سورة الإسراء

مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية

١

قوله تعالى { سبحان } أي عجب من أمر اللّه تعالى { الذي أسرى بعبده } ويقال تنزيه اللّه تعالى وروى موسى بن طلحة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن { سبحان } فقال نزه اللّه نفسه عن السوء وروي عن علي بن أبي طالب أن ابن أبي الكواء سأله عن سبحان اللّه فقال علي كلمة رضيها اللّه لنفسه ويقال معناه سبحوا اللّه { سبحان الذي أسرى بعبده } أي أدلج برسوله صلى اللّه عليه وسلم { ليلا } أي في ليلة ويقال { أسرى } يعني سار بعبده ليلا { من المسجد الحرام } أي مكة وقال ابن عباس من بيت أم هانىء { إلى المسجد الأقصى } يعني إلى بيت المقدس

قال الفقيه أخبرني الثقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الليلة التي أسرى به فيها فقال أوتيت بدابة هي أشبه الدواب بالبغل وهو البراق وهو الذي كان يركبه الأنبياء قال فانطلق بي يضع يده عند منتهى بصره فسمعت نداء عن يميني يا محمد على رسلك فمضيت ولم أعرج عليه أي ما التفت إليه ثم سمعت نداء عن شمالي فمضيت ثم استقبلتني امرأة عليها من كل زينة فمدت يديها وقالت على رسلك فمضيت ولم ألتفت إليها ثم أتيت البيت المقدس أو قال المسجد فنزلت وأوثقته بالحلقة التي كانت الأنبياء يوثقون بها ثم دخلت المسجد فصليت فقلت يا جبريل سمعت نداء عن يميني فقال ذاك داعي اليهودية أما إنك لو وقفت عليه لتهودت أمتك فقلت وسمعت نداء عن شمالي قال كان ذلك داعي النصارى أما إنك لو وقفت عليه لتنصرت أمتك وأما المرأة كانت الدنيا تزينت لك أما إنك لو وقفت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة قال ثم أوتيت بإناءين أحدهما فيه لبن والآخر فيه خمر فقال لي اشرب أيهما شئت فأخذت اللبن وشربت فقال أصبت الفطرة أي أعطيت أمتك الإسلام أما إنك لو أخذت الخمرة لغوت أمتك ثم جيء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت فعرج بنا فيه وذكر قصة طويلة فنزل { سبحان الذي أسرى بعبده } محمدا صلى اللّه عليه وسلم من أول الليل من المسجد الحرام يقول من الحرم من بيت أم هانىء بنت أبي طالب إلى المسجد الأقصى أي الأبعد يعني إلى مسجد إيلياء وهو بيت المقدس { الذي باركنا حوله } بالماء والأشجار وهو المدائن التي حوله مثل دمشق والأردن وفلسطين { لنريه من آياتنا } أي لكي نريه من آياتنا أراه اللّه تعالى في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض { إنه هو السميع } لمقالة أهل مكة وإنكارهم { البصير } أي العليم بهم وذلك أنه لما أخبرهم عن قصة تلك الليلة أنكروا

وروى الزهري عن عروة قال إنه لما أسري به صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد الأقصى فأخبر الناس بذلك فارتد ناس كثير ممن كان صدقه وفتنوا بذلك وكذبوا به وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا له هذا صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس ثم رجع من ليلته فقال أبو بكر أو قال ذلك قالوا نعم قال فإني أشهد إن كان قال ذلك أنه قد صدق فقالوا أتصدقه بأنه جاء إلى الشام ورجع في ليلة واحدة قبل أن يصبح فقال أبو بكر نعم إني أصدقه في أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية فذلك سمي أبو بكر الصديق قال الزهري أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به خمسين ثم نقصت إلى خمس ثم نودي يا محمد ما يبدل القول لدي وإن لك بالخمس خمسين

٢

ثم قال اللّه تعالى { وآتينا موسى الكتاب } أي التوراة جملة واحدة { وجعلناه } أي الكتاب { هدى لبني إسرائيل } أي بيانا لهم من الضلالة أي دللناهم به على الهدى { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } يعني ألا تعبدوا من دوني ربا

٣

قوله { ذرية } يعني بالذرية { من حملنا مع نوح } في السفينة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ويقال معناه ألا تعبدوا ذرية من حملنا مع نوح مثل عيسى وعزير قرأ أبو عمرو { أن لايتخذوا } بالياء على معنى المغايبة والخبر عنهم أي أعطيناك الكتاب لكيلا يتخذوا إلها غيري وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة أي قل لهم لا تتخذوا إلها غيري

ثم أثنى على نوح فقال تعالى { إنه كان عبدا شكورا } أي كان يحمد اللّه إذا أكل وشرب واكتسى ويقال الشكور هو المبالغ في الشكر أي كان شاكرا في الأحوال كلها

٤

قوله { وقضينا إلى بني إسرائيل } يقول أعلمنا وبينا كقوله { وقضينا إليه ذلك الأمر } [ الحجر : ٦٠ ] أي أعلمناه وبيناه { في الكتاب } أي أخبرناهم في التوراة { لتفسدن في الأرض مرتين } أي لتعصن في الأرض ولتهلكن فيها مرتين { ولتعلن علوا كبيرا } أي لتقهرن قهرا شديدا

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال أما المرة الأولى فسلط اللّه عليهم جالوت حتى بعث اللّه طالوت ومعه داود فقتله داود ثم ردت الكرة لبني إسرائيل ثم جاء وعد الآخرة من المرتين { ليسوؤا وجوهكم } [ الإسراء : ٧ ] أي يقبحوا وجوهكم وليدمروا تدميرا وهو بختنصر وإن عدتم عدنا فعادوا فبعث اللّه عليهم محمدا صلى اللّه عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال وعد أولاهما جاءتهم فارس معهم بختنصر ثم رجعت فارس أي أهل فارس معهم ولم يكن قتال ونصرت بنو إسرائيل عليهم فذلك وعد الأولى فإذا كان وعد الآخرة جاءهم بختنصر ودمر عليهم

وروى أسباط عن السدي أن وعد الأولى كان ملك النبط فجاسوا خلال الديار ثم إن بني إسرائيل تجهزوا وغزوا النبط فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم فردت الكرة عليهم وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيما في ذلك العسكر وخرج ليسأل شيئا فلما رأى كبر وجمع الجيوش وجاءهم وخوفهم وخرب البلدة

قال القتبي إن بختنصر غزاهم فرغبوا إلى اللّه وتابوا فرد اللّه عنهم بعد أن فتحوا المدينة وجالوا في أسواقهم ثم أحدثوا فبعث اللّه إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي اللّه فضربوه وقيدوه وحبسوه فبعث اللّه تعالى إليهم عند ذلك بختنصر ففعل ما فعل

وقال الكلبي لما عصوا اللّه تعالى وهو أول الفسادين سلط اللّه عليهم بختنصر خرج من بابل فأتاهم بالشام وظهر على بيت المقدس فقتل منهم أربعين ألفا ممن كان يقرأ التوراة وأدخل بقيتهم أرضه فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلا من همدان يقال له كورش غزا أهل بابل فظهر عليهم وسكن الدار وتزوج إمرأة من بني إسرائيل وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم ففعل فردهم إلى أرض بيت المقدس فمكثوا فيها فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ثم عادوا فعصوا المرة الثانية فسلط اللّه عليهم ملكا من ملوك الروم يقال له إسبسيانوس فحاصرهم سنين ثم مات فبعث اللّه عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس الرومي فحاصرهم ثم بعد ذلك ملكهم فقتل منهم مائة ألف وثمانين ألفا حتى قتل يحيى بن زكريا وسبى منهم مثل ذلك وخرب بيت المقدس فلم يزل خرابا حتى بناه المؤمنون في زمن عمر رضي اللّه عنه فذلك

٥

قوله { فإذا جاء وعد أولاهما } يقول أول الفسادين { بعثنا عليكم } أي سلطنا عليكم { عبادا لنا أولي بأس شديد } يعني ذوي قتال شديد { فجاسوا خلال الديار } يقول قتلوكم وسط الأزقة

وقال القتبي { فجاسوا } أي عاثوا وأفسدوا ويكون { جاسوا } بمعنى دخلوا بالفساد { وكان وعدا مفعولا } أي كائنا لئن فعلتم لأفعلن بكم

٦

وقال { ثم رددنا لكم الكرة عليهم } يقول أعطيناكم الدولة ويقال الرجعة عليهم

قوله { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } يعني أكثر رجالا وعددا وقال القتبي { أكثر نفيرا } أي أكثر عددا أصله من نفر ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته والنفير والنافر مثل القدير والقادر

٧

قوله { إن أحسنتم } يقول إن وحدتم اللّه وأطعتموه { أحسنتم لأنفسكم } أي يثاب لكم الجنة { وإن أسأتم } أي أشركتم باللّه { فلها } رب يغفر لها { فإذا جاء وعد الآخرة } أي آخر الفسادين { ليسوءوا وجوهكم } أخذ من السوء أي بعثناكم إليكم ليقبحوا وجوهكم بالقتل والسبي قرأ حمزة وإبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { ليسوء } بالياء ونصب الواو معه وقرأ الكسائي { لنسوء } بالنون فيكون الفعل للّه تعالى وقرأ الباقون { ليسوءوا } بالياء وضم الواو بلفظ الجماعة يعني إن القوم يفعلون ذلك { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } يعني بيت المقدس { وليتبروا ما علوا تتبيرا } يقول وليخربوا ما ظهروا عليه { تتبيرا } أي هلاكا وقال الزجاج يقال لكل شيء منكسر من الحديد والذهب والفضة والزجاج تبر ومعنى { ما علوا } أي وليدمروا في حال علوهم

٨

قوله { عسى ربكم أن يرحمكم } بعد هاتين المرتين فرحمهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وبعث فيهم الأنبياء فكانوا رحمة لهم فذلك قوله { وإن عدتم عدنا } أي إن { عدتم } إلى المعصية { عدنا } إليكم بالعذاب ويقال { إن عدتم } إلى تكذيب محمد صلى اللّه عليه وسلم كما كذبتم سائر الأنبياء { عدنا } يعني سلطناه عليكم فيعاقبكم بالقتل والجزية والسبي في الدنيا { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } أي سجنا ومحبسا قال الحسن أي سجنا وقال قتادة أي وحبسا يحبسون فيها وقال مقاتل أي مجلسا يجلسون ولا يخرجون أبدا كقوله { للفقراء الذين أحصروا } [ البقرة : ٢٧٣ ] ويقال هذا فعيل بمعنى فاعل

وقال الزجاج { حصيرا } أي حبيسا أخذ من قوله حصرت الرجل إذا حبسته وهو محصور والحصير المنسوج وإنما سمي { حصيرا } لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض

٩

ثم قال { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } أي يدعو ويدل ويرشد إلى التي هي { أقوم } وهو توحيد وشهادة أن لا إله إلا اللّه والإيمان برسول اللّه والعمل بطاعة اللّه هذه صفة الحال التي هي أقوم { ويبشر المؤمنين } يعني القرآن بشارة للمؤمنين { الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } في الجنة

١٠

 { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي لا يصدقون بالبعث { أعتدنا لهم } أي هيأنا لهم { عذابا أليما } أي وجيعا قرأ حمزة والكسائي { ويبشر المؤمنين } بنصب الياء وجزم الباء والتخفيف وقرأ الباقون { ويبشر } برفع الياء والتشديد

١١

قوله { ويدع الإنسان بالشر } وأصله في اللغة ويدعو بالواو إلا أن الواو والألف حذفت في الكتابة لأن الضمة تقوم مقامها مثل قوله { سندع الزبانية } [ العلق : ١٨ ] وأصله سندعو أي يدعو الإنسان باللعن على نفسه وأهله وولده وماله وخدمه { دعاءه بالخير } أي دعاءه بالرزق والعافية والرحمة وما يستجاب له فلو استجيب له إذا دعاه باللعن كما يجاب له بالخير لهلك ويقال نزلت في النضر بن الحارث حيث قال { فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : ٣٢ ] { وكان الإنسان عجولا } يعني إن آدم عجل بالقيام قبل أن تتم فيه الروح وكذلك النضر بن الحارث استعجل بالدعاء على نفسه وهو يستعجل العذاب ويروي الحكم عن إبراهيم عن سلمان أنه قال لما خلق اللّه تعالى آدم بدأ بأعلاه قبل أسفله فجعل آدم ينظر وهو يخلق فلما كان بعد العصر قال يا رب عجل قبل الليل فذلك قوله { وكان الإنسان عجولا } قال ابن عباس لما جعل فيه الروح فإذا جاوز عن نصفه أراد أن يقوم فسقط فلذلك قيل له لا تعجل فذلك قوله { وكان الإنسان عجولا }

١٢

قوله عز وجل { وجعلنا الليل والنهار آيتين } أي خلقنا الشمس والقمر علامتين يدلان على أن خالقهما واحد { فمحونا آية الليل } أي ضوء القمر وهو السواد الذي في جوف القمر وقال محمد بن كعب القرظي كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحيت شمس الليل وقال ابن عباس كان في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار فبعث اللّه جبريل فمسح جناحه بالقمر فذهب ضوؤه وبقي علامة جناحه وهو السواد الذي في القمر فذلك

قوله { فمحونا آية الليل } { وجعلنا آية النهار مبصرة } أي وتركنا علامة النهار مضيئة مبينة { لتبتغوا فضلا من ربكم } أي لتطلبوا رزقا من ربكم في النهار { ولتعلموا عدد السنين والحساب } أي حساب الشهور والأيام { وكل شيء فصلناه تفصيلا } أي بيناه في القرآن

١٣

قوله عز وجل { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال ابن عباس أي خيره وشره مكتوب عليه لا يفارقه وقال قتادة سعادته وشقاوته قال الفقيه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا يزيد بن ربيع عن يونس عن الحسن قال في قوله { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال { طائره } عمله وإليه هداه أميا كان أو غير أمي

وروى الحكم عن مجاهد قال ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وقال الضحاك { طائره في عنقه } الشقاوة والسعادة والأجل والرزق { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } أي مفتوحا قرأ ابن عامر { يلقاه } بضم الياء وتشديد القاف أي يعطاه والباقون { يلقاه } أي يراه

١٤

وقوله { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي شاهدا ويقال محاسبا لما ترى فيه كل حسنة وسيئة محصاة عليك قال ابن عباس فإن كان مؤمنا أعطي كتابه بيمينه وهي صحيفة يقرأ سيئاته في باطنها وحسناته في ظاهرها فيجد فيها عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا وصنعت كذا وكذا وقلت كذا وكذا في سنة كذا وكذا في شهر كذا وكذا وفي يوم كذا وفي ساعة كذا وكذا فإذا انتهى إلى أسفلها قيل له قد غفرها اللّه لك اقرأ ما في ظهرها فيقرأ حسناته فيسره ما يرى فيها ويشرق لونه عند ذلك يقول { هآؤم اقرءوا كتابيه } [ الحاقة : ١٩ ] قال ويعطى الكافر كتابه بشماله ويقرأ حسناته في باطنها وسيئاته في ظاهرها فإذا انتهى إلى آخره قيل له هذه حسناتك قد ردت عليك اقرأ ما في ظهرها فيرى فيها سيئاته قد حفظت عليه كل صغيرة وكبيرة فيسوءه ذلك ويسود وجهه وتزرق عيناه ويقول عند ذلك { ياليتني لم أوت كتابيه } [ الحاقة : ٢٥ ] فذلك قوله { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي حفيظا وقال مقاتل وذلك حين جحد فختم على لسانه وتكلمت جوارحه فشهدت جوارحه على نفسه وذلك قوله { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي شهيدا فلا شاهد عليك أفضل من نفسك

١٥

ثم قال { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } يعني من اجتهد حتى اهتدى فثوابه لنفسه

{ ومن ضل } أي ومن تغافل حتى ضل { فإنما يضل عليها } أي إثمه عليها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى

وقال { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } حجة عليهم مع علمه أنهم لا يطيعون وينذرهم على ما هم عليه من المعصية فإن أجابوا وإلا عذبوا

١٦

قوله تعالى { وإذا أردنا أن نهلك قرية } أي أهل قرية { أمرنا مترفيها } أي أكثرنا جبابرتها يقال أمر إذا أكثر وآمر إذا أكثر وهما لغتان

وروي عن زينب بنت جحش أنها قالت دخل علينا رسول اللّه صلوهو يقول ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق إبهامه بالتي تليها قالت قلت يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ويقال أمر وآمر مثل فعل وأفعل بمعنى أكثر ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم خير المال مهرة مأمورة أي خيل كثير النتاج قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين وإبن كثير في إحدى الروايتين ونافع في إحدى الروايتين أمرنا بالتشديد بغير مد وفي إحدى الروايتين عن إبن كثير ونافع آمرنا بالمد والتخفيف فمن قرأ بالمد يعني أكثرنا جبابرتها وقرأ الباقون بالتخفيف بغير مد فمن قرأ بالتشديد فمعناه سلطنا جبابرتها ومن قرأ بالتخفيف له معنيان أحدهما أكثرنا جبابرتها وأشرافها وورؤساءها { ففسقوا فيها } أي فعصوا فيها ومعنى آخر أمرناهم بالطاعة وخذلناهم حتى تركوا الأمر وعصوا اللّه تعالى { فحق عليها القول } أي وجب عليها السخط بالعذاب { فدمرناها تدميرا } أي أهلكناها بالعذاب إهلاكا

١٧

قوله عز وجل { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا } يعني إن اللّه تعالى عالم بذنوبهم قادر على أخذهم ومجازاتهم فيه تهديد لهذه الأمة لكي يطيعوا اللّه ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم

١٨

قوله: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ } أي: من كان يريد بعمله الذي افترض الله عليه ثواب الدنيا { عَجَّلْنَا لَهُ } أي: أعطينا له { فِيهَا مَا نَشَاء } من عرض الدنيا { لِمَن نُّرِيدُ } أن نهلكه { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } أي: أوجبنا له جهنم { يَصْلَـٰهَا } أي: يدخلها { مَذْمُومًا } ملوماً في عمله { مَّدْحُورًا } أي: مطروداً مقصيَّاً من كل خير

١٩

قوله: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلأَخِرَةَ } من المؤمنين بعمله الذي افترض الله عليه { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } يعني: عمل للآخرة عملها { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } يعني: عملهم مقبولاً ويقال: معناه: من كان غرضه وقصده وعزمه الدنيا وحطامها وزهرتها عجلنا له فيها أي للمزيد في الدنيا ما نشاء لمن نريد يعني لمن نريد أن نعطيه بإرادتنا لا بإرادته ومن كان قصده وعزمه الآخرة فنعطي له ما نريد من الآخرة.

٢٠

قوله تعالى { كلا نمد هؤلاء } أي كلا الفريقين من المؤمنين والكافرين نعطي هؤلاء من أهل الطاعة { وهؤلاء } من أهل المعصية { من عطاء ربك } أي من رزق ربك وقال الحسن { كلا نمد } أي نعطي من الدنيا البر والفاجر { وما كان عطاء ربك محظورا } أي محبوسا عن البر والفاجر في الدنيا

٢١

{أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الدنيا بالمال { وللآخرة أكبر درجات } يقول ولفضائل الآخرة أرفع درجات مما فضلوا في الدنيا { وأكبر تفضيلا } أي وأرفع في الثواب وقال الضحاك { وللآخرة أكبر درجات } في الجنة فالأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا وقال مقاتل معناه فضل المؤمنين في الآخرة على الكفار أكبر من فضل الكفار على المؤمنين في المال في الدنيا وقال بعض الحكماء إذا أردت هذه الدرجات وهذا التفضيل فاستعمل هذه الخصال التي ذكر في هذه الآيات إلى قوله { عند ربك مكروها }

وروي عن ابن عباس أنه قال هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى حيث كتب اللّه له فيها أنزلها اللّه تعالى على نبيه محمد عليه السلام وهي كلها في التوحيد وهي في الكتب كلها موجودة لم تنسخ قط وهو

٢٢

 قوله تعالى { لا تجعل مع اللّه إلها آخر فتقعد مذموما } أي ويذمك الناس بفعلك { مخذولا } ويخذلك الذي تعبده فتبقى في النار يذمك اللّه ويذمك الناس وتذم نفسك { مخذولا } أي يخذلك معبودك ولا ينصرك

٢٣

قوله عز وجل { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } أي أمر ربك أن ألا تطيعوا أحدا إلا إياه يعني إلا اللّه تعالى فلا تطيعوا أحدا في المعصية وتطيعوا اللّه في الطاعة ويقال لا توحدوا إلا اللّه { وبالوالدين إحسانا } أي أمر بالإحسان إلى الوالدين برا بهما وعطفا عليهما { إما يبلغن عندك الكبر } قرأ حمزة والكسائي { إما يبلغان } بلفظ التثنية لأنه سبق ذكر الوالدين

وقرأ الباقون { يبلغن } بلفظ الوحدان لأنه انصرف إلى قوله { أحدهما } يعني إن يبلغ الكبر { أحدهما أو كلاهما } يعني إن بلغ أحد الأبوين عندك الهرم أو كلا الأبوين { فلا تقل لهما أف } أي لا تقذرهما ولا تقل لهما { أف } قولا رديئا عند خروج الغائط منهما إذا إحتاجا إلى معالجتهما عند ذلك

قال الفقيه حدثنا أبو عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا أصرم عن عيسى بن عبد اللّه الأشعري عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو علم اللّه شيئا من العقوق أعظم من أف لحرمه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار وقال مجاهد إذا كبرا فلا تأف لهما لأنهما قد رأيا منك مثل ذلك وقال القتبي { لا تقل لهما أف } بكسر وبفتح وبضم وهو ما غلظ من الكلام يعني لا تستثقل شيئا من كلامها ولا تغلظ لهما القول قرأ إبن كثير وإبن عامر { أف } بنصب الفاء وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص { أف } بكسر الفاء مع التنوين وقرأ الباقون { أف } بكسر الفاء بغير تنوين ومعنى ذلك كله واحد { ولا تنهرهما } يقول لا تغلظ عليهما القول { وقل لهما قولا كريما } أي لينا حسنا

٢٤

قوله { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } أي كن ذليلا رحيما عليهما

وروى هشام عن عروة عن أبيه في قوله { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } قال يكون لهما ذليلا ولا يمتنع من شيء أحباه وقال عطاء جناحك يداك لا ينبغي أن ترفع يديك على والديك ولا ينبغي لك أن تحد بصرك إليهما تغيظا

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إذا دعاك أبواك وأنت في الصلاة فأجب أمك ولا تجب أباك وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال لو كان جريج الراهب فقيها لعلم أن أجابة أمه أفضل من صلاته

قال الفقيه أبو الليث رضي اللّه عنه لأن في ذلك الوقت كان الكلام الذي يحتاج إليه مباحا في الصلاة وكذلك في أول شريعتنا ثم نسخ الكلام في الصلاة فلا يجوز أن يجيبها إلا إذا علم أنه وقع لها أمر مهم فيجوز له أن يقطع ثم يستقبل

ثم قال تعالى { وقل رب إرحمهما } أي عند معالجتك في الكبر إياهما ويقال رب إجعل رحمتهما في قلبي حتى أربيهما في كبرهما { كما ربياني صغيرا } أي كما عالجاني في صغري ويقال معناه أدع لهما بالرحمة بعد موتهما أي كن بارا بهما في حياتهما وادع لهما بعد موتهما

٢٥

ثم قال تعالى { ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين } أي بارين فإن لم تكونوا بارين فارجعوا إلى اللّه وتوبوا إليه { فإنه كان للأوابين غفورا } أي للراجعين من الذنوب إلى طاعة اللّه تعالى وقال مجاهد الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلوة ويستغفر منها وقال سعيد بن جبير الأواب الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب وقال الحسن الأواب الذي يقبل إلى اللّه بقلبه وعمله وقال السدي الأواب المحسن وقال القتبي الأواب التائب مرة بعد مرة من قولك آب يؤوب ويقال الأواب الذي يصلي بين المغرب والعشاء

٢٦

قوله تعالى { وآت ذا القربى حقه } أي صلته { والمسكين } أي أعط السائلين { وابن السبيل } أي الضيف النازل وحقه ثلاثة أيام { ولا تبذر تبذيرا } أي لا تنفق مالك في غير طاعة اللّه تعالى

وروي عن عثمان بن الأسود أنه قال سمعت مجاهدا ونحن نطوف بالبيت ورفع رأسه إلى أبي قبيس وقال لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة اللّه تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في طاعة الشيطان كان مسرفا

وروى الأعمش عن الحكم عن أبي عبيدة وكان ضريرا وكان عبد اللّه بن مسعود يدنيه فجاءه يوما فقال من نسأل إن لم نسألك فقال سل فقال فما الأواه قال الرحيم قال فما التبذير قال إنفاق المال في غير حقه قال فما الماعون قال ما يعاره الناس فيما بينهم قال فما الأمة قال الذي يعلم الناس الخير

٢٧

ثم قال تعالى { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } أي المنفقين أموالهم في غير طاعة اللّه تعالى كانوا أعوان الشياطين { وكان الشيطان لربه كفورا } أي كافرا

٢٨

قوله عز وجل { وأما تعرضن عنهم } أي عن قرابتك في الرحم وغيرهم ممن يسألك حياء منهم ورحمة لهم { إبتغاء رحمة من ربك ترجوها } أي إنتظار رزق من ربك أن يأتيك أو قدوم مال غائب عنك ترجو حضوره { فقل لهم قولا ميسورا } أي هينا لينا وعدهم عدة حسنة وقال مقاتل نزلت الآية في خباب بن الأرت وبلال وعمار ونحوهم من أصحاب الصفة كانوا يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم فلا يجد شيئا يعطيهم فيعرض عنهم فنزلت الآية وقال السدي معناه لا تعرض عنهم إبتغاء أن تصيب مالا { فقل لهم قولا ميسورا } أي قل لهم نعم وكرامة ليس عندنا اليوم شيء فإن أتانا شيء نعرف حقكم وقال محمد بن الحنفية كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقول لشيء لا فإذا سئل وأراد أن يفعل يقول نعم وإذا لم يرد أن يفعل سكت فكان قد علم ذلك منه

٢٩

قوله { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } يقول لا تمسك يدك في النفقة من البخل بمنزلة المغلولة يده إلى عنقه { ولا تبسطها كل البسط } في الإسراف فتعطي جميع ما عندك فيجيء الآخرون ويسألونك فلا تجد ما تعطيهم وهذا قول ابن عباس وقال قتادة لا تمسكها عن طاعة اللّه وعن حقه { ولا تبسطها كل البسط } يقول لا تنفقها في المعصية وفيما لا يصلح وقال مقاتل في قوله { لا تبسطها كل البسط } في العطية فلا يبقى عندك شيء وإذا سئلت لم تجد ما تعطيهم وقال بعض الحكماء كان النبي صلى اللّه عليه وسلم لأمته كالوالد ولا ينبغي للوالد أن يعطي جميع ماله لبعض ولده ويترك الآخرين فنهاه اللّه تعالى أن يعطي جميع ماله لمسكين واحد وأمره أن يقسم بالسوية كي لا ييأسوا منه

ثم قال تعالى { فتقعد ملوما محسورا } يعني لو أعطيت جميع مالك فتبقى { ملوما } يلومك الناس وتلوم نفسك { محسورا } منقطعا عن المال لا مال لك والمحسور في اللغة المنقطع

وروي في الخبر أن إمرأة بعثت إبنها إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت له قل له إن أمي تستكسيك درعا فإن قال لك حتى يأتينا شيء فقل له إنها إذن تستكسيك قميصك فأتاه فقال له إن أمي تستكسيك درعا فقال له حتى يأتينا شيء فقال إنها تستكسيك قميصك قال فنزع قميصه ودفعه إليه ولم يبق له قميص يخرج به إلى الصلاة فنزلت هذه الآية { ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } أي تبقى عريانا لا تقدر أن تخرج إلى الصلاة بغير قميص

قال الفقيه إذا أردت أن تعرف أن البخل قبيح فانظر إلى هذه الآية وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أعطى قميصه حتى عجز عن الخروج إلى الصلاة عاتبه اللّه تعالى على ذلك فبدأ بالنهي عن الإمساك فقال { ولا تجعل يدك مغلولة } فنهاه أولا عن البخل ثم نهاه عن دفع الكل وهو التبذير

٣٠

ثم قال تعالى { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع الرزق على من يشاء من كان صلاحه في ذلك { ويقدر } أي يضيق على من يشاء في الرزق وقال الحسن { إن ربك يبسط الرزق لم يشاء ويقدر } لمن يشاء { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } من البسط والتقتير يعلم صلاح كل واحد من خلقه

٣١

قوله عز وجل { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } أي مخافة الفقر { نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا } أي ذنبا عظيما ويقال ظلما عظيما

وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أي الذنب أعظم قال أن تجعل للّه ندا وهو خلقك قال يا رسول اللّه ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قرأ ابن عامر { خطأ كبيرا } بنصب الخاء وجزم الطاء وقرأ إبن كثير { خطاء } بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الألف وقرأ الباقون بكسر الخاء بغير مد أي إثما كبيرا ويقال خطىء يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثما ومن قرأ بالنصب معناه إن قتلهم كان غير صواب يقال أخطأ يخطىء خطأ وخطاء وقرأ بعضهم بنصب الخاء والطاء وهي قراءة شاذة

٣٢

ثم قال { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } أي معصية { وساء سبيلا } أي بئس المسلك وروى عبد الرحمن بن يزيد عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال لا أحد أغير من اللّه وبذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من اللّه تعالى ولذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من اللّه تعالى ولذلك بعث الرسل وأنزل الكتب

٣٣

ثم قال تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق } يعني إلا بإحدى ثلاث مواضع إذا قتل أحدا فيقتص به أو زنى وهو محصن فيرجم أو يرتد فيقتل { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي سبيلا وحجة عليه إن شاء قتله وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية يعني إذا إصطلحا وقال مجاهد كل سلطان في القرآن فهو حجة وكل ظن في القرآن فهو يقين { فلا يسرف في القتل } بالتاء على معنى المخاطبة أي لا تقتل غير القاتل حمية ولا تقتل بعد ما عفا أو أخذ الدية { إنه كان منصورا } أي معانا من اللّه تعالى في كتابه جعل الأمر إليه في القود قرأ حمزة والكسائي { فلا تسرف } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء

٣٤

ثم قال عز وجل { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أي إلا على وجه التجارة لينمو مال اليتيم بالأرباح أو ينمو على وجه المضاربة { حتى يبلغ أشده } يعني حتى { يبلغ }ويتم خلقه وقال القتبي أشد الرجل غير أشد اليتيم وإن كان لفظهما واحدا لأن قوله تعالى { حتى إذا بلغ أشده } [ الأحقاق : ٢٥ ] إنما هو الإكتهال وذلك ثلاثون سنة وأشد الغلام أن يشتد خلقه وذلك ثمان عشرة سنة وقال مقاتل هذه الآية منسوخة بقوله { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : ٢٢٠ ]

٣٥

ثم قال { وأوفوا بالعهد } يعني العهد الذي بينكم وبين اللّه تعالى والعهد الذي بينكم وبين الناس { إن العهد كان مسؤولا } يعني إن ناقض العهد يسأل عنه يوم القيامة

ثم قال عز وجل { وأوفوا الكيل إذا كلتم } لغيركم { وزنوا بالقسطاس المستقيم } أي بالميزان العدل بلغة الروم قرأ حمزة والكسائي { بالقسطاس } بكسر القاف والباقون بالضم وهما لغتان يعني الميزان ويقال هو القبان { ذلك خير } أي الوفاء بجميع ما أمركم اللّه به ونهاكم عنه خير من البخس والنقصان { وأحسن تأويلا } أي عاقبة ومرجعا في الآخرة

٣٦

وقال { ولا تقف ما ليس لك به علم } يقول لا تقل ما لم تعلم فتقول علمت ولم تعلم ورأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع أي كأنك تقفو الأمور يقال قفوت أثره والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها

ثم حذرهم فقال { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } أي يسأل العبد عن أعضائه يوم القيامة فيشهدن عليه ويقال معناه صاحب السمع والبصر والفؤاد يسأل يوم القيامة عن السمع والبصر والفؤاد ويقال معنى قوله { ولا تقف ما ليس لك به علم } أي لا تقل ما لم تعلم ولا تسمع اللغو ولا تنظر إلى الحرام ولا تحكم على الظن { كل أولئك كان عنه مسؤولا } يعني عن الكلام باللسان والتسمع بالسمع والتبصر بالبصر على وجه الإضمار وهو من جوامع الكلم

٣٧

ثم قال { ولا تمش في الأرض مرحا } يعني بالتكبر والفخر { إنك لن تخرق } يعني لن تدخل { الأرض } ولن تجاوزها { ولن تبلغ الجبال طولا } يريد أنه ليس للعاجز أن يمدح نفسه ويستكبر

٣٨

{ كل ذلك } أي كل ما أمرتك به ونهيتك عنه { كان سيئه عند ربك } أي ترك ذلك سيئة ومعصية عند اللّه { مكروها } أي منكرا قرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع { سيئة } بنصب الهاء مع التنوين يعني خطيئة ومعناه ما ذكر في هذه الآية تركه كان معصية وسيئة وقرأ الباقون { سيئه } بضم الهاء على معنى الإضافة قال أبو عبيدة وبهذه القراءة نقرأ وحجته قراءة أبي كان يقرأ سيئاته على معنى الإضافة

٣٩

قوله عز وجل { ذلك مما أوحى إليك ربك } يعني مما بين اللّه تعالى وأمر ونهى وكان ذلك مكتوبا في اللوح وأوحى إليك ربك { من الحكمة } أي بيان الحلال والحرام { ولا تجعل } أي لا تقل { مع اللّه إلها آخر } فالخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به أمته { فتلقى } أي تطرح { في جهنم ملوما } أي يلومك الناس { مدحورا } أي مقصيا من كل خير وقال القتبي { مدحورا } أي مبعدا يقال في الدعاء اللّهم إدحر عني الشيطان أي أبعده عني

٤٠

قوله عز وجل { أفأصفاكم ربكم بالبنين } أي أفاختاركم بالبنين { واتخذ } لنفسه { من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما } في العقوبة ويقال قولا منكرا قبيحا

٤١

قال تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن } أي من كل وجه { ليذكروا } أي ليتعظوا بالقرآن ويقال في القرآن من كل شيء يحتاج إليه الناس ويقال بينا في هذا القرآن من كل وعد ووعيد { ليذكروا } أي ليتعظوا بما في القرآن فينتهوا عن عبادة الأوثان { وما يزيدهم } أي الوعيد في القرآن { إلا نفورا } أي تباعدا عن الإيمان قرأ حمزة والكسائي { ليذكروا } بالتخفيف يعني ليذكروا ما فيه وقرأ الباقون بالتشديد لأن أصله ليتذكروا فأدغم التاء في الذال وشدد

٤٢

قوله عز وجل { قل لو كان معه آلهة } قال ابن عباس قل لأهل مكة { لو كان معه آلهة } { كما يقولون } من الأوثان { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } أي طريقا وكانوا كهيئته وقال قتادة أي يعرفوا فضل ذي العرش ومرتبته عليهم ويقال إبتغوا طريقا للوصول إليه وقال مقاتل لطلبوا سبيلا ليقهروه كفعل الملوك بعضهم بعضا

٤٣

ثم نزه نفسه عن الشريك فقال تعالى { سبحانه } أي تنزيها له { وتعالى عما يقولون } أي عما يقول الظالمون أن معه شريكا { علوا كبيرا } أي بعيدا عما يقول الكفار

٤٤

وقوله { تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن } من الخلق { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي ما من شيء إلا يسبح له بأمره وبعلمه { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } وقال الكلبي كل شيء ينبت يسبح من الشجر وغير ذلك فإذا قطع منه صار ما قطع منه ميتا لا يسبح

وروي عن الحسن أنه قيل له أيسبح هذا الخوان قال كان يسبح في شجره فأما الآن فلا ويقال إذا قطع الشجر فإنه يسبح ما دام رطبا بدليل ما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان في القبر ومما يعذبان بكبيرة

فأما أحدهما كان يمشي بالنميمة

وأما الآخر فكان لا يستنزه عن البول ثم أخذ جريدتين من شجر وغرس إحداهما في قبر والأخرى في قبر الآخر فقال لعلهما لا يعذبان ما دامتا رطبتين قال الحكماء الحكمة في ذلك أنهما ما دامتا رطبتين تسبحان اللّه تعالى ويقال معناه ما من شيء إلا يسبح بحمده ويقال معناه { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } يدل على وحدانية اللّه تعالى ويسبحه فإن اللّه خالقه { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } يعني أثر صنعه فيهم هذا بعيد وهو خلاف أقاويل المفسرين { إنه كان حليما } حيث لم يجعل العقوبة لمن إتخذ معه آلهة { غفورا } لمن تاب منهم

٤٥

قوله عز وجل { وإذا قرأت القرآن } يعني إذا أخذت في قراءة القرآن { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا }

قال بعضهم الحجاب المستور هو أن يمنعهم عن الوصول إليه كما روي أن إمرأة أبي لهب جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان عنده أبو بكر فدخلت فقالت لأبي بكر هجاني صاحبك قال أبو بكر واللّه هو ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت فقال أبو بكر أما رأتك يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يزل بيني وبينها ملك يسترني عنها حتى رجعت

وقال قتادة الحجاب المستور هو الأكنة

٤٦

وقال مقاتل الحجاب المستور هو قوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة } أي جعلنا أعمالهم على قلوبهم أغطية حتى لا يرغبوا في الحق ويقال { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة } يعني الجن والشياطين { حجابا مستورا } فلا يصلون إليك

وقال الكلبي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا القرآن ستره اللّه وحجبه عن المشركين بثلاث آيات إذا قرأهن حجب عنهم إحداهن في سورة الكهف { وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الكهف : ٥٧ ] والآية الثانية في النحل { أولئك الذين طبع اللّه على قلوبهم } [ النحل : ١٠٨ ] والثالثة في حم الجاثية { أفرءيت من إتخذ إلهه هواه } [ ال جاثية : ٢٣ ] الآية

قوله تعالى { وفي آذانهم وقرأ } أي صمما وثقلا لا يسمعون الحق قرأ إبن كثير { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } [ الإسراء : ٤٢ ] كلها بالتاء على معنى المخاطبة والآخرون بالياء وقرأ أبو عمرو الأوسط بالياء واختلفوا عن عاصم في رواية حفص الآخر خاصة بالتاء

وروى أبو بكر مثل إبن عامر

وقال تعالى { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } يعني وحدانيته قول لا إله إلا اللّه { ولوا على أدبارهم نفورا } أي أعرضوا تباعدا عن الإيمان

وقال القتبي ولوا على أعقابهم هربا وهو مثل ما قال مقاتل ولوا على أعقابهم وذلك حين قال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم قولوا لا إله إلا اللّه تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فنفروا من ذلك

٤٧

ثم قال { نحن أعلم بما يستمعون به } يعني بالقرآن { إذ يستمعون إليك } أي إلى قراءتك القرآن { وإذ هم نجوى } يعني يتناجون فيما بينهم { إذ يقول الظالمون } أي المشركون للمؤمنين { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } أي ما تطيعون إلا رجلا مغلوب العقل وذكر القتبي عن مجاهد أنه قال { مسحورا } أي مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة كقوله { فأنى تسحرون } [ المؤمنون : ٨٩ ] أي من أيه تخدعون وذكر عن أبي عبيدة قال السحر الرئة يقال للرجل إنتفخ سحرك إذا جبن يعني إن تتبعون إلا رجلا ذا رئة أي بشرا مثلكم

٤٨

ثم قال { أنظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي وصفوا لك الأشباه حيث قالوا ساحر أو مجنون { فضلوا } أي أخطؤوا في المقالة وتحيروا { فلا يستطيعون سبيلا } أي لا يجدون مخرجا مما قالوا لتناقض كلامهم لأنهم قالوا مرة ساحر والساحر عندهم المبالغ في العلم ومرة قالوا مجنون والمجنون عندهم من هو في غاية الجهل قال إبن السائب وذلك أن أبا سفيان بن حرب وحويطب بن عبد العزى وأبا جهل بن هشام وأبا لهب وامرأته جميلة أخت أبي سفيان والنضر بن الحارث وغيرهم كانوا يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويستمعون إلى حديثه فقال النضر ذات يوم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحدث أصحابه ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان فقال أبو جهل هو مجنون وقال أبو لهب بل هو كاهن وقال حويطب بل هو شاعر فنزل { وإذا قرأت القرآن } إلى قوله { قل عسى أن يكون قريبا }

٤٩

وقوله { وقالوا أئذا كنا عظاما } أي صرنا عظاما { ورفاتا } أي ترابا { أئنا لمبعوثون } أي لمحيون في الآخرة { خلقا جديدا } والإختلاف في قوله { أئنا } في القرآن مثل ما ذكرنا في الرعد

٥٠

قال اللّه تعالى { قل كونوا حجارة أو حديدا } اللفظ لفظ الأمر ومعناه معنى الخبر يعني لو كنتم من الحجارة أو من الحديد { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } قال مجاهد معناه حجارة أو حديدا أو ما شئتم فكونوا فسيعيدكم اللّه الذي فطركم أول مرة كما كنتم

٥١

ويقال { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } يعني السماء والأرض والجبال وقال الكلبي معناه لو كنتم الموت لأماتكم اللّه وعن الحسن وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } يعني الموت فيبعثكم كما خلقكم أول مرة قالوا لو كنا من الحجارة أو من حديد أو من الموت فمن يعيدنا وهو قوله تعالى { فسيقولون من يعيدنا قل } يا محمد فسيعيدكم اللّه { الذي فطركم } أي خلقكم { أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم } يهزون إليك رؤوسهم تعجبا من قولك وقال القتبي يعني يحركونها إستهزاء بقولك وقال الزجاج أي سيحركون رؤوسهم تحريك من يستثقله ويستبطئه {ويقولون متى هو } يعنون البعث { قل عسى أن يكون قريبا } وكل ما هو آت فهو قريب و { عسى } من اللّه واجب قالوا يا محمد فمتى هذا القريب

٥٢

فنزل { يوم يدعوكم } يعني إسرافيل وهي النفخة الأخيرة { فتستجيبون بحمده } يقول تخرجون من قبوركم بأمره وتقصدون نحو الداعي وقال مقاتل يوم يدعوكم من قبوركم فتستجيبون للداعي بأمره وذلك أن إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو أهل القبور في قرن أيتها العظام البالية واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة أخرجوا من قبوركم فيخرجون من قبورهم

ثم قال { وتظنون إن لبثتم } في القبور { إلا قليلا } أي ما لبثتم في القبور إلا يسيرا قال الكلبي وذلك أنه يرفع عنهم العذاب ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة فينسون العذاب فيظنون أنهم لم يلبثوا في قبورهم إلا يسيرا

وروي ذلك عن ابن عباس وهذا أصح ما قيل فيه لأن بعض المبتدعين قالوا إذا وضع الميت في قبره لا يكون عليه العذاب إلى وقت البعث فيظنون أنهم مكثوا في القبر قليلا

٥٣

قوله عز وجل { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } قال ابن عباس كان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يؤذيهم المشركون بمكة بالقول فشكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل { وقل لعبادي } أي المسلمين { يقولوا التي هي أحسن } أي يجيبوا بجواب حسن برد السلام بلا فحش وهذا كقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } [ الفرقان : ٦٣ ] ويقال نزلت الآية في شأن أبي بكر سبه رجل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر اللّه بالكف عنه ويقال نزلت في شأن عمر كان بينه وبين كافر كلام

ثم قال تعالى { إن الشيطان ينزع بينهم } أي يوسوس ويوقع بينهم العداء لعنه اللّه ليفسد أمرهم { إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } أي ظاهر العداوة وهذا كقوله { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [ فاطر : ٦ ]

٥٤

ثم قال عز وجل { ربكم أعلم بكم } أي أعلم بأحوالكم وما أنتم فيه من أذى المشركين { إن يشأ يرحمكم } فينجيكم من أهل مكة إذا صبرتم على ذلك { أو إن يشأ يعذبكم } فيسلطهم عليكم إذا جزعتم ولم تصبروا { وما أرسلناك عليهم وكيلا } يعني مسلطا وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ويقال { وما أرسلناك عليهم وكيلا } أي ليست المشيئة إليك في الهدى والضلالة

٥٥

وقال { وربك أعلم بمن في السموات والأرض } أي ربك عالم بأهل السموات وأهل الأرض وهو أعلم بصلاح كل واحد منهم

قوله عز وجل { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } منهم من فضل اللّه بالكلام وهو موسى ومنهم من إتخذه خليلا وهو إبراهيم عليه السلام ومنهم من رفعه مكانا عليا وهو إدريس ومنهم من إصطفاه وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم { وآتينا داود زبورا } أي كتابا قال مقاتل الزبور مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا فريضة إنما ثناء على اللّه عز وجل قرأ حمزة { زبورا } بضم الزاي وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان ومعناهما واحد

٥٦

قوله { قل أدعوا الذين زعمتم من دونه } قال ابن عباس إن ناسا من خزاعة كانوا يعبدون الجن وهم يرون أنهم هم الملائكة فقال اللّه تعالى { قل أدعوا الذين زعمتم من دونه } أي تعبدون من دون اللّه { فلا يملكون } لا يقدرون { كشف الضر عنكم } يقول صرف السوء عنكم من الأمراض والبلاء إذا نزل بكم { ولا تحويلا } يقول ولا تحويله إلى غيره ما هو أهون منه ويقال ولا يحولونه إلى غيرهم { أولئك } يعني الملائكة { الذين يدعون } أي يعبدونهم ويدعونهم آلهة قرأ إبن مسعود { تدعون } بالتاء على معنى المخاطبة { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } يقول يطلبون إلى ربهم القربة والفضيلة والكرامة بالأعمال الصالحة { أيهم أقرب } أكرم على اللّه تعالى وأقرب في الفضيلة والكرامة { ويرجون رحمته } أي جنته { ويخافون عذابه } أي ناره { إن عذاب ربك كان محذورا } يعني لم يكن لأحد أمان من عذاب اللّه تعالى ويقال { محذورا } يعني ينبغي أن يحذر منه

وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم

٥٧

فأنزل اللّه { أولئك الذين يدعون } أي الجن { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } وروى السدي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال { أولئك الذين يدعون } عيسى وعزيرا والملائكة وما عبد من دون اللّه وهو للّه مطيع

٥٨

قوله عز وجل { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } قال ابن عباس يعني نميت أهلها { أو معذبوها عذابا شديدا } يعني بالسيف والزلازل والأمراض والخوف والغرق والحرق { كان ذلك في الكتاب مسطورا } أي في الذكر الذي عند اللّه وقال مجاهد { مهلكوها } أي مبيدوها أو معذبوها بالقتل والبلاء ما كان من قرية في الأرض إلا سيصيبها بعض ذلك

روى حماد بن سلمة عن أبي العلاء عن مكحول أنه قال أول أرض تصير خرابا أرض أرمينية وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال أول أرض تصير خرابا أرض الشام

وروى إبن سيرين عن إبن عمر أنه قال البصرة أسرع الأرضين خرابا وأخبثهم ترابا عن علي بن أبي طالب أنه قال أكثروا الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة حمش الساقين يهدمها حجرا حجرا

٥٩

ثم قال تعالى { وما منعنا أن نرسل بالآيات } وذلك أن قريشا طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيهم بآية فنزل { وما منعنا } أي ليس أحد يمنعنا أن نرسل الآيات عندما سألوها { إلا أن كذب بها الأولون } يعني تكذيب الأولين حين أتتهم الآيات فلم يؤمنوا فأتاهم العذاب

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو العباس بن السراج قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سأل أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل الصفا لهم ذهبا وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعونها فقيل له إن شئت أن تستأني بهم لعلنا نتخير منهم وإن شئت أن نريهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما هلك من كان قبلهم فقال بل أستأني بهم فنزل { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون }

ثم قال { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } أي معاينة يبصرونها ويقال علامة لنبوته { فظلموا بها } أي جحدوا بها فعقروها فعذبوا فقال اللّه تعالى { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } لهم ليؤمنوا فإن أبوا أتاهم العذاب

٦٠

قوله عز وجل { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } قال الكلبي أحاط علمه بالناس ويقال هم في قبضته أي قادر عليهم وقال قتادة يعني يمنعك من الناس حتى تبلغ رسالات اللّه وقال السدي معناه إن ربك مظهرك على الناس

قال عز وجل { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد الدبيلي قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال في قوله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى اللّه عليه وسلم ليلة أسري به { والشجرة الملعونة في القرآن } أي ذكر الشجرة الملعونة في القرآن فتنة لهم يعني بلية لهم وذلك أن المشركين قالوا يخبرنا هذا أن في النار شجرة والنار تأكل الشجرة فصار ذلك فتنة لهم يعني بلية لهم

ويقال لما نزل { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } قالوا هي التمر والزبد فرجع أبو جهل إلى منزله فقال لجاريته زقمينا وأمرها أن تأتي بالتمر والزبد فخرج به إلى الناس وقال كلوا فإن محمدا يخوفكم بهذا فصار ذكر الشجرة فتنة لهم ثم يخوفهم بذكر شجرة الزقوم فذلك قوله { ونخوفهم } { فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا } يعني تماديا في المعصية قال الكلبي قوله { والشجرة } قال هي شجرة الزقوم

ثم قال هي ليلة أسري به صلى اللّه عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس فنشر له الأنبياء كلهم فصلى بهم ثم صلى الغداة بمكة فكذبوه فذلك قوله { فتنة للناس } حين كذبه أهل مكة وقال عكرمة أما إنها رؤيا عين يقظة ليست برؤيا منام وقال سعيد بن المسيب أري النبي صلى اللّه عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنما هي دنيا يعطونها فقرت عينه فنزل { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة لنا } يعني بني أمية

٦١

ثم قال تعالى { وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا } فتعظم عن السجود لآدم

٦٢

وقال { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } الآية وفيها مضمر معناه فلعنه اللّه فقال إبليس أرأيتك هذا الذي لعنتني لأجله وفضلته علي { لئن أخرتن إلى يوم القيامة } يعني لئن أجلتني إلى يوم البعث قرأ إبن كثير وأبو عمرو ونافع { لئن أخرتني } بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسرة تقوم مقامه ثم قال { لأحتنكن ذريته } أي لأستزلن ذريته يقول أطلب زلتهم وقال القتبي { لأحتنكن } أي لأستأصلن يقال إحتنك الجراد ما على الأرض إذا أكله كله ويقال هو من حنك الدابة يحنكها حنكا إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به أي لأقودنهم حيث شئت { إلا قليلا } يعني الأنبياء والمخلصين للّه ويقال إلا من عصمته مني

٦٣

قوله عز وجل { قال إذهب فمن تبعك } أي من أطاعك { منهم فإن جهنم جزاؤكم } يعني نصيبكم من العذاب في النار { جزاء موفورا } أي نصيبا { موفورا } أي وافرا لا يفتر عنهم

٦٤

ثم قال { واستفزز } يقول إستزل { من استطعت منهم بصوتك } يقول بدعائك ووسوستك ويقال بأصوات الغناء والمزامير { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } يعني إستعن عليهم بأعوانك من مردة الشياطين الذين يوسوسون للناس ويقال خيل المشركين ورجالهم وكل خيل تسعى في معصية اللّه تعالى فهي من خيل إبليس قرأ عاصم في رواية حفص { ورجلك } بنصب الراء وكسر الجيم فدل الواحد على الجنس وقرأ الباقون بجزم الجيم وهو جمع الراجل

{ وشاركهم في الأموال } أي ما أكل من الأموال بغير طاعة اللّه تعالى وهو ما جمع من الحرام ويقال { وشاركهم في الأموال } وهو ما جعلوا من الحرث والأنعام نصيبا لآلهتهم ويقال كل طعام لم يذكر إسم اللّه عليه فللشيطان فيه شركة

قال الفقيه رضي اللّه عنه حدثنا الفقيه أبو جعفر قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا سفيان بن يحيى قال حدثنا أبو مطيع عن الربيع بن زيد عن أبي محمد وهو رجل من أصحاب أنس قال قال إبليس لربه يا رب جعلت لبني آدم بيوتا فما بيتي قال الحمام قال وجعلت لهم مجلسا فما مجلسي قال السوق قال وجعلت لهم قرآنا فما قرآني قال الشعر قال وجعلت لهم حديثا فما حديثي قال الكذب قال وجعلت لهم أذانا فما أذاني قال المزامير قال وجعلت لهم رسلا فما رسلي قال الكهنة قال وجعلت لهم كتابا فما كتابي قال الوشم قال وجعلت لهم طعاما فما طعامي قال ما لم يذكر إسم اللّه عليه قال وجعلت لهم شرابا فما شرابي قال كل مسكر قال وجعلت لهم مصايد فما مصايدي قال النساء

ثم قال { وشاركهم في الأموال } أي كل نفقة في معصية اللّه تعالى { والأولاد } أي أولاد الزنى فهذا قول مجاهد وسعيد بن جبير ويقال هو ما سموا أولادهم عبد العزى وعبد الحارث ويقال كل معصية بسبب الولد ويقال إذا جامع الرجل أهله ولم يذكر إسم اللّه فيه جامع معه الشيطان ويقال المرأة النائحة والسكرانة يجامعها الشيطان فيكون له شركة في الولد قال الفقيه أبو الليث هذا الكلام مجاز لا على وجه الحقيقة إنما يراد به المثل

ثم قال { وعدهم } أي منهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } أي باطلا

٦٥

قوله تعالى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } أي حجة ويقال نفاذ الأمر { وكفى بربك وكيلا } أي كفيلا على ما قال ويقال حفيظا لهم وقال أبو العالية قوله { إن عبادي } الذين لا يطيعونك

ثم ذكر الدلائل والنعم ليطيعوه ولا يطيعوا الشيطان

٦٦

ثم قال { ربكم الذي يزجي لكم الفلك } أي يسير لكم الفلك { في البحر لتبتغوا من فضله } أي من رزقه { إنه كان بكم رحيما } يعني إن ربكم رحيم بكم

٦٧

ثم قال { وإذا مسكم الضر في البحر } يقول إذا أصابكم الخوف وأهوال البحر { ضل من تدعون إلا إياه } أي بطل من تدعون من الآلهة وتخلصون بالدعاء للّه تعالى { فلما نجاكم إلى البر } يعني من أهوال البحر { أعرضتم } أي تركتم الدعاء والتضرع ورجعتم إلى عبادة الأوثان { وكان الإنسان كفورا } أي كافرا { كفورا } بأنعم اللّه

٦٨

قوله تعالى { أفأمنتم } يعني إن عصيتموه { أن يخسف بكم } أي يغور بكم { جانب البر } إلى الأرض السفلى وقال مقاتل يعني ناحية من البر { أو يرسل عليكم حاصبا } أي حجارة من فوقكم كما أرسل على قوم لوط { ثم لا تجدوا لكم وكيلا } أي مانعا يمنعكم

٦٩

قوله تعالى { أم أمنتم أن يعيدكم فيه } أي البحر { تارة أخرى } يعني مرة أخرى { فيرسل عليكم قاصفا من الريح } أي ريحا شديدا { فيغرقكم بما كفرتم } باللّه وبنعمه { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } أي من يتبعنا ويطالبنا بدمائكم كقوله { فإتباع بالمعروف } [ البقرة : ١٧٨ ] أي مطالبة حسنة ويقال يعني ثائرا ولا ناصرا ينتقم لكم مني قرأ إبن كثير وأبو عمرو { أن نخسف بكم } { أو نرسل } { أن نعيدكم فنرسل عليكم فنغرقكم } هذه الخمسة كلها بالنون وقرأ الباقون كلها بالياء

٧٠

ثم قال تعالى { ولقد كرمنا بني آدم } بعقولهم وقال الضحاك { كرمنا بني آدم } بالعقل والتمييز ويقال إن اللّه تعالى خلق نبات الأرض والأشجار وجعل فيها الروح لأنه ينمو ويزداد بنفسه ما دام فيه الروح فإذا يبس خرج منه الروح وانقطع نماؤه وزيادته وخلق الدواب وجعل لهن زيادة روح تطلب بها رزقها وتسمع منه الصوت وخلق بني آدم وجعل لهم زيادة روح يعقلون بها ويميزون ويعلمون وخلق الأنبياء وجعل لهم زيادة روح يبصرون بها الملائكة ويأخذون بها الوحي ويعرفون أمر الآخرة

ثم قال { وحملناهم في البر والبحر } أي { حملناهم في البر } على الرطوبة أي على ظهر الدواب وفي البحر على اليبوسة وهي السفن { ورزقناهم من الطيبات } أي الحلال ويقال من نبات الحبوب والفواكه والعسل وجعل رزق البهائم التبن والشوك { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } يعني على الجن والشياطين والبهائم

وروي عن ابن عباس أنه قال فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبريل وميكاييل وإسرافيل وأشباههم منهم

وروي عن أبي هريرة أنه قال المؤمن أكرم على اللّه من الملائكة الذين عنده

٧١

قوله عز وجل { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } أي بكتابهم ويقال بداعيهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى يدعى إمامهم قبلهم وقال أبو العالية { بإمامهم } أي بأعمالهم وقال مجاهد بنبيهم وقال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم { فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم } أي يقرؤون حسناتهم ويعطون ثواب حسناتهم { ولا يظلمون فتيلا } يعني لا يمنعون من ثواب أعمالهم مقدار الفتيل وهو ما فتلته من الوسخ بين أصبعيك

٧٢

ثم قال اللّه تعالى { ومن كان في هذه أعمى } أي من كان في هذه النعم أعمى يعني لم يعلم أنها من اللّه { فهو في الآخرة أعمى } عن حجته { وأضل سبيلا } يعني أضل عن حجته قال مجاهد { من كان في هذه الدنيا أعمى } عن الحجة فهو في الآخرة أعمى عن الحجة { وأضل سبيلا } أي أخطأ طريقا وقال قتادة { من كان في هذه الدنيا أعمى } عما عاين من نعم اللّه وخلقه ومن عجائب اللّه فهو في الآخرة التي هي غائبة عنه ولم يرها أعمى

وقال مقاتل فيه تقديم ومعناه { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } ومن كان عن هذه النعم أعمى فهو عما غاب عنه من أمر الآخرة أعمى وقال الزجاج معناه إذا عمي في الدنيا وقد تبين له الهدى وجعل إليه التوبة وضله عن رشده فهو في الآخرة لا يجد متابا ولا مخلصا مما هو فيه فهو أشد عمى وأضل سبيلا أي أضل طريقا لأنه لا يجد طريقا إلى الهداية فقد حصل على عمله وذكر عن الفراء أنه قال تأويله من كان في هذه النعم التي ذكرتها أعمى لا يعرف فضلها ولا يشكر عليها وهي محسوسة { فهو في الآخرة أعمى } يعني أشد شكا في الذي هو غائب عنه في الآخرة من الثواب والعقاب

٧٣

ثم قال تعالى { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } أي وقد كادوا ليصرفونك عن الذي أوحينا إليك إن قدروا على ذلك وذلك أن ثقيفا أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا نحن أخوالك وأصهارك وجيرانك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماذا تريدون قالوا نريد أن نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال فقال صلى اللّه عليه وسلم وما هن قالوا لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا بالأصنام سنة أي بطاعة الأصنام سنة فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أما قولكم لا ننحني في الصلاة فإنه لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود قالوا فإنا نفعل ذلك وإن كان فيه دناءة وأما قولكم إنا لا نكسر أصنامنا بأيدينا فإنا سنأمر بكسرها قالوا فتمتعنا باللات فقال فإني غير ممتعكم بها سنة قالوا يا رسول اللّه فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكره أن يقول لا مخافة أن يأبوا الإسلام فنزل { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره }

وقال السدي إن قريشا قالت للنبي صلى اللّه عليه وسلم إنك ترفض آلهتنا كل الرفض فلو أنك تأتيها فتمسها أو تبعث بعض ولدك

فيمسها كان أرق لقلوبنا وأحرى أن نتبعك فأراد أن يبعث ابنه الطاهر فيمسح فنهاه اللّه تعالى عن ذلك ونزل { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك }

وروى أبو معشر عن أصحابه منهم القرظي قال لما قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة النجم فبلغ { أفرءيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : ٢٠ ] جرى على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى فلما بلغ السجدة سجد فسجد معه المشركون ثم جاء جبريل فقال ما جئتك بهذا فنزل { وإن كادوا ليفتنونك } إلى قوله { وإذا لاتخذوك خليلا } فلم يزل النبي صلى اللّه عليه وسلم مغموما حتى نزل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله { ألقى الشيطان في أمنيته } الآية

وروى سعيد بن جبير عن قتادة قال ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه وكان في قولهم أن قالوا يا محمد إنك تأتي بشيء لم يأت به أحد من الناس وأنت سيدنا وإبن سيدنا فما زالوا يكلمونه حتى كاد أن يقاربهم ولا أن اللّه تعالى منعه وعصمه عن ذلك فقال تعالى { ولولا أن ثبتناك } [ الإسراء : ٧٤ ] الآية وذلك قوله { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } في القرآن { لتفتري علينا غيره } يعني لتقول وتفعل غير الذي أمرتك في القرآن { وإذا لاتخذوك خليلا } أي صفيا وصديقا ويقال إن المشركين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم أطرد عن مجلسك سقاط الناس ومواليهم حتى نجلس معك فهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل ذلك فنزل { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } من تقريب المسلمين { وإذا لاتخذوك خليلا } لو فعلت ما طلبوا منك

٧٤

ثم قال { ولولا أن ثبتناك } يقول عصمناك ويقال حفظناك { لقد كدت تركن إليهم } أي هممت أن تميل إليهم { شيئا قليلا } وتعطي أمنيتهم شيئا قليلا

٧٥

 { إذا لأذقناك ضعف الحياة } أي عذاب الدنيا { وضعف الممات } أي عذاب الآخرة وهذا قول ابن عباس وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال { ضعف الحياة } عذابها أي عذاب الدنيا { وضعف الممات } أي عذاب الآخرة وهذا مثل الأول ويقال { ضعف الممات } أي عذاب القبر ويقال هذا وعيد للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي لو فعلت ذلك يضاعف لك العذاب على عذاب غيرك كما قال تعالى { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [ الأحزاب : ٣٠ ] لأن درجة النبي صلى اللّه عليه وسلم ودرجة من وصفهم فوق درجة غيرهم فجعل لهم العذاب أشد

وروي عن مالك بن دينار أنه قال سألت أبا الشعثاء عن قوله { ضعف الحياة وضعف الممات } فقال ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة

ثم قال { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } يقول مانعا يمنعك من ذلك

٧٦

ويقال مانعا يمنع منك العذاب { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } أي ليستزلونك وليخرجونك من أرض مكة { وإذا لا يلبثون خلافك } أي بعدك { إلا قليلا } فيهلكهم اللّه تعالى

وروى عبد الرزاق عن معمر قال قد فعلوا ذلك فأهلكهم اللّه تعالى يوم بدر ولم يلبثوا بعده إلا قليلا وقال مقاتل { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } يعني من أرض المدينة نزلت الآية في حيي بن أخطب وغيره من اليهود حين دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة حسدوه وقالوا إنك لتعلم أن هذه ليست من أرض الأنبياء إنما أرض الأنبياء الشام فإن كنت نبيا فاخرج منها فخرج فنزل { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها } أي من أرض المدينة إلى الشام { وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } وأمر بالرجوع إلى المدينة

٧٧

ثم قال تعالى { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } أي هكذا سنتي فيمن قد مضى أن أهلك من عصوا الرسول ولم يتبعوه ولا أهلكهم ونبيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبهم { ولا تجد لسنتنا تحويلا } يعني تغييرا أو تبديلا قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر وعاصم في رواية حفص { لا يلبثون خلافك } وقرأ الباقون { خلفك } ومعناهما قريب أي بعدك

٧٨

ثم قال عز وجل { أقم الصلاة لدلوك الشمس } أي بعد زوالها الظهر والعصر { إلى غسق الليل } أي إلى دخول الليل وهو المغرب والعشاء

وروى سالم عن إبن عمر أنه قال دلوكها زيغها بعد نصف النهار وقال قتادة دلوكها زيغها عن كبد السماء

وروى إبن طاوس عن أبيه أنه قال دلوكها غروبها

وروى معمر عن الشعبي عن ابن عباس أنه قال { لدلوك الشمس } حين تزول الشمس

وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال دلوكها غروبها وكذا قال إبن مسعود وقال القتبي إلى غسق الليل والغسق ظلامه

ثم قال { وقرآن الفجر } أي صلاة الغداة وإنما سميت صلاة الغداة قرآنا لأن القراءة فيها أكثر وأطول ويقال لأنه يقرأ في كلتا الركعتين وفي كلتا الركعتين القراءة فريضة { إن قرآن الفجر كان مشهودا } أي صلاة الغداة مشهودة يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار

ويقال { كان } أي صار يعني صار مشهودا لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الغداة فينزل ملائكة النهار والقوم في صلاة الغداة قبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل فيقولون ربنا إنا تركنا عبادك وهم يصلون ويقول الآخرون ربنا أدركنا عبادك وهم يصلون { وقرآن الفجر } صار نصبا لأن معناه أقم قرآن الفجر ويقال صار نصبا على وجه الإغراء أي عليك بقرآن الفجر

٧٩

ثم قال تعالى { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } يعني قم بالليل بعد النوم والتهجد القيام بعد النوم روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أنه قال كانت النافلة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة وقال مجاهد لم تكن النافلة إلا للنبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقال { نافلة لك } أي فضلا لك ويقال خاصة لك { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال مقاتل يعني إن الشفاعة لأصحاب الأعراف يحمده الخلق كلهم ويقال إخراج قوم من النار

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي قال حدثنا الحسن بن الحسين عن عطية العوفي قال حدثنا أبو حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال يخرج اللّه أقواما من النار من أهل الإيمان بشفاعة محمد صلى اللّه عليه وسلم فذلك المقام المحمود فيؤتى بهم نهرا يقال له الحيوان فيلقون فيه فينبتون كما ينبت التقارير ثم يخرجون فيدخلون الجنة فيسمون فيها الجهنميون ثم يطلبون إلى اللّه تعالى أن يذهب عنهم هذا الإسم فيذهب به عنهم

وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال يجتمع الأولون والآخرون يوم القيامة في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم المنادي فيقول يا محمد فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك وهو المقام المحمود ويغبطه به الأولون والآخرون

٨٠

ثم قال تعالى { وقل رب أدخلني مدخل صدق } أي قال هذا حين أمره اللّه بالرجوع إلى المدينة أي أدخلني في المدينة إدخال صدق { وأخرجني مخرج صدق } يعني من المدينة إلى مكة إخراج صدق ويقال { أدخلني } في الدين { مدخل صدق } أي ثبتني على الدين { وأخرجني } أي احفظني من الكفر ويقال أخرجني من الدنيا إخراج صدق وأدخلني في الجنة ويقال أدخلني بعز وشرف وإظهار الإسلام ويقال أدخلني في القبر مدخل صدق وأخرجني من القبر مخرج صدق وقال مجاهد أدخلني في النبوة والرسالة مدخل صدق الجنة وقال السدي أدخلني المدينة وأخرجني من مكة وعن أبي صالح أدخلني في الإسلام وارفعني في الإسلام { واجعل لي من لدنك } أي من عندك { سلطانا نصيرا } أي ملكا مانعا لا زوال فيه ولا يرد قولي ويقال حجة ثابتة ظاهرة

٨١

قوله عز وجل { وقل جاء الحق } ظهر الإسلام والقرآن { وزهق الباطل } يقول وهلك الشرك وأهله { إن الباطل كان زهوقا } يعني إن الشرك كان هالكا لم يكن له قرار ولا دوام

روي عن عبد اللّه بن الشخير عن عبد اللّه بن مسعود قال دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ الإسراء : ٨١ ] { جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } وذكر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول ذلك والصنم ينكب لوجهه

٨٢

ثم قال تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } أي بيان من العمى ويقال شفاء للبدن إذا قرىء على المريض يبرأ أو يهون عليه { ورحمة للمؤمنين } أي ونعمة من العذاب لمن آمن بالقرآن { ولا يزيد الظالمين } أي المشركين ما نزل من القرآن { إلا خسارا } أي تخسيرا وغبنا

٨٣

قوله عز وجل { وإذا أنعمنا على الإنسان } أي إذا وسعنا على الكافر الرزق ورفعنا عنه العذاب في الدنيا { أعرض } عن الدعاء ويقال النعمة هي إرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم أعرض عنه الكافر { ونأى بجانبه } يعني تباعد عن الإيمان فلم يقربه قرأ إبن عامر { وناء } بمد الألف على وزن باع وقرأ أبو عمرو بنصب النون وكسر الألف وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون والألف وقرأ الباقون بنصب النون { وإذا مسه الشر كان يؤوسا } يعني إذا أصابه الفقر في معيشته والسقم في الجسم كان آيسا من رحمة اللّه

٨٤

ثم قال تعالى { قل كل يعمل على شاكلته } قال القتبي أي على خليقته وطبيعته وهو من الشكل وقال الحسن { على شاكلته } أي على نيته وكذلك قال معاوية بن قرة وقال الكلبي على ناحيته ومنهاجه وحديثه وأمره الذي هو عليه { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } أي بمن هو أصوب دينا ويقال هو عالم بمن هو على الحق

٨٥

قوله عز وجل { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي لا علم لي فيه وقال مجاهد الروح خلق من خلق اللّه تعالى له أيد وأرجل وقال مقاتل الروح ملك عظيم على صورة الإنسان أعظم من كل مخلوق

وروى معمر عن قتادة والحسن أنهما قالا هو جبريل وقال قتادة كان ابن عباس يكتمه أي يجعله من المكتوم الذي لا يفسر

وروى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن إبن مسعود قال كنت أمشي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم سلوه عن الروح

وقال بعضهم لا تسألوه فقالوا يا محمد ما الروح فقام متوكئا على عسيب فظننت أنه يوحى إليه فقال { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } فقال بعضهم لبعض قد قلنا لكم لا تسألوه

ويقال الروح القرآن كقوله { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } [ الشورى : ٧ ]

وروي بعض الرواة عن ابن عباس قال الروح ملك له مائة ألف جناح كل جناح لو فتحه يأخذ ما بين المشرق والمغرب ويقال إن جميع الملائكة تكون صفا واحدا والروح وحده يكون صفا واحدا كقوله { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } [ النبأ : ٣٨ ] ويقال معناه { يسألونك عن الروح } الذي هو في الجسد كيف هو قل { الروح من أمر ربي } ويقال الروح جبريل كقوله { نزل به الروح الأمين } [ الشعراء : ١٩٣ ] أي يسألونك عن إتيان جبريل كيف نزوله عليك { قل الروح من أمر ربي } { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } أي ما أعطيتم من العلم مما عند اللّه إلا قليلا

٨٦

ثم قال تعالى { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } من القرآن من قلبك ويقال { لئن شئنا } لمحوناه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه

٨٧

 ويقال ثم لا تجد لك مانعا يمنعني من ذلك { إلا رحمة من ربك } يعني لكن اللّه رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين

وروى أبو حازم عن أبي هريرة أنه قال سيؤتى على كتاب اللّه فيرفع إلى السماء فلا تصبح على الأرض من آية من القرآن وينزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو

وروي عن ابن مسعود أنه قال يصبح الناس كالبهائم ثم قرأ { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } الآية

٨٨

ثم قال { إن فضله كان عليك كبيرا } أي بالنبوة والإسلام

قوله عز وجل { قل لئن إجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } أي بمثل هذا القرآن على نظمه وإيجازه ونسقه مع كثير مما ضمن فيه من الأحكام والحدود وفنونها ويقال مثل هذا القرآن من تعريه عن التناقض مع كثرة الأقاصيص والأخبار ويقال { على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } لأن فيه علم ما كان وعلم ما يكون ولا يعرف ذلك إلا بالوحي ويقال { بمثل هذا القرآن } لأنه كلام منثور لا على وجه الشعر لأن تحت كل كلمة معاني كثيرة { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا

٨٩

قال تعالى { ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل } أي بينا للناس منه من كل لون من الحلال والحرام والأحكام والحدود والوعد والوعيد { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } أي ثباتا على الكفر ويقال أبوا عن الشكر { إلا كفورا } أي كفرانا مكان الشكر ويقال لم يقبلوه

٩٠

قوله عز وجل { وقالوا لن نؤمن لك } أي لن نصدقك وهو عبد اللّه بن أمية المخزومي وأصحابه قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم { لن نؤمن لك } { حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } أي عيونا قرأ أهل الكوفة عاصم وحمزة والكسائي { تفجر } بنصب التاء وجزم الفاء وضم الجيم مع التخفيف وقرأ الباقون { تفجر } بضم التاء ونصب الفاء مع التشديد وقال أبو عبيدة هذا أحب إلي لأنهم إتفقوا في الذي بعده ولا فرق بينهما في اللغة فمن قرأ بالتشديد فللتكثير والمبالغة كما يقال قتلوا تقتيلا للمبالغة

٩١

ثم قال { أو تكون لك جنة } أي بستان { من نخيل وعنب } أي الكروم { فتفجر الأنهار } أي تشقق الأنهار { خلالها } وسطها { تفجيرا } أي تشقيقا { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } أي قطعا قرأ إبن عامر وعاصم ونافع { كسفا } بنصب السين وقرأ الباقون بالجزم ومعناهما واحد أي تسقط علينا طبقا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته ومن قرأ بالنصب جعلها جمع كسفة وهي القطعة

٩٢

{ أو تأتي باللّه والملائكة قبيلا } أي ضمينا وكفيلا والقبيل الكفيل ويقال من المقابلة أي معاينا شهيدا يشهدون لك بأنك نبي اللّه

٩٣

 { أو يكون لك بيت من زخرف } أي من ذهب { أو ترقى في السماء } أي تصعد إلى السماء { ولن نؤمن لرقيك } أي لصعودك { حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه }

روى أسباط عن السدي أنه قال لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة جاءه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللّه بن أمية المخزومي أخو أم سلمة فأبى أن يبايعهما فقالت أم سلمة ما بال أخي يكون أشقى الناس بك يا رسول اللّه وابن عمك فقال أما إبن عمي فإنه كان يهجونا وأما أخوك فإنه زعم أنه لا يؤمن بي حتى أرقى السماء ولو رقيت إلى السماء لن يؤمن حتى آتيه بكتاب يقرؤه ثم دعاهما فقبل منهما وبايعهما

قال اللّه تعالى { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } فإني لا أقدر على ما تسألوني قرأ إبن كثير وإبن عامر { قال سبحان } على وجه الحكاية وقرأ الباقون { قل سبحان } على وجه الأمر

٩٤

قال تعالى { وما منع الناس أن يؤمنوا } يعني أهل مكة { إذ جاءهم الهدى } يعني القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم { إلا أن قالوا أبعث اللّه بشرا رسولا } يعني الرسول من الآدميين ومعناه أنه ليست لهم حجة سوى ذلك القول

٩٥

قال اللّه تعالى { قل } يا محمد { لو كان في الأرض ملائكة يمشون } أي لو كان سكان الأرض ملائكة يمشون { مطمئنين } أي مقيمين في الأرض { لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } أي لبعثنا عليهم رسولا من الملائكة وإنما يبعث الملك إلى الملائكة والبشر إلى البشر فلما قال لهم ذلك قالوا له من يشهد لك بأنك رسول اللّه

٩٦

 قال اللّه تعالى { قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم } بأني رسول اللّه { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا }

٩٧

ثم قال تعالى { ومن يهد اللّه فهو المهتدي } أي من يكرمه اللّه تعالى بالإسلام ويوفقه فهو على الهدى والصواب قرأ نافع وأبو عمرو { المهتدي } بالياء عند الوصل وقرأ الباقون بغير ياء { ومن يضلل } أي يخذله عن دينه { فلن تجد لهم أولياء من دونه } أي يهدونهم من الضلالة { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } أي نبعثهم يوم القيامة ونسوقهم منكبين على وجوههم يسحبون عليها { عميا وبكما وصما } عن الهدى ويقال في ذلك الوقت يكونون عميا وبكما وصما كما وصفهم { مأواهم جهنم } أي مصيرهم إلى جهنم { كلما خبت زدناهم سعيرا } يقول كلما سكن لهبها ولم تجد شيئا تأكله { زدناهم سعيرا } أي وقودا وأعيدوا خلقا جديدا قال مقاتل أن النار إذا أكلتهم فلم تبق منهم غير عظام وصاروا فحما سكنت النار فهو الخبو يقال أخبت النار إذا سكن اللّهب وإذا بقي في جمرها شيء ويقال خمدت وانطفأت ثم بدلوا جلودا غيرها فتشتعل وتسعر عليهم

فذلك قوله تعالى { زدناهم سعيرا }

وقال أهل اللغة وإذا لم يبق من جمرها شيء يقال همدت

٩٨

ثم قال تعالى { ذلك جزاؤهم } أي ذلك العذاب عقوبتهم وجزاء أعمالهم { بأنهم كفروا بآياتنا } أي بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن { وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا } أي ترابا { أئنا لمبعوثون خلقا جديدا } بعد الموت

٩٩

قال اللّه تعالى { أو لم يروا } يعني أو لم يخبروا في القرآن { أن اللّه الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم } يعني يحييهم بعد الموت { وجعل لهم أجلا لا ريب فيه } يقول لا شك فيه عند المؤمنين أنه كائن { فأبى الظالمون إلا كفورا } أي أبى المشركون عن الإيمان ولم يقبلوا إلا الكفر

١٠٠

ثم قال تعالى { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } يقول لو تقدرون على مفاتيح رزق ربي { إذا لأمسكتم } يقول لبخلتم وامتنعتم عن الصدقة { خشية الإنفاق } أي مخافة الفقر { وكان الإنسان قتورا } أي ممسكا بخيلا قال الزجاج هذا جواب لقولهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } [ الإسراء : ٩٠ ] وقال بعضهم هذا إبتداء وصف بخلهم

١٠١

قوله تعالى { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } أي علامات واضحات مضيئات بالحجة عليهم وهاديات إذ جاءهم موسى بالبينات

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس في قوله { تسع آيات بينات } وهي في سورة الأعراف { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات } [ الأعراف : ١٣٠ ] قال السنين لأهل البوادي والنقص من الثمرات لأهل القرى فهاتان آيتان والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وهذه خمس ويد موسى إذ أخرجها بيضاء من غير سوء وعصاه إذ ألقاها فإذا هي ثعبان مبين

قال الفقيه حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو موسى محمد بن إسحاق وخزيمة قالا حدثنا علي بن حزم قال حدثنا علي بن يونس عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد اللّه بن سلمة عن صفوان بن عسال قال قال يهودي لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله عن هذه الآيات { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } فقال لا تقل فإنه لو سمعها صارت له أربعة أعين فأتوه فسألوه فقال ألا تشركوا باللّه شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسح روا ولا تقذفوا محصنا أو قال ولا تفروا يوم الزحف شك شعبة ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله وعليكم خاصة يا معشر اليهود ألا تعدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي اللّه ورسوله فقال وما يمنعكما أن تسلما فقالا لأن داو د دعا ربه ألا يزال في ذريته نبي فنخاف أن تقتلنا اليهود

ثم قال تعالى { فاسأل بني إسرائيل } يعني موسى { إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } أي مغلوب العقل

١٠٢

 { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء } الآيات قرأ الكسائي { علمت } بضم التاء يعني علمت أنا ما أنزل هؤلاء الآيات { إلا رب السموات والأرض } يعني إن لم تصدقني فأنا على يقين من ذلك وقرأ الباقون بالنصب يعني إنك تعلم ذلك كما قال في آية أخرى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : ١٤ ] { بصائر } أي علامات لنبوتي { وإني لأظنك } أي لأعلمنك { يا فرعون مثبورا } أي ملعونا هالكا قال الحسن { مثبورا } أي مهلكا وكذا قال قتادة وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال { مثبورا } ملعونا وكذا روي عن الكلبي والضحاك

١٠٣

وقال { فأراد أن يستفزهم من الأرض } أي يستنزلهم ويخرجهم ويقال أي يستخفهم من الأرض يعني من أرض الأردن وفلسطين ومصر { فأغرقناه ومن معه جميعا}

١٠٤

 {وقلنا من بعده لبني إسرائيل } الذين مع موسى { أسكنوا الأرض } أي أنزلوا أرض الأردن وفلسطين ومصر { فإذا جاء وعد الآخرة } أي البعث بعد الموت { جئنا بكم لفيفا } أي جميعا واللفيف الجماعة من كل قبيلة

١٠٥

قوله عز وجل { وبالحق أنزلناه } أي أنزلنا عليك جبريل بالقرآن { وبالحق نزل } أي بالقرآن نزل جبريل ويقال أنزلناه بالحق والحكمة والحجة

ثم قال { وما أرسلناك إلا مبشرا } بالجنة للمؤمنين { ونذيرا } بالنار للكافرين

١٠٦

وقال تعالى { وقرآنا فرقناه } حين أنزلنا به جبريل متفرقا آية بعد آية وسورة بعد سورة { لتقرأه على الناس على مكث } أي على ترسل ومهل ليفهموه ويحفظوه وكان ابن عباس يقرأ { فرقناه } بالتشديد أي بينا فيه الحلال والحرام ويقال أنزلناه متفرقا { ونزلناه تنزيلا } أي بيناه بيانا

١٠٧

قوله تعالى { قل آمنوا به } أي صدقوا بالقرآن { أو لا تؤمنوا } يعني أو لا تصدقوا ومعناه إن صدقتم به أو لم تصدقوا فإنه غني عن إيمانكم وتصديقكم { إن الذين أوتوا العلم من قبله } يعني أعطوا علم كتابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب من قبله أي من قبل القرآن { إذا يتلى عليهم } أي يعرض عليهم القرآن عرفوه { يخرون للأذقان } أي يقعون على الوجه { سجدا ويقولون سبحان ربنا } أي تنزيها لربنا وقال الكلبي أي نصلي لربنا { إن كان وعد ربنا لمفعولا } وقد كان وعد ربنا { لمفعولا } أي كائنا مقدورا

وقال تعالى { ويخرون للأذقان } أي يقعون على الوجوه { يبكون ويزيدهم خشوعا } أي تواضعا ومذلة { قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن } قال الكلبي كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدىء ما نزل من القرآن وقد كان أسلم ناس من اليهود منهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه وكان ذكره في التوراة كثيرا فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فنزل { قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن } قرأ حمزة والكسائي { قل أدعوا اللّه أو أدعوا الرحمن } بكسر اللام والواو وقرأ أبو عمرو بكسر اللام وضم الواو وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد { أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } يعني بأي الإسمين تدعون فهو حسن { فله الأسماء الحسنى } أي له الصفات العلى

١٠٩

قوله عز وجل { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بمكة وكان يصلي بأصحابه فإذا رفع صوته أذاه المشركون وإذا خفض لا يسمع صوته الذين خلفه

١١٠

فأنزل اللّه تعا { ولا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيؤذيك المشركون { ولا تخافت بها } في جميع الصلوات يعني لا تسر قراءتك فلا يسمع أصحابك قراءتك لى{ وابتغ بين ذلك سبيلا } أي اجهر في بعض الصلوات وخافت في البعض

١١١

ثم قال { وقل الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا } قال الكلبي وذلك أنه لما نزل { قل أدعوا اللّه أو ادعوا الرحمن } قالت كفار قريش كان محمد يدعو إلها واحدا وهو اليوم يدعو إلهين ما نعرف الرحمن إلا مسليمة الكذاب فنزل { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } يعني ذكر الرحمن وأمره بأن يقول { الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } أي لم يتخذ ولدا فيرث ملكه { ولم يكن له شريك في الملك } فيعارضه في عظمته وقال أبو العالية معناه وقل الحمد للّه الذي لم يجعلني ممن يتخذ له ولدا ولم يجعلني ممن يقول له شريك في الملك { ولم يكن له ولي من الذل } أي من اليهود والنصارى وهم أذل خليقة اللّه تعالى يؤدون الجزية وقال مقاتل معناه لم يذل فيحتاج إلى ولي يعينه أي لم يكن له ولي ينتصر به من الذل { وكبره تكبيرا } أي عظمه تعظيما ولا تقل له شريك

وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه أنه قال بلغني أن رجلا أتى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني رجل كثير الدين كثير الهم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم إقرأ آخر سورة بني إسرائيل { قل أدعوا اللّه أو ادعوا الرحمن } حتى تختمها ثم قل توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات

﴿ ٠