سورة الأعرافمكية وهي مائتان وست آيات بسم اللّه الرحمن الرحيم ١قوله تعالى { المص } قال ابن عباس يعني أنا اللّه أعلم وأفصل معناه أعلم بأمور الخلق وأفصل الأحكام والأمور والمقادير فليس لي شريك في تدبير الخلق ويقال معناه أنا اللّه المصور ويقال أنا اللّه الناصر ويقال أنا اللّه الصادق وروى معمر عن قتادة قال إنه اسم من أسماء القرآن ويقال وهو قسم ٢{ كتاب أنزل إليك } يعني أن هذا الكتاب أنزل إليك يا محمد { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي فلا يقعن في قلبك شك منه يعني من القرآن أنه من اللّه تعالى والخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به غيره كقوله { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتب من قبلك } يونس ٩٤ ويقال { فلا يكن في صدرك حرج منه } يعني فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم كقوله تعالى { لعلك بخع نفسك إلا يكونوا مؤمنين } الشعراء ٣٠ والحرج في اللغة هو الضيق ثم قال { لتنذر به } على معنى التقديم يعني كتاب أنزلناه إليك لتنذر به يعني لتخوف بالقرآن أهل مكة { وذكرى للمؤمنين } يعين عظة للمؤمنين الذين اتبعوك ٣ثم قال { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني صدقوا واعملوا بما أنزل علي نبيكم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من القرن ويقرأه عليكم { ولا تتبعوا من دونه أولياء } يعني ولا تتخذوا من دون اللّه أربابا ولا تعبدوا غيره ثم أخبر عنهم فقال { قليلا ما تذكرون } { ما } صلة في الكلام ومعناه قليلا تتعظون يعني أنهم لا يتعظون به شيئا قرأ ابن عامر { يتذكرون } على لفظ المغايبة بالياء وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر { تذكرون } بالتاء على معنى المخاطبة بتشديد الذال والكاف لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التائين في الذال وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { تذكرون } بتخفيف الذال وإسقاط التشديد للتخفيف ٤ثم خوفهم فقال تعالى { وكم من قرية أهلكناها } معناه وكم من أهل قرية وعظناهم فلم يتعظوا فأهلكناهم { فجاءها بأسنا } يعني جاءها عذابنا بعد التكذيب { بياتا } يعني ليلا سمي الليل بياتا لأنه يبات فيه كما سمي البيت بيتا لأنه يبات فيه { أو هم قائلون } يعني عند القيلولة فإن لم تتعظوا أنتم يأتيكم العذاب ليلا أو نهارا كما أتاهم ثم أخبر عن حال من أتاهم العذاب ٥فقال { فما كان دعواهم إذا جاءهم بأسنا إلا أن قالوا } يعني لم يكن قولهم حين جاءهم العذاب ولم تكن لهم حيلة إلا أنهم تضرعوا وقالوا { إنا كنا ظالمين } ظلمنا أنفسنا بترك طاعة ربنا من التوحيد يعني أن قولهم بعدما جاءهم العذاب والهلاك لم ينفعهم فاعتبروا بهم فإنكم إذا جاءكم العذاب لا ينفعكم التضرع ثم أخبرهم حالهم يوم القيامة ٦فقال { فلنسألن الذين أرسل إليهم } يعني الأمم هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم وماذا أجبتم المرسلين { ولنسألن المرسلين } عن تبيلغ الرسالة وماذا أجبتم الرسل وهذا كقوله تعالى { ليسئل الصادقين عن صدقهم } الأحزاب ٨ ٧ثم قال تعالى { فلنقصن عليهم بعلم } يعني فلنخبرنهم بما عملوا في الدنيا ببيان وعلم منا { وما كنا غائبين } عما بلغت الرسل وعما رد عليهم قومهم ومعناه وما كنا نسألهم لنعلم ولكن سألناهم حجة عليهم ٨قوله تعالى { والوزن يومئذ الحق } يعني وزن الأعمال يومئذ بالعدل { فمن ثقلت موازينه } يعني رجحت حسناته على سيئاته { فأولئك هم المفلمون } أي الناجون وتكلموا في وزن الأعمال قال بعضهم توزن الصحائف التي كتابها الحفظة في الدنيا وقال بعضهم يجعل للأعمال صورة وتوضع في الميزان وقال بعضهم هذا على وجه المثل وهو كناية عن التعديل وهو قول المعتزلة وقال بعضهم قد ذكر اللّه تعالى الوزن فنؤمن به ولا نعرف كيفيته وروى بلال الحبشي عن حذيفة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن جبريل صاحب الميزان يوم القيامة يقول له ربه زن بينهم فرد بعضهم على بعض ولا درهم يؤمئذ ولا فضة ولا دينار فيرد الظالم على المظلوم ما وجد له من حسنة فإن لم توجد له حسنة أخذ من سيئات المظلوم فيرد على الظالم فيرجع الظالم وعليه سيئات مثل الجب وروي عن ابن عباس أنه قال توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان فأما المؤمن فيؤتى بعمله في احسن صورة وتثقل حسناته على سيئاته وأما الكافر فيؤتى بعمله في أقبح صورة وتثقل سيئاته على حسناته وقال بعضهم لا يوزن عمل الكافر وإنما توزن الأعمال التي بإزائها حسنات ٩ثم قال { ومن خفت موازينه } يعني رجحت سيئاته على حسناته { فأوليك الذين خسروا أنفسهم } يعني غبنوا حظ أنفسهم ( بم كانوا بآياتنا يظلمون ) يعني بما كانوا يجحدون بأنه ليس من اللّه تعالى وقد ذكر الموازين بلفظ الجمع قال بعضهم أراد به جماعة الموزون وقال بعضهم أراد به الميزان لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين والخيوط فذكر باسم الجماعة ١٠قوله تعالى { ولقد مكناكم في الأرض } يعني مكانكم في الأرض وعمرناكم فذكر لهم التهديد ثم ذكر لهم النعم ليستحوا من ربهم ولا يعصوه { وجعلنا لكم فيها معايش } يعني الرزق وهو ما يخرج من الأرض والكروم والثمار والحبوب وروى خارجة عن نافع أنه قرأ { معائش } بالهمز لأنه على ميزان فعائل مثل الكبائر والشعائر وقرأ الباقون بغير همز لأن الياء أصلية وكان على ميزان مفاعل ثم قال { قليلا ما تشكرون } يعني إنكم لا تشكرون هذه النعم ١١قوله تعالى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } يعني خلقنا آدم وأنتم من ذريته { ثم صورناكم } يعني ذريته ويقال { خلقناكم } يعني آدم خلقه من تراب { ثم صورناكم } يعين آدم صوره بعد ما خلقه من طين ويقال { خلقناكم } نطفا في أصلاب الآباء { ثم صورناكم } يعني في أرحام الأمهات { ثم قلنا للملائكة } على وجه التقديم يعني وقلنا للملائكة { اسجدوا لآدم } { ثم } بمعنى الواو ويقال معناه خلقناكم وصورناكم وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم وهي سجدة التحية لا سجدة الطاعة فالعبادة للّه تعالى والتحية لآدم { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } يعني لم يسجد مع الملائكة لآدم ١٢{ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } يعني أن تسجد ولا زيادة ومعناه ما منعك عن السجود إذ أمرتك بالسجود لآدم { قال } إبليس إنما لم أسجد لأني { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } يعني هذا الذي منعني عن السجود فاشتغل اللعين بالقياس والقياس موضع النص باطل لأنه لما أقر بأنه هو الذي خلقه فقد أقر بأن أمره عليه واجب وعليه أن يأتمر بأمره ومع ذلك لو كان القياس جائزا لكان قياسه فاسدا لأن الطين أفضل من النار لأن عامة الثمار والفواكه والحبوب تخرج من الطين ولأن العمارة من الطين والنار للخراب ١٣ثم قال له ربه عز وجل { فاهبط منها } قال مقاتل يعني اهبط من الجنة { فما يكون لك أن تتكبر فيها } يعني في الجنة وقال الكلبي { فاهبط منها } يعني أخرج من الأرض والحق بجزائر البحور فلا تدخل الأرض إلا كهيئة السارق وعليه الخمار يروغ فيها { فما يكون لك أن تتكبر فيها } يعني ما ينبغي لك أن تتكبر في هذه الأرض على نبي آدم { فاخرج إنك من الصاغرين } يعني من المهانين المذلين ١٤قوله تعالى { قال أنظرني إلى يوم يبعثون } يعني أجلني إلى يوم البعث اليوم الذي يخرج الناس من قبورهم قال ابن عباس أراد الخبيث ألا يذوق الموت فأبى اللّه تعالى أن يعطيه ذلك ١٥{ قال إنك من المنظرين } يعني إلى النفخة الأولى فحينئذ تذوق الموت وتصيبه المرارة بعد الأولين والآخرين ١٦قوله تعالى { قال فبما أغويتني } قال الكلبي يعني فكما أضللتني وقال مقاتل يعني أما إذا أضللتني وقال بعضهم { فبما أغويتني } يعني فبما دعوتني إلى شيء غويت به { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } يعني لأقعدن لهم على طريقك المستقيم وهو دين الإسلام فأصد الناس عن ذلك { ثم لأتينهم من بين أيديهم } روى أسباط عن السدي قال { من بين أيديهم } الدنيا أدعوهم إليها { ومن خلفهم } الآخرة أشككهم فيها { وعن أيمانهم } قال الحق أشككهم فيه { وعن شمائلهم } قال الباطل أخففه عليهم وأرغبهم فيه وقال في رواية الكلبي ١٧{ ثم لآتينهم من بين أيديهم } من أمر الآخرة فأزين لهم التكذيب بالبعث بأنه لا جنة ولا نار { ومن خلفهم } من أمر الدنيا فأزينها في أعينهم وأرغبهم فيها فلا يعطون حقا { وعن أيمانهم } أي من قبل دينهم فإن كانوا على الضلالة زينتها لهم وإن كانوا على الهدى شبهته عليهم حتى يشكوا فيه ويقال { وعن شمائلهم } من قبل اللذات والشهوات ويقال { وعن أيمانهم } باليهودية والنصرانية { وعن شمائلهم } بالأهواء المختلفة ويقال معناه لآتيناهم بالإضلال من جميع جهاتهم ويقال { عن أيمانهم } فيما أمروا به { وعن شمائلهم } فيما نهوا عنه ويقال { وعن أيمانهم وعن شمائلهم } أي فيما يعملون لأنه يقال عملت يداك { ولا تجد أكثرهم شاكرين } يعني ذرية آدم عليه السلام لا يكونون شاكرين لنعمتك ويقال { شاكرين } يعني مؤمنين وقال في آية أخرى { وقليل من عبادى الشكور } سبأ١٣ وقال { ولقد صدق إبليس ظنه } سبأ ٢٠ ١٨{ قال اخرج منها مذؤوما مدحورا } قال الكلبي ومقاتل يعني اخرج من الجنة { مذؤوما } أي معيبا { مدحورا } يعني مطرودا وقال الزجاج { مذؤوما } يعني مذموما يقال ذأمت الرجل وذممته إذا عبته { مدحورا } يعني مبعدا من رحمة اللّه تعالى { لمن تبعك منهم } يعني من أطاعك فيما دعوته إليه واللام زيادة للتأكيد { لأملأن جهنم منكم أجمعين } يعني ممن أطاعك منهم من الجن والإنس ويكون هذا اللفظ بمعنى القسم والتأكيد وأنه يفعل ذلك لا محالة ١٩قوله تعالى { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } يعني وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة { فكلا من حيث شئتما } يعني من حيث احببتما موسعا عليكما { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني ولا تأكلا من هذه الشجرة { فتكونا من الظالمين } يعني فتصيرا من الضارين بأنفسكما ٢٠قوله تعالى { فوسوس لهما الشيطان } يعني زين لهما الشيطان { ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما } يعني أراد إبليس بالوسوسة ليظهر ما ستر من عوراتهما والسوأة كناية عن العورة وذلك أن إبليس لما رأى محسوده في الجنة ورأي نفسه طريدا لم يصبر واحتال لإخراجهما فأتاهما { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } يعني أنكما لو أكلتما تصيران كالملكين لا تموتان أبدا أو تكونان كالملائكة وتعلمان الخير والشر { أو تكونا من الخالدين } يعني إن لم تكونا ملكين فتكونا من الخالدين لا تموتان أبدا وقرأ بعضهم { ملكين } بالخفض كما قال في آية أخرى { وملك لا يبلى } طه ١٢٠ وهي قراءة يحيى بن أبي كثير ٢١قوله تعالى { وقاسمهما } يعني حلف لهما { إني لكما لمن الناصحين } بأنها شجرة الخلد من أكل منها لم يمت وكان آدم لم يعلم أن أحدا يحلف باللّه كاذبا { فدلاهما بغرور } يعني غرهما بباطل ويقال زين لهما وأصله في اللغة من التقريب يعني قربهما إلى الشجرة { فلما ذاقا الشجرة } يقول فلما أكلا من الشجرة ووصل إلى بطونهما تهافت لباسهما عنهما { بدت لهما سوءاتهما } يقول ظهرت لهما عوراتهما وإنما سميت العورة سوأة لأن كشف العورة قبيح قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو القاسم أحمد بن حم قد ذكر بإسناده عن أبي بن كعب عن لنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن آدم كان رجلا طويلا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع في الخطيئة بدت له سوءته وكان لا يراها قبل ذلك فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فناداه ربه يا آدم أتفر مني قال يا رب إني أستحي وفيه دليل أن ستر العورة كان واجبا من وقت آدم عليه السلام لأنه لما كشف عنهما سترا عوراتهما بالأوراق فذلك ٢٢قوله تعالى { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } يعني أقبلا وعمدا على أبدانهما ورقة ورقة ومنه يقال خصف فعله وهو إطباق طاق على طاق وأصل الخصف الضم والجمع يعني أقبلا وعمدا يلزقان عليهما من ورق الجنة وهو ورق التين والخصف إنما هو إلصاق الشيء بالشيء ولهذا يقال له خصاف وقرأ بعضهم { وطفقا } بالنصب وهما لغتان طفق يطفق وطفق يطفق { ونادهما ربهما } يعني قال ربهما { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } يعني عن أكل تلك الشجرة { وأقل لكما } يعني ألم أقل لكما { إن الشيطان لكما عدو مبين } يعني إبليس لكما عدو ظاهر العداوة ٢٣قوله تعالى { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } بأكلنا الشجرة فاغفر لنا وتجاوز عن معصيتنا { وإن لم تغفر لنا وترحمنا } يعني إن لم تتجاوز عن ذنوبنا { لنكونن من الخاسرين } بالعقوبة فهذه لام القسم كأنهما قالا واللّه لنكونن من الخاسرين إن لم تغفر لنا وترحمنا وقد ذكر اللّه تعالى قبول توبتهما في سورة البقرة وهو قوله تعالى { فتاب عليه } البقرة ٣٧ يعني قبل توبته وفي الآية دليل أن اللّه تعالى يعذب عباده إذا أصروا على الذنوب ويتجاوز عنهم إذا تابوا لأن إبليس لم يتب وسأل النظرة فجعل مأواه جهنم وتاب آدم ورجع عن ذنبه فقبل توبته ٢٤قوله { قال اهبطوا } يعني آدم وحواء عليهما السلام وإبليس لعنه اللّه { بعضكم لبعض عدو } يعني إبليس عدوا لآدم وحواء ثم قال { ولكم في الأرض مستقر } يعني منزل وموضع القرار { ومتاع إلى حين } يعني ومعاش إلى وقت الموت ٢٥قوله تعالى { قال فيها تحيون } يعني في الأرض تعيشون { وفيها تموتون ومنها تخرجون } يعني من الأرض من قبوركم يوم القيامة قرأ حمزة والكسائي وابن عامر { يخرجون } بنصب الياء وضم الراء وقرأ الباقون { تخرجون } بضم التاء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله ٢٦قوله تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } يقول خلقنا لكم الثياب { يواري سوءاتكم } يعني يستر عوراتكم ويقال معناه أنزلنا عليكم المطر ينبت لكم القطن والكتان لباسا لكم ثم قال { وريشا } قرأ الحسن البصري ورياشا بالألف وقرأ غيره { وريشا } بغير ألف وقال القتبي الريش والرياش ما ظهر من اللباس وريش الطائر ما ستره اللّه به ويقال الرياش المال والمعاش قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي أسامة عن عوف بن أبي جميلة عن معبد الجهني في قوله { قد أنزلنا عليكم لباسا } قال هو ما تلبسون { ورياشا } قال المعاش { ولباس التقوى } هو الحياء { ذلك خير } يعني لباس التقوى وهو الحياء خير من الثياب لأن الفاجر وإن كان حسن الثياب فإنه بادي العورة ألا ترى إلى قول الشاعر حيث يقول ( حتى كأني أرى من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عريانا ) وقال القتبي { لباس التقوى } أي ما ظهر عليه من السكينة والعمل الصالح كما قال { لباس الجوع والخوف } النحل ١١٢ يعني ما ظهر عليهم من سوء آثارهم ويقال { لباس التقوى } الإيمان ويقال العفة وتغير حالهم قرأ نافع والكسائي وابن عامر { لباس } بالنصب يعني أنزل لباس التقوى وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء ويقال فيه مضمر يعني وهو { لباس التقوى } ومعناه ستر العروة أي لباس المتقين وقرأ عبد اللّه بن مسعود { لباس التقوى } خير وقال مجاهد كان أناس من العرب يطوفون حول البيت عراة فنزل قوله تعالى { قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا } يعني من المال ويقال معنى قوله { ذلك خير } يعني اللباس خير من تركه لأنهم كانوا يطوفون عراة قوله { ذلك من آيات اللّه } يعني من نعم اللّه على الناس ويقال من عجائب اللّه ودلائله { لعلهم يذكرون } يعني يتعظون من قوله تعالى ٢٧وقوله { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } يقول لا يضلنكم الشيطان عن طاعتي فيمنعكم من الجنة { كما أخرج أبويكم من الجنة } حين تركا طاعتي وعصيا أمري { ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما } يعني لا يفتننكم الشيطان عن دينكم في أمور الثياب فينزعها عنكم فتبدوا عوراتكم كما فعل بأبويكم نزع عنهما لباسهما وأظهر عورتهما وقال بعض الحكماء إن المعصية شؤم تضر بصاحبها فتجعله عريانا كما فعلت بآدم عليه السلام ثم قال { إن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } يعني كونوا بالحذر منه فإنه { يراكم هو } أي إبليس وجنوده من الشياطين لأنه يجري من بني آدم مجرى الدم وذكر أن إبليس لما لعن قال يا رب إنك باعث إلى بني آدم رسلا وكتبا فما رسلي قال الكهنة قال فما كتابي قال الوشم قال فما قراءتي قال الشعر قال فما مسجدي قال السوق قال فما مؤذني قال المزامير قال فما بيتي قال الحمام قال فما مصائدي قال النساء قال فما طعامي قال كل ما لم يذكر اسم اللّه عليه قال فما شرابي قال كل مسكر قوله عز وجل { إنا جعلنا الشياطين أولياء } يعني قرناء { للذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني لا يصدقون بالآخرة ٢٨قوله تعالى { وإذا فعلوا فاحشة } يعني إن المشركين حرموا على أنفسهم أشياء قد أحلها اللّه لهم وكانوا يطوفون بالبيت عراة قالوا لا نطوف في ثياب قد أذنبنا فيها وكان رجالهم يطوفون بالبيت بالنهار ونساؤهم يطوفون بالليل وإذا طافت المرأة بالنهار اتخذت إزارا من سير وكانت تبدو عورتها إذا مشت وكانت تقول ( اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله ) وإذا قيل لهم لم فعلتم هكذا { قالوا وجدنا عليها آباءنا واللّه أمرنا بها } يعين بتحريم هذه الأشياء وبالطواف عراة قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { قل إن اللّه لا يأمر بالفحشاء } يعني بالمعاصي { أتقولون على اللّه ما لا تعلمون } يعني أتكذبون على اللّه وتقولون بغير علم وتكذبون على اللّه ثم بين لهم ما أمرهم اللّه تعالى فيه ٢٩فقال عز وجل { قل أمر ربي بالقسط } يعني بالعدل والصواب وكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه { وأقيموا وجوهكم } يعني { قل أمر ربي بالقسط } وقل { أقيموا وجوهكم عند كل مسجد } يعني حولوا وجوهكم إ الكعبة عند كل صلاة وقال الكلبي يعني إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي وإذا لم يكن في مسجد فليأت أي مسجد شاء وقال مقاتل يعني ولوا وجوهكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم { وادعوه مخلصين له الدين } يقول وحدوه واعبدوه بالإخلاص ويقال إن أهل الجاهلية كانوا يشركون في تلبيتهم ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأمرهم أن يدعوه في التلبية مخلصين له الدين ثم قال { كما بدأكم تعودون } أي ليس كما تشركون فاحتج عليهم بالبعث متصلا بقوله { فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون } { كما بدأكم تعودون } يعني ليس بعثكم على اللّه تعالى بأشد من ابتدائكم وقال الحسن كما خلقكم ولم تكونوا شيئا فأحياكم كذلك يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة ويقال { كما بدأكم } يوم الميثاق من التصديق والتكذيب { تعودون } إلى ذلك حيث قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ويقال { كما بدأكم } فخلقكم من تراب تعودون ترابا بعد الموت وقال ابن عباس { كما بدأكم } مؤمنا وكافرا وشقيا وسعيدا كذلك تموتون عليه وتبعثون عليه ٣٠ثم قال { فريقا هدى } وهم المؤمنون فعلم اللّه تعالى منهم الطاعة وأكرمهم بالمعرفة { وفريقا حق عليهم الضلالة } يعني وجب عليهم الضلالة فخذلهم ولم يكرمهم بالتوحيد حيث علم منهم المعصية والكفر ثم قال { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون اللّه } يعني اتخذوهم أولياء وأطاعوهم بالمعصية { ويحسبون أنهم مهتدون } يعني يظنون أنهم على الهدى قال الزجاج فيه دليل أن من لا يعلم أنه كافر وهو كافر يكون كافرا لأن بعضهم قال لا يكون كافرا وهو لا يعلم وذلك القول باطل لأن اللّه تعالى قال { ذلك ظن الذين كفروا } ص ٢٧ وقال { ويحسبون أنهم مهتدون } ٣١قوله تعالى { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } يعني البسوا ثيابكم واستروا عوراتكم عند كل صلاة قال السدي كان هؤلاء الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون الودك فقال اللّه تعالى { خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } في التحريم ويقال الإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله أو يأكل مما يحل أو يأكل مما يحل له أكله فوق الشبع ومقدار الحاجة وقيل لبعض الأطباء هل وجدت الطب في كتاب اللّه تعالى قال نعم قد جمع اللّه تعالى الطب كله في هذه الآية { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } ثم قال { إنه لا يحب المسرفين } يعني لا تحرموا ما أحل اللّه لكم فإن محرم ما أحل اللّه كمحل ما حرم اللّه ٣٢قوله تعالى { قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده } وهو أنه لما نزل قوله { خذوا زينتكم } لبسوا الثياب وطافوا بالبيت مع الثياب فعيرهم المشركون فنزل قوله تعالى { قل من حرم زينة اللّه } أي لبس الثياب { التي أخرج لعباده } يعني خلقها لهم { والطيبات من الرزق } يعني الحلال وهو اللحم والشحم والدسم { قل هي للذين آمنوا } قال مقاتل في الآية تقديم ومعناه قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } قرأ نافع { خالصة } بضم الهاء وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالنصب جعلا نصبا للحال أي في حال الحياة الدنيا { خالصة } أي ثابتة ومن قرأ بالضم فهو خبر بعد خبر يعني هي ثابتة لهم خالصة معناه قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا يشترك فيها المؤمن والكافر وهي خالصة للمؤمنين يوم القيامة وقال القتبي هذا من الاختصار ومعناه قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة وفي الآخرة خالصة ثم قال { كذلك نفصل الآيات } يعني هكذا نبين العلامات ويقال نبين الآيات من أمره ونهيه وما يكون في الدنيا والآخرة { لقوم يعلمون } يعني يفقهون أمر اللّه تعالى ٣٣ثم أخبرهم ما حرم اللّه عليهم فقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } يعني المعاصي ويقال { الإثم } يعني الخمر كما قال القائل ( شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول ) { والبغي } يعني حرم الاستطالة وظلم الناس { بغير الحق وأن تشركوا باللّه } يقول وحرم أن تشركوا باللّه { ما لم ينزل به سلطانا } يقول ما لم ينزل به كتابا فيه عذركم وحجة لكم { وأن تقولوا على اللّه } يعني وحرم عليكم أن تقولوا على اللّه { ما لا تعلمون } أنه حرم عليكم ٣٤ثم خوفهم فقال عز وجل { ولكل أمة أجل } يعين لكل أهل دين مهلة للعذاب { فإذا جاء أجلهم } بالعذاب { لا يستأخرون ساعة } بعد الأجل { ولا يستقدمون } ساعة قبل الأجل
٣٥ثم قال اللّه تعالى { يا بني آدم إما يأتينكم } وأصله إن ما معناه حتى ما يأتيكم { رسل منكم } يعني من جنسكم { يقصون عليكم آياتي } يعني يقرؤون ويعرضون عليكم كتابي { فمن اتقى وأصلح } يعني اتقى الشرك وأطاع الرسول وأصلح العمل ويقال { فمن اتقى } عما نهى اللّه عنه { وأصلح } يعني عمل بما أمر اللّه به { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } يعني { لا خوف عليهم } من العذاب { ولاهم يحزنون } من فوات الثواب ويقال { فلا خوف عليهم } فيما يستقبلهم { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا من الدنيا ويقال معناه إما يأتينكم رسل منكم فأيقنتم { فلا خوف عليكم } فيما يستقبلكم فذكر اللّه ثواب من اتقى وأصلح ثم بين عقوبة من لم يتق ولم يصلح ٣٦فقال عز وجل { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } يعني تعظموا عن الإيمان فلم يؤمنوا بالرسل وتكبروا عن الإيمان { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي دائمون ٣٧قوله تعالى { فمن أظلم } قال الكلبي فمن أكفر وقال بعضهم هذا التفسير خطأ لأنه لا يصح أن يقال هذا أكفر من هذا ولكن معناه ومن أشد في كفره ويقال فلا أحد أظلم ويقال أي ظلم أشنع وأقبح { ممن افترى على اللّه كذبا } يعني من اختلق على اللّه كذبا أي شركا { أو كذب بآياته } يعني جحد بمحمد وبالقرآن { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } يعني حظهم من العذاب ويقال { نصيبهم من الكتاب } حظهم مما وعد اللّه لهم الكتاب الإهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال ابن عباس هو ما ذكر في موضع آخر { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودة } ويقال { نصيبهم من الكتاب } أي ما قضي وقدر عليهم في اللوح المحفوظ من السعادة والشقاوة ويقال { نصيبهم } أي رزقهم وأجلهم في الدنيا { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } يعني أمهلهم حتى يأتيهم ملك الموت وأعوانه عند قبض أرواحهم { قالوا أين ما كنتم تدعون من دون اللّه } يعني الملائكة يقولون لهم ذلك عند قبض أرواحهم ويقال تقول ذلك خزنة جهنم قبل دخولها { أين ما كنتم تدعون } أي تعبدون من الآلهة يمنعونكم من النار { قالوا ضلوا عنا } يعني اشتغلوا عنا بأنفسهم { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } في الدنيا وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم ٣٨ثم قال { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم } يعني قالت لهم خزنة النار ادخلوا النار مع أمم قد مضت من قبلكم على مذهبكم { من الجن والإنس في النار كلما دخلت } يعني النار { أمة } جماعة { لعنت أختها } يعني لعنت الأمة التي دخلت قبلها النار قال مقاتل يعني لعنوا أهل ملتهم فيلعن المشركون المشركين ويلعن النصارى ويلعن اليهود وقال الكلبي تدعو على الأمم الذين دخلوا النار قبلهم في النار يبدأ بالأمم الأولى فالأولى ويبدأ أولا بقابيل وولده ويقال يبدأ بالأكابر فألاكابر مثل فرعون كما قال في آية آخرى { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } مريم ٦٩ { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } يعني اجتمعوا في النار وأصله تداركوا يعني اجتمع القادة والأتباع في النار وقرأ بعضهم { حتى إذا أدركوا فيها } يعني دخلوا في إدراكها كما يقال أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء وهي قراءة شاذة { قالت أخراهم لأولاهم } يعني قالت أواخر الأمم لأولهم ويقال قالت الأتباع للقادة والرؤساء { ربنا هؤلاء أضلونا } عن الهدى { فآتهم عذابا ضعفا من النار } يعني أعطهم زيادة من العذاب { قال } اللّه تعالى { لكل ضعف ولكن لا تعلمون } يعني على القادة زيادة من العذاب ولكن لا تعلمون ما عليهم قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ولكن لا يعلمون } بالياء يعني لا يعلم فريق منهم عذاب فريق آخر { وقالت أولاهم لأخراهم } يعني أولاهم دخولا لآخرهم دخولا ويقال القادة للأتباع { فما كان لكم علينا من فضل } يعني في شيء كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم سواء في الكفر ضللتم كما ضللنا ٣٩قال اللّه تعالى { فذوقوا العذاب } ويقال تقول الخزنة { فذوقوا العذاب } ويقال هذا قول بعضهم لبعض { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } يعني بكفركم في الدنيا وبترككم الإيمان ٤٠قوله تعالى { إن الذين كذبوا بآياتنا } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { واستكبروا عنها } يعني عن قبولها ويقال عن النظر فيها { لا تفتح لهم أبواب السماء } يعني لأعمال الكافرين أي ليس لهم عمل صالح تفتح له أبواب السماء ويقال لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا وقال بعضهم { أبواب السماء } يعني أبواب الجنة { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } يعني لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة وروي عن ابن مسعود أن سئل عن الجمل فقال زوج الناقة وقال الضحاك الجمل الذي له أربع قوائم وقال بعض الناس الجمل هو أشتر بالفارسية وقال الحسن هو ولد الناقة وروي عن ابن عباس أنه قرأ { حتى يلج الجمل } بضم الجيم وتشديد الميم وهو حبل السفينة وسئل عكرمة عن قوله تعالى { حتى يلج الجمل } قيل وما الجمل قال الحبل الذي يصعد به النخل قال سعيد بن جبير هو حبل السفينة الغليظ قرأ أبو عمرو { لا تفتح } بالتاء بلفظ التأنيث بالتخفيف حمزة والكسائي { لا يفتح } بالياء بلفظ التذكير بالتخفيف وقرأ الباقون { لا تفتح لهم } بالتشديد فمن قرأ بلفظ التأنيث فلأنها من جماعة الباب ومن قرأ بالتذكير فلأن الفعل مقدم ومن قرأ بالتشديد أراد به تكثير الفتح ومن قرأ بالتخفيف فلفتح مرة واحدة وقرأ بعضهم في { سم الخياط } بضم السين وهي قراءة شاذه وهما لغتان قال أبو عبيدة كل ثقب فهو سم ثم قال عز وجل { وكذلك نجزي المجرمين } يعني هكذا نعاقب المشركين ثم ذكر ما أوعد لهم في النار ٤١فقال تعالى { لهم من جهنم مهاد } يعني فراشا من النار { ومن فوقهم غواش } يعني تغشاهم النار من فوق رؤوسهم ومعناه أن من تحتهم نارا ومن فوقهم نارا كقوله { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } الزمر ١٦ ويقال { لهم من جهنم مهاد } يعين حظهم من جهنم كالمهاد فأخبر عن ضيق مكانهم في النار { وكذلك نجزي الظالمين } يعني هكذا نعاقب الكافرين ٤٢قوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } وذلك أن اللّه تعالى لما أخبر عن حال الذين كذبوا بآياته واستكبروا عن قبولها أخبر عن حال الذين آمنوا بآياته فقال { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني صدقوا { وعملوا الصالحات } يعني الأعمال الصالحة { لا نكلف نفسا إلا وسعها } يعني لا نكلف نفسا بعد الإيمان من الأعمال إلا بقدر طاقتها { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } يعني دائمين ٤٣ثم قال عز وجل { ونزعنا ما في صدورهم من غل } قال بعضهم يعني في الدنيا أخرج اللّه تعالى الغل والحسد من قلوبهم وألف بين قلوبهم كما قال { ولكن اللّه ألف بينهم } الأنفال ٦٣ هذا في الجنة يخرج الغل والحسد من قلوبهم قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن تابعهم على سنتهم ومنهاجهم إلى يوم القيامة وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه لعمران بن طلحة بن عبيد اللّه أرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال اللّه تعالى فيهم { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } الحجر ٤٧ فأنكر عليه بعضهم فقال علي إن لم نكن نحن فمن هم يعني إن الذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن في قلوبهم من الغل حتى ينزع عنهم { تجري من تحتهم الأنهار } يعني من تحت غرفهم وأشجارهم الأنهار { وقالوا الحمد للّه الذي هدانا لهذا } يعني أكرمنا بهذه الكرامة ويقال { الحمد للّه } الذي وفقنا للأمر الذي أوجب لنا هذا الثواب وهو الإسلام ويقال هدانا لهاتين العينين وذلك أن أهل الجنة لما انتهوا إلى باب الجنة فإذا هم بشجرة تنبع من ساقها عينان فيعمدون إلى إحداهما فيشربون منها فيخرج اللّه تعالى ما كان في أجوافهم من غل وقذر فذلك قوله تعالى { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } الإنسان ٢١ ثم يعمدون إلى الأخرى فيغتسلون فيها فيطيب اللّه تعالى أجسادهم من كل درن وجرت عليهم نضرة ولا تشعث رؤوسهم ولا تغبر وجوههم ولا تشحب أجسادهم أبدا ثم تتلقاهم خزنة الجنة فينادون في التقديم أي قبل أن يدخلوها { إن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } فقالوا بعد ما اغتسلوا من العينين { الحمد للّه الذي هدانا لهذا } يعني وفقنا حتى اغتسلنا من هاتين العينين ويقال لما دخلوا الجنة ونظروا إلى كراماتها قالوا { الحمد للّه الذي هدانا } يعني لهذا الثواب { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه } يعني ما كنا نعرف لولا أن وفقنا اللّه تعالى وذلك أنهم علموا أن اللّه تعالى له عليهم الفضل والمن فيما أعطاهم قرأ ابن عامر { ما كنا لنهتدي } بغير واو على الاستئناف وقرأ الباقون بالواو على معنى العطف قال تعالى { لقد جاءت رسل ربنا بالحق } فصدقناهم { ونودوا أن تلكم الجنة } التي وعدتم وقال بعضهم أن يدخلوها قال لهم خزنة الجنة تلكم الجنة التي وعدتم ويقال بعدما ما دخلوها يقال لهم إن تلكم الجنة يعني هذه الجنة التي { أورثتموها } يعني أنزلتموها بإيمانكم واقتسموها { بما كنتم تعملون } في الدنيا وهذا كما روي في الخبر أنه يقال لهم يوم القيامة جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم
٤٤قوله تعالى { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } يعني ما وعدنا في الدنيا في الثواب وجدناه صدقا { فهل وجدتم ما وعد ربكم } من العذاب { حقا } يعني صدقا { قالوا نعم } فاعترفوا على أنفسهم في وقت لا ينفعهم الاعتراف قرأ الكسائي { قالوا نعم } بكسر العين في جميع القرآن وقرأ الباقون بالنصب وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه سمع رجلا يقول نعم بالنصب فقال له عمر النعم المال وقل نعم يعني بالكسر وروى الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال ما كانت أشياخ قريش إلا يقولون نعم فماتت يعني اللغة { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين } وذلك أنه ينادي مناد بين الجنة والنار تسمعه الخلائق كلهم إن رحمة اللّه على المحسنين ولعنة اللّه على الظالمين يعني عذاب اللّه على الكافرين ٤٥{ الذين يصدون عن سبيل اللّه } يعني يصرفون الناس عن دين اللّه الإسلام وهم الرؤساء منهم منعوا أتباعهم عن الإيمان { ويبغونها عوجا } يقول يريدون بملة الإسلام غيرا وزيفا { وهم بالآخرة كافرون } يعني كانوا جاحدين بالبعث قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { أن لعنة اللّه } بتشديد النون ونصب الهاء وقرأ الباقون { أن لعنة } بتخفيف أن وضم الهاء ٤٦قوله تعالى { وبينهما حجاب } يعني بين أهل الجنة وأهل النار سور { وعلى الأعراف رجال } وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك وقال القتبي الأعراف سور بين الجنة والنار وسمي بذلك لارتفاعه وكل مرتفع عند العرب أعراف وقال السدي إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال هم قوم قتلوا في سبيل اللّه في معصية آبائهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل اللّه ومنعهم من الجنة معصية آبائهم وعن حذيفة بن اليمان أنه قال هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يكن لهم زيادة حسنات يدخلون بها الجنة ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار وروي عن ابن عباس مثل هذا وروي عنه أيضا أنه قال هم أولاد الزنى وروي عن أبي مجلز أنه قال هم الملائكة فبلغ ذلك مجاهدا فقال كذب أبو مجلز يقول اللّه تعالى { وعلى الأعراف رجال } فقال أبو مجلز لأن الملائكة ليسوا بإناث ولكنهم عباد الرحمن قال اللّه تعالى { وجعلوا الملائكة الذين هم عبد الرحمن إنثا } الزخرف ١٩ { يعرفون كلا بسيماهم } يعني أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة إذا مروا بهم ببياض وجوههم ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم والسيماء هي العلامة { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } فإذا مرت بهم زمرة من أهل الجنة قالوا { سلام عليكم } { لم يدخلوها } يعني إن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة { وهم يطمعون } أن يدخلوها ويقال أن أهل النار لم يدخلوها إبدا وهم يطمعون وقال الحسن واللّه ما جعل اللّه ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدهم بها ويقال { لم يدخلوها } يعني أهل الجنة لم يدخلوها حتى يسلم عليهم أهل الأعراف فانصرفوا وهم يطمعون بدخولها ويقال أهل النار لم يدخلوها أبدا وهم يطمعون وطمعهم أن أفيضوا علينا من الماء ٤٧قوله تعالى { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } قال من سرعة ما انصرفوا كأنهم صرفوا { تلقاء أصحاب النار } يعني أنهم إذا نظروا قبل أصحاب النار { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } يعني مع الكافرين في النار ٤٨قوله تعالى { ونادى أصحاب الأعراف رجالا } يعني في النار { يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم } في الدنيا { وما كنتم تستكبرون } يعني ما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان وقرأ بعضهم { وما كنتم تستكثرون } يعني تجمعون المال الكثير وهي قراءة شاذة ٤٩قوله تعالى { أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة } يعني أن أهل الأعراف يقولون يا وليد يا أبا جهل أهولاء يعني صهيبا وبلالا والضعفة من المسلمين الذين كنتم تحلفون لا ينالهم اللّه برحمة أنهم لا يدخلون الجنة ثم يقول اللّه تعالى لأصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } وعن أبي مجلز أنه قال { وعلى الأعراف رجال } من الملائكة { نادوا أصحاب الجنة } قبل أن يدخلوها سلام عليكم ولم يدخلوها وهم يطمعون دخولها يعني أهل الجنة وإذا نظروا إلى أصحاب النار حين مروا بهم { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا } من المشركين { يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون } قوله تعالى { أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة ادخلوا الجنة } يعني لأهل الجنة قال مقاتل فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم فقالت الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة ويقال إن أهل النار يقولون لأصحاب الأعراف ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم واللّه تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة فتقول الملائكة لأهل النار أهولاء الذين أقسمتم يعني لأصحاب الأعراف لا ينالهم اللّه برحمته ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف { أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } ٥٠قوله تعالى { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه } يعني اسقونا من الماء أو شيئا من الفواكه وثمار الجنة فإن فينا من معارفكم فأعلم اللّه تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب فأجابهم أهل الجنة { قالوا إن اللّه حرمهما على الكافرين } يعني الماء والثمار وروي في الخبر أن أبا جهل بن هشام بعث إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يستهزئ به أطعمني من عنب جنتك أو شيئا من الفواكه فقال لأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه قل له إن اللّه حرمهما على الكافرين ٥١ثم وصفهم فقال عز وجل { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } يعني اتخذوا الإسلام باطلا ودخلوا في غير دين الإسلام ويقال اتخذوا عيدهم لهوا وفرحا { وغرتهم الحياة الدنيا } يعني غرهم ما أصابهم من زينة الدنيا { فاليوم ننساهم } يعني نتركهم في النار { كما نسوا لقاء يومهم هذا } يعني كما تركوا العمل ليومهم هذا ويقال كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني أنكروا البعث { وما كانوا بآياتنا يجحدون } يعني ويجحدون بآياتنا بأنها ليست من اللّه تعالى ٥٢قوله تعالى { ولقد جئناهم بكتاب } يعني أكرمناهم بالقرآن { فصلناه } يعني بينا فيه الآيات والحلال والحرام { على علم } يعني بعلم منا { هدى } يعني بيانا من الضلالة ويقال جعلناه هاديا { ورحمة } يعني نعمة ونجاة من العذاب { لقوم يؤمنون } يعني لمن آمن وصدق به يعني أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون ويستوجبون به الرحمة ٥٣ثم قال اللّه تعالى { هل ينظرون إلا تأويله } يعني ما ينتظرون إلا عاقبة ما وعدهم اللّه تعالى في القرآن من العذاب { يوم يأتي تأويله } يعني عاقبة ما وعدهم اللّه وهو يوم القيامة { يقول الذين نسوه } يعني يقول الذين تركوا العمل والإيمان { من قبل } يعني في الدنيا { قد جاءت رسل ربنا بالحق } وذلك أنهم حين عاينوا العذاب وذكروا قول الرسل فندموا على تكذيبهم إياهم يقولون { قد جاءت رسل ربنا بالحق } يقول بأمر وأخبار عن القيامة والبعث فكذبناهم في ذلك { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين فيقال لهم ليس لكم شفيع فيقولون { أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } يقولون هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك { فنعمل } صار نصبا لأنه جواب الاستفهام وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب وكذلك جواب الأمر والنهي يقول اللّه تعالى { قد خسروا أنفسهم } يعني غبنوا حظ أنفسهم { وضل عنهم ما كانوا يفترون } يعني يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند اللّه وقرئ { أو نرد } بالنصب عطف على { فيشفعوا } أو لأن { أو } بمعنى إلى أن وقرئ { أو نرد } بالرفع والمعنى هل نرد وهو قول الفراء أو عطف على المعنى وهو قول الزجاج أي هل يشفع لنا أحد أو نرد وقرأ الحسن { أو نرد } { فنعمل } برفعهما ٥٤قوله تعالى { إن ربكم اللّه الذي خلق السموات والأرض } وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما عير المشركين بعبادة آلهتهم ونزل قوله تعالى { لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } الحج٧٣ وقوله { كمثل العنكبوت أتخذت بيتا } العنكبوت ٤١ سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا من ربك الذي تدعونا إليه وأرادوا أن يتخذوا في اسمه طعنا أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية فتحيروا وعجزوا عن الجواب فقال { إن ربكم اللّه } يعني خالقكم ورزاقكم { الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } قال ابن عباس يعني من أيام الآخرة طول كل يوم ألف سنة وقال الحسن البصري من أيام الدنيا ويقال { في ستة أيام } أي في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها ولكن علم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور { ثم استوى على العرش } قال بعضهم هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله الإيمان به وذكر أن رجلا دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله { الرحمن على العرش استوى } طه٥ فقال الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالا فأخرجوه وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا وقد تأوله بعضهم وقال { ثم } بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف لا بمعنى الترتيب والتراخي ومعنى قوله { استوى } يعني استولى كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني استولى عليه فكذلك هذا معناه خالق السموات والأرض ومالك العرش ويقال ثم صعد أمره إلى العرش وهذا معنى قول ابن عباس قال صعد على العرش يعني أمره يعني قال له كن فكان ويقال { ثم استوى على العرش } يعني كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض ويكون { على } بمعنى العلو والارتفاع ويقال { استوى } بمعنى استعلى وذكر أن أول شيء خلقه اللّه تعالى القلم ثم اللوح فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق ما شاء ثم خلق العرش ثم خلق حملة العرش ثم خلق السموات والأرض وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيروا في دعائهم كما خلق الكعبة علما لعبادتهم ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة فكذلك خلق العرش علما لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم ثم قال تعالى { يغشى الليل النهار } يعني إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشى النهار الليل لأن في الكلام دليلا عليه وقد بين في آية أخرى { يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل } الزمر ٥ فكذلك هاهنا معناه يغشى النهار الليل ويغشى الليل النهار يعني إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { يغشى الليل النهار } بتشديد الشين ونصب الغين وقرأ الباقون بجزم الغين مع تخفيف الشين وهما لغتان غشى ويغشى وأغشى يغشى ثم قال { يطلبه حثيثا } يعني سريعا في طلبه أبدا ما دامت الدنيا باقية ثم قال { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } يعني جاريات مذللات لبني آدم بأمره قرأ ابن عامر { والشمس والقمر والنجوم } كلها بالضم على معنى الابتداء وقرأ الباقون بالنصب على معنى العطف أي { خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } ثم قال { إلا له الخلق والأمر } { ألا } كلمة التنبيه يعني اعلموا أن الخلق للّه تعالى وهو الذي خلق الدنيا والأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه قال سفيان بن عيينه الخلق هو الخلائق والأمر هو القرآن وهو كلام اللّه تعالى وليس بمخلوق ولا هو مباين منه وتصديقه قوله تعالى { ذلك أمر اللّه أنزله إليكم } الطلاق ٥ ويقال الأمر هو القضاء ثم قال { تبارك اللّه رب العالمين } قال ابن عباس يعني تعالى اللّه عما يقول الظالمون ويقال { تبارك اللّه } يعني تفاعل من البركة بمعنى ذو البركة يعني البركة كلها من اللّه تعالى والبركة فيما يذكر عليه اسم اللّه رب العالمين يعني سيد الخلق أجمعين ٥٥فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم أن يدعوه فقال عز وجل { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } قال الكلبي يعني في خفض وسكون ويقال { خفية } يعني اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة ويقال علانية وسرا ويقال هذا أمر بالدعاء في الأحوال كلها يعني ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها ثم قال { إنه لا يحب المعتدين } يعني أن تدعوا بما لا يحل أو تدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر ٥٦ثم قال تعالى { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } وذلك أن اللّه تعالى إذا بعث نبيا فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها ويقال { لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } يعني لا تجوروا في الأرض فتخربوها لأن الأرض قامت بالعدل ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعة { وادعوه } يعني اعبدوه { خوفا وطمعا } يعني { خوفا } من عذابه { وطمعا } في رحمته ويقال ادعوه في حال الخوف والضيق ويقال خوفا عن قطيعته ورجاء في لقائه ثم قال { إن رحمة اللّه قريب من المحسنين } ولم يقل قريبة قال بعضهم لأن البعيد والقريب يصلحان للواحد وللجمع المذكر والمؤنث كما قال { لعل الساعة تكون قريبا } الأحزاب ٦٣ وقال { وما هي من الظالمين ببعيد } هود ٨٣ وقال بعضهم تفسير الرحمة هاهنا المطر فذكر بلفظ التذكير وقال بعضهم لأن الرحمة بمعنى الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى ومعناه المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون ٥٧ثم قال عز وجل { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني قدام المطر قرأ حمزة والكسائي { الريح } بلفظ الوحدان وقرأ الباقون { الرياح } بلفظ الجماعة واختار أبو عبيدة ان كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما ذكر فيه العذاب فهو ريح واحتج بما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إذا هبت الريح اللّهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقرأ ابن عامر { نشرا } بضم النون وجزم الشين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع { نشرا } بضمتين وقرأ حمزة والكسائي { نشرا } بنصب النون وجزم الشين وقرأ عاصم { بشرا } بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى { يرسل الرياح مبشرات } الروم ٤٦ ومن قرأ { نشرا } بالنون والنصب يكون معناه ( يرسل الرياح ) تنشر السحاب نشرا ومن قرأ { نشرا } بضمتين يكون جمع نشور يقال ريح نشور تنشر نشرا السحاب ورياح نشر ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف ثم قال تعالى { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحابا ثقالا من الماء { سقناه لبلد ميت } يعني السحاب تمر بأمر اللّه تعالى إلى أرض ليس فيها نبات { فأنزلنا به الماء } يعني بالمكان ويقال بالسحاب { فأخرجنا به من كل الثمرات } يعني نخرج بالماء من الأرض من ألوان الثمرات ثم قال { كذلك نخرج الموتى } يعني هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر وذكر في الخبر انه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين ليلة مثل مني الرجال فتشرب الأرض فتنبت الأجساد بذلك الماء ثم ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون وفي هذه الآية إثبات القياس وهو رد المختلف فيه إلى المتفق عليه لأنهم كانوا متفقين أن اللّه تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها ثم قال { لعلكم تذكرون } يعني لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن ٥٨ثم ضرب مثلا للمؤمنين والكافرين فقال عز وجل { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } يعني المكان العذب الزكي اللين من الأرض يخرج نباته إذا أمطرت فينتفغ به كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر البلد الطيب { والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } يعني الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا يتكلم بالإيمان ولا يعمل بالطاعة إلا كرها لغير وجه اللّه ثم قال { كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } يعني هكذا نبين الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحده ٥٩قوله تعالى { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } يعني بعثنا نوحا إلى قومه بالرسالة فاتاهم ويقال وجعلنا نوحا رسولا إلى قومه { فقال يا قوم اعبدوا اللّه } يعني وحدوا اللّه وأطيعوه { ما لكم من إله غيره } يعني ليس لكم رب سواه قرأ الكسائي { إله غيره } بكسر الراء وقرأ الباقون { غيره } بضم الراء فمن قرأ بكسر الراء فلأجل { من } وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعا له ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت { من } مؤكدة ثم قال { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وهو الغرق ٦٠قوله تعالى { قال الملأ من قومه } وهم الرؤساء والأجلة والأشراف سموا بذلك لأنهم ملئوا بما يحتاج إليه منهم ويقال لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع قالوا { إنا لنراك في ضلال مبين } يعني في خطأ بين ٦١{ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين } وفي الآية بيان أدب للخلق في حسن الجواب والمخاطبة لأنه رد جهلهم بأحسن الجواب وهذا كما قال اللّه تبارك وتعالى { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سالما } الفرقان ٦٣ يعني السداد من القول ٦٢ثم قال عز وجل { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } يعني أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب وقال أهل اللغة أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد كما يقال شكرت لك وشكرتك ثم قال { وأعلم من اللّه ما لا تعلمون } يعني أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوفوا أممهم بعذاب الأمم السالفة كما قال شعيب لقومه { يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط عنكم ببعيد } هود ٨٩ وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم فقال لهم نوح { وأعلم من اللّه ما لا تعلمون } من العذاب الذي ينزل بكم فقال الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح ٦٣فقال { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } يعني ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حليته ونسبه { لينذركم } بالنار { ولتتقوا } بالشرك قال بعضهم هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام ومعناه { لينذركم } لكي تتقوا { ولعلكم ترحمون } يعني لكي تطيعوه فترحموا وتنجوا من العذاب قرأ أبو عمرو { أبلغكم } بجزم الباء والتخفيف وقرأ الباقون { أبلغكم } بالتشديد من المبالغة ٦٤قوله تعالى { فكذبوه } يعني نوحا { فأنجيناه والذين معه في الفلك } يعني الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة والفلك اسم للواحد والجماعة يعني أنجينا المؤمنين من الغرق { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين } عن نزول العذاب ويقال { عمين } عن الحق جعلوا أمره باطلا وقد بين اللّه تعالى قصته في سورة هود ٦٥قوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هودا } يعني أرسلنا إلى عاد نبيهم هودا عطفا على قوله { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وهود لم يكن أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم وقال السدي كانت عاد قوما من أهل اليمن فأتاهم هود فدعاهم إلى الإيمان والتوحيد وذكرهم ووعظهم فكذبوه ويقال عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه ويقال اسم القرية { قال يا قوم اعبدوا اللّه } يعني وحدوه { ما لكم من إله غيره } وقد ذكرناه { أفلا تتقون } يعني الشرك ٦٦قوله تعالى { قال الملأ الذين كفروا من قومه } وقد ذكرناه { إنا لنراك في سفاهة } يعني جهالة { وإنا لنظنك من الكاذبين } بأنك رسول اللّه ٦٧{ قال يا قوم ليس بي سفاهة } يعني جهالة { ولكني رسول من رب العالمين } إليكم ٦٨{ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } يعني كنت فيكم قبل اليوم أمينا فكيف تتهموني اليوم ٦٩قوله تعالى { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } يعني الرسالة والبيان { على رجل منكم } تعرفون نسبه { لينذركم } بالعذاب { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } يعني خليفة في الأرض بعد هلاك قوم نوح { وزادكم في الخلق بسطة } يعني فضيلة في الطول على غيركم والخلفاء والخلائف جمع الخليفة قرأ ابن كثير وأبو عمرو { بسطة } بالسين وقرأ حمزة بإشمام الزاي وقرأ الباقون بالصاد قال ابن عباس كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعا وأقصرهم ثمانين ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل منهم اثني عشرا ذراعا فذلك قوله { لم يخلق مثلها في البلد } الفجر ٨ ويقال كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل وكان إدريس نبيا ولم يؤمر بدعوة الخلق ويقال أنزل عليه عشرون صحيفة وقد آمن به كثير من الناس وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وكان بين موسى وعيسى ألف سنة وبين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم خمسمائة سنة وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه أنذرهم بالعذاب فقال إن اللّه تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها فاستهزؤوا به وقالوا أي ريح تقدر علينا فأمر اللّه تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم كما قال في آية أخرى { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } الذاريات ٤١ فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد كما قال { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين } الأحقاف ٢٥ وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم اللّه تعالى في حقهم قال لهم { فاذكروا آلاء اللّه } يعني اشكروا نعمة اللّه قال بعضهم الآلاء اتصال النعمة والنعماء دفع البلية وقال بعضهم على ضد هذا وقال أكثر المفسرين الآلاء والنعماء بمعنى واحد { لعلكم تفلحون } يعني أي لكي تنجوا من عذابه ٧٠قوله تعالى { قالوا أجئتنا لنعبد اللّه وحده } يعني قالوا له يا هود أتأمرنا أن نعبد ربا واحدا { ونذر ما كان يعبد آباونا } يعني نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا قال لهم هود عليه السلام إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب قالوا { فأتنا بما تعدنا } يعني تخوفنا من العذاب { إن كنت من الصادقين } في أنك رسول اللّه ٧١قوله تعالى { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } يعني وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم { أتجادلولني في أسماء سميتموها أنتم وآباوكم } يعني تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن تثبت لكم من اللّه حجة وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم وسميتموها آلهة { ما نزل اللّه بها من سلطان } يقول ليس لكم عذر وحجة في عبادة الأصنام { فانتظروا } أي الهلاك { إني معكم من المنتظرين } يعني الهلاك بكم لأنهم أرادوا أ يهلكوه ٧٢قوله تعالى { فأنجيناه والذين معه برحمة منا } يعني بنعمة منا عليهم { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } يعني قطع أصلهم واستأصلهم { وما كانوا مؤمنين } يعني الذين أهلكهم اللّه تعالى كلهم كانوا كافرين ٧٣قوله تعالى { وإلى ثمود أخاهم صالحا } يعني أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحا قال بعضهم { ثمود } اسم القرية وقال بعضهم { ثمود } اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل ويقال بئر كانت بين الشام والحجاز ويقال هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحجر كما قال في آية أخرى { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } الحجر ٨٠ وقال بعضهم كان في تلك القرية تسعمائة أهل بيت وقال بعضهم ألف وخمسمائة فدعاهم صالح إلى اللّه تعالى سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عيد لهم فأتاهم صالح ودعاهم إلى اللّه تعالى فقالوا له إن كنت نبيا فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا اللّه تعالى فتحركت الصخرة فانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولدا وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منهم دوابهم وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوما للناقة ويوما لأهل القرية فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم وكان في المدنية تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح لا تفعلوا فأنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن دهر فأصاب السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قذار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال اللّه تعالى { إذ انبعث أشقها } الشمس ١٢ فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية وروي عن الحسن البصري أنه قال لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلا وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فقالوا وما العلامة في ذلك فقال أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة ثم خرج من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل بعضهم يقول لبعض قد اصفر وجهك وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض قد احمر وجهك وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض قد اسود وجهك فأيقنوا جميعا الهلاك فجاء جبريل عليه السلام وصاح بهم صيحة فماتوا كلهم ويقال قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله { قال يا قوم اعبدوا اللّه } يعني وحدوا اللّه { ما لكم من إله غيره } قد ذكرناه ثم قال { قد جاءتكم بينة من ربكم } يقول قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال اللّه تعالى { هذه ناقة اللّه لكم آية } يعني علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحدوا اللّه ربكم { فذروها تأكل في أرض اللّه } يقول دعوها ترتع في أرض الحجر { ولا تمسوها بسوء } يقول لا تعقروها { فيأخذكم عذاب أليم } وهو ما عذبوا به ٧٤قوله تعالى { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } يعني من بعد هلاك عاد { وبوأكم في الأرض } يعني أنزلكم في أرض الحجر { تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا } وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف وقد اتخذوا بيوتا في الجبل لأيام الشتاء فذكرهم اللّه تعالى نعمته فقال واذكروا هذه النعم حيث وفقكم اللّه حين اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال { فآذكروا آلاء اللّه } يعني نعم اللّه عليكم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي ٧٥قوله تعالى { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } قرأ ابن عامر { وقال الملأ } بالواو وقرأ الباقون بغير واوا يعني قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة { للذين استضعفوا } { لمن آمن منهم } بصالح { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } يعني أتصدقون صالحا بأنه مرسل من ربكم إليكم { قالوا } يعني المؤمنين { إنا بما أرسل به مؤمنون } يعني مصدقين به ٧٦{ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون } يعني برسالة صالح ٧٧قوله تعالى { فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم } يعني عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته في التوحيد ويقال فيه تقديم ومعناه عتوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة وروي عن ابن عباس أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم اللّه في يوم السبت { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا } يعني بما تخوفنا به من العذاب { إن كنت من المرسلين } يعني إن كنت رسول رب العالمين ٧٨{ فأخذتهم الرجفة } يعني الزلزلة ويقال صيحة جبريل كما قال { فأخذتهم الصيحة مصبحين } الحجر ٨٣ وقيل الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة بعد ويقال النار { فأصبحوا في دارهم جاثمين } يعني صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين لا يتحركون وأصله من الجثوم ويقال أصابهم العذاب بكورة يوم الأحد ٧٩قوله تعالى { فتولى عنهم } فيه تقديم وتأخير يعني حين كذبوه خرج من بين أظهرهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم } يعني دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم بالعذاب { ولكن لا تحبون الناصحين } يعني لا تطيعون الداعين ويقال إنما قال ذلك بعد هلاكهم على وجه الحزن أي قد بلغتكم الرسالة وروي عن ابن عباس أنه قال إن اللّه تعالى لم يهلك قوما ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم وقال في رواية الكلبي لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين فسكنوا ديارهم وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه اللّه تعالى ٨٠قوله تعالى { ولوطا إذ قال لقومه } يعني وأرسلنا لوطا إلى قومه ويقال معناه واذكروا لوطا { إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة } يعني اللواطة { ما سبقكم بها } يعني لم يعمل مثل عملكم { من أحد من العالمين } قبلكم { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } يعني تجامعون الرجال من دون النساء يعني إن إتيان الرجال أشهى عندكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو { آينكم } بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع { إنكم } بهمزة واحدة بغير مد وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام ٨١ثم قال { بل أنتم قوم مسرفون } يعني معتدين من الحلال إلى الحرام ٨٢قوله تعالى { وما كان جواب قومه } وإنما صار الجواب نصبا لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده { إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } يعني يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا ٨٣{ فأنجيناه وأهله } يعني ابنتيه زعوراء وريثا { إلا امرأته } وهي واعلة { كانت من الغابرين } يعني من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا ٨٤{ وأمطرنا عليهم مطرا } يعني الحجارة ويقال أمطر للعذاب ومطر للرحمة ويقال أمطر ومطر بمعنى واحد { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} يعني كيف كان عاقبة أمرهم وقد بين قصته في سورة هود وقال مجاهد لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء وبكل قطرة في الأرض ما زال نجسا إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حده قال بعضهم هو كالزاني فإن كان محصن رجم وإن كان غير محصن جلد وروي عن الشعبي أنه قال يرجم في الأحوال كلها محصنا كان أو غير محصن وروي عن علي بن أبي طالب أنه أتي برجل قد عمل ذلك العمل فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوسا ثم يتبع بالحجارة لأن اللّه تعالى ذكر قتلهم بالحجارة قال بعضهم يعزر ويحبس حتى يظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه ٨٥قوله تعالى { وإلى مدين أخاهم شعيبا } يعني أرسلنا إلى أهل مدين نبيهم شعيبا ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن تزوج ريثاء ابنة لوط فولدت آل مدين فتوالدوا وكثروا ثم صار هو اسما للمدينة فسميت المدينة مدين وسمي أولئك القوم مدين فكفروا باللّه تعالى ونقصوا الميزان والمكيال في البيع وأظهروا الخيانة فبعث اللّه تعالى إليهم شعيبا وقال الضحاك كان شعيبا أفضلهم نسبا وأصدقهم حديثا وأحسنهم وجها ويقال إنه بكى من خشية اللّه تعالى حتى ذهب بصره وصار أعمى فدعا قومه إلى اللّه تعالى و { قال يا قوم اعبدوا اللّه } يعني وحدوه وأطيعوه { ما لكم من إله غيره قد جاءتكم موعظة من ربكم } قال بعضهم مجيء شعيب عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره بأن اللّه واحد وقال بعضهم كانت له علامة لأن اللّه تعالى لم يبعث نبيا إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته إلا أن اللّه تعالى لم يبين لنا علامته وقد بين علامة بعض الأنبياء ولم يبين علامة الجميع ثم قال { فأوفوا الكيل والميزان بالقسط } يعني أتموا الكيل والميزان بالعدل { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } يقول ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي بعد ما بين اللّه تعالى طريق الحق وأمركم بالطاعة { ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين } يعني وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض { إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين بما حرم اللّه عليكم ٨٦قوله تعالى { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } يعني لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل { وتصدون عن سبيل اللّه } يقول تمنعون الناس عن دين اللّه هو دين الإسلام { من آمن به } يعني شعيبا { وتبغونها عوجا } يقول تريدون بملة الإسلام زيغا وغيرا وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { بكل صراط توعدون } قال بكل سبيل حق تصدون الناس تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب ثم قال { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } يعني كنتم قليلا في العدد فكثر عددكم ويقال كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } يعني كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل يعني الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح ٨٧ثم قال تعالى { وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به } يعني إن كان جماعة منكم صدقوا بي { وطائفة لم يؤمنوا } يعني أي لم يصدقوا بي { فاصبروا حتى يحكم اللّه بيننا } يعني حتى تنظروا أن عاقبة المؤمنين تكون أفضل أم عاقبة الكافرين فذلك قوله { حتى يحكم اللّه بيننا } يعني حتى يقضي اللّه بين المؤمنين وبين الكافرين { وهو خير الحاكمين } يعني أعدل العادلين ٨٨قوله تعالى { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } يعني الأشراف والرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } يعني لتدخلن في ديننا الذين نحن عليه ويقال هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم { قال } لهم شعيب { أو لو كنا كارهين } يعني أتجبروننا على ذلك قالوا نعم قال لهم ٨٩شعيب { قد افترينا على اللّه كذبا إن عدنا في ملتكم } يقول قد اختلقنا على اللّه كذبا إن دخلنا في دينكم { بعد إذ نجانا اللّه منها } ويقال معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا اللّه منها ويقول أكرمنا اللّه تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر وأنقذنا من ملتكم ويقال { بعد إذ } أكرمنا اللّه بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء اللّه ربنا } يعني ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء اللّه يعني لا يشاء اللّه الكفر مثل قولك لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وهذا طريق المعتزلة ثم قال { وسع ربنا كل شيء علما } يعني علم ما يكون منا من الخلق { على اللّه توكلنا } يعني فوضنا أمرنا إلى اللّه لقولهم { لنخرجنك يا شعيب } { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } يقول اقض بيننا وبين قومنا بالعدل وروى قتادة عن ابن عباس قال ما كنت أدري ما معنى قوله { ربنا افتح بيننا } حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعالى أفاتحك يعني أحاكمك وقيل أخاصمك وقال القتبي الفتح أن تفتح شيئا مغلقا كقوله { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } الزمر ٧٣ وسمي القضاء فتحا لأن القضاء فصل الأمور وفتح لما أشكل منها { وأنت خير الفاتحين } يعني خير الفاصلين ٩٠قوله تعالى { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لأن اتبعتم شعيبا } يعني لئن أطعتم شعيبا في دينه { إنكم إذا لخاسرون } يعني جاهلين فلما وعظهم شعيب ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم فلم يصدقوه فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني أهل القرية حر شديد فخرجوا من القرية ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال في آية أخرى { كذب أصحاب لئيكة المرسلين } الشعراء ١٧٦ فأرسل اللّه تعالى نارا فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس ويقال أصابتهم الزلزلة فأتتهم نار فأحرقتهم فذلك ٩١قوله { فأخذتهم الرجفة } يعني الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا { فأصبحوا في دارهم جاثمين } يعني صاروا ميتين ٩٢قوله تعالى { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } يقال معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكون هناك أحد يعني لم يعيشوا فيها قط وقال قتادة { كأن لم يغنوا } يعني كأن لم يتنعموا { فيها } ويقال كأن لم يعمروا ثم قال { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } يعني المغبونين في العقوبة يعني إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا به ٩٣قوله تعالى { فتولى عنهم } يعني أعرض عنهم يعني حين خرج من بين أظهرهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } في نزول العذاب { ونصحت لكم } وقد ذكرناه { فكيف آسى على قوم كافرين } يعني أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا ٩٤قوله تعالى { وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها } ففي الآية مضمر ومعناه وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها { بالبأساء والضراء } يعني عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر ويقال البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم والضراء ما يصيبهم في أنفسهم { لعلهم يضرعون } فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه ومعناه لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم ٩٥قوله تعالى { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } يعني حولنا مكان الشدة الرخاء ومكان الجدوبة الخصب { حتى عفوا } كثروا واستغنوا وكثرة أموالهم ولم يشكروا اللّه تعالى ويقال { حتى عفوا } أي حتى سروا به { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } يعني مثل ما أصاب آباءنا مرة يكون الرخاء ومرة يكون الشدة { فأخذتهم بغتة } يعني فجأة { وهم لا يشعرون } يعني أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به ويقال إن الشدة للعام تكون تنبيها وزجرا والنعمة تكون استدراجا وأما النعمة للخاص فهي تنبيه لأنه بعد ذلك عقوبة كما روي أن اللّه تعالى قال لموسى إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل ذنب عجلت عقوبته ٩٦قوله تعالى { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } يعني وحدوا اللّه تعالى واتقوا الشرك { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } يعني أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض { ولكن كذبوا } الرسل { فأخذناهم } يعني عاقبناهم { بما كانوا يكسبون } من الشرك ففي الآية دليل أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكرا وتكون عقوبة له إذا لم يكن شاكرا لأنه قال في آية أخرى { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } الزخرف ٣٣ يعني الغنى يكون وبالا لمن لم يشكر اللّه وعقوبة له ٩٧ثم قال تعالى { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا } يعني أن ينزل عليهم عذابنا ليلا ٩٨{ وهم نائمون أو أمن أهل القرى } فتحت الواو لأنها واو العطف أدخلت عليها ألف الاستفهام وكذلك { أفأمن } لأنها فاء العطف أدخل عليها ألف الاستفهام قرأ نافع وابن كثير { أو أمن } بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق { أن يأتيهم بأسنا ضحى } يعني يأتيهم عذابنا نهارا { وهم يلعبون } يعني لاهون عنه ٩٩ثم قال تعالى { أفأمنوا مكر اللّه } يعني عذاب اللّه { فلا يأمن مكر اللّه } يعني عذاب اللّه { إلا القوم الخاسرون } يعني المغبونين بالعقوبة ١٠٠قوله تعالى { أو لم يهد للذين يرثون الأرض } يعني أو لم يبين قال القتبي أصل الهدى الإرشاد كقوله { عسى ربي أن يهديني } يعني يرشدني ثم يصير الإرشاد على معان منها إرشاد تبيان مثل قوله { أو لم يهد للذين } يعني أو لم يبين لهم ومنها إرشاد بمعنى بالدعاء كقوله { ولكل قوم هاد } الرعد ٧ يعني نبيا يدعوهم وقوله { وجعلنهم أئمة يهدون بأمرنا } الأنبياء ٧٣ يعني يدعون الخلق وقرأ بعضهم { أو لم نهد بالنون } يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين اللّه { أو لم نهد بالنون } يعني أو لم نبين لهم الطريق ومن قرأ بالياء معناه أو لم يبين اللّه { للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } يعني ينزلون الأرض من بعد هلاك أهلها ويقال أولم نبين لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر مبعودهم على نصرتهم { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } يعني أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب ثم قال { ونطبع على قلوبهم } يعني نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم { فهم لا يسمعون } الحق ولا يقبلون الموعظة ١٠١قال عز وجل { تلك القرى نقص عليك من أنبائها } يعني تلك القرى التي أهلكنا أهلها نخبرك في القرآن من حديثها { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني بالعلامات الواضحة والبراهين القاطعة التي لو اعتبروا بها لاهتدوا { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } يعني أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية وقال مجاهد فما كانوا ليؤمنوا بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } الأنعام ٢٨ وقال السدي { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا } يوم الميثاق يعني فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به وهو قوله { ألست بربكم قالوا بلى } الأعراف١٧٢ ثم قال في الدنيا وما وجدناهم على ذلك الإقرار ويقال { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيء الرسل { بما كذبوا من قبل } مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم { كذلك يطبع اللّه على قلوب الكافرين } يعني هكذا يختم اللّه تعالى { على قلوب الكافرين } مجازاة لكفرهم ١٠٢قوله تعالى { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } { من } زيادة للصلة يعني ما وجدنا لأكثرهم من وفاء فيما أمروا به يعني الذين كذبوا وعذبوا من الأمم الخالية ويقال { ما وجدنا لأكثرهم من عهد } لأنهم أقروا يوم الميثاق ثم نقضوا العهد حيث كفروا ويقال { ما وجدنا لأكثرهم من عهد } أي من قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل ثم قال { وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } يعني وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد تاركين لما أمروا به ١٠٣قوله تعالى { ثم بعثنا من بعدهم موسى } يعني أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة ويقال ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران { بآياتنا } يعني اليد البيضاء والعصا { إلى فرعون } وهو ملك مصر واسمه وليد بن مصعب وروي عن وهب بن منبه أنه قال كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى فبعث اللّه تعالى إليه موسى ليأخذ عليه العهد والحجة وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين وقالوا هو كان غيره وكان جبارا ظهر بمصر واستولى عليها فأرسل اللّه تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى { ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه } يعني جنوده وأتباعه { فظلموا بها } يعني جحدوا بالآيات { فانظر كيف عاقبة المفسدين } يعني كيف صار آخر أمر المشركين ١٠٤وقال ابن عباس أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون ففزع منها فرعون فشاب رأسه فاستحيا فخضب رأسه بالسواد فأول من خضب رأسه بالسواد فرعون قال ابن عباس كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فيخرج النبات فلما دخل عليه مع هارون { وقال } له { موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } إليك قال له فرعون كذبت قال له موسى ١٠٥{ حقيق علي أن لا أقول على اللّه إلا الحق } قرأ نافع { حقيق } علي بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف على فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول يعني واجب بأن أترك القول على اللّه إلا الحق ومن قرأ بالتشديد معناه واجب علي ترك القول على اللّه إلا الحق فلما كذبوه قال إني لا أقول بغير برهان { قد جئتكم ببينة من ربكم } يعني جئتكم بعلامة لنبوتي { فأرسل معي بني إسرائيل } ولا تستعبدهم لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم سخرة ف ١٠٦{ قال } له فرعون { إن كنت جئت بآية } يعني بعلامة لنبوتك { فأت بها إن كنت من الصادقين } بأنك رسول اللّه ١٠٧{ فألقى عصاه } يعني ألقى موسى عصاه من يده { فإذا هي ثعبان مبين } وهي أعظم الحيات ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء والشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون ففتحت فاها نحو فرعون وكان فرعون على سريره فوثب فرعون من سريره وهرب منها وهرب الناس وصاحوا إلى موسى ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها فإذا هي عصا بيده كما كانت وجعل الناس يضحكون مما صنع موسى ومعنى قوله { ثعبان مبين } يعني أنها حية تسعى لا لبس فيها فقال له فرعون هل معك غير هذا قال نعم ١٠٨{ ونزع يده } يعني أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى { وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء } النمل١٢ يعني من غير برص { فإذا هي بيضاء للناظرين } يعني لها شعاع غلب على نور الشمس ومعنى قوله { للناظرين } يعني يتعجب ويتحير منها الناظرون ويقال إن البياض من غير برص لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت ١٠٩{ قال الملأ من قوم فرعون } يعني الأشراف والرؤساء قال مقاتل يعني إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه في سورة الشعراء { قال للملأ حوله إن هذا لسحر عليم } الشعراء٣٤ يعني حاذق بالسحر ثم قال قومه { إن هذا لساحر عليم } يعني تصديقا لقوله { يريد أن يخرجكم من أرضكم } بسحره يعني من أرض مصر فقال لهم فرعون ١١٠{ فماذا تأمرون } يعني ماذا تشيرون في أمره ويقال إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون يعني ماذا ترون فيه ١١١{ قالوا أرجه وأخاه } يعني احسبهما ولا تقتلهما وأصله في اللغة التأخير يعني أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس بأنهما صادقان فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذ فذلك قوله { أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين } يعني الشرط يحشرون الناس إليك ١١٢{ يأتوك بكل ساحر عليم } أي حاذق بالسحر قرأ ابن كثير { أرجئهو } بالهمزة والواو بعد الهاء وقرأ الكسائي { أرجهي } بغير همز والياء بعد الهاء وكذلك نافع في رواية ورش وهكذا قرأ حمزة إلا أنه يكسر الهاء ولا يتبع الياء وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبو بكر وابن عامر في إحدى الروايتين { أرجئه } بالهمزة والضمة بغير مد وقرأ عاصم بالهمز وهذه لغات كلها مروية عن العرب وقرأ حمزة والكسائي { بكل سحار عليم } على وجه المبالغة في السحر وقرأ الباقون { بكل ساحر } وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء ١١٣قوله تعالى { وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا } يعني قالوا لفرعون أتعطينا جعلا ومالا { إن كنا نحن الغالبين } لموسى ١١٤{ قال } لهم فرعون { نعم } لكم الجعل { وإنكم لمن المقربين } يعني لكم المنزلة سوى العطية يعني أنكم تكونوا أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو { آين لنا لأجرا } بمد الألف وقرأ ابن كثير ونافع وحفص { إن لنا } بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { إن لنا } بهمزتين فلما اجتمعت السحرة ووعدوا للخروج يوما وأعلم الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرتهم كما قال في آية أخرى { قال موعدكم يوم الزينة } طه ٥٩ يعني يوم عيد كان لهم ويقال يوم النيروز فلما اجتمعوا قالت السحرة أي سحرة فرعون لموسى ١١٥{ قالوا يا موسى إما أن تلقي وأما أن نكون نحن الملقين } يعني إما أن تطرح عصاك على الأرض وأما أن نكون نحن الملقين قبلك ١١٦{ قال } لهم موسى { ألقوا فلما ألقوا } يعني السحرة ألقوا الحبال والعصي { سحروا أعين الناس } يعين أخذوا أعينهم بالسحر { واسترهبوهم } يعني طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس قال الكلبي كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلا وقال بعضهم كانوا اثنين وسبعين حبلا وروى الأسباط عن السدي قال قال ابن عباس كانوا بضعا وثلاثين ألفا وقال محمد بن إسحاق كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد فلما طلعت عليها الشمس صارت شبيها بالحيات فنظرموسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات فدخل فيه الخوف ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات فذلك قوله { واسترهبوهم } يعني أفزعوهم وأخافوهم { وجاؤوا بسحر عظيم } يعني بقول عظيم ويقال بسحر تام ويقال { وجاؤوا بسحر عظيم } يعني بقول عظيم حتى قالوا { بعزة فرعون إنا لنحن الغلبون } الشعراء ٤٤ ويقال وجاؤوا بكذب عظيم ١١٧قال اللّه تعالى { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك } يعني اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عصاه من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم { فإذا هي تلقف ما يأفكون } يعني تلتقم وتأكل جميع ما جاؤوا به من الكذب والسحر قرأ عاصم في رواية حفص { تلقف } بجزم اللام وتشديد القاف وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف ومعناهما واحد وقصدت الحية إلى فرعون فنادى موسى فأخذها فإذا هي عصا على حالها فنظر السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت ١١٩{ فوقع الحق } يعني استبان الحق فظهر أنه ليس بسحر { وبطل ما كانوا يعملون } من السحر يعني ذهب وهلك واضمحل { فغلبوا هنالك } وغلب موسى السحرة عند ذلك { وانقلبوا صاغرين } يعني رجعوا ذليلين قالوا لو كان هذا سحر فأين صارت حبالنا وعصينا ولو كانت سحرا لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من اللّه تعالى وليس بسحر فآمنوا بموسى ١٢٠قوله تعالى { وألقي السحرة ساجدين } يعني خروا للّه تعالى ساجدين قال الأخفش من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ويقال وفقهم اللّه تعالى للسجدة ١٢١{ قالوا آمنا برب العالمين } فقال لهم فرعون إياي تعنون فأراد أن يلبس على قومه ١٢٢فقالوا { رب موسى وهارون } فندم فرعون على ما سألهم لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم برب العالمين أنهم أرادوا به فرعون فلما سألهم فرعون وقالوا { برب موسى وهارون } ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين ١٢٣{ قال فرعون آمنتم به } يعني صدقتم بموسى { قبل أن آذن لكم } يعني قبل أن آمركم بالإيمان بموسى قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير { آمنتم } بالمد وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاما إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة بغير مد على وجه الخبر { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } يعني صنع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة { لتخرجوا منها أهلها } يعني إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم ١٢٤ثم قال لهم { فسوف تعلمون } يعني تعلمون ماذا أفعل بكم { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى { ثم لأصلبنكم أجمعين } على شاطئ نهر مصر ١٢٥{ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } يعني لا نبالي من فعلك وعقوبتك فإن مرجعنا إلى اللّه تعالى يوم القيامة ١٢٦قوله تعالى { وما تنقم منا } يعني وما تعيب علينا وما تنكر منا { إلا أن آمنا } باللّه يعني إلا إيماننا باللّه ويقال وما نقتمتك علينا ولم يكن منا ذنب { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } يعني لما ظهر عندنا أنه حق ثم سألوا اللّه تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا { ربنا أفرغ علينا } يعني أنزل علينا { صبرا } عند القطع والصلب ومعناه ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفار { وتوفنا مسلمين } على دين موسى وروي عن عبيد اللّه بن عمير أنه قال كانت السحرة أول النهار كفارا سحرة وآخر النهار شهداء بررة وقال بعض الحكماء إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة واحدة فالذي أقر وسجد خمسين سنة فكيف لا يرجو رحمته ومغفرته ١٢٧قوله تعالى { وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } يعني أن السحرة قد آمنوا به فلو تركهما يؤمن بهما جميع أهل مصر فيفسدوا في الأرض يعني موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر { ويذرك وآلهتك } وذلك أن فرعون جعل لقومه أصناما يعبدونها وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار وأنا ربكم الأعلى فذلك قوله { ويذرك وآلهتك } يعني يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ { ويذرك وآلهتك } يعني عبادتك وتعبدك قال ابن عباس كان فرعون يعبد ولا يعبد ويقال معنى قوله { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } يعني يغلبوا عليكم ويقتلوا أبناءكم ويستحيوا نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أخرى { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } غافر ٢٦ فقال فرعون { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء فأمرهم بأن يرجعوا إلى فعل ذلك قرأ ابن كثير ونافع { سنقتل } بجزم القاف والتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل ثم قال { وإنا فوقهم قاهرون } يعني مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى ١٢٨ثم قال { قال موسى لقومه استعينوا باللّه } يعني سلوا اللّه التوفيق { واصبروا } يعني اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم المخرج { إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده } يعني أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص { يورثها } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان ورثت وأورثت بمعنى واحد ثم قال { والعاقبة للمتقين } أي للمتقين الذين يعملون في طاعة اللّه تعالى على نور من اللّه مخافة عقاب اللّه ورجاء ثواب اللّه تعالى يعني آخر الأمر لهم وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كتابا من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه أما بعد فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ١٢٩قوله تعالى { قالوا أودينا من قبل أن تأتينا } يعني أن قوم موسى قالوا لموسى إنهم قد عذبونا قبل أن تأتينا بالرسالة { ومن بعد ما جئتنا } لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون وكان آل فرعون لا يعرفون شيئا من الأعمال وكانت بنو إسرائيل حذاقا في الأشياء والأعمال فكانوا يأمرونهم في العمل ولا يعطونهم الأجر { فقال } لهم موسى { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } يعني فرعون وقومه { ويستخلفكم في الأرض } يعني يجعلكم سكانها من بعد هلاكهم يعني أرض مصر من بعد هلاك فرعون وقومه { فينظر كيف تعملون } يعني يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة لأنه قد وعد لهم بقوله تبارك تعالى { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم إئمة ونجعلهم الورثين } القصص ٥ ويقال { فينظر كيف تعملون } من بعده يعني من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل ١٣٠قوله تعالى { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } يعني بالجوع والقحط { ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } يعني يتعظون ويؤمنون فلم يؤمنوا ولم يتعظوا ١٣١قال اللّه تعالى { فإذا جاءتهم الحسنة } يعني الخير والخصب والرخاء { قالوا لنا هذه } يعني نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها { وإن تصبهم سيئة } يعني القحط والبلاء والشدة { يطيروا بموسى ومن معه } وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء كقوله { يذكرون } وأصله يتذكرون يعني يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه قال اللّه تعالى { ألا إنما طائرهم عند اللّه } يعني إن الذي أصابهم من عند اللّه وبفعلهم ويقال إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه من اللّه تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة ١٣٢قوله تعالى { وقالوا مهما تأتنا به من آية } يقول متى ما تأتنا ويقال كلما تأتنا وروي عن الخليل أنه قال { مهما تأتنا } هي متى الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك وما زائدة فكأنه قال ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف وهكذا قال الزجاج وقوله { به من آية } يعني من آية { لتسحرنا بها } يعني لتأخذ أعيننا بها { فما نحن لك بمؤمنين } يعني بمصدقين بأنك مبعوث ورسول من اللّه فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم ١٣٣قال اللّه تعالى { فأرسلنا عليهم الطوفان } وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصرا بحرا واحدا فخافوا الغرق فاستغاثوا بموسى فأرسلوا إليه وقالوا اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فكشف عنهم المطر وأرسل اللّه عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط قالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكن لم نشعر به فلا واللّه لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنقضوا العهد وعصوا ربهم فمكثوا شهرا فدعا عليهم موسى فأرسل اللّه تعالى كما قال تعالى { والجراد } مثل الليل فكانوا لا يرون الأرض ولا السماء من كثرتها فأكل كل شيء أنبتته الأرض فاستغاثوا بموسى وقالوا يا أيها الساحر يعني يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب ونؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأرسل اللّه تعالى ريحا فاحتملت الجراد وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة فقال لهم فرعون انظروا هل بقي شيء فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك قالوا قد بقي لنا ما في بلغتنا هذه السنة فقالوا يا موسى لا واللّه لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا ثم دعا عليهم فأرسل اللّه تعالى عليهم { القمل } قال قتادة القمل أولاد الجراد التي لا تطير وهكذا قال السدي وذكر عن أبي عبيدة أنه قال القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من أرض مصر عود أخضر إلا أكلته وأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات أو ثمر فصاحوا إلى موسى ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهدا موثقا لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأرسل اللّه تعالى ريحا حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء وحملته الريح فألقته في البحر فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا له قد ذهبت الأنزال كلها فأي شيء تفعل بعد هذا فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل اذهب فما استطعت أن تضر بنا فضرنا فإنا لو نؤمن بك ولن نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهر فدعا اللّه تعالى عليهم موسى فأرسل اللّه تعالى { الضفادع } فخرجوا من البحر مثل الليل الدامس فغشوا أهل مصر ودخلوا البيوت ووقع على ثيابهم وفرشهم وسررهم وكان الرجل منهم يستيقظ في الليل وقد امتلأ فراشه من الضفادع فكان الرجل يكلم صاحبه يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نقيق الضفادع فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى لئن رفعت عنها هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب اللّه تعالى عنهم الضفادع فقال لهم موسى أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم مواشيهم وأموالهم فقال لهم موسى إن اللّه أمرني أن أخرج بهم ولا أخلف من أموالهم ومواشيهم شيئا فقالوا واللّه لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهرا فدعا عليهم فأرسل اللّه تعالى عليهم { الدم } فجرت أنهارهم دما فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره وبنو إسرائيل في الماء العذب وكلما دخل رجل من آل فرعون يستقي من أنهار بني إسرائيل ماء صار الماء دما والماء من بين يديه ومن خلفه فركب فرعون وأشراف أصحابه فأتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية فجعل يدخل فرعون الرجل منهم فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دما فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك فاستغاثوا بموسى فقال فرعون اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل فدعا موسى ربه فأذهب اللّه تعالى عنهم الدم وعذب ماؤهم وصفا فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات } يعني متتابعات قال الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما كانوا يعافون بين كل آيتين شهرا فإذا جاءت الآية قامت عليهم سبعا من السبت إلى السبت وروي عن مجاهد أنه قال { الطوفان } المطر الكثير وقوله { آيات مفصلات } صار نصبا للحال وقوله تعالى { فاستكبروا } يعني تعظموا عن الإيمان { وكانوا قوما مجرمين } يعني أقاموا على كفرهم ١٣٤قوله تعالى { ولما وقع عليهم الرجز } يعني وجب عليهم العذاب وحل بهم { قالوا يا موسى ادع لنا ربك } يعني سل لنا ربك { بما عهد عندك } يعني بما أمرك ربك أن تدعو اللّه ويقال بالعهد الذي سل ربك { لئن كشفت عنا الرجز } يعني رفعت عنا العذاب { لنؤمنن لك } يعني لنصدقنك { ولنرسلن معك بني إسرائيل } ١٣٥قال اللّه تعالى { فلما كشفنا عنهم الرجز } يعني العذاب { إلى أجل هم بالغوه } يعني إلى وقت الغرق ويقال إلى وقت بقية آجالهم { إذا هم ينكثون } يعني ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى ١٣٦قال اللّه تعالى { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم } يعني في البحر بلسان العبرانية وذلك أن اللّه تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلا فاستعار نسوة من بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن وقلن إن لنا خروجا فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي فذكر ذلك لفرعون فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف ومائتا ألف رجل فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر فضرب البحر فانفلق له اثنا عشرة طريقا وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فعبر كل سبط في طريق وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى فدخلوا في ذلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج أمر اللّه تعالى البحر أن ينطبق عليهم فغرقهم فذلك قوله { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا } يعني الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم { آيات مفصلات } { وكانوا عنها غافلين } يعني معرضين فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل فسكنوا أرض مصر فذلك ١٣٧قوله تعالى { وأورثنا القوم } يعني بني إسرائيل { الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض } يعني الأرض المقدسة { ومغاربها } يعني الأردن وفلسطين ويقال { مشارق الأرض } يعني الشام { ومغاربها } { التي باركنا فيها } يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة وقال تعالى { وتمت كلمة ربك الحسنى } يقول وجبت نصرة ربك بالإحسان { على بني إسرائيل } قال مجاهد هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين اللّه لهم في الأرض وقال مقاتل يعني بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة الورثين } القصص ٥ وقال الكلبي { وتمت كلمة ربك } يعني نعمة ربك { الحسنى } يعني أنهم يجزون الحسنى الجنة { بما صبروا } ولم يدخلوا في دين فرعون ويقال { وتمت كلمة ربك } يعني ما وعدهم اللّه من إهلاك عدوهم واستخلافهم ثم قال { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } يعني أهلكنا ما كان يصنع فرعون وقومه وأبطلنا كيده ومكره { وما كانوا يعرشون } يعني أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { يعرشون } بضم الراء وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد ١٣٨قوله تعالى { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } يقول مروا على قوم { يعكفون على أصنام لهم } يعني يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها وكل من يلازم شيئا ويواظب عليه يقال عكفه ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفا { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها } قال الجهال من بني إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلها } نعبده { كما لهم آلهة } يعبدونها { قال } لهم موسى { إنكم قوم تجهلون } يعني تكلمتم بغير علم وعقل وجهلتم الأمر ١٣٩قوله تعالى { إن هؤلاء متبر ما هم فيه } يعني مهلكا مفسدا ما هم فيه من عبادة الأصنام { وباطل } يعني ضلال { ما كانوا يعملون } والتبار الهلاك كقوله تعالى { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } نوح ٢٨ أي هلاكا ١٤٠ثم { قال } تعالى لهم قل { أغير اللّه أبغيكم إلها } يعني أسوى اللّه آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها { وهو فضلكم على العالمين } يعني على عالمي زمانكم يعني أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه وتطلبون عبادة غيره وهم الذين كانوا أجابوا السامري حيث دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل ثم ذكرهم النعم ١٤١فقال عز وجل { وإذ أنجيناكم } يعني اذكروا حيث أنجاكم اللّه { من آل فرعون } وقرأ ابن عامر { وإذ أنجاكم } يعني اذكروا حيث أنجاكم اللّه { من آل فرعون } وقرأ الباقون { وإذ انجيناكم } معناه مثل ذلك { يسومونكم سوء العذاب } يعني يعذبونكم بأشد العذاب { يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم } يعني يستخدمون نساءكم { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } يعني في الإنجاء نعمة من ربكم عظيم ويقال في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة قرأ نافع { يقتلون أبناءكم } بنصب الياء مع التخفيف وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد على التكثير وقرأ حمزة والكسائي { يعكفون } بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم ١٤٢قوله تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } قرأ أبو عمرو { ووعدنا } بغير ألف والباقون بالألف ومعناهما واحد { وأتمممناها بعشر } يعني ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة ويقال ثلاثين من ذي الحجة وعشرا من المحرم والمناجاة في يوم عاشوراء وكانت المواعدة ثلاثين يوما وأمر بأن يصوم ثلاثين يوما فلما صام ثلاثين يوما أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب ويقال بورقة موز فقالت له الملائكة كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشرا أخر فصارت الجملة أربعين يوما كما قال في آية أخرى { وإذا وعدنا موسى أربعين ليلة } البقرة٥١ يعني صارت الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوما ومرة عشرة { فتم ميقات ربه أربعين ليلة } يعني ميعاد ربه { وقال موسى لأخيه هارون } يعني قال له قبل انطلاقه إلى الجبل { اخلفني في قومي } يعني كن خليفتي على قومي { وأصلح } يعني مرهم بالصلاح ويقال وأصلح بينهم ويقال ارفق لهم { ولا تتبع سبيل المفسدين } يعني لا تتبع طريق العاصين ولا ترضى به واتبع سبيل المطيعين وقال بعض الحكماء من هاهنا ترك قومه عبادة اللّه وعبدوا العجل لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم ولهذا لم يستخلف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعده وسلّم أمر أمته إلى اللّه تعالى فاختار لأمته أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو أبو بكر الصديق فأصلح بينهم ١٤٣قوله تعالى { ولما جاء موسى لميقاتنا } يعني لميعادنا لتمام أربعين يوما ويقال { لميقاتنا } يعني للوقت الذي وقتنا له { وكلمة ربه } فسمع موسى كلام اللّه تعالى بغير وحي فاشتاق إلى رؤيته { قال رب أرني أنظر إليك } { انظر } صار جزما لأنه جواب الأمر { قال } له ربه { لن تراني } يعني إنك تراني في الدنيا { ولكن انظر إلى الجبل } يعني انظر إلى أعظم جبل بمدين { فإن استقر مكانه فسوف تراني } يعني سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه معناه كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي { فلما تجلى ربه للجبل } قال الضحاك ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني من رهبة اللّه تعالى وقال القتبي { تجلى } أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء يقال جلوت المرآة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشفت عنه وجلوت العروس إذا أبرزتها { فما تجلى ربه للجبل } يعني جبل زبير { جعله دكا } قرأ حمزة والكسائي { دكاء } بالمد والهمز يعني جعله أرضا دكاء وقرأ الباقون { دكا } بالتنوين يعني دكه دكا قال بعضهم صار الجبل قطعا فصار على ثمان قطع فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام ويقال صار ستة فرق ويقال صار أربع فرق ويقال صار كله رملا عالجا وروي عكرمة عن ابن عباس أنه قال { جعله دكا } أي ترابا وقال القتبي { جعله دكا } أي ألصقه بالأرض ويقال ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام وروي عن وهب بن منبه قال لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر اللّه الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل وأمر اللّه تعالى ملائكة السموات فهبطوا وارتعدت فرائض موسى وتغير لونه فقال له جبريل اصبر لما سألت ربك فإنما رأيت قليلا من كثير فلما غشي الجبل النور خمد كل شيء وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية اللّه تعالى حتى صار دكا قوله تعالى { وخر موسى صعقا } قال مقاتل يعني ميتا كقوله عز وجل { فصعق من في السموات } سورة الزمر ٦٨ يعني مات ويقال { وخر موسى صعقا } يعني مغشيا عليه { فلما أفاق } من غشيانه قال مقاتل رد اللّه حياته إليه { قال سبحانك } يعني تنزيها لك { تبت إليك } من قولي { وأنا أول المؤمنين } روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال قد كان قبله من المؤمنين ولكن يقول أنا أول من آمن به بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وقال مقاتل { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا ترى في الدنيا ويقال معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالا محالا فاعترف أنه طلب شيئا في غير حينه وأوانه ووقته وقال الزجاج قد قال موسى { أرني أنظر إليك } يعني أرني أمرا عظيما لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي { فلما تجلى ربه للجبل } أي أمر به قال وهذ خطأ ولكن لما سمع كلامه قال يا رب إني سمعت كلامك وأحب أن أراك ١٤٤قوله تعالى { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي } يعني على بني إسرائيل يعني إني اصطفيتك بنبوتي قرأ ابن كثير ونافع { برسالتي } وقرأ الباقون { برسالاتي } بلفظ الجماعة ومعناهما واحد يعني اختصصتك بالنبوة { وبكلامي } يعني بتكلمي معك من غير وحي { فخذ ما آتيتك } يعني اعمل بما أعطيتك { وكن من الشاكرين } لما أعطيتك وقال القتبي قوله { وأنا أول المؤمنين } أراد به في زمانه كقوله { وأني فضلتكم على العالمين } البقرة ٤٧ ١٤٥قوله تعالى { وكتبنا له في الألواح } روي سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أعطى اللّه تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة قال التوراة مكتوبة ويقال طول الألواح عشرة أذرع فيها { من كل شيء موعظة } من الجهل { وتفصيلا } يعني بيانا { لكل شيء } من الحلال والحرام قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال حدثنا أبي قال حدثنا يحيى بن سابق عن خثيمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول كان فيما أعطى اللّه موسى في الألواح عشرة أبواب يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسى لك في عمرك وأحييك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها ولا تقتل النفس التي حرمتها إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي في ناري ولا تحلف باسمي كاذبا فإني لا أطهر ولا أزكي من لم ينزهني ولم يعظم أسمائي ولا تحسد الناس على ما آتاهم اللّه من فضله فإن الحاسد عدو لنعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ولا تشهد بما لم يقع بسمعك ويحفظ قلبك فإني أوفق أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم أسألهم عنها سؤالا حثيثا ولا تزن ولا تسرق فأحجب عنك وجهي وأغلق عنك أبواب السماء وأحبب للناس ما تحب لنفسك ولا تذك لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما
ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي وتفرغ لي يوم السبت وجميع أهل بيتك فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن اللّه تعالى جعل يوم السبت لموسى عيدا واختار لنا يوم الجمعة فجعلها لنا عيدا قوله تعالى { فخذها بقوة } يعني اعمل بما أمرك اللّه بجد ومواظبة عليها { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } يعملوا بما فيها من الحلال والحرام ويقال مرهم بالخير وانههم عن الشر يعني اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر ويقال اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافئ ظالمه منه جاز ولو تجاوز عنه كان أحسن وقال الكلبي كان موسى أشد عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به يعني أمر بأن يعمل بالمواظبة وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن العمل ثم قال { سأريكم دار الفاسقين } قال مقاتل يعني سنة أهل مصر أي هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم ويقال جهنم هي دار الكافرين ويقال إذا سافروا يريهم منازل عاد وثمود وقال مجاهد مصيرهم في الآخرة إلى النار ١٤٦قوله تعالى { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون } يعني أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا فأخذتهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم ويقال أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون { في الأرض بغير الحق } يعني يظنون أنهم أفضل الخلق وليسوا كذلك ولهذا قال { بغير الحق } وقيل { يتكبرون } يعني يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء ولا يعقلون فيها ولا يذكرونها ويقال سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرفهم عن تلك النعمة { وإن يروا كل آية } يمنعوا منها كي { لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد } يعني طريق الحق الإسلام { لا يتخذوه سبيلا } يعني لا يتخذوه دينا { وإن يروا سبيل الغي} يعني طريق الضلالة والكفر { يتخذوه سبيلا } يعني دينا ويتبعونه { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } قال مقاتل يعني بآياتنا التسع وقال الكلبي يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { وكانوا عنها غافلين } يعني تاركين لها قرأ حمزة والكسائي { سبيل الرشد } بنصب الراء والشين وقرأ الباقون { الرشد } بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد ١٤٧ثم قال عز وجل { والذين كذبوا بآياتنا } أي بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { ولقاء الآخرة } يعني كذبوا بالبعث بعد الموت { حبطت أعمالهم } يعني بطلت حسناتهم { هل يجزون } يعني هل يثابون { إلا ما كانوا يعملون } يعني في الدنيا ١٤٨قوله تعالى { واتخذ قوم موسى من بعده } يعني من بعد انطلاقه إلى الجبل { من حليهم عجلا جسدا له خوار } وذلك أن موسى عليه السلام لما وعد لقومه ثلاثين يوما فتأخر عن ذلك قال السامري لقوم موسى إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون فعاقبكم اللّه تعالى بتلك الخيانة ومنع اللّه تعالى عنا موسى فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها فلعل اللّه تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغا فجعل الحلي في النار واتخذ منه عجلا وقد كان رأي جبريل على فرس الحياة فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره فأخذ كفا من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل فصار عجلا جسدا فذلك قوله { من حليهم عجلا جسدا } قال الزجاج الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد يعني الجثة فقط وروي عن ابن عباس صار عجلا له لحم ودم وله خوار يعني صوت ولم يسمع منه إلا صوت واحد وقال بعضهم جعله مشتبكا يدخل فيه الريح فيسمع منه صوت مثل صوت العجل فقال لقومه هذا إلهكم وإله موسى فاغتر به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه قال اللّه تعالى { ألم يروا أنه لا يكلمهم } يعني لا يقدر على أن يكلمهم { ولا يهديهم سبيلا } يعني لا يرشدهم طريقا { اتخذوه وكانوا ظالمين } يعني كافرين بعبادتهم إياه وقرأ حمزة والكسائي { من حليهم } بكسر الحاء وقرأ الباقون { من حليهم } بضم الحاء فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة ومن قرأ بالضم فهو جمع الحلي ويقال كلاهما جمع الحلي وأصله الضم إلا أن من كسره فلاتباع الكسرة بالكسرة ١٤٩قوله { ولما سقط في أيديهم } يعني ندموا على ما صنعوا يقال سقط في يده إذا ندم وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه { ورأوا أنهم قد ضلوا } يعني علموا أنهم ضلوا عن الهدى { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا } قرأ حمزة والكسائي { لئن لم ترحمنا } بالتاء على معنى المخاطبة { ربنا } بالنصب يعني يا ربنا وقرأ الباقون { لئن لم يرحمنا ربنا } بالياء معنى الخبر { ربنا } بالضم { ويغفر لنا } بعد التوبة { لنكونن من الخاسرين } يعني من المغبونين ١٥٠قوله تعالى { ولما رجع موسى إلى قومه } يعني من الجبل { غضبان أسفا } يعني حزينا والأسف في اللغة شدة الغضب ومنه قوله تعالى { فلما ءاسفونا انتقمنا منهم } الزخرف ٥٥ ويقال أشد الحزن كقوله { يأسفي على يوسف } يوسف ٨٤ { قال بئسما خلفتموني من بعدي } يعني بعبادة العجل يعني بئس ما فعلتم في غيبتي { أعجلتم أمر ربكم } يعني استعجلتم ميعاد ربكم ويقال أعصيتم أمر ربكم ويقال معناه { أعجلتم } بالفعل الذي استوجبتم به عقوبكم ربكم { وألقى الألواح } من يده قال الكلبي انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام اللّه تعالى إلى السماء وقال بعضهم هذا الكلام في ظاهرة غير سديد لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف فلا يجوز أن يقال الكلام يصعد ويذهب ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان من غير الأحكام وأما الأحكام أيضا فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم وروي في الخبر أن اللّه تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل قال موسى يا رب من اتخذ لهم العجل قال السامري قال من جعل فيه الروح قال أنا قال فأنت فتنت قومي قال له ربه تركتهم لمرادهم وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال ليس الخبر كالمعاينة لما أخبر اللّه موسى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح فلما عاين ألقى الألواح ثم قال تعالى { وأخذ برأس أخيه } يعني أخذ بشعر رأسه ولحيته { يجره إليه قال ابن أم } يعني قال له هارون يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص يا { ابن أم } بنصب الميم وقرأ الباقون بالكسر وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه كما يقال يا ويلتاه ويا حسرتاه ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه وكان موسى أخاه لأبيه وأمه ولكن ذكر الأم ليرققه عليه قال { إن القوم استضعفوني } يعني قهروني واستذلوني { وكادوا يقتلونني } يعني هموا بقتلي { فلا تشمت بي الأعداء } يعني لا تفرح علي أعدائي يعني الشياطين ويقال أصحاب العجل { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } يعني لا تظنن أني رضيت بما فعلوا ١٥١قال موسى { رب اغفر لي } بما فعلت بأخي هارون ويقال لإلقاء الألواح { و } اغفر { لأخي } ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل { وأدخلنا في رحمتك } يعني جنتك { وأنت أرحم الراحمين } يعني أنت أرحم بنا منا بأنفسنا وقال الحسن يعني أنت أرحم بنا من الأبوين
١٥٢قوله تعالى { إن الذين اتخذوا العجل } يعني الذين اتخذوا العجل إلها { سينالهم غضب من ربهم } يعني يصيبهم عذاب من ربهم { وذلة في الحياة الدنيا } وهو ما أمروا بقتل أنفسهم ويقال هذا قول اللّه تعالى للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعني يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا وهي الجزية { وكذلك نجزي المفترين } يعني هكذا نعاقب المكذبين ١٥٣ثم قال تعالى { والذين عملوا السيئات } يعني الشرك باللّه { ثم تابوا } يعني رجعوا عن الشرك باللّه وعن السيئة { وآمنوا } يعني صدقوا بوحدانية اللّه تعالى { إن ربك من بعدها } يعني من بعد التوبة { لغفور رحيم } يقال من بعد السيئات يعني { لغفور } لذنوبهم { رحيم } بهم بعد التوبة ثم رجع إلى قصة موسى وهو ١٥٤قوله تعالى { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح } يعني لما سكن عن موسى الغضب { أخذ الألواح وفي نسختها } يعني في بقيتها فنسخت له الألواح يعني وأعيدت له في اللوحين مكان التي انكسرت { هدى ورحمة } يعني فيما بقي منها بيانا من الضلالة ورحمة من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } يعني يخافون اللّه ويعلمون له بالغيب ويقال { وفي نسختها } يعني في كتابها هدى من الضلالة ورحمة من العذاب للذين يخشون ربهم ١٥٥قوله تعالى { واختار موسى قومه } أي من قومه { سبعين رجلا لميقاتنا } يعني للميقات الذي وقتنا له { فلما أخذتهم الرجفة } يعني الزلزلة تزلزل الجبل بهم فماتوا { قال } موسى { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } يعني من قبل أن يصحبوني { وإياي } بقتل القبطي { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } قال الكلبي ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل آلها وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال انطلق موسى وهارون ومعهما شبر وشبير وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل فيه سرير فنام عليه هارون فقبض فرجع موسى إلى قومه فقالوا له أنت قتلته حسدا على خلقه ولينه فقال كيف أقتله ومعي ابناه فاختاروا من شئتم فاختاروا سبعين فانتهوا إليه فقالوا له من قتلك يا هارون قال ما قتلني أحد ولكن توفاني اللّه تعالى فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم فقال موسى { رب لو شئت أهلكتهم من قبل } وإياي وروي عن ابن عباس أنه قال لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلا من قومه فاختار من كل سبط ستة رجال فبغلوا اثنين وسبعين فقال موسى إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان ولهما أجر من حضر فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له إنك قد لقيت ربك فأرنا اللّه جهرة حتى نراه كما رأيته فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا فقال موسى حين أماتهم اللّه ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل ) هذا اليوم { وإياي } معهم { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } يعني أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم اللّه تعالى وروى أسباط عن السدي قال إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل وذكر نحو حديث عبد اللّه بن عباس ثم قال { إن هي إلا فتنتك } يعني بليتك وعذابك ويقال عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه { تضل بها } يعني بالفتنة { من تشاء وتهدي من تشاء } من الفتنة { أنت ولينا } يعني حافظنا وناصرنا { فاغفر لنا } ذنوبنا { وارحمنا } يعني ولا تعذبنا { وأنت خير الغافرين } يعني المتجاوزين عن الذنوب ١٥٦قوله تعالى { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } يعني اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحلال الحسن { وفي الآخرة حسنة } يعني أعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة ( إنا هدنا إليك ) يعني تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء { قال عذابي أصيب به من أشاء } من عبادي يعني هذا عذابي أخص به من أشاء من العباد من كان أهلا لذلك { ورحمتي وسعت كل شيء } إن رحمتهم ويقال إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي وأنا أنزلتهما وأنا أصيب بالعذاب من أشاء وما سألت من الغفران فمن رحمتي { ورحمتي وسعت كل شيء } من كان أهلا لها ويقال لكل شيء حظ من رحمتي وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا { ورحمتي وسعت كل شيء } يعني وسعت في الدنيا البر والفاجر هي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة ويقال لما نزلت هذه الآية { ورحمتي وسعت كل شيء } تطاول إبليس وقال انا من تلك الأشياء فأكذبه اللّه تعالى وآيسه فأنزل { فسأكتبها للذين يتقون } يعني فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك { ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } وقالت اليهود والنصارى نحن آمنا بالآيات وهي التوراة والإنجيل ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم اللّه تعالى فنزل { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الآية ويقال { ورحمتي وسعت كل شيء } يعني طمع كل قوم برحمتي وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذين يتقون الشرك { ويؤتون الزكاة } { والذين هم بآياتنا يؤمنون } يعني يصدقون بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن ١٥٧قوله تعالى { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتب قال الزجاج { الأمي } الذي هو على خلقه أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته ويقال إنما سمى محمد أميا لأنه كان من أم القرى وهي مكة ثم قال { الذين يجدونه مكتوبا عندهم } يعني يجدون نعته وصفته { مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف } يعني شرائع الإسلام وبالتوحيد { وينهاهم عن المنكر } عن الشرك وما لا يعرف في الشريعة ولا السنة { ويحل لهم الطيبات } يعني يرخص لهم الحلالات من اللحوم والشحوم وأشبهاهما { ويحرم عليهم الخبائث } يعني ويبين لهم الحرام الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر { ويضع عنهم إصرهم } يعني ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر { آصارهم } على معنى الجماعة وأصل الإصر الثقل فسمي العهد إصرا لأن حفظ العهد يكون ثقيلا ويقال يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع ويقال هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات ثم قال { والأغلال التي كانت عليهم } وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه وكان عليهم ألا يعملوا في السبت وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك ثم قال { فالذين آمنوا به } يعني صدقوه وأقروا بنبوته { وعزروه } يعني عظموه وشرفوه ويقال أعانوه { ونصروه } بالسيف { واتبعوا النور } يعني القرآن { الذي أنزل معه أولئك } يعني أهل هذه الصفة { هم المفلحون } الناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال اللّه تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء } الأعراف ١٥٦ ١٥٨قوله تعالى { قل يا أيها الناس } يعني يا أهل مكة ويقال هو لجميع الناس { إني رسول اللّه إليكم جميعا } ويقال إنه أول نداء نادى به في مكة بهذه الآية وكان من قبل يدعو واحدا واحدا فلما نزلت هذه الآية أظهر ونادى في الناس { يا أيها الناس إني رسول اللّه إليكم جميعا } من ذلك الرب { الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا رازق في السماء ولا في الأرض إلا هو { يحيي ويميت } يعني يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا ويقال { يحيي } يعني يخلق الخلق من النطفة ويميتهم عند انقضاء آجالهم { فآمنوا باللّه ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن باللّه } يعني يصدق باللّه { وكلماته } يعني القرآن قال السدي { وكلمته } يعني صدق بأن عيسى صار مخلوقا بكلمة اللّه { واتبعوه } يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم { لعلكم تهتدون } من الضلالة ١٥٩قوله تعالى { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } يعني جماعة يدعون إلى الحق { وبه يعدلون } يعني وبالحق يعملون وقال بعضهم يعني به مؤمني أهل الكتاب وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه وهذا كما قال في آية أخرى { من أهل الكتب أمة قائمة يتلون ءايت اللّه } آل عمران ١١٣ الآية وقال بعضهم هم قوم من وراء الصين ما وراء رمل عالج من أمة موسى وروي عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة أسري به إلى البيت المقدس ومعه جبريل فرفعه إليهم وكلمهم وكلموه فقال لهم جبريل هل تعرفون من تكلمون قالوا لا قال فإن هذا محمد النبي الأمي قالوا يا جبريل وقد بعثه اللّه تعالى قال نعم فآمنوا به وصدقوه وقالوا يا رسول اللّه إن موسى بن عمران أوصانا أن من أدرك ذلك النبي عليه السلام منكم فليقرأ عليه السلام مني ومنكم ورد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على موسى وعليهم السلام ثم قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما لي أرى بيوتكم مستوية قالوا لأنا قوم لا يبغي بعضنا على بعض قال فما لي لا أرى عليها أبوابا قالوا إنا لا يضر بعضنا بعضا قال فما لي لا أراكم تضحكون ما ضحكنا قط لأن اللّه تعالى أخبرنا في كتابه أن جهنم عرضها ما بين الخافقين وقعرها الأرض السفلى وقد أقسم اللّه تعالى ليملأنها من الجنة والناس أجمعين قال فهل تبكون على الميت قالوا لا يا رسول اللّه كيف نبكي على الميت وكلنا ميت وهو سبيل لا بد منه واللّه أعطانا واللّه أخذ منا قال فهل تمرضون قالوا يا رسول اللّه إنما يمرض أهل الذنوب والخطايا فأما نحن فمعصومون بدعاء نبي اللّه موسى قال فكيف تموتون إذا لم تمرضوا قالوا إذا استوفى أحدنا رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه فندفنه حيث يموت قال فهل تحزنون إذا ولد لأحدكم جارية قالوا لا يا رسول اللّه ولكنا نصوم للّه تعالى شهرا شكرا فإذا ولد لأحدنا غلام نصوم للّه شهرين شكرا قال فهل فيكم حيات وعقارب قالوا نعم قال كيف تصنعون بهن قالوا يا رسول اللّه نمشي عليهن ويمشين علينا ولا نؤذيهن ولا تؤذينا هم آمنات منا ونحن آمنون منهن قال فهل لكم ماشية قالوا نعم نجز أصوافها فنتخذ منه الأفنية والأكسية ونأكل من لحومها الكفاف وكل أهل القرية فيها شرع أي سواء ليس أحد أحق به منا قال فهل تزنون أو يوزن عليكم قالوا لا نزن ولا يوزن علينا ولا نكيل ولا يكال علينا ولا نشتري ولا نبيع قال فمن أين تأكلون قالوا يا رسول اللّه نخرج فنزرع ويرسل اللّه تعالى السماء علينا فينبته ثم نخرج إليه فنحصده ونضعه في أماكن من القرية فيأخذ أهل القرية الكفاف ويدعون ما سواه قال فهل تجامعون النساء قالوا نعم يا رسول اللّه لنا بيوت مظلمة وثياب معلومة فإذا أردنا أن نجامع النساء لبسنا ثيابنا تلك ودخلنا تلك البيوت لا يرى الرجل عورة امرأته ولا المرأة عورته قال فهل فيكم زنى قالوا لا يا رسول اللّه فإن فعل ذلك أحد منا لظننا أن اللّه تعالى يبعث عليه نارا فتحرقه أو تخسف به الأرض ولكن إذا كان للرجل منا ابنة طلبها رجل منه رجل فيزوجه إياها أراد به الأجر والعفة قال فهل تكنزون الذهب والفضة قالوا لا يا رسول اللّه إنما يكنز الذهب والفضة من لا يثق باللّه ومن يرى أن اللّه تعالى لم يتكفل عنه برزقه فأما نحن فلا نكنز الذهب والفضة فأقرأهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فعلمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم القرآن وأمرهم بالصلاة والزكاة ورجع من ليلته وقال قتادة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } قال قد أعطيتم مثلها وممن خلقنا {أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } يعني من هذه الأمة ١٦٠
انظر تفسير الآية: ١٦٢ ١٦١انظر تفسير الآية: ١٦٢ ١٦٢
ثم قال تعالى { وقطعناهم } يعني بني إسرائيل فرقناهم { اثنتي عشرة أسباطا أمما } يعني جماعة والأسباط جمع سبط والسبط في بني إسرائيل مثل القبيلة عند العرب { وأوحينا إلى موسى } يعني في التيه { إذ استسقاه قومه } إلى قوله { رجزا من السماء بما كانوا يظلمون} كل ذلك مذكور في سورة البقرة قرأ أبو عمرو { نغفر لكم } بالنون { خطاياكم } وقرأ ابن عامر { تغفر لكم } بالتاء والضم { خطيئتكم } بالرفع وبلفظ الواحد وقرأ نافع { تغفر } لكم بالتاء والضم { خطيئاتكم } بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { نغفر لكم } بالنون { خطيئاتكم } بلفظ الجماعة ١٦٣قوله تعالى { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } واسمها أيلة وذلك أن اليهود قالوا نحن من أبناء إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم فلا يعذبنا اللّه تعالى إلا مقدار عبادة العجل فقال اللّه تعالى { واسألهم عن القرية } يعني أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كيف عذبهم اللّه تعالى بذنوبهم ثم أخبر عن ذنوبهم فقال { إذ يعدون في السبت } يعني أنهم استحلوا الصيد في يوم السبت وقال يعتدون في يوم السبت وأصل الاعتداء هو الظلم يقال عدوت على فلان إذا ظلمته واعتديت عليه ثم قال { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } يعني يوم استراحتهم شوارع في الماء وهو جمع الشارع { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } يعني إذا لم يكن يوم السبت ويوم الراحة لا تأتيهم وقال بعضهم وإنما تم الكلام عند قوله { تأتيهم } ثم ابتدأ فقال { كذلك نبلوهم } يعني هكذا نختبرهم وقال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } { كذلك } يعني لا تأتيهم كما تأتيهم يوم السبت لأن في يوم السبت تأتيهم الحيتان شارعات من أسفل الماء إلى أعلاه وفي سائر الأيام يأتيهم القليل ولا يأتيهم كما يأتيهم يوم السبت ثم ابتداء الكلام فقال { نبلوهم بما كانوا يفسقون } يعني نختبرهم بما كانوا يعصون اللّه تعالى ١٦٤ثم قال عز وجل { وإذ قالت أمة منهم } أي عصبة وجماعة منهم وهي الظلمة للأمة الواعظة { لم تعظون قوما اللّه مهلكهم } لأن الواعظة وعظوهم عن أخذ الحيتان وخوفوهم فرد عليهم الظلمة { لم تعظون قوما اللّه مهلكهم } { أو معذبهم عذابا شديدا قالوا } قالوا أي الواعظة { معذرة إلى ربكم } قرأ عاصم في إحدى الروايتين { معذرة } بالنصب يعني نعتذر إلى ربكم معذرة وقرأ الباقون بالضم يعني هي { معذرة } يعني لا ندع الأمر بالمعروف حتى نكون معذورين عند اللّه تعالى { ولعلهم يتقون } يعني ينتهون ١٦٥قوله تعالى { فلما نسوا ما ذكروا به } يعني تركوا ما وعظوا به { أنجينا } أي من العذاب { الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا } يعني عذبنا الذين تركوا أمر اللّه { بعذاب بئيس } يعني شديد { بما كانوا يفسقون } يعني يعصون ويتركون أمر اللّه تعالى وقال ابن عباس كان القوم ثلاثة فرق فرقة كانوا يصطادون وفرقة كانوا ينهون وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة { لم تعظون قوما اللّه مهلكهم } وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت ما يبكيك قال تبكيني هذه الأوراق وهو يقرأ سورة الأعراف وقال هل تعرف أيلة قلت نعم قال إن اللّه تعالى أسكنها حيا من اليهود وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها فقال فريق منهم إنما حرمت عليكم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت وكلوها في سائر الأيام وقال الآخرون بل حرمت عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها وكانوا ثلاث فرق فرقة على أيمانهم وفرقة على شمائلهم وفرقة على وسطهم فجعلت الفرقة اليمنى تنهاهم في يوم السبت وجعلت تقول اللّه يحذركم بأس اللّه وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديهم وكفت ألسنتهم وأما الفرقة الوسطى فوثبت على السمك تأخذه وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها وألسنتها ولم تتكلم تقول { لم تعظون قوما اللّه مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا } فقال { الذين ينهون } { معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون } فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد فقالوا لعل اللّه قد خسف بهم أو رموا من السماء بحجارة فارفعوا رجلا ينظر فجعلوا رجلا على سلم فأشرف عليهم فإذا هم قردة تعاوي ولها أذناب قد غير اللّه تعالى صورتهم بصنيعهم فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة فكسروا الباب ودخلوا منازلهم فجعلوا لا يعرفون أنسابهم فيقولون لهم ألم ننهكم عن معصية اللّه تعالى ونوصيكم فيشيرون برؤوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم فأخبر اللّه تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الذين ظلموا ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا وقال عكرمة بل أهلكهم اللّه لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء وأهلك الفريقين الآخرين فوهب له ابن عباس بردين بهذا الكلام وروي في رواية أخرى أنهم كانوا يتخذون الحظائر والحياض بجنب البحر ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل السمك فيها ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا إنا نأخذه في يوم الأحد فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا إنما حرم اللّه على آبائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا فضربوا حائطا بينهما وصارت الواعظة في ناحية والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما فارتقى واحد منهم الحائط فإذا القوم قد مسخوا قردة وقال بعضهم كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون وصنف يرضون وصنف ينهون وصنف يسكتون وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال هم ثلاث فرف فهلك الثاني ونجا الثالث واللّه أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة قرأ نافع { بعذاب بيس } بكسر الباء بلا همزة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { بعذاب بيأس } بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة وقرأ الباقون { بعذاب بئيس } بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة والأولى لغة لبعض العرب ١٦٦ثم قال تعالى { فلما عتوا عما نهوا عنه } يعني تركوا ما وعظوا به { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } يعني صاغرين مبعدين عن رحمة اللّه ١٦٧قوله تعالى { وإذ تأذن ربك } يعين أعلم ربك وكل شيء في القرآن تأذن فهو إعلام ومعناه قال { ليبعثن } أي ليسلطن { عليهم إلى يوم القيامة } يعني على بني إسرائيل والذين لا يؤمنون يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم { من يسومهم سوء العذاب } يعني يعذبهم بالجزية والقتل { إن ربك لسريع العقاب } إذا عاقب من أصر على كفره { وإنه لغفور } لمن تاب من الشرك { رحيم } بعد ذلك ١٦٨ثم قال { وقطعناهم } يعني وفرقناهم { في الأرض أمما } يعني فرقا { منهم الصالحون } يعني المؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب ويقال هم الذين وراء رمل عالج { ومنهم دون ذلك } وهم الكفار منهم { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } يعني اختبرناهم بالخصب والجدوبة { لعلهم يرجعون } من الكفر إلى الإيمان ١٦٩ثم قال { فخلف من بعدهم خلف } يعني بعد بني إسرائيل خلف السوء { ورثوا الكتاب } يعني التوراة { يأخذون عرض هذا الأدنى } يقول يستحلون أخذ الحرام من هذه الدنيا وهو الرشوة في الحكم { ويقولون سيغفر لنا } قال مجاهد يعني يأخذون ما يجدون حلالا أو حراما ويتمنون المغفرة { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } يعني وإن يجدوا من الغد مثله يأخذوه ويقال معناه أنهم يصرون على الذنوب وأكل الحرام فإذا أخذوا أول النهار يعودون إليه في آخر النهار ولا يتوبون عنه ويقال يطلبون بعلمهم الدنيا ويقال يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا هذه المرة { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ويقولون مثل ذلك أي سيغفر لنا لأنا لا نشرك باللّه شيئا وقال سعيد بن جبير { يأخذون عرض هذا الأدنى } يقول يعملون بالذنوب ويقولون سيغفر لنا ما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار وما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } يعني الذنوب قال اللّه تعالى { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } يعني ألم يؤخذ عليهم ميثاقهم في التوراة { أن لا يقولوا على اللّه إلا الحق } يعني إلا الصدق { ودرسوا ما فيه } يعني قرؤوا ما فيه { والدار الآخرة خير للذين يتقون } يعني يتقون الشرك ويحلون حلاله ويحرمون حرامه { أفلا تعقلون } أن الآخرة خير من الدنيا ويقال { أفلا يعقلون } ما يدرسون من الكتاب ويقال { أفلا يعقلون } أن الإصرار على الذنوب ليس من علامة المغفورين قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص { أفلا تعقلون } بالتاء على وجه المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة ١٧٠قوله تعالى { والذين يمسكون بالكتاب } يعني يعملون بالكتاب يعني بالتوراة ولا يغيرونها عن مواضعها { وأقاموا الصلاة } يعني أتموا الصلاة المفروضة { إنا لا نضيع أجر المصلحين } يعني عمل الموحدين وهم الذين { يمسكون } بالتخفيف وقرأ الباقون { يمسكون } بالتشديد على معنى المبالغة ١٧١قوله تعالى { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } يقول قلعنا ورفعنا الجبل فوقهم { كأنه ظلة } كهيئة الغمام { وظنوا } يعني أيقنوا سقوطه عليهم { أنه } يعني الجبل { واقع بهم } { خذوا ما آتيناكم بقوة } يعني قيل لهم اعملوا بما أعطيناكم من التوراة { بقوة } يعني بجد ومواظبة { واذكروا ما فيه } يعني اعملوا ما فيه { لعلكم تتقون } المعاصي وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم فقبلوها ١٧٢قوله تعالى { وإذ أخذ ربك } يعني واذكر يا محمد { وإذ أخذ ربك } ويقال معناه وقد أخذ { ربك من بني آدم } من ظهور بني آدم { ذريتهم } قال بعضهم يعني الذرية التي تخرج وقتا بعد وقت إلى يوم القيامة { وأشهدهم على أنفسهم } أي وقال لهم { ألست بربكم قالوا بلى } يعني إن كل بالغ تشهد له خلقته بأن اللّه تعالى واحد قال اللّه تعالى { شهدنا } يعني قال اللّه تعالى شهدنا { أن تقولوا } أي لكيلا تقولوا ويقال هذا كراهة أن يقولوا { يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } وروي عن ابن عباس أنه قال إن اللّه تعالى مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة فقال لهم { ألست بربكم قالوا بلى } قالوا بلى شهدنا بأنك ربنا قال بعضهم هذا التفسير لا يصح وطعنوا فيه من وجوه أحدها أن الروية لم تصح لأنها رواية أبي صالح وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح ويفرك أذنه ويقول له إنك لم تحسن أن تقرأ القرآن فكيف تفسره قالوا ولأن هذا غير محتمل في اللغة لأنه قال { من ظهورهم } ولم يقل من ظهر آدم وقالوا ولأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر وإنما يجوز خطاب من هو عاقل ومن كان مثل الذر فكيف يجوز خطابه وقالوا ولأنه لا يجوز أن تكون حجة اللّه بشيء لم يذكر وإنما تكون الحجة بشيء يكون الإنسان ذاكرا له قالوا ولأن اللّه تعالى قال { ربنا امتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } غافر١١ ولم يقل أحييتنا ثلاث مرات ولكن الجواب أن يقال إن الرواية صحيحة لأن الآثار قد جاءت عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما لا يجوز دفعه فمن ذلك ما حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرجسي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن علية عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما في قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } قال مسح اللّه تعالى ظهر آدم فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى } قال حدثنا محمد بن داود قال حدثنا محمد بن أحمد بأستراباذ قال حدثنا أحمد بن زكريا قال حدثنا عبد السلام بن صالح عن جعفر بن سليمان عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال حججنا مع عمر في أول خلافته فوقف على الحجر ثم قال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبلك ما قبلتك فقال له علي لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن اللّه ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه ما أنكرت علي ما قلت قال اللّه تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } فلما أقروا بالعبودية على أنفسهم كتب اللّه إقرارهم في رق ثم دعا هذا الحجر فقال له افتح قال فألقمه ذلك الرق فهو أمين اللّه في هذا المكان يشهد لمن استلمه ووافاه يوم القيامة أمين فقال له عمر لقد جعل اللّه بين ظهرانيكم من العلم غير قليل وروى ربيع بن أنس عن ابن العالية عن أبي بن كعب في قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم } الآية قال جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم ثم قال { ألست بربكم قالوا بلى } شهدنا بأنك ربنا قال فإني أرسل إليكم رسلي وأنزل عليكم كتبي فلا تكذبوا رسلي وصدقوا بوعدي وأخذ عهدهم وميثاقهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال آدم رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحببت أن أشكر قال والأنبياء يومئذ مثل السرج فأخذ عليهم ميثاق الرسالة أن يبلغوها فهو قوله تعالى { وإذ أخذنا من النبين ميثقهم } الأحزاب٧ الآية قال الفقيه أخبرني الثقة بإسناده عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سئل عن هذه الآية فقال عمر سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن هذه الآية فقال إن اللّه تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول اللّه ففيم العمل فقال إن اللّه تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار وبهذا احتج الجبرية أنه ما يعمل عبد عملا من خير أو شر إلى ما قدره اللّه تعالى يوم الميثاق وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لما خلق اللّه تعالى آدم أخرج ذريته من ظهر مثل الذر فقال لأصحاب اليمين هؤلاء في الجنة ولا أبالي وقال للآخرين هؤلاء في النار ولا أبالي وروى أسباط عن السدي في قوله تعالى { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } الآية قال لما أخرج اللّه تعالى آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهئية الذر فقال ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية كهيئة الذر سودا فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال { ألست بربكم قالوا بلى } فأجابه طائفة طائعين وطائفة كارهين فقال هو والملائكة شهدنا أن يقولوا يوم القيامة { إنا كنا عن هذا غافلين } فلما روي فيه من الأخبار من طرق شتى لا يجوز ردها ويرجع الطعن إلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويجب على الطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة وهذا كقوله { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } الأحقاف ١١ أما الجواب عن قولهم إنه قال { من ظهورهم } ولم يقل من ظهر آدم فالمعنى فيه واللّه أعلم أنه قد أخرج ذرية آدم الذين هم ولده من صلبه ثم أخرج من ظهورهم ذريتهم ثم أخرج من بعدهم حتى أخرج جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة فأخرج من ظهورهم كل نسمة تخرج من ظهر فذكر الأخذ من ظهور ذريته ولم يذكر ظهر آدم لأن في الكلام دليلا عليه كما قال اللّه تعالى { ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب } غافر ٤٦ ولم يذكر فرعون لأن في الكلام دليلا عليه وأما الجواب عن قولهم إنه لا يجوز خطاب الذر فعن هذا القول جوابان أحدهما أنه يجوز أن يكونوا كالذر في الصغر ورزقهم اللّه تعالى من العقل ما يكونوا به من أهل الخطاب ألا ترى أن نملة سليمان بن داود عليهما السلام قد تكلمت بكلام العقلاء وفهم ذلك عنها سليمان وسبح الطير والجبال مع داود فكذلك هذا وجواب آخر أنهم كانوا كالذر في الأزدحام والكثرة لا في الخلقة والجثة ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم لأن الذر إذا كثرت وازدحمت لا يعرف عددها فكذلك ذرية آدم كانوا في الكثرة والازدحام مثل الذر لا في الخلقة والجثة ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم والجواب عن قولهم إنه لا تكون الحجة بشيء لم يذكر أن يقال إن اللّه تعالى قد أرسل الرسل وأخبرهم بذلك الميثاق وإذا أخبرهم الرسل بذلك صار حجة عليهم فإن قيل إن الرسل وإن أخبروهم فإذا لم يذكروا ذلك فكيف يصير حجة عليهم قيل له وإن لم يذكروا صار قول الثقات حجة عليهم ألا ترى أن رجلا لو طلق امرأته وقد نسي فشهد عليه شاهدان عدلان بأنه قد طلقها قبل غيبته عنها يجبأن يقبل قولهما وكذلك لو صلّى فشهد عنده عدلان أنه ترك ركعة من صلاته وجب عليه أن يأخذ بقولهما وإن كان لا يذكر فكذلك ههنا والجواب عن قولهم إنه لم يقل أحييتنا ثلاث مرات لأن الإحياء المعروف مرتان فذكر الإحياء الذي كان معروفا عنده وقوله تعالى { شهدنا } قال بعضهم هذا حكاية قول الذرية { قالوا بلى شهدنا } وتم الكلام ثم في الآية مضمر ومعناه أخذنا عليهم الميثاق لكي لا يقولوا يوم القيامة { إنا كنا عن هذا غافلين } ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذنا عليهم الميثاق لكيلا تقولوا يوم القيامة { إنا كنا عن هذا غافلين } قال بعضهم إنما تم الكلام عند قوله { بلى } ثم إنه قال تعالى { شهدنا } يعني شهدنا عليكم وأخذنا عليكم الميثاق لكيلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل } ونقضوا العهد ( وكنا ذرية من بعدهم ) لم نعلم به ١٧٣{ أفتهلكنا بما فعل المبطلون } يعني آباؤنا المشركون فإن قيل هل كان إقرارهم إيمانا ومنهم قيل له أما المؤمنون فكان إقرارهم إيمانا وأما الكافرون فلم يكن إقرارهم إيمانا لأن إقرارهم كان تقيه ولم يكن حقيقة قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو { ذرياتهم } بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { ذريتهم } بلفظ الوحدان لأن الذرية قد أضافها إلى الجماعة فاستغنى عن لفظ الجمع وقرأ أبو عمرو { أن يقولوا } بالياء وكذلك في قوله { أو يقولوا } وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى الخطاب ١٧٤قوله تعالى { وكذلك نفصل الآيات } يعني هكذا نبين الآيات في أمر الميثاق { ولعلهم يرجعون } إلى إقرارهم وإلى التوبة فالواو الأولى للعطف وهو قوله { وكذلك } والواو الثانية زيادة للوصل وهو قوله { ولعلهم يرجعون } أي لكي يرجعوا ١٧٥قوله تعالى { واتل عليهم } يعني إن لم يرجعوا بذكر الميثاق ولم يتوبوا ولم يتعظوا فاتل عليهم { نبأ الذي آتيناه } يعني خبر الذي أعطيناه { آياتنا } يعني أكرمنا باسم اللّه الأعظم ويقال { آتيناه آياتنا } يعني الكتاب وهي علم التوراة وغيره { فانسلخ منها } يعني وخرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها ويقال تهاون بها ولم يعرف حقها ولا حرمتها وخرج منها { فأتبعه الشيطان } يقول غرة الشيطان { فكان من الغاوين } يعني فصار من الضالين قال بعضهم هو بلعم بن باعوراء كان عابدا من عباد بني إسرائيل وكان مستجاب الدعوة فنزع اللّه تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعونا من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة فقال لهم أعينوني على هؤلاء يعني على قوم موسى فقالوا له لن تستطيعهم ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه فبعث الملك إلى امرأة بلعم بالهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك فجاءته امرأته وقالت نحن في جوار هذا الرجل فلا بد لك من إجابته فأجابها إلى ذلك وركب أتانا له وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها فلما ألح عليها كلمته الأتان وقالت انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له جبريل خرجت مخرجا ما كان ينبغي لك أن تخرج فإذا خرجت فقل حقا قال فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل فقال له قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة قال غدا فلما تلاقى القوم قال بلعم إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم فقالوا له ما زدتنا إلا خبالا قال بلعم ما استطعت غير ما رأيت ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خذلوا ونصرت عليهم تعمد إلى نساء خبيثات فتجعل عليهم بالحلي والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم فإن وقعوا بهن خذلوا ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفاؤهم فخذلوا فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع اللّه منه الإيمان وقال بعضهم إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وقد أطال زمانه وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه فلما سمع بخروج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقصته كفر حسدا له وكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سمع شعره قال آمن لسانه وكفر قلبه فذلك قوله { آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } ١٧٦ثم قال عز وجل { ولو شئنا لرفعناه بها } يعني بالآيات ويقال رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا { ولكنه أخلد إلى الأرض } يعني أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها { واتبع هواه } يعني هوى نفسه ويقال عمل بهوى المرأة وترك رضى اللّه ويقال أخذ مسافل الأمور وترك معاليها { فمثله كمثل الكلب } يقول مثل بلعم كمثل الكلب { إن تحمل عليه يلهث } يقول إن طردته يلهث { أو تتركه يلهث } يعني وإن تركته فهو يلهث قال القتبي كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض فضرب اللّه تعالى به مثلا يعني كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يعقل وقال مجاهد يعني الكفار أن قرئ عليهم الكتاب لم يقبلوا وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا فهم أهل مكة { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني ذلك صفة الذين جحدوا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { فاقصص القصص } يعني اقرأ عليهم القرآن { لعلهم يتفكرون } يعني لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به ١٧٧قوله تعالى { ساء مثلا } يعني بئس مثل { القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني بئس مثل من كان مثل الكلب وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحا لمذهبهم ويقال { بئس مثل القوم الذين } من ان صفتهم مثل بلعم وهو أهل مكة { كذبوا بآياتنا } فلم يؤمنوا بها مثل بلعم { وأنفسهم كانوا يظلمون } يعني يضرون بأنفسهم ١٧٨ثم قال تعالى { من يهد اللّه فهو المهتدي } يعني من يهده اللّه لدينه فهو المهتدي من الضلالة { ومن يضلل } يعني ومن يضله عن دينه ويخذله { فأولئك هم الخاسرون } بالعقوبة ١٧٩قوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا } يعني خلقنا لجهنم كثيرا { من الجن والإنس } فإن قيل قد قال في آية أخرى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } الذاريات ٥٦ فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته وههنا يقول خلق بعضهم لجهنم قيل له قد خلقهم للأمرين جميعا منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء ويقال معنى قوله { إلا ليعبدون } يعني للأمر والنهي ويقال { إلا ليعبدون } يعني إلا لكي يمكنهم أن { يعبدون } ويقد بينت لهم الطريق ويقال في هذه الآية تقديم وتأخير معناه ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس ثم وصفهم فقال تعالى { لهم قلوب لا يفقهون بها } يعني لا يعقلون بها الحق كما قال في آية أخرى { ختم اللّه على قلوبهم } البقرة ٧ ثم قال { ولهم أعين لا يبصرون بها } يعني الهدى { ولهم آذان لا يسمعون بها } يعني الهدى ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال { أولئك كالأنعام } فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق يعني إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم لأنه ليس للأنعام هو إلا الأكل والشرب فهي تسمع ولا تعقل كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ثم قال { بل هم أضل } يعني الكفار أخطأ طريقا من الأنعام لان الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق والكفار لا يرجعون إلى الطريق ولأن الأنعام تعرف ربها والكفار لا يعرفون ربهم ويقال لما نزلت هذه الآية { أولئك كالأنعام } تضرعت الأنعام إلى ربها فقالت يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك فأعذر اللّه تعالى الأنعام فقال { بل هم أضل } من الأنعام لأن الأنعام مطيعة للّه تعالى والكفار غير مطيعين للّه تعالى ثم قال { أولئك هم الغافلون } يعني عن أمر اللّه تعالى وعما ينفعهم قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد اللّه القاري قال حدثنا حازم بن يحيى الحلواني قال حدثنا الحسين بن الأسود قال حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خلق اللّه الجن ثلاثة أصناف صنفا حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنفا كالريح في الهواء وصنفا عليهم الثواب والعقاب وخلق اللّه الإنس ثلاثة أصناف صنفا كالبهائم وهم الكفار قال اللّه تعالى { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } وصنفا آخر أجسادهم كأجساد بني آدم وأرواحهم كأرواح الشياطين وصنفا في ظل اللّه يوم لا ظل إلا ظله ١٨٠قوله تعالى { وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها } وذلك أن رجلا دعا اللّه في صلاته ودعا الرحمن فقال أبو جهل أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو ربين اثنين فأنزل اللّه تعالى { وللّه الأسماء الحسنى فادعوه بها } الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه فدعا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الرجل فقال ادع اللّه أو ادع الرحمن رغما لأنف المشركين ويقال { وللّه الأسماء الحسنى } يعني الصفات العلى { فادعوه بها } وروى أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال إن للّه تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ومن أسمائه عز وجل الرحمن الرحيم وقد ذكرنا تفسيرها ومن أسمائه الأحد وأصله الوحد بمعنى الواحد وهو الذي ليس كمثله شيء ومنها الصمد وهو السيد الذي صمد إليه كل شيء أي قصده ومنها القيوم وهو البالغ في القيام بكل ما خلق ومنها الولي يعني المتولي أمور المؤمنين ومنها اللطيف وهو الذي يلطف بالخلق من حيث لا يعلمون ولا يقدرون ومنها الودود المحب الشديد المحبة ومنها الظاهر والباطن الذي يعلم ما ظهر وما بطن ومنها البديع الذي ابتدع الخلق على غير مثال ومنها القدوس أي ذو البركة ويقال الطاهر ومنها الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ومنها الحنان أي ذو الرحمة والعطف ومنها المنان الكثير المن على عباده ومنها الفتاح يعني الحاكم ومنها الديان يعني المجازي ومنها الرقيب يعني الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ومنها المتين يعني الشديد القوة على أمر ومنها الوكيل الذي توكل بالقيام بجميع ما خلق ومنها السبوح الذي تنزه عن كل سوء ومنها السلام يعني الذي سلم الخلق من ظلمه ومنها المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه ومنها العزيز المنيع الذي لا يغلبه شيء ومنها المهيمن يعني الشهيد ومنها الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد ومنها المتكبر الذي تكبر عن ظلم العباد ومنها الباري يعني الخالق وسائر الأسماء التي ثبتت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعن الصحابة وقال الزجاج لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه ولم يسم به نفسه فيقول يا جواد ولا ينبغي له أن يقول يا سخي لأنه لم يسم به نفسه وكذلك يقول يا قوي ولا يقول يا جلد ثم قال تعالى { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } قرأ حمزة { يلحدون } بنصب الحاء والياء وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء { يلحدون } فمن قرأ بالنصب فمعناه وذروا الذين يميلون في أسمائه يعني يحورون ويمارون في أسمائه ويعدلون فسموا اللات والعزى ومن قرأ بالضم فمعناه وذروا الذين يجادلون ويمارون في أسمائه ويقال إن اللّه تعالى قد احتج على الكفار بأربعة أشياء بالخلق وهو قوله تعالى { هذا خلق اللّه فأرونى ماذا خلق الذين من دونه } لقمان ١١ وقال { الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له} الحج ٧٣ والثاني في الملك وهو قوله { وقالوا اتخذ اللّه ولدا سبحنه بل له ما في السموات والأرض كل له } البقرة ١١٦ وقال في الأوثان { لا يملكون شيئا } الزمر ٤٣ والثالث في القوة وهو قوله تعالى { إن اللّه على كل شيء قدير } البقرة ٢٠ { وهو السميع البصير } الشورى ١١ { إن ربي قريب مجيب } هود ٦١ { ذو القوة المتين } الذاريات ٥٨وقال في الأوثان { ألهم أرجل يمشون بها } الأعراف ١٩٥ فوصفهم بالعجز والرابع بالأسماء فقال { وللّه الأسماء الحسنى } وقال في الأوثان { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ويقال إن الكفار أرادوا أن يسموا آلهتهم اللّه فجرى على لسانهم اللات وقال أهل اللغة إنما سمي اللات لأنه عنده كان رجل يلت السويق وأرادوا أن يسموا العزيز فجرى على لسانهم العزى وأرادوا أن يسموا منان فجرى على لسانهم مناة وبقيت تلك الأسماء للأصنام وأصل الإلحاد هو الميل ولهذا سمي اللحد لحدا لأنه في ناحية ثم قال { سيجزون ما كانوا يعملون } يعني سيثابون ويعاقبون بما كانوا يعملون من الشرك والإلحاد في الأسماء ١٨١قوله تعالى { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } يعني جماعة وهم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { يهدون بالحق } يعني يدعون إلى الحق ويأمرون بالحق { وبه يعدلون } يعني وبالحق يعملون وذلك أنه لما نزل قوله تعالى { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } الأعراف ١٥٩ قال أناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا رسول اللّه قد ذكر اللّه تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين ولنا أجرا واحدا وقد صدقناك والرسل والكتب فنزل { وممن خلقنا أمة } يعني من أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم { يهدون بالحق وبه يعدلون } ١٨٢قوله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا } يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن { سنستدرجهم } يعني سنأخذهم بالعذاب { من حيث لا يعلمون } يعني من حيث لا يشعرون وقال الكلبي يعني نزين لهم فنهلكهم من حيث لا يعلمون يقول سنأتيهم بالعذاب وهم المستهزئون فيقتل كل رجل منهم بغير قتلة صاحبه وقال القتبي الاستدراج أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلا ويقال استدرج فلان فلانا يعني يعرف ما عنده وأصل هذا من الدرجة لأن الراقي يرقى درجة فاستعير من هذا كقوله تعالى { والمرسلات غرفا } المرسلات ١ يعني الملائكة يتابعون بعضهم بعضا كعرف الفرس وكقوله تعالى { ويقبضون أيديهم } التوبة ٦٧ يعني يمسكون عن العطية وقال السدي { سنستدرجهم } يعني كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها ثم نأخذهم من حيث لا يعلمون فذلك الاستدراج ١٨٣ثم قال { وأملي لهم } يعني وأمهلهم { إن كيدي متين } يعني عقوبتي شديدة ويقال إن صنعي محكم ويقال إن أخذي شديد ١٨٤ثم قال تعالى { أو لم يتفكروا } يعني أهل مكة فيما يأمرهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ان يعبدوا خالقهم ورازقهم وكاشف الضر عنهم ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنونا ويقال معناه { أو لم يتفكروا } في دلائل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام ثم استأنف فقال { ما بصاحبهم من جنة } ويقال هذا على وجه البناء ومعناه أولم يتفكروا ليعلموا { ما بصاحبهم من الجنة } يعني جنونا ويقال إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صعد ذات ليلة الصفا فدعا قريشا إلى عبادة اللّه تعالى بأسمائهم فردا فردا فقال بعضهم إن صاحبكم لمجنون فوعظهم اللّه تعالى فقال { أو لم يتفكروا } يقول أولم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون { إن هو إلا نذير مبين } يعني رسولا نبيا وهذا كقوله تعالى { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } سبأ ٤٦ ثم وعظهم ليعتبروا في صنعه فيوحدوه ١٨٥فقال { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } يعني في خلق السموات والأرض { وما خلق اللّه من شيء } يعني في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما خلق اللّه في الأرض من الجبال والبحار وغير ذلك فيعتبروا ويؤمنوا بأن الذي خلق الذين ترون هو رب واحد لا شريك له { وأن عسى } يعني ينظرون في أن عسى { أن يكون قد اقترب أجلهم } يعني قد دنا هلاكهم { فبأي حديث بعده يؤمنون } يعني إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنون بعد القرآن لأن هذا آخر كتاب نزل وليس بعده كتاب منزل ١٨٦ثم قال تعالى { من يضلل اللّه فلا هادي له } يعني من يخذله اللّه عن دين الإسلام فلا هادي له إلى الهدى { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } يعني يتركهم في ضلالتهم يترددون قرأ أبو عمرو { ويذرهم } بالياء وضم الراء على معنى الخبر وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { ونذرهم } بالنون وضم الراء وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { ويذرهم } بالياء وجزم الراء جعلوه جواب الشرط ومعناه من يضلل اللّه يذره
١٨٧قوله تعالى { يسألونك عن الساعة } يعني عن قيام الساعة { أيان مرساها } يعني متى حينها وقيامها ويقال هذا الكلام على الاختصار ومعناه أي أوان قيامها ثم قال { قل إنما علمها عند ربي } يعني علم قيام الساعة عند ربي وما لي بها من علم { لا يجليها لوقتها } يعني لا يكشفها لحينها { إلا هو } يعني إلا اللّه تعالى ويقال لا يقدر أحد على إظهارها إلا هو يعني إلا اللّه ويقال لا يعلم أحد قيامها إلا هو { ثقلت في السموات والأرض } يعني ثقل علم قيام الساعة على أهل السموات وأهل الأرض ويقال { ثقلت } يعني خفي علمها وإذا خفي الشيء ثقل علمه ويقال معناه ثقل حمل ذكرها لفظاعة شأنها وأمرها ثم قال { لا تأتيكم إلا بغتة } يعني فجأة ثم قال { يسألونك كأنك حفي عنها } قال مقاتل كأنك استحفيت عنها السؤال حتى علمتها وقال القتبي أي كأنك حفي تطلب علمها ومنه يقال تحفى فلان بالقوم إذا بالغ في البر ويقال { كأنك حفي عنها } يعني كأنك جاهل بها ويقال في الآية تقديم ومعناه يسألونك عها كأنك عالم بها قل إنما علمها عند ربي وروى إبراهيم بن يوسف بإسناده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سأله رجل فقال متى الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن أشراط الساعة عشرة يقرب فيها الماحل ويطرف فيها الفاجر ويعجز فيها المنصف وتكون الصلاة منا والزكاة مغرما والأمانة مغنما واستطالة القراء فعند ذلك تكون أمارة الصبيان وسلطان النساء ومشورة الإماء ثم قال { قل إنما علمها عند اللّه } يعني علم قيامها عند اللّه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنها كائنة ولا يصدقون بها ١٨٨قوله تعالى { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } قال مقاتل يعني لا أقدر لنفسي أن أسوق إليها خيرا أو أدفع عنها ضرا حين ينزل بي فكيف أملك علم الساعة { إلا ما شاء اللّه } فيصيبني { ولو كنت أعلم الغيب } يعني غيب النفع إذ جاء { لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } يعني لاستكثرت من النفع وما أصابني الضر وقال الكلبي إن أهل مكة قالوا له ألا يخبرك ربك بالبيع الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه فنزل قل لهم { لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي من العمل الصالح { من الخير } للجدوبة والقحط ويقال لو كنت أعلم متى أموت لاستكترت من العمل الصالح وقال الضحاك قال { لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } يعني الغنى والفقر { إلا ما شاء اللّه } إن شاء أغنى عبده وإن شاء أفقره { ولو كنت أعلم الغيب } يعني مواضع الكنوز لاستخرجتها { وما مسني السوء } يعني الفقر { إن أنا إلا نذير } يعني مخوف بالنار { وبشير } يعني مبشر بالجنة { لقوم يؤمنون } يعني يصدقون بالبعث ١٨٩قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني من نفس آدم { وجعل منها زوجها } يعني خلق من نفس آدم من ضلع من أضلاعه اليسرى زوجته حواء { ليسكن إليها } يعني ليطمئن إليها ويجامعها { فلما تغشاها } يعني سكن إليها وجامعها { حملت حملا خفيفا } يعني خفيف الماء { فمرت به } يعني استمرت بالحمل يقول قامت بالحمل وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا { فلما أثقلت } يعني ثقل الولد في بطنها { دعوا اللّه ربهما } وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا { فلما أثقلت } يعني ثقل الولد في بطنها { دعوا اللّه ربهما } وذلك أن إبليس أتاها فقال يا حواء ما هذا الذي في بطنك قالت ما أدري قال أخاف إنها بهيمة وإني من اللّه بمنزلة فإن دعوت اللّه فولدت إنسانا صالحا أتسميه باسمي قالت نعم وما اسمك قال عبد الحارث فكذب فدعت حواء وآدم فذلك قوله { دعوا اللّه ربهما لئن آتيتنا صالحا } يعني أعطيتنا ولدا سويا صحيح الجوارح { لنكونن من الشاكرين } وهذا قول سعيد بن جبير رواه عن ابن عباس وروى معمر عن قتادة أنه قال كان آدم لا يولد له ولد إلا مات فجاءه الشيطان وقال إن سرك أن يعيش ولدك فسمه عبد الحارث ففعل فأشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة وروي عن السدي أنه قال كان اسم إبليس هو الحارث يوم لعن فأراد أن ينسب إليه فأمرها فسمته عبد الحارث فعاش بعد ذلك أياما ثم مات فذلك ١٩٠قوله { فلما آتاهما } يعني أعطاهما { صالحا } خلقا آدميا سويا { جعلا له شركا فيما آتاهما } قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { جعلا له شركاء } بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون { شركاء } بالضم ونصب الراء فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه { جعلا له شركاء } يعني الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني الشيطان فإن قيل من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن يقول جعلا لغيره شركا لأنهما لا ينكران أن الأصل للّه تعالى وإنما جعلا لغيره شركا يعني نصيبا قيل له معناه { جعلا له شركاء } يعني ذا شرك فذكر الشرك والمراد به ذا شرك كقوله تعالى { وسئل القرية } يوسف ١٢ يعني أهل القرية فضرب اللّه تعالى بهذا مثلا للكفار يعني كما أن آدم وحواء أعطاهما اللّه تعالى ولدا سويا جعلا له شركا في الإسم فكذلك الكفار اللّه تعالى ورزقهم فأشركوا في عبادته ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى { فتعالى اللّه عما يشركون } يعني هو أعلى وأجل من أن يوصف بالشرك ثم رجع إلى قصة الكفار ١٩١فقال اللّه تعالى { أيشركون ما لا يخلق شيئا } يعني أيشركون الآلهة مع اللّه تعالى وهم كفار مكة ما لا يخلق شيئا وهي الآلهة { وهم يخلقون } يعني ينحتونها ويصنعونها بأيديهم ١٩٢{ ولا يستطيعون لهم نصرا } يعني لا يستطيعون نصرا لمن يعبدها { ولا أنفسهم ينصرون } يعني لا يستطيعون أن يمتنعوا مما نزل بهم من العذاب ١٩٣{ وإن تدعوهم إلى الهدى } قال الكلبي يعني الآلهة أن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر { لا يتبعوكم } يعني لا يتبعهم آلهتهم { سواء عليكم } يا أهل مكة { أدعوتموهم ثم أم أنتم صامتون } لا يعقلون شيئا لأنه ليس فيها روح وقال مقاتل { وإن تدعوهم إلى الهدى } يعني كفار مكة { لا يتبعوكم } يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون فلا يؤمنون قرأ نافع { لا يتبعوكم } بجزم التاء وقرأ بالباقون بالنصب والتشديد وهما لغتان تبعته وأتبعته ومعناهما واحد ١٩٤ثم قال تعالى { إن الذين تدعون } يعني تعبدون { من دون اللّه } يعني الأصنام { عباد أمثالكم } يعني مخلوقين مملوكين أشباهكم وليسوا بآلهة { فادعوهم فليستجيبوا لكم أن كنتم صادقين } أنها آلهة ١٩٥ثم قال عز وجل { ألهم أرجل يمشون بها } يعني في حوائجكم { أم لهم أيد يبطشون بها } يعني يعطون بها ويمنعون عنكم الضر { أم لهم أعين يبصرون بها } يعني عبادتكم { أن لهم آذان يسمعون بها } يعني دعاءكم وقد احتجت المشتبهة بهذه الآية أن من لا تكون له يد ولا رجل لا يصلح أن يكون إلها ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن اللّه تعالى بين ضعف معبودهم وعجزه وبين أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك ثم قال { قل } يا محمد يعني لكفار مكة { ادعوا شركاءكم } يعني آلهتكم { ثم كيدون } يعني اعملوا بي ما شئتم { فلا تنظرون } يعني لا تمهلون ولا تؤجلون لأنهم خوفوه بآلهتهم قرأ أبو عمرو { ثم كيدوني } بالياء في حال الوصل وقرأ الباقون بغير الياء ١٩٦ثم قال عز وجل { إن وليي اللّه الذي نزل الكتاب } يعني حافظي وناصري اللّه الذي نزل الكتاب يعني القرآن ويقال إن الذي يمنعني منكم اللّه الذي أنزل جبريل بالكتاب { وهو يتولى الصالحين } يعني المؤمنين فيحفظهم ولا يكلهم إلى غيره ١٩٧ثم قال { والذين تدعون من دونه } يعني تعبدون من دون اللّه { لا يستطيعون نصركم } يعني لا يقدرون منعكم { ولا أنفسهم ينصرون } يعني يمنعون ممن أذاها لأن الكفار كانوا يلطخون العسل في فم الأصنام وكان الذباب يجتمع عليه فلا تقدر دفع الذباب عن نفسها ١٩٨ثم قال تعالى { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } قال الكلبي يعني إن دعا المشركون آلهتهم لا يسمعون أي لا يجيبونهم { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } شيئا قال مقاتل { وإن تدعوهم إلى الهدى } يعني كفار مكة { لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك هم لا يبصرون } الهدى ١٩٩قوله تعالى { خذ العفو وأمر بالعرف } قال ابن عباس يعني خذ ما أعطوك من الصدقة يعني ما فضل من الأكل والعيال ثم نسخ بآية الزكاة وهذا كقوله تعالى { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } البقرة ٢١٩ يعني الفضل { وأمر بالعرف } يعني ادعهم إلى التوحيد { وأعرض عن الجاهلين } أي من جهل عليك مثل أبي جهل وأصحابه كل ذلك قبل الأمر بالقتال ويقال { خذ العفو وأمر بالعرف } يعني اعف عمن ظلمك واعط من حرمك وصل من قطعك قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الديبلي قال حدثنا أبو عبد اللّه وقال حدثنا سفيان عن أبي بن ربيعة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } أسأل عنها جبريل فقال جبريل حتى أسأل العالم فيه فذهب ثم أتاه فقال يا محمد إن اللّه تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك وقال القتبي في قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أوتيت جوامع الكلم فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر في هذه الآية فكيف جمع له في هذا كل خلق عظيم لأن في أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين وإعطاء المانعين وفي الأمر بالمعروف تقوى اللّه وصلة الأرحام وغض البصر وفي الإعراض عن الجاهلين الحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه وعن منازعة اللجوج وإنما سمي المعروف معروفا لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يطمئن إليه ٢٠٠قوله تعالى { و إما ينزغنك من الشيطان نزع } قال مقاتل يعني ولا يفتننكم فتنة في أمر أبي جهل { فاستعذ باللّه } قال الكلبي أي و إما يصيبنك ذنب من الشيطان وسوسة فاستعذ باللّه وقال الزجاج النزع أدنى حركة ومعناه إن إتاك من الشيطان أدنى وسوسة فاستعذ باللّه { إنه سميع عليم } يعني ( سميع ) لدعائك { عليم } بوسوسة الشيطان ٢٠١قوله تعالى { إن الذين اتقوا } يعني اتقوا الشرك والفواحش { إذا مسهم طائف من الشيطان } يعني ذنب من الشيطان { تذكروا } يعني عرف المتقي منهم أنها معصية { فإذا هم مبصرون } يعني منتهون عن المعصية وقال الزجاج يعني عرف المتقي أنها معصية { تذكروا } ما أوضح اللّه لهم من الحجة { فإذا هم مبصرون } يعني إذا هم على بصيرة قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي { طيف } بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ { إذا مسهم طيف } والطيف الغضب وعن مجاهد في قوله { طائف } قال الغضب ثم ذكر حال الكفار ٢٠٢فقال عز وجل { وإخوانهم يمدونهم في الغي } يعني إخوان الشياطين يمدونهم أي يدعونهم إلى المعصية ويقال يلجؤونهم إلى الشرك والضلالة { ثم لا يقصرون } عنها كما أقصر المسلمون عنها حين أبصروها قرأ نافع { يمدونهم } بضم الياء وكسر الميم من أمد يمد وقرأ الباقون { يمدونهم } بالنصب من مد يمد قال بعضهم هذا عطف على قوله { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } { وإخوانهم يمدونهم } وقال الزجاج معناه التقديم والمعنى لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون { وإخوانهم يمدونهم في الغي } يعني الشياطين والغي الجهل والوقوع في الهلكة ٢٠٣قوله تعالى { وإذا لم تأتهم بآية } وذلك حين أبطأ عليه جبريل حين سألوه شيئا { قالوا لولا اجتبيتها } أي هلا أتاهم من تلقاء نفسه وهذا كقوله { ائت بقرءان غير هذا } يونس ١٥ قال {إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي } يعني قال إذا أمرت بأمر فعلت ولا أبتدع ما لم أومر { هذا بصائر من ربكم } يعني القرآن بيان من ربكم وقال بعض أهل اللغة البصائر في اللغة طريق الأمر واحدتها بصيرة ويقال طريقة الدين معناه ظهور الشيء وبيانه { وهدى ورحمة } يعني القرآن هدى من الضلالة ويقال كرامة ورحمة من العذاب ونعمة لمن آمن به { لقوم يؤمنون } يعني يصدقون ٢٠٤قوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وذلك أن المسلمين كانا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية فنهوا عن ذلك وأمروا بالسكوت وروى عبد الوهاب عن مجاهد عن أبي العالية الرياحي قال كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا صلّى فقرأ وقرأ الصحابة خلفه حتى نزل { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } فسكت القوم وقرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وروى قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى { وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قال في الصلاة وروى مغيرة عن إبراهيم مثله وسئل ابن عباس عن قوله { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } هذا كل قارئ قال لا ولكن هذا في الصلاة المفروضة وقال أبو هريرة مثله وقال مجاهد وجب الإنصات في موضعين في الصلاة والإمام يقرأ وفي الجمعة والإمام يخطب وعن مجاهد قال لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم وقال عطاء والحسن إن هذا في الصلاة والخطبة ويقال { فاستمعوا له وأنصتوا } يعني اعملوا بما في كتاب اللّه ولا تجاوزوا عنه إلى غيره ثم قال { لعلكم ترحمون } يعني لكي ترحموا ولا تعذبوا ٢٠٥قوله تعالى { واذكر ربك في نفسك تضرعا } يقول اقرأ يا محمد إذا كنت إماما بنفسك { تضرعا } يعني مستكينا { وخيفة } يعني خوفا من عذابه وهذا قول مقاتل وقال الكلبي { واذكر ربك في نفسك } يعني سرا { ودون الجهر من القول } يعني العلانية حتى يسمع من خلفك وقال الضحاك معناه اجهر بالقراءة في الغداة والمغرب والعشاء { ولا تكن من الغافلين } يعني لا تغفل عن القراءة في الظهر والعصر فإنك تخفي القراءة فيهما وروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال اذكروا اللّه ذكرا كثيرا خاملا قيل وما الذكر الخامل قال الذكر الخفي قوله تعالى: { بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } يعني غدوة وعشية. وروى يحيى بن أيوب عن خالد بن بن زيد عن سعيد بن أبي هلال عن من سمع عقبة بن عامر قال: المسر بالقراءة كالمسر بالصدقة والمعلن بالقراءة كالمعلن بالصدقة ثم قال ولا تكن من الغافلين يعني عن القراءة في الصلاة. ٢٠٦قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } وذلك أن كفار مكة { قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [الفرقان: ٦٠] واستكبروا عن السجود. فنزل إن الذين عند ربك يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يتعظمون ولا يستنكفون عن طاعته { وَيُسَبِّحُونَهُ } يقول ويذكرونه { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } يعني يصلون. وقال أهل اللغة. الآصال جمع الأُصُل والأُصُل جمع الأَصِيل والآصال جمع الجمع يعني العشيات واللّه أعلم بالصواب. |
﴿ ٠ ﴾