سورة مريممكية وهي تسعون وثمان آيات ١قوله سبحانه وتعالى { كهيعص } قرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص بنصب الهاء والياء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكسر الهاء والياء وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء ونصب الياء وقرأ حمزة وإبن عامر بنصب الهاء وكسر الياء وقرأ نافع بين الكسر والفتح وهو إختيار أبي عبيدة ومعنى هذا كله واحد قال ابن عباس رضي اللّه عنه في تفسير قوله { كهيعص } قال الكاف فاللّه كاف لخلقه والهاء فاللّه الهادي لخلقه وأما الياء فيد اللّه مبسوطة على خلقه بالرزق لهم والعطف عليهم وأما العين فاللّه تعالى عالم بخلقه وأمورهم وأما الصاد فاللّه تعالى صادق بوعده وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال هو اسم اللّه الأعظم وروي عنه أنه قال هو قسم أقسم اللّه تعالى بكهيعص ويقال هي حروف تدل على إبتداء السور نحو { الر } و { المر } وغيرهما ٢ثم قال { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } معناه على طريق ابن عباس باسم اللّه الكافي الهادي العالم الصادق { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } بالرحمة ومن قال إنه قسم فمعناه ورب كهيعص إنه ذكر عبده زكريا بالرحمة ومن قال هو إبتداء السورة فمعناه إقرأ { كهيعص } ثم قال { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } ومعناه ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة لأن ذكره بالرحمة لا يكون إلا باللّه تعالى ففي الآية تقديم وتأخير يقول ذكر ربك عبده زكريا بالرحمة وهو زكريا بن ماثان ٣{ إذ نادى ربه نداء خفيا } يقول دعا ربه نداء خفيا يقول أخفاه وأسره من قومه ويقال دعا ربه دعاء سرا لأنه علم أن دعاء السر أنفع وأسرع إجابة ويقال دعا ربه نداء خفيا يعني خالصا ٤{قال رب إني وهن العظم مني } أي ضعف عظمي { واشتعل الرأس شيبا } يعني أخذ في الرأس شيبا وبياضا { شيبا } صار نصبا بالتمييز والمعنى إشتعل الرأس من الشيب يقال للشيب إذا كثر جدا قد أشتعل رأس فلان بالشيب ثم قال { ولم أكن بدعائك رب شقيا } يعني لم تكن تخيب دعائي عندك إذا دعوتك ٥ثم قال { وإني خفت الموالي من ورائي } يعني خشيت ويقال يعني الورثة ويقال بنو العم ويقال العصبة من ورائي يعني من بعد موتي خاف أن يرثه غير الولد وروي عن قتادة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يرحم اللّه تعالى زكريا وما كان عليه من ورثة وروي عن سعيد بن العاص أنه قال أملى علي عثمان رضي اللّه عنه { وإني خفت الموالي } بنصب الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء ويقال يعني ذهبت الموالي وقال أبو عبيدة لولا خلاف الناس لاتبعنا عثمان فيها ثم قال { وكانت إمرأتي عاقرا } يعني عقيما لم تلد { فهب لي من لدنك وليا } يعني ولدا { يرثني ويرث من آل يعقوب } وقال عكرمة يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة وهكذا قال الضحاك وقال بعضهم { يرثني } يعني علمي وسنتي لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالا وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وروى أبو الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن الأنبياء لم يورثوا دراهم ولا دنانير وإنما ورثوا هذا العلم ويقال لأنه رأى من الفتن وغلبة أهل الكفر فيخاف على إفساد مواليه إن لم يكن أحد يقوم مقامه ويخولهم بالموعظة ٦قرأ أبو عمرو والكسائي { يرثني ويرث } بجزم كلا الثاءين على معنى جواب الأمر أي أنك إذا وهبت لي وليا يرثني وقرأ الباقون { يرثني ويرث } بالضم وقال أبو عبيدة وهذا أحب إلي قال معناه هب لي الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء قد يكون منهم الوراثة وغيرهم فيقول هب لي الذي يكون ورائي وارث النبوة ثم قال { واجعله رب رضيا } يعني صالحا زكيا ٧قوله تعالى { يا زكريا إنا نبشرك بغلام إسمه يحيى } يعني أوحى اللّه تعالى وأرسل إليه جبريل وأن جبريل عليه السلام أدى إليه الرسالة من اللّه عز وجل قال اللّه تعالى { إنا نبشرك } وقد بين ذلك في سورة آل عمران { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن اللّه يبشرك بيحيى } [ آل عمران : ٣٩ ] ثم قال هنا { بغلام إسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا } يعني لم نجعل لزكريا من قبل يحيى ولدا يسمى يحيى ويقال لم يكن قبله أحد يسمى بذلك الإسم ويقال لم يكن بذلك الإسم في زمانه أحد وإنما سمي يحيى لأنه حي بالعلم والحكمة التي أوتيها ويقال لأنه حي به المجالس ويقال لأنه حيي به عقر أمه ويقال { لم نجعل له من قبل سميا } أي نظيرا ومثالا قرأ حمزة { نبشرك } بنصب النون وجزم الباء وضم الشين بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وضم النون ونصب الباء وكسر الشين نبشرك ٨فقال زكريا عند ذلك لجبريل عليه السلام { قال رب } يقول يا سيدي { أنى يكون لي غلام } يعني من أين يكون لي ولد ويقال إنما قال ذلك على وجه الدعاء للّه تعالى فقال يا رب من أين يكون لي ولد { وكانت إمرأتي عاقرا } من الولد { وقد بلغت من الكبر عتيا } يقول تحول العظم مني يابسا ومنه يقال قلب عات إذا كان قاسي القلب غير لين ويقال لكل شيء إنتهى فقد عتى ولم يكن زكريا شاكا في بشارة اللّه عز وجل ولكن أحب أن يعلم من أي وجه يكون قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص والكسائي { عتيا } بكسر العين وكذلك { صليا } و { جثيا } { وبكيا } إلا أن عاصما خالفهما في { بكيا } وقرأ الباقون كلها بالضم وكان أبو عبيدة إختار الضم لأنه أفصح اللغتين وهي قراءة أبي رضي اللّه عنه ٩{قال } جبريل لزكريا { كذلك } يعني هكذا كما قلت إنك { قد بلغت من الكبر عتيا قال ربك هو على هين } يعني كما قلت أنك قد بلغت من الكبر عتيا ولكن اللّه عز وجل { قال هو علي هين } يعني خلقه علي يسير { وقد خلقتك من قبل } يعني من قبل يحيى { ولم تك شيئا } قرأ حمزة والكسائي { وقد خلقناك } بالنون مقدمة والألف مؤخرة وقرأ الباقون { خلقتك } وهو إختيار أبي عبيدة ١٠قال زكريا عليه السلام { رب إجعل لي آية } في الولد روى أسباط عن السدي قال لما بشر زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عليه اللعنة فقال إن هذاء النداء الذي نوديت ليس من اللّه عز وجل وإنما هو من الشيطان ليسخر بك ولو كان من اللّه عز وجل لأوحاه إليك كما كان يوحي إليك ف { قال } عند ذلك { رب إجعل لي آية } أعلم بها أن هذا النداء منك { قال } اللّه تعالى له { آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } أي علامتك أن لا تستطيع أن تكلم الناس ثلاث ليال وأنت صحيح سليم من غير خرس ولا مرض ورجع تلك الليلة إلى إمرأته فقربها ووضع الولد في رحمها فلما أصبح إعتقل لسانه عن كلام الناس ١١{ فخرج على قومه من المحراب } يعني من المسجد { فأوحى إليهم } يعني أشار وأومأ إليهم ويقال كتب كتابا وألقاه على الأرض ولم يقدر أن يتكلم به { أن سبحوا } يعني صلوا للّه تعالى { بكرة وعشيا } يعني غدوة وعشيا فعرف عند ذلك أنه آية الولد ١٢قوله عز وجل { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } يعني أوحى اللّه تعالى إليه أن { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } يعني بجد ومواظبة { وآتيناه الحكم صبيا } يعني أجرينا الحكم على لسانه في حال صغره وذلك أنه مر بصبيان يلعبون فقالوا له تعال حتى نلعب فقال لهم ما للعب خلقنا ويقال { خذ الكتاب بقوة } أي بجد وعون من اللّه تعالى ويقال بكثرة الدرس { آتيناه الحكم صبيا } يعني النبوة والفقه والخير كله في صغره ١٣{ وحنانا من لدنا } يعني آتيناه رحمة من عندنا وأصله من حنين الناقة على ولدها { وزكاة } يعني وصدقة منا ويقال التطهير ويقال صلاحا في دينه وقال سعيد بن جبير الزكاة التزكية { وكان تقيا } يعني مطيعا لربه ١٤{ وبرا بوالديه } يعني مطيعا لهما ولا يعصيهما { ولم يكن جبارا } يعني لم يكن قتالا والجبار الذي يقتل على الغضب ويضرب على الغضب { عصيا } يعني لم يكن عصيا لربه والعصي والعاصي واحد ١٥قوله عز وجل { وسلام عليه } أي السلام من اللّه عز وجل والسعادة تناله { يوم ولد } أي حين ولد { ويوم يموت } يعني حين يموت { ويوم يبعث حيا } أي حين يبعث حيا وروى قتادة عن الحسن أن يحيى عليه السلام قال لعيسى عليه السلام حين إلتقيا أنت خير مني فقال عيسى صلوات اللّه عليه بل أنت خير مني سلم اللّه عليك وأنا سلمت على نفسي وروي عن بعض الصحابة أنه قال ما من الناس أحد إلا وهو يلقى اللّه عز وجل يوم القيامة وهو ذو ذنب إلا يحيى بن زكريا عليهما السلام وروي عن الحسن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ما أذنب يحيى ولا هم بإمرأة ١٦قوله تعالى { واذكر في الكتاب مريم } يعني أذكر في القرآن خبر مريم ومعناه إقرأ عليهم ما أنزل عليك في القرآن من خبر مريم { إذ إنتبذت } يعني إعتزلت وتنحت { من أهلها مكانا شرقيا } يعني مشرقة الشمس في دار أهلها ١٧{ فاتخذت من دونهم حجابا } يعني ضربت وأرخت من دونهم سترا { فأرسلنا إليها روحنا } يعني بعثنا إليها جبريل عليه السلام { فتمثل لها بشرا سويا } يعني تشبه لها في صورة شاب تام الخلقة فدنا منها فأنكرت مريم مكان الرجل و ١٨{ قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } يعني إن كنت مطيعا للّه عز وجل وإنما قالت { إن كنت تقيا } لأن التقي إذا وعظ باللّه عز وجل إتعظ وخاف والفاسق يخوف بالسلطان والمنافق يخوف بالناس فالتقي يخوف باللّه ويقال في الآية مضمر ومعناه إحذر إن كنت تقيا ١٩{ قال } لها جبريل عليه السلام { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } يعني ولدا صالحا قرأ أبو عمرو ونافع في إحدى الروايتين { ليهب لك } بالياء وقرأ الباقون { لأهب لك } بالألف فمن قرأ { ليهب } فمعناه ليهب اللّه تعالى لك ومن قرأ { لأهب لك } يكون فيه مضمر ومعناه إنما أنا رسول ربك فقال { لأهب لك غلاما زكيا } يعني قال ربك وهذا إختيار أبي عبيدة وهو موافق لخط المصاحف ٢٠{قالت } مريم لجبريل عليه السلام { أنى يكون لي غلام } يعني من أين يكون لي ولد { ولم يمسسني بشر } يعني لم يقربني زوج { ولم أك بغيا } يعني لم أك فاجرة ٢١{ قال } لها جبريل عليه السلام { كذلك } يعني هكذا كما قلت { قال ربك هو علي هين } يعني خلقه علي يسير { ولنجعله آية للناس } يعني عبرة للناس يعني لبني إسرائيل { ورحمة منا } يعني ونعمة منا { وكان أمرا مقضيا } يعني قضاء كائنا ٢٢ثم قال عز وجل { فحملته } يعني حملت مريم بعيسى عليه السلام وقال وهب بن منبه إن مريم حملت بعيسى عليه السلام تسعة أشهر وقال بعضهم ثمانية أشهر فتلك آية لأنه لا يعيش مولود في ثمانية أشهر وروي في بعض الروايات عن ابن عباس أنه قال ما هي إلا أن حملت ثم وضعت وقال مقاتل حملت في ساعة ووضعت في ساعة { فانتبذت به مكانا قصيا } يعني إنفردت بولادتها مكانا بعيدا قال القتبي القصي أشد بعدا من القاصي ٢٣ثم قال { فأجاءها المخاض } يعني جاء بها وألجأها المخاض يعني الطلق بولادة عيسى عليه السلام { إلى جذع النخلة } أي أصل النخلة قال ابن عباس النخلة اليابسة في شدة الشتا يعني الطلق { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } يعني شيئا متروكا لم أذكر ويقال للشيء الحقير الذي إذا ألقي ينسى نسي وقال قتادة يعني لا أعرف ولا أدري من أنا وقال عكرمة يعني جيفة ملقاة وهكذا قال الضحاك وقال ربيعة بن أنس يعني سقطا قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص { نسيا } بنصب النون والباقون { نسيا } بكسر النون قال أبو عبيد وبالكسر نقرؤها لأنها كانت أكثر في لغة العرب وأفشاها وعليها أهل الحرمين والبصرة ٢٤ثم قال عز وجل { فناداها من تحتها } قرأ حمزة والكسائي ونافع وعاصم في رواية حفص { من تحتها } بكسر الميم يعني الملك وهكذا قرأ مجاهد والحسن وقرأ الباقون { من تحتها } بالنصب يعني به عيسى عليه السلام وقال أبو عبيد بالأولى نقرأ يعني بالكسر لأن قراءتها أكثر والمعنى فيها أعم لأنه إذا قال { من تحتها } بالكسر فقد أحتمل أن يكون الملك ويكون عيسى وإذا قرأ { من تحتها } فإنما هو عيسى خاصة { ألا تحزني } بولادة عيسى ومكان الحدث { قد جعل ربك تحتك سريا } يعني نهرا صغيرا بحبال ويقال { قد جعل ربك تحتك سريا } أي بيتا فذكر هذا القول عند إبن حميد فأنكره وقال هو الجدول ألا ترى أنه قال { فكلي واشربي } قال مجاهد السري بالسريانية وقال سعيد بن جبير بالنبطية ٢٥ثم قال عز وجل { وهزي إليك بجذع النخلة } يقول حركي أصل النخلة { تساقط عليك رطبا جنيا } يعني غضا طريا قرأ حمزة { تساقط } بنصب التاء وتخفيف السين وأصله تتساقط إلا أنه حذفت منه إحدى التاءين للتخفيف وهذا كقوله { لو تسوى بهم الأرض } [ النساء : ٤٢ ] وأصله تتسوى وكقوله { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } [ البقرة : ٨٥ ] وكقوله { ويوم تشقق السماء بالغمام } [ الفرقان : ٢٥ ] وقرأ عاصم في رواية حفص { تساقط } بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف يعني أن النخلة تساقط عليك وقرأ الباقون بنصب التاء وتشديد السين ونصب القاف لأن التشديد أقيم مقام التاء التي حذفت وروي عن البراء بن عازب أنه كان يقرأ { يساقط } بالياء يعني أن الجذع يساقط عليك وقرأ بعضهم { نساقط } بالنون ومعناه ونحن نساقط عليك وروي أنها كانت نخلة بلا رأس وكان ذلك في الشتاء فجعل اللّه عز وجل لها رأسا وأنبت فيها رطبا فذلك قوله عز وجل { تساقط عليك رطبا } أي غضا طريا ٢٦قيل لها { فكلي } من الرطب { واشربي } من النهر { وقري عينا } يعني طيبي نفسا بولادة عيسى عليه السلام وقال الربيع بن خيثم ما للنفساء عندي دواء إلا الرطب ولا للمريض إلا العسل ثم قال عز وجل { فأما ترين من البشر أحدا } يعني إن رأيت أحدا من الناس { فقولي } إن سألك سائل شيئا فقولي { إني نذرت للرحمن صوما } يعني صمتا وروي عن ابن عباس في بعض الروايات أنه كان يقرأ { إني نذرت للرحمن صمتا } { فلن أكلم اليوم إنسيا } يعني قولي ذلك بالإشارة لا بالقول وكان المتقدمون يصومون من الكلام كما يصومون من الطعام ٢٧ثم قال { فأتت به قومها تحمله } وذلك أن مريم حملت عيسى عليه السلام ودخلت على أهلها وكان أهلها أهل بيت صالحين { قالوا } أي قال لها قومها { يا مريم لقد جئت شيئا فريا } يعني أتيت وفعلت أمرا منكرا عظيما لا يعرف منك ولا من أهل بيتك ٢٨قوله عز وجل { يا أخت هارون } يعني هارون بن ماثان وكان من أمثل بني إسرائيل { يا أخت هارون } يعني يا شبه هارون في الصلاة والصلاح ويقال كان رجل سوء يسمى هارون فعيروها به وشبهوها بهارون ويقال كان لها أخ يقال له هارون من أبيها ولم يكن من أمها وذكر أن أهل الكتاب قالوا كيف تقولون إن مريم أخت هارون وكان بينهما ستمائة سنة فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال إنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين عليهم السلام يعني أن أخا مريم سمي بإسم هارون النبي عليه السلام ثم قال { ما كان أبوك امرأ سوء } يعني زانيا { وما كانت أمك بغيا } يعني فاجرة ٢٩قوله عز وجل { فأشارت إليه } يعني أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه يعني كلموا عيسى { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا } يعني من هو في الحجر رضيع ويقال معناه كيف نكلم من هو يكون في المهد ويقال معناه كيف نكلم من يكون في المهد صبيا فأنطق اللّه عز وجل عيسى فتكلم و ٣٠{ قال إني عبد اللّه } فأول الكلام به الذي تكلم به هو رد على النصارى لأنه أقر بأنه عبد اللّه ورسوله ثم قال { آتاني الكتاب } روي عن ابن عباس أنه قال معناه علمني الكتاب في بطن أمي ويقال معناه يؤتيني الكتاب وهو الإنجيل { وجعلني نبيا } أي أكرمني اللّه تعالى بأن جعلني نبيا ٣١{ وجعلني مباركا } يعني جعلني معلما للخلق { أينما كنت } يعني حيث ما كنت { وأوصاني بالصلاة والزكاة } يعني أوصاني وأمرني بإتمام الصلاة وإعطاء الزكاة ما دمت حيا ٣٢{وبرا بوالدتي } يعني جعلني رحيما بوالدتي { ولم يجعلني جبارا شقيا } يعني لم يخذلني حتى صرت به جبارا عصيا ٣٣{ والسلام علي } يعني السلام علي من اللّه عز وجل { يوم ولدت } يعني حين ولدت { ويوم أموت } يعني حين أموت { ويوم أبعث حيا } يعني أبعث يوم القيامة فكلمهم بهذا ثم سكت فلم يتكلم حتى كان قدر ما يتكلم الغلمان ٣٤ثم قال عز وجل { ذلك عيسى إبن مريم } أي ذلك الذي قال إني عبد اللّه هو عيسى إبن مريم عليه السلام لا كما يقول النصارى إنه إله { قول الحق } يعني خبر الصدق قرأ عاصم وإبن عامر { قول الحق } بنصب اللام وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه أقول قول الحق ومن قرأ بالضم معناه وهو قول الحق { الذي فيه يمترون } يعني يشكون في عيسى عليه السلام ويختلفون فيما بينهم ٣٥ثم كذبهم في قولهم فقال عز وجل { ما كان للّه أن يتخذ من ولد } يعني عيسى ثم نزه نفسه عن الولد فقال { سبحانه } { إذا قضى أمرا } يعني إذا أراد أن يخلق خلقا مثل عيسى { فإنما يقول له كن فيكون } قرأ إبن عامر { فيكون } بنصب النون وقرأ الباقون بالضم وقرأ بعضهم { تمترون } بالتاء على وجه المخاطبة وقراءة العامة بالياء لأنها ليست فيها مخاطبة ٣٦ثم قال { وإن اللّه ربي وربكم } قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { وأن اللّه } بنصب الألف { ربكم } بالنصب على معنى البناء وقرأ الباقون { وإن اللّه } بالكسر على معنى الإبتداء وهي قراءة أبي عبيدة وفي قراءة أبي { إن اللّه } بغير واو فتكون قراءته شاهدة على الكسر ثم قال { فاعبدوه } يعني وحدوه وأطيعوه { هذا صراط مستقيم } يعني هذا الإسلام طريق مستقيم ٣٧{ فاختلف الأحزاب من بينهم } يعني الكفار من أهل النصارى { من بينهم } يعني بينهم في عيسى عليه السلام وتفرقوا ثلاث فرق قالت النسطورية عيسى إبن اللّه واليعقوبية قالوا إن اللّه هو المسيح والملكانية قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة { فويل } يعني شدة من العذاب { للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } يعني من عذاب يوم القيامة بأن عيسى لم يكن اللّه ولا ولده ولا شريكه ويقال ويل صخرة في جهنم ٣٨قال عز وجل { أسمع بهم وأبصر } يعني أعلمهم وأسمعهم وأبصرهم { يوم يأتوننا } يعني يوم القيامة بأن عيسى لم يكن اللّه ولا ولده ولا شريكه { لكن الظالمون } يعني المشركون { اليوم } يعني في الدنيا { في ضلال مبين } يعني في خطأ بين لا يسمعون الهدى ولا يبصرون ولا يرغبون فيه ٣٩{ وأنذرهم يوم الحسرة } يقول خوفهم يا محمد بهول يوم القيامة { إذ قضي الأمر } يعني فرغ من الأمر إذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار وهو يوم الندامة { وهم في غفلة } يعني هم في الدنيا في غفلة عن تلك الندامة والحسرة { وهم لا يؤمنون } يعني لا يصدقون بالبعث قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الزهري عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يؤتى بالموت فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة فيطلعون ويقال يا أهل النار فيطلعون فيقال هل تعرفون هذا فيقولون نعم يا ربنا هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين خلود لا موت فيها أبدا وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه فذلك قوله { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } الآية ٤٠ثم قال { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } يعني نميت أهل الأرض كلهم ومن عليها { وإلينا يرجعون } في الآخرة ٤١قوله تعالى { واذكر في الكتاب إبراهيم } يعني خبر إبراهيم { إنه كان صديقا نبيا } يعني صادقا وقال الزجاج الصديق إسم للمبالغة في الصدق يقال كل من صدق بتوحيد اللّه عز وجل وأنبيائه عليهم السلام وفرائضه وعمل بما صدق فيه فهو صديق ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق ٤٢{ إذ قال لأبيه } وهو آزر بن تارخ بن تاخور وكان يعبد الأصنام { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع } دعاءك { ولا يبصر } عبادتك { ولا يغني عنك } من عذاب اللّه عز وجل { شيئا } قرأ إبن عامر { يا أبت } بالنصب والباقون بالكسر وكذلك ما بعده والعرب تقول في النداء يا أبت ولا تقول يا أبتي ٤٣ثم قال { يا أبت إني قد جاءني من العلم } من اللّه عز وجل من البيان { ما لم يأتك } أنه من عبد غير اللّه عز وجل عذبه اللّه في الآخرة بالنار { فاتبعني } يعني أطعني فيما أدعوك ويقال أتبع دين اللّه { أهدك } يعني أرشدك { صراطا سويا } يعني طريقا عدلا قائما ترضاه ٤٤ثم قال { يا أبت لا تعبد الشيطان } يعني لا تطع الشيطان فمن أطاع شيئا فقد عبده { إن الشيطان كان للرحمن عصيا } يعني عاصيا ٤٥ثم قال { يا أبت إني أخاف أن يمسك } يعني أعلم أن يمسك { عذاب } يعني إن أقمت على كفرك يصيبك عذاب { من الرحمن } { فتكون للشيطان وليا } يعني قرينا في النار ٤٦{ قال } له أبوه { أراغب أنت عن آلهتي } يعني أتارك أنت عبادة آلهتي { يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك } يقول إن لم تنته عن مقالتك ولم ترجع عنها لأسبنك وأشتمنك وكل شيء في القرآن من الرجم فهو القتل غير ها هنا فإن ها هنا أراد به السب والشتم { واهجرني مليا } يعني تباعد عني حينا طويلا ولا تكلمني وقال السدي { مليا } تعني أبدا وقال قتادة { واهجرني مليا } يعني تباعد عني سالما ويقال لا تكلمني دهرا طويلا ٤٧{ قال } إبراهيم { سلام عليك } يعني أكرمك اللّه بالهدى { سأستغفر لك ربي } يعني سأدعو لك ربي { إنه كان بي حفيا } يعني بارا عودني الإجابة إذا دعوته ويقال تحفيت بالرجل إذا بالغت في إكرامه وهذا قول القتبي ويقال { حفيا } يعني عالما يستجيب لي إذا دعوته وكان يستغفر له ما دام أبوه حيا وكان يرجو أن يهديه اللّه عز وجل فلما مات كافرا ترك الإستغفار له ٤٨قوله عز وجل { وأعتزلكم } يعني وأترككم { وما تدعون من دون اللّه } يعني وأترك عبادة ما تعبدون من دون اللّه عز وجل { وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } يعني لا يخيبني إذا دعوته ثم هاجر إلى بيت المقدس ٤٩{ فلما إعتزلهم وما يعبدون من دون اللّه وهبنا له إسحاق ويعقوب } يعني أكرمناه بالولد وهو إسحاق وولد الولد وهو يعقوب عليهما السلام وقال بعض الحكماء من هاجر لطلب رضاء اللّه عز وجل أكرمه اللّه عز وجل في الدنيا والآخرة كما أن إبراهيم عليه السلام هاجر من قومه في طلب رضى اللّه تعالى عنه فأكرمه اللّه تعالى بإسحاق ويعقوب عليهما السلام والثناء العمل الصالح ثم قال تعالى { وكلا جعلنا نبيا } يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أكرمناهم بالنبوة ٥٠{ ووهبنا لهم من رحمتنا } يعني من نعمتنا المال والولد في الدنيا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نعم المال الصالح للرجل الصالح { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } يعني أكرمناهم بالثناء الحسن وكل أهل دين يتولون دين إبراهيم عليه السلام بزعمهم ٥١قوله عز وجل { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا } يعني أخلصه اللّه عز وجل ويقال { مخلصا } يعني جعله اللّه مختارا خالصا قرأ حمزة والكسائي وعاصم بنصب اللام يعني أخلصه اللّه عز وجل ويقال معصوما من الكفر والمعاصي وقرأ الباقون { مخلصا } بالكسر يعني مخلصا في العمل { وكان رسولا نبيا } إلى بني إسرائيل ٥٢{ وناديناه من جانب الطور الأيمن } يعني من يمين موسى عليه السلام ولم يكن للجبل يمين ولا شمال { وقربناه نجيا } أي كلمناه بلا وحي وقال الكلبي { وقربناه نجيا } يعني وقربناه حتى سمع صرير القلم في اللوح وقال السدي أدخل في السماء الدنيا وكلم وقال الزجاج { وقربناه نجيا } مناجيا حتى سمع ٥٣ثم قال عز وجل { ووهبنا له من رحمتنا } أي من نعمتنا { أخاه هارون نبيا } فكان هارون عليه السلام معه وزيرا نبيا معينا ٥٤قوله تعالى { واذكر في الكتاب إسماعيل } يعني أذكر في القرآن خبر إسماعيل { إنه كان صادق الوعد } إذا وعد أنجز قال مقاتل إن إسماعيل وعد رجلا أن ينتظره فقام مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى رجع الرجل إليه وقال في رواية الكلبي كان ميعاده الذي وعد فيه صاحبه إنتظره حتى حال الحول وقال مجاهد { إنه كان صادق الوعد } يعني لم يعد شيئا إلا وفى به { وكان رسولا نبيا } يعني { كان رسولا } إلى قومه { نبيا } يخبر عن اللّه عز وجل ٥٥{ وكان يأمر أهله } يعني أهل دينه وقومه { بالصلاة والزكاة } يعني بإتمام الصلاة وإيتاء الزكاة { وكان عند ربه مرضيا } يعني صالحا ذكيا ٥٦قوله عز وجل { واذكر في الكتاب إدريس } يعني خبر إدريس عليه السلام { إنه كان صديقا نبيا } يعني صادقا يخبر عن اللّه عز وجل وذكر عن وهب بن منبه أنه قال إنما سمي إدريس لكثرة ما يدرس من كتاب اللّه عز وجل والسنن وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من لبس ثوب القطن وكانوا من قبل ذلك يلبسون جلود الضأن وإسمه أخنوخ ويقال إلياس ٥٧{ ورفعناه مكانا عليا } يعني الجنة وقال مجاهد يعني في السماء الرابعة قال أخبرني الثقة بإسناده عن ابن عباس أنه سئل كعب الأحبار عن إدريس فقال كعب إن إدريس كان رجلا خياطا وكان يقوم الليل ويصوم النهار ولا يفتر عن ذكر اللّه عز وجل وكان يكتسب فيتصدق بالثلثين فأتاه ملك من الملائكة عليهم السلام يقال له إسرافيل فبشره بالجنة وقال له هل لك من حاجة قال وددت أني أعلم إلى متى أجلي فأزداد خيرا فقال له ما أعلمه ولكن إن شئت حملتك إلى السماء قال فحمله إلى السماء فلقي ملك الموت فسأله عن أجله ففتح كتابا معه فقال لم يبق من أجلك إلا ست ساعات أو سبع ساعات وقال أمرت أن أقبض نفسك ها هنا فقبض نفسه في السماء فذلك قوله { رفعناه مكانا عليا } لا وروى الكلبي عن زيد بن أسلم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن إدريس جد أبي نوح وكان أهل الأرض يومئذ بعضهم مؤمنا وبعضهم كافرا فكان يصعد لإدريس من العمل ما كان يصعد لجميع بني آدم فأحبه ملك الموت فاستأذن اللّه تعالى في خلته فأذن له قال فهبط إليه في صورة غير صورته على صورة آدمي لكيلا يعرفه فقال يا إدريس إني أحب أن أصحبك وأكون معك فقال له إدريس إنك لا تطيق ذلك قال أنا أرجو أن يقويني اللّه عز وجل على ذلك فكان معه يصحبه وكان إدريس عليه السلام يسيح النهار كله وهو صائم فإذا جنه الليل أتاه رزقه حيث يمسي فيفطر عليه ثم يحيي الليل كله فساحا النهار كله صائمين حتى إذا أمسيا أتى إدريس رزقه فأكله ودعا الآخر فقال لا اللّه الذي جعلك بشرا ما أشتهيه فطعم إدريس ثم إستقبلا الليل بالصلاة وإدريس تناله السآمة والفترة من الليل والآخر لا يسأم ولا يفتر فجعل إدريس عليه السلام يتعجب منه ثم أصبحا صائمين فساحا حتى إذا جنهما الليل أتى إدريس رزقه فجعل يطعم ودعا الآخر فقال لا والذي جعلك بشرا ما أشتهيه فطعم إدريس ثم إستقبلا الليل كله فإدريس تناله السآمة والفترة والآخر لا يسأم ولا يفتر فجعل إدريس يتعجب منه ثم أصبحا اليوم الثالث صائمين فساحا فمرا على كرم قد أينع وطاب فقال يا إدريس لو أنا أخذنا من هذا الكرم فأكلنا فقال إدريس ما أرى صاحبه ها هنا فأشتريه منه وإني لأكره أن آخذ بغير ثمن قال فمضيا حتى مرا على غنم فقال يا إدريس لو أخذنا من هذا الغنم شاة فأكلنا من لحمها فقال له إدريس إنك معي منذ ثلاثة أيام ما طعمت شيئا فلو كنت آدميا لطعمت وإني لأدعوك إلى الحلال كل ليلة فتأبى علي فكيف تدعوني إلى الحرام أن آخذه فبصحبة ما بيني وبينك إلا أنبأتني من أنت قال إنك ستعلم قال أخبرني من أنت قال أنا ملك الموت ففزع إدريس عليه السلام حين قال أنا ملك الموت قال فإني أسألك حاجة قال ما هي قال أن تذيقني الموت فإنه قد بلغني عنه شدة ولعلي أعلم ما شدته فأكون له أشد إستعدادا قال ملك الموت عليه السلام مالي من ذلك شيء وليس لك بد من أن تذوقه قال فأوحى اللّه عز وجل إلى ملك الموت أن يقبض روحه ساعة ثم يرسله قال فقبض نفسه ساعة ثم أرسله فقال كيف رأيت قال لقد بلغني عنه شدة فلقد كان أشد مما بلغني عنه قال فإني أسألك حاجة أخرى قال ما هي قال أحب أن تريني النار قال ما لي من ذلك من شيء ولكن سأطلب لك فإن قدرت عليه فعلت فسأل ربه فأمره فبسط جناحه فحمله عليه حتى صعد به إلى السماء فانتهى به إلى باب من أبواب النار فدقه فقيل من هذا فقال ملك الموت فقال مرحبا بأمين اللّه عز وجل فهل أمرت فينا بشيء فقال لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ولكن هذا إدريس عليه السلام سألني أن أريه النار فأحب أن تروها إياه ففتح باب منها بشيء فجاءت بأمر عظيم فخر إدريس مغشيا عليه فحمله ملك الموت وحبسه في ناحية حتى أفاق فقال له ملك الموت ما أحببت أن يصيبك هذا في صحبتي ولكن سألتني فأحببت أن أسعفك قال فإني أسألك حاجة أخرى لا أسألك غيرها قال ما هي قال أحب أن تريني الجنة قال ما لي من ذلك من شيء ولكن سأطلب فإن قدرت عليه فعلت فانطلق به إلى خزنة الجنة فدق بابا من أبوابها فقيل من هذا فقال أنا ملك الموت فقالوا مرحبا بأمين اللّه عز وجل هل أمرت فينا بشيء فقال لو أمرت فيكم بشيء لم أناظركم ولكن هذا إدريس سألني أن أريه الجنة فأحب أن تروها إياه قال ففتح له الباب فدخل فنظر إلى شيء لم ينظر مثله قط فطاف فيها ساعة ثم قال له ملك الموت إنطلق بنا فلنخرج فانطلق إلى شجرة فتعلق بها ثم قال واللّه لا أخرج حتى يكون اللّه عز وجل هو الذي يخرجني فقال ملك الموت إنه ليس حينها ولا زمانها ولكن طلبت إليهم لترى فانطلق بنا فأبى عليه فقيض اللّه له ملكا من الملائكة فقال له ملك الموت إجعل هذا الملك حكما بيني وبينك قال نعم قال الملك ما هو ما ملك الموت فأخبره بالقصة ثم نظر الملك إلى إدريس قال ما تقول يا إدريس قال أقول إن اللّه يقول { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : ١٨٥ ] فقد ذقته ويقول اللّه عز وجل { وإن منكم إلا واردها } [ مريم : ٧١ ] وقد وردتها وقال لأهل الجنة { وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : ٤٨ ] فواللّه لا أخرج منها حتى يكون اللّه عز وجل هو الذي يخرجني قال فسمع هاتفا يقول بإذني دخل وبإذني فعل فخل سبيله فذلك قوله عز وجل { ورفعناه مكانا عليا } يعني الجنة ويقال { رفعناه } في القدر والمنزلة ويقال { رفعناه } في النبوة والعلم ٥٨ثم قال عز وجل { أولئك } يعني إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وسائر الأنبياء عليهم السلام { الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح } من سائر الأنبياء وهم ولد نوح عليه السلام إلا إدريس عليه السلام يعني حملناهم على السفينة وهم في صلب نوح وأولاده { ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } وهو يعقوب { وممن هدينا } يعني أكرمنا بالنبوة ويقال أكرمنا بالإسلام { واجتبينا } يعني واصطفينا بعد هؤلاء { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن } يعني القرآن { خروا سجدا وبكيا } يعني يسجدون ويبكون من خوف اللّه عز وجل بكي جمع باكي وقوله { سجدا وبكيا } منصوب على الحال وقال بعضهم { بكيا } مصدر بكى يبكي بكيا وقال الزجاج من قال مصدر فهو خطأ لأن { سجدا } جمع ساجد { وبكيا } عطف عليه فهو جمع باك ٥٩قوله تعالى { فخلف من بعدهم خلف } يعني بقي بعد الأنبياء الذين ذكرناهم من أول السورة إلى هنا بقيات سوء وهم اليهود والنصارى يقال في الرداءة خلف بإسكان اللام وفي الصلاح خلف بفتح اللام ثم وصفهم فقال { أضاعوا الصلاة } يعني عن وقتها ويقال تركوها ويقال تركوا الصلاة فلم يؤدوها وجحدوا بها فكفروا { واتبعوا الشهوات } يعني شرب الخمر ويقال إستحلوا الزنى ويقال إستحلوا نكاح الأخت من الأب { فسوف يلقون غيا } يعني شرا ويقال وادي في جهنم يسمى غيا ويقال مجازاة الغي كما قال اللّه عز وجل { يلق أثاما } [ الفرقان : ٦٨ ] أي مجازاة الآثام ٦٠ثم إستثنى فقال تعالى { إلا من تاب } يعني رجع عن الكفر { وآمن } يعني صدق بتوحيد اللّه عز وجل { وعمل صالحا } بعد التوبة { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا } يعني لا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم ٦١ثم قال عز وجل { جنات عدن } صار خفضا لأن معناه يدخلون في { جنات عدن } { التي وعد الرحمن عباده بالغيب } يعني ما غاب عن العباد واللّه عز وجل لا يغيب عنه شيء { إنه كان وعده مأتيا } يعني جائيا كائنا وقال القتبي { مأتيا } يعني المفعول بمعنى الفاعل يعني جائيا وقال الزجاج { مأتيا } مفعول من الإتيان لأن كل من وصل إليك فقد وصلت إليه وكل من أتاك فقد أتيته ٦٢ثم قال عز وجل { لا يسمعون فيها } يعني في الجنة { لغوا } يعني حلفا وباطلا { إلا سلاما } يعني ويسمعون السلام يسلم بعضهم على بعض وقال الزجاج اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه والسلام إسم جامع للخير لأنه يتضمن السلامة يعني لا يسمعون إلا سلامهم ثم قال { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } يعني طعامهم على مقدار البكرة والعشي وليس هناك بكرة ولا عشي وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك فأخبرهم اللّه تعالى أن لهم في الجنة هذه الحالة وقال القتبي الناس يختلفون في طاعمهم فمنهم من يأكل الوجبة أي مرة واحدة في كل يوم ومنهم من يأكل متى وجد بغير وقت ولا عدد ومنهم من يأكل الغداء والعشاء فأعدل هذه الأحوال كلها وأنفعها الغداء والعشاء والعرب تقول من ترك العشاء يهرمه ويذهب بلحم الكارة يعني باطن الفخذ فجعل طعام أهل الجنة على قدر ذلك ٦٣ثم قال عز وجل { تلك الجنة التي نورث من عبادنا } أي ننزل من عبادنا { من كان تقيا } يعني مطيعا للّه عز وجل ٦٤قوله عز وجل { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وذلك حين أبطأ عليه الوحي وعند سؤال أهل مكة عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وأمر الروح عاتب المصطفى جبريل عليه السلام فقال اللّه تعالى قل يا جبريل لمحمد ومعناه قل { وما نتنزل إلا بأمر ربك } { له ما بين أيدينا } من أمر الآخرة { وما خلفنا } من أمر الدنيا { وما بين ذلك } أي ما بين النفختين { وما كان ربك نسيا } يعني لم يكن ينساك ربك حيث لم يوح إليك ويقال { ما بين أيدينا } يعني أمر الآخرة والثواب والعقاب { وما خلفنا } جميع ما مضى من أمر الدنيا { وما بين ذلك } ما يكون في هذا الوقت منا { وما كان ربك نسيا } أي قد علم اللّه عز وجل ما كان وما يكون وما هو كائن حافظ لذلك ويقال ما نسيك ربك وإن تأخر عنك الوحي وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت هذه الآية ٦٥ثم قال { رب السموات والأرض } أي خالق السموات والأرض { وما بينهما } من الخلق ويقال { رب السموات والأرض } أي مالكهما وعالم بهما وما فيهما { فاعبده } أي أطعه { واصطبر لعبادته } يعني إحبس نفسك على عبادته { هل تعلم له سميا } يعني هل تعلم أحدا يسمى اللّه سوى اللّه وهل تعلم أحدا يسمى الرحمن سواه ويقال هل تعلم أحدا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون ٦٦قوله عز وجل { ويقول الإنسان } يعني أبي بن خلف { أئذا ما مت لسوف أخرج حيا } للبعث على معنى الإستفهام ٦٧قال اللّه عز وجل { أو لا يذكر الإنسان } يعني أو لا يتعظ ويعتبر { أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } قرأ نافع وعاصم وإبن عامر { أو لا يذكر } بجزم الذال مع التخفيف يعني أو لا يعلم والباقون { أو لا يذكر } بنصب الذال والتشديد ٦٨ثم قال عز وجل { فوربك لنحشرنهم } أقسم الرب بنفسه ليبعثنهم وليجمعنهم يعني الذين أنكروا البعث { والشياطين } يعني الشياطين قرناءهم ٦٩{ ثم لنحضرنهم } يعني لنجمعنهم { حول جهنم جثيا } يعني جميعا قال أهل اللغة الجثي جمع جاثي مثل بارك وبرك وساجد وسجد وقاعد وقعد أي على ركبهم ولا يقدرون على القيام قال الزجاج الأصل ضم الجيم وجاز كسرها إتباعا لكسر التاء وهو نصب على الحال { ثم لننزعن من كل شيعة } يعني لنخرجن من كل شيعة يعني من أهل كل دين { أيهم أشد على الرحمن عتيا } يعني جرأة على اللّه عز وجل وهم القادة في الكفر وساداتهم نبدأ بهم فنعذبهم في النار وروي عن سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص في قوله { أيهم أشد على الرحمن عتيا } قال يبدأ بالأكابر فالأكابر جرما ٧٠قوله عز وجل { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } أي أحق بالنار دخولا ٧١ثم قال عز وجل { وإن منكم إلا واردها } قال بعضهم يعني داخلها المؤمن والكافر يدخلون على الصراط وهو ممدود على متن جهنم ويقال { وإن منكم إلا واردها } يعني الكفار الذين تقدم ذكرهم وروى سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أن نافع بن الأزرق خاصم ابن عباس وقال لا يردها مؤمن فقال ابن عباس أما أنا وأنت فسندخلها فانظر بماذا تخرج منها إن خرجنا وروي عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يمرون على الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر مثل البرق ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كأجود الخيل ومنهم من يمر كأجود الإبل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى أن آخرهم مثل رجل نوره على موضع إهاب قدميه ثم يتكفأ به الصراط والصراط دحض مزلق مزلقة كحد السيف عليه حسك كحسك العتاد وحافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس فبين مار ناج وبين مخدوش مكدوش في النار والملائكة عليهم السلام يقولون رب سلم سلم وروى سفيان عن ثور بن خالد بن معدان قال إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار قيل إنكم قد مررتم بها وهي خامدة فذلك قوله عز وجل { وإن منكم إلا واردها } يعني الخلائق على الصراط والصراط في جهنم { كان على ربك حتما مقضيا } يعني قضاء واجبا قال حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوست رحمه اللّه قال حدثنا فارس بن مردويه قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا عدي بن عاصم قال حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا جرير عن أبي السليل عن غنيم بن قيس عن أبي العوام قال قال كعب هل تدرون ما قوله { وإن منكم إلا واردها } قالوا ما كنا نرى ورودها إلا دخولها قال لا ولكن ورودها أن يجاء بجهنم كأنها متن إهالة حتى إذا إستوت عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم نادى مناد خذي أصحابك وذري أصحابي فتخسف بكل ولي لها وهي أعلم بهم من الوالد بولده وينجو المؤمنون ندية ثيابهم قال الفقيه وحدثني الثقة بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية كبا لها الناس كبوة شديدة وحزنوا حتى بلغ الحزن منهم كل مبلغ وقالوا وليس أحد إلا هو يدخلها فأنشؤوا يبكون قال ونزل بإبن مظعون ضيف فقال لامرأته هيئي لنا طعاما فاستوصي بضيفك خيرا حتى آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانتهى إليهم وهم يبكون فقال ما يبكيكم قالوا نزلت هذه الآية { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } يقول كائنا لا يبقى أحد إلا دخلها فأنشأ عثمان بن مظعون يبكي ثم إنصرف إلى منزله باكيا فلما أتى منزله سمعت إمرأته بكاءه فأنشأت تبكي فلما سمع الضيف بكاءهما أنشأ يبكي فلما دخل عليهما عثمان قال لها ما يبكيك قالت سمعت بكاءك فبكيت فقال للضيف وأنت ما يبكيك قال عرفت أن الذي أبكاكما سيبكيني قال عثمان فابكوا وحق لكم أن تبكوا أنزل اللّه عز وجل اليوم على رسوله { وإن منكم إلا واردها } فمكثوا بعد هذه الآية سنتين ثم أنزل اللّه هذه الآية وهو ٧٢قوله { ثم ننجي الذين إتقوا } وروي في بعض الأخبار أنه نزل بعد ثلاثة أيام { ثم ننجي الذين إتقوا } أي الذين إتقوا الشرك والمعاصي { ونذر الظالمين } يعني المشركين { فيها جثيا } يعني جميعا ففرح المسلمون بها قرأ الكسائي { ننجي } بالتخفيف قرأ والباقون بالنصب والتشديد أنجى ينجي ونجى ينجي بمعنى واحد ٧٣قوله تعالى { وإذا تتلى عليهم } يعني تعرض عليهم { آياتنا بينات } يعني واضحات قد بين فيها الحلال والحرام { قال الذين كفروا للذين آمنوا } يعني النضر بن الحارث قال لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ويقال أهل مكة قالوا لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم { أي الفريقين } يعني أي دينين { خير مقاما } يعني منزلا قرأ إبن كثير { مقاما } بضم الميم وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم فهو الإقامة يقال أقمت إقامة ومقاما ومن قرأ بالنصب فهو المكان الذي يقام فيه { وأحسن نديا } يعني مجلسا وذلك أنهم لبسوا الثياب وادهنوا الرؤوس ثم قالوا للمؤمنين أي الفريقين خير منزلة المسلمون أو المشركون وأرادوا أن يصرفوهم عن دينهم ٧٤قوله عز وجل { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا } يعني أكثر أموالا { ورئيا } يعني منظرا حسنا فلم يغن عنهم ذلك من عذاب اللّه شيئا قرأ نافع وإبن عامر { وريا } بتشديد الياء بغير همز يعني النعمة وقرأ الباقون { ورئيا } بالهمز بغير تشديد يعني المنظر قال أبو عبيد وهكذا تقرأ مهموزة لأنه من رؤية العين وإنما هي المنظر ٧٥ثم قال عز وجل { قل من كان في الضلالة } يعني قل يا محمد من كان في الكفر والشرك { فليمدد له الرحمن مدا } يعني يزيد له مالا وولدا قوله { فليمدد } هذا لفظ الأمر ومعناه الخبر وتأويله أن اللّه عز وجل جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها ويمده فيها كما قال { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : ١٥ ] ثم قال تعالى { حتى إذا رأوا ما يوعدون } يعني في الآخرة من العذاب والثواب { إما العذاب } في الدنيا { وأما الساعة } يعني قيام الساعة { فسيعلمون } يعني فسيعرفون يوم القيامة { من هو شر مكانا } يعني صنيعا في الدنيا ومنزلا في الآخرة { وأضعف جندا } يعني أقل عددا وقوة ومنعة أهم أم المؤمنون ٧٦قوله عز وجل { ويزيد اللّه الذين إهتدوا هدى } يعني يزيد اللّه عز وجل الذين آمنوا بالمنسوخ هدى بالناسخ ليعملوا بالناسخ دون المنسوخ ويقال جعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم ويزيدهم بصيرة { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا } وقد ذكرناه { وخير مردا } يعني وأفضل مرجعا في الآخرة ٧٧قوله عز وجل { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } يعني بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن { وقال لأوتين } يعني لأعطين { مالا وولدا } في الجنة روى أسباط عن السدي أن خباب بن الأرت كان صائغا يعمل للعاص بن وائل حليا فجاء يسأله أجره فقال له العاص أنتم تزعمون أن لنا بعثا وجنة ونارا فإذا كان يوم القيامة فإني سأوتي مالا وولدا وأعطيك منه فنزل { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا } في الجنة قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو { مالا وولدا } بفتح الواو واللام في كل القرآن غير أن أبا عمرو قرأ في سورة نوح بالضم وهكذا روي عن مجاهد وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو وجزم اللام من ها هنا إلى آخر السورة والتي في الزخرف والتي في سورة نوح وقال أبو عبيد إنما قرأ هكذا لأنهما جعلا الولد غير الولد فيقال الولد جماعة الأهل والولد واحد وقال الزجاج الولد مثل أسد وأسد وجاز أن يكون الولد بمعنى الولد قال أبو عبيد والذي عندنا في ذلك أنهما لغتان والذي نختاره منهما بفتح الواو واللام ٧٨قال اللّه عز وجل ردا على الكافرين { أطلع الغيب } يقول أنظر في اللوح المحفوظ { أم إتخذ عند الرحمن عهدا } يعني أعقد عند اللّه عقد التوحيد وهو قول لا إله إلا اللّه ويقال أعهد إليه أن سيجعل له في الجنة ٧٩{ كلا } وهو رد عليه لا يعطى له ذلك واعلم أنه ليس في النصف الأول من القرآن كلا وأما النصف الثاني ففيه نيف وثلاثون موضعا ففي بعض المواضع في معنى الرد للكلام الأول وفي بعض المواضع للتنبيه في معنى الإفتتاح وفي بعض المواضع يحتمل كلا الوجهين فأول ذلك { أطلع الغيب أم إتخذ عند الرحمن عهدا كلا } تم الكلام عنده أي كلا لم يطلع الغيب ولم يتخذ عهدا ثم إبتدأ { سنكتب ما يقول } ومن ذلك قوله { فأخاف أن يقتلون } [ القصص : ٣٣ ] قال كلا لا يقتلونك وأما الذي هو للتنبيه في معنى الإفتتاح قوله عز وجل { حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون } [ التكاثر : ٢ - ٣ ] ٨٠وقوله عز وجل { سنكتب ما يقول } يعني سنحفظ ما يقول من الكذب { ونمد له من العذاب } يعني نزيد له من العذاب { مدا } يعني بعضه على إثر بعض { ونرثه ما يقول } يعني نعطيه غير ما يقول في الجنة ونعطي ما يدعي لنفسه لغيره ثم قال { ويأتينا فردا } يعني وحيدا بغير مال ولا ولد ٨١قوله عز وجل { واتخذوا من دون اللّه آلهة ليكونوا لهم عزا } يعني منعة في الآخرة { كلا } رد عليهم أي لا يكون لهم منعة وتم الكلام ٨٢ثم قال { سيكفرون بعبادتهم } يعني الآلهة يجحدون عبادتهم { ويكونون عليهم ضدا } يعني الآلهة تكون عونا عليهم في العذاب ويقال تكون عدوا لهم في الآخرة ومن هذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من طلب رضا المخلوق في معصية الخالق عاد الحامد له ذاما كما أن المشركين طلبوا العز من الآلهة فصارت الآلهة عونا عليهم في العذاب فوجدوا ضد ما طلبوا منه ٨٣ثم قال عز وجل { ألم تر أنا أرسلنا الشياطين } يعني ألم تخبر في القرآن أنا سلطنا الشياطين { على الكافرين } مجازاة لهم ويقال خلينا بينهم وبين الكفار فلم نعصمهم { تؤزهم أزا } يعني تزعجهم إزعاجا وتغريهم إغراء حتى يركبوا المعاصي قال الضحاك { تؤزهم أزا } يعني تأمرهم أمرا وقال الحسن تقدمهم إقداما إلى الشر وقال الكلبي نزلت الآية في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط ٨٤{ فلا تعجل } يا محمد { عليهم } بالعذاب { إنما نعد لهم عدا } يعني أيام الحياة ثم ينزل بهم العذاب ويقال نعد عليهم النفس بعد النفس ويقال الأيام والليالي والشهور ٨٥قوله عز وجل { يوم نحشر المتقين } يعني أذكر يوم نحشر المتقين الذين إتقوا الشرك والفواحش { إلى الرحمن وفدا } يعني ركبانا على النوق والوفد جمع الوافد مثل الركب جمع راكب والوفد الذي يأتي بالخبر والبشارة ويجازي بالإحسان والكرامة وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قرأ قوله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } ثم قال أتدرون على أي شيء يحشرون أما واللّه ما يحشرون على أقدامهم ولكن يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحال الذهب وأزمتها من الزبرجد ثم ينطلق بهم حتى يقرعوا باب الجنة وقال الربيع بن أنس يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعظمون ويشفعون ويحيون فيها بسلام ويقال { إلى الرحمن } يعني إلى الرحمة وهي الجنة ويقال { إلى الرحمن } يعني إلى دار الرحمن ٨٦ثم قال عز وجل { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا } يعني عطاشا مشاة وأصله الورود على الماء والوارد على الماء يكون عطشانا ٨٧ثم قال عز وجل { لا يملكون الشفاعة إلا من إتخذ عند الرحمن عهدا } يعني من جاء بلا إله إلا اللّه وقال سفيان الثوري إلا من قدم عملا صالحا ٨٨قوله عز وجل { وقالوا إتخذ الرحمن ولدا } يعني اليهود والنصارى ٨٩{ لقد جئتم شيئا إدا } يعني قلتم قولا عظيما منكرا ويقال كذبا وزورا ٩٠قال عز وجل { تكاد السموات يتفطرن منه } يعني يتشققن من قولهم { وتنشق الأرض } يعني تتصدع الأرض { وتخر الجبال هدا } يعني تصير الجبال كسرا ٩١{ أن دعوا للرحمن ولدا } يعني بأن قالوا للّه ولد روي عن بعض الصحابة أنه قال كان بنو آدم لا يأتون شجرة إلا أصابوا منها منفعة حتى قالت فجرة بني آدم إتخذ الرحمن ولدا فاقشعرت الأرض وهلك الشجر وقرأ نافع والكسائي { يكاد } بالياء على لفظ التذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز كلاهما وقرأ إبن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية حفص { تتفطر } بالتاءين والباقون بالنون ومعناهما واحد مثل ينشق وتنشق ٩٢قال اللّه عز وجل { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } يعني ما اتخذ اللّه عز وجل ولدا ٩٣{ إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا } يعني أقر بالعبودية له يعني الملائكة وعيسى وعزيرا عليهم السلام وغيرهم ٩٤{ لقد أحصاهم } يعني حفظ عليهم أعمالهم ليجازيهم بها { وعدهم عدا } يعني علم عددهم ويقال { أحصاهم } أي حفظ أعمالهم فيجازيهم { وعدهم عدا } أي علم عدد أنفاسهم وحركاتهم ٩٥{ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } يعني وحيدا بغير مال ولا ولد ٩٦قال عز وجل { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني الطاعات فيما بينهم وبين ربهم { سيجعل لهم الرحمن ودا } يعني يحبهم ويحببهم إلى الناس وقال كعب الأحبار رضي اللّه عنه قرأت في التوراة أنها لم تكن محبة لأحد إلا كان بدؤها من اللّه عز وجل ينزلها إلى أهل السماء ثم ينزلها إلى أهل الأرض ثم قرأت القرآن فوجدته فيه وهو قوله { سيجعل لهم الرحمن ودا } يعني محبة في أنفس القوم روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا أحب اللّه تعالى عبدا نادى جبريل عليه السلام قد أحببت فلانا فأحبوه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض وإذا أبغض اللّه تعالى عبدا نادى جبريل قد أبغضت فلانا فينادي في أهل السماء ثم تنزل له البغضاء في أهل الأرض ٩٧قوله عز وجل { فإنما يسرناه بلسانك } يعني هونا قراءة القرآن على لسانك { لتبشر به المتقين } يعني الموحدين { وتنذر به قوما لدا } أي جدلا بالباطل شديدي الخصومة هو جمع ألد مثل أصم وصم ٩٨ثم قال عز وجل { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } يعني من قبل قريش { هل تحس منهم من أحد } يعني هل ترى منهم من أحد { أو تسمع لهم ركزا } أي صوتا خفيا والركز الصوت الذي لا يفهم واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله |
﴿ ٠ ﴾