سورة النحل

مكية وهي مائة وعشرون وثمان آيات

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه أخبرنا الثقة بإسناده عن الشعبي قال نزلت سورة النحل كلها بمكة إلا هذه الآية { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية وقال ابن عباس سورة النحل كلها مكية إلا أربع آيات نزلت بالمدينة قوله { والذين هاجروا في اللّه من بعد ما ظلموا } وقوله { إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا } وقوله { واصبر وما صبرك إلا باللّه } إلى آخرها

١

قوله تعالى { أتى أمر اللّه } أي يوم القيامة ويقال يعني العذاب كقوله { حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور } [ هود : ٤٠ ] وقوله { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا } [ يونس : ٢٤ ] أي أتى أمر اللّه بمعنى يأتي أي هو قريب لأن ما هو آت آت وهذا وعيد لهم إنها كائنة وقال ابن عباس لما نزلت هذه الآية { إقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : ١ ] ثم نزل بعدها { اقتربت الساعة } [ القمر : ١ ] قالوا يا محمد تزعم أن الساعة قد إقتربت ولا نرى من ذلك شيئا فنزل { أتى أمر اللّه } أي عذاب اللّه فوثب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما لا يشك أن العذاب قد أتاهم فقال لهم جبريل { فلا تستعجلوه } قال فجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد قيامه ثم قال { سبحانه } نزه نفسه عن الولد والشريك ويقال إرتفع وتعاظم عن صفة أهل الكفر فقال عز وجل { وتعالى عما يشركون } به من الأوثان قرأ حمزة والكسائي { تشركون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء بلفظ المغايبة وكذلك ما بعده

٢

ثم قال { ينزل الملائكة } أي جبريل { بالروح } أي بالوحي وبالنبوة والقرآن { من أمره } أي بأمره قال القتبي { من } توضع موضع الباء كقوله { يحفظونه من أمر اللّه } [ الرعد : ١١ ] أي بأمر اللّه وقال ها هنا يلقي الروح { من أمره } أي بأمره { على من يشاء من عباده }أي يختار للنبوة والرسالة وقال قتادة ينزل الملائكة بالرحمة والوحي { على من يشاء من عباده } من كان أهلا لذلك قرأ إبن كثير وأبو عمرو { ينزل } بجزم النون من قولك أنزل ينزل وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { تنزل } بالتاء ونصب النون والزاي مع التشديد على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { ينزل } بالياء وكسر الزاي مع التشديد من قولك ننزل

ثم قال تعالى { أن أنذروا أنه } أي خوفوا بالقرآن الكفار وأعلموهم أنه { لا إله إلا أنا فاتقون } يعني إن اللّه واحد لا شريك له فوحدوه وأطيعوه

٣

 { خلق السموات والأرض بالحق } أي للحق ويقال للزوال والفناء { تعالى } أي تبرأ { عما يشركون } به من الأوثان

٤

قوله عز وجل { خلق الإنسان من نطفة } يقول من ماء الرجل { فإذا هو خصيم مبين } يقول جدل باطل ظاهر الخصومة وهو أبي بن خلف حيث أخذ عظما باليا ففته بيده وقال عجبا لمحمد يزعم أنه يعيدنا بعد ما كنا عظاما ورفاتا وإنا نعاد خلقا جديدا فنزل { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } [ يس : ٧٧ ] الآية

٥

ثم بين النعمة فقال تعالى { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع } أي ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها والذي يتخذ منه البيوت من الشعر والوبر والصوف وأما المنافع فظهورها التي تحمل عليها وألبانها ويقال الدفء الصغار من الإبل

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال { لكم فيها دفء } أي في نسل كل دابة { ومنها تأكلون } أي من لحمها

٦

قوله { ولكم فيها جمال } أي ولكم يا بني آدم في الأنعام { جمال } حسن المنظر { حين تريحون } أي حتى تروح الإبل راجعة إلى أهلها { وحين تسرحون } أي تسرح إلى الرعي أول النهار { وتحمل أثقالكم } أي أمتعتكم وزادكم { إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } قال هي مكة ويقال هذا الخطاب لأهل مكة كانوا يخرجون إلى الشام وإلى اليمن ويحملون أثقالهم على الإبل { إن ربكم لرؤوف رحيم } إذ لم يعجلكم بالعقوبة

٨

ثم قال { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } أي خلقها لكم لتركبوها { وزينة } أي جمالا ومنظرا حسنا وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة } يعني إنما خلق هذه الأصناف الثلاثة للركوب والزينة لا للأكل وسائر الأنعام خلقت للركوب وللأكل كما قال { ومنها تأكلون } وبه كان يقول أبو حنيفة إن لحم الخيل مكروه { ويخلق ما لا تعلمون } أي خلق أشياء تعلمون وخلق أشياء مما لا تعلمون

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن اللّه خلق أرضا بيضاء مثل الدنيا ثلاثين مرة محشوة خلقا من خلق اللّه تعالى لا يعلمون أن اللّه تعالى يعصى طرفة عين قالوا يا رسول اللّه أمن ولد آدم هم قال ما يعلمون أن اللّه خلق آدم قالوا فأين إبليس منهم قال ما يعلمون أن اللّه خلق إبليس ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { ويخلق ما لا تعلمون }

٩

قوله عز وجل { وعلى اللّه قصد السبيل } أي بيان الهدى ويقال هداية الطريق { ومنها جائر } أي من الطرق ما هو مائل من طريق الهدى إلى طريق اليهودية والنصرانية

وروى جويبر عن الضحاك أنه قال { وعلى اللّه قصد السبيل } يعني بيان الهدى { ومنها جائر } أي سبيل الضلالة وقال قتادة في قراءة عبد اللّه بن مسعود { ومنها جائر } أي مائلا عن طريق الهدى { ولو شاء لهداكم أجمعين } أي لو علم اللّه تعالى أن الخلق كلهم أهلا للتوحيد لهداهم ويقال لو شاء اللّه لأنزل آية يضطر الخلق إلى الإيمان

١٠

قال عز وجل { هو الذي أنزل من السماء ماء } أي المطر { لكم منه شراب } وهو ما يستقر في الأرض من الغدران وتشربون منه وتسقون أنعامكم { ومنه شجر } أي ومن الماء ما يتشرب في الأرض فينبت منه الشجر والنبات { فيه تسيمون } أي ترعون أنعامكم

١١

 { ينبت لكم به الزرع } أي يخرج لكم بالمطر الزرع { والزيتون والنخيل والأعناب } أي الكروم { ومن كل الثمرات } أي من ألوان الثمرات قرأ عاصم في رواية أبي بكر { ننبت لكم } بالنون وقرأ الباقون بالياء ومعناهما واحد { إن في ذلك لآية } يعني فيما ذكر من نزول المطر وخروج النبات لعبرة { لقوم يتفكرون } في آياته

١٢

ثم قال عز وجل { وسخر لكم الليل والنهار } أي ذلل لكم الليل والنهار لمعايشكم

{ والشمس والقمر } أي خلق الشمس والقمر { والنجوم مسخرات بأمره } أي مذللات بإذنه { إن في ذلك لآيات } أي لعبرات { لقوم يعقلون } أي لمن له ذهن الإنسانية

١٣

ثم قال عز وجل { وما ذرأ لكم في الأرض } أي وما خلق لكم في الأرض من الدواب والأشجار والثمار { مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية } أي في اختلاف ألوانها لعبرة { لقوم يتذكرون } أي يتعظون قرأ ابن عامر { والشمس والقمر والنجوم } كلها بالرفع على معنى الإبتداء وقرأ عاصم في رواية حفص { والشمس والقمر } بالنصب على معنى البناء أي سخر لكم الشمس والقمر ثم ابتدأ فقال { والنجوم } بالضم على معنى الإبتداء وقرأ الباقون الثلاثة كلها بالنصب ويكون بمعنى المفعول

١٤

قوله عز وجل { وهو الذي سخر البحر } أي ذلل لكم البحر ويقال ذلل لكم ما في البحر { لتأكلوا منه } أي من البحر { لحما طريا } أي السمك الطري { وتستخرجوا منه } يعني من البحر { حلية تلبسونها } يعني لؤلؤا تتزينون بها يعني زينة للنساء { وترى الفلك مواخر فيه } أي مقبلة ومدبرة فيه ويقال تذهب وتجيء بريح واحدة وقال عكرمة يعني السفينة حين تشق الماء يقال مخرت السفينة إذا جرت لأنها إذا جرت تشق الماء { ولتبتغوا من فضله } أي لكي تطلبوا من رزقه حين تركبون السفينة للتجارة { ولعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا اللّه فيما صنع لكم من النعم

١٥

قوله عز وجل { وألقى } أي وضع { في الأرض رواسي } يعني الجبال الثوابت { أن تميد بكم } يعني لكيلا تميد بكم وقد يحذف لا ويراد إثباته كما قال ها هنا { أن تميد بكم } أي لا تميد بأهلها وروى معمر عن قتادة أنه قال لما خلقت الأرض كادت تميد فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وقال القتبي الميد الحركة والميل ويقال { أن تميد } أي كراهة أن تميد بكم { وأنهارا } أي وجعل لكم فيها أنهارا { وسبلا } أي طرقا { لعلكم تهتدون } أي تعرفون بها الطرق { وعلامات } أي جعل في الأرض علامات من الجبال وغيرها تهتدون به الطرق في حال السفر { وبالنجم هم يهتدون } أي بالجدي والفرقدين تعرفون بها الطرق في البر والبحر وروى عبد الرزاق عن معمر في

١٦

قوله { وعلامات } قال قال الكلبي الجبال وقال قتادة النجوم

وروى سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } قال منها ما يكون علامة ومنها ما يهتدى به وقال عمر بن الخطاب تعلموا من النجوم ما تهتدون به في طرقكم وقبلتكم ثم كفوا وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم وقال السدي { وعلامات } أي الجبال بالنهار يهتدون بها الطرق والنجوم بالليل

١٧

ثم قال { أفمن يخلق } يعني { أفمن يخلق } هذه الأشياء التي وصفت لكم { كمن لا يخلق } أي لا يقدر أن يخلق شيئا وهم الأصنام { أفلا تذكرون } أي أفلا تتعظون في صنعه وتوحدوه وتعبدوه ولا تعبدوا غيره

١٨

ثم قال عز وجل { وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها } أي لا تطيقوا إحصاءها فكيف تقدرون على أداء شكرها { إن اللّه لغفور رحيم } لمن تاب ورجع

١٩

 { واللّه يعلم ما تسرون } في قلوبكم { وما تعلنون } بالقول ويقال ما تخفون من أعمالكم { وما تعلنون } أي تظهرون منها فالسر والعلانية عنده سواء

٢٠

ثم قال تعالى { والذين يدعون من دون اللّه } أي يعبدون من دون اللّه من الأوثان { لا يخلقون شيئا } أي لا يقدرون أن يخلقوا شيئا { وهم يخلقون } أي ينحتون من الأحجار والخشب وغيره { أموات غير أحياء } قال الكلبي يعني أن الأصنام أموات ليس فيها روح { وما يشعرون } يعني الأصنام { أيان يبعثون } أي متى يحيون فيحاسبون

٢١

ويقال { أموات } يعني أن الكفار غير أحياء يعني كأنهم أموات لا يعقلون شيئا { وما يشعرون أيان يبعثون } يعني أن الكفار لا يعلمون متى يبعثون و { أيان } كلمة اختصار أصله أي أوان { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني الذين لا يصدقون بالبعث { قلوبهم منكرة } للتوحيد ويقال قلوبهم خبيثة لا تدخل المعرفة فيها { وهم مستكبرون } أي متعظمون عن الإيمان

٢٣

ثم قال تعالى { لا جرم } أي حقا وذكر عن الفراء أنه قال { لا جرم } بمنزلة لا بد ولا محالة ثم كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقا { أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون } أي ما يكتمون وما يظهرون من الكفر والمكر في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم { إنه لا يحب المستكبرين } أي المتعظمين عن الإيمان ويقال لا يحب المتكبرين الذين يتكبرون على الناس

قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا الفضل بن دكين عن مسعر بن كدام عن أبي مصعب عن أبيه عن أبي كعب قال سيأتي المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان

٢٤

قوله عز وجل { وإذا قيل لهم } يعني الخراصين من أهل مكة

وروى أسباط عن السدي قال إجتمعت قريش فقالوا إن محمدا رجل حلو اللسان إذ كلمه رجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده ردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا جاء رجل وافد قوم ينظر ما يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم فنزل بهم فقالوا له أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ثم يقول أنا أخبرك عن محمد فلا تتبعنه هو رجل كذاب لم يتبعه إلا السفهاء والعبيد ومن لاخير فيه أما أشياخ قومه وأخيارهم فهم مفارقوه فيرجعون أي الوافدون وإذا كان الوافد ممن عزم اللّه له على الرشد يقول بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ماذا يقول فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ما يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم فيقولون { خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } [ النحل : ٣٠ ] فذلك قوله { وإذا قيل لهم } أي للمقتسمين من أهل مكة { ماذا أنزل ربكم } على محمد صلى اللّه عليه وسلم { قالوا أساطير الأولين } يعني الذين يذكر أنه منزل هو كذب الأولين وأحاديثهم

٢٥

قال عز وجل { ليحملوا أوزارهم } أي آثامهم { كاملة } أي وافرة { يوم القيامة } أي لا يغفر لهم شيء وذنوب المؤمنين تكفر عنهم من الصلاة إلى الصلاة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج وتكفر بالشدائد والمصائب وذنوب الكفار لا تغفر لهم ويحملونها كاملة يوم القيامة أي وبال الذنوب التي عملوا بأنفسهم { ومن أوزار الذين يضلونهم } أي يصدونهم عن الإيمان { بغير علم } أي بغير عذر وحجة وبرهان ويقال { من أوزار الذين يضلونهم } أي أوزار إضلالهم وهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة { ألا ساء ما يزرون } أي بئس ما يحملون من الذنوب ويقال بئس الزاد زادهم الذنوب

٢٦

ثم قال تعالى { قد مكر الذين من قبلهم } أي قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين فأبطل اللّه كيدهم { فأتى اللّه بنيانهم من القواعد } أي قلع بنيانهم من أساس البيت { فخر عليهم السقف من فوقهم } أي سقف البيت قال الكلبي وهو نمروذ بن كنعان بنى صرحا طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعا فهدم اللّه بنيانه وخر عليهم السقف من فوقهم فأهلكهم اللّه وقال القتبي هذا مثل أي أهلك من قبلهم من الكفار كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه ويقال هدم بنيان مكرهم من الأصل فخر عليهم السقف أي رجع وبال مكرهم إليهم كقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } [ فاطر : ٤٣ ] { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي لا يعلمون

٢٧

قوله عز وجل { ثم يوم القيامة يخزيهم } أي يعذبهم وما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم { ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم } أي تعادونني وتخالفونني بسببهم وعبادتهم قرأ نافع { تشاقون } بكسر النون على معنى الإضافة والباقون بالنصب لأنها نون الجماعة

 

قوله { قال الذين أوتوا العلم } أي الملائكة ويقال المؤمنون { إن الخزي اليوم } أي العقاب { والسوء } أي الشدة من العذاب { على الكافرين }

٢٨

قوله عز وجل { الذين تتوفاهم الملائكة } أي يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه { ظالمي أنفسهم } أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك باللّه تعالى { فألقوا السلم } أي إنقادوا واستسلموا حين رأوا العذاب قالوا { ما كنا نعمل من سوء } أي ما كنا نشرك وقال الكلبي هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر وقد تكلموا بالإيمان فلما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ويقال جميع المشركين قال اللّه تعالى { بلى } أشركتم باللّه { إن اللّه عليم بما كنتم تعملون } من الشرك

ثم قال تعالى { قد مكر الذين من قبلهم } أي قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين فأبطل اللّه كيدهم { فأتى اللّه بنيانهم من القواعد } أي قلع بنيانهم من أساس البيت { فخر عليهم السقف من فوقهم } أي سقف البيت قال الكلبي وهو نمروذ بن كنعان بنى صرحا طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعا فهدم اللّه بنيانه وخر عليهم السقف من فوقهم فأهلكهم اللّه وقال القتبي هذا مثل أي أهلك من قبلهم من الكفار كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله فخر عليه ويقال هدم بنيان مكرهم من الأصل فخر عليهم السقف أي رجع وبال مكرهم إليهم كقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } [ فاطر : ٤٣ ] { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي لا يعلمون

قوله عز وجل { ثم يوم القيامة يخزيهم } أي يعذبهم وما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم { ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم } أي تعادونني وتخالفونني بسببهم وعبادتهم قرأ نافع { تشاقون } بكسر النون على معنى الإضافة والباقون بالنصب لأنها نون الجماعة

قوله { قال الذين أوتوا العلم } أي الملائكة ويقال المؤمنون { إن الخزي اليوم } أي العقاب { والسوء } أي الشدة من العذاب { على الكافرين }

قوله عز وجل { الذين تتوفاهم الملائكة } أي يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه { ظالمي أنفسهم } أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك باللّه تعالى { فألقوا السلم } أي انقادوا واستسلموا حين رأوا العذاب قالوا { ما كنا نعمل من سوء } أي ما كنا نشرك وقال الكلبي هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر وقد تكلموا بالإيمان فلما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى الشرك فقتلوا ويقال جميع المشركين قال اللّه تعالى { بلى } أشركتم باللّه { إن اللّه عليم بما كنتم تعملون } من الشرك

٢٩

ثم قال { فادخلوا أبواب جهنم } أي تقول لهم خزنة جهنم ادخلوا أبواب جهنم { خالدين فيها } أي مقيمين فيها أبدا { فلبئس مثوى المتكبرين } عن الإيمان

ثم نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان وذلك أن أهل مكة لما بعثوا إلى عقاب مكة رجالا ليصدوا الناس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجالا من أصحابه إلى عقاب مكة فكان الوافد إذا قدم قالوا له إن هؤلاء المشركين كذبوا بل محمد صلى اللّه عليه وسلم يدعو إلى الحق ويأمر بصلة الرحم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الخير فذلك

٣٠

 قوله تعالى { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } أي يدعو إلى الخير { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } أي للذين وحدوا اللّه في هذه الدنيا لهم الحسنة في الآخرة أي الجنة { ولدار الآخرة خير } أي أفضل من الدنيا { ولنعم دار المتقين } يعني المطيعين قال مقاتل في قوله { قالوا خيرا } أي قالوا للوافد إنه يأمر بالخير وينهى عن الشر { قالوا خيرا } ثم قطع الكلام

يقول اللّه تعالى { للذين أحسنوا الحسنى } أي أحسنوا العمل في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة أي في الجنة { ولدار الآخرة خير } يعني الجنة أفضل من ثواب المشركين الذين يحملون أوزارهم ويقال هذه كلها حكاية كلام المؤمنين إلى قوله { المتقين } قرأ عاصم في رواية أبي بكر { تسرون وتعلنون } بالتاء على معنى المخاطبة { ويدعون } بالياء على معنى المغايبة

وروي عنه حفص الثلاث كلها بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون كلها بالتاء على معنى المخاطبة

٣١

ثم وصف دار المتقين فقال { جنات عدن } يعني الدار التي هي للمتقين هي جنات عدن { يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاؤون } أي يحبون { كذلك يجزي اللّه المتقين } أي هكذا يثيب اللّه المتقين الشرك

٣٢

قوله عز وجل { الذين تتوفاهم الملائكة } أي ملك الموت { طيبين } يقول زاكين طاهرين من الشرك والذنوب { يقولون } أي يقول لهم خزنة الجنة في الآخرة { سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } في الدنيا ويقال هذا مقدم ومؤخر أي جنات عدن يدخلونها

ثم قال { الذين تتوفاهم الملائكة } قرأ حمزة { الذين يتوفاهم } بالياء بلفظ التذكير والباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل إذا كان قبل الإسم جاز التذكير والتأنيث

٣٣

قوله { هل ينظرون } يقول ما ينظرون وهم أهل مكة { إلا أن تأتيهم الملائكة } أي ملك الموت ليقبض أرواحهم { أو يأتي أمر ربك } أي عذاب ربك يوم بدر ويقال يوم القيامة { كذلك فعل } أي كذلك كذب { الذين من قبلهم } رسلهم كما كذبك قومك فأهلكهم اللّه تعالى { وما ظلمهم اللّه } يعني بإهلاكه إياهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بتكذيبهم رسلهم قرأ حمزة والكسائي { إلا أن يأتيهم } بالياء بلفظ التذكير والباقون بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم

٣٤

ثم قال { فأصابهم سيئات ما عملوا } أي جزاء ما عملوا { وحاق بهم } أي نزل بهم { ما كانوا به يستهزئون } من العذاب أنه غير نازل بهم

٣٥

قوله { وقال الذين أشركوا } أي أهل مكة { لو شاء اللّه ما عبدنا من دونه من شيء } قالوا ذلك على وجه الإستهزاء يعني إن اللّه قد شاء لنا ذلك الذي { نحن } فيه { ولا آباؤنا } ولكن شاء لنا ولآبائنا { ولا حرمنا من دونه من شيء } ولكن شاء لنا ولآبائنا من تحريم البحيرة والسائبة وأمرنا به ولو لم يشأ ما { حرمنا من دونه من شيء }

قال اللّه تعالى { كذلك فعل الذين من قبلهم } يقول هكذا كذب الذين من قبلهم من الأمم { فهل على الرسل إلا البلاغ } أي تبليغ الرسالة { المبين } أي يبينوا لهم ما أمروا به

٣٦

قوله { ولقد بعثنا في كل أمة } أي في كل جماعة { رسولا } كما بعثناك إلى أهل مكة { أن اعبدوا اللّه } أي وحدوا اللّه وأطيعوه { واجتنبوا الطاغوت } أي اتركوا عبادة الطاغوت وهو الشيطان والكاهن والصنم { فمنهم من هدى اللّه } لدينه وهم الذين أجابوا الرسل للإيمان { ومنهم من حقت عليه الضلالة } فلم يجب الرسل إلى الإيمان { فسيروا في الأرض } يقول سافروا في الأرض { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } يقول إعتبروا كيف كان آخر أمر المكذبين

فلما نزلت هذه الآية قرأها صلى اللّه عليه وسلم عليهم فلم يؤمنوا فنزل

٣٧

{ إن تحرص على هداهم } يعني على إيمانهم { فإن اللّه لا يهدي من يضل } يقول من يضلل اللّه وعلم أنه أهل لذلك وقدر عليه ذلك قال مقاتل فإن اللّه لا يهدي من يضل يقول { من يضلل اللّه فلا هادي له } [ الأعراف : ١٨٦ ] قرأ أهل الكوفة حمزة وعاصم والكسائي { لا يهدي } بنصب الياء وكسر الدال أي لا يهدي من يضللّه اللّه وقرأ الباقون { لا يهدى } بضم الياء ونصب الدال على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقال إبراهيم بن الحكم سألت أبي عن قوله تعالى { فإن اللّه لا يهدي من يضل } فقال قال عكرمة قال ابن عباس من يضللّه اللّه لا يهدى { وما لهم من ناصرين } أي من مانعين من نزول العذاب

٣٨

قوله { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } وكل من حلف باللّه فهو جهد اليمين وكانوا ينكرون البعث فحلفوا باللّه حين قالوا { لا يبعث اللّه من يموت } فكذبهم اللّه عز وجل في مقالتهم فقال { بلى وعدا عليه حقا } أوجبه على نفسه ليبعثنهم بعد الموت { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت

٣٩

ثم قال { ليبين لهم الذي يختلفون فيه } من الدين يوم القيامة يعني يبعثهم ليبين لهم أن ما وعدهم حق { وليعلم الذين كفروا } يعني ليستبين لهم عندما خرجوا من قبورهم { أنهم كانوا كاذبين } في الدنيا

٤٠

قوله عز وجل { إنما قولنا لشيء } يعني إن بعثهم على اللّه يسير { إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة { فيكون } بضم النون وقرأ الباقون بالنصب

٤١

قوله { والذين هاجروا في اللّه } أي هاجروا من مكة إلى المدينة في طاعة اللّه { من بعد ما ظلموا } أي عذبوا { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } أي لننزلنهم بالمدينة ولنعطينهم الغنيمة فهذا الثواب في الدنيا { ولأجر الآخرة } أي الجنة { أكبر } أي أفضل { لو كانوا يعلمون } أي يصدقون بالثواب

٤٢

ثم نعتهم فقال { الذين صبروا } على العذاب { وعلى ربهم يتوكلون } أي يثقون به ولا يثقون بغيره منهم بلال بن حمامة وعمار بن ياسر وصهيب بن سنان وخباب بن الأرت قال مقاتل نزلت الآية في هؤلاء الأربعة عذبوا على الإيمان بمكة

وقال في رواية الكلبي نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسرهم أهل مكة وذكر هؤلاء الأربعة واثنين آخرين عابس وجبير مولى لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيب فابتاع نفسه بماله ورجع إلى المدينة وأما سائر أصحابه فقالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا إلى المدينة بعد ذلك

٤٣

ثم قال { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } كما أوحي إليك وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى اللّه عليه وسلم الرسالة ودعاهم إلى عبادة اللّه تعالى أنكروا ذلك وقالوا لن يبعث اللّه رجلا إلينا ولو أراد اللّه أن يبعث إلينا رسولا لبعث إلينا من الملائكة الذين عنده فنزل { وما أرسلنا من قبلك } إلى الأمم الماضية { إلا رجالا } مثلك { نوحي إليهم } كما نوحي إليك قرأ عاصم في رواية حفص { نوحي } بالنون وقرأ الباقون بالياء

قوله عز وجل { فاسألوا أهل الذكر } أي أهل التوراة والإنجيل { إن كنتم لا تعلمون } ذلك { بالبينات والزبر } وفي الآية تقديم وتأخير أي وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم بالبينات والزبر وروى أسباط عن السدي قال { البينات } الحلال والحرام { والزبر } كتب الأنبياء وقال الكلبي { البينات } أي بالآيات الحلال والحرام والأمر والنهي ما كانوا يأتون به قومهم منها وهو كتاب النبوة ويقال { البينات } التي كانت تأتي بها الأنبياء مثل عصا موسى وناقة صالح وقال مقاتل { والزبر } يعني حديث الكتب

٤٤

ثم قال { وأنزلنا إليك الذكر } يعني القرآن { لتبين للناس } لتقرأ للناس { ما نزل إليهم } أي ما أمروا به في الكتاب { ولعلهم يتفكرون } يتفكروا فيه ليؤمنوا به

٤٥

ثم خوفهم فقال { أفأمن الذين مكروا السيئات } أي أشركوا باللّه { أن يخسف اللّه بهم الأرض } يعني أن تغور الأرض بهم حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي من حيث لا يعلمون بهلاكهم

٤٦

 { أو يأخذهم في تقلبهم } أي في سفرهم في ذهابهم ومجيئهم في تجارتهم { فما هم بمعجزين } أي بفائتين { أو يأخذهم على تخوف } أي على تنقص ويقال يأخذ قرية بالعذاب ويترك أخرى قريبة منها فيخوفها بمثل ذلك وهذا قول مقاتل

٤٧

وروي عن بعض التابعين أن عمر سأل جلساءه عن قوله { أو يأخذهم على تخوف } فقالوا ما نرى إلا عند بعض ما يرون من الآيات يخوفهم فقال عمر ما أراه إلا عند بعض ما يتنقصون من معاصي اللّه فخرج رجل فلقي أعرابيا فقال يا فلان ما فعل دينك تخوفته أي تنقصته فرجع إلى عمر فأخبره بذلك ثم قال تعالى { فإن ربكم لرءوف رحيم } أي لا يعجل عليهم بالعقوبة

٤٨

قوله { أولم يروا } قرأ حمزة والكسائي { تروا } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى المغايبة يعني أولم يعتبروا { إلى ما خلق اللّه من شيء } عند طلوع الشمس وعند غروبها { يتفيؤا ظلاله } يعني يدور ظلاله { عن اليمين والشمائل } قال القتبي أصل الفيء الرجوع وتفيؤ الظلال رجوعها من جانب إلى جانب { سجدا للّه وهم داخرون } أي صاغرون ويقال وهم مطيعون وأصل السجود التطأطؤ والميل يقال سجد البعير إذا تطأطأ وسجدت النخلة إذا مالت ثم قد يستعار السجود ويوضع موضع الإستسلام والطاعة ودوران الظل من جانب إلى جانب هو سجوده لأنه مستسلم منقاد مطيع فذلك قوله { سجدا للّه وهم داخرون }

٤٩

ثم قال تعالى { وللّه يسجد } أي يستسلم { ما في السموات } من الملائكة والشمس والقمر والنجوم { وما في الأرض من دابة } أي يسجد للّه جميع ما في الأرض من دابة { والملائكة } يعني وما على الأرض من الملائكة ويقال فيه تقديم وتأخير ومعناه ما في السموات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويقال معناه يسجد له جميع ما في السموات وما في الأرض يعني الدواب والملائكة يعني الذين هم في السموات والأرض { وهم لا يستكبرون } أي لا يتعظمون عن السجود للّه تعالى

٥٠

{ يخافون ربهم من فوقهم} أي يخافون اللّه تعالى وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن للّه تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا مذ خلقهم اللّه تعالى إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة اللّه تعالى فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم فقالوا ما عبدناك حق عبادتك فذلك قوله { يخافون ربهم من فوقهم } أي يخافون خوفا معظمين مجلين ويقال خوفهم بالقهر والغلبة والسلطان ويقال معناه يخافون ربهم الذي على العرش كما وصف نفسه والطريق الأول أصح كقوله { يد اللّه فوق أيديهم } [ الفتح : ١٠ ] أي بالقهر والغلبة والسلطان { ويفعلون ما يؤمرون } أي لا يعصون اللّه تعالى طرفة عين قرأ أبو عمرو { يتفيؤا } بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء لأن تأنيثه ليس بحقيقي ولأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث

٥١

قوله عز وجل { وقال اللّه لا تتخذوا إلهين اثنين } أي لا تقولوا ولا تصفوا إلهين اثنين أي نفسه والأصنام ويقال نزلت الآية في صنف من المجوس وصفوا إلهين اثنين

قال اللّه تعالى { إنما هو إله واحد فإياي فارهبون } أي فاخشوني ووحدوني وأطيعوني ولا تعبدوا غيري

٥٢

 { وله ما في السموات } من الملائكة { والأرض } من الخلق الجن والإنس كلهم عبيده وإماؤه { وله الدين واصبا } أي دائما خالصا ويقال الألوهية والربوبية له خالصا ويقال دينه واجبا أبدا لا يجوز لأحد أن يميل عنه ويقال معناه وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به أو لم يرض والوصب في اللغة الشدة والتعب { أفغير اللّه تتقون } أي تعبدون غيره

٥٣

قوله عز وجل { وما بكم من نعمة فمن اللّه } يعني إن الذي بكم من الغنى وصحة الجسم من قبل اللّه تعالى

٥٤

 { ثم إذا مسكم الضر } أي الفقر والبلاء في جسدكم { فإليه تجأرون } يعني إليه تتضرعون ليكشف الضر عنكم كما قال في سورة الدخان { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } [ الدخان : ١٢ ] { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم } أي الكفار { بربهم يشركون } أي الكفار يعبدون غيره

٥٥

 { ليكفروا بما آتيناهم } أي يجحدوا بما أعطيناهم من النعمة { فتمتعوا } بقية آجالكم { فسوف تعلمون } أي تعرفون في الآخرة ماذا نفعل بكم

٥٦

ثم قال { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا } أي يجعلون لآلهتهم نصيبا من الحرث والأنعام كقوله { فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : ١٣٦ ] وقوله { لما لا يعلمون نصيبا } [ النحل : ٥٦ ] قال بعضهم يعني الكفار جعلوا لأصنامهم نصيبا ولا يعلمون منهم ضرا ولا نفعا وبعضهم قالوا معناه يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئا نصيبا أي حظا { مما رزقناهم } من الحرث والأنعام قال تعالى { تاللّه أي واللّه لتسألن عما كنتم تفترون } أي تكذبون على اللّه لأنهم كانوا يقولون إن اللّه أمرنا بهذا

٥٧

قوله { ويجعلون للّه البنات } يعني يصفون للّه ويقولون الملائكة بنات اللّه فقال { سبحانه } أي تنزيها له عن الولد { ولهم ما يشتهون } يعني الأولاد الذكور أي يصفون لغيرهم البنات ولأنفسهم الذكور

ثم وصف كراهتهم البنات لأنفسهم

٥٨

فقال { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } يقول إذا بشر أحد الكفار بالأنثى { ظل وجهه مسودا } أي صار وجهه متغيرا من الحزن والخجل { وهو كظيم } أي مكروبا مغموما من الحزن يتردد حزنه في جوفه

٥٩

ثم قال { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } يعني يكتم ما به من القوم ويستتر ويختفي من سوء ما بشر به أي ما ظهر على وجهه من الكراهية ويدبر في نفسه كيف أصنع بها { أيمسكه على هون } أي الأنثى التي ولدت له على هوان يعني أيحفظه على هوان { أم يدسه } أي يدفنه { في التراب ألا ساء ما يحكمون } أي بئسما يقضون به لأنفسهم الذكور وله الإناث

٦٠

ثم قال عز وجل { للذين لا يؤمنون بالآخرة } أي المشركين { مثل السوء } أي جزاء السوء النار في الآخرة ويقال عاقبة السوء ويقال لآلهتهم صفة السوء صم بكم عمي ويقال للكفار هم صم بكم عمي { وللّه المثل الأعلى } أي الصفة العليا وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى : ١١ ] { لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } [ الإخلاص : ٣ - ٤ ] فهذا وصفه الأعلى { وهو العزيز } في ملكه { الحكيم } في أمره أمر الخلق أن لا يعبدوا غيره

٦١

قوله { ولو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم } أي بشركهم ومعصيتهم { ما ترك عليها من دابة } أي لم يترك على ظهر الأرض من دابة ودل الإضمار على الأرض لأن الدواب إنما هي على الأرض يقول أنا قادر على ذلك { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } أي إلى وقت معلوم ويقال { ما ترك عليها من دابة } لأنه لو أخذهم بذنوبهم لمنع المطر وإذا منع المطر لم يبق في الأرض دابة إلا أهلكت ولكن يؤخر العذاب إلى أجل مسمى وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال لو عذب اللّه الخلائق بذنوب بني آدم لأصاب العذاب جميع الخلائق حتى الجعلان في جحرها ولأمسكت السماء عن الأمطار ولكن يؤخرهم بالفضل والعفو

ثم قال { فإذا جاء أجلهم } أي أجل العذاب { لا يستأخرون } أي لا يتأخرون عن الوقت { ساعة ولا يستقدمون } أي لا يتقدمون قبل الوقت

٦٢

قوله { ويجعلون } أي يقولون ويصفون للّه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات { وتصف ألسنتهم الكذب } أي يقولون الكذب { أن لهم الحسنى } أي الذكور من الولد ويقال الجنة أي يصفون لأنفسهم مع أعمالهم القبيحة أن لهم في الآخرة الجنة

ثم قال عز وجل { لا جرم } أي حقا ويقال لا بد ولا محالة { أن لهم النار } وهو كقوله { أم حسب الذين إجترحوا السيئات } [ الجاثية : ٢١ ] إلى قوله { ساء ما يحكمون } [ الجاثية : ٢١ ] { وأنهم مفرطون } قرأ نافع بكسر الراء يعني أفرطوا في القول وأفرطوا في المعصية وقرأ الباقون { مفرطون } بفتح الراء أي متروكون في النار ويقال منسيون في النار وهو قول سعيد بن جبير وقال قتادة أي معلجون في النار ويقال الفارط في اللغة الذي يتقدم إلى الماء وهذا قول يوافق قول قتادة

٦٣

قوله تعالى { تاللّه } يقول واللّه { لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } أي بعثنا إلى أمم من قبلك الرسل كما أرسلناك إلى قومك { فزين لهم الشيطان أعمالهم } أي ضلالهم حتى أطاعوا الشيطان وكذبوا الرسل { فهو وليهم اليوم } أي قرينهم في النار { ولهم عذاب أليم } فهذا تهديد لكفار مكة أنه يصيبهم مثل ما أصابهم وهو تعزية للنبي صلى اللّه عليه وسلم ليصبر على أذاهم

٦٤

ثم قال { وما أنزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } من الدين لأنهم كانوا في طرق مختلفة اليهودية والنصرانية والمجوسية وغير ذلك فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن يبين لهم طريق الهدى { وهدى ورحمة } أي أنزلنا القرآن بيانا من الضلالة ونعمة من العذاب لمن آمن به { لقوم يؤمنون } بالقرآن

٦٥

قوله عز وجل { واللّه أنزل من السماء ماء } أي المطر { فأحيا به الأرض بعد موتها } أي بعد يبسها { إن في ذلك لآية } أي علامة لوحدانيته وعلموا أن معبودهم لا يستطيع شيئا { لقوم يسمعون } أي يطيعون ويصدقون ويعتبرون ويبصرون

٦٦

قوله عز وجل { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { نسقيكم } بنصب النون وقرأ الباقون بضم النون ومعناهما واحد يقال سقيته وأسقيته بمعنى واحد { مما في بطونه } ولم يقل مما في بطونها والأنعام جماعة مؤنثة وفي هذا قولان إن شئت رددت إلى واحد من الأنعام وواحدها نعم والنعم تذكر وتؤنث كقوله { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } [ البقرة : ٧٤ ] أي من الحجر وإن شئت قلت على تأويل آخر { نسقيكم مما في بطونه } أي بطون ما ذكرنا وهذا مثل قوله { جنات معروشات وغير معروشات } إلى آخره [ الأنعام : ١٤١ ] وقال { إنما الخمر والميسر } إلى آخره [ المائدة : ٩٠ ] ولم يقل فاجتنبوها أي فاجتنبوا ما ذكرنا

ثم قال تعالى { من بين فرث ودم } يعني يخرج اللبن من بين الفرث والدم قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الدابة تأكل العلف فإذا إستقر في كرشها طحنه الكبد فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد مسلط على هذه الأصناف الثلاثة فيقسم الدم فيجري في العروق ويجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكرش

وقال بعضهم إذا استقر العلف في الكرش صار دما بحرارة الكبد ثم ينصرف الدم في العروق فمقدار ما ينتهي إلى الضرع صار لبنا لبرودة الضرع بدليل أن الضرع إذا كانت فيه آفة يخرج منه الدم مكان اللبن { لبنا خالصا } صار اللبن نصبا على معنى التفسير { سائغا للشاربين } أي سهلا في الشرب لا يغص به شاربه ويقال ليشتهي شاربه

٦٧

ثم قال تعالى { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا } أي من الثمرات سكرا ويقال { منه } كناية عن الأول وهو قوله { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون } من ذلك { سكرا } والسكر هو نقيع التمر إذا غلى واشتد قبل أن يطبخ ويقال يعني خمرا قال ابن عباس نزلت هذه الآية وهي يومئذ لهم حلال وهكذا قال الحسن والقتبي إن هذه الآية نزلت في الخمر { ورزقا حسنا } يعني الخل والزبيب والرب

وروي عن ابن عباس أنه قال { تتخذون منه سكرا } يعني ما حرم منه { ورزقا حسنا } ما أحل منه وقال الشعبي السكر هو النبيذ والخل والرزق الحسن التمر والزبيب وقال الضحاك السكر الحرام والرزق الحسن الحلال وهؤلاء كلهم قالوا كان هذا قبل تحريم الخمر وقال الأخفش { سكرا } طعاما يقال هذا سكر لك أي طعام لك وقال القتبي لست أدري هذا

ثم قال { إن في ذلك لآية } أي لعبرة { لقوم يعقلون } توحيد اللّه تعالى

٦٨

قوله عز وجل { وأوحى ربك إلى النحل } أي ألهمها إلهاما مثل قوله { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : ٥ ] { أن إتخذي من الجبال بيوتا } أي مسكنا { ومن الشجر } يعني أن اتخذي من الجبال ومن الشجر مسكنا { ومما يعرشون } قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { يعرشون } بضم الراء والباقون بالكسر ومعناهما واحد أي ومما يبنون من سقوف البيت مسكنا

٦٩

 { ثم كلي من كل الثمرات } أي من ألوان الثمرات أي ألهمها بأكل الثمرات { فاسلكي سبل ربك ذللا } أي ادخلي الطريق الذي يسهل عليك ويقال خذي طرق ربك مذللا أي مسخرا لك وقال مقاتل { فاسلكي سبل ربك } يعني أدخلي طرق ربك في الجبال وفي خلال الشجر { ذللا } لأن اللّه تعالى ذلل لها طرقها حيثما توجهت { يخرج من بطونها } أي من بطون النحل من قبل أفواهها مثل اللعاب { شراب } أي العسل { مختلف ألوانه } أي العسل أبيض وأصفر وأحمر ويقال يخرج من أفواه الشبان من النحل الأبيض ومن الكهول الأصفر ومن الشيوخ الأحمر { فيه } أي في العسل { شفاء للناس }

روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال له اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال له إسقه عسلا فسقاه ثم جاءه فقال سقيته فلم يزده إلا إستطلاقا فقال له اسقه عسلا صدق اللّه وكذب بطن أخيك فسقاه فبرىء

قال الفقيه أبو الليث إنما يكون العسل شفاء إذا عرف الإنسان مقداره ويعرف لأي داء هو فإذا لم يعرف مقداره ولم يعرف موضعه فربما يكون فيه ضرر كما أن اللّه تعالى جعل الماء حياة كل شيء وربما يكون الماء سببا للّهلاك وقال السدي العسل شفاء الأوجاع التي يكون شفاؤها فيه وقال مجاهد { فيه شفاء للناس } أي في القرآن بيان للناس من الضلالة

وروى أبو الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور

وروى الأسود عن ابن مسعود أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن والعسل { إن في ذلك لآية } أي فيما ذكر من أمر النحل لعلامة لوحدانيتي { لقوم يتفكرون } يعني أن معبودهم لم يغنهم من شيء

٧٠

ثم قال عز وجل { واللّه خلقكم ثم يتوفاكم } أي يقبض أرواحكم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أي إلى أسفل العمر وهو الهرم { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } أي صار بحال لا يعلم ما علم من قبل ويقال لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا ويقال إن الهرم أسوأ العمر وشره وقوله { لكي لا يعلم } أي حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئا لشدة هرمه بعد ما كان يعلم الأمور قبل الهرم { إن اللّه عليم } بكم { قدير } على تحويلكم ويقال معناه { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } يعني أنه يحولكم من حال إلى حال تكرهونه ولا يقدر معبودكم أن يمنعني من تغيير ذلك واللّه عليم قدير على ذلك

٧١

قوله عز وجل { واللّه فضل بعضكم على بعض في الرزق } أي فضل الموالي عل العبيد في المال { فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } أي الموالي لا يرضون بدفع المال إلى المماليك { فهم فيه سواء } أي لا ترضون أن يكون عبيدكم معكم شركاء في أموالكم فكيف ترضون للّه تعالى أن تصفوا له شريكا في ملكه وصفاته وتصفوا له ولدا من عباده وقال قتادة هو الذي فضل في المال والولد لا يشرك عبيده في ماله فقد رضيتم بذلك للّه تعالى ولم ترضوا به لأنفسكم وقال مجاهد ضرب اللّه مثلا للآلهة الباطلة مع اللّه تعالى ويقال نزلت الآية في وفد نجران حين قالوا في عيسى ما قالوا

ثم قال تعالى { أفبنعمة اللّه يجحدون } يقول بوحدانية اللّه تعالى تكفرون وترضون له ما لا ترضون لأنفسكم

٧٢

قوله عز وجل { واللّه جعل لكم من أنفسكم أزواجا } أي خلق لكم من جنسكم إناثا { وجعل لكم من أزواجكم بنين } أي خلق لكم من نسائكم بنين { وحفدة } أي ولد الولد ويقال هم الأعوان والخدم والأصهار

وروي عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال الحفدة الأختان وقال مجاهد الخدم وأنصاره وأعوانه وعن ابن مسعود أنه قال هم أصهاره وقال الربيع بن أنس البنون ابن الرجل من امرأته والحفدة ابن المرأة من غيره وقال زر بن حبيش الحفدة حشم الرجل

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال الولد الصالح

وقال أهل اللغة أصله في اللغة السرعة في المشي ويقال في دعاء التوتر ونحفد أي ونجتهد في الخدمة والطاعة

قوله تعالى { ورزقكم من الطيبات } قال الكلبي يعني الحلال إن أخذتم به وقال مقاتل { الطيبات } الخبز والعسل وغيرهما من الأشياء الطيبة بخلاف رزق البهائم والطيور

ثم قال { أفبالباطل يؤمنون } قال الكلبي يعني الآلهة وقال مقاتل { أفبالباطل } يقول بالشيطان يصدقون بأن مع اللّه إلها آخر ويقال { أفبالباطل يؤمنون } يعني أفيعبدون الأصنام التي لا تقدر على قوتهم ولا على منفعتهم { وبنعمة اللّه هم يكفرون } أي يجحدون بوحدانية اللّه تعالى ويقال { وبنعمة اللّه هم يكفرون } فلا يؤمنون برب هذه النعمة

٧٣

قوله { ويعبدون من دون اللّه } أي الأصنام { ما لا يملك لهم } أي لا يقدر لهم { رزقا من السموات } أي من إنزال المطر { والأرض } والنبات { شيئا } يعني لا يملكون شيئا من ذلك وقال القتبي إنما نصب { شيئا } بإيقاع الرزق عليه ومعناه يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئا كما تقول ويخدم من لا يستطيع إعطاءه درهما { ولا يستطيعون } ذلك

٧٤

 { فلا تضربوا للّه الأمثال } أي لا تصفوا للّه شريكا فإنه لا إله إلا غيره { إن اللّه يعلم } أنه لا شريك له ويقال إن اللّه يعلم ضرب الأمثال { وأنتم لا تعلمون } ضرب الأمثال

٧٥

ثم قال عز وجل { ضرب اللّه مثلا } أي وصف اللّه شبها { عبدا مملوكا } وهو الكافر { لا يقدر على شيء } يقول لا يقدر على مال ينفقه في طاعة اللّه { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } أي مالا حلالا { فهو ينفق منه } أي يتصدق منه { سرا وجهرا } يقول يتصدق خفية وعلانية وهو المؤمن { هل يستوون } في الطاعة مثلا { الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون } ضرب المثل

وروي عن ابن عباس أنه قال نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان والآخر أبو العيص بن أمية وهو كافر لا يقدر أن ينفق خيرا لمعاده وعثمان أنفق لآخرته فهل يستويان أي هل يستوي الكافر والمؤمن ويقال ضرب المثل للآلهة ومعناه أن الإثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما قادرا على الإنفاق والآخر عاجزا لا يستويان فكيف يسوون بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل وبين الذي هو على كل شيء قدير فبين اللّه تعالى علامة ضلالتهم ثم حمد نفسه ودل خلقه على حمده فقال { الحمد للّه بل أكثرهم لا يعلمون }

٧٦

ثم ضرب مثلا آخر فقال { وضرب اللّه مثلا رجلين أحدهما أبكم } أي أخرس وهو الصنم { لا يقدر على شيء } من مال ولا منفعة { وهو كل على مولاه } أي ثقل على وليه وقرابته يعني الصنم عيال ووبال على عابده { أينما يوجهه لا يأت بخير } أي حيث يبعثه لا يجيء بخير { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } يعني بالتوحيد { وهو على صراط مستقيم } يدل الخلق إلى التوحيد ويقال هذا المثل للكافر مع النبي صلى اللّه عليه وسلم يعني الكافر الذي لا يتكلم بخير هل يستوي هو { ومن يأمر بالعدل } أي التوحيد ويدعو الناس إليه { وهو على صراط مستقيم } يدعو الناس إليه وهو على دين الإسلام وقال السدي المثلان ضربهما اللّه لنفسه وللآلهة

٧٧

ثم قال تعالى { وللّه غيب السموات والأرض } أي ما غاب عن العباد { وما أمر الساعة } أي قيام الساعة { إلا كلمح البصر } أي كرجع البصر { أو هو أقرب } أي بل هو أقرب أي أسرع قال الزجاج أخبر اللّه تعالى أن البعث والإحياء في قدرة اللّه تعالى ومشيئته كلمح البصر ولم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ولكنه وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ويقال { أو هو أقرب } الألف زائدة ومعناه وهو أقرب { إن اللّه على كل شيء قدير } يعني من البعث وغيره

٧٨

قوله عز وجل { واللّه أخرجكم من بطون أمهاتكم } قرأ حمزة والكسائي { أمهاتكم } بكسر الألف وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد وقال الزجاج الأصل في الأمهات أمات ولكن الهاء زيدت مؤكدة كما زادوها في قولهم أهرقت الماء وأصله أرقت الماء { لا تعلمون شيئا } أي لا تعقلون شيئا ويقال لا تعلمون الأشياء كلها { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا النعمة

٧٩

ثم بين لهم العبرة ليعتبروا بها ويعرفوا بها وحدانيته فقال تعالى { ألم تروا إلى الطير مسخرات } يقول مذللات { في جو السماء } أي في الهواء { ما يمسكهن } عند قبض الأجنحة وعند بسطها { إلا اللّه إن في ذلك لآيات } أي لعلامات لوحدانية اللّه تعالى لمن علم أن معبوده لم يعنه في ذلك { لقوم يؤمنون } أي لمن آمن به قرأ ابن عامر وحمزة { ألم تروا } بالتاء على المخاطبة وقرأ الباقون بالياء

٨٠

ثم قال { واللّه جعل لكم من بيوتكم سكنا } أي خلق لكم البيوت قرارا ومأوى لكم ويقال معناه سخر لكم الأرض لتبنوا فيها البيوت ويقال معناه وفقكم لبناء البيوت لسكناكم وقراركم فذكر النعم والمنن والدلائل لوحدانيته

وقال عز وجل { وجعل لكم من جلود الأنعام } أي من الشعر والصوف والوبر { بيوتا } أي الفساطيط والخيام { تستخفونها } أي تستخفون حملها { يوم ظعنكم ويوم إقامتكم } أي يوم انتقالكم وسفركم ويوم نزولكم { ومن أصوافها } أي من أصواف الغنم { وأوبارها } أي الإبل { وأشعارها } أي أشعار المعز { أثاثا } متاع البيت أي من الأكسية والفرش وقال قتادة والكلبي { أثاثا } أي المال { ومتاعا إلى حين } أي المنفعة تعيشون فيه إلى الموت ويقال تنتفعون بها إلى حين تبلى وقرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو { يوم ظعنكم } بنصب العين والباقون بالجزم ومعناهما واحد

٨١

قوله عز وجل { واللّه جعل لكم مما خلق ظلالا } أي أشجارا تستظلون بها ويقال بيوتا تسكنون فيها { وجعل لكم من الجبال أكنانا } أي الغيران والأسراب واحدها كن { وجعل لكم سرابيل } أي القمص { تقيكم الحر } والبرد اكتفى بذكر أحدهما إذا كان يدل على الآخر وقال قتادة في قوله { مما خلق ظلالا } أي من الشجر وغيره { وجعل لكم من الجبال أكنانا } قال غيرانا في الجبال يسكن فيها { تقيكم من الحر } أي من القطن والكتان والصوف قال وكانت تسمى هذه السورة سورة النعم { وسرابيل تقيكم بأسكم } وهي الدروع من الحديد تدفع عنكم قتال عدوكم { كذلك يتم نعمته عليكم } أي ما ذكر من النعم في هذه السورة { لعلكم تسلمون } أي تعرفون رب هذه النعم فتوحدوه وتخلصوا له بالعبادة

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { لعلكم تسلمون } بنصب التاء واللام ومعناه تسلمون من الجراحات إذا لبستم الدروع وتسلمون من الحر والبرد إذا لبستم القمص

٨٢

ثم قال بعد ما بين العلامات { فإن تولوا } أي أعرضوا عن الإيمان { فإنما عليك البلاغ المبين } تبلغهم رسالتي وتبين لهم الهدى من الضلالة

٨٣

قوله تعالى { يعرفون نعمة اللّه ثم ينكرونها } أي يعرفون أن خالق هذه الأشياء هو اللّه تعالى { ثم ينكرونها } ويقولون هي بشفاعة آلهتنا وهذا قول الكلبي وقال السدي يعرفون محمدا صلى اللّه عليه وسلم أنه نبي وأنه صادق ولا يؤمنون به

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد في قوله { يعرفون نعمة اللّه } قال هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها وسرابيل الحديد والثياب يعرف هذا الكافرون { ثم ينكرونها } أي البعث { وأكثرهم الكافرون } بالتوحيد ويقال جاحدون بالنعم

٨٤

قوله تعالى { ويوم نبعث } أي واذكر يوم نبعث { في كل أمة شهيدا } أي نبيا شاهدا على أمته بالرسالة أنه بلغها { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أي في الكلام { ولا هم يستعتبون } أي لا يرجعون من الآخرة إلى الدنيا

وقال أهل اللغة عتب يعتب إذا وجد عليه وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه واستعتب يستعتب إذا طلب منهم الرجوع أي لا يطلب منهم الرجوع إلى الدنيا

٨٥

وقوله { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } أي الكفار { فلا يخفف عنهم } أي العذاب حين رأوها { ولا هم ينظرون } أي لا يمهلون ولا يؤجلون ولا يتركون ساعة ليستريحوا

٨٦

وقوله عز وجل { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } أي آلهتهم { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا } يقولون نعبد من دونك وهم أمرونا بذلك ويقال يعني السفلة إذا رأوا شركاءهم يعني أمراءهم ورؤساءهم قالوا ربنا هؤلاء الذين كنا ندعو من دونك أي هم أمرونا بالمعصية فأطعناهم { فألقوا إليهم القول } يعني القادة والآلهة وأجابوهم { إنكم لكاذبون } ما أمرناكم بذلك

٨٧

قوله عز وجل { وألقوا إلى اللّه يومئذ السلم } أي استسلموا وخضعوا وانقادوا العابد والمعبود والتابع والمتبوع خضعوا كلهم يومئذ للّه تعالى { وضل عنهم } أي اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسهم { ما كانوا يفترون } أي يختلفون ويقال بطل عنهم ما كانوا يقولون من الكذب في الدنيا

٨٨

ثم بين عذابهم فقال { الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه } أي صرفوا الناس عن دين الإسلام { زدناهم عذابا فوق العذاب } فوق عذاب السفلة ويقال التابع والمتبوع زدناهم في كل وقت عذابا مع العذاب وقال مقاتل يجري اللّه عليهم خمسة أنهار من نحاس ذائب ثلاثة أنهار في وقت الليل واثنان في وقت النهار { بما كانوا يفسدون } في الدنيا وقال الكلبي نحو هذا

قال الفقيه أبو الليث حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابراهيم بن يوسف عن عبيد اللّه عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد اللّه بن مسعود في قوله { زدناهم عذابا فوق العذاب } قال أفاعي في النار وعن ابن مسعود قال زيدوا عقارب في النار أنيابها كالنخل الطوال وعن مجاهد قال في النار عقارب كالبغال أنيابهن كالرماح تضرب إحداهن على رأسه فيسقط لحمه على قدميه ويقال يسألون اللّه تعالى المطر في ألف سنة ليسكن ما بهم من شدة الحر والغم فتظهر لهم سحابة فيظنون أنها تمطر عليهم الغيث فإذا هي تمطر عليهم الحيات والعقارب ويقال يسلط عليهم الجوع ويقال الجرب

٨٩

قوله عز وجل { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } أي رسولا من الآدميين { وجئنا بك } يا محمد { شهيدا على هؤلاء } أي على أمتك { ونزلنا عليك الكتاب } أي القرآن { تبيانا لكل شيء } من الأمر والنهي إلا أن بعضه مفسر وبعضه مجمل يحتاج إلى الإستخراج والإستنباط وقال مجاهد ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب اللّه تبيانه ثم قرأ { تبيانا لكل شيء } وقال علي بن أبي طالب كل شيء علمه في الكتاب إلا أن آراء الرجال تعجز عنه

ثم قال { وهدى ورحمة } أي { هدى } من الضلالة { ورحمة } أي نعمة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه { وبشرى للمسلمين } بالجنة

٩٠

قوله عز وجل { إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان } أي بتوحيد اللّه وشهادة أن لا إله إلا اللّه { والإحسان } إلى الناس والعفو عن الناس { وإيتاء ذي القربى } أي صلة الرحم { وينهى عن الفحشاء } أي عن الزنى ويقال جميع المعاصي { والمنكر } يعني ما لا يعرف في شريعة ولا في سنة ويقال المنكر ما وعد اللّه عليه النار { والبغي } يعني الإستطالة والكبر فقد أمر بثلاثة أشياء ونهى عن ثلاثة أشياء وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين وجميع الخصال المحمودة

وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال ما أسلمت يوم أسلمت إلا حياء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك أنه كان يدعوني فيعرض علي الإسلام فاستحييت منه فأسلمت ولم يقر الإسلام في قلبي فمررت به ذات يوم وهو بفناء داره جالسا محتبيا فدعاني فجلست إليه فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء حتى رأيت طرفه قد إنقطع ثم رأيته خفضه عن يمينه ثم ولاني وركه ينفض رأسه كأنه يستفهم شيئا يقال له ثم دعا فرفع رأسه إلى السماء ثم خفضه حتى وضعه عن يساره ثم أقبل علي محمرا وجهه يفيض عرقا فقلت يا رسول اللّه ما رأيتك صنعت هذا في طول ما كنت أجالسك فقال ولقد رأيت ذلك قلت نعم قال بينما أحدثك إذ رفعت بصري إلى السماء فرأيت جبريل ينزل علي فلم تكن لي همة غيره حتى نزل عن يميني فقال يا محمد { إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } إلى آخر الآية قال عثمان فوقر الإيمان في قلبي فآمنت به وصدقته فأتيت أبا طالب فأخبرته بما نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا وتفلحوا ولئن كان محمد صادقا أو كاذبا ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم من عمه اللين قال يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه فأبى أن يسلم فنزل { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : ٥٦ ] إلى آخر الآية

قال الفقيه أبو الليث حدثنا أبو منصور عبد اللّه الفرائضي بسمرقند بإسناده عن عكرمة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة { إن اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر } إلى آخر الآية فقال له يا ابن أخي أعد علي فأعاد عليه فقال واللّه يا ابن أخي إن له لحلاوه وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هذا بقول البشر وقال قتادة في قول اللّه تعالى { إن اللّه يأمر بالعدل الإحسان } الآية قال ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يستحسنونه بينهم إلا أمر اللّه به وليس من خلق سيء يتعايرونه بينهم إلا نهى اللّه عنه

ثم قال تعالى { يعظكم } أي يأمركم وينهاكم عن هذه الأشياء التي ذكرها اللّه في الآية { لعلكم تذكرون } أي تتعظون

٩١

قوله عز وجل { وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم } يقول إذا حلفتم باللّه فأتموا له بالفعل ويقال { أوفوا بعهد اللّه } أي العهود التي بينكم وبين اللّه تعالى والعهود التي بينكم وبين الناس

٩٢

ثم قال { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } أي لا تنكثوا العهود بعد تغليظها وتشديدها { وقد جعلتم اللّه عليكم كفيلا } أي شهيدا على إتمام العهود والوفاء بها ويقال حفيظا على ما قال الفريقان { إن اللّه يعلم ما تفعلون } في وفاء العهد والنقض

ثم ضرب اللّه تعالى مثلا آخر فقال { ولا تكونوا } في نقض العهد { كالتي نقضت غزلها } وهي ريطة الحمقاء بنت عمرو بن كعب بن سعد وهي أم الأخنس بن شريف الزهري { من بعد قوة أنكاثا } أي من بعد ما أبرمته وأحكمته كانت إذا غزلت الشعر والكتان نقضته ثم غزلته فقال ولا تنقضوا العهد بعد توكيده كما نقضت المرأة غزلها وقال القتبي أي لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان والعهود ثم تنقضوا ذلك فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت ثم نقضت ذلك النسج فجعلته أنكاثا والأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره واحدها نكث

ثم قال { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم } أي دغلا وخيانة { أن تكون أمة } أي فريقا منكم { هي أربى من أمة } أي هي أكثر وأغنى من أمة قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كندة ومراد وذلك أنه كان بينهم قتال حتى كل الظهر ثم تواعدوا لستة أشهر حتى يصلح الظهر أي الدواب ولحم الخيل فلما مضت خمسة أشهر أمر قيس بن معد يكرب بالجهاد إليهم فقالوا قد بقي من الأجل شهر فمكث حتى علم أنه يأتيهم بعد انقضاء الأجل فقتلوه وهزموا قومه فذلك قوله { ولا تتخذوا أيمانكم } [ النحل : ٩٤ ] أي عهودكم باللّه { دخلا } أي مكرا وخديعة بينكم { أن تكون أمة هي أربى من أمة } يعني أن تكون أمة أكثر من أمة فينقضون العهد لأجل كثرتهم فلا تحملنكم الكثرة على نقض العهد { إنما يبلوكم اللّه به } يعني إنما يبتليكم اللّه بالكثرة لنقض العهد والوفاء وقال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز نقضوا وحالفوا الأعز فنزل { إنما يبلوكم اللّه به } أي يختبركم بنقض العهود وبالكثرة { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } من الدين ويبين لكم ما نقضتم من العهود ويجازيكم به

٩٣

قوله { ولو شاء اللّه لجعلكم أمة واحدة } أي على ملة واحدة وهي الإسلام { ولكن يضل من يشاء } أي يخذل من علم أنه ليس من أهل الإسلام { ويهدي من يشاء } أي يكرم بالإسلام من هو أهل لذلك { ولتسألن عما كنتم تعملون } فهذه اللام لام القسم والتأكيد أي يسألكم { عما كنتم تعملون } من الوفاء والنقض بالعهد

٩٤

قوله عز وجل { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها } أي إن ناقض العهد يزل عن الطاعة كما تزل قدم الرجل بعد الإستقامة { وتذوقوا السوء } أي تتجرعوا العقوبة { بما صددتم عن سبيل اللّه } أي صرفتم الناس عن دين اللّه { ولكم عذاب عظيم } أي شديد في الآخرة

٩٥

{ولا تشتروا بعهد اللّه ثمنا قليلا } أي لا تختاروا على عهد اللّه والحلف به عرضا يسيرا من الدنيا { إنما عند اللّه } في الآخرة من الثواب الدائم { هو خير لكم } أي ثواب الجنة { إن كنتم تعلمون } أن الآخرة خير من الدنيا ويقال إن كنتم تصدقون بثوابه

قال الكلبي نزلت الآية في رجل من حضرموت يقال له عبدان بن الأشوع قال يا رسول اللّه إن إمرأ القيس الكندي جاورني في الأرض فاقتطع أرضي فذهب بها وغلبني عليها فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيشهد لك أحد على ما تقول قال يا رسول اللّه إن القوم كلهم يعلمون أني صادق فيما أقول ولكنه أكرم عليهم مني عليهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامرىء القيس ما يقول صاحبك قال الباطل والكذب فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يحلف فقال عبدان إنه لفاجر وما يبالي أن يحلف فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن لم يكن لك شهود فخذ يمينه فقال عبدان وما لي يا رسول اللّه إلا يمينه فقال لا فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحلف فلما قام ليحلف أخره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال له انصرف فانصرف من عنده فنزلت هذه الآية { ولا تشتروا بعهد اللّه ثمنا قليلا } إلى

٩٦

قوله { ما عندكم ينفد } أي ما عندكم من أمر الدنيا يفنى { وما عند اللّه باق } أي ثواب اللّه في الجنة دائم لأهلها { ولنجزين الذين صبروا } عن اليمين وأقروا بالحق ويقال الذين صبروا على الإيمان وأقروا بالحق { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } يعني بالإحسان الذي كانوا يعملون في الدنيا ويقال يجزيهم بأحسن أعمالهم ويبقى سائر الأعمال فضلا قال الكلبي فلما نزلت هاتان الآيتان قال امرؤ القيس أما ما عندي فينفد وأما صاحبي فيجزى بأحسن ما كان يعمل اللّهم إنه صادق فيما قال لقد اقتطعت أرضه واللّه ما أدري كم هي ولكنه يأخذ ما يشاء من أرضي ومثلها معها بما أكلت من ثمارها فنزلت { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } أي لا يقبل العمل منه ما لم يكن مؤمنا فإذا كان مؤمنا وعمل صالحا يقبل منه

وقال { فلنحيينه حياة طيبة } في الجنة ويقال يجعل حياته في طاعة اللّه ويقال فلنقنعنه باليسير من الدنيا وروي عن ابن عباس أنه قال الكسب الطيب والعمل الصالح وعن علي قال القناعة وقال الحسن لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة وقال الضحاك الرزق الحلال وعبادة اللّه تعالى

٩٧

ثم قال {ولنجزينهم أجرهم } أي ثوابهم { بأحسن ما كانوا يعملون } أي ليثيبهم بإحسانهم ويعفو عن سيئاتهم قرأ إبن كثير وعاصم وابن عامر في إحدى الروايتين { ولنجزين } بالنون وقرأ الباقون { ولنجزينهم } بالياء

٩٨

قوله عز وجل { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه } يعني إذا أردت أن تقرأ القرآن في الصلاة وغير الصلاة { فاستعذ باللّه } أي تعوذ باللّه وهذا كقولك إذا أكلت فقل بسم اللّه يعني إذا أردت أن تأكل وهذا مثل قوله { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : ٦ ] يعني إذا أردتم القيام للصلاة

وقوله { من الشيطان الرجيم } يعني اللعين الخبيث ويقال { الرجيم } يعني المرجوم ويقال فيه تقديم ومعناه فاستعذ باللّه إذا قرأت القرآن

٩٩

ثم قال { إنه ليس له سلطان } يقال ليس له غلبة ولا حجة ويقال ليس له نفاذ الأمر { على الذين آمنوا } أي صدقوا بتوحيد اللّه تعالى { وعلى ربهم يتوكلون } أي يثقون به ولا يثقون بغيره

١٠٠

قوله عز وجل { إنما سلطانه } أي غلبته وحجته { على الذين يتولونه } أي يطيعونه من دون اللّه تعالى فمن أطاعه فقد تولاه { والذين هم به مشركون } أي باللّه وقال القتبي { والذين هم به مشركون } لم يرد أنهم بإبليس كافرون ولو كانوا هكذا لكانوا مؤمنين وإنما أراد به الذين هم من أجله مشركون باللّه تعالى كما يقال صار فلان بك عالما أي من أجلك

١٠١

قوله { وإذا بدلنا آية } أي ناسخة { مكان آية } منسوخة أي نسخنا آية بآية قال ابن عباس إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية فيها شدة أخذ الناس بها وعملوا ما شاء اللّه أن يعملوا فيشق ذلك عليهم فينسخ اللّه تعالى هذه الشدة ويأتيهم بما هو ألين منها وأهون عليهم منها قالوا أي كفار قريش ما يعلمه إلا عابس غلام حويطب بن عبد العزى ويسار بن فكيهة مولى ابن الحضرمي وكانا قد أسلما وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتيهما فيحدثهما ويعلمهما وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانية فنزل { وإذا بدلنا آية مكان آية } { واللّه أعلم بما ينزل } يعني بما يصلح للخلق { قالوا إنما أنت مفتر } أي مختلق من تلقاء نفسك { بل أكثرهم لا يعلمون } أن اللّه أمرك بما شاء نظرا لصلاح العباد وقال مقاتل في الآية تقديم ومعناه { وإذا بدلنا آية مكان آية } { قالوا إنما أنت مفتر } فتقول على اللّه تعالى الكذب قلت كذا ثم نقضته فجئت بغيره

ثم قال في التقديم { واللّه أعلم بما ينزل }

١٠٢

قال عز وجل { قل نزله روح القدس } أي قل يا محمد نزل جبريل بالقرآن والتشديد لكثرة نزوله ويقال نزله بمعنى تنزل كما يقال قدم بمعنى تقدم وبين بمعنى تبين ويقال { نزله } بمعنى تلاه والوحي بلغه ويقال { قل نزله روح القدس } يعني جبريل الذي يأتيك بالناسخ والمنسوخ { من ربك } أي من عند ربك ويقال من كلام ربك { بالحق } أي بالوحي ويقال بالصدق ويقال للحق ويقال لصلاح الخلق { ليثبت الذين آمنوا } أي ليحفظ قلوب الذين آمنوا على الإسلام ويقال لتطمئن إليه قلوب الذين آمنوا { وهدى } من الضلالة { وبشرى للمسلمين } بالجنة

١٠٣

وقال { ولقد نعلم أنهم يقولون } يعني أن كفار قريش يقولون { إنما يعلمه بشر } يعنون جبرا ويسارا وروى حصين عن عبد اللّه بن مسلم قال كان لنا غلامان من أهل اليمن نصرانيان اسم أحدهما يسار والآخر جبر صيقليان وكانا يقرآن بلسانهما فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمر عليهما ويستمع منهما فقال المشركون إنما يتعلم منهما فأكذبهم اللّه تعالى حيث قال { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } أي رومي اللسان وقال مقاتل كان غلام لإبن الحضرمي إسمه يسار وهو يهودي أعجمي اللسان فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا آذاه كفار قريش يدخل عليه ويحدثه فقال المشركون إنما يعلمه يسار فقال اللّه تعالى ردا عليهم { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي } أي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمه أعجمي أي عبراني وأصل الإلحاد الميل { وهذا } يعني القرآن { لسان عربي مبين } يعني مفقه بلغتهم وروي عن طلحة بن عمير أنه كان يقول بلغني أن خديجة كانت تختلف إلى غلام ابن الحضرمي وكان نصرانيا صاحب كتب يقال له جبر وكانت قريش تقول إن عبد الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمدا صلى اللّه عليه وسلم فنزل { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } ثم أسلم جبر بعد ذلك وحسن إسلامه وهاجر مع سيده قرأ إبن كثير { روح القدس } بجزم الدال وقرأ الباقون { القدس } بالضم وقرأ حمزة والكسائي { يلحدون } بنصب الياء والحاء وقرأ الباقون { يلحدون } بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد

١٠٤

قوله عز وجل { إن الذين لا يؤمنون بآيات اللّه } أي القرآن { لا يهديهم اللّه } أي لا يوفقهم اللّه ولا يكرمهم لقلة رغبتهم في الإيمان ويقال لا ينجيهم في الآخرة من النار { ولهم عذاب أليم } في الآخرة

١٠٥

ثم قال { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات اللّه وأولئك هم الكاذبون } أي إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا اللّه كذبوا بها وهؤلاء أكذب الكذبة

١٠٦

 { من كفر باللّه من بعد إيمانه } فعليهم غضب من اللّه على معنى التقديم

ثم إستثنى فقال { إلا من أكره } أي أكره على الكفر وتكلم بالكفر مكرها { وقلبه مطمئن بالإيمان } يقول قلبه معتقد عليه وهو عمار بن ياسر وأصحابه وذلك أن ناسا من أهل مكة آمنوا فخرجوا مهاجرين فأدركتهم قريش بالطريق فعذبوهم فكفروا مكرهين فنزلت هذه الآية فيهم

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد مثله

وروي عن قتادة أنه قال ذكر لنا أن عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة فطرحوه في بئر ميمونة حتى أمسى فقالوا له اكفر بمحمد وأشرك باللّه فتابعهم على ذلك وقلبه كاره فنزلت الآية وذكر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رأى عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع من عينيه ويقول أخذني الكفار ولم يتركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئن بالإيمان فقال إن عادوا فعد وقال مقاتل أسلم جبر مولى إبن الحضرمي فأخذه مولاه وعذبه حتى رجع إلى اليهودية ثم رجع إلى هؤلاء النفر فنزلت الآية { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }

ثم بين حال الذين ثبتوا على الكفر فقال { ولكن من شرح بالكفر صدرا } أي فتح صدره بالقبول يعني قبل الكفر طائعا وهو عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح ارتد ولحق بمكة { فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم } أي شديد في الآخرة

١٠٧

{ ذلك } العذاب { بأنهم إستحبوا الحياة الدنيا } أي اختاروا الدنيا { على الآخرة وأن اللّه لا يهدي } أي لا يرشد إلى دينه { القوم الكافرين } مجازاة لهم

١٠٨

قوله { أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم } مجازاة لهم { وسمعهم وأبصارهم } أي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم { وأولئك هم الغافلون } أي التاركون لأمر اللّه تعالى

١٠٩

ثم قال { لا جرم } أي حقا { أنهم في الآخرة هم الخاسرون }

١١٠

{ ثم إن ربك للذين هاجروا } قال ابن عباس نزلت في عمار بن ياسر وأبويه وبلال وصهيب وخباب بن الأرت حيث عذبهم المشركون ثم هاجروا إلى المدينة فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل { ثم إن ربك للذين هاجروا } { من بعد ما فتنوا } يقول عذبهم أهل مكة { ثم جاهدوا } مع النبي صلى اللّه عليه وسلم { وصبروا } على البلاء { وصبروا } على دينهم { وصبروا } مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على طاعة اللّه تعالى { إن ربك من بعدها } أي من بعد الفتن ويقال من بعد الهجرة { لغفور } لذنوبهم { رحيم } ويقال نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة وقد ذكرناه في سورة النساء قرأ إبن عامر { ما فتنوا } بفتح الفاء والتاء أي أصابتهم الفتنة وقرأ الباقون { فتنوا } على معنى فعل ما لم يسم فاعله

١١١

قوله عز وجل { يوم تأتي كل نفس } أي تحضر { تجادل عن نفسها } يعني كل إنسان يخاصم عن نفسه ويذب عنها ويقول نفسي نفسي وذلك حين زفرت جهنم زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه وقال رب نفسي نفسي أي أريد نجاة نفسي { وتوفى كل نفس ما عملت } أي توفى كل نفس برة أو فاجرة جزاء ما عملت في دار الدنيا من خير أو شر { وهم لا يظلمون } أي لا ينقصون من حسناتهم ولا يزادون على سيئاتهم

١١٢

قوله عز وجل { وضرب اللّه مثلا } يقول وصف اللّه شبها { قرية كانت آمنة مطمئنة } يعني مكة من العدو { مطمئنة } من العدو أي ساكنة مقيما أهلها بمكة { يأتيها رزقها } أي يحمل إليها طعامها ورزق أهلها { رغدا من كل مكان } أي موسعا من كل أرض يحمل إليها الثمار وغيرها { فكفرت بأنعم اللّه } أي طغت وبطرت ويقال كفرت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم { فأذاقها اللّه لباس الجوع } أي عاقبهم اللّه تعالى بالجوع سبع سنين ومعنى اللباس هنا سوء الحال واصفرار الوجوه { والخوف } يعني خوف العدو وخوف سرايا النبي صلى اللّه عليه وسلم { بما كانوا يصنعون } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا عليهم فقال اللّهم اشدد وطأتك على مضر اللّهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاستجاب اللّه دعاءه فوقع القحط والجدوبة حتى اضطروا إلى أكل الميتة والكلاب قال القتبي أصل الذوق بالفم ثم يستعار فيوضع موضع الإبتلاء والإختبار { فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف } أي إبتلاهم اللّه بالجوع والخوف وظهر عليهم من سوء آثارهم وتغير الحال عليهم

١١٣

قوله عز وجل { ولقد جاءهم رسول منهم } أي محمد صلى اللّه عليه وسلم { فكذبوه فأخذهم العذاب } أي الجوع { وهم ظالمون } أي كافرون ثم إن أهل مكة بعثوا أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ما هذا البلاء هبك عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء فأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يحمل إليهم الطعام فحمل إليهم الطعام ولم يقطع عنهم وهم مشركون

١١٤

ثم قال { فكلوا مما رزقكم اللّه حلالا طيبا } أي من الحرث والأنعام { حلالا طيبا } وهم خزاعة وثقيف { واشكروا نعمة اللّه إن كنتم إياه تعبدون } يعني إن كنتم تريدون بذلك وجه اللّه ورضاء اللّه وعبادته فإن رضاه أن تستحلوا ما أحل اللّه وتحرموا ما حرم اللّه

١١٥

ثم بين المحرمات فقال تعالى { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير اللّه به } أي ذبح بغير اسم اللّه { فمن اضطر } أي أجهد إلى شيء مما حرم اللّه عليه { غير باغ ولا عاد } في أكله أي لا يأكل فوق حاجته ويقال غير مفارق الجماعة { فإن اللّه غفور } فيما أكل { رحيم } حين رخص له في أكل الميتة عند الاضطرارا

١١٦

ثم قال { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } أي لا تقولوا يا أهل مكة فيما أحللت لكم { هذا حلال } على الرجال { وهذا حرام } على النساء ويقال في الآية تنبيه للقضاة والمفتين كي لا يقولوا قولا بغير حجة وبيان

١١٧

ثم قال { لتفتروا على اللّه الكذب } أي بتحريم البحيرة والسائبة { إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون } أي لا يفوزون ولا ينجون من العذاب { متاع قليل } أي عيشهم في الدنيا قليل { ولهم عذاب أليم } في الآخرة

١١٨

قوله عز وجل { وعلى الذين هادوا } يقول مالوا عن الإسلام وهم اليهود { حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } أي في القرآن من قبل هذه السورة في سورة الأنعام { وما ظلمناهم } بتحريم ما حرمنا عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بكفرهم فحرمنا عليهم الأشياء عقوبة لهم

١١٩

{ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } أي عملوا المعصية بجهالة

وروي عن ابن عباس أنه قال كل سوء يعمله العبد فهو فيه جاهل وإن كان يعلم أن ركوبه سيئة { ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } أي العمل { إن ربك من بعدها } أي من بعد السيئة ويقال من بعد التوبة { لغفور } لذنوبهم { رحيم } بهم

١٢٠

قوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا للّه } أي إماما يقتدى به { قانتا } أي مطيعا لربه

وروى عامر بن مسروق أنه قال ذكر عند عبد اللّه بن مسعود معاذ بن جبل فقال عبد اللّه بن مسعود كان معاذ بن جبل أمة قانتا فقال رجل وما الأمة قال الذي يعلم الناس الخير والقانت الذي يطيع اللّه ورسوله وقال القتبي إنما سماه { أمة } لأنه كان سبب الإجتماع وقد يجوز أنه سماه أمة لأنه إجتمع عنده خصال الخير ويقال إنما سماه { أمة } لأنه آمن وحده حين لم يكن مؤمن غيره

وهذا كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يجيء زيد بن عمرو بن نفيل يوم القيامة أمة وحده وقد كان أسلم قبل خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم حين لم يكن بمكة مؤمن غيره وتابعه ورقه بن نوفل وعاش ورقة بن نوفل إلى وقت خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى أنزل عليه الوحي

ثم قال { حنيفا مسلما } أي مستقيما مائلا عن الأديان كلها { ولم يك من المشركين } أي مع المشركين على دينهم وأصله ولم يكن فحذفت النون لكثرة إستعمال هذا الحرف

١٢١

 { شاكرا لأنعمه } يقول بما أنعم اللّه عليه { إجتباه } أي إصطفاه واختاره للنبوة { وهداه إلى صراط مستقيم } أي إلى دين قائم وهو الإسلام

١٢٢

 { وآتيناه في الدنيا حسنة } يقول أكرمناه بالثناء الحسن ويقال بالنبوة ويقال بالولد الطيب { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } يعني مع الأنبياء في الجنة

١٢٣

قوله { ثم أوحينا إليك } أي بعده هذه الكرامة التي أعطيناها إبراهيم أمرناك { أن إتبع ملة إبراهيم } أي إستقم على دين إبراهيم { حنيفا وما كان من المشركين } على دينهم

١٢٤

قوله عز وجل { إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه } يقول إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل { على الذين إختلفوا فيه } أي في يوم الجمعة وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا للّه تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا فيعبدوه ولا يعملوا فيه شيئا من أمر الدنيا وستة أيام لصناعتهم ومعايشهم ويتفرغوا في يوم الجمعة

فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم وقالوا إنما نختار السبت اليوم الذي فرغ اللّه فيه من أمر الخلق فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم ثم جاءهم عيسى بالجمعة فاختاروا يوم الأحد وقال مجاهد { إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه } أي في السبت إتبعوه وتركوا الجمعة

وروى همام عن أبي هريرة أنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة وأوتيناه من بعدهم يوم الجمعة فهذا يومهم الذي إختلفوا فيه فهدانا اللّه له فهم لنا فيه تبع واليهود غدا والنصارى بعد غد

ثم قال { وإن ربك ليحكم بينهم } أي يقضي بينهم { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من الدين فبين لهم الحق معاينة

١٢٥,

ثم قال عز وجل { أدع إلى سبيل ربك } أي إلى دين ربك وإلى طاعة ربك { بالحكمة } أي بالنبوة والقرآن { والموعظة الحسنة } أي عظهم بالقرآن { وجادلهم بالتي هي أحسن } أي حاججهم وناظرهم بالحجة والبيان ويقال باللين وفي الآية دليل أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق وهذا مثل قوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت : ٤٦ ] وقوله { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } [ الكهف : ٢٢ ]

ثم قال { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } أي عن دينة { وهو أعلم بالمهتدين } لدينه

١٢٦

قوله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } قال ابن عباس وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ومثلوا به فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لئن أمكننا اللّه لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات فنزل { وإن عاقبتم فعاقبوا مثل ما عوقبتم به } الآية وقال محمد بن كعب القرظي لما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين

قوله عز وجل { إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه } يقول إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل { على الذين إختلفوا فيه } أي في يوم الجمعة وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا للّه تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا فيعبدوه ولا يعملوا فيه شيئا من أمر الدنيا وستة أيام لصناعتهم ومعايشهم ويتفرغوا في يوم الجمعة فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم وقالوا إنما نختار السبت اليوم الذي فرغ اللّه فيه من أمر الخلق فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم ثم جاءهم عيسى بالجمعة فاختاروا يوم الأحد وقال مجاهد { إنما جعل السبت على الذين إختلفوا فيه } أي في السبت اتبعوه وتركوا الجمعة

وروى همام عن أبي هريرة أنه قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة وأوتيناه من بعدهم يوم الجمعة فهذا يومهم الذي إختلفوا فيه فهدانا اللّه له فهم لنا فيه تبع واليهود غدا والنصارى بعد غد

ثم قال { وإن ربك ليحكم بينهم } أي يقضي بينهم { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من الدين فبين لهم الحق معاينة

ثم قال عز وجل { ادع إلى سبيل ربك } أي إلى دين ربك وإلى طاعة ربك { بالحكمة } أي بالنبوة والقرآن { والموعظة الحسنة } أي عظهم بالقرآن { وجادلهم بالتي هي أحسن } أي حاججهم وناظرهم بالحجة والبيان ويقال باللين وفي الآية دليل أن المناظرة والمجادلة في العلم جائزة إذا قصد بها إظهار الحق وهذا مثل قوله { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } [ العنكبوت : ٤٦ ] وقوله { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا } [ الكهف : ٢٢ ]

ثم قال { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } أي عن دينه { وهو أعلم بالمهتدين } لدينه

قوله عز وجل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } قال ابن عباس وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد ومثلوا به فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لئن أمكننا اللّه لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات فنزل { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } الآية وقال محمد بن كعب القرظي لما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين مثل به فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لئن ظفرت بقريش لأمثلن بثلاثين منهم فلما رأى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما به من الوجع قالوا لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فنزل { وإن عاقبتم } أي فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به { ولئن صبرتم } فلم تعاقبوا ولم تمثلوا { لهو خير للصابرين } من المثلة أي ثواب الصبر خير من المكافأة ثم صارت الآية عامة في وجوب القصاص أنه لا يجوز إلا مثلا بمثل والعفو أفضل

١٢٧

قال عز وجل { واصبر } يقول { واصبر } أي أثبت على الصبر { وما صبرك إلا باللّه } يعني ألهمك ووفقك للصبر { ولا تحزن عليهم } أي على كفار قريش إن لم يسلموا { ولا تك في ضيق مما يمكرون } قرأ إبن كثير { في ضيق } بكسر الضاد وقرأ الباقون بالنصب ومعناهما واحد أي لا يضق صدرك مما يقولون لك ويصنعون بك وقال مقاتل نزلت الآية في المستهزئين

١٢٨

ثم قال تعالى { إن اللّه مع الذين اتقوا } أي معين للذين اتقوا الشرك { والذين هم محسنون } في العمل ويقال معين الذين اتقوا مكافأة المسيء { والذين هم محسنون } إلى من أساء إليهم واللّه أعلم بالصواب وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

﴿ ٠