سورة الأنفال

مدنية وهي سبعون وخمس آيات

١

قوله تعالى { يسألونك عن الأنفال } يعني الغنائم واحدها نفل غنيمة وكذلك قال لبيد

( إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن اللّه ريثي وعجل )

( من هداه سبل الخير إهتدى ناعم البال ومن شاء أضل )

قال ابن عباس { عن } صلة في الكلام وإنما هو يسألونك الأنفال يعني الغنائم

ويقال فيه تقديم ومعناه يسألون عنك الأنفال

ويقال معناه يسألونك لمن الأنفال يقال إنما هم سألوا عنها لأنها كانت محرمة من قبل فسألوا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل { يسألونك عن الأنفال } يعني الغنائم

قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال حدثنا سعيد بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن الحارث عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر فلقي العدو فلما هزمهم اللّه تعالى أتبعهم طائفة من المسلمين يقتلونهم وأحدقت طائفة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإستولت طائفة بالعسكر والنهب فقال الذين طلبوهم نحن طلبنا إحاطة العدو وبنا نفاهم اللّه تعالى وهزمهم فلنا النفل وقال الذين أحدقوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن أحدقنا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لئلا ينال العدو منه غرة فهو لنا وقال الذين إستولوا على العسكر والنهب واللّه ما أنتم بأحق منا بل هو لنا نحن حويناه واستولينا عليه فأنزل اللّه تعالى { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرسول فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم } فقسم النبي صلى اللّه عليه وسلم بينهم عن فواق أي عن سواء

وروى أسباط عن السدي قال كانت الأنفال للّه ورسوله فنسخ بقوله { فأن للّه خمسه وللرسول } [ الأنفال : ٤١ ] وعن عكرمة ومجاهد مثله

قوله تعالى { فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم } يعني إخشوا اللّه وأطيعوه في أمر الغنيمة وأصلحوا ما بينكم من الإختلاف في الغنيمة { وأطيعوا اللّه ورسوله } يعني في أمر الصلح والغنيمة { إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مصدقين ويقال معناه أتركوا المراء في أمر الغنيمة إن كنتم مصدقين٢

ثم نعت المؤمنين المصدقين فقال اللّه تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم }

ويقال إنما المصدقون الذين إذا أمروا بأمر في أمر الغنيمة وغيرها من قبل اللّه تعالى خافت قلوبهم

ويقال إنما المصدقون { الذين إذا ذكر اللّه } أي ذكر عندهم أمر اللّه

ويقال الذين إذا أمروا بأمر من اللّه { وجلت قلوبهم } يعني قبلت قلوبهم فسمى قبول القلوب وجلا لأن بالوجل يثبت القبول لأنهم وجلوا عقوبة اللّه تعالى فقبلوه

ثم قال { وإذا تليت عليهم آياته } يعني إذا قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي في أمر الصلح وغيره { زادتهم إيمانا } يعني تصديقا ويقينا وقال الضحاك يعني زادتهم تصديقا بحكم الناسخ مع تصديقهم بالمنسوخ وقال الزجاج تأويل الإيمان التصديق فكل ما تلي عليهم من عند اللّه تصديقا صدقوا به فزادهم تصديقا فذلك زيادة إيمانهم

وروي عن ابن عباس أنه قال زادتهم تصديقا بالفرائض مع تصديقهم باللّه { وعلى ربهم يتوكلون } يعني يفوضون أمرهم إلى اللّه ويثقون به ولا يثقون بما في أيديهم من الغنائم ويعلمون أن اللّه رازقهم

٣

ثم قال اللّه تعالى { الذين يقيمون الصلاة } يعني يتمونها في مواقيتها بركوعها وسجودها { ومما رزقناهم ينفقون } يعني يتصدقون مما أعطيناهم من الأموال وينفقونها في طاعة اللّه

٤

قوله تعالى { أولئك هم المؤمنون حقا } يعني أهل هذه الصفة هم المؤمنون الموحدون { حقا } صدقا وهم المصدقون { لهم درجات عند ربهم } يعني فضائل عند ربهم في الآخرة

ويقال لهم منازل في الرفعة على قدر أعمالهم { ومغفرة ورزق كريم }يعني مغفرة لذنوبهم وثواب حسن في الجنة

ويقال الفتوح والغنيمة قال ابن عباس في قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } قال المؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا

٥

قوله تعالى { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } قال القتبي معناه كراهتهم فيما فعلته في الغنائم ككراهتهم الخروج معك

ويقال معناه أولئك هم المؤمنون حقا { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كان فريقا من المؤمنين لكارهون } فكذلك ننفل الغنيمة لمن نشاء وإن كرهوا ذلك

ويقال هذا إبتداء القصة ومعناه إمض على وجهك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون

قوله تعالى { يجادلونك في الحق } وكان هذا بعد خروجه إلى بدر وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة وفي تلك السنة حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام وكانت غزوة بدر في شهر رمضان وكانت قصته أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بلغه أن عير قريش خرجت من الشام فيهم أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلا من تجار قريش

ويقال أكثر من ذلك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه هذه عير أبي سفيان قد أقبلت فاخرجوا إليها فلعل اللّه أن ينفلكموها على جهادكم وتتقووا بها على عدوكم فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين من جهينة حليفين في الأنصار بأن ينظرا ويأتيا بخبر العير فخرجا وأتيا وادي الصفراء وهي منزل من أحد على طريق الشام فقالا لأهل الصفراء هل أحسستم من أحد فقالوا لا فخرجا فمرا بجاريتين تتلازمان فقالت إحداهما للأخرى إقضيني درهما لي عليك فقالت لا واللّه ما عندي اليوم ولكن عير قريش نزلت بموضع كذا يقدمون غدا فأعمل لهم فأقضيك درهمك فسمع الرجلان ما قالت الجاريتان فرجعا وأخبرا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك فجاء أبو سفيان بن حرب حين أمسى الصفراء فقال لأهل الصفراء هل أحسستم من أحد قالوا لا إلا رجلين نزلا عند هذا الكثيب ثم ركبا فرجع أبو سفيان إلى ذلك الموضع فرأى هناك بعر الإبل فأخذ بعرة ففتها فوجد فيه النوى فقال علائف أهل يثرب واللات والعزى فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يخبرهم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم قد إعترض لعيركم فأدركوها وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت قبل أن يقدم ضمضم بن عمرو بثلاثة أيام في

٦

منامها كأن راكبا أقبل على بعير أورق ومعه راية سوداء فدخل المسجد الحرام ثم نادى بأعلى صوته يا آل فلان يا آل فلان إنفروا إلى مصارعكم إلي ثلاث ثم إرتقى على أبي قبيس ونادى ثلاث مرات ثم قلع صخرة من أبي قبيس فرماها على أعلى مكة فتكسرت فلم يبق أحد من قريش إلا أصابته فلقة منها فلما أصبحت قصت رؤياها على أخيها العباس وقالت إني خاف أن يصيب قومك سوء فاغتم العباس بما سمع منها وذكر العباس ذلك للوليد بن عتبة وكان صديقا له فذكر الوليد ذلك لأبيه عتبة بن ربيعة فذكر ذلك عتبة لأبي جهل بن هشام وفشا ذلك الحديث في قريش فخرج العباس إلى المسجد وقد إجتمع فيه صناديد قريش يتحدثون عن رؤيا عاتكة فقال أبو جهل يا أبا الفضل متى حدثت فيكم هذه النبية أما رضيتم أن قلتم منا نبي حتى قلتم منا نبية فواللّه لننتظرن بكم ثلاثا فإن جاء تأويل هذه الرؤيا وإلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب فقال له العباس يا كذاب يا مصفر الاست تااللّه أنت أولى بالكذب واللؤم منا فلما كان اليوم الثالث جاء ضمضم وقد شق قميصه وجدع أذن ناقته وجعل التراب على رأسه وهو ينادي يا معشر قريش الغوث الغوث أدركوا عيركم فقد عرض لها محمد صلى اللّه عليه وسلم فاجتمعوا وخرجوا وهم كارهون مشفقون لرؤيا عاتكة ومعهم القينات والدفوف بطرا ورياء كما قال اللّه تعالى { خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس } [ الأنفال : ٤٧ ] وكل يوم يطعمهم واحد من أغنيائهم

وخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم من المدينة وأمر أصحابه بالخروج فخرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من المهاجرين والأنصار فخرجوا على نواضحهم ليس لهم ظهر غيرها ومعهم ثلاثة أفراس

ويقال فرسان فخرجوا بغير قوت ولا سلاح لا يرون أنه يكون ثمة قتالا فلما نزلوا بالروحاء نزل جبريل على محمد صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم وقال يا محمد إن اللّه تعالى وعدكم إحدى الطائفتين إما العير

وأما العسكر فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بخروج المشركين من مكة إلى عيرهم فشق ذلك على بعضهم وقالوا يا رسول اللّه هلا كنت أخبرتنا أنه يكون ثم قتالا فنخرج معنا سلاحنا وقسينا وفرسنا إنما خرجنا نريد العير والعير كانت أهون شوكة وأعظم غنيمة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه أشيروا علي فكان أبو بكر وعمر يشيران عليه بالمسير وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول أشيروا علي وكان يحب أن يكلمه الأنصار فقال سعد بن معاذ يا رسول اللّه إمض حيث شئت وأقم حيث شئت فواللّه لئن أمرتنا أن نخوض في البحر لنخوضنه ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } [ المائدة : ٢٤ ] ولكن نقول إذهب أنت وربك فقاتلا ونحن معكما متبعون فنزل { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } يعني إمض من الروحاء { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } يعني القتال { يجادلونك في الحق } يخاصمونك في الحرب { بعدما تبين } يعني بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك اللّه به { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } يعني ينظرون إلى القتل

٧

ثم قال تعالى { وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنها لكم } يعني الغنيمة إما العير وأما العسكر

{ وتودون أن غير ذات الشوكة } يعني تمنون غير ذات السلاح وقال القتبي ومنه قيل فلان شاك في السلاح ويقال { غير ذات الشوكة } يعني شدة القتال { تكون لكم } الغنيمة { ويريد اللّه أن يحق الحق بكلماته } يعني أن يظهر الإسلام بتحقيقه بما أنزل عليك من القرآن { ويقطع دابر الكافرين } يعني يهلك الشرك ويستأصله

٨

 { ليحق الحق } يعني ليظهر الإسلام { ويبطل الباطل } يعني الشرك { ولو كره المجرمون } أي المشركون فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم سيروا على بركة اللّه فإني رأيت مصارع القوم وجاءت قريش وأدركوا العير وأفلتوهم فقال بعضهم لبعض إنما خرجتم لأجل العير فلما وجدتم العير فارجعوا سالمين فقال أبو جهل لا نرجع حتى نقتل محمدا ومن معه فسار النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى نزل بدرا بجانب الوادي الأدنى ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء والوادي فيما بينهما فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الليلة حتى أوتر وكانت ليلة النصف من شهر شعبان وقال في قنوته اللّهم لا تفلتن أبا جهل بن هشام وفلانا وفلانا فباتوا تلك الليلة وقد أجنبوا وليس معهم ماء فأتاهم الشيطان عند ذلك فوسوس إليهم فقال تزعمون أنكم على دين اللّه وأنكم تصلون محدثين مجنبين والمشركون على الماء وكان الوادي ذا رمل تغيب فيه الأقدام فمطرت السماء حتى سال الوادي فاشتد ذلك الرمل واغتسل المسلمون من جنابتهم وشربوا وسقوا دوابهم فذلك قوله { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } [ الأنفال : ١١ ] إلى قوله { ويثبت به الأقدام } [ الأنفال : ١١ ] وكان علي والزبير يحرسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء سقاة قريش يستقون الماء فأخذهم علي والزبير فسألاهم عن أبي سفيان فقالوا ما لنا بأبي سفيان من علم فقالا فمع من أنتم فقالوا مع قريش من أهل مكة فقالا فكم هم قالوا لا ندري هم كثير فضرباهم فقالوا هم قليل فتركاهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تضربونهم إن صدقوكم وتتركونهم إن كذبوكم فدعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال كم القوم فقالوا كم هم وهم كثير فلا ندري كم هم فقال كم ينحر لهم في كل يوم فقالوا في يوم ينحر لهم عشرة جذور وفي يوم تسعة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم القوم ما بين تسعمائة إلى ألف وكانت عدتهم تسعمائة وخمسين وكانوا قد خرجوا من مكة ألفا ومائتين وخمسين فرجع الأخنس بن شريق مع ثلاثمائة من بني زهرة مع العير وبقي تسعمائة وخمسون رجلا فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الخوف الغداة ورفع يديه وقال اللّهم لا تهلك هذه العصابة فإنك إن أهلكتهم لا تعبد على وجه الأرض أبدا فقال أبو بكر عليك يا رسول اللّه قد دنا القوم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أبشر يا أبا بكر فإني رأيت جبريل معتمرا بعمامة يقود فرسا بين السماء والأرض فأمده اللّه بجبريل في ألف من الملائكة وميكائيل في ألف من الملائكة وإسرافيل في ألف من الملائكة فذلك قوله { يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } [ آل عمران : ١٢٤ ] فقال أبو جهل اللّهم أنصر أحب الدينين إليك ديننا العتيق ودين محمد الحديث فقال عتبة بن ربيعة يا معشر قريش إن محمدا رجل منكم فإن يكن نبيا فأنتم أسعد الناس به وإن يكن ملكا تعيشوا في ملك أخيكم وإن يك كاذبا يقتله سواكم لا يكون هذا منكم وإني مع ذلك لأرى قوما زرق العيون لا يموتون حتى يقتلوا عددا منكم فقال أبو جهل يا أبا الوليد جبنت وإنتفخ سحرك فقال له عتبة يا كذاب ستعلم اليوم أينا الجبان فلبس لأمته وخرج معه أخوه شيبة بن ربيعة وخرج معه إبنه الوليد بن عتبة وتقدموا إلى القوم وقالوا يا محمد إبعث إلينا أكفاءنا فخرج إليهم قوم من الأنصار فقالوا لهم من أنتم فقالوا نحن أنصار اللّه ورسوله فقالوا لا نريدكم ولكن نريد إخواننا من قريش فانصرفوا

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا بني هاشم تقدموا إليهم فقام إليهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وعليهم البيض فقال لهم عتبة تكلموا حتى نعرفكم فقال حمزة أنا أسد اللّه وأسد رسوله فقال عتبة كفوء كريم قال فمن هذان معك فقال علي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فذهب الشيخ إلى الشيخ والشاب إلى الشاب والكهل إلى الكهل فذهب عبيدة إلى شيبة بن ربيعة وكلاهما شيخان وذهب علي إلى الوليد بن عتبة وكلاهما شابان وذهب حمزة إلى عتبة بن ربيعة وكلاهما كهلان فقتل حمزة بن عبد المطلب عتبة بن ربيعة وقتل علي بن أبي طالب الوليد بن عتبة واختلف عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة ضربتين ضرب عبيدة بالسيف على رأس شيبة بن ربيعة وضرب شيبة ضربة في رجل عبيدة فمال حمزة وعلي على شيبة بن ربيعة فقتلا شيبة وحملا عبيدة إلى العسكر فمات عبيدة في حال إنصرافهم قبل أن يصل إلى المدينة فدفن بمضيق الصفراء ففي هذا الخبر دليل من الفقه أن المشركين إذا طلبوا البراز فلا بأس للمؤمنين بأن يخرجوا بغير إذن الإمام ما لم ينههم عن ذلك لأن الأنصار قد خرجوا قبل أن يأذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفيه دليل أنه لا بأس بأن ينصر أحد المبارزين صاحبه لأن حمزة وعليا قد أعانا عبيدة على قتل شيبة وفيه دليل أنه لا بأس بالإفتخار عند الحرب لأن حمزة قال أنا أسد اللّه وأسد رسوله ولا بأس بأن يتبختر في مشيته في حال القتال

ثم خرج مهجع مولى عمر بن الخطاب فأصابته رمية بين الصفين وكان أول قتيل يوم بدر وحرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس على القتال فقال عمير بن الحمام السلمي وهو قائم وفي يده تمرات يأكلها فقال يا رسول اللّه إن قتلت في سبيل اللّه فلي الجنة قال نعم فألقى التمرات وأخذ سيفه وشد على القوم فقاتل حتى قتل فخرج أبو جهل بن هشام على جمل له فخرج إليه شاب من الأنصار يقال له معاذ بن عمرو بن الجموح فضربه ضربة على فخذه فخر أبو جهل عن بعيره فخرج إليه عبد اللّه بن مسعود فلما رآه أبو جهل قال يا ابن أم عبد لمن الدولة اليوم وعلى من الدائرة فقال له إبن مسعود للّه ولرسوله يا عدو اللّه لأنت أعتى من فرعون لأن فرعون جزع عند الغرق وأنت لم يزدك هذا المصرع إلا تماديا في الضلالة ثم وضع رجله على عاتق أبي جهل فقال له أبو جهل لأنت رويعنا بالأمس لقد إرتقيت مرتقى عظيما فقتله عبد اللّه بن مسعود وحز رأسه وجاء برأسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ساجدا

ثم قال لأبي بكر ويقال قال لعلي ناولني كفا من التراب فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبضة من تراب ورمى بها في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فدخلت في أعين القوم كلهم وأقبل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقتلونهم ويأسرون منهم وحملوا على المشركين والملائكة معهم وقذف في قلوب المشركين الرعب وقتلوا في تلك المعركة منهم سبعين وأسروا سبعين وأستشهد يومئذ من المهاجرين والأنصار ثلاثة عشر رجلا ورجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأسارى والغنائم إلى المدينة واستشار النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر الأسارى فأقبل على أبي بكر فقال ما تقول يا أبا بكر فقال قومك وبنو عمك فإن قتلتهم صاروا إلى النار وإن تفدهم فلعل اللّه يهديهم إلى الإسلام ويكون ما نأخذه منهم قوة للمسلمين وقوة على جهادهم بأعدائهم ثم أقبل على عمر فقال ما تقول يا أبا حفص فقال عمر إن في يديك رؤوس المشركين وصناديدهم فاضرب أعناقهم وسيغني اللّه المؤمنين من فضله فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم مثلك يا أبا بكر من الملائكة مثل ميكائيل فإنه لا ينزل إلا بالرحمة ومثلك من الأنبياء مثل إبراهيم حيث قال { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [ إبراهيم : ٣٦ ] ومثل عيسى حيث قال { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة : ١١٨ ] ومثلك يا عمر من الملائكة مثل جبريل فإنه ينزل بالعذاب والشدة ومثلك من الأنبياء مثل نوح حيث قال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [ نوح : ٢٦ ] ومثل موسى حيث قال { ربنا أطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : ٨٨ ]

وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن عبد اللّه بن عباس قال قيل للنبي صلى اللّه عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لم قال لأن اللّه تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك

٩

قوله تعالى { إذ تستغيثون ربكم } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين علم أنه لا قوة لهم إلا باللّه فدعا ربه فقال اللّهم إنك لا تخلف الميعاد { فاستجاب } له ربه ونزل { إذ تستغيثون ربكم } يقول واذكروا إذ تسألون ربكم وتدعونه يوم بدر بالنصرة على عدوكم { فاستجاب لكم } يعني فأجابكم ربكم { إني ممدكم } يعني أزيدكم { بألف من الملائكة مردفين } يعني متتابعين بعضهم على أثر بعض قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { مردفين } بالنصب وقرأ الباقون بالكسر وكلاهما يرجع إلى معنى واحد وهو التتابع وقال عكرمة أمدهم يوم بدر بألف من الملائكة ووعد لهم ثلاثة آلاف من الملائكة لغزوة بعدها بدعائه وزاده ألفين فذلك خمسة آلاف من الملائكة

ويقال هذا كله كان في يوم بدر

١٠

ثم قال عز وجل { وما جعله اللّه إلا بشرى } يقول وما أنزل اللّه الملائكة إلا للبشارة وقال بعضهم الملائكة لم يقاتلوا وإنما كانوا مبشرين وروي عن ابن عباس أنه قال قاتلت الملائكة يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم حنين { وما جعله اللّه } يعني مدد الملائكة { إلا بشرى } و { لتطمئن قلوبكم } يعني لتسكن إليه قلوبكم { وما النصر إلا من عند اللّه } يعني ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرة العدد ولكن النصر من عند اللّه { إن اللّه عزيز حكيم } { عزيز } بالنقمة { حكيم } حكم بالنصرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين والهزيمة للمشركين

١١

قوله تعالى { إذ يغشيكم النعاس } يقول ألقى عليكم النوم { أمنة منه } يعني أمنا من عند اللّه وروى عاصم عن إبن رزين عن عبد اللّه بن مسعود قال النعاس عند القتال أمنة من اللّه وهو في الصلاة من الشيطان قرأ نافع { يغشيكم } بضم الياء وجزم الغين ونصب النعاس ومعناه يغشيكم اللّه النعاس وقرأ إبن كثير وأبو عمرو { يغشاكم } بالألف ونصب الياء وضم النعاس يعني أخذكم النعاس وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد الشين ونصب النعاس ومعناه يغشيكم اللّه النعاس أمنة منه والتشديد للمبالغة

ثم قال { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } يعني بالماء من الأحداث والجنابة { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني وسوسة الشيطان وكيده وقال القتبي أصل الرجز العذاب كقوله تعالى { رجزا من السماء } [ البقرة : ٥٩ ] ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب للعذاب

ثم قال { وليربط على قلوبكم } يعني يشدد قلوبكم بالنصرة منه عند القتال { ويثبت به الأقدام } يعني لتستقر الأرجل على الرمل حتى أمكنهم الوقوف عليه

ويقال { ويثبت به الأقدام } في الحرب

١٢

ثم قال تعالى { إذ يوحي ربك إلى الملائكة } يعني ألهم ربك الملائكة { أني معكم } أي معينكم وناصركم { فثبتوا الذين آمنوا } يعني بشروا المؤمنين بالنصرة فكان الملك يمشي أمام الصف فيقول أبشروا فإنكم كثير وعدوكم قليل واللّه تعالى ناصركم { سألقي } يعني سأقذف { في قلوب الذين كفروا الرعب } يعني الخوف من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ثم علم المؤمنين كيف يضربون ويقتلون

فقال تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } يعني على الأعناق { واضربوا منهم كل بنان } يعني أطراف الأصابع وغيرها

ويقال كل مفصل قال الفقيه سمعت من حكى عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال أراد اللّه إلا يلطخ سيوفهم بفرث المشركين فأمرهم أن يضربوا على الأعناق ولا يضربوا على الوسط

ويقال معناه إضربوا كل شيء إستقبلكم من أعضائهم ولا ترحموهم

١٣

{ ذلك بأنهم } يعني ذلك الضرب والقتل بسبب { بأنهم شاقوا اللّه ورسوله } يعني عادوا اللّه ورسوله وخالفوا اللّه ورسوله { ومن يشاقق اللّه ورسوله } يعني من يخالف اللّه ورسوله { فإن اللّه شديد العقاب } إذا عاقب

١٤

ثم قال تعالى { ذلكم } القتل يوم بدر { فذوقوه } في الدنيا { وأن للكافرين عذاب النار} يوم القيامة مع القتل في الدنيا يعني أن القتل والضرب لم يصر كفارة لهم

١٥

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } يعني إذا لقيتم الذين كفروا بتوحيد اللّه تعالى يوم بدر { زحفا } يعني مزاحفة

ويقال زحف القوم إذا دنوا للقتال ومعناه إذا واقعتموهم للقتال { فلا تولوهم الأدبار } يعني منهزمين

١٦

{ ومن يولهم يومئذ دبره } يعني تولى ظهره منهزما { يومئذ } يعني يوم حربهم وقال الكلبي يعني يوم بدر خاصة { إلا متحرفا لقتال } يعني مستطردا للكرة يريد الكرة للقتال { أو متحيزا إلى فئة } يعني ينحاز من فئة إلى فئة من أصحابه يمنعونه من العدو قال أهل اللغة تحوزت وتحيزت أي إنضممت إليه ومعناه إذا كان منفردا فينحاز ليكون مع المقاتلة { فقد باء بغضب من اللّه } وفي الآية تقديم يعني { ومن يولهم يومئذ دبره } { فقد باء بغضب من اللّه } أي إستوجب الغضب من اللّه { ومأواه جهنم وبئس المصير } إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة

وروي عن الحسن أنه قال كان كل هذا يوم بدر وغيره وعن الضحاك قال هذا يوم بدر خاصة خاصة لأنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها وعن داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال نزلت يوم بدر لأنهم لم ينحازوا إلا إلى المشركين لم يكن في الأرض مسلمون غيرهم وقد قال بعضهم بأن الآية غير منسوخة لأنه لا يجوز للواحد أن يهرب من الإثنين ويجوز أن يهرب من الجماعة وإذا لم يكن معه سلاح جاز له أن يهرب ممن معه السلاح وإذا لم يكن راميا جاز له أن يهرب من الرامي فإذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفار ومعهم سلاح لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار وإذا كان المسلمون إثني عشر ألفا ومعهم سلاح لا يجوز لهم أن يهربوا من الكفار وإن كانوا مائة ألف لأنه

روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب إثنا عشر ألفا من قلة إذا كانت كلمتهم واحدة فينبغي لهم أن يجعلوا كلمتهم واحدة ويقاتلوهم حتى ينصرهم اللّه تعالى والآية نزلت في الذي لا يجوز له الهرب

وروى سليمان بن هلال عن ثور بن زيد عن أبي المغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إجتنبوا الموبقات قالوا وما هي يا رسول اللّه قال الشرك باللّه وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات

١٧

قوله تعالى { فلم تقتلوهم } وذلك أن المسلمين كانوا يقولون قتلنا فلانا وقتلنا فلانا فأراد اللّه تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم فقال { فلم تقتلوهم } يقول فما قتلتموهم { ولكن اللّه قتلهم } يعني اللّه تعالى نصركم وأمدكم بالملائكة { وما رميت إذ رميت ولكن اللّه رمى } يعني اللّه تعالى تولى ذلك وذلك حين رمى النبي صلى اللّه عليه وسلم قبضة من التراب فملأ اللّه تعالى أعينهم بها فانهزموا قال اللّه تعالى { وما رميت } أي لم تصب رميتك ولم تبلغ ذلك المبلغ ولكن اللّه تعالى تولى ذلك

ويقال رمى النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد بالحربة فأصابت أبي بن خلف الجمحي فقتله

قرأ حمزة والكسائي { ولكن اللّه رمى } بكسر النون والتخفيف و { اللّه } بالضم وكذلك في قوله { ولكن اللّه قتلهم } وقرأ الباقون بنصب النون مع التشديد ونصب ما بعده

ثم قال { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } يعني لينصرهم نصرا جميلا ويختبرهم بالتي هي أحسن ويقال ولينعم المؤمنين نعمة بينة { إن اللّه سميع عليم } يعني سميع لدعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليم بإجابته

 

١٨

{ ذلكم } يعني الهلاك والهزيمة للكفار ويقال معناه الأمر من ربكم { ذلكم } ثم إبتداء فقال { وأن اللّه موهن كيد الكافرين } يعني مضعف كيد الكافرين يعني صنيع الكافرين ببدر وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { موهن كيد الكافرين } بنصب الواو والتشديد منونة { كيد } بنصب الدال وقرأ عاصم في رواية حفص { موهن } بضم النون بغير تنوين { كيد } بكسر الدال على معنى الإضافة وقرأ الباقون { موهن } بالتنوين والتخفيف { كيد } بنصب الدال والموهن والموهن واحد

ويقال وهنت الشيء وأوهنته إذا جعلته واهنا ضعيفا

١٩

ثم قال تعالى { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } يقول إن تستنصروا فقد نصركم اللّه وذلك حين قال أبو جهل بن هشام اللّهم أنصر أعز الجندين إليك وأحب الفئتين إليك فاستجيب دعاؤه على نفسه وعلى أصحابه

ثم قال { وإن تنتهوا } عن قتاله { فهو خير لكم } من قتاله ويقال إن أهل مكة حين أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللّهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم فنزل { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا } عن قتال محمد صلى اللّه عليه وسلم وعن الكفر { فهو خير لكم } من الإقامة عليه { وإن تعودوا } لقتال محمد صلى اللّه عليه وسلم { نعد } عليكم الهزيمة { ولن تغني عنكم فئتكم } يعني جماعتكم { شيئا ولو كثرت } في العدد { وأن اللّه مع المؤمنين } يعني معين لهم وناصرهم قرأ نافع وإبن عامر وعاصم في إحدى الروايتين { وأن اللّه } بالنصب والباقون بالكسر على معنى الإستئناف ويشهد لها قراءة عبد اللّه بن مسعود واللّه مع المؤمنين

٢٠

ثم قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه ورسوله } في أمر الغنيمة والصلح { ولا تولوا عنه } يعني لا تعرضوا عن أمره ويقال عن طاعته ويقال عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وأنتم تسمعون } المواعظ في القرآن وفي أمر الصلح

٢١

قوله تعالى { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } يعني لم يسمعوا ولم يفهموا ولم يتفكروا فيما سمعوا ويقال إن قوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } أي قالوا أطعنا { وهم لا يسمعون } يعني لا يطيعون قال الكلبي وهم بنو عبد الدار لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن خويلد وقال الضحاك ومقاتل { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } الإيمان { وهم لا يسمعون } أي لا يؤمنون هم المنافقون

٢٢

ثم قال عز وجل { إن شر الدواب عند اللّه } يعني إن شر الناس عند اللّه { الصم } عن الهدى { البكم } يعني الخرس الذين لا يتكلمون بخير { الذين لا يعقلون } الإيمان يعني بني عبد الدار وغيرهم من الكفار الذين لم يسلموا

٢٣

قوله تعالى { ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم } يعني يقول لو علم اللّه تعالى فيهم صدقا لأعطاهم الإيمان وأكرمهم به { ولو أسمعهم } يعني لو أكرمهم بالإسلام { لتولوا وهم معرضون } يعني أعرضوا عن الإيمان بما سبق في علم اللّه فيهم وقال الزجاج معناه

{ ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم } الجواب عن كل ما يسألون عنه { ولو أسمعهم } يعني ولو بين لهم كل ما يختلج في نفوسهم لأعرضوا عنه لمعاندتهم

٢٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا للّه } يعني أجيبوا اللّه بالطاعة في أمر القتال { وللرسول إذا دعاكم } إلى القتال أو غيره وإنما قال { إذا دعاكم } ولم يقل إذا دعواكم لأن الدعوة واحدة ومن يجب الرسول فقد أجاب اللّه تعالى

قوله تعالى { لما يحييكم } يعني القرآن الذي به حياة القلوب ويقال { لما يحييكم } أي أمر الحرب الذي يعزكم ويصلحكم ويقويكم بعد الضعف ويقال { لما يحييكم } يعني يهديكم ويقال { لما يحييكم } يعني لما يكون سببا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة { واعلموا أن اللّه يحول بين المرء وقلبه } قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال يحول بين المؤمن ومعاصيه التي تسوقه وتجره إلى النار ويحول بين الكافر وطاعته التي تجره إلى الجنة ويقال يحول بين المرء وإرادته لأن الأمر لا يكون بإرادة العبد وإنما يكون بإرادة اللّه تعالى كما قال أبو الدرداء

( يريد المرء أن يعطى مناه ويأبى اللّه إلا ما أرادا )

ويقال يحال { بين المرء وقلبه } يعني وأمله لأن الأجل حال دون الأمل وقال سعيد بن جبير يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر وقال مجاهد { يحول بين المرء وقلبه } يعني يدركه ولا يفعله ثم قال { وأنه إليه تحشرون } يعني في الآخرة فتثابون بأعمالكم

٢٥

قوله تعالى { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } قال مقاتل نزلت الآية في شأن علي وطلحة والزبير قال الفقيه حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا قبيصة عن سفيان عن جويبر عن الضحاك في قوله تعالى { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } قال نزلت في شأن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم قال حدثنا عمر بن محمد قال حدثنا أبو بكر الواسطي قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن السدي عن المعلى عن أبي ذر أن عمر أخذ بيده يوما فغمزها فقال خل عني يا قفل الفتنة فقال عمر ما قولك قفل الفتنة قال إنك جئت ذات يوم فجلست آخر القوم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تصيبنكم فتنة ما دام لهذا فيكم وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال جعلت أنا وعثمان فتنة لهذه الأمة

وقال بعضهم قوله { لا تصيبن الذين ظلموا منكم } خاصة يعني لا تعرضوا الذين ظلموا منكم خاصة لما ينزل بهم

وقال بعضهم هذا جواب الأمر بلفظ النهي مثل قوله تعالى { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } [ النمل : ١٨ ]

ثم قال تعالى { واعلموا أن اللّه شديد العقاب } أي لمن وقع في الفتنة ثم ذكرهم النعم

٢٦

 فقال { واذكروا إذ أنتم قليل } يعني واحفظوا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم قليلا في العدد وهم المهاجرون والأنصار { مستضعفون في الأرض } يعني مقهورون في أرض مكة { تخافون أن يتخطفكم الناس } يعني يختلسكم الناس ويذهب بكم الكفار وهم أهل فارس والروم { فآواكم } بالمدينة { وأيدكم } يعني وقواكم وأعانكم { بنصره } يوم بدر وقال قتادة كانوا بين أسدين قيصر وكسرى { تخافون أن يتخطفكم الناس } وهم أهل فارس والروم والعرب ممن حول مكة

ثم قال { ورزقكم من الطيبات } يعني الحلال وهو الغنيمة { لعلكم تشكرون } يعني لكي تشكروا اللّه وتطيعوه وتعرفوا ذلك منه

٢٧

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول } روى أسباط عن السدي قال كانوا يسمعون من النبي عليه السلام الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهاهم اللّه عن ذلك فقال { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول } ويقال كل رجل مؤتمن على ما فرض اللّه عليه إن شاء أداها وإن شاء خانها وقال القتبي الخيانة أن يؤتمن على شيء فلا يؤدي إليه ثم سمى العاصي من المسلمين خائنا لأنه قد إئتمن على دينه فخان كما قال في آية أخرى { علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم } [ البقرة : ١٨٧ ] ويقال نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة أن لا ينزلوا على حكم سعد وأشار إلى حلقه إنه الذبح وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما حاصر بني قريظة من بعد إنصرافهم من الخندق ووقف بباب الحصن وفيه ستمائة رجل من اليهود وقد كانوا ظاهروا قريشا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فناداهم يا إخوة القردة والخنازير إنزلوا على حكم اللّه ورسوله فقالت اليهود يا محمد ما كنت فحاشا قبل هذا فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر فدخل على اليهود فركنوا إليه وقالوا يا أبا لبابة أتأمرنا بالنزول إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فأشار بيده إلى حلقه يعني إنه الذبح إن نزلتم إليه فقال أبو لبابة والذي نفسي بيده ما زالت قدماي من مكاني حتى علمت أني قد خنت اللّه ورسوله وأوثق نفسه إلى سارية المسجد حتى أنزل اللّه تعالى توبته ونزل { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول } { وتخونوا أماناتكم } يعني لا تخونوا أماناتكم { وأنتم تعلمون } أنها خيانة قال محمد بن إسحاق { لا تخونوا اللّه والرسول } يعني لا تظهروا له من الحق ما يرضى عنكم ثم تخالفوه في السر فإن ذلك هلاكا لأنفسكم وخيانة لأماناتكم

٢٨

ثم قال عز وجل { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } يعني بلاء عليكم لأن أبا لبابة إنما ناصحهم من أجل ماله وولده الذي كان عند بني قريظة { وأن اللّه عنده أجر عظيم } يعني الجنة لمن صبر ولم يخن

٢٩

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اللّه } يعني إن تطيعوا اللّه ولا تعصوه { يجعل لكم فرقانا } يعني يجعل لكم مخرجا ونجاة ونصرا في الدنيا ويقال المخرج من الشبهات وقال مجاهد مخرجا في الدنيا والآخرة { ويكفر عنكم سيئاتكم } يقول يمحو عنكم ذنوبكم { ويغفر لكم } يعني يستر ذنوبكم وعيوبكم { واللّه ذو الفضل العظيم } يعني ذو الكرم والتجاوز عن عباده

٣٠

قوله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا } وذلك أن نفرا من قريش إجتمعوا في دار الندوة وكانت قريش إذا إجتمعوا للمشورة والتدبير كانوا يجتمعون في تلك الدار فاجتمعوا فيها وأغلقوا الباب لكيلا يدخل رجل من بني هاشم ليمكروا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ويحتالوا في أمره فدخل إبليس لعنه اللّه في صورة شيخ وعليه ثياب أطمار وجلس معهم فقالوا من أدخلك أيها الشيخ في خلوتنا بغير إذننا فقال أنا رجل من أهل نجد ورأيت حسن وجوهكم وطيب ريحكم فأردت أن أسمع حديثكم وأقتبس منكم خيرا وقد عرفت مرادكم فإن كرهتم مجلسي خرجت عنكم فقالوا هذا رجل من أهل نجد وليس من أرض تهامة لا بأس عليكم منه فتكلموا فيما بينهم فقال عمرو بن هشام أرى أن تأخذوه وتجعلوه في بيت وتسدوا بابه وتجعلوا له كوة لطعامه وشرابه حتى يموت فقال إبليس بئس الرأي الذي رأيت تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه يوشك أهل بيته الذين له فيكم أن يقاتلوكم ويفسدوا جماعتكم فقالوا صدق واللّه الشيخ ثم تكلم أبو البختري بن هشام قال أرى أن تحملوه على بعير ثم تخرجوه من أرضكم حتى يموت أو يذهب به حيث شاء فقال إبليس بئس الرأي الذي رأيت تعمدون إلى رجل أفسد جماعتكم ومعه منكم طائفة فتخرجوه إلى غيركم فيأتيهم سوء فيفسد منهم أيضا جماعة ويقبل إليكم ويكون فيه هلاككم فقالوا صدق واللّه الشيخ

فقال أبو جهل أرى أن يجتمع من كل بطن منكم رجل ثم تعطونهم السيوف فيضربونه جميعا فلا يدري قومه من يأخذون وتؤدي قريش ديته فقال إبليس صدق واللّه هذا الشاب فتفرقوا على ذلك فأمره اللّه تعالى بالهجرة وأخبره بمكر المشركين فنزلت هذه الآية { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } يعني ليحبسوك في البيت { أو يقتلوك } بالسيف { أو يخرجوك } من مكة فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب بأن يبيت في مكانه ثم خرج ومعه أبو بكر ونام علي مكانه وأهل مكة يحرسونه ويظنون أنه في البيت ثم دخلوا البيت فإذا هو علي رضي اللّه عنه فقالوا يا علي أين محمد فقال لا أدري فطلبوه فلم يجدوه { ويمكرون } يعني ويمكرون بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ويريدون به الشر { ويمكر اللّه } يعني ويريد بهم الهلاك حين أخرجهم إلى بدر فقتلوا { واللّه خير الماكرين } يعني أصدق الماكرين فعلا وأفضل الصانعين صنعا وأعدل العادلين عدلا

٣١

قوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا } يعني القرآن { قالوا قد سمعنا } يعني قد سمعنا قولك { لو نشاء لقلنا مثل هذا } القرآن { إن هذا إلا أساطير الأولين } نزلت في شأن نضر بن الحارث كان يحدث عن الأمم الخالية من حديث رستم وإسفنديار فقال إن الذي يخبركم محمد مثل ما أحدثكم من أحاديث الأولين وكذبهم فقال له عثمان بن مظعون إتق اللّه يا نضر فإنه ما يقول إلا حقا فقال النضر بن الحارث

٣٢

 { وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك } يعني إن كان ما يقول محمد من القرآن حقا { فأمطر علينا حجارة من السماء } قال أبو عبيدة كل شيء في القرآن أمطر فهو من العذاب وما كان من الرحمة فهو مطر وروى أسباط عن السدي قال قال النضر بن الحارث اللّهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء { أو إئتنا بعذاب أليم } فنزل { سأل سائل بعذاب واقع } [ المعارج : ١ ] فاستجيب دعاؤه وقتل في بدر

قال سعيد بن جبير قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة يوم بدر صبرا النضر بن الحارث وطعمة بن عدي وعتبة بن أبي معيط وكان النضر أسره المقداد فقال المقداد يا رسول اللّه أسيري فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم إنه كان يقول في اللّه ورسوله ما يقول فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسيري فقال اللّهم أغن المقداد من فضلك فقال المقداد هذا الذي أردت فنزل { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } وكان ذلك القول من النضر حين كان النبي صلى اللّه عليه وسلم في مكة فأخبر اللّه تعالى أنه لا يعذبهم وأنت بين ظهرانيهم حتى يخرجك عنهم كما أخرج الأنبياء قبلك عن قومهم ثم عذبهم

٣٣

ثم قال عز وجل { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } يعني يصلون للّه الصلوات الخمس وهم أهل الإيمان وقال مجاهد { وهم يستغفرون } يعني وهم مسلمون ويقال فيهم من يؤول أمره إلى الإسلام

ويقال { وهم يستغفرون } يعني وفي أصلابهم من يسلم وروي عن أبي موسى الأشعري قال كان أمانان في الأرض رفع أحدهما وبقي الآخر { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } وقال عطية { وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم } يعني المشركين حتى يخرجك منهم { وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون } يعني المؤمنين

ثم عاد إلى ذكر المشركين فقال { وما لهم إلا يعذبهم اللّه } يعني بعد ما أخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من بينهم { وهم يصدون عن المسجد الحرام } يعني يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام { وما كانوا أولياءه } يعني المشركين قال الكلبي يعني ما كانوا أولياء المسجد الحرام ويقال وما كانوا أولياء اللّه { إن أولياؤه إلا المتقون } يعني ما كان أولياء اللّه إلا المتقون من الشرك { ولكن أكثرهم لا يعلمون } توحيد اللّه

٣٤

ثم قال { وما كان صلاتهم } معناه وما لهم ألا يعذبهم اللّه { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } يعني لم تكن صلاتهم حول البيت { إلا مكاء } يعني إلا الصفير { وتصدية } يعني التصفيق باليدين إذا صلى النبي صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الحرام قرأ الأعمش { ما كان صلاتهم } بالنصب { إلا مكاء وتصدية } كلاهما بالضم وهكذا قرأ عاصم في إحدى الروايتين فجعل الصلاة خبر كان وجعل المكاء والتصدية إسم كان وقرأ الباقون { صلاتهم } بالضم فجعلوه إسم كان { ومكاء وتصدية } بالنصب على معنى خبر كان

٣٥

ثم قال { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بتوحيد اللّه تعالى فأهلكهم اللّه في الدنيا ولهم عذاب الخلود في الآخرة

٣٦

قوله تعالى { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } على عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { ليصدوا عن سبيل اللّه } يعني ليصرفوا الناس عن دين اللّه وطاعته قال ابن عباس نزلت الآية في المطعمين يوم بدر وهم الذين كانوا يطعمون أهل بدر حين خرجوا في طريقهم

قال اللّه تعالى { فسينفقونها } وكانوا ثلاثة عشر رجلا أطعموا الناس الطعام فكان على كل رجل منهم يوما منهم أبو جهل وأخوه الحارث إبنا هشام وعتبة وشيبة إبنا ربيعة ومنبه ونبيه إبنا الحجاج وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وغيرهم

يقول اللّه تبارك وتعالى { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } يعني تكون نفقاتهم عليهم حسرة وندامة لأنها تكون لهم زيادة العذاب فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم وقال مجاهد هو نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد وقال الحكم أنفق أبو سفيان على المشركين يوم أحد أربعين أوقية ذهبا { ثم يغلبون } يعني يهزمون ولا تنفعهم نفقتهم شيئا { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } يعني القتل والهزيمة لم تكن كفارة لذنوبهم فيحشرون في الآخرة إلى جهنم

٣٧

ثم قال اللّه تعالى { ليميز اللّه الخبيث من الطيب } يعني { الخبيث } من العمل و { الطيب } من العمل { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا } يعني يجمعه وهذا قول الكلبي وقال مقاتل ليميز اللّه الكافرين من المؤمنين ويجعل في الآخرة الخبيثة أنفسهم ونفقاتهم وأنفسهم فيركم بعضه على بعض جميعا { فيجعله في جهنم }

ويقال { ليميز اللّه الخبيث من الطيب } بين ونفقة المؤمنين ونفقة المشركين فيقبل نفقة المؤمنين ويثيبهم على ذلك ويجعل نفقة الكفار وبالا عليهم ويجعل ذلك سببا لعقوبتهم فتكون بها جباههم وقال القتبي { فيركمه } أي يجعله ركاما بعضه على بعض

ثم قال { أولئك هم الخاسرون } يعني المغبونين في العقوبة قرأ حمزة والكسائي { ليميز اللّه } بضم الياء مع التشديد والباقون { ليميز } بالنصب مع التخفيف ومعناهما واحد ماز يميز وميز يميز

٣٨

قوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا } يعني أبا سفيان وأصحابه وما كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة { إن ينتهوا } أي عن الشرك وعن قتال محمد وعن المؤمنين { يغفر لهم ما قد سلف } يعني يتجاوز عنهم ما سلف من ذنوبهم وشركهم { وإن يعودوا } إلى قتال محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه { فقد مضت سنة الأولين } بنصرة أوليائه وقهر أعدائه ويقال يعني القتل يحذرهم بالعقوبة لكيلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم وقال الكلبي { فقد مضت سنة الأولين } أن ينصر اللّه أنبيائه ومن آمن معهم كقوله { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } [ غافر : ٥١ ]

٣٩

ثم حث المؤمنين على قتال الكفار فقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } يعني لا يكون الشرك بمكة ويقال حتى لا يتخذوا شركاء ويوحدوا ربهم { ويكون الدين كله للّه } يعني يظهر دين الإسلام ولا يكون دين غير دين الإسلام { فإن إنتهوا } عن الشرك وعن عبادة الأوثان وقتال المسلمين { فإن اللّه بما يعملون بصير } فيثيبكم بأعمالكم

٤٠

 { وإن تولوا } يعني أبوا وأعرضوا عن الإيمان يا معشر المؤمنين { فاعلموا أن اللّه مولاكم } يعني حافظكم وناصركم

ثم قال { نعم المولى ونعم النصير } { نعم المولى } يعني الحفيظ و { نعم النصير } يعني المانع

٤١

قوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء } علمهم قسم الغنيمة وجعل أربعة أخماسها للذين أصابوها وأمر بأن يقسم الخمس على خمسة أسهم

وقال بعضهم على ستة أسهم وقال أبو العالية الرياحي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة أسهم أربعة لمن شهدها ويأخذ الخمس فيجعله على ستة أسهم سهم للّه تعالى فيجعل للكعبة وسهم للرسول وسهم لذوي القربي يعني قرابة النبي صلى اللّه عليه وسلم وسهم لليتامي وسهم للمساكين وسهم لإبن السبيل

وقال بعضهم سهم اللّه ورسوله واحد

وروى سفيان عن قيس بن مسلم قال سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله { فأن للّه خمسه } قال هذا مفتاح الكلام للّه الدنيا والآخرة

ثم قال وقد إختلف بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في سهم الرسول وسهم ذوي القربى فقال بعضهم للخليفة

وقال بعضهم لقرابة الخليفة فاجتمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل اللّه تعالى فكانا كذلك في خلافة أبي بكر وعمر وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان الخمس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم سهم اللّه ورسوله واحد ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وقسم بعد عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه أن الخمس يقسم على ثلاثة أسهم ولا يكون لأغنياء ذوي القربى شيء ويكون لفقرائهم فيه نصيب كما يكون لسائر الفقراء وكذلك يتاماهم وابن السبيل منهم

ثم قال { إن كنتم آمنتم باللّه } يجوز أن تكون متعلقة بقوله { فاعلموا أن اللّه مولاكم } إن كنتم آمنتم باللّه عز وجل ويجوز أن يكون معناه فاقبلوا ما أمرتم به من القسمة في الخمس { إن كنتم آمنتم باللّه } يعني إن كنتم صدقتم بتوحيد اللّه { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } يعني وصدقتم بما أنزلنا على محمد صلى اللّه عليه وسلم من القرآن يوم الفرقان يعني يوم بدر قال الكلبي يعني يوم النصر يوم بدر فرق بين الحق والباطل وقال مقاتل معناه وما أنزلنا من الفرقان يوم بدر فأقروا بحكم اللّه تعالى في أمر الغنيمة { يوم التقى الجمعان } يعني يوم جمع المسلمين وجمع المشركين { واللّه على كل شيء قدير } يعني على نصرة المؤمنين وهزيمة الكفار

٤٢

ثم قال اللّه تعالى { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } يعني أذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا قرأ إبن كثير وأبو عمرو { بالعدوة } بالكسر وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد وهو شفير الوادي ويقال عدوة الوادي وعدوته يعني كنتم على شاطىء الوادي مما يلي المدينة { وهم بالعدوة القصوى } يعني من الجانب الآخر مما يلي مكة { والركب أسفل منكم } يعني العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطىء البحر حين أقبلوا من الشام { ولو تواعدتم } أنتم والمشركون بالإجماع للقتال { لاختلفتم في الميعاد } أنتم والمشركون { ولكن } جمع اللّه بينكم على غير ميعاد { ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا } يعني كائنا وكان من قضائه هزيمة الكفار ونصرة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه

قوله تعالى { ليهلك من هلك عن بينة } يقول ليكفر من أراد أن يكفر بعد البيان له من اللّه تعالى { ويحيى من حي عن بينة } يقول ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من اللّه تعالى وقال الكلبي { ليهلك من هلك } على الكفر بعد البيان { ويحيي من حي } بالإيمان { عن بينة }

ويقال هذا وعيد من اللّه لأهل مكة يقول ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر حين فرقت الحق من الباطل { ويحيي } يعني يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول وأقمت عليه الحجة قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وإبن كثير في رواية شبل البزي { من حيي } بإظهار الياءين والباقون بياء واحدة وأصله بياءين إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر لأنهما من جنس واحد ثم قال { وإن اللّه لسميع عليم }

٤٣

قوله تعالى { إذ يريكهم اللّه في منامك قليلا } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بما رأى في المنام أن العدو قليل فقالوا رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم حق والقوم القليل فلما إلتقوا ببدر قلل اللّه المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم

ثم قال { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } يعني لجبنتم وتركتم الصف { ولتنازعتم في الأمر } يعني إختلفتم في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم { ولكن اللّه سلم } يعني ولكن اللّه أتم للمسلمين أمرهم على عدوهم ويقال { سلم } يعني قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين

ويقال { إذ يريكهم اللّه في منامك قليلا } يعني في عينك لأن العين موضع النوم في موضع منامك وروي عن الحسن قال معناه في عينيك التي تنام بها ثم قال { إنه عليم بذات الصدور }

٤٤

قوله تعالى { وإذ يريكموهم إذ التقيتم } يعني التقيتموهم يوم بدر { في أعينكم قليلا } في العدد وروى أبو عبيدة عن عبد اللّه بن مسعود قال لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين قال أراهم مائة حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه فقال كنا ألفا

ثم قال { ويقللكم في أعينهم } يا معشر المؤمنين في أعين المشركين وذلك حين لقوا العدو وقلل اللّه المشركين في أعين المؤمنين لكيلا يجبنوا وقلل المؤمنين في أعين المشركين ليزدادوا جرأة على القتال حتى قتلوا ولكي يظهر عندهم فضل المؤمنين { ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا } يعني إذا قضى اللّه تعالى أمرا فهو كائن وهو النصرة للمؤمنين والذل لأهل الشرك بالقتل والهزيمة { وإلى اللّه ترجع الأمور } يعني عواقب الأمور في الآخرة

٤٥

ثم ثبت المؤمنين على القتال فقال تبارك وتعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } يعني جماعة من الكفار { فاثبتوا } لهم وقاتلوهم مع نبيكم { واذكروا اللّه كثيرا } يعني في الحرب { لعلكم تفلحون } يعني تفوزون به وتؤمنون به

٤٦

ثم قال اللّه تعالى { وأطيعوا اللّه ورسوله } فيما يأمركم من القتال { ولا تنازعوا } يعني لا تختلفوا فيما بينكم من القتال { فتفشلوا } يعني فتجبنوا من عدوكم { وتذهب ريحكم } وقال مجاهد يعني نصرتكم وذهبت ريحكم يوم أحد حين نازعتموه وقال الأخفش يعني دولتكم وقال قتادة الريح الحرب وأصله في اللغة تستعمل في الدولة ويقال الريح له اليوم يراد به الدولة

ثم قال { واصبروا } يعني لقتال عدوكم { إن اللّه مع الصابرين } يعني معين لهم وناصرهم

٤٧

{ ولا تكونوا } يعني { ولا تكونوا } يا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم { كالذين خرجوا من ديارهم } معناه قاتلوا لوجه اللّه تعالى ولا تقاتلوا رياء وسمعة { بطرا } يعني أشرا ورياء وأصله الطغيان في النعمة { ورئاء الناس } يعني لكي يذكروا بمسيرهم يقولون تسامع الناس بمسيرنا وقال محمد بن إسحاق خرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا ومعهم مائتا فرس يقودونها وخرجوا ومعهم القينات يضربون بالدفوف ويتغنين بهجاء المسلمين

ثم قال { ويصدون عن سبيل اللّه } يعني يصرفون الناس عن دين الإسلام { واللّه بما يعملون محيط } يعني عالم بهم وبأعمالهم

٤٨

قوله تعالى { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } يعني مسيرهم ومعناه أن خروجهم لما كان للشيطان { زين لهم الشيطان أعمالهم } وذلك أن أهل مكة لما وجدوا العير أرادوا الرجوع إلى مكة فأتاهم إبليس على صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني فقال لهم لا ترجعوا حتى تستأصلوهم فإنكم كثير وعدوكم قليل

ثم قال { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } يعني لا يطيقكم أحد لكثرتكم وقوتكم { وإني جار لكم } يعني معين لكم وهؤلاء بنو كنانة تأتيكم وهم على أثرى { فلما تراءت الفئتان } يعني إجتمع الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين { نكص على عقبيه } يعني راجعا وراءه فقال له الحارث بن هشام أين ما ضمنت لنا { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } فقال له الحارث وهل ترى إلا جعاشيش أهل يثرب والجعاشيش جمع جعشوش وهو الرجل الحقير الدميم القصير فقال { إني أخاف اللّه واللّه شديد العقاب } قال ابن عباس خاف إبليس أن يأخذه جبريل أسيرا فيعرفه الناس فيراه الكفار فيعرفونه بعد ذلك فلا يطيعونه ولم يخف على نفسه الموت والقتل لأنه كان يعلم أن له بقاء إلى يوم ينفخ في الصور قال إبليس { إني أرى ما لا ترون } أي أرى جبريل معتجرا بردائه يقود الفرس فلما تولى قالوا هزم الناس سراقة فسار سراقة بعد رجوعهم إلى مكة وقال واللّه ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا له ألم تأتنا يوم كذا وكذا فحلف أنه لم يحضر فلما أسلموا علموا أنه كان إبليس

وقال مقاتل لم يجتمع جمع قط منذ كانت الدنيا أكثر من يوم بدر وذلك إن إبليس جاء بنفسه وحضرت الشياطين وحضر كفار الجن كلهم وتسعمائة وخمسين من المشركين وثلاثمائه عشر من المؤمنين وتسعون من مؤمني الجن وألفا من الملائكة وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه السورة كان يقول طوبى لجيش كان قائدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومبارزهم أسد اللّه وجهادهم طاعة اللّه ومددهم ملائكة اللّه وجاسوسهم أمين اللّه وثوابهم رضوان اللّه

٤٩

قوله تعالى { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } يعني شكا ونفاقا قال الحسن هم قوم من المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين وقال الضحاك نزلت في عبد اللّه بن أبي وأصحابه ويقال معناه { إذ يقول المنافقون } وهم الذين في قلوبهم مرض قال ابن عباس نزلت الآية في الذين أسلموا بمكة وتخلفوا عن الهجرة فأخرجهم أهل مكة إلى بدر كرها فلما رأوا قلة المؤمنين إرتابوا ونافقوا وقالوا لأهل مكة { غر هؤلاء دينهم } وقاتلوا مع المشركين فقتل عامتهم

يقول اللّه تعالى { ومن يتوكل على اللّه } يعني يثق باللّه ولا يثق بغيره { فإن اللّه عزيز } بالنقمة { حكيم } حكم الهزيمة على المشركين فلما قتلوا ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم

٥٠

فنزل { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا } يعني ولو ترى يا محمد إذ يتوفى الذين كفروا حين يقبض أرواحهم { الملائكة يضربون وجوههم } عند قبض أرواحهم ويضربون { وأدبارهم } يعني ويضربون ويقول لهم الملائكة يوم القيامة { ذوقوا عذاب الحريق } ولم يذكر الجواب لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما قرأ إبن عامر { إذ تتوفى } الذين بلفظ التأنيث وقرأ الباقون { يتوفى } بلفظ التذكير وروي عن إبن مسعود أنه كان يذكر الملائكة في جميع القرآن خلافا للمشركين لقولهم الملائكة بنات اللّه

٥١

ثم قال تعالى { ذلك بما قدمت أيديكم } يعني ذلك العذاب { بما قدمت أيديكم } من الكفر والتكذيب وبترككم الإيمان { وأن اللّه ليس بظلام للعبيد } يقول لم يعذبهم بغير ذنب

٥٢

ثم قال عز وجل { كدأب آل فرعون } يعني صنيعهم كصنيع آل فرعون ويقال كأشباه آل فرعون في التكذيب والجحود

 { والذين من قبلهم } من الأمم الخالية { كفروا بآيات اللّه } يعني جحدوا بعذاب اللّه في الدنيا أنه غير نازل بهم

{ فأخذهم اللّه } يعني عاقبهم وأهلكهم { بذنوبهم } وشركهم

ثم قال { إن اللّه قوي شديد العقاب } يعني { قوي } في أخذه { شديد العقاب } لمن عصاه

٥٣

قوله تعالى { ذلك } العذاب الذي نزل بهم { بأن اللّه لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } _ في الدين والنعم فإذا غيروا غير اللّه عليهم ما بهم من النعمة وهذا قول الكلبي وروى أسباط عن السدي في قوله { لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم } قال أنعم اللّه تعالى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم على أهل مكة وكفروا به فنقله إلى الأنصار

ويقال أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف فلم يشكروا فجعل لهم مكان الأمن الخوف ومكان الرخاء الجوع وهذا كقوله { وضرب اللّه مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة } إلى قوله { فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف } [ النحل : ١١٢ ] وقال الضحاك ما عذب اللّه قوما قط ولا سلبهم النعمة ولا فرق بينهم وبين العافية حتى كذبوا رسلهم فلما فعلوا ذلك ألزمهم الذل وسلبهم العز فذلك قوله تعالى { ذلك بأن اللّه لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }

ثم قال { وأن اللّه سميع عليم } { سميع } لمقالتهم { عليم } بأفعالهم

٥٤

ثم قال { كدأب آل فرعون } في الهلاك { والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم } يعني بكفرهم { وأغرقنا آل فرعون } يعني فرعون لإدعائه الربوبية ولأنهم عبدوا غيري { وكل كانوا ظالمين } يعني مشركين ومعناه كصنيع آل فرعون وقد أعطاه اللّه تعالى الملك والعز في الدنيا ولم يغير عليه تلك النعمة حتى كذب بآيات اللّه فغير اللّه عليه النعمة وأهلكه مع قومه

٥٥

قوله تعالى { إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون } قال ابن عباس نزلت في بني قريظة كعب بن الأشرف وأصحابه لأنهم عاهدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم نقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم قالوا نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد فذلك

٥٦

قوله تعالى { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } يعني في كل حين وفي كل وقت { وهم لا يتقون } نقض العهد

٥٧

قوله تعالى { فأما تثقفنهم في الحرب } يقول إن تظفر بهم في الحرب يعني في القتال ويقال إن أدركتهم في القتال { فشرد بهم } يقول نكل بهم في العقوبة { من خلفهم } يعني ليتعظ بهم من بعدهم الذي بينك وبينهم عهد ويقال إفعل بهم فعلا من العقوبة والتنكيل يفرق به من وراءهم من أعدائك وقال أبو عبيدة { فشرد بهم } إنها لغة قريش أي سمع بهم من خلفهم والتشريد في كلامهم للتشديد والتفريق { لعلهم يذكرون } يعني النكال فلا ينقضون العهد

٥٨

قوله تعالى { وأما تخافن من قوم خيانة } يعني وإن علمت من قوم نقض العهد والخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة وسمي ناقض العهد خائنا لأنه أؤتمن بالعهد فغدر ونكث { فانبذ إليهم على سواء } يعني فأعلمهم بأنك قد نقضت العهد وأعلمهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء وقال القتبي إذا أردت أن تعرف فضل العربية على غيرها فانظر في الآية وقد ترجموا سائر الكتب ومن أراد أن يترجم القرآن إلى لغة أخرى فلا يمكنه ذلك لأنك لو أردت أن تنقل قوله

{وأما تخافن من قوم خيانة } لم تستطع بهذا للفظ ما لم تبسط مجموعها وتظهر مستورها فتقول إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء

ثم قال { إن اللّه لا يحب الخائنين } يعني الناقضين للعهد

٥٩

قوله تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا } يعني لا يظنن الذين كفروا من العرب وغيرهم من الذين جحدوا بوحدانية اللّه تعالى { سبقوا } يعني فاتوا بأعمالهم الخبيثة { إنهم لا يعجزون } يقول لن يفوتوا اللّه حتى يعاقبهم ويقال لا يجدون اللّه تعالى عاجزا عن عقوبتهم قرأ إبن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص { ولا يحسبن } بالياء على وجه المغايبة ونصب السين وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { ولا تحسبن } بالتاء على وجه المخاطبة ونصب السين وقرأ الباقون على وجه المخاطبة وكسر السين وقرأ إبن عامر { أنهم } بالنصب على معنى البناء وقرأ الباقون بالكسر على معنى الإبتداء فمن قرأ بالنصب معناه لأنهم لا يعجزون يعني لا يفوتون وقرأ بعضهم بكسر النون { لا يعجزون } يعني لا يعجزونني وهي قراءة شاذة

٦٠

قوله تعالى { وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة } يعني السلاح وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ على المنبر { وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة } قال ألا إن القوة الرمي ثلاثا وفي خبر آخر زيادة لهو المؤمن في الخلاء وقوته عند القتال وروي عن عكرمة قال أي ثلاثا { وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة } قال الحصون { ومن رباط الخيل } قال الإناث من الخيل

ثم قال { ترهبون به } يعني تخوفون بالسلاح { عدو اللّه وعدوكم } يعني كفار العرب { وآخرين من دونهم } يعني بني قريظة { لا تعلمونهم } يعني لا تعرفونهم { اللّه يعلمهم } يعني يعرفهم ويعرفكم فأعدوا لهم أيضا وقال مقاتل { وآخرين من دونهم } أي من دون كفار العرب يعني اليهود وقال السدي { وآخرين من دونهم } أهل فارس

ثم قال { وما تنفقوا من شيء في سبيل اللّه } يعني السلاح والخيل { يوف إليكم } ثوابه { وأنتم لا تظلمون } أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم ويقال إن الجن لا يدخل في بيت فيه قوس وسهام

٦١

قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم } يقول إن أرادوا الصلح ومالوا إليه { فاجنح لها } يعني مل إليها وأرده يعني صالحهم قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وإن جنحوا للسلم } بالكسر وقرأ الباقون بالنصب { وتوكل على اللّه } يعني ثق باللّه وإن نقضوا العهد والصلح فإني أنصرك ولا أخذلك { إنه هو السميع العليم } يعني { السميع } بمقالتهم { العليم } بنقض العهد

قال الفقيه إنما يجوز الصلح إذا لم يكن للمسلمين قوة القتال فأما إذا كان للمسلمين قوة فلا ينبغي أن يصالحوهم وينبغي أن يقاتلوهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية إن لم يكونوا من العرب وإنما لم توضع الجزية على العرب وتوضع على غير العرب حتى لا تبقى بقية الكفر في أنساب النبي صلى اللّه عليه وسلم لأن العرب كلهم من نسبه ولا توضع حتى يسلموا أو يقتلوا وإنما أمر اللّه تعالى نبيه بالصلح حين كانت الغلبة للمشركين وكانت بالمسلمين قلة

٦٢

ثم قال اللّه تعالى { وإن يريدوا أن يخدعوك } بالصلح يعني يهود بني قريظة أرادوا أن يصالحوك لتكف عنهم حتى إذا جاء مشركو العرب أعانوهم عليك

قال اللّه تعالى { فإن حسبك اللّه } يعني إن أرادوا إن يخدعوك حسبك اللّه بالنصرة لك { هو الذي أيدك } وأعانك وقواك { بنصره وبالمؤمنين } يعني الأنصار وهم قبيلتان الأوس والخزرج

٦٣

قوله تعالى { وألف بين قلوبهم } يعني لين قلوبهم من العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم } يعني ما قدرت أن تؤلف بينهم { ولكن اللّه ألف بينهم } بالإسلام { إنه عزيز حكيم } حكم بالألفة بين الأنصار بعد العداوة وحكم بالنصر على أعدائه

وروى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود قال نزلت هذه الآية في المتحابين في اللّه { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن اللّه ألف بينهم } وقال عبد اللّه المؤمن متألف يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف

٦٤

قوله تعالى { يا أيها النبي حسبك اللّه } بالنصر والعون لك { ومن إتبعك من المؤمنين } قال بعضهم { من } في موضع الرفع ومعناه حسبك من إتبعك من المؤمنين خاصة وهم الأنصار ويقال يعني عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ويقال هذه الآية خاصة من هذه السورة نزلت بمكة حين أسلم عمر وكان المسلمون تسعة وثلاثين فلما أسلم عمر رضي اللّه عنه تم أربعون وظهر الإسلام بمكة بإسلام عمر

وقال بعضهم { من } في موضع النصب يعني حسبك ومن إتبعك من المؤمنين وقال الضحاك ومن إتبعك من المؤمنين حسبهم اللّه وهو ناصرهم في الدنيا والآخرة

٦٥

ثم قال عز وجل { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } يعني حثهم على قتال الكفار { إن يكن منكم عشرون صابرون } يعني محتسبين في الجهاد { يغلبوا مائتين } يعني يقاتلون مائتين ويثبتوا على القتال لينصرهم اللّه { وإن يكن منكم مئة } صابرة يعني محتسبة { يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } أمر اللّه تعالى وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفا يوم بدر جعل على كل رجل منهم قتال عشرة فرفعوا أصواتهم بالدعاء فضجوا فجعل على كل رجل قتال رجلين تخفيفا من اللّه وهو

٦٦

قوله تعالى { الآن خفف اللّه عنكم } يعني هون اللّه عليكم القتال الذي إفترض اللّه عليكم يوم بدر { وعلم أن فيكم ضعفا } يعني عجزا عن القتال { فإن يكن منكم مائة صابرة } يعني محتسبة صادقة { يغلبوا مائتين } من المشركين { وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } من المشركين { بإذن اللّه } يعني بأمر اللّه تعالى وبنصرته { واللّه مع الصابرين } بالنصرة لهم على عدوهم

وقال مقاتل لم تكن فريضة ولكن كان تحريضا فلم يطق المؤمنون فخفف اللّه عنهم بعد قتال بدر فنزل { الآن خفف اللّه عنكم } وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال فرض على المسلمين أن لا يفر رجل من عشرة ولا عشرة من مائة فجهد الناس وشق عليهم فنزلت هذه الآية { الآن خفف اللّه عنكم } ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين ولا قوم من مثلهم فنقص من النصرة بقدر ما نقص من العدد

وروى عطاء عن ابن عباس قال من فر من رجلين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر قال الفقيه إذا لم يكن معه سلاح ومع الآخر سلاح جاز له أن يفر لأنه ليس بمقاتل

٦٧

قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } يقول ما ينبغي وما يجوز للنبي أن يبيع الأسارى يقول لا يقبل الفدية عن الأسارى ولكن السيف { حتى يثخن في الأرض } يعني حتى يغلب في الأرض على عدوه قرأ إبن كثير ونافع وإبن عامر { فإن تكن } كلاهما بالتاء بلفظ التأنيث لأن لفظ جماعة العدد مؤنث وقرأ أبو عمرو الأولى خاصة بالياء والأخرى بالتاء وقرأ الباقون كلاهما بالتاء بلفظ التذكير لأن الفعل مقدم وقرأ حمزة وعاصم { وعلم أن فيكم ضعفا } بنصب الضاد وجزم العين وقرأ الباقون بضم الضاد ومعناهما واحد ضعف وضعف وهما لغتان وقرأ بعضهم { ضعفا } بضم الضاد ونصب العين وهي قراءة أبي جعفر المدني يعني عجزة

قوله تعالى { تريدون عرض الدنيا } يعني الفداء وروي عن ابن عباس قال لما أسروا الأسارى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما ما ترون في هؤلاء الأسارى قال أبو بكر يا رسول اللّه هم بنو العم والعشيرة أرى لهم أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا عدة على الكفار ولعل اللّه يهديهم الإسلام وقال عمر أرى أن تمكننا منهم فنضرب أعناقهم فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل ما قال أبو بكر قال عمر فلما كان من الغد جئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت يا رسول اللّه من أي شيء تبكي فقال أبكي للذي عرض علي لأصحابك من أخذهم الفداء فنزل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى }

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه أحد غير عمر قرأ أبو عمرو { أن تكون له أسرى } بلفظ التأنيث والباقون بالياء بلفظ التذكير لأن الفعل مقدم

ثم قال { واللّه يريد الآخرة } يعني عزة الدين { واللّه عزيز } في ملكه { حكيم } في أمره

٦٨

قوله تعالى { لولا كتاب من اللّه سبق } يقول لولا أن اللّه أحل الغنائم لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم { لمسكم فيما أخذتم } يعني لأصابكم فيما أخذتم من الفداء { عذاب عظيم } ثم طيبها وأحلها لهم فقال { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤوس قبلكم كان تنزل نار من السماء فتأكلها حتى كان بدر فوقعوا في الغنائم فأحلت لهم فأنزل اللّه تعالى { لولا كتاب من اللّه سبق } وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي بعثت إلى الناس كافة ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وجعلت لي شفاعة لأمتي يوم القيامة وللآية وجه آخر روى الضحاك في قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } وذلك أنه لما كان يوم بدر ووقعت الهزيمة على المشركين أسرع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أخذ أسلاب المشركين ممن قتل يوم بدر وأخذ الغنائم وفداء الأسرى وشغلوا أنفسهم بذلك عن القتال فقال عمر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه ألا ترى إلى ما يصنع أصحابك تركوا قتال العدو وأقبلوا على أسلابهم وإني أخاف أن تعطف عليهم خيل من خيل المشركين فنزل { تريدون عرض الدنيا } يعني أتطلبون الغنائم وتتركون القتال { واللّه يريد الآخرة } يعني قهر المشركين وإظهار الإسلام { واللّه عزيز حكيم }

قوله تعالى { لولا كتاب من اللّه سبق } يعني لولا ما سبق من الكتاب أن الغنائم تحل لهذه الأمة لأصابكم { عذاب عظيم } وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لو نزل من السماء عذاب ما نجا أحد غير عمر لأنه لم يترك القتال

وروى مجاهد عن ابن عباس قال { لولا كتاب من اللّه سبق } قال سبقت من اللّه الرحمة لهذه الأمة قبل أن يعملوا بالمعصية وقال الحسن سبقت المغفرة لأهل بدر وعن الحسن أنه قال { لولا كتاب من اللّه سبق } قال في الكتاب السابق من اللّه تعالى أن لا يعذب قوما إلا بعد قيام الحجة عليهم وقال سعيد بن جبير لولا ما سبق لأهل بدر من السعادة { لمسكم فيما أخذتم } من الفداء { عذاب عظيم}

ويقال { لولا كتاب من اللّه سبق } أن لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون

٦٩

ثم قال تعالى { واتقوا اللّه } يعني إتقوا اللّه فيما أمركم به ولا تعصوه { إن اللّه غفور } متجاوز يعني ذو تجاوز فيما أخذتم من الغنيمة قبل حلها { رحيم } إذ أحلها لكم

٧٠

قوله تعالى { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } قرأ أبو عمرو { من الأسارى } بالضم وزيادة الألف وقرأ الباقون { الأسرى } بالنصب وبغير الألف فمن قرأ بالأسرى فهو جماعة الأسير يقال أسير وأسرى مثل جريح وجرحى ومريض ومرضى وقتيل وقتلى من قرأ بالأسارى فهو جمع الجمع ويقال هما لغتان بمعنى واحد وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما وضع الفداء على كل إنسان من الأسارى أربعين أوقية من ذهب فكان مع العباس عشرون أوقية من ذهب فأخذ منه ولم يحسبها من فدائه وكان قد خرج بها معه ليطعم بها أهل بدر من المشركين لأنه كان أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وقد جاءت توبته فأراد أن يطعمهم فاقتتلوا يومئذ فلم يطعمهم حتى أخذ وأخذ ما معه فكلم العباس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل العشرين أوقية من فدائه فأبى عليه وقال هذا شيء خرجت لتستعين به علينا فلا أتركه لك فوضع عليه فداءه وفداء إبن أخيه عقيل فقال العباس أتترك عمك يسأل الناس بكفه فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أين الذهب الذي أعطيت لأم الفضل وقلت لها كيت وكيت فقال له من أعلمك بهذا يا إبن أخي قال اللّه أخبرني فأسلم العباس وأمر إبن أخيه أن يسلم فنزل { قل لمن في أيديكم من الأسرى } يعني العباس وابن أخيه { إن يعلم اللّه في قلوبكم خيرا } يعني معرفة وصدقا وإيمانا كقوله { لن يؤتيهم اللّه خيرا } [ هود : ٣١ ] يعني إيمانا { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } يعني يعطيكم في الدنيا من الفداء { ويغفر لكم } ذنوبكم { واللّه غفور } لما كان في الشرك { رحيم } به في الإسلام

روى سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بعث العلاء بن الحضرمي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفا ما أتاه من مال أكثر منه لا قبل ولا بعد قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمثل على المال قائما وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا قبضا قال فجاء العباس فقال يا رسول اللّه أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ولم يكن لعقيل مال فأعطني من هذا المال فقال خذ من هذا المال فحثى في خميصته فأراد أن يقوم فلم يستطع فرفع رأسه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إرفع علي فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أعد من المال طائفة وقم بما تطيق قال ففعل فجعل العباس يقول وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا اللّه فقد أنجزها فلا ندري ما يصنع في الأخرى وهو قوله { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم واللّه غفور رحيم } وعن أبي صالح أنه قال رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبدا كل واحد منهم يتجر بعشرة آلاف قال العباس أنجزني اللّه أحد الوعدين فأرجو أن ينجز الوعد الثاني ويقال { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } يعني الجنة

٧١

قوله تعالى { وإن يريدوا خيانتك } يعني خلافك ويميلوا إلى الكفر بعد إسلامهم { فقد خانوا اللّه من قبل } يعني عصوا اللّه وكفروا من قبل { فأمكن منهم } يعني فأمكنك منهم وأظهرك عليهم يوم بدر حتى قهرتهم وأسرتهم { واللّه عليم } بخلقه { حكيم } حيث أمكنك عليهم يعني إن خانوك أمكنك منهم لتفعل بهم مثل ما فعلت من قبل

٧٢

قوله تعالى { إن الذين آمنوا } يعني صدقوا بتوحيد اللّه وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن { وهاجروا } من مكة إلى المدينة { وجاهدوا } العدو { بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه } يعني في طاعته وفيما فيه رضاء اللّه

ثم ذكر الأنصار فقال { والذين آووا ونصروا } يعني آووا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونصروه والمهاجرين يعني أنزلوهم وأسكنوهم ديارهم ونصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف { أولئك بعضهم أولياء بعض } يعني في الميراث وفي الولاية ليرغبهم في الهجرة فريضة في ذلك الوقت

ثم قال { والذين آمنوا ولم يهاجروا } إلى المدينة { ما لكم من ولايتهم من شيء } في الميراث قرأ حمزة { ولايتهم } بكسر الواو وقرأ الباقون { ولايتهم } بالنصب يعني النصرة ومن قرأ بالكسر فهو من الإمارة والسلطان ثم قال { حتى يهاجروا } يعني إلى المدينة قالوا يا رسول اللّه هل نعينهم إذا إستعانوا بنا على المشركين يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا

قال اللّه تعالى { وإن إستنصروكم في الدين } يعني إستغاثوا بكم على المشركين فانصروهم { فعليكم النصر } على من قاتلهم { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } يعني إلا أن يقاتلوا قوما بينكم وبينهم ميثاق عهد فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم { واللّه بما تعملون بصير } في العون والنصرة

٧٣

قوله تعالى { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } يعني في الميراث يرث بعضهم من بعض { إلا تفعلوه } يعني إن لم تفعلوا يعني ولاية المؤمن للمؤمن والكافر للكافر { تكن فتنة في الأرض } يعني بلية { وفساد كبير } يعني سفك الدماء فافعلوا ما أمرتم واعرفوا أن الولاية في الدين وقال الضحاك { والذين كفروا } يعني كفار مكة وكفار ثقيف { بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه } يعني إن لم تطيعوا اللّه في قتل الفريقين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وقال مقاتل وفي الآية تقديم ومعناه وإن إستنصروكم في الدين فعليكم النصر { إلا تفعلوه } يعني إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين { تكن فتنة في الأرض } يعني كفر وفساد كبير في الأرض

٧٤

ثم قال { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والذين آووا } يعني أنزلوا وأوطنوا ديارهم المهاجرين { ونصروا } النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنما سمي المهاجرون مهاجرين لأنهم هجروا قومهم وديارهم { أولئك هم المؤمنون حقا } يعني صدقا { لهم مغفرة ورزق كريم } يعني ثواب حسن في الجنة

٧٥

ثم قال تعالى { والذين آمنوا من بعد وهاجروا } يعني من بعد المهاجرين { وجاهدوا معكم فأولئك منكم } يعني على دينكم { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } يعني في الميراث من المهاجرين والأنصار

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي آخى بينهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرثه أخاه فنسخ ذلك قوله { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض }

وروى محمد بن سالم عن الشعبي قال كان عبد اللّه بن مسعود لا يعطي مولى نعمة مع ذي رحم شيئا ويتأول هذه الآية { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض }

وروى الحسن بن صالح عن ابن عباس أنه قال هيهات هيهات أين ذهب عبد اللّه بن مسعود إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزل { أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض }

ثم قال { في كتاب اللّه } يعني في حكم اللّه كقوله تعالى { كتب اللّه لأغلبن } [ المجادلة : ٢١ ] يعني حكم اللّه تعالى ويقال { في كتاب اللّه } مبين في القرآن

ويقال { في كتاب اللّه } يعني في اللوح المحفوظ { إن اللّه بكل شيء عليم } من قسمة المواريث { عليم } بما فرض اللّه من المواريث واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد

﴿ ٠