعني يضلون بأنفسهم

١٢١

قوله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه } يعني ما لم يذك ولم يذبح أو ذبح بغير اسم اللّه { وإنه لفسق } يعني أكله معصية واستحلاله كفر { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } يعني يوسوسون إلى أوليائهم من المشركين { ليجادلوكم } يقول ليخاصموكم في أكل الميتة وهو قولهم ما قتله اللّه فهو أولى أن يؤكل ويقال الوحي على ثلاثة أوجه الإشارة والإلهام والوسوسة وروي عن عبد اللّه بن الزبير أنه قيل له إن المختار يقول يوصي إلي فقال صدق { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم }

قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي جعفر قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال قال المشركون للمسلمين ما قتل ربكم ومات فلا تأكلوه وما

قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه فأوحى اللّه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه } إلى قوله { وإن أطعتموهم } يعني في أكل الميتة واستحلالها { إنكم لمشركون } مثلهم ففي الآية دليل أن من استحل شيئا مما حرم اللّه تعالى صار مشركا

١٢٢

ثم قال تعالى { أو من كان ميتا فأحييناه } يعني من كان ضالا كافرا فهديناه إلى الإسلام والتوحيد { وجعلنا له نورا يمشي في الناس } يعني أكرمناه بالمغفرة ويقال جعلنا له إيمانا يهتدي به إلى سبيل الخيرات والنجاة { يمشي به في الناس } يعني مع المؤمنين ويقال أعطيناه نورا يوم القيامة يمشي به على الصراط مع المؤمنين ولا يكون حاله { كمن مثله في الظلمات } يعني كمن قدر عليه الكفر ونزل في الكفر مخذولا { ليس بخارج منها } يعني ليس براجع منها قال الكلبي نزلت في عمار بن ياسر يعني ليس حاله كحال الكفار وقال مقاتل يعني به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليس مثل أبي جهل بن هشام الذي بقي في الكفر ويقال يعني جميع المؤمنين ليس حالهم كحال الكفار قرأ نافع { أو من كان ميتا } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد

ثم قال { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } يعني هكذا يعاقب من اختار الكفر على الإيمان فيختم على قلبه مجازاة لكفره

١٢٣

ثم قال { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } يعني جعلنا مجرميها أكابرها وجبابرتها كما جعلنا في أهل مكة وهذا معطوف على ما قبله أي مثل ذلك جعلنا في كل قرية كما زين للكافرين { ليمكروا فيها } يعني ليتكبروا فيها ويكذبوا رسلهم { وما يمكرون } يعني وما يصنعون ذلك { إلا بأنفسهم } أي إلا على أنفسهم { وما يشعرون } أن ذلك على أنفسهم

١٢٤

قوله تعالى { وإذا جاءتهم آية } يعني الأكابر الذين سبق ذكرهم ويقال كفار مكة إذا

جاءتهم علامة مثل انشقاق القمر وغيره { قالوا لن نؤمن } لك يعني لن نصدقك ولن نؤمن بالآيات { حتى نؤتى مثل ما أوتي } أي مثل ما أعطي { رسل اللّه } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم من الآيات والعلامات ويقال لن نصدقك حتى يوحى إلينا كما أوحي إلى الرسل وذلك أن الوليد بن المغيرة وأبا مسعود الثقفي قالا لو أراد اللّه تعالى أن ينزل الوحي لأنزل علينا قال بعضهم أرادوا به محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وقال بعضهم أرادوا به جميع الرسل فقال اللّه تعالى { اللّه أعلم حيث يجعل رسالته } ومن يصلح للنبوة ومن لا يصلح فخص بها محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم { سيصيب الذين أجرموا } يعني اشركوا { صغار عند اللّه } يعني مذلة وهوان عند اللّه أي من عند اللّه العذاب بالمستهزئين { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون } يعني يكذبون بالرسل قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص { حيث يجعل رسالته } بلفظ الوحدان وقرأ الباقون { رسالاته } بلفظ الجماعة

١٢٥

قوله تعالى { فمن يرد اللّه أن يهديه } يعني من يرد اللّه أن يوفقه للإسلام ويهديه لدينه { يشرح صدره للإسلام } يقول يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام ويدخل فيه نور الإسلام وحلاوته وقال القتبي { يشرح صدره } يعني يفتحه

قال الفقيه قال حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه عن سفيان عن خالد بن أبي كريمة عن عبد اللّه بن مسعود أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية { فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام } قالوا يا رسول اللّه وكيف ذلك قال إذا دخل النور في القلب انشرح وانفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف به قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت

ثم قال تعالى { ومن يرد أن يضله } أي عن الإسلام { ويجعل صدره ضيقا } يعني غير موسع { حرجا } يعني شاكا وقال ابن عباس كالشجرة الملتفة بعضها في بعض لا يجد النور منفذا ومجازا قرأ ابن كثير { ضيقا } بتخفيف الياء وجزمها وقرأ الباقون بالتشديد ومعناهما واحد وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { حرجا } بكسر الراء وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب فهو المصدر ومن قرأ بالكسر فهو النعت

ثم قال تعالى { كأنما يصعد في السماء } يعني مثله كمثل الذي تكلف الصعود إلى السماء وهو لا يستطيع فكذلك قلب الكافر لا يستطيع قبول الإسلام قرأ ابن كثير { يصعد } بجزم الصاد بغير تشديد من صعد يصعد وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { يصاعد } بالألف مع تشديد الصاد لأن أصله يتصاعد فأدغم التاء في الصاد وقرأ الباقون { يصعد } بتشديد الصاد والعين بغير ألف لأن أصله يتصعد فأدغم التاء في الصاد

ثم قال تعالى { كذلك يجعل اللّه الرجس } يعني العذاب { على الذين لا يؤمنون } بأن لا يرزقهم حلاوة الإيمان على الذين لا يرغبون في الإيمان ويقال الرجس في اللغة هو اللعنة والعذاب

١٢٦

قوله تعالى { وهذا صراط ربك مستقيما } يعني هذا التوحيد دين ربك مستقيما يعني قائما برضاه { قد فصلنا الآيات } يعني بينا الآيات في أمر القلوب والهدى والضلالة { لقوم يذكرون } يعني يتعظون ويتفكرون في توحيد اللّه ويقال معناه لا عذر لأحد في التخلف عن الإيمان لأن اللّه تعالى قد بين طريق الهدى وقد بين العلامات في ذلك لمن كان له عقل وتمييز

ثم ذكر ما أعد اللّه للمؤمنين في الآخرة

١٢٧

 فقال { لهم دار السلام عند ربهم } وهي الجنة وهي دار السلام من الأمراض والآفات والخوف والهرم وغير ذلك ويقال ( لهم دار السلام ) فاللّه السلام والجنة داره يعني دار رب العزة التي أعد لأوليائه وهي الجنة { وهو وليهم } أي اللّه حافظهم وناصرهم في الدنيا ويقال { وهو وليهم } في الآخرة بالثواب أي يجزيهم { بما كانوا يعملون } في الدنيا

١٢٨

قوله تعالى { ويوم يحشرهم } يقول واذكر يوم يجمعهم اللّه { جميعا } يعني الجن والإنس قرأ عاصم في رواية حفص { يحشرهم } بالياء يعني أن اللّه يحشرهم وقرأ الباقون { نحشرهم } بالنون { يا معشر الجن } يقول لهم يا معشر الجن { قد استكثرتم من الإنس } يعني قد أضللتم كثيرا من الإنس { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين أضلوهم { ربنا استمتع بعضنا ببعض } يعني انتفع بعضنا ببعض فكان استمتاع الإنس بالجن في الدنيا وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا سافر واحد منهم فأدركه المساء بأرض قفر وخاف بالليل فقال أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه فأمن ولبث في جوارهم حتى يصبح وكان استمتاع الجن بالإنس أن قالوا لقد سودنا الإنس والجن فيزيدون شرفا في قومهم يعني فيما بين الجن والإنس

{ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني الموت الذي جعلته أجلنا في هذه الدنيا وهذا قول الكلبي وقال الضحاك { ربنا استمتع بعضنا ببعض } يعني خدع بعضنا بعضا عن دينك يعني

 

أن الجن قد خدعونا وأضلونا { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني ما كتبت علينا من الشقاوة { قال النار مثواكم } يعني منزلكم وهم الجن والإنس { خالدين فيها } مقيمين في النار { إلا ما شاء اللّه } قال الكلبي مشيئة اللّه من كل شيء ويقال إلا ما شاء اللّه البرزخ والقيامة يعني قد شاء لهم الخلود فيها ويقال { إلا ما شاء اللّه } من إخراج من يخرج منها من أهل التوحيد { إن ربك حكيم عليم }

١٢٩

ثم قال تعالى { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } يعني نسلط بعض كفار الجن على كفار الإنس ويقال نولي بعض الظالمين على بعضه فيهلكه أو يذله وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه لأنه لو لم يمتنع لسلط اللّه عليه ظالما آخر ويدخل في الآية جميع من يظلم ومن ظلم في رعيته أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم وقال فضيل بن عياض إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا وقال ابن عباس إذا رضي اللّه عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط اللّه على قوم أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون ثم تلا قوله { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا }

عن مالك بن دينار قال قرأت فيما أنزل اللّه في بعض الكتب المنزلة أن اللّه تعالى يقول إني أنا اللّه مالك الملوك قلوب الملوك بيدي ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا إلي أجعلهم عليكم رحمة

ثم قال { بما كانوا يكسبون } يعني يسلط بعضهم على بعض بأعمالهم الخبيثة

١٣٠

ثم قال { يا معشر الجن والإنس } يقول لهم { ألم يأتكم رسل منكم } قال مقاتل بعث اللّه تعالى رسلا من الجن إلى الجن ومن الإنس إلى الإنس ويقال رسل الجن التسعة الذين سمعوا القرآن من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورجعوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا أجيبوا داعي اللّه ويقال { ألم يأتكم رسل منكم } يعني من الإنس خاصة وقال ابن عباس كانت الرسل تبعث إلى الإنس وأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إلى الجن والإنس

ثم قال تعالى { يقصون عليكم } يقول يقرؤون ويعرضون عليكم { آياتي } يعني القرآن { وينذرونكم } يعني يخوفونكم { لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } يعني يقولون بلى أقررنا أنهم قد بلغوا وكفرنا بهم يعني كما قالت الرسل وذلك بعدما شهد عليهم سمعهم وأبصارهم يقول اللّه تعالى { وغرتهم الحياة الدنيا } يعني ما في الدنيا من زهرتها وزينتها

{ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } في الدنيا يقول اللّه تعالى { النار مثواكم خالدين فيها } الأنعام ١٢٨ على وجه التقديم والتأخير

١٣١

قوله تعالى { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } يعني ذلك السؤال والشهادة ويقال { ذلك } يعني إرسال الرسل إلى الجن والإنس ليعلم { أن لم يكن ربك مهلك القرى } يعني معذب أهل القرى { بظلم } أي بغير ذنب في الدنيا { وأهلها غافلون } عن الرسل ويقال غافلون عن العذاب لأنه قد بين لهم وأخذ عليهم الحجة

١٣٢

ثم قال تعالى { ولكل درجات مما عملوا } يعني ولكل واحد من المؤمنين فضائل في الجنة بعضهم أرفع درجة من بعض وللكافرين درجات بعضهم أشد عذابا من بعض { وما ربك بغافل عما يعملون } يعني لمن ينسى الطاعة من المطيعين ولا المعصية من العاصين ويجازي كل نفس بما عملت قرأ ابن عامر { عما تعملون } على معنى المخاطبة وقرأ الباقون { يعملون } بالياء على معنى المغايبة

١٣٣

قوله تعالى { وربك الغني ذو الرحمة } يعني { الغني } عن عبادة خلقه { ذو الرحمة } بتأخير العذاب عنهم ويقال { ذو الرحمة } يعني ذو التجاوز عمن تاب ورجع إليه بالتوبة { إن يشأ يذهبكم } يعني يهلككم { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } خلقا غيركم من بعد هلاككم { ما يشاء } إن يشأ مثلكم وإن يشأ أطوع منكم { كما أنشأكم } يقول كما خلقكم { من ذرية قوم آخرين } قرنا من بعد قرن ولكنه لا يهلككم رحمة منه لكي تراجعوا وتتوبوا إليه

١٣٤

ثم قال { إن ما توعدون لآت } يعني الوعيد الذي أوعد في الآخرة من العذاب لآت يقول لكائن لا خلف فيه { وما أنتم بمعجزين } يعني بسابقين اللّه تعالى بأعمالكم الخبيثة التي يجازيكم بها هذا قوله مقاتل وقال الكلبي { بمعجزين } أي بفائتين أن يدرككم ويقال في اللغة أعجزني أي فاتني وسبقني

١٣٥

ثم قال { قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } أي على موضعكم يقال مكان ومكانة مثل منزل ومنزلة معناه اعملوا على ما أنتم عليه اليوم ويقال { اعملوا } أي اجتهدوا ما استطعتم ويقال اعملوا في منازلكم من الخير والشر فإنكم تجزون بها لا محالة { إني عامل }

بما أوحى اللّه إلى ويقال اعملوا بمكاني وأنا عامل بمكانكم { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } فهذا وعيد من اللّه تعالى يقول نبين لكم من تكون له عاقبة الأمور في الدنيا ومن تكون له الجنة في الآخرة { إنه لا يفلح الظالمون } مخاطبا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أي في الآخرة ولا يأمن المشركون قرأ عاصم في رواية أبي بكر { اعملوا على مكاناتكم } في جميع القرآن بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { مكانتكم } وقرأ حمزة والكسائي { من يكون } بالياء لأنه انصرف إلى المعنى وهو الثواب والباقون قرؤوا بالتاء لأن لفظ العاقبة لفظ مؤنث

١٣٦

قوله تعالى { وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والأنعام } وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كانوا يسمون للّه جزءا من الحرث ولأوثانهم جزءا فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء اللّه تعالى أخذوه وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه للّه إلى جزء الأصنام تركوه وقالوا إن اللّه غني عن هذا وقال السدي ما خرج من نصيب الأصنام أنفقوه عليها وما خرج من نصيب اللّه تصدقوا به فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي للّه قالوا ليس لآلهتنا بد من النفقة فأخذوا الذي للّه وأنفقوه على الأصنام وإذا هلك الذي للّه وكثر الذي للأصنام قالوا لو شاء اللّه لأزكى ماله فلا يردون عليه شيئا فذلك قوله تعالى { وجعلوا للّه مما ذرأ } يعني مما خلق من الحرث والأنعام { نصيبا } يعني جعلوا للّه نصيبا ولشركائهم نصيبا فاقتصر على المذكور لأن في الكلام دليلا على المسكوت عنه { فقالوا هذا للّه بزعمهم } يقول بقولهم ولم يأمرهم اللّه بذلك { وهذا لشركائنا } يعني للأصنام { فما كان لشركائهم } يعني لأصنامهم { فلا يصل إلى اللّه } يقول فلا يضعون شيئا في نصيب اللّه تعالى { وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم } يقول يوضع في نصيبهم { ساء ما يحكمون } يعني لو كان معه شريك كما يقولون ما عدلوا في القسمة ويقال { ساء ما يحكمون } حيث وصفوا للّه شريكا قرأ الكسائي بزعمهم بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد

١٣٧

ثم قال تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } يعني زين لهم شركاؤهم وهم الشياطين قتل أولادهم لأنهم يقتلون أولادهم مخافة الفقر والحمية ويدفنون بناتهم أحياء فزين لهم الشيطان ذلك كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام ويقال

كان الواحد منهم ينذر أنه إذا ولد له كذا وكذا ولدا بذبح واحدا منهم كما فعل عبد المطلب فزين لهم الشيطان قتل أولادهم فذلك قوله { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } قرأ ابن عامر ومن تابعه من أهل الشام { وكذلك زين } بضم الزاي { قتل } بضم اللام { أولادهم } بفتح الدال { شركائهم } بالخفض وإنما قرئ { زين } بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه قتل شركائهم على معنى التقديم ومعناه قتل شركائهم وهم أولادهم لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم فصار شركاؤهم نعتا للأولاد وصار الأولاد نصبا على وجه التفسير وقرأ الباقون بالنصب لأنه فعل ماض و { قتل } بالنصب لأنه مفعول { أولاد } بالجر لأنهه مضاف إليه { شركاؤهم } بالضم لأنه جعل الشركاء على وجه الفاعل

ثم قال تعالى { ليردوهم } يعني ليهلكوهم بذلك { وليلبسوا } يعني ليخلطوا وليشبهوا { عليهم دينهم } يعني دين إبراهيم وإسماعيل

ثم قال { ولو شاء اللّه ما فعلوه } يعني لو شاء اللّه لمنعهم من ذلك منع اضطرار وقهر ولأهلكهم { فذرهم وما يفترون } يعني دعهم وما يكذبون بأن اللّه تعالى أمرهم بذلك ومعناه أن اللّه تعالى مع قدرته عليهم قد تركهم إلى وقت { فذرهم } فاتركهم أنت أيضا إلى الوقت الذي تؤمر بقتالهم ويقال معناه دعهم فإن لهم موعدا بين يدي اللّه فيحاسبهم ويجازيهم بها

١٣٨

قوله تعالى { وقالوا هذه أنعام وحرث } وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحرث وهو نوع من الزرع حرموها على النساء { حجر } يعني حرام والحجر يكون عبارة عن العقل كقوله { هل في ذلك قسم لذي حجر } الفجر ٥ أي لذي لب وعقل ويكون عبارة عن الحرام كقوله { حجرا محجورا } الفرقان ٢٢ يعني حراما محرما وكقوله { هذه أنعم وحرث حجر } الأنعام ١٣٨ يعني حراما { لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } من الرجال دون النساء وهو مالك بن عوف كان يفتيهم بالحل والحرمة وكان يقول هذا يجوز وهذا لا يجوز لأشياء كانوا حرموها برأيهم

ثم قال { وأنعام حرمت ظهورها } وهي الحام من الإبل كانوا يتركونها ولا يركبونها { وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها } يعني عند الذبح ويقال عند الركوب وهي البحيرة

{ افتراء عليه } يعني اختلاقا وكذبا على اللّه بأنه أمرهم بذلك { سيجزيهم } أي سيعاقبهم { بما كانوا يفترون } أي بما كانوا يكذبون على اللّه بأنه أمر بهم

١٣٩

 { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا } قال الكلبي يعني البحيرة والوصيلة حلال لذكورنا يعنون ما دامت في الأحياء وليس للنساء في شركة ولا نصيب فذلك قوله { ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة } يعني من هذه الأنعام { فهم فيه شركاء } يعني الرجال والنساء في أكلها وقال الضحاك كانت الناقة إذا ولدت فصيلا ذكرا حرموا لحم الفصيل ولبن الناقة الفصيل ولبن الناقة ذكر في أول الكلام { خالصة } لفظ التأنيث لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه حمله ما في بطون هذه الأنعام

ثم قال { ومحرم على أزواجنا } ذكر بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى قوله { ما في بطون } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وإن تكن } بالتاء على معنى التأنيث { ميتة } بالنصب يعني وإن تكن الجماعة ميتة صارت الميتة خبر كان وقرأ ابن عامر { وإن يكن ميتة } بالضم يعني وإن كانت ميتة جعلها اسم كان رفعا وقرأ ابن كثير { وإن يكن } بالياء { ميتة } بالضم يعني وإن يكن ما فيه ميتة بلفظ التذكير وجعل الميتة اسم كان وقرأ الباقون { وإن يكن ميتة } جعلوا الميتة خبر كان بلفظ التذكير

ثم قال { سيجزيهم وصفهم } صار نصبا لنزع الخافض يعني سيعاقبهم بكذبهم { إنه حكيم } حيث حكم عليهم بالعذاب { عليم } بهم وفي الآية دليل أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به حتى يعلم فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لأن اللّه تعالى أعلم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ليعرفوا فساد قولهم

١٤٠

قوله تعالى { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } يعنوا دفنوا بناتهم أحياء وقتلوهن { سفها } صار نصبا لنزع الخافض يعني جهلا منهم { بغير علم } يعني بغير حجة لهم في قتلهن وهم ربيعة ومضر كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن رجلا من أصحابه كان لا يزال مغتما بين يديه فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما لك تكون محزونا فقال يا رسول اللّه إني قد أذنبت في الجاهلية ذنبا فأخاف أن لا يغفر لي وإني أسلمت فقال له أخبرني عن ذنبك فقال يا رسول اللّه إني كنت من الذين يقتلون بناتهم فولدت لي بنت فتشفعت إلي

امرأتي بأن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلت علي الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج فقلت للمرأة إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي وأخذت علي المواثيق بأن لا أخونها فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت إلى البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمت بي وجعلت تبكي وتقول يا أبت أي شيء تريد أن تفعل بي فرحمتها ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية ثم التزمتني وجعلت تقول يا أبي لا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها وأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة وهي تنادي في البئر يا أبت قتلتني فمكثت هنالك حتى انقطع صوتها فرجعت فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وقال لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك بما فعلت

ثم قال تعالى { وحرموا ما رزقهم اللّه } يعني ما أعطاهم اللّه { افتراء } يعني كذبا { على اللّه } بأنه قد حرم ذلك عليهم { قد أضلوا } أي عن الهدى { وما كانوا مهتدين } يعني وما هم بمهتدين ويقال { وما كانوا مهتدين } من قبل فخذلهم اللّه تعالى بذلك قرأ ابن كثير وابن عامر { قتلوا } بالتشديد لتكثير الفعل والباقون بالتخفيف

١٤١

قوله تعالى { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } يعني خلق البساتين والكروم وما يعرش وهو الذي يبسط مثل القرع ونحو ذلك { وغير معروشات } يعني كل شجرة قائمة على أصولها { والنخل والزرع } يعني خلق النخل والزرع { مختلفا أكله } يعني طعمه منه الحامض والحلو والمر { والزيتون والرمان متشابها } يعني في المنظر { وغير متشابه } يعني في الطعم { كلوا من ثمره إذا أثمر } وإنما ذكر ثمره بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني ثمره الذي ذكرناه { وآتوا حقه يوم حصاده } يعني أعطوا زكاته يوم كيله ودفعه قرأ أبو

عمرو وعاصم وابن عامر { حصاده } بنصب الحاء والباقون بالكسر ومعناهما واحد وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال { وآتوا حقه يوم حصاده } قال العشر أو نصف العشر وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال { وآتوا حقه يوم حصاده } قال عند الزرع أي يعطي القبضة وهو بأطراف الأصابع ويعطي عند الصرام القبض ويدعهم يتتبعون آثار الصرام عن الربيع بن أنس { وآتوا حقه يوم حصاده } قال التقاط السنبل وقال الحسن نسختها آية الزكاة وقال إبراهيم نسختها العشر ونصف العشر وقال الضحاك نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن وهكذا قال عكرمة وقال سفيان سألت السدي عن قوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } قال هذه السورة مكية نسختها العشر ونصف العشر قلت عمن قال عن العلماء قال الفقيه الذي قال إنه صار منسوخا يعني أداؤه يوم الحصاد بغير تقدير صار منسوخا ولكل أصل الوجوب لم يصر منسوخا وبين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم التقدير وهو العشر ونصف العشر

ثم قال تعالى { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } قال ابن عباس رضي اللّه عنهما عمد ثابت بن قيس إلى خمسمائة نخلة فصرمها وقسمها في يوم واحد فأمسى ولم يكن لأهله شيء فنزل { ولا تسرفوا } ولا تتصدقوا بالكل ولا تمنعوا لعيالكم شيئا وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال جد معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شيء فنزل { ولا تسرفوا } ويقال { ولا تسرفوا } يعني ولا تنفقوا في المعصية قال مجاهد لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة اللّه تعالى ما يكون إسرافا ولو أنفقت درهما في طاعة الشيطان كان إسرافا وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله { ولا تسرفوا } قال الإسراف ما قصرت عن حق اللّه ويقال { ولا تسرفوا } يقول لا تشركوا الآلهة في الحرث والأنعام وقد ذكر قوله { كلوا من ثمره } بلفظ التذكير لأنه انصرف إلى المعنى يعني من ثمر ما ذكرنا

ثم قال { إنه لا يحب المسرفين } يعني المشركين الذين يشركون الآلهة في الحرث والأنعام

١٤٢

ثم قال تعالى { ومن الأنعام حمولة وفرشا } يعني أنشأ لكم وخلق لكم من الأنعام حمولة وفرشا أي مما يحمله عليه مثل الإبل والبقر { وفرشا } مثل الغنم وصغار الإبل ويقال الفرش ما لا يطيق الحمل وهي ما دون الحقاق التي لا تصلح للركوب { كلوا مما رزقكم اللّه } أي من الحرث والأنعام حلالا طيبا { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } يعني لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان { إنه لكم عدوا مبين } أمي ظاهر العداوة غير ناصح لكم

١٤٣

ثم قال { ثمانية أزواج } يعني ثمانية أفراد يقال لكل فرد معه آخر زوج أي يقول خلقت لكم ثمانية أصناف ويقال كلوا مما رزقكم اللّه ثمانية أزواج نزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا { ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } ففي هذه الآية دليل إثبات المناظرة في العلم لأن اللّه تعالى أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يناظرهم ويبين فساد قولهم وفيها إثبات القول بالنظر والقياس وفيها دليل أن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به ويروى إذا ورد عليه النقض لأن اللّه تعالى أمرهم أن يثبتوا بالمقايسة الصحيحة وأمرهم بطرد علتهم وأمرهم بأن يبينوا وجه الحرمة إن كان سبب الحرمة الأنوثة أو الذكورة أو اشتمال الرحم فإن كان سبب الحرمة الأنوثة ينبغي أن تكون كل أنثى حراما لوجود العلة وإن كان سبب الحرمة الذكورة ينبغي أن يكون كل ذكر حراما لوجود العلة وإن كان محرما لاشتمال الرحم وقد حرم الأولاد كلها ووجبت حرمتها جميعا لوجود العلة فيها فبين انتقاض علتهم وفساد قولهم وذلك قوله { ثمانية أزواج } يعني ثمانية أصناف { من الضأن اثنين } يعني الذكر والأنثى { ومن المعز اثنين } يعني الذكر والأنثى { قل الذكرين حرم أم الأنثيين } يعني قل لهم من أين جاء هذا التحريم من قبل الذكرين حرم أم من قبل الأنثيين { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } يعني أم من قبل اشتمال الرحم لا يشتمل إلا على الذكر والأنثى

{ نبئوني بعلم } يعني أخبروني بسبب التحريم { إن كنتم صادقين } أن اللّه حرم ما تقولون

١٤٤

 { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } يعني أين جاء هذا التحريم

ثم قال تعالى { أم كنتم شهداء } يعني إذا لم تقدروا على إثبات تحريم ذلك بالعقل فهل لكم كتاب يشهد على تحريم هذا فذلك قوله { أم كنتم شهداء } { إذ وصاكم اللّه بهذا } يعني أمركم بذلك التحريم فسكت مالك بن عوف وتحير فقال له النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما لك لا تتكلم فقال بل تكلم أنت فأسمع قال اللّه عز وجل { فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا } بغير حجة وبيان { ليضل الناس بغير علم } يعني ليصرف الناس عن حكم اللّه تعالى بالجهل { إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين } يعني لا يرشدهم إلى الحجة ويقال لا يوفقهم إلى الهدى مجازاة لكفرهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { ومن المعز } بنصب العين وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد

١٤٥

ثم بين لهم ما حرم عليهم فقال اللّه تعالى { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } يعني لا أجد فيما أنزل علي من القرآن شيئا محرما { على طاعم يطعمه } يعني على آكل يأكله { إلا أن يكون ميتة } قرأ ابن عامر { إلا أن تكون ميتة } بالتاء على لفظ التأنيث لأن الميتة مؤنث وقرأ { ميتة } بالضم لأنه اسم كان وقرأ حمزة وابن كثير { إلا أن تكون } بالتاء بلفظ التأنيث { ميته } بالنصب فجعل الميتة خبرا لكان والاسم فيه مضمر وقرأ الباقون { إلا أن يكون } بلفظ التذكير { الميتة } بالنصب وإنما جعلوه مذكرا لأنه انصرف إلى المعنى ومعناه إلا أن يكون المأكول ميتة { أو دما مسفوحا } يعني سائلا جاريا { أو لحم خنزير فإنه رجس } أي حرام { أو فسقا } يعني معصية { أهل لغير اللّه به } يعني لغير اسم اللّه قد ذبح

وقال بعضهم في الآية تقديم وتأخير ومعناه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو فسقا أهل لغير اللّه به فإنه رجس يعني جميع ما ذكر في الآية هو رجس ويقال الرجس هو نعت للحم الخنزير خاصة

وروى عمر بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث اللّه نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وتلا هذه الآية { قل لا أجد فيما أوحي إلي } الآية يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية

وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن أنه قال واللّه لولا حديث سلمة بن المحبق ما لبسنا خفافكم هذه ولا نعالكم ولا فراءكم حتى نعلم ما هي قال أبو بكر فذكرت ذلك للزهري فقال صدق الحسن ولك عندي أوسع من هذا حدثني عبيد اللّه بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن عباس أنه قرأ { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية قال إنما حرم من الميتة اكلها وما يؤكل منها وهو اللحم أما الجلد والعظم والشعر والصوف فحلال قال وقد احتج بعض الناس بهذه الآية على أن ما سوى هذه الأشياء التي ذكر في الآية مباح ولكن نحن نقول قد حرم أشياء سوى ما ذكر في الآية مباح وقد بين على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من ذلك كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وقد قال تعالى { وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا } الحشر٧

ثم قال تعالى { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } وقد ذكرنا تأويل الآية

١٤٦

 ثم قال { وعلى الذين هادوا حرمنا } يعني أن هذه الأشياء التي ذكرنا في الآية كانت حراما في الأصل وقد حرم اللّه أشياء كانت حلالا في الأصل على اليهود بمعصيتهم { كل ذي ظفر } يعني الإبل والنعامة والبط والأوز وكل شيء له خف وقال القتبي { كل ذي ظفر }

يعني كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب وسمي ظفرا على الاستعارة وقال الكلبي { كل ذي ظفر } يعني ليس بمنشق ولا مجتر فهو حرام عليهم { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } يعني شحوم البطون

ثم استثنى فقال { إلا ما حملت ظهورهما } وقال الضحاك إلا ما كان على اللحوم من الشحوم وقال الكلبي يعني ما تعلق بالظهر من الشحم من الكليتين ويقال حرم عليهم الثروب وأحل ما سواها وواحد الثروب ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش { أو الحوايا } وهو المباعر واحدتها حوية { أو ما اختلط بعظم } مثل الإلية وروى جويبر عن الضحاك قال ما التزق بالعظم ويقال هو المخ { ذلك جزيناهم ببغيهم } يعني ذلك التحريم عاقبناهم بشركهم وظلمهم { وإنا لصادقون } أن هذه الأشياء كانت حلالا في الأصل وحرمناها على اليهود بمعصيتهم لأن اليهود كانوا يقولون إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل

١٤٧

ثم قال تعالى { فإن كذبوك } يعني فيما تقول من التحريم والتحليل { فقل ربكم ذو رحمة واسعة } يعني رحمته وسعت كل شيء لا يعجل بالعقوبة على من عصاه { ولا ير بأسه } يعني عذابه { عن القوم المجرمين } يعني المشركين

١٤٨

قوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا } يعني ولا أشرك آباؤنا { ولا حرمنا من شيء } ولكن شاء لنا ذلك وأمرنا به ويقال كان مذهبهم مذهب الجبرية

قال اللّه تعالى { كذلك كذب الذين من قبلهم } يعني الأمم الخالية كذبوا رسلهم كما كذبك قومك وإنما كذبهم اللّه لأنهم قالوا ذلك على وجه السخرية لا على وجه التحقيق كما قال المنافقون نشهد أنك لرسول اللّه فكذبهم اللّه في مقالتهم لأنهم قالوا على وجه السخرية

ثم قال { حتى ذاقوا بأسنا } يعني الأمم الخالية أتاهم عذابنا فهذا تهديد لهم ليعتبروا ثم قال { قل } يا محمد لهم { هل عندكم من علم } يعني بيانا من اللّه { فتخرجوه لنا } يعني فتبينوه لنا بتحريم هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها

ثم بين اللّه أنهم قالوا ذلك بغير حجة وبيان فقال اللّه تعالى { إن تتبعون إلا الظن } يعني

ما تقولون إلا بالظن من غير يقين وعلم { وإن أنتم إلا تخرصون } يعني قل لهم ما أنتم إلا تكذبون على اللّه

١٤٩

قوله تعالى { قل فللّه الحجة البالغة } يعني الحجة البالغة الوثيقة وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن فبين لهم فيه ما أحل لهم وما حرم عليهم { فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني لو شاء لوفقكم لدينه وأكرمكم بالهدى لو كنتم أهلا للإسلام ولكن لم يوفقهم لأنهم لم يجاهدوا في اللّه حق جهاده

١٥٠

ثم قال { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن اللّه حرم هذا } عليكم { فإن شهدوا } على تحريمه { فلا تشهد معهم } فأخبر اللّه أنهم لو شهدوا كانت شهادتهم باطلة ولا يجوز قبول شهادتهم لأنهم يقولون بأهوائهم

ثم قال { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن { والذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني البعث { وهم بربهم يعدلون } يعني يشركون باللّه تعالى

١٥١

ثم قال تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } يعني قل لمالك بن عوف وأصحابه الذين يحرمون الأشياء على أنفسهم { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } يعني أبين أبين لكم ما حرم اللّه عليكم وما أمركم به { ألا تشركوا به شيئا } يقال معناه تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم فقد تم الكلام

أتل عليكم { ألا تشركوا به شيئا } { وبالوالدين إحسانا } يقول نهاكم عن عقوق الوالدين وأمركم ببرهما ويقال معناه { تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } ويقال معناه حرم عليكم أن تشركوا به شيئا { وبالوالدين إحسانا } يعني أمركم بالإحسان إلى الوالدين { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } يعني من خشية الفقر { نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } يعني زنى السر والعلانية { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق } يعني إلا بالقصاص أو بالرجم أو بترك الإسلام فإن القتل بهذه الأشياء حق { ذلكم وصاكم به } يقول أمركم به في القرآن { لعلكم تعقلون } أمر اللّه بما حرمه في هذه الآيات وروي عن عبد اللّه بن مقسم عن ابن عباس قال هذه الآيات المحكمات { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } إلى ثلاث آيات وقال الربيع بن خثيم لرجل هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قرأ هذه الآيات { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم } ويقال هذه الآيات هن أم الكتاب وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ولا يجوز أن يرد عليها النسخ

١٥٢

ثم قال { ولا تقربوا مال اليتيم } يقول لا تأكلوا مال اليتيم ولا تباشروه { إلا بالتي هي أحسن } يعني إلا بالقيام عليه لإصلاح ماله { حتى يبلغ أشده } يعني احفظوا ماله حتى يبلغ رشده قال مقاتل يعني ثماني عشرة سنة وقال الكلبي الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ويقال حتى يبلغ مبلغ الرجل ويقال بلوغ الأشد ما بين ثماني عشرة إلى أربعين سنة

ثم قال { وأوفوا الكيل والميزان } يعني أتموا الكيل والميزان عند البيع والشراء { بالقسط } يعني بالعدل { لا نكلف نفسا إلا وسعها } يعني إلا جهدها في العدل يعني إذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن فلو وقعت فيه زيادة قليلة أو نقصان فإنه لا يؤاخذ به إذا اجتهد جهده

قوله تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا } يعني اصدقوا وقولوا الحق { ولو كان ذا قربى } يعني وإن كان الحق على ذي قرابة فقولوا الحق ولا تمنعوا الحق { وبعهد اللّه أوفوا } يقول أتموا العهود التي بينكم وبين اللّه تعالى والعهد الذي بينكم وبين الناس { ذلكم وصاكم به } يقول أمركم به في الكتاب { لعلكم تذكرون } يعني تتعظون فتمتنعون عما حرم اللّه عليكم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { تذكرون } بتخفيف الذال وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال

١٥٣

قوله تعالى { وأن هذا صراطي مستقيما } قرأ حمزة والكسائي وعاصم { وإن هذا } بكسر الألف على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء وقرأ ابن عامر { وأن هذا } بجزم النون لأن { أن } إذا خففت منعت عملها ومعنى الآية هذا الإسلام ديني الذي ارتضيته طريقا مستقيما { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } يعني لا تتبعوا دين اليهودية والنصرانية ويقال { هذا صراطي مستقيما } يعني طريق السنة والجماعة { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } يعني الأهواء المختلفة وروي عن عبد اللّه بن مسعود أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خط بالأرض خطا مستقيما ثم خط بجنبيه خطوطا ثم قال هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني الطريق الذي بجنبي الخط يعني به الأهواء المختلفة

ثم قال { فتفرق بكم عن سبيله } يعني فيضلكم عن دينه { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } يعني تجتنبون الأهواء المختلفة

١٥٤

قوله تعالى { ثم آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة ويقال الألواح التي كتبت له حين انطلق إلى الجبل ويقال معناه ثم أتل عليكم ما قال اللّه تعالى { ثم آتينا موسى الكتاب } ويقال { ثم } بمعنى الواو يعني وآتينا موسى الكتاب { تماما على الذي أحسن } قال القتبي أي تماما على المحسنين كما يقول ثلث مالي لمن غزا أي للغزاة والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون و { على } بمعنى اللام كما نقول في الكلام أتم اللّه عليه النعمة بمعنى أتم له قال ومعنى الآية واللّه أعلم وآتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن من العلم والحكمة أي مع ما كان له من العلم والحكمة وكتب المتقدمين أعطيناه زيادة على ذلك ويكون { الذي } بمعنى ما قال ومعنى آخر آتينا موسى الكتاب تتميما منا للمحسنين يعني الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين { وتفصيلا } منا { لكل شيء } يعني بيانا لكل شيء قال ويجوز معنى آخر وآتينا موسى الكتاب إتماما منا للإحسان من أحسن تفصيلا لكل شيء { وهدى } من الضلالة { ورحمة } يعني ونعمة ورحمة من العذاب { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } يعني لكي يصدقوا بالبعث

١٥٥

ثم قال تعالى { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } يعني القرآن فيه بركة لمن آمن به وفيه مغفرة للذنوب { فاتبعوه } يعني اقتدوا به ويقال اعملوا بما فيه من الأمر والنهي { واتقوا } يعني واجتنبوا ولا تتخذوا إماما غير القرآن { لعلكم ترحمون } يعني لكي ترحموا ولا تعذبوا { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } يعني أنزلنا هذا القرآن لكي لا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا يعني اليهود والنصارى ويقال { أن تقولوا } يعني لكراهة أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وذلك أن كفار مكة قالوا قاتل اللّه اليهود كيف كذبوا أنبياءهم واللّه لو جاءنا نذير أو كتاب لكنا أهدى منهم فأنزل اللّه تعالى القرآن حجة عليهم

١٥٦

ثم قال { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } يعني عن قراءتهم الكتاب لغافلين عما فيه { أو تقولوا } يعني لكي لا تقولوا { لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } يعني أصوب

دينا منهم { فقد جاءكم بينة من ربكم } يعني حجة من ربكم وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن وإنما قال { جاءكم } ولم يقل جاءتكم لأنه انصرف إلى المعنى يعني البيان ولأن الفعل مقدم { وهدى ورحمة } بمعنى { هدى } من الضلالة { ورحمة } من العذاب ويقال قد جاءكم ما فيه من البيان وقطع الشبهات عنكم

١٥٧

ثم قال { فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه } يعني لا أحد أظلم وأشد في كفره ممن كذب بآيات اللّه تعالى { وصدف عنها } يعني أعرض عن الإيمان بها { سنجزي الذين يصدفون } يعني يعرضون { عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } يعني شدة العذاب بما كانوا يعرضون عن الآيات

١٥٨

قوله تعالى { هل ينظرون } معناه أقمت عليهم الحجة فلم يؤمنوا فماذا ينتظرون فهل ينتظرون { إلا أن تأتيهم الملائكة } لقبض أرواحهم { أو يأتي ربك } يعني يأتي أمر ربك بما وعد لهم من العقوبة { أو يأتي ربك بما وعد لهم } كقوله { فأتهم اللّه من حيث لم يحتسبوا } الحشر٢ ويقال أو يأتي عقوبة ربك وعذابه وقد ذكر المضاف إليه ويراد به المضاف كقوله تعالى { وسئل القرية } يوسف٨٢ يعني أهل القرية وكقوله { وأشربوا فى قلوبهم العجل } البقرة ٩٣ يعني حب العجل كذلك هاهنا يأتي أمر ربك يعني عقوبة ربك وعذاب ربك ويقال هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني طلوع الشمس من مغربها { يوم يأتي بعض آيات بك لا ينفع نفسا إيمانها } حين طلعت الشمس من مغربها { لم تكن آمنت من قبل } يعني أن الكافر إذا آمن في ذلك الوقت لا يقبل إيمانه لأنها قد ارتفعت الحجة حين عاينوها وإنما الإيمان بالغيب

ثم قال { أو كسبت في إيمانها خيرا } يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيرا فمن كان لم يقبل عمله قبل ذلك فإنه لا يقبل منه بعد ذلك ومن كان قبل منه قبل ذلك فإنه يقبل منه بعد ذلك أيضا أو كانت النفس مؤمنة ولم تكن كسبت خيرا قبل ذلك الوقت لا ينفعها الخير بعد قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد بإسناده عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال المرادي قال بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر إذ جاء أعرابي فسأله عن أشياء حتى ذكر التوبة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للتوبة باب في المغرب مسيرة سبعين عاما أو أربعين عاما فلا يزال حتى يأتي بعض آيات ربك

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا زياد بن أيوب عن

يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على حمار وعليه بردعة أو قطيفة فنظر إلى الشمس حين غابت فقال يا أبا ذر هل تدري أين تغيب هذه قلت اللّه ورسوله أعلم قال فإنها تغرب في عين حمئة فتنطلق حتى تخر لربها ساجدة تحت العرش فإذا دنا خروجها إذن لها فخرجت فإن أراد أن يطلعها من مغربها حبسها فتقول يا رب إن مسيري بعيد فيقول اللّه تعالى اطلعي من حيث جئت فذلك قوله { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } وروي عن عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه أنه قال لا يقبل اللّه من كافر عملا ولا توبة إذا أسلم حين يراها إلا من كان صغيرا يومئذ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل ذلك منه ومتى كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنب قبلت منه وروي عن عمران بن حصين أنه قال إنما لم وقت وقت الطلوع حتى تكون صبيحته فيهلك كثير من الناس فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت وهلك لم يقبل منه ومن تاب بعد ذلك قبلت منه

ثم قال تعالى { قل انتظروا إنا منتظرون } يعني انتظروا العذاب فإنا منتظرون بكم حتى ننظر أينا أسعد حالا قرأ حمزة والكسائي { إلا أن يأتيهم الملائكة } بالياء بلفظ التذكير والباقون { إلا أن تأتيهم } بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث

١٥٩

قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم } قرأ حمزة والكسائي { فارقوا دينهم } بالألف يعني تركوا دينهم الإسلام ودخلوا في اليهودية والنصرانية وقرأ الباقون { فرقوا دينهم } يعني آمنوا ببعض الرسل ولم يؤمنوا ببعض { وكانوا شيعا } يعني صاروا فرقا مختلفة وروي عن أسباط عن السدي أنه قال { إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا } هؤلاء اليهود والنصارى تركوا دينهم وصاروا فرقا { لست منهم في شيء } أي لم تؤمر بقتالهم ثم نسخ وأمر بقتالهم في سورة براءة

وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } إنهم الخوارج وفي هذه الآية حث للمؤمنين على أن كلمة المؤمنين ينبغي أن تكون واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع ما استطاعوا ثم قال { لست منهم في شيء } يقول إنما عليك تبليغ الرسالة وليس عليك القتا

{ إنما أمرهم إلى اللّه } يعني الحكم إلى اللّه { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } أي في الدنيا ويقال ليس بيدك توبتهم ولا عذابهم إنما أمرهم إلى اللّه تعالى بما كانوا يفعلون

١٦٠

قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } يعني من جاء بالإيمان بشهادة أن لا إله إلا اللّه فله بكل عمل عمله في الدنيا من الخير عشرة أمثاله من الثواب { ومن جاء بالسيئة } يعني بالشرك { فلا يجزى إلا مثلها } وهو الخلود في النار لأن الشرك أعظم الذنوب والنار أعظم العقوبة فيكون مثله فذلك قوله { جزاء وفاقا } النبأ ٢٦ يعني جزاء وافق العمل ويقرأ فله { عشر } بالتنوين { أمثالها } بضم اللام فتكون الأمثال صفة للعشر وهي قراءة شاذة قرأها الحسن البصري ويعقوب الحضرمي والقراءة المعروفة { عشر أمثالها } على معنى الإضافة وتكلموا في المثل قال بعضهم إذا عمل العبد عملا يعطى في الآخرة ثواب عشرة ويقال وإنه يكتب للواحدة عشرة وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن صاحب اليمين أمير على أمير على صاحب الشمال وإذا عمل العبد حسنة كتب له عشرة أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسكها فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة ويقال إن اللّه تعالى قد وعد للواحدة عشرا فهو أعرف بكيفيته فإن قيل ذكر هاهنا للواحدة عشرة وذكر في آية أخرى سبعمائة وفي آية أخرى أضعافا مضاعفة قيل له قد تكلم أهل العلم في ذلك قال بعضهم يكون للعوام عشرة والخواص سبعمائة وأكثر إلى ما لا يحصى وقال بعضهم العشرة اشترط لسائر الحسنات والسبعمائة للنفقة في سبيل اللّه فالخاص والعام فيه سواء

وقد جاء في الأثر ما يؤكد القولين فقد روى عطية عن عن ابن عمر قال نزلت هذه الآية في الأعراب { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قال رجل ما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن قال هو أفضل من ذلك { إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } سورة النساء ٤٠وإذا قال اللّه لشيء عظيم فهو عظيم

وروى همام عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها يكتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها يكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه بلا ذنب

وروى خريم بن فاتك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأعمال ستة فموجبتان ومثل بمثل وحسنة بحسنة وحسنة بعشرة وحسنة بسبعمائة فأما الموجبتان فمن مات ولم يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك باللّه دخل النار وأما مثل بمثل فمن عمل سيئة فجزاء سيئة مثلها ومن هم بحسنة حتى تشتهي بها نفسه ويعلمها اللّه من قلبه كتب له حسنة وأما حسنة بعشرة فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها وأما حسنة بسبعمائة فالنفقة في سبيل اللّه ثم قال تعالى { وهم لا يظلمون } يعني لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا ولا يزادون على سيئاتهم

١٦١

قوله تعالى { قل إنني هداني ربي } وذلك أن أهل مكة قالوا له من أين لك هذه الفضيلة وأنت بشر مثلنا فإن فعلت لتطلب المال فاترك هذا القول حتى نعطيك من المال ما شئت فنزل { قل إنني هداني ربي } { إلى صراط مستقيم } يعني وفقني اللّه وهداني إلى دين الإسلام وهو دين لا عوج فيه { دينا قيما } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { دينا قيما } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو { دينا قيما } بنصب القاف وكسر الياء مشددة وقرأ الباقون { قيما } بكسر القاف ونصب الياء ويكون على معنى المصدر ومن قرأ بالنصب يكون على معنى النعت { دينا قيما } يعني دينا عدلا مستقيما { ملة إبراهيم حنيفا } يعني مستقيما مخلصا { وما كان من المشركين } على دينهم

١٦٢

قوله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي } وأصل النسك ما يتقرب به يعني قل إن صلاتي المفروضة وقرباني وديني { ومحياي } في الدنيا { ومماتي } بعد الحياة ويقال { ونسكي } يعني أضحيتي وحجي { للّه رب العالمين }

١٦٣

 { لا شريك له وبذلك أمرت } في الكتاب { وأنا أول المسلمين } من أهل مكة ويقال أول المسلمين يوم الميثاق ويقال { صلاتي } يعني صلاة العيد { ونسكي } يعني الأضحية

وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لعائشة رضي اللّه عنه قومي إلى أضحيتك واذبحي وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين ويقال أنا أول المخلصين بالثبات على الإسلام

١٦٤

قوله تعالى { قل أغير اللّه أبغي ربا } يقول أعبد وأطلب ربا غيره { وهو رب كل شيء } من خلفه في السموات والأرض لأنهم كانوا يقولون له نحن كفلاء لك بما يصيبك ومن تابعك فنزل { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } يعني إلا لها أو عليها إن كان خيرا فلها وإن كان شرا فعليها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى { ثم إلى ربكم مرجعكم } أي مصيركم في الآخرة { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } من الدين ويبين لكم الحق من الباطل بالمعاينة

١٦٥

ثم قال تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } يعني سكان الأرض من بعد إهلاك الأمم الخالية لأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خاتم النبيين وأمته قد خلفوا جميع الأمم ويقال { خلائف } يعني يخلف بعضكم بعضا { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } أي فضل بعضكم على بعض في المال والرزق { ليبلوكم فيما آتاكم } يعني ليبتلي الموسر بالغنى ويطلب منه الشكر ويبتلى المعسر بالفاقة ويطلب من الصبر ويقال { ليبلوكم } يعني بعضكم ببعض كما قال تعالى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } الفرقان٢٠لتصبروا

ثم خوفه فقال { إن ربك سريع العقاب } كأنه جاء لأن ما هو آت فهو قريب كما قال { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } القمر٥٠ { وإنه لغفور } يعني لمن أطاعه في فاقة أو غنى ويقال { سريع العقاب } لمن لم يشكر نعمته وكان مصرا على ذلك

و { إنه لغفور } لمن رجع وتاب { رحيم } بعد التوبة ويقال { سريع العقاب } لمن لم يحفظ نفسه فيما أعطاه من فضل اللّه وترك حق اللّه في ذلك { وإنه لغفور } لمن تاب { رحيم } بعد التوبة قال الفقيه قال حدثنا أبو الحسين بن حمدان بإسناده إلى أبي بن كعب قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتهليل قال وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قرأ سورة الأنعام صلّى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية في سورة الأنعام يوما وليلة صلّى اللّه عليه وسلّم

﴿ ٠