سورة التوبة

مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال ابن عباس كلها مدنية وقال مقاتل كلها مدنية إلا قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } الآية قال الفقية حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الماسرخسي قال حدثنا إسحاق قال أخبرني أسامة قال حدثنا عوف بن أبي جميلة قال حدثني يزيد الفارسي وهو كتاب ابن عباس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرأتموهما معا ولم تكتبوا بينهما سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال فقال عثمان كان النبي صلى اللّه عليه وسلم تنزل عليه السورة ذوات العدد فكان إذا نزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب له ويقول ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة وكانت براءة في آخر القرآن وكانت قصتهما يشبه بعضها بعضا فظننت أنها منها وقبض النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم

وذكر عن الكلبي أنه قال براءة من الأنفال فلذلك لم يكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم وهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وروي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذلك فقال لأنها نزلت في السيف وليس في السيف أمان وبسم اللّه الرحمن الرحيم من الأمان وروي عن عائشة أنها قالت نسي الكاتب أن يكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم في أول هذه السورة فتركت على حالها

١

قوله تعالى { براءة من اللّه ورسوله } أي تبرؤ من اللّه ورسوله لمن كان له عهد من المشركين من ذلك العهد ويقال { براءة } أي قطع من اللّه ورسوله إلى من كان له عهد في المشركين من ذلك العهد ويقال هذه السورة { براءة من اللّه ورسوله } ويقال هذه الآية { براءة من للّه ورسوله } { إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقال ابن عباس البراءة نقض العهد { إلى الذين عاهدتم من المشركين } يقول من كان بينه وبين رسول اللّه عهد فقد نقضه وذلك أن المشركين نقضوا عهودهم قبل الأجل وأمر اللّه تعالى نبيه فيمن كان له عهد أربعة أشهر أن يقره إلى أن يمضي أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من ذلك أن يحطه إلى أربعة أشهر

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال أقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر وعليا فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يجتمعون بها فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم ثم لا عهد لهم فذلك

٢

 قوله تعالى { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } يعني فسيروا في الأرض أربعة أشهر آمنين غير خائفين { واعلموا أنكم غير معجزي اللّه } يعني غير سابقي اللّه بأعمالكم وغير فائتين بعد الأربعة الأشهر ومعناه إنكم وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر إنكم لن تفوتوا اللّه { وأن اللّه } يعني واعلموا أن اللّه { مخزي الكافرين } يعني مذل الكافرين ويقال معذب الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار

٣

ثم قال عز وجل { وأذان من اللّه ورسوله } يعني إعلام من اللّه ورسوله وروي عن أبي هريرة أنه قال كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ببراءة فقيل ما كنتم تنادون قال كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر فإذا مضت أربعة أشهر فإن اللّه بريء من المشركين ورسوله ولا يحج بعد العام مشرك

ويقال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر ومعه عشر آيات وأمره أن يقرأها على أهل مكة ثم بعث عليا وأمره أن يقرأ هذه الآيات ويقال إنما أمر عليا بالقرآن لأن أبا بكر كان خفيض الصوت وكان علي جهوري الصوت فأراد أن يقرأ علي حتى يسمعوا جميعا فذلك

قوله تعالى { وأذان من اللّه ورسوله } { إلى الناس يوم الحج الأكبر } وروى الأعمش عن عبد اللّه بن

أبي سنان قال خطبنا المغيرة بن شعبة يوم النحر وقال هذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر وقال الحسن إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر فاجتمع فيها المسلمون والمشركون ووافق أيضا عيد اليهود والنصارى فلذلك سمي الحج الأكبر لإجتماع المسلمين والمشركين في ذلك اليوم

وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال الحج الأكبر يوم النحر وروي عن قيس بن مخرمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الحج الأكبر يوم عرفة وإنما سمي يوم عرفة يوم الحج الأكبر لأنه يوقف بعرفة ويقال الحج الأكبر هو الحج والحج الأصغر هو العمرة كما قال ابن عباس العمرة هي الحجة الصغرى وقال إبن أبي أوفى يوم الحج الأكبر يوم إهراق الدماء وحلق الشعر وهو يوم النحر

{ أن اللّه بريء من المشركين ورسوله } يعني ورسوله أيضا بريء من المشركين وقرأ بعضهم { ورسوله } بنصب اللام ومعناه أن رسوله بريء من المشركين وهي قراءة شاذة

ثم قال { فإن تبتم } يعني رجعتم من الكفر { فهو خير لكم } من الإقامة عليه { وإن توليتم } يعني أبيتم الإسلام وأقمتم على الكفر وعبادة الأوثان { فاعلموا أنكم غير معجزي اللّه } يعني لن تفوتوا من عذابه

ثم قال { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } وهو القتل في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ثم إستثنى الذين لم ينقضوا العهد

٤

 فقال { إلا الذين عاهدتم من المشركين } وهم بنو كنانة وبنو ضمرة { ثم لم ينقصوكم شيئا } من عهودكم { ولم يظاهروا } يقول ولم يعاونوا { عليكم أحدا } { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } يعني إلى تمام أجلهم { إن اللّه يحب المتقين } الذين يتقون نقض العهد

٥

قوله تعالى { فإذا إنسلخ الأشهر الحرم } يقول إذا مضى الأشهر التي جعلتها أجلهم { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } في الحل والحرم يعني المشركين الذين لا عهد لهم بعد ذلك الأجل

ويقال إن هذه الآية { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } نسخت سبعين آية في القرآن من الصلح والعهد والكف مثل قوله { قل لست عليكم بوكيل } [ الأنعام : ٦٦ ] وقوله { لست عليهم بمصيطر } [ الغاشية : ٢٢ ] وقوله { فأعرض عنهم } [ النساء : ٦٣ ] وقوله { لكم دينكم ولي دين} [ الكافرون : ٦ ] وما سوى ذلك من الآيات التي نحو هذا صارت كلها منسوخة بهذه الآية

قوله تعالى { وخذوهم } يعني إئسروهم وشدوهم بالوثاق { واحصروهم } يعني إن لم تظفروا بهم فاحصروهم في الحصن والحصار قال الكلبي يعني واحبسوهم عن البيت الحرام أن يدخلوه وقال مقاتل { واحصروهم } يعني إلتمسوهم { واقعدوا لهم كل مرصد } يعني أرصدوا لهم بكل طريق وقال الأخفش يعني إقعدوا لهم على كل مرصد وكلمة على محذوفة من الكلام ومعناه واقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه { فإن تابوا } من الشرك { وأقاموا الصلاة } يعني وأقروا بالصلاة { وآتوا الزكاة } يعني وأقروا بالزكاة المفروضة { فخلوا سبيلهم } يعني أتركوهم ولا تقتلوهم { إن اللّه غفور رحيم } يعني { غفور } لما كان من الذنوب في الشرك { رحيم } بهم بعد الإسلام

فقال رجل من المشركين يا علي إن أراد رجل منا بعد إنقضاء الأجل أن يأتي محمدا ويسمع كلامه أو يأتيه لحاجة أيقتل فقال علي لا

٦

قال اللّه تعالى { وإن أحد من المشركين إستجارك } يعني إستأمنك ويقال فيه تقديم ومعناه وإن إستجارك أحد من المشركين يقول وإن طلب أحد من المشركين منك الأمان { فأجره } يقول فآمنه { حتى يسمع كلام اللّه } يعني إعرض عليه القرآن حتى يسمع قراءتك بكلام اللّه فإن أبى أن يسلم { ثم أبلغه مأمنه } يقول فرده إلى مأمنه من حيث أتاك { ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } يعني أمرتك بذلك لأنهم قوم لا يعلمون حكم اللّه تعالى وفي الآية دليل أن حربيا لو دخل دار الإسلام على وجه الأمان يكون آمنا ما لم يرجع إلى مأمنه

٧

ثم قال على وجه التعجب { كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه ورسوله } ويقال على وجه التوبيخ يعني لا يكون لهم عهد عند اللّه ولا عند رسوله ثم إستثنى فقال { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } يعني بني كنانة وبني ضمرة وهم لم ينقضوا العهد فأمر اللّه تعالى بإتمام عهدهم ويقال هم بنو خزاعة وبنو مدلج وبنو خزيمة { فما إستقاموا لكم } على وفاء العهد { فاستقيموا لهم } بالوفاء على التمام { إن اللّه يحب المتقين } الذين يتقون ربهم ويمتنعون عن نقض العهد

٨

قوله تعالى { كيف وإن يظهروا عليكم } يقول كيف تقاتلوهم ويقال كيف يكون لهم عهد وقد سبق في الكلام ما يدل على هذا الإضمار { وأن يظهروا عليكم } يقول يغلبوا عليكم ويظفروا بكم { لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة } يعني لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا وقال سعيد بن جبير الإل هو اللّه تعالى وقال ابن عباس الإل القرابة والذمة والعهد { يرضونكم بأفواههم } يعني بألسنتهم مثل قول المنافقين { وتأبي قلوبهم } يعني وتنكر قلوبهم يقولون قولا بغير حقيقة { وأكثرهم فاسقون } يعني عاصون بنقض العهد

٩

قوله تعالى { إشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا } قال مقاتل باعوا الإيمان بعرض من الدنيا وذلك أن أبا سفيان كان يعطي الناقة والطعام والشيء ليصد بذلك الناس عن متابعة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال الكلبي { إشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا } يقول كتموا صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم بشيء من الماكلة يأخذونه من السفلة { إنهم ساء ما كانوا يعملون } يعني بئسما كانوا يعملون بصدهم الناس عن دين اللّه

١٠

قوله تعالى { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } يعني لا يحفظون في المؤمنين قرابة ولا عهدا { وأولئك هم المعتدون } بنقض العهد وترك أمر اللّه تعالى

١١

قوله تعالى { فإن تابوا } من الشرك { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني أقروا بهما { فإخوانكم في الدين } يعني هم مؤمنون مثلكم { ونفصل الآيات } يعني نبين العلامات { لقوم يعلمون } أنه من اللّه تعالى

١٢

قوله تعالى { وإن نكثوا أيمانهم } يعني نقضوا عهودهم { من بعد عهدهم } يعني بعد أجله { وطعنوا في دينكم } يقول وعابوا في دينكم الإسلام { فقاتلوا أئمة الكفر } يعني قادة أهل الكفر ورؤساءهم { إنهم لا أيمان لهم } قرأ إبن عامر لا { إيمان } بالكسر وهي قراءة الحسن البصري يعني لا إسلام لهم والباقون { لا أيمان } بالنصب يعني لا عهد لهم قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { أئمة } بهمزة واحدة والباقون بهمزتين ثم قال { لعلهم ينتهون } يعني لعلهم ينتهون عن نقض العهد

١٣

ثم حث المؤمنين على قتال كفار قريش وذلك قبل فتح مكة فقال عز وجل { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } يقول نقضوا عهودهم من قبل أجلها { وهموا بإخراج الرسول } يقول هموا لقتال الرسول { وهم بدؤوكم أول مرة } بنقض العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة { أتخشونهم } أي أفلا تقاتلونهم { فاللّه أحق أن تخشوه } في ترك أمره { إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مصدقين بوعد اللّه تعالى

ثم وعد لهم النصرة فقال { قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم } يعني بالقتل والهزيمة { ويخزهم } يعني ويذلهم بالهزيمة { وينصركم عليهم } يعني على قريش { ويشف صدور قوم مؤمنين } يعني ويفرح قلوب بني خزاعة وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لأن اللّه تعالى قد وعد المؤمنين على لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعذب الكفار بأيديهم ويخزهم وينصركم عليهم فأنجز وعده ولم يظهر خلاف ما وعد لهم

قال الفقيه حدثنا أبي قال حدثنا أحمد بن يحيى السمرقندي قال حدثنا محمد بن الحسن الجوى باري قال حدثنا حماد بن زيد عن عكرمة قال لما واعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل مكة وقد كانت بنو خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجاهلية وكان بنو بكر حلفاء قريش فدخلت بنو خزاعة في صلح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودخلت بنو بكر في صلح قريش ثم كان بين بني خزاعة وبين بني بكر قتال فأمدت قريش بني بكر بسلاح وطعام وظلوا عليهم ثم إن قريشا خافوا أن يكونوا قد نقضوا العهد وغدروا فقالوا لأبي سفيان إذهب إلى محمد وجدد الحلف ثانيا فليس في قوم أطعموا قوما ما يكون فيه نقض عهد يعني إن الذي أطعم الطعام فلا يكون عليه نقض عهد فانطلق أبو سفيان في ذلك فلما قصد أبو سفيان المدينة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد جاءكم أبو سفيان وسيرجع راضيا بغير قضاء حاجته فلما قدم أبو سفيان المدينة أتى أبا بكر فقال يا أبا بكر جدد الحلف وأصلح بين الناس فقال له أبو بكر الأمر إلى اللّه وإلى رسوله ثم أتى عمر فقال له نحو ما قال لأبي بكر فقال له عمر أن نقضتم أن نقضتم فما كان منه جديدا فأبلاه اللّه وما كان منه متينا أو شديدا فقطعه اللّه تعالى فقال له أبو سفيان ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة يعني شاهدا على هلاك قومه مثلك ثم أتى فاطمة فقال لها يا فاطمة هل لك في أمر تسودين فيه نساء قريش

ثم قال لها نحو ما قال لأبي بكر وعمر فقالت الأمر إلى اللّه وإلى رسوله ثم أتى عليا فذكر له نحوا من ذلك فقال له علي ما رأيت كاليوم رجلا أضل منك أنت سيد الناس فجدد الحلف وأصلح بين الناس فضرب أبو سفيان يمينه على يساره فقال أجرت الناس بعضهم من بعض ثم رجع إلى قومه فأخبرهم بما صنع فقالوا ما رأينا كاليوم وافد قوم واللّه ما جئتنا بصلح فنأمن ولا بحرب فنحذر وقدم وافد بني خزاعة على النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة فقال في ذلك شعرا

( اللّهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا )

( إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا )

( وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا )

( هم بيتونا بالوتين هجدا وقتلونا ركعا وسجدا )

( إسلامنا قد صح لم ننزع يدا فانصر رسول اللّه نصرا أعتدا )

( وابعث جنود اللّه تأتي مددا فيهم رسول اللّه قد تجردا )

فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالرحيل وروي في خبر آخر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال واللّه لأغزون قريشا واللّه لأغزون قريشا وقال واللّه لا نصرت إن لم أنصركم فخرج إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل ثم رجعنا إلى حديث عكرمة قال فتجهزوا وأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالناس حتى نزلوا برمال الظهران فخرج أبو سفيان من مكة فرأى العسكر والنيران فقال ما هذه فقيل هؤلاء بنو تميم فقال واللّه هؤلاء أكثر من أهل منى فلما علم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنكر وأقبل يقول دلوني على العباس فأتاه فانطلق به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أدخله عليه فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا سفيان أسلم تسلم فقال أبو سفيان كيف أصنع باللات والعزى

قال حماد بن زيد حدثني أبو الخليل عن سعيد بن جبير أن عمر قال وهو خارج من القبة وفي عنقة السيف أخر عليهما أما واللّه لو كنت خارجا عن القبة ما سألت عنهما أبدا

قال من هذا فقالوا عمر بن الخطاب فأسلم أبو سفيان فانطلق به العباس إلى منزله فلما أصبح رأى الناس قد تحركوا للوضوء والصلاة فقال أبو سفيان للعباس يا أبا الفضل أو أمروا في بشيء قال لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فتوضأ ثم إنطلق به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الصلاة قاموا فلما كبر كبروا فلما ركع ركعوا فلما سجد سجدوا فقال أبو سفيان يا أبا الفضل ما رأيت كاليوم طاعة قوم لا فارس الأكارم والروم ذات القرون

قال حماد بن زيد فزعم يزيد بن حازم عن عكرمة أنه قال يا أبا الفضل أصبح إبن أخيك عظيم الملك فقال له العباس إنه ليس بملك ولكن نبوة قال هو ذاك فقال حماد قال أيوب

ثم قال واصباح قريش فقال العباس يا رسول اللّه لو أذنت لي فأتيتهم ودعوتهم وأمنتهم وجعلت لأبي سفيان شيئا يذكر به قال صلى اللّه عليه وسلم فافعل فركب العباس بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودخل مكة فنادى يا أهل مكة أسلموا تسلموا فقد إستبطأتم بأشهب باذل قد جاءكم الزبير من أعلى مكة وجاء خالد من أسفل مكة وخالد وما خالد والزبير وما الزبير

ثم قال من أسلم فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل وأغلق بابه فهو آمن ومن تعلق بأستار الكعبة فهو آمن ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ظهر عليهم فآمن الناس جميعا إلا بني بكر من أجل خزاعة فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار

١٤

 فأنزل اللّه تعالى { قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } وهم خزاعة { ويذهب غيظ قلوبهم } يعني حقد قلوب خزاعة

وروى مصعب بن سعد عن أبيه قال لما كان يوم فتح مكة آمن الناس إلا ستة نفر عكرمة بن أبي جهل وعبد اللّه بن خطل ومقيس بن ضبابة وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وإمرأتين فقال إقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة

وروى عبد اللّه بن رباح عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سار إلى مكة ذكر إلى أن قال دخل صناديد قريش من المشركين إلى الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم فطاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالبيت فصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ما تقولون وما تظنون قالوا نقول أخ كريم وإبن عم حليم رحيم قال أقول كما قال يوسف { لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم } فخرجوا كأنما نشروا من القبور ودخلوا في الإسلام وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الباب الذي يلي الصفا فخطب والأنصار أسفل منه فقالت الأنصار بعضهم لبعض أما إن الرجل أخذته الرأفة بقومه وأدركته الرغبة في قرابته فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقلتم كذا وكذا واللّه إني رسول اللّه حقا إن محياه لمحياكم وإن مماته لمماتكم فقالوا يا رسول اللّه قلنا مخافة أن تفارقنا ضنا بك قال أنتم الصادقون عند اللّه وعند رسوله

١٥

قال اللّه تعالى { ويتوب اللّه على من يشاء } يعني من أهل مكة يهديهم اللّه لدينه { واللّه عليم } بمن يؤمن من خلقه { حكيم } في أمره

١٦

قوله تعالى { أم حسبتم أن تتركوا } وذلك أنه لما أمرهم اللّه تعالى بالقتال شق ذلك على بعض المؤمنين فنزل قوله { أم حسبتم أن تتركوا } يعني أظننتم أن تتركوا على الإيمان أيها المؤمنون ولا تبتلوا بالقتال ولا تؤمروا به { ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم } يعني لم يميز اللّه الذين جاهدوا منكم من الذين لم يجاهدوا وقد كان يعلم اللّه ذلك منهم قبل أن يجاهدوا وقبل أن يخلقهم ولكن كان علمه علم الغيب ولا يستوجبون الجنة والثواب بذلك العلم وإنما يستوجبون الثواب والعقاب بما يظهر منهم من الجهاد ويقال معناه أظننتم أن تدخلوا الجنة بغير جهاد وبغير تعب النفس وهكذا قال في آية أخرى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : ٢١٤ ] وكما قال في آية أخرى { أحسب الناس أن يتركوا } [ العنكبوت : ٢ ] الآية

ثم قال { ولم يتخذوا من دون اللّه ولا رسوله } يعني لم يتخذوا أولياء من دون اللّه تعالى ولا رسوله يعني ولا من دون رسوله { ولا المؤمنين } يعني يميزهم من غيرهم { وليجة } يعني بطانة من غير أهل دينه ليفشي إليه سره وقال الزجاج الوليجة البطانة وهي مأخوذة من ولج الشيء في الشيء إذا دخل يعني ولم يتخذوا بينهم وبين أهل الكفر خلة ومودة ويقال نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم يريد الخروج إليهم وأراد بذلك مودة أهل مكة وفيه نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [ الممتحنة : ١ ] الآية

ثم قال تعالى { واللّه خبير بما تعملون } يعني من الخير والشر والجهاد والتخلف ومودة أهل الكفر

١٧

قوله تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين } قرأ نافع وعاصم وإبن عامر وحمزة والكسائي { مساجد } بلفظ الجماعة وكذلك الثاني يعني جميع المساجد وقرأ الباقون الأول { مسجد } بغير ألف والثاني بألف وروي عن إبن كثير كلاهما بغير ألف يعني المسجد الحرام وقرأ إبن كثير وأبو عمرو الأول { مسجد } بغير ألف والثاني بألف يعني المسجد الحرام ومن قرأ { مساجد } أيضا يجوز أن يحمل على المسجد الحرام لأنه يذكر المساجد ويريد به مسجدا واحدا كما قال { يا أيها الرسل } [ المؤمنون : ٥١ ] يعني به النبي صلى اللّه عليه وسلم

ثم قال تعالى { شاهدين على أنفسهم بالكفر } يعني ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر يعني لا ثواب لهم بغير إيمان { أولئك حبطت أعمالهم } يعني بطل ثواب أعمالهم

ويقال { شاهدين على أنفسهم } يعني كلامهم يشهد عليهم بالكفر { وفي النار هم خالدون } يعني يكونون في النار هم دائمون

ويقال شاهدين على أنفسهم يوم القيامة فلا ينفعهم عمارة المسجد بغير إيمان وروى أسباط عن السدي في قوله { شاهدين على أنفسهم بالكفر } أنه قال يسأل النصراني ما أنت فيقول نصراني ويسأل اليهودي ما أنت فيقول يهودي ويسأل المشرك ما أنت فيقول مشرك فذلك قوله تعالى { شاهدين على أنفسهم بالكفر }

ويقال الآية نزلت في شأن العباس حين أسر يوم بدر فأقبل عليه نفر من المهاجرين وعيروه بقتال النبي صلى اللّه عليه وسلم وبقطيعة الرحم فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال له علي رضي اللّه عنه فهل لكم من المحاسن شيء فقال نعم إنا نعمر المسجد الحرام ونحج الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني ونفادي الأسير ونؤمن الخائف ونقري الضيف فنزل { ما كان للمشركين } إلى قوله { أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون }

١٨

قوله تعالى { إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه } يعني صدق بوحدانية اللّه تعالى { واليوم الآخر } يعني آمن بالبعث بعد الموت لأن عمارة المسجد بإقامة الجماعات وهم كانوا لا يقيمون الصلاة فلم يكن ذلك عمارة المسجد فذلك

قوله { وأقام الصلاة } يعني يداوم على الصلوات الخمس ويقيمها بركوعها وسجودها في مواقيتها { وآتى الزكاة } المفروضة { ولم يخش إلا اللّه } يعني ولم يعبد إلا اللّه ولم يوحد غيره { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } يعني أولئك هم المهتدون لدينه ولهم ثواب أعمالهم

١٩

قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه } يعني كإيمان من آمن باللّه { وجاهد } في طاعة اللّه وقال القتبي { أجعلتم سقاية الحاج } يعني صاحب سقاية الحاج كمن آمن باللّه

ويقال أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن باللّه كما قال في آية أخرى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم اللّه كثيرا } [ الحج : ٤٠ ] والصلوات لا تهدم وإنما أراد به بيوت الصلوات كما قال { من قريتك التي أخرجتك } [ محمد : ١٣ ] يعني أهل قريتك كذلك ها هنا سقاية الحاج أراد به صاحب السقاية قرأ بعضهم { سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام } يعني جمع الساقي والعامر وهي قراءة شاذة

ثم قال { لا يستوون عند اللّه } يعني لا يستوون في الثواب والعمل عند اللّه { واللّه لا يهدي القوم الظالمين } يعني لا يرشد المشركين إلى الحجة ويقال لا يكرمهم بالمعرفة ما لم يتركوا كفرهم كما قال في آية أخرى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : ٦٩ ]

٢٠

قوله تعالى { الذين آمنوا وهاجروا } يعني صدقوا بوحدانية اللّه { وهاجروا } إلى المدينة { وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه } يعني هؤلاء أفضل عند اللّه وأفضل درجة في الجنة من الذين لم يهاجروا ولم يؤمنوا ولم يعمروا المسجد الحرام ولم يسقوا الحاج { أولئك هم الفائزون } يعني الناجين من النار

٢١

قوله تعالى { يبشرهم ربهم } يعني يفرحهم { برحمة } يعني بجنة { منه ورضوان } رضي اللّه تعالى عنهم كما قال في آية أخرى { رضي اللّه عنهم ورضوا عنه } [ المجادلة : ٢٢ ] بالثواب الذي أعطاهم

ثم قال تعالى { وجنات لهم فيها نعيم مقيم } يعني دائما لا ينقطع عنهم

٢٢

 { خالدين فيها } يعني مقيمين دائمين في الجنات { أبدا } هو تأكيد للخلود { إن اللّه عنده أجر عظيم } وهي الجنة

٢٣

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } يعني الذين بمكة أولياء قال مقاتل نزلت الآية في التسعة الذين إرتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهاهم اللّه تعالى عن ولا يتهم وقال في رواية الكلبي لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة فجعل الرجل يقول لإمرأته ولأخيه إنا قد أمرنا بالهجرة فيخرج معه ومنهم من تعلق به زوجته وعياله فيرق لهم فيقولون له لمن سوف تدعنا حتى نضيع فيرق لهم ويجلس معهم فنزل { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء } في الدين والعون { إن إستحبوا الكفر } يعني إن إختاروا الكفر { على الإيمان }

ويقال إختاروا الكفر على الإيمان ويقال إختاروا الجلوس مع الكفار على الجلوس مع المؤمنين { ومن يتولهم منكم } بعد نزول هذه الآية { فأولئك هم الظالمون } أي الضارون بأنفسهم

٢٤

قوله تعالى { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم } يعني قومكم قرأ عاصم في رواية أبي بكر { وعشيراتكم } بالألف بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { وعشيرتكم } بغير ألف { وأموال إقترفتموها } يعني إكتسبتموها بمكة { وتجارة تخشون كسادها } يعني تخشون أن تبقى عليكم فلا تنفق { ومساكن ترضونها } يعني منازلكم بمكة تعجبكم الإقامة فيها { أحب إليكم من اللّه ورسوله } يعني إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم من أن تهاجروا إلى اللّه ورسوله بالمدينة { وجهاد في سبيله } يعني في طاعة اللّه { فتربصوا } يعني فانتظروا { حتى يأتي اللّه بأمره } يعني فتح مكة ويقال الموت والقيامة وقال الضحاك { حتى يأتي اللّه بأمره } يعني حتى يأمر اللّه بقتال آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وعشيرتكم

ثم قال { واللّه لا يهدي القوم الفاسقين } وهذا وعيد من اللّه تعالى للذين لم يهاجروا ويقال من أول سورة براءة إلى قوله { ونفصل الآيات لقوم يعلمون } [ التوبة : ١١ ] نزلت بعد فتح مكة ثم من قوله { وإن نكثوا أيمانهم } [ التوبة : ١٢ ] إلى ها هنا كان نزل قبل فتح مكة فوضع ها هنا

٢٥

ثم بعد هذا نزلت بعد فتح مكة وهو قوله تعالى { لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين } وذلك أنه لما نزل قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد } [ التوبة : ٥ ] فأمرهم اللّه تعالى بأن يقاتلوا ويتوكلوا على اللّه ويطلبوا النصرة منه ولا يعتمدوا على الكثرة والقلة لأن النصرة من اللّه تعالى فذلك

قوله { لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة } يعني من مشاهد كثيرة وهو يوم بدر ويوم بني قريظة ويوم خيبر ويوم فتح مكة وخاصة يوم حنين يعني نصركم اللّه في مواطن كثيرة { إذ أعجبتكم كثرتكم } يعني جماعتكم

{ فلم تغن عنكم شيئا } يعني عن قضاء اللّه تعالى لم تغن كثرتكم شيئا وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى حنين في إثني عشر ألفا وعشرة آلاف خرجوا معه من المدينة إلى فتح مكة وخرج معه ألفان من أهل مكة فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة لن نغلب اليوم من قلة وقد كان فتح مكة في شهر رمضان وبقيت عليه أيام من رمضان فمكث حتى دخل شوال فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من بني سليم عينا له يقال له عبد اللّه بن أبي حدرد فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم فسمع من مالك بن عوف أمير القوم لأصحابه أنتم اليوم أربعة آلاف رجل فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد واكسروا جفون سيوفكم فواللّه لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلا أفرج لكم وكان مالك بن عوف على هوازن فأقبل إبن أبي حدرد حتى أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بمقالتهم فقال رجل من المسلمين فواللّه يا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا نغلب اليوم من كثرة فساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمته وابتلى اللّه المؤمنين بكلمته تلك

قال الفقية حدثنا أبو جعفر قال حدثنا الفقيه علي بن أحمد الفارسي قال حدثنا نصير بن يحيى قال حدثنا أبو سليمان قال حدثنا الفقيه محمد بن الحسن عن مجمع بن يعقوب عن إسحاق بن عبد اللّه عن أبي طلحة قال سمعت أنس بن مالك يقول لما إنتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى وادي حنين وهو وادي من أودية تهامة له مضايق وشعاب فاستقبلنا من هوازن جيش لا واللّه ما رأيت مثله في ذلك قط من السواد والكثرة وقد ساقوا أموالهم ونساءهم وأبناءهم وراءهم ثم صفوا فحملوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال ثم جاؤوا بالإبل والغنم وراء ذلك لكيلا يفروا بزعمهم فلما رأينا ذلك السواد حسبناهم رجالا كلهم فلما إنحدرنا بالوادي وهو وادي حدور فبينا نحن فيه إذ شعرنا أي ما شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضايق الوادي وشعبه فحملوا علينا حملة رجل واحد وقد كانت قريش بمكة طلبوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يخرجوا معه إلى حنين فلم يقل لهم لا ولا نعم فخرجوا وكانوا هم أول من إنهزم من الناس قال أنس فولوا دبرهم وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء فسمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ يقول والتفت عن يمينه وعن يساره يا أنصار اللّه وأنصار رسوله أنا عبد اللّه ورسوله صابر اليوم ثم تقدم بحربته أمام الناس فوالذي بعثه بالحق ما ضربنا بسيف ولا طعنا برمح حتى هزمهم اللّه تعالى ثم رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المعسكر وأمر بطلبهم وأن يقتل كل من قدر عليه منهم وجعلت هوازن تولي وثاب من إنهزم من المسلمين قال الراوي فقالت أم سليم وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها بثوب تقول أرأيت يا رسول اللّه الذين أسلموا وفروا عنك وخذلوك لا تعف عنهم إن أمكنك اللّه منهم فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أم سليم عفو اللّه أوسع

وروي في خبر آخر أن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا في عسكر مالك بن عوف وكان صاحب تدبير وكان لا يبصر شيئا ما لم يرفع حاجباه فقال ما لي أسمع رغاء الإبل وثغاء الغنم وصوت الصبيان فقالوا له إن مالك بن عوف أمرنا بإخراج الأموال لكي يقاتل كل واحد منهم عن ماله فقال لهم هلا أخبرتموني بذلك قبل الخروج فقال هل يرى المنهزم شيئا فالرجل إذا جاءته الهزيمة متى يبالي بماله وولده ولكن إذا فعلتم ذلك فاكسروا جفون سيوفكم واحملوا حملة رجل واحد ففعلوا ذلك فانهزم المسلمون ولم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا العباس وأبو سفيان بن حرب بن عبد المطلب وعدة من الأنصار فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بغلته وأخذ السيف نحو العدو وجعل ينادي يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة إلي إلي فأمده اللّه بخمسة آلاف من الملائكة ورجع إليه المسلمون وانهزم المشركون وأخذ المسلمون أموالهم وهو الذي يسمى يوم أوطاس فنزلت هذه الآية { لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين } فأخبر اللّه تعالى أن الغلبة ليست بكثرتكم ولكن بنصر اللّه تعالى وكان ذلك من آيات اللّه

ثم قال { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } يعني برحبها وسعتها من خوف العدو { ثم وليتم مدبرين } يعني منهزمين لا تلوون على أحد

٢٦

قوله تعالى { ثم أنزل اللّه سكينته على رسوله } يعني رحمته { وعلى المؤمنين وأنزل جنودا } يعني خمسة آلاف من الملائكة { لم تروها } وفي الآية دليل أن المؤمن لا يخرج من الإيمان وإن عمل الكبيرة لأنهم إرتكبوا الكبيرة حيث هربوا وكان عددهم أكثر من عدد المشركين فسماهم اللّه تعالى مؤمنين { وعذب الذين كفروا } يعني بالقتل والهزيمة { وذلك } يعني ذلك العذاب { جزاء } عقاب { الكافرين }

٢٧

قوله { ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء } من أصحاب مالك بن عوف من كان أهلا للإسلام

وروي عن محمد بن كعب القرظي قال لما إنهزم مالك بن عوف سار مع ثلاثة آلاف فقال لأصحابه هل لكم أن تصيبوا من محمد مالا قالوا نعم فأرسل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم إني أريد أن أسلم فما تعطيني فأرسل إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم إني أعطيك مائة من الإبل ورعاتها فجاء فأسلم فأقام يومين أو ثلاثة فلما رأى المسلمين ورقتهم وزهدهم واجتهادهم رق لذلك فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا إبن عوف ألا نفي لك بما أعطيناك من الشرط فقال يا رسول اللّه أمثلي يأخذ على الإسلام شيئا قال فكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن إفتتح عامة الشام

ثم قال { واللّه غفور } لما كان في الشرك { رحيم } بهم في الإسلام

٢٨

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } يعني قذر ورجس ولم يقل أنجاس لأن النجس مصدر والمصدر لا يثنى ولا يجمع { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فهذه الآية من الآيات التي قرأها عليهم علي بن أبي طالب بمكة يعني لا يدخلوا أرض مكة وقال مقاتل يعني الحرم كله وقال مالك بن أنس لا يجوز للكفار أن يدخلوا المساجد لأن اللّه تعالى قال { إنما المشركون نجس } كما أن الجنب لا يجوز له أن يدخل المسجد

وقال الزهري له أن يدخل جميع المساجد إلا المسجد الحرام وهو قول الشافعي رحمه اللّه وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه وأصحابه يجوز للذمي أن يدخل جميع المساجد لأن الكفار كانوا يدخلون مسجد المدينة إذا قدموا وافدين من قومهم وهذه الآية نزلت في شأن أهل الحرب إنهم لا يدخلون المسجد الحرام بغير أمان ولا يكون لهم ولاية البيت وروي عن جابر بن عبد اللّه أنه قال لا يدخلون المسجد الحرام إلا بإذن أو عهد

ثم قال تعالى { وإن خفتم عيلة } يعني حاجة وفقرا وقال الزجاج العيلة الفقر كما قال الشاعر

( وما يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل )

ثم قال { فسوف يغنيكم اللّه من فضله } أي من رزقه وذلك أنه لما منع المشركون من مكة قال أناس من التجار لأهل مكة من أين تأكلون فنزل { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله } يعني من رزقه ففرحوا بذلك فأسلم أهل جدة وصنف من أهل اليمن فحملوا الطعام إلى مكة من البر والبحر وأغناهم اللّه بذلك يعني أغناهم عن تجار الكفار بالمؤمنين ثم قال { إن شاء } يعني يدوم لكم بمشيئة اللّه { إن اللّه عليم } بخلقه { حكيم } في أمره

٢٩

قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه } يعني لا يصدقون بتوحيد اللّه { ولا باليوم الآخر } بالبعث بعد الموت { ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله } في التوراة والإنجيل والقرآن { ولا يدينون دين الحق } يقول لا يخضعون لدين الحق ولا يقرون بشهادة لا إله إلا اللّه ومعناه لا يؤمنون باللّه إيمان الموحدين لأن أهل الكتاب كانوا يقرون باللّه ولكنهم قالوا للّه ولد وأقروا بالبعث ولكنهم لا يقرون لأهل الجنة بالنعمة ولأنهم لا يقرون بالأكل والشرب والجماع ولا يقرون كما أعلم اللّه تعالى فليسوا يدينون بدين الحق يعني دين الإسلام

ويقال دين اللّه تعالى لأن اللّه تعالى هو الحق فأمر اللّه تعالى بقتلهم إلا أن يعطوا الجزية وهو قوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قال بعضهم عن قهر وذل كما تقول اليد في هذا لفلان يعني الأمر النافذ لفلان ويقال { عن يد } يعني عن إنعام عليهم بذلك لأن قبول الجزية وترك أنفسهم يد ونعمة عليهم ويقال عن إعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم ويقال { عن يد } يعني عن قيام يمشون بها صاغرين تؤخذ من أيديهم وقال الأخفش يعني كرها { وهم صاغرون } يعني ذليلين

قال الفقيه قتال الكفار على ثلاثة أنواع في وجه يقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام وهم مشركو العرب والمرتدون من الأعراب أو من غيرهم وفي وجه يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وهم اليهود والنصارى والمجوس

فأما اليهود والنصارى فبهذه الآية وأما المجوس فبالخبر وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي الوجه الثالث إختلفوا فيه وهم المشركون من غير العرب وغير أهل الكتاب مثل الترك والهند ونحو ذلك في قول الشافعي لا يجوز أخذ الجزية منهم وفي قول أبي حنيفة وأصحابه يجوز أخذ الجزية منهم كما يجوز من المجوس لأنهم من غير العرب

٣٠

قوله تعالى { وقالت اليهود عزير إبن اللّه } قرأ عاصم والكسائي { عزير } بالتنوين وقرأ الباقون بغير تنوين فمن قرأ بالتنوين فلأن الإبن خبر وليس بنسبة ومن قرأ بغير تنوين فلالتقاء الساكنين كما قرأ بعضهم { قل هو اللّه أحد اللّه الصمد } [ الإخلاص : ١ ] بغير تنوين فلا إختلاف بين النحويين أن إثبات التنوين أجود من طريق أهل اللغة وإنما قالت اليهود ذلك لأنه لما خرب بخت نصر بيت المقدس وأحرق التوراة حزنوا على ذهاب التوراة فأملاها عليهم عزير صلوات اللّه عليه عن ظهر قلبه فتعلموها وفي أنفسهم منها شيء مخافة أن يكون قد زاد فيها أو نقص منها شيئا فبينما هم كذلك إذ وقعوا على خوابي مدفونة في قرية فيها التوراة فعارضوا بها ما كتبوا من عزير فلم يزد شيئا ولم ينقص حرفا فقالوا عند ذلك ما علم عزير هذا إلا وهو إبن اللّه

{ وقالت النصارى المسيح إبن اللّه } وإنما قالوا ذلك لأن المسيح كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللّه تعالى فقالوا لم يكن يفعل هذا إلا وهو إبن اللّه ويقال إن الإفراط في كل شيء مذموم لأن النصارى أفرطوا في حب عيسى عليه السلام وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا بسبب ذلك واليهود أفرطوا بحب عزير وقالوا فيه ما قالوا حتى كفروا كما أفرطت الروافض في حب علي حتى أبغضوا غيره

وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما

ثم قال تعالى { ذلك قولهم بأفواههم } يعني { ذلك } كذبهم بألسنتهم ويقال معناه يقولون بأفواههم قولا بلا فائدة ولا برهان ولا معنى صحيح تحته

ثم قال { يضاهئون قول الذين كفروا } يعني يوافقون قول الذين كفروا { من قبل } حين قالوا الملائكة بنات اللّه وقال قتادة يشبهون قول الذين كفروا يعني قول اليهود موافق قول النصارى وقول النصارى يوافق قول اليهود ويقال يتشابهون في قولهم هذا من تقدم من كفر منهم يعني إنما قالوا إتباعا لهم بدليل

٣١

قوله تعالى { إتخذوا أحبارهم ورهبانهم } قرأ عاصم { يضاهئون } بكسر الهاء مع الهمزة وهي لغة لبعض العرب وقرأ الباقون بالسكون بغير همزة وهي اللغة المعروفة وقال القتبي { يضاهون } يعني يشبهون قول من كان في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم من اليهود والنصارى قول أوليهم الذين كانوا قبلهم

ثم قال تعالى { قاتلهم اللّه } يعني لعنهم اللّه { أنى يؤفكون } يعني من أين يكذبون بتوحيد اللّه تعالى ثم قال { إتخذوا أحبارهم ورهبانهم } يعني أهل الصوامع والمتعبدين منهم { أربابا من دون اللّه } يعني إتخذوهم كالأرباب يطيعونهم في معاصي اللّه

قال الفقيه الزاهد حدثنا أبو جعفر قال حدثنا إسحق بن عبد الرحمن القاري قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا الحسن بن يزيد الكوفي عن عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعيد عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ من سورة براءة { إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه } قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئا إستحلوا وإذا حرموا عليهم شيئا حرموا

ثم قال { والمسيح إبن مريم } يعني إتخذوا المسيح ربا من دون اللّه { وما أمروا } يقول وما أمرهم عيسى عليه السلام { إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو } يعني إلا قوله اللّه ربي وربكم

ويقال { وما أمروا } في جميع الكتب إلا ليعبدوا إلها يعني ليوحدوا اللّه تعالى إلها واحدا ثم نزه نفسه فقال تعالى { لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } يعني يعبدون من دونه

٣٢

ثم قال عز وجل { يريدون } يعني اليهود النصارى { أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم } يعني يريدون أن يردوا القرآن تكذيبا بألسنتهم ويقال يريدون أن يغيروا دين الإسلام بألسنتهم ويقال يريدون أن يبطلوا كلمة التوحيد بكلمة الشرك { ويأبى اللّه } يعني لا يرضى اللّه ولا يترك { إلا أن يتم نوره } يعني يظهر دينه الإسلام { ولو كره الكافرون } فيظهره

٣٣

ثم قال تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } يعني بالقرآن والتوحيد { ودين الحق } يعني دين الإسلام ويقال دين اللّه { ليظهره على الدين كله } حتى يظهره بالحجة على الدين كله ويقال بالقهر والغلبة والرعب في قلوب الكفار وقال ابن عباس { ليظهره على الدين كله } يعني بعد نزول عيسى عليه السلام لا يبقى أحد إلا ودخل في دين الإسلام { ولو كره المشركون }

٣٤

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان } قال السدي الأحبار اليهود والرهبان النصارى وقال ابن عباس الأحبار العلماء والرهبان أصحاب الصوامع { ليأكلون أموال الناس بالباطل } يعني بالظلم بغير حق { ويصدون عن سبيل اللّه } يعني يصرفون الناس عن دين اللّه ثم بين اللّه تعالى حالهم للمؤمنين لكي يحذروا منهم ولا يطيعونهم

قوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه } يعني يجمعون ويمنعون زكاتها قال بعضهم هذا نعت للأحبار والرهبان وقال بعضهم هذا إبتداء في حق كل من جمع المال ومنع منه حق اللّه وقال ابن عباس الكنز الذي لا يؤدى عنه زكاته

وروى نافع عن إبن عمر أنه قال أي مال كان على وجه الأرض لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب صاحبه يوم القيامة وما كان في الأرض تؤدى زكاته فليس بكنز وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر منها فهو كنز

ثم قال { فبشرهم بعذاب أليم } يعني أهل هذه الصفة الذين يكنزون الذهب والفضة { ولا ينفقونها في سبيل اللّه } يعني لا يؤدون حقها في طاعة اللّه تعالى وقال { ولا ينفقونها } ولم يقل ينفقونه لأنه إنصرف إلى المعنى يعني لا ينفقون الكنوز ويقال لا ينفقون الأموال ويقال يعني الفضة

وقال بعضهم نزل هذا في شأن الكفار

وقال بعضهم كان هذا في أول الإسلام ووجب عليهم أن يؤدوا الفضل ثم نسخ بآية الزكاة

وقال بعضهم كل مؤمن لا يؤدي الزكاة فهو من أهل هذه الآية وهو

٣٥

قوله تعالى { يوم يحمى عليها في نار جهنم } يعني يوقد على الكنوز { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } ويقال لهم { هذا ما كنزتم } يعني ما جمعتم { لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون }

قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه بن مسعود رضوان اللّه عليهم أنه قال والذي لا إله غيره لا يعذب رجل بكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم على جسده وكل دينار على خده

وروى أبو أمامة الباهلي قال مات رجل من أهل الصفة فوجد في مؤتزره دينار فقال صلى اللّه عليه وسلم كية ومات رجل آخر فوجد في مؤتزره ديناران فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم كيتان والمعنى في ذلك أنه قد أصاب ذلك من الغلول ولو لم يكن أصابه من الغلول لكان لا يستحق العقوبة لأن الزكاة لا تجب في أقل من عشرين دينارا

وقال بعضهم كان هذا في الوقت الذي وجب عليه أن ينفق الفضل

٣٦

قوله تعالى { إن عدة الشهور عند اللّه إثنا عشر شهرا في كتاب اللّه } فأعلم اللّه تعالى أن عدة الشهور للمسلمين التي يعدون إثنا عشر شهرا على منازل القمر فجعل حجهم وأعيادهم وصيامهم على هذا العدد فالحج والصوم يكون مرة في الشتاء ومرة في الصيف وكانت أعياد أهل الكتاب في متعبداتهم وسنتهم على حساب دوران الشمس على كل سنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما فجعل شهور المسلمين بالأهلة كما قال اللّه تعالى { يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : ١٨٩ ]

ويقال { إن عدة الشهور } يعني عدد الشهور التي وجبت عليكم الزكاة فيها إثنا عشر شهرا { في كتاب اللّه } يعني في اللوح المحفوظ { يوم خلق السموات والأرض } كتبها عليكم { منها أربعة حرم } يعني رجب وذا القعدة وذا الحجة والمحرم { ذلك الدين القيم } يعني ذلك الحساب المستقيم لا يزاد ولا ينقص وقال مقاتل بن حبان { ذلك الدين القيم } يعني ذلك القضاء البين وهكذا قال الضحاك

ثم قال { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } قال بعضهم في الأربعة أشهر وقال قتادة الظلم في الشهر الحرام أعظم وزرا مما سوى ذلك وإن كان الظلم على كل حال غير جائز ولكن اللّه يعظم من أمره ما يشاء

ويقال { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } يعني في هذه الإثني عشر شهرا ويقال هو على وجه التقديم إن عدة الشهور عند اللّه إثنا عشر شهرا فلا تظلموا فيهن أنفسكم منها أربعة حرم يعني وخاصة في الأربعة أشهر

ثم قال { وقاتلوا المشركين كافة } يعني جميعا في الشهر الحرام وغيره وكان القتال في الشهر الحرام محرما فنسخ بهذه الآية وصار مباحا في جميع الشهور

وقال بعضهم هو غير مباح ومعنى هذه الآية { وقاتلوا المشركين كافة } إن قاتلوكم في الشهر الحرام وإن لم يقاتلوكم فلا يجوز والقول الأول أصح لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد حاصر الطائف في الشهر الحرام ثم فتحها بعد ما مضى الشهر الحرام فلو كان القتال حراما لم يحاصرهم في الشهر الحرام

ثم قال { واعلموا أن اللّه مع المتقين } يعني معينهم وناصرهم

٣٧

قوله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } يعني تأخير المحرم إلى صفر زيادة الإثم في كفرهم وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال كانوا يحجون في ذي الحجة عامين ثم يحجون في المحرم عامين ثم يحجون في صفر عامين وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر رضي اللّه عنه الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم حج النبي صلى اللّه عليه وسلم من قابل في ذي الحجة وقال في خطبته ألا إن الزمان قد إستدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض

وروى أسباط عن السدي أنه قال كان رجل من بني مالك بن كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسىء عدد الشهور وقال في رواية الكلبي كان إسمه نعيم بن ثعلبة من بني كنانة وقال في رواية مقاتل كان إسمه ثمامة الكناني وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أرادوا أن يغيروا قام الكناني يوم منى وخطب الناس وقال إني قد أحللت لكم المحرم وحرمت صفر لكم مكانه فقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر غمدوا السيوف ووضعوا الأسنة ثم يقوم من قابل ويقول إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم { يضل به الذين كفروا } بتأخير المحرم إلى صفر فذلك قوله { يحلونه عاما ويحرمونه } قرأ إبن كثير { إنما النسي } بتشديد الياء بغير همز وقرأ الباقون بالتخفيف والهمزة ومعناها واحد وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { يضل به الذين كفروا } بضم الياء ونصب الضاد على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يضل به } بفتح الياء وكسر الضاد ويكون معناه تأخيرهم عمل يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويقاتلون فيه ويحرمونه عاما ولا يقاتلون فيه { ليواطئوا } يعني ليوافقوا { عدة ما حرم اللّه فيحلوا ما حرم اللّه زين لهم سوء أعمالهم } يعني حسن لهم قبح أعمالهم { واللّه لا يهدي القوم الكافرين } يعني لا يرشدهم إلى دينه مجازاة لكفرهم

٣٨

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم إنفروا في سبيل اللّه } يعني في الجهاد { إثاقلتم في الأرض } يعني تثاقلتم فأدغم التاء في الثاء وحذفت الألف لتسكين ما بعدها يعني قعدتم ولم تخرجوا وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس بالخروج إلى غزوة تبوك وكان في أيام الصيف حين إشتد الحر وطابت الثمار والظلال فكانوا يتثاقلون عن الخروج فعاتبهم اللّه تعالى فقال { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } يقول آثرتم واخترتم عمل الدنيا على عمل الآخرة { فما متاع الحياة الدنيا } يعني منفعة الدنيا { في الآخرة إلا قليل } يعني بجنب منفعة الآخرة إلا ساعة ويقال معناها ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياء اللّه في الجنة

٣٩

ثم خوفهم فقال تعالى { إلا تنفروا يعذبكم } اللّه وأصله إن لا تنفروا فأدغم النون في اللام ومعناه إن لم تنفروا يعني إن لم تخرجوا إلى الغزو مع نبيكم يعذبكم { عذابا أليما } يعني يسلط عليكم عدوكم أو يهلككم { ويستبدل قوما غيركم } خيرا منكم وأطوع للّه تعالى { ولا تضروه شيئا } يقول ولا تنقصوا عن ملكه شيئا بجلوسكم عن الجهاد { واللّه على كل شيء قدير } أن يستبدل بكم قوما غيركم

٤٠

قوله تعالى { إلا تنصروه فقد نصره اللّه } يعني إن لم تنصروه ولم تخرجوا معه إلى غزوة تبوك فاللّه ينصره كما نصره { إذ أخرجه الذين كفروا } يعني كفار مكة من مكة { ثاني إثنين } يعني كان واحدا من إثنين يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ولم يكن معهما غيرهما فنصرهما اللّه تعالى { إذ هما في الغار } وذلك حين أراد أهل مكة قتله فهاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فلم يجده فجلس إلى أن جاء أبو بكر فقبل رأس النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما لك بأبي أنت وأمي قال ما أرى قريشا إلا قاتلي فقال أبو بكر دمي دون دمك ونفسي دون نفسك لا يصنع بك شيء حتى يبدأ بي فقال أخل بي قال أبو بكر ليس بك عين إنما هما إبنتاي أسماء وعائشة قال قد أذن لي بالخروج من مكة فقال أبو بكر يا رسول اللّه إن عندي بعيرين حبستهما للخروج فخذ إحداهما واركبه قال لا آخذه إلا بالثمن فأخذه بالثمن وهي ناقته القصواء فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب بأن يبيت مكانه وخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر حتى أتيا ثورا جبلا بأسفل مكة

قال الفقيه حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال

حدثنا يحيى بن أبي طالب عن عبد الرحمن بن إبراهيم الرازي قال حدثنا الفرات عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن عن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه أنه قال واللّه لليلة من أبي بكر خير من عمر وآله قيل وأيه ليلة هي قال لما خرج رسول اللّه هاربا من أهل مكة ليلا فتبعه أبو بكر فجعل أبو بكر يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر قال يا رسول اللّه أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك وعن يسارك لا آمن عليك قال فمشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله

ثم قال والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله حتى أدخله أنا فإن كان من شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله وأدخله

وقال في رواية محمد بن إسحاق كان الغار معروفا بالهوام فجعل أبو بكر يسد الجحر حتى بقي جحرات فوضع عقبيه عليهما حتى أصبح وقال في رواية عمر وكان في الغار خرق فيه حيات فخشي أبو بكر أن يخرج منه شيء يؤذي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت الدموع تنحدر على خده من شدة الألم الذي يجده ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول { لا تحزن إن اللّه معنا } { فأنزل اللّه سكينته } يعني الطمأنينة لأبي بكر وهذه ليلته

قال الفقيه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا عون بن عمرو القيسي عن مصعب المكي قال أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يذكرون النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة الغار أمر اللّه تعالى شجرة فخرجت في وجه النبي صلى اللّه عليه وسلم فسترت وجه النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن اللّه تعالى بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمر اللّه تعالى حمامتين وحشيتين فأقبلتا تزقان حتى وقفتا بين العنكبوت وبين الشجرة فأقبلت فتيان قريش من كل بطن معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم على قدر مائتي ذراع قال الدليل سراقة بن مالك أنظروا في هذا الحجر

ثم قال أين وضع رجله قال الفتيان أنت لم تخطىء منذ الليلة أثره حتى إذا أصبحنا قال للفتيان أنظروا إلى فم الغار فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم على قدر خمسين ذراعا نظروا فإذا حمامتان وحشيتان بغم الغار فرجعوا فقالوا رأينا حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفنا أنه ليس فيه أحد فسمعهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فعرف أن اللّه درأ بهما عنه فشمت لهما يعني بارك عليهما وأحرزهما اللّه تعالى في الحرم فأفرختا كما هما إلى الآن وفي خبر آخر زيادة وقد كان أمر أبو بكر عامر بن فهيرة أن يريح إليه غنمه بثور وكان يريح إليهما غنمه وكان عبد اللّه بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكة فكانا فيه ثلاث ليال وكانا يريحان الغنم ويحلبان كل ليلة ما أرادا فلما نفدوا من الإلتماس وجاءهم عبد اللّه بن أبي بكر فأخبرهم بذلك فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة واستأجر رجلا من بني الديل يهديهم الطريق يقال له عبد اللّه بن أريقط أخذ بهم أسفل مكة حتى خرجوا قريبا من جدة ثم عارضوا الطريق قريبا من عسفان ففطن سراقة بن مالك بن جعثم آثارهم فلبس لأمته وركب فرسه حتى أدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرسخت قوائم فرسه فقال يا محمد أدع اللّه أن يطلق فرسي فإني أرى الحي قد إلتمسوني فأن أكون وراءك خير لك فأرد عنك من ورائي من الناس فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّهم إن كان صادقا فأطلق فرسه فانطلق فرسه فقال يا محمد خذ سهما من كنانتي فمر به على إبلي فإن أردت حمولة فخذ وإن أردت لبونا فخذ فرجع سراقة فوجد الناس يلتمسون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم إرجعوا فقد إستبرأت لكم ما ها هنا وقد عرفتم من بصيرتي وقفوي بالآثار قال فرجعوا عنه فقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مع أبي بكر المدينة فذلك قوله { ثاني إثنين إذ هما في الغار }

قوله تعالى { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن اللّه معنا } وإنما كان أبو بكر يخاف على نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى ذهاب التوحيد والإسلام لا على نفسه { إن اللّه معنا } في الدفع عنا { فأنزل اللّه سكينته } يعني طمأنينته { عليه } يعني طمأنينته على أبي بكر

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال في رواية الكلبي { فأنزل اللّه سكينته عليه } يعني على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سكن واطمأن

قال حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن محمد الحاكم القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا أبو سوار عن أبي العطوف عن الزهري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري هل قلت في أبي بكر شيئا قال نعم قال فقل حتى أسمع فقال

( وثاني إثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو به إذ يصعد الجبلا )

( وكان حب رسول اللّه قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا )

قال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال صدقت يا حسان هو كما قلت

ثم قال تعالى { وأيده بجنود لم تروها } يعني يوم بدر والأحزاب وحنين { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك باللّه { وكلمة اللّه هي العليا } يعني شهادة أن لا إله إلا اللّه قرأ الأعمش ويعقوب الحضرمي { وكلمة اللّه } بالنصب يعني وجعل كلمة اللّه وقراءة العامة بالضم على معنى الإستئناف { واللّه عزيز حكيم } حكم بإظهار التوحيد وإطفاء دعوة المشركين

٤١

قوله تعالى { إنفروا خفافا وثقالا } قال الكلبي { خفافا } يعني أهل العسرة من المال وقلة العيال و { ثقالا } يعني أهل الميسرة في المال والصبية والعيال وقال الكلبي ويقال فيها وجه آخر { إنفروا خفافا } يقول نشاطا في الجهاد { وثقالا } غير نشاط في الجهاد وكذا قال مقاتل ويقال { إنفروا خفافا وثقالا } يعني شبانا وشيوخا

وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أبا طلحة الأنصاري قرأ هذه الآية { إنفروا خفافا وثقالا } فقال ما أرى اللّه تعالى إلا يستنفرنا شبابا وشيوخا جهزوني فقلنا قد غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر وأنت اليوم شيخ قال جهزوني فجهزناه فركب البحر فمات في غزاته

وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال { أنفروا خفافا وثقالا } قال مشاغيل وغير مشاغيل

وروى مسروق عن أبي الضحى قال أول ما نزلت من سورة براءة هذا { أنفروا خفافا وثقالا } ثم نزل أولها وآخرها

وروي عن ابن عباس أنه قال نسختها هذه الآية { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } [ التوبة : ١٢٢ ]

وقال بعضهم ليست بمنسوخة ولكنها في الحالة التي وقع فيها النفير عاما وجب على جميع الناس الخروج إلى الجهاد وإذا لم يكن النفير عاما لا يكون فرضا عاما فإذا خرج بعض الناس سقط عن الباقين وبه نأخذ

ثم قال تعالى { ذلكم خير لكم } يعني الجهاد خير لكم من الجلوس { إن كنتم تعلمون } يعني تصدقون بثواب اللّه ويقال معناه إن كنتم تعلمون أن الخروج إلى الجهاد خير لكم من القعود فانفروا خفافا وثقالا ثم نزل في شأن المنافقين الذين تخلفوا

٤٢

 قوله { لو كان عرضا قريبا } يعني غنيمة قريبة ويقال سهلا قريبا { وسفرا قاصدا } يعني هينا { لاتبعوك } يعني لو علموا أنهم يصيبون مغنما { لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } والشقة السفر يعني ثقل عليهم السفر { وسيحلفون باللّه } الذين تخلفوا { لو استطعنا } يعني لو قدرنا ولو كانت لنا سعة في المال والزاد { لخرجنا معكم } إلى الغزو

وقال اللّه تعالى { يهلكون أنفسهم } يعني بحلفهم كذبا { واللّه يعلم إنهم لكاذبون } بحلفهم وأن لهم سعة للخروج ولكنهم لم يريدوا الخروج

٤٣

قوله تعالى { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم } وذلك أن بعض المنافقين إستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالتخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ولم يكن لهم عذر وأذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اللّه تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم { عفا اللّه عنك } يا محمد { لم أذنت لهم } وقال عون بن عبد اللّه أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب ويقال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم فعل فعلين قبل أن يؤذن له فعاتبه اللّه تعالى على ذلك وعفا عنه أحدهما في فداء أسارى بدر والثاني في إذنه للمنافقين بالتخلف فقال له { عفا اللّه عنك } ولم يعاقبك لم أذنت لهم في التخلف والقعود

قال الفقيه سمعت من يذكر عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال معناه { عفا اللّه عنك } يا سليم القلب لم أذنت لهم فيقال إن اللّه تعالى إذا قال لعبده لم فعلت كذا وكذا يكون ذلك أشد عليه من الموت كذا وكذا مرة لهيبة قوله لم فعلت كذا ولو أنه بدأ للنبي صلى اللّه عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم لكان يخاف على النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام إلا أن اللّه تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه

ثم قال { لم أذنت لهم } بالقعود عن الجهاد { حتى يتبين لك الذين صدقوا } يعني معرفة الذين صدقوا بعذرهم وإيمانهم { وتعلم الكاذبين } في عذرهم وإيمانهم

ويقال معناه حتى يتبين لك المؤمن المخلص من المنافق ثم بين له علامة المؤمنين والمنافقين

٤٤

 فقال اللّه تعالى { لا يستأذنك } يعني بغير عذر { الذين يؤمنون باللّه } يعني صدقوا باللّه { واليوم الآخر } في السر والعلانية { أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } في سبيل اللّه { واللّه عليم بالمتقين } يعني بالمؤمنين المخلصين ثم ذكر علامة المنافقين

٤٥

فقال { إنما يستأذنك } يعني في القعود عن الجهاد { الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر } يعني لا يصدقون في السر { وارتابت قلوبهم } يعني شكت قلوبهم ونافقت قلوبهم { فهم في ريبهم يترددون } يعني في شكهم ونفاقهم يتحيرون ولا يتوبون ولا يرجعون عن ذلك

٤٦

قوله تعالى { ولو أرادوا الخروج } معك إلى الغزو { لأعدوا له عدة } يعني إتخذوا لأنفسهم قوة من السلاح معناه إن تركهم العدة دليل على إرادتهم التخلف

ثم قال { ولكن كره إنبعاثهم } يعني لم يرد اللّه خروجهم معك لجبنهم وسوء نياتهم { فثبطهم } يعني حبسهم وأقعدهم عن الخروج ويقال ثقلهم عن الخروج ويقال جعل حلاوة الجلوس في قلوبهم حتى أقعدهم عن الخروج { وقيل إقعدوا مع القاعدين } يعني ألهموا أو خيل إليهم القعود مع المتخلفين ثم أخبر اللّه تعالى أن لا منفعة للمسلمين في خروجهم معهم بل عليهم مضرة منهم

٤٧

ثم قال تعالى { لو خرجوا فيكم } يعني المنافقين لو خرجوا معكم { ما زادوكم إلا خبالا } يعني فسادا ويقال شرا وجبنا { ولأوضعوا خلالكم } ويقال ساروا بينكم ويقال والإيضاع في اللغة هو إسراع الإبل كما قال صلى اللّه عليه وسلم حين أفاض من عرفات أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار فإن البر ليس في إيضاع الإبل ولا في إيجاف الخيل يعني إن المنافقين لو خرجوا معكم يسرعون الإبل فيما بينكم ويؤذونكم

ثم قال { يبغونكم الفتنة } يعني يطلبون منكم الشرك ويطلبون هزيمتكم وعيوبكم ويفشون سركم { وفيكم سماعون لهم } يعني وفي عسكركم عيون وجواسيس للمنافقين

ويقال وفيكم من يسمع ما يقوله المنافقون ويقبلون منهم { واللّه عليم بالظالمين } يعني بالمنافقين وهذا وعيد لهم يعني { عليم } بعقوبتهم

٤٨

ثم قال عز وجل { لقد إبتغوا الفتنة من قبل } يعني من قبل غزوة تبوك لأنهم قصدوا قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل كثرة المؤمنين ويقال طلبوا إظهار الشرك قبل غزوة تبوك { وقلبوا لك الأمور } يعني إحتالوا في قتلك وفي هلاكك من كل وجه

ويقال { قلبوا لك الأمور } ظهرا لبطن فانظر كيف يصنعون { حتى جاء الحق } يعني كثر المسلمون ويقال حتى جاء الحق يعني الإسلام

{ وظهر أمر اللّه } يعني ظهر دين اللّه الإسلام { وهم كارهون } يعني كارهون للإسلام

٤٩

قوله تعالى { ومنهم من يقول إئذن لي } يعني جد بن قيس كان من المنافقين حرضه النبي صلى اللّه عليه وسلم على الخروج إلى الغزو فقال يا رسول اللّه إن قومي يعلمون حرصي على النساء فأخشى أني لو خرجت وقعت في الإثم ولا تفتني ببنات الأصفر وكان الأصفر رجلا من الحبش ملك ناحية من الروم فتزوج رومية فولدت له بنات إجتمع فيهن سواد الحبش وبياض الروم وكن فتنة فقال جد بن قيس لا تفتني ببنات الأصفر فإني أخاف أن لا أصبر وأضع يدي على الحرام فأذن له النبي صلى اللّه عليه وسلم بالقعود فنزل { ومنهم من يقول } يعني من المنافقين { إئذن لي } في التخلف { ولا تفتني } يعني ولا توقعني في الفتنة والإثم

ثم قال اللّه تعالى { ألا في الفتنة سقطوا } يعني ألا في الكفر والنفاق وقعوا { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } يعني جعلت جهنم للكافرين وهو جد بن قيس ومن تابعه

٥٠

قوله تعالى { إن تصبك حسنة تسؤهم } يعني إن أصابك الغنيمة والنصر ساءهم ذلك { وإن تصبك مصيبة } يعني الشدة والنكبة والهزيمة { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } يعني حذرنا بالقعود والتخلف عن الخروج من قبل المصيبة { ويتولوا وهم فرحون } بما أصابك وبتخلفهم

٥١

قال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم { قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا } يعني إلا ما قضى اللّه لنا وقدر علينا من شدة أو رخاء ويقال { إلا ما كتب اللّه لنا } يعني في اللوح المحفوظ ويقال { إلا ما كتب اللّه لنا } في القرآن وهو قوله تعالى { فيقتلون و يقتلون } [ التوبة : ١١١ ]

ثم قال { هو مولانا } أي ولينا وناصرنا وحافظنا { وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون } يعني وعلى المؤمنين أن يتوكلوا على اللّه ويقال وعلى اللّه فليثق الواثقون

٥٢

ثم قال تعالى { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } إما الشهادة وأما الغنيمة { ونحن نتربص بكم } يعني ننتظر بكم { أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده } وهو الموت { أو بأيدينا } يعني فيأمرنا أن نقتلكم ويقال معناه { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } يعني إلا إحدى الخبرين ونحن نتربص بكم أحد الشرين فبين ما ننتظر وتنتظرونه فرق عظيم { فتربصوا } يعني إنتظروا بنا الهلاك { إنا معكم متربصون } من المتربصين يعني المنتظرين لإهلاككم

٥٣

ثم قال عز وجل { قل أنفقوا طوعا أو كرها } يعني قل للمنافقين أنفقوا { طوعا } من قبل أنفسكم { أو كرها } مخافة القتل { لن يتقبل } اللّه { منكم } النفقة { إنكم كنتم قوما فاسقين } يعني منافقين فقوله { أنفقوا } اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر يعني إن أنفقتم كما إنه يذكر لفظ الخبر والمراد به الأمر كقولك غفر اللّه لك وقولك رحم اللّه فلانا يعني اللّهم إغفر وها هنا اللفظ لفظ الأمر ومعناه الخبر والشرط يعني إن أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل اللّه منكم قرأ حمزة والكسائي { كرها } بضم الكاف وقرأ الباقون { كرها } بالنصب ثم بين المعنى الذي لم تقبل نفقاتهم من أجله

٥٤

 قال تعالى { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله } يعني في السر قرأ حمزة والكسائي { لن يقبل منهم } بالياء على معنى التذكير وقرأ الباقون بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } يعني متثاقلين ولا يرونها واجبة عليهم { ولا ينفقون } في الجهاد { إلا وهم كارهون } على النفقة غير محتسبين

٥٥

ثم قال عز وجل { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } يعني كثرة أموالهم وأولادهم { إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } في الآية تقديم وتأخير قال ابن عباس فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة

ثم قال { وتزهق أنفسهم } يعني تذهب أنفسهم وتقبض أرواحهم وأصله الذهاب كقوله تعالى { وقل جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : ٨١ ] { وهم كافرون } يعني تقبض أرواحهم على الكفر

٥٦

قوله تعالى { ويحلفون باللّه إنهم لمنكم } يعني إنهم مؤمنون على دينكم في السر وهم كاذبون بذلك القول { وما هم منكم } يعني ليسوا على دينكم في السر { ولكنهم قوم يفرقون } يعني يخبثون فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق

٥٧

قوله تعالى { لو يجدون ملجأ } يعني حرزا يلجؤون إليه { أو مغارات أو مدخلا } يعني الغيران في الجبل وقال القتبي كل شيء غرت فيه فغبت فهو مغارة { أو مدخلا } يعني سربا في الأرض { لولوا إليه } يعني ذهبوا إليه وتركوك { وهم يجمحون } يعني يسرعون في المشي ومنه قيل فرس جموح إذا ذهب في عدوه فلم يثنه شيء ويقال الجمح مشي بين مشيتين وهو من لغات اليمن

٥٨

قوله تعالى { ومنهم من يلمزك في الصدقات } روي عن إبن كثير أنه قرأ { يلمزك } بضم الميم والباقون بالكسر وهما لغتان ومعناهما واحد يقول من المنافقين من يطعنك ويعيبك ويقال لمزته إذا عبته وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال بينما نحن ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم قسما إذ جاءه إبن ذي الخويصرة التيمي فقال إعدل يا رسول اللّه فقال ويلك من يعدل إذا لم أعدل فقال عمر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه أتأذن لي فأضرب عنقه فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته عند صلاته وصيامه عند صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة يخرجون على حين فترة من الناس ويروى على حين الفتن من الناس فنزلت فيهم { ومنهم من يلمزك في الصدقات } الآية قال أبو سعيد أشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأشهد أن عليا حين قتلهم وأنا معه أتى برجل بالنعت الذي نعته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من الصدقات فقال أبو الخواص والنبي صلى اللّه عليه وسلم يعطي

وروى بعضهم أبو الحواظ ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا أبا لك أما كان موسى راعيا أما كان داود راعيا فذهب أبو الخواص وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم إحذروا هذا وأصحابه فنزل { ومنهم من يلمزك في الصدقات } { فإن أعطوا منها } يعني الصدقة

{ رضوا } بالقسمة { وإن لم يعطوا منها } يعني من الصدقة { إذا هم يسخطون } يعني لا يرضون بالقسمة

٥٩

قوله تعالى { ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله } يعني إنهم لو رضوا بما رزقهم اللّه تعالى وبما يعطيهم رسول اللّه من العطية { وقالوا حسبنا اللّه } يعني يكفينا اللّه { سيؤتينا اللّه من فضله } يعني سيعطينا اللّه من رزقه { ورسوله } يعني سيعطينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الغنيمة إذا كان عنده سعة وفضل { إنا إلى اللّه راغبون } يعني طامعون وراجون ولم يذكر جوابه لأن في الكلام دليلا عليه ومعناه ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم

٦٠

ثم بين لهم موضع الصدقات فقال { إنما الصدقات } يعني ليست الصدقات للذين يلمزونك في الصدقات وإنما الصدقات { للفقراء والمساكين } قال بعضهم الفقراء الضعفاء الأحوال الذين لهم بلغة من العيش بدليل قول الشاعر

( أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد )

والمسكين الذي لا شيء له بدليل قول اللّه تعالى { أو مسكينا ذا متربة } [ البلد : ١٦ ] يعني الذي لم يكن بينه وبين التراب شيء يقيه منه

وقال بعضهم الفقير الذي لا شيء له والمسكين الذي له أدنى شيء كما قال اللّه تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : ٧٩ ] سماهم مساكين وإن كانت لهم سفينة

وقال بعضهم الفقير الذي لا يسأل الناس إلحافا كما قال اللّه تعالى { للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه } إلى قوله { لا يسئلون الناس إلحافا } [ البقرة : ٢٧٣ ] والمسكين الذي يسأل الناس

وقال بعضهم الفقير الذي يسأل الناس والمسكين الذي لا يسأل الناس كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ليس المسكين الذي يطوف على أبوابكم فتردونه باللقمة واللقمتين وإنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه وقال قتادة الفقير الذي به زمانة والمسكين الصحيح المحتاج

وقال بعضهم الفقير الذي يكون عليه زي الفقر ولا تعرف حاجته والمسكين الذي يكون عليه زي الفقر وتكون حاجته ظاهرة

ثم قال تعالى { والعاملين عليها } وهم السعاة الذين يجبون الصدقات فيعطون على قدر حاجتهم { والمؤلفة قلوبهم } وهم قوم كان يعطيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويتألفهم بالصدقة على الإسلام وكانوا رؤساء في كل قبيلة منهم أبو سفيان بن حرب والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس السلمي وصفوان بن أمية وغيرهم فلما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاؤوا إلى أبي بكر وطلبوا منه وكتب لهم كتابا فجاؤوا بالكتاب إلى عمر بن الخطاب ليشهدوه فقال عمر أي شيء هذا فقالوا سهمنا فأخذ عمر الكتاب ومزقه وقال إنما كان يعطيكم النبي صلى اللّه عليه وسلم ليؤلفكم على الإسلام فأما اليوم فقد أعز اللّه الإسلام فإن تبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا أنت الخليفة أم هو أي عمر قال هو إن شاء فبطل سهمهم

ثم قال { وفي الرقاب } يعني في فك الرقاب وهم المكاتبون

ثم قال { والغارمين } يعني أصحاب الديون الذين إستدانوا في غير فساد ولا تبذير وقال مجاهد ثلاثة من الغارمين رجل ذهب السيل بماله ورجل أصابه حريق فهلك ماله ورجل ليس له مال وله عيال فهو يستدين وينفق على عياله { وفي سبيل اللّه } وهم الذين يخرجون إلى الجهاد { وابن السبيل } يعني المسافر المنقطع من ماله قال بعضهم وجب أن يقسم الصدقات على ثمانية أصناف وهو قول الشافعي رحمه اللّه كما بين في هذه الآية وقال أصحابنا إذا صرف الصدقات إلى صنف من هذه الأصناف جاز

وروي عن حذيفة بن اليماني أنه قال إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية جاز وعن عبد اللّه بن عباس أنه قال إذا وضعتها في صنف واحد فحسبك إنما قال { إنما الصدقات للفقراء } لأن لا تجعلها في غير هذه الأصناف وعن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه أنه أتي بصدقة فبعث بها إلى أهل بيت واحد

ثم قال تعالى { فريضة من اللّه } يعني وضع الصدقات في هذه المواضع فريضة من اللّه وهو مما أمر اللّه تعالى { واللّه عليم } بأهلها { حكيم } حكم قسمتها وبينها لأهلها

٦١

قوله تعالى { ومنهم الذين يؤذون النبي } قال ابن عباس نزلت الآية في جماعة من المنافقين منهم جلاس بن سويد ومحشر بن خويلد وأبو ياسر بن قيس وذلك أنهم كانوا ينالون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه الخبر فقال الجلاس نقول ما نشاء فإنما { هو أذن } سامعة ثم نأتيه فيصدقنا والأذن الذي يقبل كل ما

قيل له وقال القتبي { قل أذن خير لكم } يعني إن كان الأمر كما يذكرون فهو خير لكم ولكنه { يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين } يعني يصدق اللّه ويصدق المؤمنين لا أنتم والباء واللام زائدتان يعني يصدق اللّه ويصدق محمد المؤمنين فذلك قوله تعالى { ومنهم الذين يؤذون النبي } يعني من المنافقين من يؤذي النبي { ويقولون هو أذن } يعني سامع لمن حدثه

{ قل أذن خير لكم } قراءة العامة { قل أذن } بغير تنوين { خير لكم } بكسر الراء وقرأ بعضهم { أذن } بالتنوين { خير } بالتنوين والضم فمن قرأ أذن بالتنوين فمعناه إن كان محمد كما قلتم أذن فهو خير لكم أي صلاح لكم ومن قرأ بالكسر فهو على الإضافة أي أذن خير لكم وأذن رحمة وقرأ نافع { أذن } بجزم الذال والباقون بالضم وهما لغتان

{ يؤمن باللّه } يعني يصدق باللّه تعالى في مقالته { ويؤمن للمؤمنين } يعني يصدق قول المؤمنين { ورحمة } يعني نعمة { للذين آمنوا منكم } في السر والعلانية وقرأ حمزة { ورحمة للذين } على معنى الإضافة يعني أذن رحمة وقرأ الباقون { ورحمة } بالضم على معنى الإستئناف وقرأ نافع { أذن } بجزم الذال بضمة واحدة وقرأ الباقون بضمتين

ثم قال { والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم } يعني وجيع ثم جاؤوا إلى الرسول وحلفوا

٦٢

فأخبر اللّه تعالى أنهم كاذبون في حلفهم { ويحلفون باللّه لكم ليرضوكم واللّه ورسوله أحق أن يرضوه } قال الزجاج لم يقل أحق أن يرضوهما لأن في الكلام ما يدل عليه لأن في رضى اللّه تعالى رضى الرسول فحذف تخفيفا ومعناه واللّه أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه كما قال الشاعر

( نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف )

أي نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض ويقال يكره أن يجمع بين ذكر اللّه تعالى وذكر رسوله في كتابة واحدة ويستحب أن يكون ذكر اللّه تعالى مقدما ثم ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم مؤخرا وذكر في بعض الأخبار أن خطيبا قام عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال في خطبته من يطع اللّه ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بئس الخطيب أنت لأنه كان يجب أن يقول ومن يعص اللّه ورسوله فقد غوى ثم قال { إن كانوا مؤمنين } يعني مصدقين بقلوبهم في السر

٦٣

قوله تعالى { ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله } يعني يخالف اللّه ورسوله ويقال يخاف أمر اللّه وأمر رسوله يعني أمر اللّه تعالى في الفرائض وأمر رسوله في السنن وفيما بين وقال الأخفش { يحادد اللّه } يعني يعادي اللّه ورسوله { فأن له نار جهنم } قرأ بعضم { فإن له } بالكسر على معنى الإستئناف وقرأ العامة بالنصب على معنى البناء { خالدا فيها ذلك الخزي العظيم } يعني العذاب الشديد

٦٤

قوله تعالى { يحذر المنافقون } قال الزجاج قوله { يحذر } لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر أي ليحذر المنافقون ويقال على وجه الخبر يحذر يعني يخشى المنافقون وذلك أن بعضهم قال لو أني جلدت مائة جلدة أحب إلي من أن ينزل فينا شيء يفضحنا فنزل { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم } يعني سورة براءة تنبئهم { بما في قلوبهم } من النفاق وكانت سورة البراءة تسمى الفاضحة { قل إستهزئوا إن اللّه مخرج ما تحذرون } يعني مظهر { ما يحذرون } يعني تخافون من إظهار النفاق

٦٥

ثم قال عز وجل { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رجع من تبوك وبين يديه هؤلاء الأربعة يسيرون ويقولون إن محمدا يقول إنه نزل في إخواننا الذين تخلفوا بالمدينة كذا وكذا وهم يضحكون ويستهزئون فأتاه جبريل فأخبره بذلك فبعث إليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم عمار بن ياسر فقال له اذهب إلى أولئك واسألهم عما يتحدثون ويضحكون وأخبره أنهم يستهزئون بالقرآن وأنه إذا أتاهم وسألهم يقولون إنما كنا نخوض ونلعب فلما جاء إليهم عمار بن ياسر قال لهم ما تقولون قالوا إنا كنا نخوض ونلعب فيما يخوض فيه الركب إذا ساروا ونضحك بيننا فقال عمار صدق اللّه وبلغ رسوله هكذا أخبرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنكم تقولون ذلك غضب اللّه عليكم هلكتم هلكتم فجاؤوا واعتذروا فنزل { قل أباللّه } يعني قل لهم يا محمد { أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } وقال قتادة إذا رايا العبد يقول اللّه أنظروا إلى عبدي يستهزىء { قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } فجاؤوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم واعتذروا فنزل

٦٦

 قوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } يعني كفرتم في السر بعد إيمانكم في العلانية

ويقال قد أقمتم على كفركم الأول في السر بعد إيمانكم مع إقراركم بالعلانية بالإيمان { إن نعف عن طائفة منكم } وكان فيهم مخلص واحد ولم يقل معهم شيئا ولكن ضحك معهم فقال { إن نعف عن طائفة منكم } وكان فيهم واحد مخلص ولم يقل معهم بشيء ولكن ضحك معهم وقال { إن نعف عن طائفة} منك وهو المؤمن المخلص { نعذب طائفة } يعني المنافقين وقال القتبي قد يذكر الجماعة ويراد به الواحد كقوله { إن نعف عن طائفة } وإنما كان رجلا واحدا وكقوله { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } وأراد به النبي صلى اللّه عليه وسلم

ويقال { إن نعف عن طائفة منكم } وهم المخلصون { نعذب طائفة } وهم المنافقون { بأنهم كانوا مجرمين } يعني مذنبين كافرين في السر قرأ عاصم { إن نعف } بالنون { نعذب } بالنون وكسر الذال { طائفة } بالنصب وقرأ الباقون { إن يعف } بالياء والضم { تعذب } التاء ونصب الذال { طائفة } بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله

٦٧

قوله تعالى { المنافقون والمنافقات } يعني المنافقين من الرجال والمنافقات من النساء { بعضهم من بعض } يعني بعضهم على دين بعض في السر { يأمرون بالمنكر } يعني بالتكذيب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبالشرك وبما لا يرضي اللّه تعالى ويقال المنكر ما يخالف الكتاب والسنة { وينهون عن المعروف } يعني عن التوحيد وإتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم { ويقبضون أيديهم } يعني يمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل اللّه ويقال كفوا عن الحق { نسوا اللّه } يقول تركوا طاعة اللّه { فنسيهم } يعني تركهم في النار ويقال تركهم في الحرمان والخذلان كقوله تعالى { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأعراف : ١٨٦ ] { إن المنافقين هم الفاسقون } يعني الخارجين عن طاعة اللّه تعالى وكل منافق فاسق وقد يكون فاسقا ولا يكون منافقا ولا يكون منافقا إلا وهو فاسق

٦٨

ثم قال { وعد اللّه المنافقين } الوعد يكون بالخير ويكون بالشر إذا قيد به والوعيد لا يكون إلا بالشر فقال { وعد اللّه المنافقين والمنافقات } يعني المنافقين الذين كانوا بالمدينة ومن كان على مذهبهم ويكون إلى يوم القيامة { والكفار } وهم أهل مكة ومن كان بمثل حالهم { نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم } يعني تكفيهم النار جزاء لكفرهم { ولعنهم اللّه } يعني طردهم اللّه من رحمته { ولهم عذاب مقيم } يعني دائم

٦٩

قوله { كالذين من قبلكم } يعني صنيعكم مع نبيكم كما صنع الأمم الخالية مع أنبيائهم عليهم السلام وقال الضحاك يعني لعن المنافقين كما لعن الذين من قبلهم من الأمم الخالية

ويقال ولهم عذاب دائم { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا } يعني لم ينفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب اللّه شيئا فلا ينفعكم أموالكم ولا أولادكم أيضا { فاستمتعوا بخلاقهم } يعني فانتفعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا { فاستمتعتم بخلاقكم } يقول إنتفعتم أنتم بنصيبكم من الآخرة في الدنيا { كما إستمتع الذين من قبلكم } من الأمم الخالية { بخلاقهم } أي بنصيبهم { وخضتم } في الباطل { كالذي خاضوا }

ويقال كذبتم الرسول كما كذبوا رسلهم { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } يعني بطل ثواب أعمالهم فلا ثواب لهم لأنها كانت في غير إيمان { وأولئك هم الخاسرون } يعني في الآخرة

٧٠

قوله تعالى { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } يعني ألم يأتهم خبر الذين من قبلهم في القرآن عند التكذيب كيف فعلنا بهم { قوم نوح } كيف أغرقناهم { و } قوم { عاد } كيف أهلكناهم بالريح العقيم { و } قوم { ثمود } وهم قوم صالح كيف أهلكناهم بالصيحة { وقوم إبراهيم } وهو نمروذ بن كنعان كيف أهلكناهم بأضعف الخلق وهو البعوض { وأصحاب مدين } وهم قوم شعيب كيف أهلكناهم بعذاب يوم الظلة { والمؤتفكات } يعني مدائن قوم لوط { والمؤتفكات } جمع المؤتفكة لأنها إئتفكت بهم يعني إنقلبت بهم كقوله تعالى { والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى } [ النجم : ٥٣ ] يعني أمطرت عليهم الحجارة وقال مقاتل المؤتفكات يعني المكذبات { أتتهم رسلهم بالبينات } يعني بالأمر والنهي فتركوا طاعتي فأهلكتهم { فما كان اللّه ليظلمهم } يعني لم يهلكهم بغير ذنب { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بتركهم طاعتي وتكذيبهم الرسل

٧١

قوله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } يعني بعضهم على دين بعض وبعضهم معين لبعض في الطاعة { يأمرون بالمعروف } يعني بالإيمان واتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم { وينهون عن المنكر } يعني عن الشرك { ويقيمون الصلاة } يعني يقرون بها ويتمونها { ويؤتون الزكاة } يعني ويقرون بها ويؤدونها { ويطيعون اللّه ورسوله } يعني يطيعون اللّه في فرائضه ويطيعون الرسول في السنن وفيما بين { أولئك سيرحمهم اللّه } يعني ينجيهم اللّه من العذاب الأليم { إن اللّه عزيز } ذو النقمة { حكيم } في أمره حكم للمؤمنين بالجنة وللكافرين بالنار قال الفقيه ذكر عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال سيرحمهم اللّه في خمسة مواضع عند الموت وسكراته وفي القبر وظلماته وعند الكتاب وحسراته وعند الميزان وندامته وعند الوقوف بين يدي اللّه وسؤالاته

٧٢

قوله تعالى { وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات } يعني المصدقين من الرجال والمصدقات من النساء { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة } يعني منازل طاهرة تطيب فيها النفس { في جنات عدن } في قصور من الدر والياقوت

وقال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل وعبد اللّه بن محمد قالا حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل العابد قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن مجاهد قال قرأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وهو على المنبر { جنات عدن } فقال هل تدرون ما جنات عدن ثم قال قصر في الجنة من ذهب له خمسمائة ألف باب وعلى كل باب خمسة وعشرون ألفا من الحور العين لا يدخلها إلا نبي وهنيئا لصاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أو صديق وهنيئا لأبي بكر أو شهيد وأنى لعمر بالشهادة

ثم قال تعالى { ورضوان من اللّه أكبر } يعني رضى الرب عنهم أعظم مما هم فيه من الثواب والنعيم في الجنة { ذلك هو الفوز العظيم } يعني النجاة الوافرة

٧٣

قوله تعالى { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } { الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالقول الشديد قال إبن مسعود قوله { جاهد الكفار والمنافقين } قال جاهد بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك فالقهم بوجه عبوس وعن الحسن قال { جاهد الكفار } بالسيف و { المنافقين } بالحدود يعني أقم عليهم حدود اللّه { واغلظ عليهم } يعني أشدد عليهم يعني على الفريقين جميعا في المنطق ثم بين مرجعهم جميعا في الآخرة { ومأواهم جهنم } يعني مصيرهم ومآبهم إلى جهنم { وبئس المصير } الذي صاروا إليه ثم بين خبثهم وسوء معاملتهم وفعالهم فقال اللّه تعالى { يحلفون باللّه ما قالوا } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسا فقال الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير فسمع عامر بن قيس فقال واللّه إن محمدا لصادق ولأنتم شر من الحمير فلما رجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه عامر بن قيس فأخبره فقال الجلاس بل كذب علي وأمرهما أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس وحلف ثم قام عامر بن قيس وحلف أنه قد قاله وما كذبت عليه ثم رفع يديه فقال اللّهم أنزل على نبيك صلى اللّه عليه وسلم وبين الصادق منا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون آمين فنزل جبريل قبل أن يتفرقوا بهذه الآية { يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } يقول كفروا في السر قبل إقرارهم في العلانية { وهموا بما لم ينالوا } يعني أرادوا قتل عامر بن قيس

ويقال قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك أنهم إجتمعوا ذات ليلة في مضيق جبل ليقتلوه إذا مر بهم فدفعهم اللّه عنه ويقال { وهموا بما لم ينالوا } وهو قول عبد اللّه بن أبي سلول لأصحابه { إتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل اللّه إنهم ساء ما كانوا يعملون } [ المنافقون : ٨ ] وقال سمن كلبك يأكلك يعني سلطناهم على أنفسنا فنزل { وهموا بما لم ينالوا } وقال مقاتل كان المنافقون أصحاب العقبة هموا ليلا بقتل النبي صلى اللّه عليه وسلم بالعقبة في غزوة تبوك فنزل { وهموا بما لم ينالوا } وهكذا قال الضحاك

٧٤

ثم قال تعالى { وما نقموا } يقول وما عابوا وما طعنوا على محمد صلى اللّه عليه وسلم { إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قدم المدينة وكان أهل المدينة في شدة من عيشهم لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة إستغنوا فذلك قوله { إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله }

ثم قال اللّه تعالى { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } يعني إن تابوا من الشرك والنفاق يكون خيرا لهم من الإقامة عليه { وإن يتولوا } يقول أبوا عن التوبة { يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة } يعني في الدنيا بإظهار حالهم وفي الآخرة في نار جهنم { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } يعني مانع يمنعهم من العذاب وذكر أنه لما نزلت هذه الآية تاب الجلاس بن سويد وحسنت توبته

٧٥

قوله تعالى { ومنهم من عاهد اللّه } قال في رواية الكلبي نزلت الآية في شأن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال في الشام فجهد بذلك جهدا شديدا فحلف باللّه { لئن آتانا من فضله } يعني المال الذي بالشام { لنصدقن } منه ولأؤدين حق اللّه منه فلم يفعل لما أعطاه اللّه تعالى المال

قال مقاتل نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري كان محتاجا فقال { لئن آتانا اللّه من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } فابتلاه اللّه تعالى فرزقه ذلك وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ فدفع النبي صلى اللّه عليه وسلم ديته إلى عصبته وهو ثعلبة فبخل ومنع حق اللّه تعالى

قال الفقيه حدثنا أبو الفضل بن أبي حفص قال حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا أسد بن موسى قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا معاذ بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يرزقني مالا فقال صلى اللّه عليه وسلم ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال ثم رجع إليه فقال يا رسول اللّه أدع اللّه أن يرزقني مالا فقال ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثلي واللّه لو سألت اللّه تعالى أن يسيل علي الجبال ذهبا وفضة لسالت ثم رجع إليه ثالثا فقال يا رسول اللّه أدع اللّه لي أن يرزقني مالا فواللّه لئن آتاني اللّه مالا لأؤدين لكل ذي حق حقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّهم أرزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها أزقة المدينة فتنحى بها وكان يشهد الصلوات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم يخرج إليها ثم نمت حتى تعذرت عليها مراعي المدينة فتنحى بها وكان يشهد الجمعة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم يخرج إليها ثم نمت فترك الجمعة والجماعات وجعل يتلقى الركبان ويقول ماذا عندكم من الخبر وما كان من أمر الناس فأنزل اللّه تعالى على رسوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } [ التوبة : ١٠٣ ] فاستعمل النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقات رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم وكتب لهما كتاب الصدقة وأمرهما أن يصدقا الناس وأن يمرا بثعلبة فيأخذا منه صدقة ماله فأتيا ثعلبة وطلبا منه صدقة ماله فقال ثعلبة صدقا الناس فإذا فرغتما فمرا بي ففعلا فلما رجعا إليه وطلبا منه فأبى وقال ما هذه إلا أخية الجزية فانطلقا حتى أتيا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه على رسوله { ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين}

٧٦

 {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه فركب رجل من الأنصار هو إبن عم لثعلبة راحلته حتى أتى ثعلبة فقال ويحك يا ثعلبة هلكت قد أنزل اللّه فيك من القرآن كذا وكذا فأقبل ثعلبة بن حاطب وجعل على رأسه التراب وهو يبكي ويقول يا رسول اللّه إقبض مني صدقة مالي فلم يقبض منه صدقته حتى قبض اللّه تعالى رسوله ثم أتى إلى أبي بكر فلم يقبل صدقته ثم أتى إلى عمر فلم يقبل صدقته ثم أتى إلى عثمان فلم يقبل صدقته ومات في خلافة عثمان فذلك قوله تعالى { فلما آتاهم } يعني أعطاهم { من فضله } يعني من المال { بخلوا به } بمنع حق اللّه { وتولوا } عن الصدقة { وهم معرضون } لم يفوا بما قالوا

٧٧

قوله تعالى { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم } يقول جعل عاقبتهم إلى النفاق { إلى يوم يلقونه } يعني يلقون اللّه وهو يوم القيامة { بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } لقوله { لئن آتانا اللّه من فضله لنصدقن}

وقال عبد اللّه بن مسعود إعتبروا المنافق بثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر

ثم قرأ { ومنهم من عاهد اللّه } إلى قوله { وبما كانوا يكذبون } فقد ذكر الثلاثة في هذه الآية

٧٨

قوله تعالى { ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم } وقال مقاتل نزلت هذه الآية في أصحاب العقبة حين هموا بما لم ينالوا ويقال هذا عطف نسق عطف على قوله { لئن آتانا من فضله لنصدقن } { ألم يعلموا أن اللّه يعلم سرهم ونجواهم } { وأن اللّه علام الغيوب } أي علم غيب كل شيء مما هموا به

٧٩

قوله تعالى { الذين يلمزون المطوعين } يعني يطعنون ويعيبون { المؤمنين في الصدقات } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك حث الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وزن كل درهم مثقالا فقال أكثرت هل تركت لأهلك شيئا فقال يا رسول اللّه كان مالي ثمانية آلاف درهم فأما أربعة آلاف درهم التي جئت بها فأقرضتها ربي وأما أربعة آلاف التي بقيت فأمسكتها لنفسي وعيالي فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك اللّه فيه حتى بلغ ماله حين مات وقد كان طلق إحدى نسائه الثلاث في مرضه فصالحوها من ثلث الثمن على ثمانين ألف درهم ونيف وفي رواية أخرى ثمانين ألف دينار ونيف وجاء عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر وكل واحد منهم جاء بمقدار طاقته حتى جاء أبو عقيل بن قيس بصاع من تمر وقال آجرت نفسي الليلة بصاعين فصاع أقرضته لربي وصاع تركته فأمره بأن ينثره في الصدقة

وروي أن إمرأة جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بتمرة واحدة فلم ينظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إليها فنزل { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين } إلى آخره وكان نفر من المنافقين جلوسا يستهزئون فقالوا لقد تصدق عبد الرحمن وعاصم بن عدي رياء ولقد كان اللّه غنيا عن صاع أبي عقيل فنزل { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين } يعني يطعنون المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم وهم عبد الرحمن وعاصم وغيرهما

{ والذين لا يجدون إلا جهدهم } قال أهل اللغة الجهد بالضم الطاقة والجهد بالنصب المشقة وقال الشعبي الجهد هو القيتة يعني القلة والجهد بالنصب هو الجهد في العمل { فيسخرون منهم } يقول يستهزئون بهم { سخر اللّه منهم } يعني يجازيهم جزاء سخريتهم وهذا كقوله { اللّه يستهزىء بهم } [ البقرة : ١٥ ]

ثم قال { ولهم عذاب أليم } يعني وجيع دائم فلما نزلت هذه الآية جاؤوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه إستغفر لنا

٨٠

فنزل { إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم } قوله { إستغفر لهم } اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر فمعناه إن شئت إستغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم يعني للمنافقين { إن تستغفر لهم سبعين مرة } يعني فإنك إن تستغفر لهم سبعين مرة { فلن يغفر اللّه لهم }ثم بين المعنى الذي لم يغفر لهم بسببه فقال تعالى { ذلك بأنهم كفروا باللّه ورسوله } يعني في السر وقال قتادة ومجاهد لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأزيدن على سبعين مرة فاستغفر لهم أكثر من سبعين مرة لعل اللّه يغفر لهم فأنزل اللّه تعالى { سواء عليهم إستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم } [ المنافقون : ٦ ] ثم قال { واللّه لا يهدي القوم الفاسقين } يعني المنافقين الذين كفروا باللّه ورسوله في السر واللّه تعالى لا يهديهم ما داموا ثابتين على النفاق

٨١

قوله تعالى { فرح المخلفون } يقول عجب ورضي المتخلفون عن الغزو وهم المنافقون { بمقعدهم خلاف رسول اللّه } يعني بتخلفهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا لا تنفروا في الحر } يعني قال بعضهم لبعض لا تخرجوا إلى الغزو فإن الحر شديد قال اللّه تعالى { قل } يا محمد { نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } يعني لو كانوا يفهمون قراءة إبن مسعود { لو كانوا يعلمون }

٨٢

ثم قال عز وجل { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } اللفظ لفظ الأمر والمراد به التوبيخ قال الحسن يعني { فليضحكوا قليلا } في الدنيا { وليبكوا كثيرا } في الآخرة في النار { جزاء بما كانوا يكسبون } يعني عقوبة لهم ما كانوا يكفرون وعن أبي رزين أنه قال في قوله تعالى { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } قال يقول اللّه تعالى الدنيا قليل فليضحكوا قليلا فيها ما شاؤوا فإذا صاروا إلى النار بكوا بكاء لا ينقطع فذلك الكثير

وروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي عامر عن عمرو بن شرحبيل قال مر النبي صلى اللّه عليه وسلم على ملأ من قريش وفيهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة فقال أبو جهل هذا نبيكم يا بني عبد مناف فقال عتبة وما ننكر أن يكون منا نبي أو ملك فسمعه النبي صلى اللّه عليه وسلم فأقبل عليهم فقال أما أنت يا عتبة فلم تغضب للّه ولا لرسوله وإنما غضبت للأصل وأما أنت يا أبا جهل فواللّه لا يأتي عليك إلا غير كثير من الدهر حتى تبكي كثيرا وتضحك قليلا وأما أنتم يا ملأ قريش فواللّه لا يأتي عليكم إلا غير كثير من الدهر حتى تدخلوا في هذا الأمر الذي تنكرون طائعين أو كارهين قال فسكتوا كأنما ذر على رؤوسهم التراب فلم يردوا عليه شيئا

وروى أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يرسل اللّه تعالى البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يرى في وجوههم كهيئة الأخدود

٨٣

قوله تعالى { فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم } يعني إن رجعك اللّه من تبوك إلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا { فاستأذنوك للخروج } معك إلى غزوة أخرى { فقل لن تخرجوا معي أبدا } إلى الغزو { ولن تقاتلوا معي عدوا } ويقال معناه لن تخرجوا إلا مطيعين من غير أن تكون لهم شركة في الغنيمة { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } أي بالتخلف عن غزوة تبوك { فاقعدوا مع الخالفين } يعني مع المتخلفين الذين تخلفوا بغير عذر ويقال الخالف الذي يخلف الرجل في أهله وماله ويقال الخالف الذي خالف قومه ويقال الخالف الفاسد ويقال الخالف المرأة والخوالف النساء

٨٤

قوله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } يعني لا تصل أبدا على من مات من المنافقين { ولا تقم على قبره } يعني لا تدفنه { إنهم كفروا باللّه ورسوله } في السر { وماتوا وهم فاسقون } يعني ماتوا على الكفر قال مقاتل ذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جاء إليه عبد اللّه بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين حين مات أبوه فقال أنشدك اللّه أن لا تشمت بي الأعداء فطلب منه أن يصلي على أبيه فأراد النبي أن يفعل فنزلت هذه الآية فانصرف النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يصل عليه وقال في رواية الكلبي لما إشتكى عبد اللّه بن أبي إبن سلول عاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فطلب منه عبد اللّه أن يصلي عليه إذا مات وأن يقوم على قبره وأن يكفنه في القميص الذي يلي جسده فقبل ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عمر فجئت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين أراد أن يصلي عليه فقلت يا رسول اللّه أتصلي عليه وهو صاحب كذا وصاحب كذا فقال دعني يا عمر ثم عدت ثانيا ثم عدت ثالثا فنزلت هذه الآية { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الآية

وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد صلى عليه وقام على قبره وكفنه في قميصه فنزل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الآية فنهي أن يصلي على أحد من المنافقين بعده قال ابن عباس واللّه لا أعلم أي صلاة كانت وما خادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنسانا قط وفي خبر آخر أن عمر قال يا رسول اللّه أتصلي عليه وتعطيه قميصك وهو كافر منافق فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم وما علمت يا عمر عسى أن يسلم بسبب هذا القميص خلق كثير ولا يغنيه قميص من عذاب اللّه شيئا فأسلم من بني الخزرج من أهاليه خلق كثير وقالوا لولا أن عبد اللّه عرفه حقا ما تبرك بقميصه وما طلب منه أن يصلي عليه

٨٥

ثم قال تعالى { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا }يعني بالأموال في الآخرة على وجه التقديم { وتزهق أنفسهم وهم كافرون }

٨٦

قوله تعالى { وإذا أنزلت سورة } يعني سورة براءة { أن آمنوا باللّه } يعني يأمرهم فيها أن صدقوا بقلوبكم كما أقررتم بلسانكم { وجاهدوا مع رسوله إستأذنك أولوا الطول منهم } يعني إستأذنك في القعود أهل السعة والغنى من المنافقين { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } يعني دعنا وائذن لنا نتخلف ونقعد مع القاعدين الذين تخلفوا في المدينة عن الجهاد و

٨٧

{ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } يعني بأن يجالسوا النساء بالمدينة يقال الخوالف هم خساس الناس ودناتهم يقال خالف أهله إذا كان دونهم { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } التوحيد ويقال لا يعلمون ثواب الخروج إلى الجهاد

٨٨

ثم قال عز وجل { ولكن الرسول } يعني إن لم يجاهد المنافقون فاللّه تعالى غني عنهم ويجاهد الرسول { والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } إن لم تخرجوا أنتم { أولئك لهم الخيرات } يعني الحسنات ويقال زوجات حسان في الجنة والخيرة الزوجة والخيرة الثواب وقال القتبي والأخفش الخيرات واحدها خيرة وهن الفواضل

وروى مسروق عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال في قوله { وأولئك لهم الخيرات } قال لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها في كل يوم من اللّه تعالى تحفة وكرامة وهدية لم يكن قبل ذلك لا طمحات ولا مرحات ولا بخرات ولا دفرات { وحور عين } [ الواقعة : ٢٢ ] الآية قال أهل اللغة طمحات يعني ناكسات رؤوسهن مرحات خفيفات الرؤوس بخرات منتن ريح الفم ودفرات منتن ريح الإبط ثم قال { وأولئك هم المفلحون } يعني الناجون في الآخرة

٨٩

قوله تعالى { أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } يعني النجاة الوافرة والثواب الجزيل

٩٠

قوله تعالى { وجاء المعذرون من الأعراب } قرأ ابن عباس { المعذرون } بالتخفيف وهكذا قرأ الحضرمي وقراءة العامة { المعذرون } بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف يعني الذين أعذروا وجاؤوا بالعذر ومن قرأ بالتشديد يعني المعتذرين الذين إلا أن التاء أدغمت في الذال لقرب المخرجين ويعني المعذرين الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن لهم وهذا قول الزجاج

وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال { وجاء المعذرون } بالتخفيف وهم المخلصون أصحاب العذر وقال لعن اللّه المعذرين بالتشديد لأن المعذرين هم الذين يعتلون بلا علة ويعتذرون بلا عذر { ليؤذن لهم } في التخلف { وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله } فمن قرأ بالتشديد يكون هذا نعتا لهم ومن قرأ بالتخفيف يكون صنفين ويكون معناه وجاء الذين لهم العذر وسألوا العذر وقعد الذين لا عذر لهم وهم الذين كذبوا اللّه ورسوله في السر ثم بين أمر الفريقين فقال { سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم } وهم الذين تخلفوا بغير عذر وبين حال الذين قعدوا بالعذر

٩١

 فقال تعالى { ليس على الضعفاء } يعني على الزمن والشيخ الكبير { ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } في الجهاد { حرج } يعني لا إثم عليهم { إذا نصحوا للّه ورسوله } يعني إذا كانوا مخلصين مسلمين في السر والعلانية { ما على المحسنين من سبيل } يعني ليس على الموحدين المطيعين من حرج إذا تخلفوا بالعذر { واللّه غفور } لهم بتخلفهم { رحيم } بهم

٩٢

قوله تعالى { ولا على الذين } يعني ولا حرج على الذين { إذا ما أتوك لتحملهم } على الجهاد روى أسباط عن السدي أنه قال أقبل رجلان من الأنصار أحدهما عبد اللّه بن الأزرق والآخر أبو ليلى فسألاه أن يحملهما { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } فبكيا حزنا ألا يجدوا ما ينفقون

وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال أتاه سبعة نفر من أصحابه سالم بن عمير وحزن بن عمرو وعبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى وسليمان بن صخر وعتبة بن زيد وعمرو بن عتبة وعبد اللّه بن عمرو المزني يستحملونه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { لا أجد ما أحملكم عليه } { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع } يعني تسيل { من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } في الخروج إلى الجهاد

٩٣

قوله تعالى { إنما السبيل } يعني إثم الخروج { على الذين يستأذنونك } في التخلف { وهم أغنياء } يعني لهم سعة للخروج { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع اللّه على قلوبهم } يعني ختم { فهم لا يعلمون } التوحيد

٩٤

قوله تعالى { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم } من الغزو { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } يعني لا نصدقكم أن لكم عذرا { قد نبأنا اللّه من أخباركم } يعني أخبرنا اللّه تعالى عنكم بأنه ليس لكم عذر ويقال أخبرنا اللّه عن نفاقكم ويقال أخبرنا اللّه عن أعمالكم وسرائركم { وسيرى اللّه عملكم ورسوله } فيما تستأنفون وسيراه المؤمنون { ثم تردون } يعني ترجعون بعد الموت { إلى عالم الغيب والشهادة } يعني إلى الذي يعلم ما غاب عن العباد وما شاهدوا { فينبئكم بما كنتم تعملون } في الدنيا

٩٥

قوله تعالى { سيحلفون باللّه لكم إذا إنقلبتم إليهم } يعني إذا رجعتم إليهم من الغزو { لتعرضوا عنهم } يعني تتجاوزوا وتصفحوا عنهم { فأعرضوا عنهم } يعني اصفحوا عنهم وتجاوزوا عنهم في الدنيا { إنهم رجس } يعني قذر نجس { ومأواهم جهنم } يعني مصيرهم في الآخرة إلى جهنم { جزاء بما كانوا يكسبون } من النفاق

٩٦

قوله تعالى { يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم } يقول إن أنت رضيت عنهم يا محمد والمؤمنون { فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين } يعني المنافقين

٩٧

قوله تعالى { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } يعني أسد وغطفان وأعراب حاضري المدينة هم أشد في كفرهم ونفاقهم من غيرهم { وأجدر ألا يعلموا } يعني أحرى وأولى وأحق ألا يعلموا { حدود ما أنزل اللّه على رسوله } لأنهم كانوا أجهل وأقل علما من غيرهم وقال الكلبي يعني لا يعلمون من الفرائض التي أنزل اللّه تعالى وقال مقاتل هم أقل علما بالسنن من غيرهم

وروى الأعمش عن إبراهيم قال كان زيد بن صوحان جالسا يحدث وقد أصيبت يده يوم نهاوند فجاء أعرابي وقال إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبني فقال له زيد أو ليس الشمال قال الأعرابي واللّه لا أدري الشمال تقطع أو اليمين فقال زيد صدق اللّه { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله } ويقال أن لا يعلموا أحكام اللّه في كتابه { واللّه عليم } بهم { حكيم } في أمرهم

٩٨

ونزل فيهم { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } يعني ما ينفق في الجهاد يحسبه غرما ولا يحتسبه فيه الأجر { ويتربص بكم الدوائر } يعني ينتظر بكم الموت يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم خاصة وقال القتبي الدوائر دوائر الزمان ودوائر الزمان صروفه التي تأتيه مرة بالخير ومرة بالشر بقول اللّه تعالى { عليهم دائرة السوء } يعني عاقبة السوء والهلاك قرأ إبن كثير وأبو عمرو { دائرة السوء } بضم السين يعني عاقبة المضرة والشر وقرأ الباقون بالنصب يقال رجل سوء إذا كان خبيثا وعن الفراء أنه قال الفتح مصدر والضم إسم { واللّه سميع عليم } يعني سميعا لمقالتهم عليما بهلاكهم

٩٩

ثم ذكر من أسلم من الأعراب من جهينة وغفار وأسلم فقال اللّه تعالى { ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق } في الجهاد { قربات عند اللّه } يعني قربة إلى اللّه تعالى { وصلوات الرسول } يعني طلب دعاء الرسول عليه السلام واستغفاره يقول اللّه تعالى { ألا إنها قربة لهم } يعني نفقاتهم قربة لهم إلى اللّه تعالى وفضيلة ونجاة لهم { سيدخلهم اللّه في رحمته } يعني في جنته { إن اللّه غفور } لذنوبهم { رحيم } بهم قرأ نافع في رواية ورش { قربة } بضم الراء وقرأ الباقون بجزم الراء ومعناهما واحد

١٠٠

قوله تعالى { والسابقون الأولون } وهم الذين صلوا إلى القبيلتين { من المهاجرين والأنصار } وشهدوا بدرا وروي عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب من المهاجرون الأولون قال من صلى إلى القبلتين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فهو من المهاجرين الأولين وقال السدي كانت الهجرة قبل أن تفتح مكة فلما فتحت مكة كان من أسلم بعده ولحق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فهو تابع

وروي عن مجاشع بن مسعود البهزي أنه جاء بابن أخيه ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا بل بايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح ويكون من التابعين بإحسان قرأ العامة { والأنصار } بالكسر وقرأ الحضرمي { والأنصار } بالضم فمن قرأ بالضم فهو عطف على التابعين ومعناه والسابقون والأنصار ومن قرأ بالكسر فهو عطف على المهاجرين ومعناه ومن المهاجرين ومن الأنصار

وروي عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ { الذين اتبعوهم بإحسان } بغير واو وقراءة العامة بالواو فمن قرأ بغير واو يكون نعتا للأنصار ومن قرأ بالواو يكون نعتا لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة

وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال سمع عمر رضي اللّه عنه رجلا يقرأ هذه الآية { والذين اتبعوهم بإحسان } فقال له عمر من أقرأك هذه الآية فقال أقرأنيها أبي بن كعب فقال لا تفارقني حتى أذهب بك إليه قال فلما جاءه قال يا أبي أنت أقرأته هذه الآية هكذا قال نعم قال أنت سمعتها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال نعم قال كنت أظن أنا قد إرتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا قال أبي تصديق هذه الآية أول سورة الجمعة وأوسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال أما أول سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } [ الجمعة : ٣ ] وأوسط سورة الحشر { والذين جاءو من بعدهم } [ الحشر : ١٠ ] وآخر سورة الأنفال { والذين آمنوا من بعد وهاجروا } [ الأنفال : ٧٥ ]

وقال الشعبي { السابقون الأولون } من أدرك بيعة الرضوان وبايع تحت الشجرة { إتبعوهم بإحسان } يعني إتبعوهم على دينهم بإحسانهم { رضي اللّه عنهم } بأعمالهم { ورضوا عنه } يعني عن اللّه تعالى بثوابه إياهم في الجنة { وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار } قرأ إبن كثير { جنات تجري من تحتها الأنهار } بزيادة من وقرأ الباقون { جنات تجري تحتها الأنهار } بغير { من } صار { تحتها } نصبا لنزع الخافض { خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } يعني الثواب الوافر

١٠١

قوله تعالى { وممن حولكم من الأعراب منافقون } يعني الأعراب الذين حوالي المدينة { ومن أهل المدينة } وهو عبد اللّه بن أبي وأصحابه { مردوا على النفاق } يعني مرنوا وثبتوا على النفاق فلا يرجعون عنه ولا يتوبون { لا تعلمهم } يقول لا تعرفهم أنت بسبب إيمانهم بالعلانية { نحن نعلمهم } لأني عالم السر والعلانية ونعلم نفاقهم ونعرفك حالهم

{ سنعذبهم مرتين } قال مقاتل أحد العذابين عند الموت ضرب الملائكة الوجوه والأدبار الثاني عذاب القبر وهو ضرب منكر ونكير وقال الكلبي أول العذابين أنه أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر

وروى أسباط بن النضر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الملك السدي عن أبي مالك عن ابن عباس أنه قال قام صلى اللّه عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال يا فلان أخرج فإنك منافق

ثم قال يا فلان أخرج إنك منافق فأخرجهم بأسمائهم وكان عمر لم يشهد الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم إستحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد إنصرفوا هم قد إختبؤوا من عمر وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل عمر المسجد فإذا الناس لم يصلوا فقال له رجل من المسلمين أبشر يا عمر قد فضح اللّه المنافقين وهذا هو العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد { سنعذبهم مرتين } قال الجوع والقتل ويقال القتل والسبي وقال الحسن عذاب الدنيا وعذاب الآخرة { ثم يردون إلى عذاب عظيم } يعني عذاب جهنم أعظم مما كان في الدنيا

١٠٢

قوله تعالى { وآخرون إعترفوا بذنوبهم } يعني بتخلفهم عن الغزو وهم أبو لبابة بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن خزام { خلطوا عملا صالحا } وهو التوبة { وآخر سيئا } بتخلفهم عن غزوة تبوك

وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال تخلف أبو لبابة عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية المسجد ثم قال واللّه لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى كاد يخر مغشيا عليه حتى تاب اللّه عليه فقيل له قد تيب عليك فقال واللّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فحله بيده

ثم قال أبو لبابة يا رسول اللّه إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن إنخلع من مالي كله صدقة للّه تعالى ولرسوله فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة

وروي عن الزهري عن كعب بن مالك قال أول أمر عتب على أبي لبابة أنه كان بينه وبين يتيم عذق فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى به لأبي لبابة فبكى اليتيم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم دعه فأبى

ثم قال فأعطه إياه ولك مثله في الجنة قال لا فانطلق أبو الدحداح فقال لأبي لبابة بعني هذا العذق بحديقتي قال نعم ثم إنطلق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أرأيت إن أعطيت هذا اليتيم هذا العذق ألي مثله في الجنة قال نعم فأعطاه إياه قال وأشار أبو لبابة إلى بني قريظة حين نزلوا على حكم سعد بن معاذ وأشار إلى حلقه يعني الذبح وتخلف عن غزوة تبوك ثم تيب عليه فذلك قوله { عسى اللّه أن يتوب عليهم } وعسى من اللّه واجب أن يتجاوز عنهم { إن اللّه غفور رحيم }

١٠٣

قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } يعني من الذين قبلت توبتهم جاؤوا بأموالهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا هذه أموالنا فخذها وتصدق بها عنا فكره أن يأخذها فنزل { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } بها من ذنوبهم ويقال هذا إبتداء يعني خذ من أموال المسلمين صدقة يعني الصدقة المفروضة { تطهرهم } يعني تطهر أموالهم { وتزكيهم بها } يعني تصلح بها أعمالهم { وصل عليهم } يعني إستغفر لهم وادع لهم { إن صلاتك } يعني دعاءك واستغفارك { سكن لهم } يعني طمأنينة لأن اللّه تعالى قد قبل منهم الصدقة ويقال إن اللّه قبل منهم التوبة { واللّه سميع } لقولهم ولصدقاتهم { عليم } بثوابهم قرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { إن صلواتك } بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { صلاتك } وقال أبو عبيدة وهذا أحب إلي لأن الصلاة أكثر من الصلوات ألا ترى إلى قول اللّه تعالى { وأقيموا الصلوة } [ الأنعام : ٧٢ ] وإنما هي صلاة الأبد

١٠٤

قوله تعالى { ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } يعني ويقبل الصدقات ومعناه وما منعهم عن التوبة والصدقة فكيف لم يتوبوا ولم يتصدقوا ألم يعلموا أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده والصدقة وروى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن اللّه يقبل الصدقة إذا كانت من طيب فيربيها كما يربي أحدكم فصيله أو مهره حتى تكون اللقمة مثل أحد { وأن اللّه هو التواب } يعني المتجاوز لمن تاب { الرحيم } بالمؤمنين

١٠٥

قوله تعالى { وقل إعملوا } أي إعملوا خيرا { فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون } يعني ويراه رسوله ويراه المؤمنون وقال إبن مسعود رضي اللّه عنه إن الناس قد أحسنوا القول كلهم فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة } يعني يوم القيامة { فينبئكم بما كنتم تعملون } في الدنيا

١٠٦

قوله تعالى { وآخرون مرجون لأمر اللّه } يعني موفقون لأمر اللّه وقال القتبي مؤخرون على أمر اللّه ويقال متروكون لأمر اللّه تعالى لهم ويقال مؤخر أمرهم ولم يبين شيء فنزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ثم بين توبتهم في الآية التي بعد هذه { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } قرأ حمزة والكسائي ونافع { مرجون } بغير همز وقرأ إبن كثير وأبو عمرو بالهمز وإختلف عن عاصم وإبن عامر وأصله من التأخير { إما يعذبهم } بتخلفهم { وأما يتوب عليهم } يعني يتجاوز عنهم { واللّه عليم } بهم { حكيم } يحكم في أمرهم ما يشاء

١٠٧

قوله تعالى { والذين إتخذوا مسجدا ضرارا } يعني بنوا مسجدا مضرة للمسلمين وقال القتبي يعني مضارة ليضاروا به مخالفيهم أي ليدخلوا عليهم المضرة

{ وكفرا } يعني وإظهارا للكفر

{ وتفريقا بين المؤمنين } قرأ نافع وإبن عامر { الذين إتخذوا } بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما واحد إلا أن الواو للعطف نزلت الآية في سبعة عشر من المنافقين من بني عمرو بن عوف قالوا تعالوا نبني مسجدا يكون فيه متحدثنا ومجمع رأينا فانطلقوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألوه أن يأذن لهم في بناء المسجد وقالوا قد بعد علينا المسير إلى الصلاة معك فتفوتنا الصلاة فأذن لنا أن نبني مسجدا لذوي العلة والليلة المطيرة فأذن لهم وكانوا ينتظرون رجوع أبي عامر الراهب من الشام وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم سماه فاسقا وقال لا تقولوا راهب ولكن قولوا فاسق وقد كان آمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مرتين ثم رجع عن الإسلام فدعا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات كافرا فلما ظهر أمرهم ونفاقهم جاؤوا يحلفون

{ إن أردنا إلا الحسنى } أي أردنا ببنيانه خيرا فنزل { والذين إتخذوا مسجدا ضرارا } يعني بنوا المسجد للضرار والكفر وللتفريق بين المؤمنين لكي يصلي بعضهم في مسجد قباء وبعضهم في مسجدهم وليجتمع الناس إلى مسجدهم ويتفرق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { وإرصادا لمن حارب اللّه ورسوله من قبل } يعني إنتظارا لمن هو كافر باللّه ورسوله من قبل بناء المسجد أن يقدم عليهم لهم من قبل الشام وهو أبو عامر الراهب

{ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } يعني ما أردنا ببناء المسجد إلا صوابا لكيلا تفوتنا الصلاة بالجماعة ولكي يرجع أبو عامر الراهب ليسلم { واللّه يشهد إنهم لكاذبون } فيما حلفوا وإنما إجتمعوا فيه لإظهار النفاق والكفر

١٠٨

ثم قال تعالى { لا تقم فيه أبدا } يعني لا تصل فيه أبدا لأنهم طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتي ويصلي فيه لكي يتبركوا بصلاته فيه فنهاه اللّه تعالى عن ذلك ونزل { لا تقم فيه أبدا } حتى للصلاة فيه

ثم قال { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } يعني المسجد الذي بني على التوحيد من أول يوم قال الأخفش بني لوجه اللّه تعالى يعني منذ أول يوم ويقال بني للذكر والتكبير والتهليل ولإظهار الإسلام وقهر الشرك من أول يوم بني

ثم قال { أحق أن تقوم فيه } يعني أولى وأجدر أن تصلي فيه

ثم قال { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } يعني الإستنجاء بالماء ويقال { يحبون أن يتطهروا } يعني يطهروا أنفسهم من الذنوب وذلك أن ناسا من أهل قباء كانوا إذا أتوا الخلاء إستنجوا بالماء وهم أول من فعل ذلك واقتدى بهم من بعدهم

وروي في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقف بباب المسجد بعد نزول الآية وقال لمن فيه إن اللّه قد أحسن عليكم الثناء في طهوركم فبم تطهرون قالوا نستنجي بالماء فقرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية فذلك قوله { فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين } يعني المتطهرين

وقال سعيد بن المسيب المسجد الذي أسس على التقوى مسجد المدينة الأعظم وعن سهل بن سعد الساعدي قال إختلف رجلان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال الآخر هو مسجد قباء فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال هو مسجدي هذا وروي عن ابن عباس أنه قال هو مسجد قباء

١٠٩

ثم قال تعالى { أفمن أسس بنيانه } يعني أصل بنيانه يعني مسجد قباء وقيل مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { على تقوى } يعني على توحيد اللّه تعالى { ورضوان } من اللّه قرأ نافع وإبن عامر { أفمن أسس } بضم الألف وكسر السين { بنيانه } بضم النون على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { أسس } بنصب الألف و { بنيانه } بنصب النون ومعنى الآية إن البناء الذي يراد به الخير ورضاء الرب تبارك وتعالى { خير أم من أسس بنيانه } يعني مسجد الضرار الذي { أسس بنيانه } يعني أصل بنيانه { على شفا جرف هار } يعني على طرف هوة ليس له أصل قرأ حمزة وإبن عامر وأبي بكر عن عاصم { على شفا جرف } بجزم الراء والباقون بالضم ومعناهما واحد وقال القتبي يعني على حرف جرف هائر والجرف ما ينجرف بالسيول من الأودية والهائر الساقط يقال تهور البناء وانهار وهار إذا سقط وهذا على سبيل المثل يعني إن الذي بنى المسجد إنما بنى على جرف جهنم فانهار بأهله في نار جهنم وقال الكلبي بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين بعد رجوعه من غزوة تبوك فأحرقاه وهدماه

ثم قال { واللّه لا يهدي القوم الظالمين } يعني لا يرشدهم إلى دينه وهم الذين كفروا في السر

١١٠

قوله تعالى { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } يعني حسرة وندامة بما أنفقوا فيه وبما ظهر من أمرهم ونفاقهم { إلا أن تقطع قلوبهم } يعني لا يزال حسرة في قلوبهم إلى أن يموتوا لأنهم إذا ماتوا إنقطعت قلوبهم ويقال { إلا أن تقطع قلوبهم } يعني في القبر قرأ حمزة وإبن عامر وعاصم في رواية حفص { إلا أن تقطع } بالنصب فيكون الفعل للقلوب يعني إلا أن تتقطع قلوبهم وتتفرق والباقون بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله { واللّه عليم حكيم } بهدم مسجدهم

١١١

قوله تعالى { إن اللّه إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } معناه إنه طلب من المؤمنين أن يفدوا أنفسهم وأموالهم ويخرجوا إلى الجهاد في سبيل اللّه ليثيبهم الجنة وذكر الشراء على وجه المثل لأن الأموال والأنفس كلها للّه تعالى وهي عند أهلها عارية ولكنه أراد به التحريض والترغيب في الجهاد وهذا كقوله { من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا } [ البقرة : ٢٤٥ ]

ثم قال { يقاتلون في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه تعالى مع العدو

{ فيقتلون ويقتلون } يعني يقتلون العدو ويقتلهم العدو قرأ حمزة والكسائي { فيقتلون } بالرفع { ويقتلون } بالنصب على معنى التقديم والتأخير وقرأ الباقون { يقتلون } بالنصب { ويقتلون } بالرفع { وعدا عليه حقا } يعني واجبا لهم ذلك بأن يفي لهم ما وعد وبين لهم ذلك { في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه } يعني ليس أحد أوفى من اللّه تعالى في عهده وشرطه لأنه عهد أن من قتل في سبيل اللّه فله الجنة فيفي عهده ذلك وينجز وعده

ثم قال { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } وهذا إعلام لهم أنهم يربحون في مبايعتهم { ذلك هو الفوز العظيم } يعني الثواب الوافر والنجاة الوافرة

١١٢

قوله تعالى { التائبون العابدون } إلى آخره يعني لهم الجنة ويقال هم التائبون ويقال صار رفعا بالإبتداء وجوابه مضمر قرأ عاصم { التائبين العابدين } يعني إشترى من المؤمنين التائبين العابدين إلى آخره

ويقال إشترى من عشرة نفر أولهم الغزاة ومن التائبين الذين يتوبون عن الذنوب والذين هم العابدون يعني الموحدون

ويقال المطيعون للّه تعالى في الطاعة والجهاد

{ الحامدون } الذين يحمدون اللّه على كل حال

{ السائحون } قال ابن عباس وإبن مسعود ومجاهد والحسن يعني الصائمين وأصله السائح في الأرض لأن السائح في الأرض يكون ممنوعا عن الشهوات فشبه الصائم به وذكر عن بعضهم أنه قال هم الذين يصومون شهر الصبر وهو شهر رمضان وأيام البيض

{ الراكعون } يعني الذين يحافظون على الصلوات

{ الساجدون } الذين يسجدون للّه تعالى في الصلوات

{ الآمرون بالمعروف } يعني يأمرون الناس بالتوحيد وأعمال الخير

{ والناهون عن المنكر } الذين ينهون الناس عن الشرك والأعمال الخبيثة

{ والحافظون لحدود اللّه } يعني العاملين بما فرض اللّه عليهم وذكر عن خلف بن أيوب أنه أمر إمرأته في بعض الليل أن تمسك الرضاع عن الولد فقالت لم فقال لأنه قد تمت سنتان فقيل له لو تركتها حتى ترضع تلك الليلة وأيش يكون فقال أين قول اللّه تعالى { والحافظون لحدود اللّه }

ثم قال { وبشر المؤمنين } يعني المصدقين بهذا الشرط والعاملين به

١١٣

قوله تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا } يعني ما ينبغي وما جاز للنبي والذين آمنوا { أن يستغفروا للمشركين }

وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال ألم يستغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزل { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } { ولو كانوا أولي قربى } يعني ذا قرابة في الرحم { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } يعني أهل النار وماتوا على الكفر وهم في النار

ويقال أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يستغفر لأبويه وهما مشركان واستأذن منه المسلمون أن يستغفروا لآبائهم فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وقال { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين }

وروى مسروق عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخرجنا معه حتى إنتهينا إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلا ثم رفع رأسه باكيا فبكينا لبكاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم إن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر رضي اللّه عنه فقال ما الذي أبكاك يا رسول اللّه فأخذ بيد عمر وأقبل إلينا فأتيناه فقال أفزعكم بكائي فقلنا نعم يا رسول اللّه فقال إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر آمنة بنت وهب بن عبد مناف وإني إستأذنت ربي بالإستغفار لها فلم يأذن لي فأنزل اللّه تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدين من الرقة فذلك الذي أبكاني

وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إستأذنت ربي أن أستغفر لوالدي فلم يأذن لي وإستأذنته أن أزور قبرهما فأذن لي فنزلت هذه الآية { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } الآية

١١٤

ثم قال تعالى { وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } وذلك أن أباه وعد إبراهيم أن يسلم فكان يستغفر له رجاء أن يسلم

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات { فلما } مات { تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه } يعني ترك الدعاء ولم يستغفر له بعد لأنه مات على الكفر وللآية هذه وجه آخر روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أمية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي طالب يا عم قل لا إله إلا اللّه كلمة النجاة أشهد لك بها عند اللّه تعالى فقال أبو جهل أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل النبي صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر مما كلمهم على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أما واللّه لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فأنزل اللّه تعالى { إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء } [ القصص : ٥٦ ] ونزل { ما كان للنبي والذين آمنوا } الآية

قوله تعالى { إن إبراهيم لأواه حليم } وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل القرآن أعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم

وروي عن عبد اللّه بن عباس في رواية أخرى أنه قال الأواه الذي يذكر اللّه في أرض الوحشة

وروي عن إبن مسعود أنه قال الأواه الرحيم وقال مجاهد الأواه الموقن وقال الضحاك الأواه الداعي الذي يلح في الدعاء إلى اللّه تعالى المقبل إليه بطاعته ويقال الأواه المؤمن بلغة الحبشة ويقال الأواه معلم الخير وقال كعب الأواه الذي إذا ذكر اللّه قال أواه من النار وقال القتبي المتأوه حزنا وخوفا { حليم } يعني حليما عن الجهل

١١٥

قوله تعالى { وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أنزل اللّه تعالى عليه الفرائض فعمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون ثم إن اللّه تعالى أنزل ما ينسخ به الأمر الأول وقد غاب الناس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم يبلغهم ذلك فعملوا بالمنسوخ وكانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولا يعلمون ويشربون الخمر ولا يعلمون تحريمها فذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى { وما كان اللّه ليضل قوما بعد إذ هداهم } وإن عملوا بالمنسوخ { حتى يبين لهم ما يتقون } يعني ما نسخ من القرآن يعني إنه قبل منهم ما عملوا بعد النسخ ولا يؤاخذهم بذلك

ويقال وما كان اللّه ليهلك قوما في الدنيا حتى يقيم عليهم الحجة ويقال ما كان اللّه ليعذبهم في الآخرة حتى يبين لهم ما يتقون ويقال لا يتركهم بلا بيان بعد أن أكرمهم بالإيمان حتى يبين لهم ما يحتاجون أن يتقوه ويقال لا ينزع الإيمان عنهم بعد أن هداهم إلى الإيمان حتى يبين لهم الحدود والفرائض فإذا تركوا ذلك ولم يروه حقا عذبهم اللّه تعالى ونزع عنهم المعرفة ويقال { وما كان اللّه ليضل قوما } على الإبتداء { حتى يبين لهم ما يتقون } فيصيروا فيه ضلالا وهذا طريق المعتزلة والطريق الأول أصح وبه نأخذ

ثم قال تعالى { إن اللّه بكل شيء عليم } يعني عليم بكل ما يصلح للخلق

١١٦

ثم قال تعالى { إن اللّه له ملك السموات والأرض } يعني يحكم فيهما بما يشاء بالأمر بعد الأمر يأمر بأمر ثم يأمر بغيره ويقر ما يشاء فلا ينسخه { يحيي ويميت } يعني يحيي الموتى ويميت الأحياء { وما لكم من دون اللّه } يعني من عذاب اللّه تعالى { من ولي } يعني من قريب ينفعكم { ولا نصير } يعني مانعا يمنعكم وقال الكلبي { يحيي } يعني في السفر { ويميت } في الحضر يعني إن هذا ترغيب في الجهاد لكي لا يمتنعوا مخافة الموت القتل والموت

١١٧

قوله تعالى { لقد تاب اللّه على النبي } يعني تجاوز اللّه عن النبي إذنه للمنافقين بالتخلف كقوله { عفا اللّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : ٤٣ ] ويقال { لقد تاب اللّه على النبي } يعني غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما ذكر في أول سورة الفتح

ثم قال { والمهاجرين والأنصار } يعني تجاوز عنهم ذنوبهم لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق ثم نعتهم فقال { الذين إتبعوه في ساعة العسرة } يعني وقت الشدة في غزوة تبوك كانت لهم العسرة في أربعة أشياء عسرة النفقة والركوب والحر والخوف { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } يعني تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج إلى الغزو ويقال من بعد ما كادوا أن يرجعوا من غزوتهم من الشدة ويقال هم قوم تخلفوا عنه ثم خرجوا فأدركوه في الطريق { ثم تاب عليهم } يعني تجاوز عنهم { إنه بهم رؤوف رحيم } حين تاب عليهم قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { يزيغ قلوب } بالياء بلفظ التذكير والباقون بالتاء بلفظ التأنيث ولفظ التأنيث إذا لم يكن حقيقيا جاز والتأنيث والتذكير لأن الفعل مقدم فيجوز التذكير والتأنيث

١١٨

قوله تعالى { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } يعني وتاب اللّه على الثلاثة وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية قال الفقيه سمعت أبي رحمه اللّه يذكر بإسناده عن معمر عن الزهري عن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة له غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا فلم يعاتب النبي صلى اللّه عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش معينين لعيرهم فالتقوا على غير موعدهم ثم لم أتخلف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وعن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار وكان قل ما أراد غزوة إلا ورى بغيرها وكان يقول الحرب خدعة فأراد في غزوة أن يتأهب الناس أهبتهم وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار

فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى اللّه عليه وسلم غازيا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح غاديا فقلت إنطلق غاديا إلى السوق غدا فأشتري ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر علي بعض شأني فرجعت فقلت أرجع غدا إن شاء اللّه فألحق بهم فعسر علي بعض شأني فلم أزل كذلك حتى إلتبس بي الريب وتخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة فيحزنني أن لا أرى أحدا تخلف إلا رجلا مغموسا عليه في النفاق وكان جميع من تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال فما فعل كعب بن مالك فقال رجل من قومي خلفه يا رسول اللّه حسن برديه والنظر إلى عطفيه فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت واللّه يا نبي اللّه ما نعلم منه إلا خيرا

فلما قضى النبي صلى اللّه عليه وسلم غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي حتى إذا أقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم زاح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلا بالصدق ودخل النبي صلى اللّه عليه وسلم ضحى فصلى في المسجد ركعتين وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك فدخل المسجد وصلى ركعتين ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى اللّه تعالى

فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسم تبسم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال ألم تكن ابتعت ظهرك فقلت بلى يا رسول اللّه فقال ما خلفك فقلت واللّه لو أني بين يدي أحد من الناس غيرك لخرجت من سخطه علي بعذر ولقد أوتيت جدلا ولكني قد علمت يا رسول اللّه أني لو أخبرتك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حق فإني أرجو فيه عفو اللّه وإن حدثتك حديثا ترضى عني فيه وهو كذب يوشك اللّه أن يطلعك علي واللّه يا نبي اللّه ما كنت قط أيسر ولا أخف حالا حين تخلفت عنك قال أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي اللّه فيك فقمت فنازعني ناس من قومي يؤنبونني وقالوا واللّه ما نعلمك أذنبت ذنبا قط قبل هذا فهلا إعتذرت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بما يرضى عنك فيه فكان إستغفاره سيأتي من وراء ذلك ولم توقف نفسك موقفا ما تدري ما يقضى لك فيه فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت هل قال هذا القول أحد غيري قالوا نعم فقلت من هو فقالوا هلال بن أمية ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فقلت واللّه لا أرجع إليه في هذا أبدا ولا أكذب نفسي قال فنهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة قال فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرفهم وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالتي نعرف وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلى اللّه عليه وسلم فأسلم عليه وأقول هل حرك شفتيه بالسلام فإذا قمت أصلي إلى سارية فأقبلت على صلاتي نظر إلي بمؤخر عينيه فإذا نظرت إليه أعرض عني واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار ولا يطلعان رؤوسهما فبينما أنا أطوف بالسوق إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول من يدلني على كعب بن مالك فانطلق الناس يشيرون إلي فأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولست بدار مضيعة ولا هوان فالحق بنا نواسيك فقلت هذا أيضا من البلاء يعني الدعوة إلى الكفر فسجرت لها التنور فأحرقتها فيه

فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أتاني وقال إعتزل إمرأتك فقلت أطلقها فقال لا ولكن لا تقربها فجاءت إمرأة هلال بن أمية فقالت يا نبي اللّه إن هلالا شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال نعم ولكن لا يقربنك فقالت يا نبي اللّه واللّه ما به من حركة من شيء يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان قال كعب فلما طال علي البلاء إقتحمت على أبي قتادة حائطه وهو إبن عمي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فقلت أنشدك اللّه يا أبا قتادة أتعلم أني أحب اللّه ورسوله فسكت ثم قلت أنشدك باللّه يا أبا قتادة أتعلم أني أحب اللّه ورسوله حتى عاودته ثلاث مرات قال اللّه تعالى ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت ثم إقتحمت الحائط خارجا حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم الناس عن كلامنا صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال اللّه تعالى { ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم } إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وعرفت أن اللّه تعالى قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركب على فرس يبشرني فكان الصوت أسرع من فرسه فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين وانطلقت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وجعل الأنصار يستقبلونني فوجا فوجا ويهنئونني ويبشرونني ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد اللّه قام وتلقاني بالتهنئة فما نسيت ذلك منه وانطلقت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا بشر بالأمر إستنار وجهه كالقمر فجئت فجلست بين يديه فقال أبشر يا كعب بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك فقلت يا نبي اللّه أمن عندك أم من عند اللّه قال بل من عند اللّه ثم تلا قوله تعالى { لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار } إلى

قوله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } الآية فقلت يا نبي اللّه إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا وأن أنخلع من مالي كله صدقة للّه ورسوله قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال فما أنعم اللّه علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وإني لأرجو ألا يكون اللّه أبلى أحدا في الصدق كما أبلاني ما تعمدت لكذبة قط مذ قلت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي

وروى الزهري عن كعب بن مالك قال كانت توبتنا نزلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم في ثلث الليل فقالت أم سلمة يا نبي اللّه ألا نبشر كعبا بن مالك قال إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة وكانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن بأمري وذلك

قوله تعالى { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } يعني وتاب اللّه على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ويقال { وعلى الثلاثة الذين تخلفوا } عن التوبة يعني أبا لبابة { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } يعني بسعتها { وضاقت عليهم أنفسهم } يعني ضاقت قلوبهم { وظنوا أن لا ملجأ من اللّه } يعني علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب اللّه { إلا إليه } يعني إلا بالتوبة إليه { ثم تاب عليهم ليتوبوا } يعني تجاوز عنهم حتى تابوا ويقال أكرمهم اللّه فوفقهم للتوبة لكي يتوبوا ويقال تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم { إن اللّه هو التواب الرحيم } يعني المتجاوز لمن تاب { الرحيم } بهم بعد التوبة

١١٩

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إتقوا اللّه } أي إخشوا اللّه ولا تعصوه وهم من أسلم من أهل الكتاب { وكونوا مع الصادقين } قال الضحاك يعني مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغزو بإخلاص نية ويقال هذا الخطاب للمنافقين الذين كانوا يعتذرون بالكذب ومعناه { يا أيها الذين آمنوا } في العلانية { إتقوا اللّه } { وكونوا مع الصادقين } أي مع الذين صدقوا

وروي عن كعب بن مالك أنه قال فينا نزلت { وكونوا مع الصادقين } وقال الكلبي { وكونوا مع الصادقين } يعني المهاجرين والأنصار الذين صلوا إلى القبلتين وقال مقاتل هم الذين وصفهم اللّه تعالى في آية أخرى { إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله } [ النور : ٦٢ ] الآية

ويقال { مع الصادقين } في إيمانهم يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضوان اللّه عليهم أجمعين حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أبو بكر القاضي قال حدثنا أحمد بن جرير قال حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن جويبر عن الضحاك في قوله { وكونوا مع الصادقين } قال أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما

١٢٠

قوله تعالى { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } يعني المنافقين الذين بالمدينة وحوالي المدينة { أن يتخلفوا عن رسول اللّه } في الغزو { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } يعني لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم أبر وأشفق من نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم وأن يتركوا محبته

ويقال { ولا يرغبوا بأنفسهم } يعني لا يركنوا بإبقاء أنفسهم على إبقاء نفسه يعني ينبغي لهم أن يتبعوه حيث ما يريد { ذلك } يعني النهي عن التخلف ويقال ذلك التحضيض الذي حضهم عليه { بأنهم لا يصيبهم } في غزوهم { ظمأ ولا نصب } يعني ولا تعب ولا مشقة في أجسادهم

ثم قال { ولا مخمصة } يعني مجاعة { في سبيل اللّه ولا يطؤون موطئا } يعني لا يطؤون أرضا وموضعا من سهل أو جبل { يغيظ الكفار } يعني يحزن الكفار بهم { ولا ينالون من عدو نيلا } يعني لا يصيبون من عدو قتلا أو غارة أو هزيمة { إلا كتب لهم به عمل صالح } يعني يضاعف حسناتهم على حسنات القاعدين { إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين } يقول لا يبطل ثواب المجاهدين وفي هذه الآية دليل أن ما أصاب الإنسان من الشدة يكتب له بذلك ثواب قال بعضهم لا يكتب له بالشدة ثواب ولكن يحط عنه الخطيئة وقال بعضهم لا يكون بالمشقة أجر ولكن بالصبر على ذلك

١٢١

ثم قال تعالى { ولا ينفقون نفقة } يعني في الجهاد { صغيرة ولا كبيرة } يعني قليلا ولا كثيرا { ولا يقطعون واديا } من الأودية مقبلين إلى العدو أو مدبرين { إلا كتب لهم } يعني كتب لهم ثواب { ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون } يقول ليجزيهم بأعمالهم ويقال يجزيهم أحسن من أعمالهم لأنه يعطي بحسنة واحدة عشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يدرك حسابه ويقال ليجزيهم بأحسن أعمالهم وتصير سائر أعمالهم فضلا

١٢٢

قوله تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } روي عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } يعني ما كان للمؤمنين لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى اللّه عليه وسلم وحده بالمدينة { فلولا نفر } يقول فهلا خرج { من كل فرقة منهم طائفة } يعني عصبة وجماعة ويقيم طائفة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم { ليتفقهوا في الدين } يعني ليتعلموا العلم وشرائع الدين فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فيعلمونهم ويقولون إن اللّه تعالى قد أنزل على نبيكم بعدكم كذا وكذا وهذا قوله { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } يعني يتعظون بما أمروا ونهوا عنه ولها وجه آخر وهو ما روي أيضا عن معاوية بن صالح عن علي بن طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما دعا على مضر بالسنين أجدبت بلادهم وكانت القبيلة تقبل بأسرها حتى يلحقوا بالمدينة ويعلنوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل اللّه تعالى يخبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنهم ليسوا بمؤمنين فردهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم بعد ذلك وهو قوله { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }

وروى أسباط بن السدي قال أقبلت أعراب هذيل وأصابتهم مجاعة واستعانوا بتمر المدينة وأظهروا الإسلام وكانوا يفتخرون على المؤمنين فيقولون نحن أسلمنا طائعين يعني بغير قتال وأنتم قوتلتم فنحن خير منكم فآذوا المؤمنين فأنزل اللّه تعالى فيهم يخبرهم بأمرهم قال { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } أي جميعا { فلولا نفر من كل فرقة منهم } يعني من كل بطن طائفة فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسمعوا كلامه ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم { لعلهم يحذرون } يعني يتعظون فيعملون به ولا يعملون بخلافه وفي هذه الآية دليل أن أخبار الآحاد مقبولة ويجب العمل بها لأن اللّه تعالى أخبر أن الفرقة من الطائفة إذا تفقهت في الدين وأنذرت قومهم صح ذلك ولفظ الطائفة يتناول الواحد والأكثر لأن أقل الفرقة إثنان والطائفة من الإثنين واحد

١٢٣

قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } يعني ما حولكم وبقربكم من عدوكم وهم بنو قريظة والنضير وفدك وخيبر فأمر اللّه تعالى كل قوم بأن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار قال أبو جعفر الطحاوي منع اللّه تعالى نبيه عن قتال الكفار بقوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } ثم أباح قتال من يليه بقوله { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ثم أباح قتال جميع الكفار بقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : ٥ ]

ثم قال { وليجدوا فيكم غلظة } يعني شدة عليهم { واعلموا أن اللّه مع المتقين } ينصرهم على عدوهم

١٢٤

قوله تعالى { وإذا ما أنزلت سورة } يعني القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { فمنهم } يعني من المنافقين { من يقول } بعضهم لبعض { أيكم زادته هذه } السورة { إيمانا } يعني تصديقا إستهزاء بها

قال اللّه تعالى { فأما الذين آمنوا } يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم { فزادتهم إيمانا } يعني تصديقا بهذه السورة مع تصديقهم باللّه تعالى وثباتا على الإيمان { وهم يستبشرون } يقول يفرحون بما أنزل اللّه من القرآن

قال الفقية حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الشنابازي قالا حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل العابد قال حدثنا يحيى بن عيسى قال حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة أنه قال جاء وفد ثقيف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإيمان يزيد وينقص قال لا الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر

قال الفقيه حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستلم قال حدثنا أبو عمران المؤدب الدستجردي قال حدثنا صخر بن نوح قال حدثنا مسلم بن سالم عن أبي الحويرث عن عون بن عبد اللّه قال سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته لو كان الأمر على ما يقول الشكاك الضلال أن الذنوب تنقص الإيمان لأمسى أحدنا حين ينقلب إلى أهله وهو لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أو ما بقي

١٢٥

قوله تعالى { وأما الذين في قلوبهم مرض } يعني شكا ونفاقا { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } قال الكلبي أي شكا إلى شكهم وقال مقاتل إثما على إثمهم وقال القتبي أصل الرجس النتن

ثم قال الكفر والنفاق رجس لأنهما نتنان { وماتوا وهم كافرون } يعني ماتوا على الكفر لأنهم كانوا كفارا في السر ولم يكونوا مؤمنين في الحقيقة

١٢٦

قوله تعالى { أو لا يرون أنهم يفتنون } قرأ حمزة { أو لا ترون } بالتاء ويكون الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وقرأ الباقون بالياء يعني { أو لا يرون } المنافقون ولا يعتبرون { أنهم يفتنون في كل عام } يقول يبتلون بإظهار ما في صدورهم من النفاق في كل عام { مرة أو مرتين ثم لا يتوبون } من نفاقهم وكفرهم في السر { ولا هم يذكرون } يعني لا يتعظون ولا يتفكرون

قال الكلبي كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين فيعاقبون ثم لا يتوبون عن نقض العهد

وقال مقاتل وذلك أنهم إذا خلوا تكلموا بما لا يحل لهم فإذا أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبرهم بما تكلموا به فيعرفون أنه نبي ثم يأتيهم الشيطان فيحدثهم أنه يخبرهم بما بلغه عنهم فيشكون فيه فذلك قوله { يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } يعني يعرفون مرة أنه نبي وينكرون مرة أخرى { ثم لا يتوبون } عن ذلك { ولا هم يذكرون } فيما أخبرهم ويقال { يفتنون } يعني يبتلون بالأمراض والأسقام ويعاهدون اللّه تعالى لو زال عنا لفعلنا كذا وكذا ثم لا يوفون به ولا يتوبون من النفاق { ولا هم يذكرون } أي لا يتعظون بما أنزل اللّه عليهم

١٢٧

قوله تعالى { وإذا ما أنزلت سورة } يعني من القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل سورة براءة فيها عيب المنافقين { نظر بعضهم إلى بعض } أي ويتغامزون ويقولون فيما بينهم { هل يراكم من أحد } من أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا وإن لم يرهم أحد إنصرفوا يعني خرجوا من المسجد

ويقال إنصرفوا عن الإيمان { صرف اللّه قلوبهم } عن الإيمان وخذلهم عن الفهم بخروجهم وانصرافهم عن الإيمان ويقال هذا على وجه الدعاء واللعن كقوله تعالى { قاتلهم اللّه } [ التوبة : ٣٠ ] ويقال هذا على معنى التقديم ومعناه صرف اللّه قلوبهم لأنهم إنصرفوا عن الإيمان { بأنهم قوم لا يفقهون } أمر اللّه تعالى

١٢٨

قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال مقاتل يعني يا أهل مكة قد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفونه ولا تنكرونه ويقال هذا الخطاب لجميع العرب { لقد جاءكم رسول } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم { من أنفسكم } يعني من جميع العرب لأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيها قرابة وهذا من المجاز والإستعارة لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان فيهم ولم يجىء من موضع آخر ولكن معناه ظهر فيكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويقال هذا الخطاب لجميع الناس { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } يعني آدميا مثلكم قرأ بعضهم { من أنفسكم } بنصب الفاء يعني من أشرفكم وأعزكم وهي قراءة شاذة

ثم قال تعالى { عزيز عليه ما عنتم } يعني شديد عليه ما أثمتم وعصيتم { حريص عليكم }

قال الكلبي يعني على إيمانكم

وقال مقاتل { حريص عليكم } بالرشد والهدى

وقال قتادة { حريص } على من لم يسلم أن يسلم

ثم قال { بالمؤمنين رؤوف رحيم } أي رفيق بجميع المؤمنين رحيم بهم

١٢٩

ثم قال اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم { فإن تولوا } يعني إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك { فقل حسبي اللّه } يعني قل كفاني اللّه وفوضت أمري إلى اللّه ووثقت به { لا إله إلا هو } يعني لا ناصر ولا رازق ولا معين إلا هو { عليه توكلت } يعني به أثق { وهو رب العرش العظيم } يعني خالق السرير العظيم الذي هو أعظم من السموات والأرض وقرأ بعضهم { العظيم } بالرفع فجعل العظيم من نعت اللّه تعالى وقراءة العامة { العظيم } بالخفض ويكون العظيم نعتا للعرش

وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة فلم يطلب منه البينة وأثبتها في المصحف

وروي عن حذيفة أنه قال يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب عن ابن عباس أنه قال كنا نسميها الفاضحة فما زالت تنزل في المنافقين فيهم ومنهم حتى أشفق كل واحد على نفسه واللّه أعلم بالصواب

﴿ ٠