سورة الأنبياء

كلها مكية وهي مائة وإثنتا عشرة آية

١

قول اللّه سبحانه وتعالى { إقترب للناس حسابهم } يعني قربت القيامة كقوله { إقتربت الساعة } [ القمر : ١ ] ويقال معناه إقترب وقت حسابهم ويقال دنا للناس ما وعدوا في هذا القرآن { وهم في غفلة } يعني في جهل وعمى من أمر آخرتهم { معرضون } يعني جاحدين مكذبين وهم كفار مكة ومن كان مثل حالهم

٢

ثم نعتهم فقال { ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث } يعني ما يأتيهم جبريل بالقرآن محدث والمحدث إتيان جبريل عليه السلام بالقرآن مرة بعد مرة ويقال قراءة النبي صلى اللّه عليه وسلم القرآن مرة بعد مرة { إلا إستمعوه وهم يلعبون } يعني يستمعون لاعبين ويقال { وهم يلعبون } يعني يهزؤون ويسخرون

٣

قوله عز وجل { لاهية قلوبهم } يعني ساهية قلوبهم عن أمر الآخرة { وأسروا النجوى } يعني أخفوا تكذيبهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ويتناجون فيما بينهم ثم بين أمرهم فقال { الذين ظلموا } معناه { وأسروا النجوى } يعني الذين ظلموا

ثم بين ما يسرون فقال { هل هذا } يعني يقولون ما هذا { إلا بشر مثلكم } أي آدمي مثلكم { أفتأتون السحر } يعني أفتصدقون الكذب { وأنتم تبصرون } وتعلمون أنه سحر

٤

قوله عز وجل { قال ربي } يعني قل يا محمد { ربي يعلم القول } يعني السر

فأعلمهم اللّه تعالى أنه يعلم قولهم وأطلع نبيه صلى اللّه عليه وسلم على سرهم وعلانيتهم فقال { قال ربي يعلم القول في السماء والأرض } يعني يعلم سر أهل السموات وسر أهل الأرض قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { قال ربي يعلم } على معنى الخبر وقرأ الباقون { قل ربي أعلم } على معنى الأمر ثم قال { وهو السميع } بمقالتهم { العليم } بهم وبعقوبتهم

٥

{ بل قالوا أضغاث أحلام } يعني أباطيل أحلام كاذبة

وقال أهل اللغة لا يكون الضغث إلا من أخلاط شتى فلذلك يقال أضغاث أحلام يعني لما فيها من التخاليط وهو كل حلم لا يكون له تأويل ومن هذا قوله { وخذ بيدك ضغثا } [ ص : ٤ ] يعني أخلاط العيدان عدد مائة ويقال في الآية تقديم ومعناه بل قالوا أضغاث أحلام { بل إفتراه } أي إختلقه من تلقاء نفسه { بل هو شاعر } يعني ينقضون قولهم بعضهم ببعض مرة يقولون سحر ومرة يقولون أضغاث أحلام { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } أي يقولون فأتنا بآية أي بعلامة كما في الرسل الأولين فأخبر اللّه تعالى أنهم لا يؤمنون وإن أتاهم بآية

٦

فقال عز وجل { ما آمنت قبلهم } يعني قبل كفار مكة { من قرية } { من } للصلة والزينة يعني لم يصدق قبلهم أهل قرية للرسل إذا جاءتهم بالآيات { أهلكناها أفهم يؤمنون } يعني أفقومك يصدقون إذا جاءتهم الآيات أي لا يؤمنون

٧

ثم قال عز وجل { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } يعني لم أرسل إليهم الملائكة بالرسالة وكانت الرسل من الآدميين { فاسألوا أهل الذكر } يعني أهل التوراة والإنجيل { إن كنتم لا تعلمون } يعني لا تصدقون وذلك أن أهل مكة قالوا لو أراد اللّه تعالى أن يبعث إلينا رسولا لأرسل ملائكة قرأ عاصم في رواية حفص { إلا رجالا نوحي إليهم } بالنون وكذلك في قوله { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } [ الأنبياء : ٢٥ ] وقرأ حمزة والكسائي الأول بالياء والثاني بالنون والباقون كلاهما بالياء وهو إختيار أبي عبيد رحمه اللّه

٨

ثم قال عز وجل { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } يعني ما خلقنا الرسل جسدا لا يأكلون ولا يشربون ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون وقال { جسدا } ولم يقل أجسادا لأن الواحد ينبىء عن الجماعة ويقال معناه وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام لأنهم قالوا { مال هذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : ٧ ] ثم قال { وما كانوا خالدين } يعني في الدنيا

٩

 { ثم صدقناهم الوعد } يعني العذاب للكفار والنجاة

للأنبياء عليهم السلام { فأنجيناهم ومن نشاء } يعني فأنجينا الأنبياء عليهم السلام ومن نشاء من المؤمنين { وأهلكنا المسرفين } يعني المشركين

١٠

قوله عز وجل { لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم } يعني القرآن فيه { ذكركم } يعني في القرآن عزكم وشرفكم يعني شرف العرب والذكر يوضع موضع الشرف لأن الشرف يذكر ويقال { فيه ذكركم } أي فيه تذكرة لكم ما ترجون من رحمته وتخافون من عذابه كما قال { كلا إنها تذكرة } [ عبس : ١١ ] وقال السدي { فيه ذكركم } يعني ما تعنون به من أمر دنياكم وآخرتكم وما بينكم وقال الحسن رحمه اللّه { فيه ذكركم } يعني أمسك به عليكم دينكم وفيه بيان حلالكم وحرامكم ويقال وعدكم ووعيدكم ثم قال { أفلا تعقلون } أن فيه عزكم وشرفكم فتؤمنون به

١١

قوله عز وجل { وكم قصمنا } القصم الكسر يعني كم أهلكنا { من قرية } يعني أهل قرية { كانت ظالمة } يعني كافرة { وأنشأنا بعدها } يعني خلقنا بعد هلاكها { قوما آخرين } خيرا منهم فسكنوا ديارهم

١٢

 { فلما أحسوا بأسنا } يعني رأوا عذابنا { إذا هم يركضون } يعني يهربون ويعدون وقال القتبي أصل الركض تحريك الرجلين يقال ركضت الفرس إذا أعديته بتحريك رجليك ومنه قوله { أركض برجلك } [ ص : ٤٢ ]

١٣

ثم قال عز وجل { لا تركضوا } يعني قالت لهم الملائكة عليهم السلام لا تهربوا وقال قتادة هذا على وجه الإستهزاء وقال مقاتل لما إنهزموا قالت لهم الملائكة عليهم السلام كهيئة الإستهزاء لا تركضوا وقال القتبي هذا كما قال لبيد

( هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا )

قال ابن عباس إن قرية من قرى اليمن يقال لها حصور أرسل اللّه عز وجل إليهم نبيا فكذبوه ثم قتلوه فسلط اللّه عز وجل عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم فقالت لهم الملائكة عليهم السلام حين إنهزموا لا تركضوا يعني لا تهربوا { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } يعني خولتم فيه من أمر دنياكم { ومساكنكم } يعني ومنازلكم { لعلكم تسألون } عن قتل نبيكم

١٤

ويقال عن الإيمان { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } بقتل نبينا عليه السلام ويقال بالشرك باللّه عز وجل

١٥

قوله عز وجل { فما زالت تلك دعواهم } يعني كلمة الويل قولهم { حتى جعلناهم حصيدا خامدين } يعني محصودا

وقال أهل اللغة فعيل بمعنى مفعول والحصيد بمعنى محصود ويقع على الواحد والإثنين والجماعة وقال السدي الحصيد الذي قد حصد ويقال كداسة الغنم بأظلافها خامدين ميتين لا يتحركون وقال مجاهد رحمه اللّه { خامدين } بالسيف

١٦

قوله عز وجل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما } من الخلق والعجائب { لاعبين } يعني لغير شيء ولكن خلقناهم لأمر كائن ويقال وما خلقت هذه الأشياء إلا ليعتبروا ويتفكروا فيها ويعلموا أن خالق هذه الأشياء أحق بالعبادة من غيره ويكون لي عليهم الحجة يوم القيامة

١٧

قوله عز وجل { لو أردنا أن نتخذ لهوا } يعني زوجة بلغة حضرموت { لاتخذناه من لدنا } يعني من عندنا قال ابن عباس اللّهو الولد وقال الحسن وقتادة اللّهو المرأة وقال القتبي التفسيران متقاربان لأن المرأة للرجل لهو وولده لهو كما يقال هما ريحانتاه وأصل اللّهو الجماع فكني به بالمرأة والولد كما كني عنه باللمس وتأويل الآية أن النصارى لما قالت في المسيح ما قالت قال اللّه تعالى { لو أردنا أن نتخذ لهوا } أي صاحبة { لاتخذناه من لدنا } أي من عندنا لا من عندكم لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره

ثم قال { إن كنا فاعلين } يعني ما كنا فاعلين ويجوز أن يكون { إن كنا } ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله

١٨

ثم قال عز وجل { بل نقذف بالحق } يعني نرمي بالحق { على الباطل } ومعناه نبين الحق من الباطل { فيدمغه } أي يبطله ويضمحل به ويقال يكسره وقال أهل اللّه أصل هذا إصابة الرأس والدماغ بالضرب وهو مقتل { فإذا هو زاهق } يعني هالكا ويقال زاهق أي زائل ذاهب قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه في الآية دليل أن النكتة إذا قابلتها نكتة أخرى على ضدها سقط الإحتجاج بها لأنها لو كانت صحيحة ما عارضها غيرها لأن الحق لا يعارضه الباطل ولكن يغلب عليه فيدمغه

ثم قال { ولكم الويل } يعني الشدة من العذاب وهم النصارى { مما تصفون } يعني تقولون من الكذب على اللّه عز وجل

١٩

قوله عز وجل { وله من في السموات والأرض } من الخلق { ومن عنده } من الملائكة { لا يستكبرون } يعني لا يتعظمون { عن عبادته ولا يستحسرون } يعني لا يعيون

٢٠

 { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } لا يملون ولا يستريحون

وقال أهل اللغة الحسير المنقطع الواقف إعياء روي عن عبد اللّه بن الحارث أنه قال قلت لكعب الأحبار أرأيت قوله { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } أما شغلهم رسالة أما شغلهم عمل فقال لي ممن أنت فقلت من بني عبد المطلب فضمني إليه فقال يا إبن أخي إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لنا التنفس ألست تأكل وتشرب وتذهب وتجيء وأنت تتنفس كذلك جعل لهم التسبيح

٢١

ثم قال عز وجل { أم إتخذوا آلهة } الميم صلة معناه أعبدوا من دونه آلهة ويقال بل عبدوا آلهة { من الأرض } يعني إتخذوها من الأرض ويقال من الأرض أي في الأرض { هم ينشرون } يعني هل يحيون تلك الآلهة شيئا وقرىء أيضا { ينشرون } بضم الياء ونصب الشين يعني هل يحيون أبدا لا يموتون

٢٢

ثم قال { لو كان فيهما آلهة إلا اللّه } يعني لو كان في السماء والأرض آلهة غير اللّه { لفسدتا } يعني لخربت السموات والأرض ولهلك أهلها يعني أن التدبير لم يكن مستويا ثم نزه نفسه عن الشريك فقال { فسبحان اللّه رب العرش عما يصفون } يعني عما يقولون من الكذب

٢٣

قوله عز وجل { لا يسأل عما يفعل } يعني لا يسأل عما يحكم في خلقه من المغفرة والعقوبة لأن عادل ليس بجائر { وهم يسألون } عما يفعلون بعضهم ببعض لأنهم يجورون ولا يعدلون ومعناه لا يسأل عما يفعل على وجه الإحتجاج عليه ولكن يسأل عن معنى الإستكشاف والبيان كقوله عز وجل { رب لم حشرتني أعمى } [ طه : ١٢٥ ]

وروي عن مجاهد أنه قال لا يسأل عن قضائه وقدره وهم يسألون عن أعمالهم ويقال { لا يسأل عما يفعل } لأنه ليس فوقه أحد { وهم يسألون } لأنهم مملوكون

٢٤

ثم قال عز وجل { أم إتخذوا من دونه آلهة } الميم صلة يعني أعبدوا من دونه آلهة { قل هاتوا برهانكم } يعني حجتكم وكتابكم الذي فيه عذركم { هذا ذكر من معي } هذا القرآن خبر من معي إلى يوم القيامة { وذكر من قبلي } يعني خبر من قبلي فلا أجد فيه أن الشرك كان مباحا في وقت من الأوقات ويقال { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } يعني القرآن وكتب الأولين

ثم قال { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } يعني لا يصدقون بالقرآن ويقال بالتوحيد { فهم معرضون } يعني مكذبين بالقرآن والتوحيد

٢٥

ثم بين ما أمر في جميع الكتب للرسل فقال عز وجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه } كما يوحى إليك { أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } يعني فوحدوني

٢٦

{ وقالوا إتخذ الرحمن ولدا } وذلك حين قال مشركو قريش في الملائكة عليهم السلام ما قالوا فقال اللّه تعالى { سبحانه } نزه نفسه عن الولد { بل عباد مكرمون } يعني بل عبيد أكرمهم اللّه عز وجل بعبادته

٢٧

 { لا يسبقونه بالقول } أي لا يقولون ولا يعملون شيئا ما لم يأمرهم { وهم بأمره يعملون } يعني يعملون ما يأمرهم به

٢٨

 { يعلم ما بين أيديهم } من أمر الآخرة { وما خلفهم } من أمر الدنيا { ولا يشفعون } يعني الملائكة عليهم السلام { إلا لمن إرتضى } أي لمن رضي عنه بشهادة أن لا إله إلا اللّه { وهم من خشيته مشفقون } يعني من هيبته خائفون لأنهم عاينوا أمر الآخرة فيخافون عاقبة الأمر

٢٩

ثم قال { ومن يقل منهم } أي من الملائكة { إني إله من دونه } يعني من دون اللّه ولم يقل ذلك غير إبليس عدو اللّه { فذلك } يعني ذلك القائل { نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } أي الكافرين

٣٠

قوله عز وجل { أو لم ير الذين كفروا } يعني أولم يخبروا في الكتاب قرأ إبن كثير { ألم ير } بغير واو وقرأ الباقون بالواو ومعناهما قريب { أن السموات والأرض كانتا رتقا } يعني ملتزما { ففتقناهما } أي فرقناهما وأبنا بعضها من بعض وقال مجاهد كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات وقال القتبي كانتا منضمتين ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت السموات واحدة والأرض واحدة فتفتقت السماء سبعا والأرض مثلهن وقال الزجاج ذكر السموات والأرض

ثم قال { كانتا رتقا } لأن السموات يعبر عنها بالسماء بلفظ الواحد وأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرض والمعنى أن السموات كانت واحدة ففتقتها وجعلتها سبعا وكذلك الأرض

وقيل إنما فتقت السماء بالمطر والأرض بالنبات بدليل قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وقال { رتقا } ولم يقل رتقين لأن الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق ودلهم بهذا على توحيده حيث قال { وجعلنا من الماء كل شيء حي } يعني جعلنا الماء حياة كل شيء وهو قول مقاتل وقال قتادة خلق كل شيء حي من الماء وقال أبو العالية رحمه اللّه { وجعلنا من الماء } يعني من النطفة { أفلا يؤمنون } يعني أفلا يصدقون بتوحيد اللّه بعد هذه العجائب

٣١

وقوله عز وجل { وجعلنا في الأرض رواسي } أي الجبال الثقال الثوابت { أن تميد بهم } يعني كيلا تميل ويقال كراهية أن تميل بكم { وجعلنا فيها فجاجا سبلا } يعني في الأرض وفي الجبال أودية والفجاج جمع فج وهو كل مخترق بين جبلين { سبلا } يعني طرقا { لعلهم يهتدون } لكي يعرفوا الطرق

٣٢

 { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } من السقوط كيلا تسقط عليهم { وهم عن آياتها معرضون } يعني عن شمسها وقمرها ونجومها وما فيها من الأدلة والعبر { معرضون } يعني لا يتفكرون فيها وقرأ بعضم { وهم عن آياتها معرضون } ومعناه أن السماء بنفسها من أعظم آية لأنها متمسكة بقدرته

٣٣

ثم قال عز وجل { وهو الذي خلق الليل والنهار } يعني الظلمة والضوء { والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } أي في دوران يجرون وقال قتادة يجرون في فلك السماء وقال الكلبي كل شيء يدور فهو فلك وقال القتبي الفلك القطب الذي تدور به النجوم وهو كوكب خفي بقرب الفرقدين وبنات نعش عليه تدور السماء فقد ذكر بلفظ العقلاء أنهم يسبحون لأنه وصف منهم الفعل كما ذكر من العقلاء

٣٤

ثم قال عز وجل { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } يعني في الدنيا { أفإن مت فهم الخالدون } وذلك أن أناسا من الكفار قالوا إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم يموت

٣٥

 فنزل { كل نفس ذائفة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة } يعني بالغنى والفقر والرخاء والشدة { فتنة } يعني إختبارا لهم { وإلينا ترجعون } في الآخرة قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { يرجعون } بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون { ترجعون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ إبن عامر في إحدى الروايتين { يرجعون } بنصب الياء

٣٦

قوله عز وجل { وإذا رآك الذين كفروا } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر بأبي سفيان بن حرب وأبي جهل بن هشام فقال أبو جهل لأبي سفيان هذا نبي بني عبد مناف كالمستهزئ فنزل قوله { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا } يعني ما يقولون لك إلا سخرية ثم قال { أهذا الذي } يعني يقولون أهذا الذي { يذكر آلهتكم } بالسوء ويقال أهذا الذي يعيب آلهتكم { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } يعني جاحدين تاركين وهذا كقوله عز وجل { وإذا ذكر اللّه وحده إشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } [ الزمر : ٤٥ ] قال الكلبي وذلك حين نزل { قل أدعوا اللّه أو أدعو الرحمن } [ الإسراء : ١١٠ ] فقال أهل مكة ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب فنزل { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } [ الأنبياء : ٣٦ ]

٣٧

قوله عز وجل { خلق الإنسان من عجل } أي مستعجلا بالعذاب وهو النضر بن الحارث وقال القتبي { خلق الإنسان من عجل } أي خلقت العجلة في الإنسان ويقال إن آدم عليه السلام إستعجل حين خلق وإستعجل كفار قريش نزول العذاب كما إستعجل آدم عليه السلام قال اللّه تعالى { سأريكم آياتي } قال الكلبي رحمه اللّه يعني ما أصاب قوم نوح وقوم هود وصالح وكانت قريش يسافرون في البلدان فيرون آثارهم ومنازلهم ويقال يعني القتل ببدر ويقال يعني يوم القيامة { فلا تستعجلون } بنزول العذاب

٣٨

ثم قال عز وجل { ويقولون متى هذا الوعد } يعني البعث { إن كنتم صادقين } يعني إن كنت صادقا فيما تعدنا أن نبعث فنزل

٣٩

 قوله عز وجل { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون } يعني لا يصرفون ولا يرفعون { عن وجوههم النار } لأن أيديهم تكون مغلولة { ولا عن ظهورهم } في الآخرة { ولا هم ينصرون } يعني لا يمنعون عما نزل بهم من العذاب وجوابه مضمر يعني لو علموا ذلك الآن لامتنعوا من الكفر والتكذيب

٤٠

 { بل تأتيهم بغتة } يعني الساعة تأتيهم فجأة { فتبهتهم } يعني فتفجأهم { فلا يستطيعون ردها } أي صرفها عن أنفسهم { ولا هم ينظرون } يعني لا يمهلون ولا يؤجلون

٤١

قوله عز وجل { ولقد إستهزئ برسل من قبلك } كما إستهزأ بك قومك { فحاق بالذين سخروا منهم } يعني نزل بالذين سخروا منهم { ما كانوا به يستهزئون } يعني العذاب الذي كانوا به يستهزئون

٤٢

قوله عز وجل { قل من يكلؤكم } أي من يحفظكم { بالليل والنهار من الرحمن } أي من عذاب الرحمن معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن إلا الرحمن { بل هم عن ذكر ربهم } يعني عن التوحيد والقرآن { معرضون } مكذبون تاركون

٤٣

قوله عز وجل { أم لهم آلهة } الميم صلة يعني ألهم آلهة { تمنعهم من دوننا } يعني من عذابنا { لا يستطيعون نصر أنفسهم } يعني لا تقدر الآلهة أن تمنع نفسها من العذاب أو السوء إن أرادوا بها فكيف ينصرونكم { ولا هم منا يصحبون } يعني يأمنون من عذابنا وقال مجاهد يعني ولا هم منا ينصرون وقال السدي لا نصحبهم فندفع عنهم في أسفارهم وقال القتبي أي لا يجارون لأن المجير صاحب لمجاره

٤٤

ثم قال عز وجل { بل متعنا هؤلاء } يعني أجلناهم وأمهلناهم { وآباءهم } من قبلهم { حتى طال عليهم العمر } يعني الأجل { أفلا يرون } يعني أفلا ينظر أهل مكة { أنا نأتي الأرض ننقصها } أي نأخذ ونفتح الأرض ننقصها { من أطرافها } ما حول مكة يعني ننقصها لمحمد صلى اللّه عليه وسلم من نواحيها ويقال يعني نقبض أرواح أشراف أهل مكة ورؤسائها وقال الحسن هو ظهور المسلمين على المشركين

وروى عكرمة عن ابن عباس قال هو موت فقهائها وذهاب خيارها وقال الكلبي يعني السبي والقتل والخراب

ثم قال تعالى { أفهم الغالبون } يعني أن اللّه عز وجل هو الغالب وهم المغلوبون

٤٥

ثم قال عز وجل { قل إنما أنذركم بالوحي } يعني بما نزل من القرآن { ولا يسمع الصم الدعاء } يعني أن من يتصامم لا يسمع الدعاء { إذا ما ينذرون } يخوفون قرأ إبن عامر { ولا تسمع الصم الدعاء } بالتاء بلفظ المخاطبة ومعناه أن لا تقدر أن تسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون يعني إذا خوفوا وقرأ الباقون { ولا يسمع } بالياء على وجه الحكاية عنهم

٤٦

ثم أخبر عن قلة صبرهم عند العذاب فقال { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } يعني أصابتهم عقوبة من عذاب ربك ويقال معناه ولئن أصابهم العذاب أي طرف من عذاب ربك ويقال أدنى شيء من عذاب ربك { ليقولن يا ويلتا إنا كن ظالمين } ظلمنا أنفسنا بترك الطاعة للّه ربنا

٤٧

قوله عز وجل { ونضع الموازين القسط } يعني ميزان العدال { ليوم القيامة } يعني في يوم القيامة قال ابن عباس هو ميزان له لسانان وكفتان توزن فيه أعمال الحسنات والسيئات فيجاء بالحسنات في أحسن صورة ويجاء بالسيئات في أقبح صورة { فلا تظلم نفس شيئا } يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم شيئا { وإن كان مثقال حبة } يعني وزن حبة { من خردل } قرأ نافع { مثقال حبة } بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالرفع فمعناه وإن حصل للعبد مثقال حبة من خردل ومن قرأ بالنصب معناه وإن كان العمل مثقال حبة يصير خبر كان { أتينا بها } يعني جئنا بها وأحضرناها وقرأ بعضهم { أتينا } بالمد يعني جازينا بها وأعطينا بها وأثبتنا وقراءة العامة بغير مد

ثم قال { وكفى بنا حاسبين } أي مجازين

٤٨

قوله عز وجل { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } يقول النصرة والنجاة فنصر موسى وهارون عليهما السلام وأهلك عدوهما فرعون { وضياء } يعني الذي أنزل عليهما من الحلال والحرام في الكتاب قرأ إبن كثير { وضئاء } بهمزتين وقرأ الباقون بهمزة واحدة { وذكرا } يعني عظة { للمتقين } الذين يتقون الكفر والفواحش والكبائر وقال مجاهد الفرقان الكتاب وقال السدي الفرقان والنصر والضياء النور وذكرا قال التوراة وقال مقاتل الفرقان والتوراة

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء وذكرا } يعني أعطيناهما التوراة نورا وعظة

وروي عن عكرمة قال كان ابن عباس أنه كان يقرأ { الذين إستجابوا للّه والرسول } إقرأوا بالواو يعني والذين إستجابوا { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء } بغير واو وقال إجعلوا هذه الواو عند قوله { والذين إستجابوا للّه والرسول }

٤٩

ثم قال عز وجل { الذين يخشون ربهم بالغيب } يعني يعملون لربهم في غيب عنه

واللّه تعالى لا يغيب عنه شيء { وهم من الساعة مشفقون } يعني من عذاب الساعة خائفون

٥٠

قوله عز وجل { وهذا ذكر مبارك } يعني هذا القرآن { ذكر مبارك } يعني فيه السعادة والمغفرة للذنوب والنجاة لمن آمن به { أنزلناه } لكم { أفأنتم له منكرون } يعني أفأنتم للقرآن مكذبون جاحدون

٥١

قوله عز وجل { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } يعني أكرمناه بالمغفرة من قبل النبوة وقال مقاتل من قبل موسى وهارون عليهما السلام وقال مجاهد من قبل بلوغه وقال الكلبي يقول ألهمناه رشده الخير وهديناه قبل بلوغه ويقال من قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن { وكنا به عالمين } بأنه أهل للرشد ويقال للنبوة ويقال { وكنا به عالمين }

٥٢

 { إذ قال } أي حين قال { لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } يعني التصاوير يعني الأصنام { التي أنتم لها عاكفون } يعني عابدين ويقال عليها مقيمين

وروى ميسرة النهدي أن عليا رضي اللّه عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون }

٥٣

فلما قال ذلك لهم ذلك إبراهيم عليه السلام { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } يعني فنحن نعبدها

٥٤

 { قال } لهم إبراهيم عليه السلام { لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين } يعني في خطأ بين قال السدي كان أبوه يصنع الأصنام يبعث بها مع بنيه فيبيعونها فبعث إبراهيم بصنم ليبيعه فجعل ينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه وكان إخوته يبيعون ولا يبيع هو شيئا وقال { أنتم في ضلال مبين }

٥٥

{قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } يعني أجدا تقول يا إبراهيم أم أنت من اللاعبين

٥٦

 قال إبراهيم بل أقول لكم حقا وأدعوكم إلى عبادة اللّه تعالى هو { ربكم } يعني خالقكم ورازقكم { رب السموات والأرض } هو ربكم { الذي فطرهن } يعني هو الذي خلقهن { وأنا على ذلكم من الشاهدين } بأن الذي خلق السموات والأرض هو ربكم

٥٧

ثم قال عز وجل { وتاللّه لأكيدن أصنامكم } أي قال إبراهيم عليه السلام واللّه لأكسرن أصنامكم { بعد أن تولوا مدبرين } يعني بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى عيدكم وذلك أن القوم كانوا أرادوا أن يخرجوا إلى عيد لهم فقالوا لإبراهيم أخرج معنا حتى تنظر إلى عيدنا وكان القوم في ذلك الزمان ينظرون إلى النجوم فينظر أحدهم ويقول إنه يصيبني كذا وكذا من الأمر وكان ذلك معروفا عندهم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يخلفوا بعدهم إلا من كان مريضا فنظر إبراهيم عليه السلام في النجوم { فقال إني سقيم } [ الصافات : ٨٩ ] يعني أشتكي غدا فأصبح من الغد معصوبا رأسه وخرج القوم إلى عيدهم ولم يتخلف أحد غيره فلما خرج القوم قال إبراهيم أما واللّه لأكيدن أصنامكم فسمعها رجل منهم فحفظها عليه فأخذ إبراهيم فأسا ويقال قدوما وجاء إلى بيت أصنامهم وقد وضعوا ألوان الطعام بين أيديهم فإذا رجعوا من عيدهم كانوا يرفعون ذلك الطعام ويأكلونه تبركا ودخل إبراهيم بيت الأصنام فرأى ذلك الطعام بين أيديهم فقال { ألا تأكلون } [ الصافات : ٩١ ] فلم يجيبوه فقال { ما لكم لا تنطقون } [ الصافات : ٩٢ ] فأقبل عليهم { ضربا باليمين } [ الصافات٩٣ ] يعني جعل يضرب القدم بيده وقال السدي قطع رؤوسها كلها وقال ابن عباس كسرها كسرا

وقال بعضهم نحت وجوههم وقال بعضهم قطع يد بعضهم ورجل بعضهم وأذن بعضهم فذلك

٥٨

 قوله تعالى { فجعلهم جذاذا } يعني فتاتا ويقال كسرهم قطعا قطعا

وقال أهل اللغة كل شيء كسرته فقد جذذته وقال أبو عبيد يعني فتاتا يقال كسرهم أي إستأصلهم ويقال جذ اللّه دابرهم أي إستأصلهم وقرأ الكسائي { جذاذا } بكسر الجيم والباقون بالضم { جذاذا } وقرئ بالشاذ { جذاذا } بالنصب ومعناه قريب بعضها من بعض وهو الكسر

{ إلا كبيرا لهم } لم يكسره وتركه على حاله وقال الزجاج يحتمل الكبير في الخلقة ويحتمل أكبر ما عندهم في تعظيمهم { لعلهم إليه يرجعون } يعني إلى الصنم الأكبر ويقال { يرجعون } إلى قوله بإحتجاجه عليهم لوجوب الحجة عليهم فجعل القدوم على عنق ذلك الصنم الأكبر فلما رجعوا من عيدهم نظروا إلى آلهتهم مكسرة ويقال حين دخل إبراهيم عليه السلام بيت الأصنام كان عندهم خدم يعني الوصائف فخرجن وقلن إن هذا الرجل مريض جاء يطلب من الآلهة العافية فلما خرج إبراهيم ودخلن فنظرن إلى الأصنام مقطوعة الرؤوس فخرجن إلى الناس بالويل والصياح وأخبرنهم بالقصة فتركوا عيدهم ودخلوا فلما رأوا ذلك

٥٩

 { قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } في فعله

٦٠

 { قالوا سمعنا فتى يذكرهم } يعني يعيبهم ويقال أخبر الرجل الذي سمع منه فقال إني سمعت فتى يذكرهم قال { تاللّه لأكيدن أصنامكم } { يقال له إبراهيم } صار إبراهيم رفعا بمعنى يقال له هو إبراهيم وقال ويحتمل يقال له إبراهيم رفع على معنى النداء المفرد

٦١

قوله عز وجل { قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون } يعني يشهدون عليه بما يعرفون منه ويقال يشهدون عقوبته قال فجاؤوا به إلى ملكهم النمرود بن كنعان

٦٢

{ قالوا } أي قال له الملك { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم}

٦٣

{قال } إبراهيم { بل فعله كبيرهم هذا } يعني عظيمهم عندكم وإنما قال هذا على وجه الإستهزاء لا على وجه الجد { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } يعني إن كانوا يتكلمون فسألوهم من فعل هذا بكم

٦٤

 { فرجعوا إلى أنفسهم } فلاموها يعني إلى أصحابهم { فقالوا إنكم أنتم الظالمون } يعني حيث قلتم إن إبراهيم كسرها

٦٥

 ثم نكسوا على رؤوسهم { يعني رجعوا إلى قولهم الأول وقال القتبي أي ردوا إلى ما كانوا يعرفون من أنها لا تنطق فقالوا } لقد علمت ما هؤلاء ينطقون { يا إبراهيم يعني تعلم أنهم لا يتكلمون }

٦٦

{ قال } لهم إبراهيم عليه السلام { أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئا } إن عبدتموهم { ولا يضركم } إن تركتموهم

٦٧

 { أف لكم } يعني قذرا لكم وسحقا لكم وتعسا لكم والإختلاف في قوله { أف لكم } مثل ما سبق { ولما تعبدون من دون اللّه } يعني أف لكم ولما تعبدون من دون اللّه { أفلا تعقلون } أن من ليس له ذهن ولا قوة ولا منفعة ولا مضرة أن لا تعبدوه

٦٨

ثم قال عز وجل { قالوا } يعني قال ملكهم { حرقوه وانصروا آلهتكم } يعني إنتقموا لآلهتكم { إن كنتم فاعلين } به شيئا فافعلوا فأمر النمرود أهل القرى حتى جمعوا له الحطب أياما كثيرة وأمر بأن يبني بنيانا فبنى حائط مستدير وجمعوا له الحطب ما شاء اللّه ثم أضرموا فيه النار فارتفعت النار حتى بلغت السماء في أعين الناظرين وكانت الطير يمر بها فيصيبها حر النار فلا تستطيع أن تجوز فيه فتقع ميتة فلما أرادوا أن يلقوه فيها لم يستطيعوا لشدة حرها ولم يقدر أحد أن يدنو منها فبطل تدبيرهم وكادوا أن يتركوه حتى جاء إبليس عدو اللّه لعنه اللّه فدلهم على المنجنيق وهو أول منجنيق صنعت وجاؤوا بإبراهيم فأوثقوا يديه وجعلوه في المنجنيق

وروي في الخبر أن السموات والأرض والجبال بكوا عليه وبكت عليه ملائكة السموات وقالوا ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك فقال لهم إن إستغاث بكم فأغيثوه فلما رمي في المنجنيق قال حسبي اللّه ونعم الوكيل فرمي به بالمنجنيق في الهواء فجعل يهوي نحو النار فقال جبريل عليه السلام يا رب عبدك إبراهيم يحرق فيك قال اللّه تعالى إن إستغاث بك فأغثه فأتاه جبريل وهو يهوي نحو النار فقال أتطلب النجاة فقال أما منك فلا قال أفلا تسأل اللّه عز وجل أن ينجيك منها فقال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي فلما أخلص قلبه للّه تعالى فعند ذلك

٦٩

 قال اللّه تعالى { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } يعني سلميه من حرك وبردك

وقال عكرمة رحمه اللّه بردت نار الدنيا كلها يومئذ فلم ينتفع بها أحد من أهلها وقال كعب ما أحرقت النار من إبراهيم غير وثاقه وقال قتادة إن الخطاف كان تطفىء النار بأجنحته وكانت الوزغة تنفخ وروت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أقتلوا الوزغة فإنها كانت تنفخ على إبراهيم وكانت عائشة تقتلهن

وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في قوله { بردا وسلاما } لو لم يقل { وسلاما } لأهلكه البرد وكذلك قال ابن عباس فضمه جبريل بجناحه ووضعه على الأرض وضرب جناحه على الأرض فأظهر الماء واخضرت الأرض فلما كان في اليوم الثالث خرج النمرود مع جيشه وأشرف على موضع مرتفع لينظر إلى النار فرأى في وسط ذلك الموضع ماء وخضرة ورأى هناك شخصين والنار حواليهما فقال إنا قد رمينا إنسانا واحدا فما لي أرى فيها نفسين فرجع متحيرا

٧٠

قال اللّه تعالى { وأرادوا به كيدا } يعني حرقا { فجعلناهم الأخسرين } يعني الأذلين الأسفلين

٧١

 { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } يعني إلى الأرض المقدسة فخرج إبراهيم عليه السلام من ذلك الموضع وقال للوط عليه السلام إني أريد أن أهاجر فصدقه واتبعه فخرجا إلى بيت المقدس ويقال إلى الشام { التي باركنا فيها } بالماء والثمار للناس

٧٢

قوله عز وجل { ووهبنا له إسحاق } يعني الولد { ويعقوب نافلة } يعني زيادة وذلك أنه سأل اللّه تعالى الولد فأعطاه اللّه تعالى الولد وهو إسحاق عليه السلام وولد الولد فضله على مسألته وهو يعقوب عليه السلام ويقال { نافلة } أي غنيمة { وكلا جعلنا صالحين } يعني أكرمناهم بالإسلام وقال الكلبي كان لوط إبن أخي إبراهيم فكان لوط بن هازر بن آزر وإبراهيم بن آزر وهو عم لوط

وقال بعضهم كان لوط إبن عمه وكانت سارة أخت لوط

٧٣

ثم قال عز وجل { وجعلناهم أئمة } يعني قادة في الخير ويقال أكرمناهم بالإمامة والنبوة { يهدون بأمرنا } أي يدعون الخلق { بأمرنا } إلى أمرنا وإلى ديننا { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } يعني أمرناهم بالأعمال الصالحة ويقال بالدعاء إلى اللّه عز وجل أي قول لا إله إلا اللّه { وإقام الصلاة } يعني إتمام الصلاة { وإيتاء الزكاة } يعني الزكاة المفروضة وصدقة التطوع { وكانوا لنا عابدين } يعني مطيعين

٧٤

وقوله عز وجل { ولوطا } يعني واذكر لوطا إذ { آتيناه حكما وعلما } يعني النبوة والفهم ويقال { ولوطا } يعني وأوحينا إليهم وآتينا لوطا يعني وآتينا لوطا حكما وعلما أي النبوة والفهم { ونجيناه من القرية } يعني مدينة سدوم { التي كانت تعمل الخبائث } يعني اللواطة { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } يعني عاصين

٧٥

{ وأدخلنا في رحمتنا } يعني أكرمنا لوطا عليه السلام في الدنيا بطاعتنا وفي الآخرة بالجنة { إنه من الصالحين } أي من المرسلين

٧٦

قوله عز وجل { ونوحا } يعني واذكر نوحا عليه السلام { إذ نادى من قبل } أي دعا على قومه من قبل إبراهيم وإسحاق عليهما السلام { فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم } يعني الغرق { ونصرناه من القوم } أي على القوم { الذين كذبوا بآياتنا } يعني كذبوا نوحا بما أنذرهم من الغرق

٧٧

ويقال { نصرناه من القوم } أي نجيناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا { إنهم كانوا قوم سوء } يعني كفارا { فأغرقناهم أجمعين } يعني الصغير والكبير فلم يبق منهم أحد إلا هلك بالطوفان

٧٨

قال عز وجل { وداود وسليمان } يعني واذكر داود وسليمان عليهما السلام { إذ يحكمان في الحرث } يعني الزرع { إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } وذلك أن غنما لقوم وقعت في زرع رجل فأفسدته قال ابن عباس في رواية أبي صالح إن غنم قوم وقعت في كرم قوم ليلا حين خرج عناقيده فأفسدته فاختصموا إلى دواد بن أيشا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقوم داود الكرم والغنم فكانت القيمتان سواء أي قيمة الغنم وقيمة ما أفسدت من الكرم فدفع الغنم إلى صاحب الكرم فخرجوا من عنده فمروا بسليمان فقال بم قضى بينكم الملك فأخبروه فقال نعم ما قضى به وغير هذا كان أرفق للفريقين جميعا فرجع أصحاب الكرم والغنم إلى داود فأخبروه بما قال سليمان فأرسل داود إلى سليمان عليهما السلام فقال كيف رأيت قضائي بين هؤلاء فإني لم أقض بالوحي إنما قضيت بالرأي فقال نعم ما قضيت فقال عزمت عليك بحق النبوة وبحق الوالد على ولده إلا أخبرتني فقال سليمان غير هذا كان أرفق بالفريقين فقال وما هو قال سليمان يأخذ أهل الكرم الغنم ينتفعون بألبانها وسمنها وصوفها ونسلها ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم حتى إذا عاد الكرم كما كان ردوه فقال دواد نعم ما قضيت به فقضى داود بينهم بذلك

وقال بعضهم كان ذلك القضاء نافذا فلم ينقض ذلك وكان سليمان في ذلك اليوم إبن إحدى عشرة سنة فذلك قوله { إذ نفشت فيه غنم القوم } يعني دخلت فيه غنم القوم ويقال نفشت أي دخلت فيه بالليل من غير حافظ لها

وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الزهري رحمهم اللّه قال النفش لا يكون إلا ليلا والعمل بالنهار

وروى قتادة عن الشعبي رحمه اللّه أن شاة وقعت في غزل الحواك فاختصموا إلى شريح رحمه اللّه فقال شريح أنظروا أوقعت فيه ليلا أو نهارا فإن كان بالليل يضمن وإن كان بالنهار لا يضمن ثم قرأ شريح { إذ نفشت فيه غنم القوم } وقال النفش بالليل والعمل بالنهار وكلاهما الرعي بلا راع

وروى سعيد بن المسيب أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا لقوم فأفسدته فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن حفظ الأموال على أهلها بالنهار وعلى أهل الماشية ما أصابت الماشية بالليل وبهذا الخبر أخذ أهل المدينة وقال أهل العراق لا يضمن ليلا كان أو نهارا إلا أن يتعمد صاحبها فيرسلها فيه وذهبوا إلى ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال جرح العجماء جبار

ثم قال { وكنا لحكمهم شاهدين } يعني عالمين

٧٩

قوله عز وجل { ففهمناها سليمان } يعني ألهمناها سليمان { وكلا آتينا حكما وعلما } يعني النبوة والفهم بالحكم وروي عن الحسن البصري رحمه اللّه أنه قال لولا هذه الآية لم يجرؤ أحد منا أن يفتي في الحوادث

ثم قال { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير } يعني كلما سبح داود تسبح معه الجبال والطير أي سخرنا الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح وقال كان داود يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه وكذلك الطير وقال قتادة { يسبحن } أي يصلين معه إذا صلى يعني كل ما سبح داود تسبح معه الجبال والطير أي سخرنا الطير والجبال يسبحن معه { وكنا فاعلين } يعني نحن فعلنا ذلك بهما

٨٠

قوله عز وجل { وعلمناه صنعة لبوس لكم } يعني دروع الحديد وذلك أن داود عليه السلام خرج يوما متنكرا ليسأل عن سيرته في مملكته فاستقبله جبريل عليه السلام على صورة آدمي فلم يعرفه داود فقال كيف ترى سيرة داود في مملكته فقال له جبريل عليه السلام نعم الرجل هو لولا أن فيه خصلة واحدة قال وما هي قال بلغني أنه يأكل من بيت المال وليس شيء أفضل من أن يأكل الرجل من كد يده فرجع داود عليه السلام وسأل اللّه عز وجل أن يجعل رزقه من كد يديه فألان له الحديد وكان يتخذ منها الدروع ويبيعها ويأكل من ذلك فذلك قوله { وعلمناه } يعني ألهمناه ويقال { علمناه } بالوحي { صفة لبوس لكم } { لتحصنكم من بأسكم } يعني يمنعكم قتال عدوكم قرأ إبن عامر وعاصم في رواية حفص بالتاء { لتحصنكم } وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { لنحصنكم } بالنون بدليل قوله وعلمناه وقرأ الباقون بالياء بلفظ التذكير يعني ليحصنكم اللّه عز وجل ويقال يعني اللبوس ومن قرأ بالتاء فهو كناية عن الصنعة واختار أبو عبيد بالتاء { لتحصنكم } لأن اللبوس أقرب إليه

ثم قال { فهل أنتم شاكرون } اللفظ لفظ الإستفهام يعني أشكروا رب هذه النعم ووحدوه

٨١

قوله عز وجل { ولسليمان الريح } قرأ أبو عبد الرحمن الأعرج { الريح } بضم الحاء على معنى الإبتداء وقراءة العامة { الريح } بالنصب ومعناه وسخرنا لسليمان الريح { عاصفة } يعني قاصفة شديدة وقال في موضع آخر { تجري بأمره رخآء } [ ص : ٣٦ ] أي لينة فإنها كانت تشتد إذا أراد وتلين إذا أراد { تجري بأمره } يعني تسير بأمر اللّه عز وجل ويقال بأمر سليمان { إلى الأرض التي باركنا فيها } بالماء والشجر { وكنا بكل شيء عالمين } يعني من أمر سليمان وغيره

٨٢

قوله عز وجل { ومن الشياطين من يغوصون له } يعني سخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في البحر { ويعملون عملا دون ذلك } من البنيان وغيره { وكنا لهم حافظين } من أن يهيجوا أحدا في زمانه ويقال يحفظهم أن لا يفسدوا ما عملوا ويقال { وكنا لهم حافظين } ليطيعوا سليمان عليه السلام ولا يعصوه

٨٣

قوله عز وجل { وأيوب إذ نادى ربه } يعني أذكر أيوب عليه السلام وصبره روي في الخبر أن أيوب كان بمنزلة الملك وهو أيوب بن برضى النبي عليه السلام وكانت له أموال من صنوف مختلفة وكانت له ضياع كثيرة وكان له ثلاثمائة زوج ثيران وغلمان يعملون له في ضياعه وأموال السوائم من الغنم والإبل والبقر وكان متعبدا ناسكا منفقا متصدقا فحسده إبليس عدو اللّه وقال إن هذا يذهب بالدنيا والآخرة وأراد أن يفسد عليه إحدى الدارين أو كلتيهما فسأل اللّه تعالى وقال إن عبدك أيوب يعبدك لأنك أعطيته السعة في الدنيا ولولا ذلك لم يعبدك قال اللّه تعالى إني أعلم منه أنه يعبدني ويشكرني وإن لم يكن له سعة في الدنيا فقال يا رب سلطني عليه فسلطه على كل شيء منه إلا على روحه فرجع إبليس إلى غنمه كهيئة النار وضرب عليها فأهلك جميع غنمه فجاءت رعاته فأخبروه بالقصة فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ وهو أحق به

ويقال إنه أحرق غنمه ورعاته فجاء إبليس على هيئة راع من رعاته فأخبره بذلك فقال له أيوب عليه السلام لو كان فيك خير لهلكت مع أصحابك ثم جاء إلى إبله وبقره ففعل مثل ذلك ثم جاء إلى زرعه كهيئة النار فأفسد جميع زرعه فأخبر بذلك فحمد اللّه عز وجل وأثنى عليه وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ وهو أحق به وكان له سبعة بنين وثلاث بنات ويقال سبعة بنين وسبع بنات في بيت فجاء إبليس عليه اللعنة فهدم البيت عليهم فماتوا كلهم فذكر ذلك لأيوب عليه السلام فحمد اللّه عز وجل على ذلك وأثنى عليه ولم يجزع وقال هو الذي أعطى وهو الذي أخذ ثم جاء إلى أيوب وكان في الصلاة فلما سجد نفخ في أنفه وفمه نفخة فانتفخ أيوب عليه السلام وخرجت به قروح وجعل تسيل منها الصديد وتفرق عنه أقرباؤه وأصدقاؤه ولم يبق معه أحد إلا إمرأته

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كان إسم إمرأته ماحين بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب ويقال كان إسمها رحمة فتأذى به جيرانه وقالوا لامرأته إحمليه من ها هنا فإنا نتأذى به فحملته حتى أخرجته إلى كناسة قوم ووضعته عليها وجعلت تدخل على الناس وتخدمهم وتأخذ شيئا وتنفقه عليه وكان ذلك البلاء ما شاء اللّه فجاء إبليس في صورة طبيب وقال للمرأة إني أردت أن يبرأ من علته فمريه بشرب الخمر ويتكلم بكلمة الكفر فأخبرته المرأة بذلك فقال لها ذلك إبليس الذي أمرك بهذا فألحت عليه فغضب وقال واللّه لئن برئت لأضربنك مائة سوط قالت متى تبرأ فقال عند ذلك رب { أني مسني الضر }

ويقال إنه اشتهى شيئا يتخذ بالسمن فدخلت إمرأته على إمرأة غني من الأغنياء وسألتها ذلك فأبت عليها ثم نظرت إلى ذوائبها فرأت ذوائبها مثل الحبل فقالت لئن دفعت إلي ذوائبك دفعت إليك ما تطلبين مني فدفعت بالمقراض وقطعت ذوائبها ودفعتها إليها وأخذت منها ما سألت وجاءت به إلى أيوب عليه السلام فقال لها من أين لك هذا فأخبرته بالقصة فبكى أيوب عند ذلك وقال رب { أني مسني الضر }

قال بعضهم مكث أيوب في بلائه سبع سنين وقال بعضهم عشر سنين

وروى عن إبن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إن أيوب نبي اللّه لبث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه واللّه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذلك فقال من ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى فيكشف ما به ثم راحا إليه فلم يصبرا حتى ذكرا ذلك له فعند ذلك قال رب { مسني الضر }

قال فلما كان ذات يوم خرجت إمرأته فأوحى اللّه تعالى إلى أيوب عليه السلام في مكانه أن { أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } [ ص : ٤٢ ] فشرب واغتسل فأذهب اللّه عز وجل ما به من البلاء فقال أيوب كان الركض برجلي أشد علي من البلاء الذي كنت فيه

قال ابن عباس لما قال اللّه تعالى له { أركض برجلك } ففعل فانفجرت عين أغتسل منها فصح جسده

ثم قيل له { أركض برجلك } ففعل فخرجت عين فشرب منها فالتأم ما في جوفه فلما رجعت إليه المرأة لم تعرفه فقالت له بارك اللّه فيك هل رأيت نبي اللّه المبتلى فواللّه ما رأيت أحدا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أيوب قال وكان له آنذاك أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث اللّه سحابتين إحداهما على أندر القمح فأفرغت الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ذلك

قوله تعالى { إذ نادى ربه أني مسني الضر } أصابني البلاء والشدة { وأنت أرحم الراحمين } فعرض ولم يفصح بالدعاء

٨٤

قال اللّه تعالى { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } يعني رفعنا ما به من شدة { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال مقاتل ولدت إمرأة أيوب منه سبعة بنين وثلاث بنات قبل البلاء فأحياهم اللّه تعالى ثم ولدت بعد كشف البلاء سبعة بنين وثلاث بنات فذلك قوله { ومثلهم معهم } وقال الكلبي ولدت سبعة بنين وسبع بنات فنشروا له وولدت إمرأته مثلهم سبعة بنين وسبع بنات ويقال آتاه اللّه عز وجل أهله في الدنيا ومثلهم معهم في الآخرة

وروى وكيع عن إبن سفيان عن الضحاك أن إبن مسعود بلغه أن مروان بن الحكم قال { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } أي أهلا غير أهله فقال إبن مسعود لا بل أهله بأعيانهم ومثلهم معهم

ثم قال { رحمة من عندنا } يعني نعمة منا { وذكرى للعابدين } يعني عظة للمطيعين وهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ليعتبروا به لأن أيوب عليه السلام لم يفتر عن عبادة ربه عز وجل في بلائه

٨٥

ثم قال عز وجل { وإسماعيل وإدريس } يعني واذكر إسماعيل وهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل وإدريس وهو جد أبي نوح { وذا الكفل } عليهم السلام قال بعضهم كان ذو الكفل نبيا

وقال بعضهم لم يكن نبيا وكان رجلا صالحا تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقضي بينهم بالعدل ولذلك سمي ذا الكفل ويقال إنما ذكره مع الأنبياء عليهم السلام لأنه عمل عمل الأنبياء وقال قتادة كفل عن رجل صلاته كان يصلي كل يوم ألف ركعة فكفل عنه فكان يصلي بعد موته فسمي ذا الكفل ويقال إنه كفل مائة من الأنبياء عليهم السلام وأنجاهم من القتل وضمهم إلى نفسه فسمي ذا الكفل { كل من الصابرين } يعني صبروا على طاعة اللّه عز وجل وعلى ما أصابهم من الشدة في اللّه تعالى

٨٦

ثم قال { وأدخلناهم في رحمتنا } يعني أكرمناهم بالنبوة ويقال أدخلناهم في الجنة { إنهم من الصالحين } يعني المطيعين للّه تعالى

٨٧

قوله عز وجل { وذا النون } يعني واذكر ذا النون يعني ذا السمكة وهو يونس بن متى عليه السلام { إذ ذهب مغاضبا } يعني مصارعا من قومه ويقال كان ضيق الصدر سريع الغضب وذلك أنه لما دعا قومه إلى اللّه تعالى كذبوه فأخبرهم بأن العذاب نازل بهم فأتاهم العذاب فأخلصوا للّه تعالى بالدعاء فصرف عنهم وكان يونس عليه السلام اعتزلهم ينتظر هلاكهم فسأل بعض من مر عليه من أهل تلك المدينة فلما علم أنهم لم يهلكوا أنف أن يرجع إليهم مخافة أن ينسب إلى الكذب ويعير به و { ذهب مغاضبا } يعني أنفا قال القتبي غضب وأنف بمعنى واحد لقربهما

وقال بعضهم إنما غضب على الملك وذلك أن ملكا من الملوك يقال له إبن تغلب غزا بني إسرائيل فسبى منهم تسعة أسباط ونصف فلما ذهب أيام عقوبتهم يعني عقوبة بني إسرائيل ونزل أيام عافيتهم أوحى اللّه عز وجل إلى نبي من أنبياء إسرائيل يسمى شعياء أن ائت إلى حزقيا الملك فأخبره بذلك فدعا الملك يونس بن متى وأمره بأن يخرج فأبى أن يخرج وقال إن في بني إسرائيل أنبياء أقوياء غيري فعزم عليه الملك ليخرج فخرج وهو كاره فغضب على الملك فوجد قوما قد شحنوا سفينتهم فقال لهم أتحملونني معكم فعرفوه فحملوه فلما شحنت السفينة بهم وأسرعت في البحر إنكفأت بهم وغرقت فقال ملاحوها يا هؤلاء إن فيكم رجلا عاصيا لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح إلا وفيكم رجل عاص فاقترعوا فخرج سهم يونس عليه السلام فقال التجار نحن أولى بالمعصية من نبي اللّه تعالى ثم أعادوا الثانية والثالثة فخرج سهم يونس فقال يا هؤلاء أنا واللّه العاصي قال فتلفف في كسائه وقام على رأس السفينة فرمى بنفسه في البحر فابتلعته السمكة

فذلك قوله تعالى { إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } يعني لن نقضي عليه بالعقوبة ويقال إن ذنبه لم يبلغ مبلغ الذي نقدر عليه العقوبة ويقال ظن أنا لن نضيق عليه الحبس كقوله { فقدر عليه رزقه } [ الفجر : ١٦ ] أي ضيق وقرأ بعضهم { فظن أن لن نقدر عليه } بالتشديد فهو من التقدير وقراءة العامة بالتخفيف { فنادى في الظلمات } يعني في ظلمات ثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر ظلمة بطن الحوت { أن لا إله إلا أنت } أي ليس أحد له سجن كسجنك { سبحانك } إني تبت إليك { إني كنت من الظالمين } لنفسي

٨٨

قال اللّه عز وجل { فاستجبنا له ونجيناه من الغم } يعني غم الماء في بطن الحوت ويقال من غم الذنب وقد بقي في بطن الحوت أربعين يوما ويقال أقل من ذلك

ثم قال { وكذلك ننجي المؤمنين } قرأ عاصم في رواية أبي بكر وإبن عامر في إحدى الروايتين { نجي المؤمنين } بنون واحدة وتشديد الجيم وقال الزجاج هو لحن لأن فعل ما لم يسم فاعله لا يكون بغير فاعل وإنما كتب في المصحف بنون واحدة لأن الثانية تخفى مع الجيم وقال أبو عبيد والذي عندنا أنه ليس بلحن وله مخرجان في العربية أحدهما أنه يريد { ننجي } مشددة كقوله { ونجيناه من الغم } ثم يدغم النون الثانية في الجيم والآخر معناه نجي نجاة المؤمنين قال هذه القراءة أحب إلي لأن المصاحف كلها كتبت بنون واحدة وهكذا رأيت في مصحف الإمام عثمان رضي اللّه عنه وقرأ الباقون { ننجي المؤمنين } بنونين

٨٩

قوله عز وجل { وزكريا } يعني واذكر زكريا { إذ نادى ربه } يعني إذ دعا ربه { رب لا تذرني فردا } يعني وحيدا لا وارث لي { وأنت خير الوارثين } يعني أفضل الوارثين

٩٠

قال اللّه عز وجل { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } يعني رحم إمرأته وكانت عقيما لم تلد قط سيئة الخلق فأصلحها اللّه تعالى { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } يعني يبادرون في الطاعات يعني زكريا وامرأته ويحيى عليهما السلام ويقال الأنبياء الذين سبق ذكرهم { ويدعوننا رغبا ورهبا } يعني رغبة فيما عند اللّه من الثواب وهو الجنة { ورهبا } أي فزعا من عذاب اللّه تعالى { وكانوا لنا خاشعين } يعني مطيعين ويقال متواضعين

٩١

قوله عز وجل { والتي أحصنت فرجها } يعني واذكر مريم التي حفظت نفسها من الفواحش { فنفخنا فيها من روحنا } يعني نفخ جبريل عليه السلام في نفسها بأمرنا { وجعلناها وإبنها } يعني لمريم وعيسى عليهما السلام { آية } يعني عبرة { للعالمين } أي لجميع الخلق ويقال آية ولم يقل آيتين لأن شأنهما واحد الآية فيهما بمعنى واحد بغير أب

٩٢

قوله عز وجل { إن هذه أمتكم أمة واحدة } يعني دينكم دين الإسلام دينا واحدا قرأ بعضهم { أمة واحدة } بضم التائين ومعناه إن هذه أمتكم وقد تم الكلام ثم يقول { أمة } يعني هذه أمة واحدة وقرأ العامة بالنصب على معنى التفسير ثم قال { وأنا ربكم فاعبدون } يعني فوحدوني

٩٣

ثم قال { وتقطعوا أمرهم بينهم } يعني تفرقوا فيما بينهم وهم اليهود والنصارى { كل إلينا راجعون } في الآخرة فهذا تهديد للذين تفرقوا في الدين ثم بين ثواب الذين ثبتوا على الإسلام

٩٤

 فقال عز وجل { فمن يعمل من الصالحات } يعني الطاعات { وهو مؤمن } يعني مصدقا بتوحيد اللّه عز وجل { فلا كفران لسعيه } يعني لا يجحد ولا ينسى ثواب عمله والكفران مصدر مثل شكران وغفران { وإنا له كاتبون } يعني حافظين مجازين

٩٥

قوله عز وجل { وحرام على قرية } يعني على قرية فيما مضى { أهلكناها } بالعذاب في الدنيا { أنهم لا يرجعون } إلى الدنيا قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر { وحرم على قرية } بكسر الحاء وبغير ألف وقرأ الباقون { وحرام } بنصب الحاء والألف وحرم وحرام بمعنى واحد كقوله حل وحلال

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقرأ { وحرم } وقال واجب عليهم أن لا يرجع منهم راجع ويقال معناه وحرام على أهل قرية أهلكناها أن يتقبل منهم عمل لأنهم { لا يرجعون } أي لا يتوبون ويقال { لا يرجعون } لا زيادة ومعناه حرام عليهم أن يرجعوا

٩٦

ثم قال عز وجل { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } قرأ إبن عامر { فتحت } بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير وقرأ الباقون بالتخفيف وقرأ عاصم { يأجوج ومأجوج } بالهمز والباقون كلاهما بغير همز { وهم من كل حدب ينسلون } قال مقاتل يعني من كل مكان يخرجون من كل جبل أو أرض أو واد وخروجهم عند قيام الساعة وقال عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه لا يموت واحد منهم إلا ترك من صلبه ألف ذرية فصاعدا

وروى قتادة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهم أنه قال الإنس عشرة أجزاء منهم يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء وجزء واحد سائر الإنس

وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزبعري عن عبد اللّه بن مسعود قال يخرج يأجوج ومأجوج بعد الدجال يموجون في الأرض فيفسدون فيها

ثم قرأ { وهم من كل حدب ينسلون } أي يخرجون فيبعث اللّه تعالى عليهم دابة مثل هذا النغف فتلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون فتنتن الأرض فيرسل اللّه عز وجل ماء فيطهر الأرض منهم

فذلك قوله عز وجل { إذا فتحت يأجوج ومأجوج } يعني أرسلت كقوله { لفتحنا عليهم بركات من السماء } [ الأعراف : ٩٦ ] يعني أرسلنا { وهم من كل حدب } أي من كل أكمة ونشزة من الأرض يخرجون

وقال بعضهم يكون خروجهم قبل الدجال والأصح ما روي عن عبد اللّه بن مسعود

٩٧

قوله عز وجل { واقترب الوعد الحق } يعني قيام الساعة { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا } يعني يقولون يا ويلنا { قد كنا في غفلة } يعني في جهل { من هذا } اليوم ثم ذكروا أن المرسلين كانوا أخبروهم فقالوا { بل كنا ظالمين } يعني قد أخبرونا فكذبناهم

٩٨

قوله عز وجل { إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم } وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه كان يقرأ حطب جهنم

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ حضب جهنم بالضاد وقراءة العامة { حصب } بالصاد يعني رميا في جهنم وكل ما يرمى في جهنم فهو حصب ويقال الحصب هو الحطب بلسان الزنجية ومن قرأ حطب أي كل ما يوقد به جهنم ومن قرأ حضب بالضاد معناه ما يهيج به النار { أنتم لها واردون } أي داخلون

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى قريشا وهم في المسجد مجتمعون وثلاثمائة وستون صنما مصفوفة وصنم كل قوم بحيالهم فقال { إنكم وما تعبدون من دون اللّه } يعني من هذه الأصنام في النار ثم انصرف عنهم فشق ذلك عليهم مشقة عظيمة شديدة وأتاهم عبد اللّه بن الزبعري وكان شاعرا فقال ما لي أراكم بحال لم أركم عليها فقالوا إن محمدا يزعم أنا وما نعبد في النار فقال لو كنت ها هنا لخصمته فقالوا هل لك أن نرسل إليه فقال نعم فبعثوا إليه فأتاهم فقال له إبن الزبعري أرأيت ما قلت لقومك آنفا أخاص لهم أم عام فقال بل عام كل من عبد من دون اللّه فهو وما عبد في النار قال أرأيت عيسى إبن مريم عليه السلام هذه النصارى تعبده فعيسى والنصارى في النار وهذا عزير تعبده اليهود فعزير واليهود في النار وهذا حي يقال لهم بنو مليح يعبدون الملائكة عليهم السلام فالملائكة وهم في النار فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يجبهم فضج أصحابه وضحكوا فنزل { ولما ضرب إبن مريم مثلا } ونزل في عيسى وعزير والملائكة { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : ١٠١ ]

ويقال إن هذه القصة لا تصح لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أفصح العرب وأنطقهم لسانا وأحضرهم جوابا كما وصف نفسه أنا أفصح العرب فلا يجوز أن يسكت على مثل هذا السؤال ولم يكن السؤال لازما ويقال كان سكوته للإستخفاف لأنه سئل سؤالا محالا لأنه قال { إنكم وما تعبدون من دون اللّه } ولم يقل ومن تعبدون وما لا يقع على النواطق ومن تقع على النواطق ويقال هذا القول يقال لهم يوم القيامة لأنه قال { قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين } يقال لهم عند ذلك { إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم }

فإن قيل ما الحكمة في إدخال الأصنام في النار قيل زيادة عقوبة للكفار لأن الأصنام أحجار فيكون الحر فيها أشد ويقال الفائدة في إدخال المعبود النار زيادة ذل وصغار عليهم حيث رأوا معبودهم في النار معهم من غير أن يكون للأصنام عقوبة لأنه لا يجوز التعذيب بذنب غيرهم

٩٩

ثم قال عز وجل { لو كان هؤلاء آلهة } يعني الأصنام { ما وردوها } أي ما دخلوها ومنعوا أنفسهم ومن عبدهم من النار { وكل فيها خالدون } يعني العابد والمعبود

١٠٠

{ لهم فيها زفير } يعني في النار صوتهم مثل نهيق الحمار { وهم فيها لا يسمعون } يعني عيسى وعزيرا عليهما السلام في الجنة لا يسمعون زفيرهم ويقال يعني أن أهل النار لا يسمعون في النار الصوت وذلك حين يقال لهم { إخسئوا فيها ولا تكلمون } فصاروا صما بكما عميا

١٠١

ثم قال عز وجل { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } يعني الذين وجبت لهم منا الجنة وهم عيسى وعزيرا { أولئك عنها مبعدون } يعني منجون من النار

١٠٢

قوله { لا يسمعون حسيسها } يعني صوت جهنم { وهم فيما } يعني في الجنة { إشتهت أنفسهم } يعني تمنت أنفسهم في الجنة { خالدون } يعني دائمين { لا يحزنهم الفزع الأكبر } قال ابن عباس رضي اللّه عنه يعني النفخة الأخيرة ودليله قوله تعالى { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه وكل أتوه داخرين } [ النمل : ٨٧ ] وقال الحسن حين يؤمر بالعبد إلى النار وقال مقاتل إذا ذبح الموت بين الجنة والنار فيأمن أهل الجنة من الموت ويفزع أهل النار فيفزعون حين أيسوا من الموت وقال الكلبي وسعيد بن جبير والضحاك إنه حين وضع الطبق على النار بعد ما أخرج منها من أخرج فيفزعون لذلك فزعا لم يفزعوا لشيء قط وذلك الفزع الأكبر وقال مقاتل وإبن شريح حين يذبح الموت على هيئة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظرون فينادى يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت وقال ذو النون المصري هو القطيعة والفراق ويقال إنه الموت لأن أول هول يراه الإنسان من أمر الآخرة هو الموت ويقال الفزع الأكبر عند قوله { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } [ يس : ٥٩ ] ويقال هذا حين دعوا إلى الحساب ويقال عند الصراط

١٠٣

ثم قال تعالى { وتتلقاهم الملائكة } يعني يوم القيامة لأهل الجنة قال مقاتل يعني الملائكة الذين كتبوا أعمال نبي آدم حين خرجوا من قبورهم فيقولون للمؤمنين { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } في الجنة وقال الكلبي تتلقاهم الملائكة عند باب الجنة ويبشرونهم بذلك ويقولون { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } في الدنيا

١٠٤

قوله عز وجل { يوم نطوي السماء } يعني واذكر يوم نطوي السماء { كطي السجل للكتب } قال السدي السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ويقال السجل الصحيفة ويقال السجل الكاتب

وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال السجل كان كاتب النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره اللّه عز وجل أنه يطوي السماء يوم القيامة كما يطوي السجل الكتاب قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { للكتب } بلفظ الجماعة وقرأ الباقون { للكتاب } بلفظ الوحدان وقرأ أبو حفص المدني { تطوى السماء } بالتاء والضم على فعل ما لم يسم فاعله وقراءة العامة { نطوي السماء } بالنون والنصب وقرأ بعضهم { السجل } بجزم الجيم والتخفيف وقراءة العامة بكسر الجيم والتشديد

ثم إستأنف الكلام فقال تعالى { كما بدأنا أول خلق نعيده } يعني كما خلقهم في الدنيا يعيدهم في الآخرة ويقال كما بدأناهم شقيا وسعيدا في الدنيا فكذلك يكونون في الآخرة ويقال كما بدأنا أول خلق من نطفة في الدنيا نعيده أي تمطر السماء أربعين يوما كمني الرجل فينبتون فيه { وعدا علينا } يعني وعدنا البعث صدقا وحقا لا خلف فيه كقوله { لا ريب فيها } [ السجدة : ٢ ] { وعدا } صار نصبا للمصدر { إنا كنا فاعلين } بهم أي باعثين بعد الموت

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إنكم تحشرون يوم القيامة عراة حفاة عزلا بهما ثم قال { كما بدأنا أول خلق نعيده }

١٠٥

ثم قال عز وجل { ولقد كتبنا في الزبور } يعني في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكل كتاب زبور { من بعد الذكر } يعني من بعد اللوح المحفوظ ويقال الذكر التوراة يعني كتبنا في الإنجيل والزبور والفرقان من بعد التوراة أي بينا في هذه الكتب { أن الأرض }

يعني أرض الجنة { يرثها عبادي الصالحون } يعني ينزلها عبادي المؤمنون وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ومقاتل رضي اللّه عنه ويقال إن { الأرض } يعني الأرض المقدسة { يرثها } أي ينزلها بنو إسرائيل ويقال يعني أرض الشام يرثها أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ويقال جميع الأرض تكون في آخر الزمان كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها

١٠٦

قوله عز وجل { إن في هذا } القرآن { لبلاغا } إلى الجنة { لقوم عابدين } أي موحدين ويقال في القرآن لبلاغا بلغهم من اللّه عز وجل لقوم مطيعين وعن كعب أنه قال إنهم أهل الصلوات الخمس

١٠٧

قوله عز وجل { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } يعني وما بعثناك يا محمد إلا رحمة للعالمين يعني نعمة للجن والإنس ويقال { للعالمين } أي لجميع الخلق لأن الناس كانوا ثلاث أصناف مؤمن وكافر ومنافق وكان رحمة للمؤمنين حيث هداهم طريق الجنة ورحمة للمنافقين حيث أمنوا القتل ورحمة للكافرين بتأخير العذاب

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من آمن باللّه ورسوله فله الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن باللّه ورسوله عوفي أن يصيبه ما كان يصيب الأمم قبل ذلك فهو رحمة للمؤمنين والكافرين وذكر في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام يقول اللّه عز وجل { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فهل أصابك من هذه الرحمة قال نعم أصابني من هذه الرحمة أني كنت أخشى عاقبة الأمر فآمنت بك لثناء أثنى اللّه تعالى علي بقوله عز وجل { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } [ التكوير : ٢٠ ]

١٠٨

قوله عز وجل { قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } أي ربكم رب واحد { فهل أنتم مسلمون } أي مخلصون بالتوحيد ويقال مخلصون بالعبادة اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الأمر يعني أسلموا

١٠٩

ثم قال { فإن تولوا } يعني فإن أعرضوا عن الإيمان { فقل آذنتكم } يعني أعلمتكم { على سواء } أي على بيان علانية غير سر ويقال أعلمتكم بالوحي الذي يوحى إلي لنستوي في الإيمان به ويقال معناه أعلمتكم فقد صرت أنا وأنتم على سواء وهذا من الإختصار

١١١

ثم قال { وإن أدري } يعني وما أدري { أقريب أم بعيد ما توعدون } من نزول العذاب بكم في الدنيا فقل لهم { إنه يعلم الجهر من القول } يعني العلانية من القول { ويعلم ما تكتمون } يعني ما تسرون من التكذيب بالعذاب

ثم قال عز وجل { وإن أدري } يعني وما أدري { لعله فتنة لكم } يعني لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا فتنة لكم لأنهم كانوا يقولون لو كان حقا لنزل بنا العذاب { ومتاع إلى حين } أي بلاغ إلى منتهى آجالكم يعني تعيشون إلى الموت

١١٢

قوله عز وجل { قال رب أحكم بالحق } يعني إقض بيني وبين أهل مكة بالعدل ويقال بالعذاب { وربنا الرحمن } أي العاطف على خلقه بالرزق { المستعان على ما تصفون } يعني أستعين به على ما تقولون وتكذبون ويقال المطلوب منه العون والنصرة

وروي عن الضحاك أنه قرأ { قل رب أحكم بالحق } على معنى الخبر على ميزان أفعل يعني هو أحكم الحاكمين قال لأنه لا يجوز أن يسأل أن يحكم بالحق وهو لا يحكم إلا بالحق وقراءة العامة { قل رب أحكم } على معنى السؤال معناه أحكم بحكمك ثم يخبر عن ذلك الحكم أنه حق قرأ عاصم في رواية حفص { قال رب أحكم } على معنى الحكاية وقرأ الباقون { قل رب أحكم } وقرأ إبن عامر في إحدى الروايتين { على ما يصفون } بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ حمزة { الزبور } بضم الزاي وقرأ الباقون { الزبور } بالنصب واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي المختار وعلى آله وصحابته الأطهار

﴿ ٠