سورة الحج

مكية وهي سبعون وخمس آيات مكية وثلاث آيات مدنية

١

قول اللّه سبحانه وتعالى { يا أيها الناس إتقوا ربكم } يقول أطيعوا ربكم ويقال إخشوا ربكم { إن زلزلة الساعة } يعني قيام الساعة { شيء عظيم } يقول هولها عظيم والزلزلة والزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة من قولهم زلت قدمه إذا زالت عن الجهة سرعة

٢

ثم وصف ذلك اليوم فقال { يوم ترونها تذهل } أي تشتغل { كل مرضعة عما أرضعت } يعني ذات ولد رضيع ويقال تحير كل والدة عن ولدها { وتضع كل ذات حمل حملها } أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم

وروى منصور عن إبراهيم عن علقمة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } قال هذا بين يدي الساعة وقال مقاتل وذلك قبل النفخة الأولى ينادي ملك من السماء يا أيها الناس أتى أمر اللّه فيسمع الصوت أهل الأرض جميعا فيفزعون فزعا شديدا ويموج بعضهم في بعض فيشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير وتضع الحوامل ما في بطونها وتزلزلت الأرض وطارت القلوب وعن سعيد بن جبير أنه قال إنما هو عند النفخة الأولى التي هي الفزع الأكبر ويقال هو يوم القيامة

وقال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبيد اللّه قال حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمران بن الحصين قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مسير فنزلت عليه هذه { يا أيها الناس إتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتدرون أي يوم ذلك قالوا اللّه ورسوله أعلم قال ذلك يوم يقول اللّه عز وجل لآدم عليه السلام قم فابعث بعث أهل الجنة قال فيقول آدم وما بعث أهل الجنة يقول من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون في النار وواحد في الجنة قال فأنشأ القوم يبكون فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم إنه لم يكن نبي

قط إلا كانت قبله جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن لم يكن كمل العدد من الجاهلية أخذ من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع وكالشامة في جنب البعير

ثم قال عليه الصلاة والسلام إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا

ثم قال إن معكم الخليقتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن مات من كفرة الجنة والإنس

وروى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يقول اللّه تعالى لآدم قم فابعث أهل النار فقال يا رب وما بعث أهل النار فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فعند ذلك يشيب الصغير وتضع الحامل ما في بطنها ويقال هذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه حامل ولا صغير ولكنه بين هول ذلك اليوم أنه لو كان حاملا لوضعت حملها من شدة ذلك اليوم

ثم قال عز وجل { وترى الناس سكارى } من الهول أي كالسكارى { وما هم بسكارى } يعني وما هم بسكارى من الشراب { ولكن عذاب اللّه شديد } قرأ حمزة والكسائي { وترى الناس سكرى وما هم بسكرى } بغير ألف وقرأ الباقون { سكارى وما هم بسكارى } كلاهما بالألف

وروي عن إبن مسعود وحذيفة رضي اللّه عنهما أنهما قرأ { سكرى } وهو إختيار أبي عبيدة

وروي عن أبي زرعة أنه قرأ على الربيع بن خثيم { وترى } بضم التاء وقراءة العامة بالنصب

٣

قوله عز وجل { ومن الناس من يجادل في اللّه } يعني يخاصم في اللّه يعني في

وحدانيته ويقال في دين اللّه { بغير علم } يعني بغير حجة ويقال { بغير علم } يعلمه وهو النضر بن الحارث وأصحابه { ويتبع كل شيطان مريد } يعني يطيع ويعمل بأمر كل { شيطان مريد } متمرد في معصية اللّه عز وجل ويقال معناه ويتبع ما سول له الشيطان والمريد الفاسد يقال مرد الشيء إذا بلغ في الشر غايته ويقال مرد الشيء إذا جاوز حد مثله

٤

ثم قال عز وجل { كتب عليه } أي قضي عليه يعني الشيطان { أنه من تولاه } يعني من تبع الشيطان { فإنه يضله } عن الهدى { ويهديه } أي يدعوه { إلى عذاب السعير } أي إلى عمل عذاب النار

٥

قوله عز وجل { يا أيها الناس } يعني يا كفار مكة { إن كنتم في ريب } يعني في شك { من البعث } بعد الموت فانظروا إلى بدء خلقكم { فإنا خلقناكم من تراب } يعني من آدم عليه السلام وآدم من تراب { ثم من نطفة ثم من علقة } قيل إنما نقلناكم من حال إلى حال من خلقة إلى خلقة { ثم من مضغة } مثل قطعة كبد { مخلقة } أي تامة { وغير مخلقة } يعني غير تامة وهو السقط ويقال مصورة وغير مصورة { لنبين لكم } بدء خلقكم ويقال يخرج السقط من بطن أمه مصورا أو غير مصور { لنبين لكم } بدء خلقكم كيف نخلقكم في بطون أمهاتكم ويقال { لنبين لكم } في القرآن أنكم كنتم كذلك { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا يكون سقطا { إلى أجل مسمى } يعني إلى وقت خروجه من بطن أمه ويقال إلى وقت معلوم لتسعة أشهر { ثم نخرجكم طفلا } من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا وقال القتبي لم يقل أطفالا لأنهم لم يخرجوا من أم واحدة ولكنه أخرجهم من أمهات شتى فكأنه قال يخرجكم طفلا طفلا

{ ثم لتبلغوا أشدكم } يعني ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة ويقال إلى ست وثلاثين سنة والأشد هو الكمال في القوة والخير { ومنكم من يتوفى } يعني من قبل أن يبلغ أشده { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } يعني أضعف العمر وهو الهرم ويقال يعني يرجع إلى أسفل العمر يعني يذهب عقله { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } يعني لكيلا يعقل بعد عقله الأول

ثم دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض فقال تعالى { وترى الأرض هامدة } يعني ميتة يابسة جافة ذات تراب { فإذا أنزلنا عليها الماء } يعني المطر { إهتزت } يعني تحركت بالنبات كقوله عز وجل { فلما رآها تهتز } [ النمل : ١٠ ] يعني تتحرك ويقال { إهتزت } أي إستبشرت { وربت } يعني إنتفخت بالنبات وأصله من ربا يربو وهو الزيادة { وأنبتت من كل زوج } يعني من كل صنف من ألوان النبات { بهيج } أي حسنا يبهج به فدلهم للبعث بإحياء الأرض ليعتبروا ويعلموا بأن اللّه هو الحق وعبادته هي الحق وغيره من الآلهة باطل

٦

 { ذلك بأن اللّه هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } أي قادر على كل شيء من البعث وغيره

٧

قوله عز وجل { وأن الساعة آتية } أي تعلموا أن الساعة { آتية } أي كائنة أي جائية { لا ريب فيها } أي لا شك فيها عند المؤمنين وعند كل من له عقل وذهن { وأن اللّه يبعث من في القبور }

٨

قوله عز وجل { ومن الناس من يجادل في اللّه } يعني يخاصم في دين اللّه عز وجل { بغير علم } أي بلا بيان وحجة { ولا هدى } يعني ولا دليل واضح من المعقول { ولا كتاب منير } يعني ولا كتاب منزل مضيء فيه حجة

٩

{ ثاني عطفه } يعني لاويا عنقه عن الإيمان وهو على وجه الكناية ومعناه يجادل في اللّه بغير علم متكبرا ويقال { ثاني عطفه } يعني معرضا عن طاعة ربه { ليضل عن سبيل اللّه } قرأ إبن كثير وأبو عمرو { ليضل } بنصب الياء يعني ليعرض عن دين اللّه عز وجل وقرأ الباقون بالضم يعني ليصرف الناس عن دين الإسلام

١٠

قال اللّه تعالى { له في الدنيا خزي } يعني النضر بن الحارث قتل يوم بدر صبرا { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } يعني عذاب النار فأخبر اللّه تعالى أن ما أصابه في الدنيا من الخزي لم يكن كفارة لذنوبه

ثم قال عز وجل { ذلك } يعني ذلك العذاب أي يقال له يوم القيامة هذا العذاب { بما قدمت يداك } يعني بما عملت يداك وذكر اليدين كناية يعني ذلك العذاب لكفرك وتكذيبك { وأن اللّه ليس بظلام للعبيد } يعني لا يعذب أحدا بغير ذنب

١١

قوله عز وجل { ومن الناس من يعبد اللّه على حرف } أي على شك وعلى وجه الرياء ولا يريد به وجه اللّه تعالى ويقال على شك والعرب تقول أنت على حرف أي على شك ويقال { على حرف } بلسانه دون قلبه

وروي عن الحسن أنه قال { يعبد اللّه على حرف } أي على إيمان ظاهر وكفر باطن ويقال { على حرف } أي على إنتظار الرزق وهذه الآية مدنية نزلت في أناس من بني أسد أصابتهم شدة شديدة فاحتملوا العيال حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأغلوا الأسعار بالمدينة

{ فإن أصابه خير إطمأن به } يعني إن أصابه سعة وغنيمة وخصب إطمأن به وقال نعم الدين دين محمد صلى اللّه عليه وسلم { وإن أصابته فتنة } أي بلية وضيق في المعيشة { إنقلب على وجهه } أي رجع إلى كفره الأول وقال بئس الدين دين محمد صلى اللّه عليه وسلم { خسر الدنيا والآخرة } أي غبن الدنيا والآخرة في الدنيا بذهاب ماله وفي الآخرة بذهاب ثوابه ويقال { خسر الدنيا والآخرة } لأنه لم يدرك ما طلب من المال وفي الآخرة بذهاب الجنة وروي عن حميد أنه كان يقرأ { خاسر } بالألف وقراءة العامة { خسر } بغير ألف { ذلك هو الخسران المبين } يعني الظاهر البين

١٢

قوله عز وجل { يدعوا من دون اللّه } يعني يعبد من دون اللّه { ما لا يضره } إن لم يعبده يعني الصنم { وما لا ينفعه } إن عبده { ذلك هو الضلال البعيد } يعني الخطأ البين ويقال في خطأ طويل بعيد عن الحق

١٣

{ يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه } يعني لمن إثمه وعقوبته أكثر من ثوابه ومنفعته ويقال ضره في الآخرة أكثر من نفعه في الدنيا فإن قيل لم يكن في عبادته نفع البتة فكيف يقال من نفعه ولا نفع له قيل له إنما قال هذا على عاداتهم وهم يقولون لشيء لا منفعة فيه ضره أكثر من نفعه كما يقولون لشيء لا يكون هذا بعيد كما قالوا { أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } [ ق : ٣ ]

ثم قال تعالى { لبئس المولى } يعني بئس الصاحب { ولبئس العشير } يعني بئس الخليط ويقال معناه من كانت عبادته عقوبة عليه فبئس المعبود هو

١٤

ثم ذكر ما أعد اللّه تعالى لأهل الصلاح والإيمان فقال عز وجل { إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن اللّه يفعل ما يريد } يعني يحكم في خلقه ما يشاء من السعادة والشقاوة

١٥

قوله تعالى { من كان يظن أن لن ينصره اللّه } الهاء كناية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ويجوز في اللغة الإضمار في الكناية وإن لم تكن مذكورة إذا كان الأمر ظاهرا كقوله تعالى { ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : ٤٥ ] يعني على ظهر الأرض وكقوله عز وجل { حتى توارت بالحجاب } [ ص : ٣٢ ] يعني الشمس ومعناه من كان يظن أن لن ينصر اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالغلبة والحجة { في الدنيا و } الشفاعة في { الآخرة } { فليمدد بسبب إلى السماء } يعني فليربط بحبل من سقف البيت لأن كل ما علاك فهو سماء { ثم ليقطع } يعني ليختنق { فلينظر هل يذهبن كيده } أي إختناقه { ما يغيظ } معناه هل ينفعه ذلك قال ابن عباس نزلت الآية في نفر من أسد وغطفان فقالوا نخاف أن لن ينصر اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فيقطع ما بيننا وبين حلفائنا من المودة يعني اليهود وقال القتبي كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون ما وعد لهم من النصرة وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون أن لا يتم لهم أمره فنزل { من كان يظن أن لن ينصره اللّه } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم بعدما سمعوا منه النصرة والإظهار ولكن كلام العرب على وجه الإختصار يعني إن لم تثق بما أقول لك فاذهب فاختنق أو إجتهد جهدك

قال وفيه وجه آخر وهو أن يكون ها هنا السماء بعينها لا السقف فكأنه قال { فليمدد بسبب إليها } أي بحبل وليرتق فيه ثم ليقطع الحبل حتى يخر فيهلك فلينظر هل ينفعه كقوله عز وجل { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن إستطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء } [ الأنعام : ٣٥ ] وقال أبو عبيدة { من كان يظن أن لن ينصره اللّه في الدنيا والآخرة } يعني أن لن يرزقه اللّه وذهب إلى قول العرب أرض منصورة أي ممطورة فكأنه قال من كان قانطا من رزق اللّه ورحمته فليفعل ذلك { فلينظر هل يذهبن كيده } أي حيلته ما يغيظ أي غيظه لتأخير الرزق عنه وقال الزجاج { من كان يظن أن لن ينصره اللّه } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم حتى يظهره اللّه على الدين كله فليمت غيظا

١٦

ثم قال عز وجل { وكذلك أنزلناه } أي جبريل عليه السلام بالقرآن { آيات بينات } يعني واضحات بالحلال والحرام { وأن اللّه يهدي من يريد } يعني يرشد إلى دينه من كان أهلا لذلك فيوفقه لذلك وهذا كقوله { واللّه يدعوا إلى دار السلام } [ يونس : ٢٥ ]

١٧

قوله عز وجل { إن الذين آمنوا } يعني أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ومن كان مثل حالهم { والذين هادوا } يعني مالوا عن الإسلام يعني اليهود { والصابئين } وقد ذكرناه من قبل { والنصارى } وقد ذكرناه من قبل { والمجوس } يعني عبدة النيران { والذين أشركوا } يعني عبدة الأوثان والأديان ستة فواحد للّه تعالى والخمسة للشيطان { إن اللّه يفصل بينهم } يعني يقضي ويحكم بينهم { يوم القيامة } بين هذه الأديان الستة

وقال بعضهم إن الفاء مضمرة في الكلام ومعناه فإن اللّه يفصل بينهم على معنى جواب الشرط ويقال جوابه في قوله { فالذين كفروا }

ثم قال { إن اللّه على كل شيء شهيد } من أعمالهم

١٨

ثم قال عز وجل { ألم تر } يعني ألم تعلم ويقال ألست تعلم ويقال ألم تخبر في الكتاب { أن اللّه يسجد له من في السموات } من الملائكة { ومن في الأرض } من الخلق { والشمس والقمر والنجوم والجبال } قال مقاتل سجود هؤلاء حين تغرب الشمس تحت العرش ويقال سجودها دورانها { و } سجود { الشجر والدواب } إذا تحول ظل كل شيء فهو سجوده { وكثير من الناس } أي المؤمنين { وكثير حق عليه العذاب } أي وجب عليه العذاب بترك سجودهم في الدنيا ويقال { وكثير حق عليه العذاب } سجودهم ظلهم ويقال يسجد أي يخضع وفيه آية الخلق فهو سجودهم { ومن يهن اللّه فما له من مكرم } يعني من قضى اللّه عز وجل عليه بالشقاوة فما له من مسعد { إن اللّه يفعل ما يشاء } يعني يحكم ما يشاء في خلقه من الإهانة والإكرام

١٩

قوله عز وجل { هذان خصمان } يعني أهل دينين { إختصموا في ربهم } يعني إحتجوا في دين ربهم قال أبو ذر الغفاري رضي اللّه عنه نزلت هذه الآية في الذين بارزوا يوم بدر يعني حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث من المؤمنين رضي اللّه عنهم وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة من المشركين يعني أن المؤمنين يخاصمون الكفار ويجاهدونهم ويقاتلونهم ثم بين مصير كلا الفريقين بقوله { فالذين كفروا } وقال مجاهد { هذان خصمان } يعني المؤمن والكافر إختصما في البعث فالكافر { قطعت } له { ثياب من نار } والمؤمن يدخله { جنات تجري من تحتها الأنهار } وقال عكرمة { هذان خصمان إختصموا } أي إختصمت الجنة والنار فقالت الجنة خلقت للرحمة وقالت النار خلقت للعذاب

وروي عن ابن عباس أنه قال { هذان خصمان } وذلك أن اليهود قالوا كتابنا أسبق ونبينا أفضل وقالت النصارى نبينا كان يحيي الموتى وهو أفضل من نبيكم فنحن أولى باللّه وقال المؤمنون نحن آمنا باللّه وبجميع الأنبياء عليهم السلام وبجميع الكتب وأنتم كفرتم ببعض الرسل وببعض الكتب فديننا أولى من دينكم فنزل { هذان خصمان } الآية وقال { هذان خصمان إختصموا } ولم يقل إختصما لأن كل واحد من الخصمين جمع قرأ إبن كثير { هذان } بتشديد النون وقرأ الباقون بالتخفيف وفي الآية دليل أن الكفر كله ملة واحدة لأنه ذكر ستة أصناف من الأديان

ثم قال { هذان } ثم بين مصير كلا الفريقين فقال { فالذين كفروا } أي جحدوا بالقرآن وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم { قطعت لهم ثياب من نار } يعني هيئت لهم قمص من نار ويقال نحاس { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } قال مقاتل يضرب الملك رأسه بالمقمع فيثقب رأسه ثم يصب فيه الحميم الذي قد إنتهى حره

٢٠

 { يصهر } به يعني يذاب به { ما في بطونهم والجلود } يعني تنضج الجلود فتسلخ

٢١

 { ولهم مقامع من حديد } يضرب بها هامتهم

٢٢

 { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم } يعني من الغم والشدة التي أدركته ضرب بمقمعة من حديد فيهوي بها كذلك فذلك قوله { أعيدوا فيها } أي ردوا إليها { وذوقوا عذاب الحريق } أي المحرق يعني يقال لهم ذوقوا عذاب النار وهذا الجزاء لأحد الخصمين

٢٣

ثم بين جزاء الخصم الآخر فقال عز وجل { إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها } يعني يلبسون في الجنة { من أساور } يعني أقلبة { من ذهب ولؤلؤا } قرأ نافع وعاصم في رواية حفص { ولؤلؤا } بالهمز والنصب وقرأ عاصم في رواية أبي بكر هكذا إلا أنه لم يهمز الواو الأولى وقرأ الباقون بالهمز والكسر فمن قرأ بالكسر فلأجل من ومن قرأ بالنصب فمعناه يحلون لؤلؤا نصب لوقوع الفعل عليه وهو إختيار أبي عبيد

ثم قال { ولباسهم فيها حرير } أي في الجنة

٢٤

قوله عز وجل { وهدوا إلى الطيب من القول } يعني أرشدوا ويقال دعوا إلى قول التوحيد لا إله إلا اللّه ويقال إلى القرآن { وهدوا إلى صراط الحميد } يعني المحمود في أفعاله وهو دين الإسلام

٢٥

ثم قال عز وجل { إن الذين كفروا } يعني أهل مكة { ويصدون عن سبيل اللّه } يعني صرفوا الناس عن دين الإسلام { والمسجد الحرام } يعني وعن المسجد الحرام وهذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خرج مع أصحابه من الحديبية منعهم المشركون عن المسجد الحرام

ثم وصف المسجد الحرام فقال { الذي جعلناه للناس سواء } يعني عاما للمؤمنين جميعا { العاكف فيه والباد } يعني سواء أهلها المقيم في الحرم ومن دخل مكة من غير أهله ومعناه المقيم والغريب فيه سواء ويقال في تعظيمه وحرمته ويقال { المسجد الحرام } أراد به جميع الحرم المقيم وغيره في حق النزول سواء وقال عمر رضي اللّه عنه يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء ولهذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه إن بيع دور مكة لا يجوز وفي إحدى الروايتين يجوز وهذا قول أبي يوسف والأول قول محمد رحمه اللّه قرأ عاصم في رواية حفص { سواء } بالنصب يعني جعلناه سواء وقرأ الباقون { سواء } بالضم على معنى الإبتداء

ثم قال { ومن يرد فيه بإلحاد } وهو الظلم والميل عن الحق ويقال أصله ومن يرد فيه إلحادا فزيد فيه الباء كما قال { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : ٢٣ ] ويقال من إشترى الطعام بمكة للإحتكار فقد ألحد ثم قال { بظلم } يعني بشرك أو بقتل { نذقه من عذاب أليم } قال الزجاج الإلحاد في اللغة العدول عن القصد وقال مقاتل نزلت الآية في عبد اللّه بن أنيس بن خطل القرشي وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث رجلين أحدهما مهاجري والآخر أنصاري فافتخرا في الأنساب فغضب عبد اللّه بن أنيس فقتل الأنصاري ثم إرتد عن الإسلام وهرب إلى مكة فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة بقتله فقتل قرأ أبو عمرو { والبادي } بالياء عند الوصل وكذلك نافع في رواية ورش وقرأ حمزة والكسائي وإبن عامر بغير ياء في الوصل والقطع وقرأ إبن كثير بالياء في الوصل والقطع وهو الأصل في اللغة ومن أسقطه لأن الكسر يدل عليه

٢٦

قوله عز وجل { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت } قال مقاتل يعني دللنا لإبراهيم موضع البيت فبناه مع إسماعيل عليهما السلام ولم يكن له أثر ولا أساس للبيت لأن البيت كان أيام الطوفان مرفوعا قد رفعه اللّه إلى السماء وهو البيت المعمور وقال الكلبي { وإذ بوأنا لإبراهيم } يعني جعلنا لإبراهيم مكان البيت أي موضع البيت جعله اللّه منزلا لإبراهيم بعث اللّه تعالى سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم فيقول يا إبراهيم إبن على قدري وحيالي فأسس عليها البيت وذهبت السحابة ثم بناه حتى فرغ منه فأوحى اللّه تعالى إليه { أن لا تشرك بي شيئا } وقال أبو قلابة بناه من خمسة أجبل حراء وثبير وطور سيناء ولبنان وجبل أحد وقال الزجاج { وإذ بوأنا } أي جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم والمبوأ المنزل يعني أن اللّه تعالى علم إبراهيم عليه السلام مكان البيت فبناه على أسه القديم وكان البيت قد رفع إلى السماء قال ويروى أن البيت الأول كان من ياقوتة حمراء

وروي عن ابن عباس أنه قال رفع السماء إلى السادسة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك وهو بحيال الكعبة

ثم قال { وطهر بيتي } يعني أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم أن طهر بيتي من النجاسات ومن عبادة الأوثان { للطائفين } يعني لأجل الطائفين بالبيت من غير أهل مكة { والقائمين } يعني المقيمين من أهل مكة { والركع السجود } يعني أهل الصلاة بالآفاق من كل وجه

٢٧

ثم قال اللّه عز وجل { وأذن في الناس بالحج } يعني ناد في الناس وذلك أن إبراهيم صلوات اللّه عليه لما فرغ من بناء الكعبة أمره اللّه تعالى أن ينادي فصعد إبراهيم على أبي قبيس ونادى يا أيها الناس أجيبوا ربكم إن اللّه تعالى قد بنى بيتا وأمركم بأن تحجوه فحجوه وقال مجاهد فقام إبراهيم على المقام فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه من أصلاب الرجال لبيك لبيك قال فإنما يحج من أجاب إبراهيم يومئذ ويقال التلبية اليوم جواب اللّه عز وجل من نداء إبراهيم عن أمر ربه فذلك قوله { يأتوك رجالا } يعني على أرجلهم مشاة { وعلى كل ضامر } يعني على الإبل وغيرها فلا يدخل بعيره ولا غيره الحرم إلا وقد ضمر من طول الطريق

{ يأتين من كل فج عميق } من نواحي الأرض { عميق } يعني بعيد وقال مجاهد الفج الطريق والعميق البعيد وقال إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين وقال ابن عباس ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن اللّه تعالى قال { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر }

قال الفقيه أبو الليث هذا إذا كان بيته قريبا من مكة فإذا حج ماشيا فهو أحسن وأما إذا كان بيته بعيدا فالركوب أفضل

وروي عن أبي حنيفة رحمه اللّه أنه قال الراكب أفضل لأن في المشي يتعب نفسه ويسوء خلقه وإن كان الرجل يأمن على نفسه أن يصبر فالمشي أفضل لأنه روي في الخبر أن الملائكة عليهم السلام تتلقى الحاج فيسلمون على أصحاب المحامل ويصافحون أصحاب البعير والبغال والحمير ويعانقون المشاة

٢٨

ثم قال عز وجل { ليشهدوا منافع لهم } يعني الأجر في الآخرة في مناسكهم ويقال وليحضروا مناحرهم وقضاء مناسكهم { ويذكروا اسم اللّه } يعني ولكي يذكروا اللّه { في أيام معلومات } يعني يوم النحر ويومين بعده

وقال مجاهد وقتادة المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق

وقال سعيد بن جبير كلاهما أيام التشريق ويقال المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق وهو طريق الفقهاء وأشبه بتأويل الكتاب لأنه ذكر في أيام معلومات الذبح وذكر في أيام معدودات الذكر عند الرمي ورخص بتركه في اليوم الآخر بقوله { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } [ البقرة : ٢٠٣ ]

ثم قال { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني ليذكروا إسم اللّه عند الذبح والنحر { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وهو البقر والإبل والغنم

ثم قال { فكلوا منها } يعني من لحوم الأنعام { وأطعموا البائس الفقير } يعني الضرير والزمن والفقير الذي ليس له شيء وقال الزجاج { البائس } الذي أصابه البؤس وهو الشدة

٢٩

قوله عز وجل { ثم ليقضوا تفثهم } يعني مناسكهم وقال مجاهد التفث حلق الرأس وتقليم الأظفار

وروي عن عطاء عن ابن عباس قال التفث الرمي والحلق والتقصير وحلق العانة ونتف الإبط وقص الأظافير والشارب والذبح

وروى نافع عن إبن عمر رضي اللّه عنه قال التفث ما عليه من المناسك

وقال الزجاج التفث لا يعرف أهل اللغة ما هو وإنما عرفوا في التفسير وهو الأخذ من الشارب وتقليم الأظافر والأخذ من الشعر كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال

ثم قال { وليوفوا نذورهم } يقول من كان عليه نذر في الحج والعمرة مما أوجب على نفسه من هدي أو غيره فإذا نحر يوم النحر فقد أوفى بنذره

ثم قال { وليطوفوا بالبيت العتيق } وهو طواف الزيارة بعدما حلق رأسه أو قصر

وقال مقاتل { العتيق } يعني عتق في الجاهلية من القتل والسبي والجراحات وغيرها

وقال الحسن { العتيق } يعني القديم كما قال { إن أول بيت } [ آل عمران : ٩٦ ]

وقال مجاهد عتيق يعني أعتق من الجبابرة ويقال أعتق من الغرق يوم الطوفان وهذا قول الكلبي وقرأ حمزة والكسائي وعاصم { ثم ليقضوا } بجزم اللام وكذلك { وليوفوا } { وليطوفوا } وقرأ أبو عمرو الثلاثة كلها بالكسر بمعنى لام كي وقرأ إبن كثير بكسر اللام الأولى خاصة فمن قرأ بالجزم جعلها أمر الغائب ومن قرأ بالكسر جعله خبرا عطفا على قوله { ليذكروا } وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { وليوفوا } بنصب الواو وتشديد الفاء وقرأ الباقون بالتخفيف من أوفى يوفي والأول من وفى يوفي ومعناهما واحد

٣٠

ثم قال عز وجل { ذلك } يعني هذا الذي ذكر من أمور المناسك ثم قال { ومن يعظم حرمات اللّه } يعني أمر المناسك كلها { فهو خير له عند ربه } يعني أعظم لأجره { وأحلت لكم الأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم وغيره { إلا ما يتلى عليكم } في التحريم في سورة المائدة { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } يعني أتركوا عبادة الأوثان { واجتنبوا } يعني أتركوا { قول الزور } يعني الكذب وهو قولهم هذا حلال وهذا حرام ويقال معناه أتركوا الشرك ويقال أتركوا شهادة الزور

٣١

ثم قال عز وجل { حنفاء للّه } يعني مخلصين بالتلبية للّه تعالى لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ويقال إن هذا القول بالزور الذي أمرهم باجتنابه

ثم قال { غير مشركين به ومن يشرك باللّه فكأنما خر من السماء } أي وقع من السماء { فتخطفه الطير } يعني تختلسه الطير { أو تهوي به الريح } يعني تذهب به الريح { في مكان سحيق } أي بعيد فكذلك الكافر في البعد من اللّه عز وجل ويقال معناه { من يشرك باللّه } فقد ذهب أصله

وقال الزجاج الخطف هو أخذ الشيء بسرعة فهذا مثل ضربه اللّه عز وجل للكافرين في بعدهم من الحق فأخبر أن بعد من أشرك من الحق كبعد من خر من السماء فذهبت به الطير وهوت به الريح في مكان { سحيق } يعني بعيد قرأ نافع { فتخطفه الطير } بنصب الخاء والتشديد وقرأ الباقون بالجزم والتخفيف من خطف ومن قرأ بالتشديد فلأن أصله فتخطفه فأدغم التاء في الطاء وألقيت حركة التاء على الخاء

٣٢

ثم قال عز وجل { ذلك } يقول هذا الذي أمر من إجتناب الأوثان { ومن يعظم شعائر اللّه } يعني البدن فيذبح أعظمها وأسمنها

وروي عن ابن عباس أنه قال تعظيمها إستعظامها وأيضا إستسمانها وإستحسانها

ثم قال { فإنها من تقوى القلوب } يعني من إخلاص القلوب ويقال من صفاء القلوب و { شعائر اللّه } معالم اللّه ودينه التي ندب إلى القيام بها وواحدها شعيرة

٣٣

قوله عز وجل { لكم فيها منافع } يعني في البدن وقال مجاهد يعني في ركوبها وشرب ألبانها وأوبارها { إلى أجل مسمى } يعني إلى أجل مسمى بدنا فمحلها إلى البيت العتيق

وروي عن ابن عباس نحو هذا وقد قول بعض الناس إنه يجوز ركوب البدن وقال أهل العراق لا يجوز إلا عند الضرورة ويضمن ما نقصها الركوب وهذا القول أحوط الوجهين { ثم محلها } يعني منحرها { إلى البيت العتيق } يعني في الحرم

وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال جميع فجاج مكة منحر

٣٤

ثم قال عز وجل { ولكل أمة } يعني لكل أهل دين ويقال لكل قوم من المؤمنين فيما خلا { جعلنا منسكا } يعني ذبحا لهراقة دمائهم ويقال مذبحا يذبحون فيه قال الزجاج معناه جعلنا لكل أمة أن تتقرب بأن تذبح الذبائح للّه تعالى قرأ حمزة والكسائي { منسكا } بكسر السين وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالكسر يعني مكان النسك ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر وقال أبو عبيد قرائتنا هي بالنصب لفخامتها

ثم قال { ليذكروا إسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني يذكرون إسم اللّه تعالى عند الذبح { فإلهكم إله واحد } أي ربكم رب واحد { فله أسلموا } أي أخلصوا بالتسمية عند الذبيحة وفي التلبية { وبشر المخبتين } أي المخلصين بالجنة ويقال المجتهدين في العبادة والسكون فيها قال قتادة المخبتون المتواضعون وقال الزجاج أصله من الخبت من الأرض وهو المكان المنخفض ويقال المخبت الذي فيه الخصال التي ذكرها اللّه بعده وه

٣٥

و قوله عز وجل { الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } يعني خافت قلوبهم { والصابرين على ما أصابهم } من أمر اللّه من المرازي والمصائب { والمقيمي الصلاة } يعني يقيمونها بمواقيتها { ومما رزقناهم ينفقون } يعني يتصدقون وينفقون في الطاعة ثم ذكر البدن يعني ينحرون البدن فهذه الخصال الخمسة صفة المخبتين

٣٦

قوله عز وجل { والبدن جعلناها لكم } قرأ بعضهم { والبدن } بضم الدال وقراءة العامة بسكون الدال والمعنى واحد { من شعائر اللّه } يعني جعلنا البدن من مناسك الحج { لكم فيها خير } أي في نحرها أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا { فاذكروا إسم اللّه عليها صواف } يعني قائمة قد صفت قوائمها والآية تدل على أن الإبل تنحر قائمة

وروي عن عبد اللّه بن عمر أنه أمر برجل قد أناخ بعيره لينحره فقال له أنحره قائما فإنه سنة أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم

وروي عن إبن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقرآن { فاذكروا إسم اللّه عليها صوافن } والصوافن التي تقوم على ثلاثة قوائم إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فهو الصافن وجماعته صوافن وقال مجاهد من قرأ صوافن قال قائمة معقولة من قرأها صواف قال يصف بين يديها

وروي عن زيد بن أسلم أنه قرأ { صوافي } بالياء منتصبة ويقال خالصة من الشرك

وروي عن الحسن مثله وقال خالصة للّه تعالى

وهكذا روى عنهما أبو عبيدة وحكى القتبي عن الحسن أنه كان يقرأ { صواف } مثل قاض وغاز أي خالصة للّه تعالى يعني لا يشرك به في حال التسمية على نحرها

ثم قال { فإذا وجبت جنوبها } يعني إذا ضربت بجنبها على الأرض بعد نحرها يقال وجب الحائط إذا سقط ووجب القلب إذا تحرك من الفزع ويقال وجب البيع إذا تم { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } { فالقانع } الراضي الذي يقنع بما أعطي وهو السائل { والمعتر } الذي يتعرض للمسألة ولا يتكلم ويقال { القانع } المتعفف الذي لا يسأل ويقنع بما أرسلت إليه { والمعتر } السائل الذي يعتريك للسؤال

وقال الزهري السنة أن يأكل الرجل من لحم أضحيته قبل أن يتصدق

وروي عن عطاء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ليأكل أحدكم من لحم أضحيته

وروى منصور عن إبراهيم قال كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين بقوله { فكلوا منها } فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه والأفضل أن يتصدق بثلثه على المساكين ويعطي ثلثه للجيران والقرابة أغنياء كانوا أو فقراء ويمسك ثلثه لنفسه

وروي عن إبن مسعود نحو هذا وروي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن { القانع والمعتر } فقال القانع الذي يقنع بما أعطي والمعتر الذي يعتري بالأبواب وقال أما سمعت قول زهير

( على مكثريهم حق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل )

وقال مجاهد القانع جارك وإن كان غنيا ثم قال { كذلك سخرناها لكم } أي ذللناها لكم وهي البدن { لعلكم تشكرون } يعني لكي تشكروا ربكم على هذه النعمة

قوله عز وجل { لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها } وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن عند زمزم أخذوا دماءها ولطخوا بها حول الكعبة وعلقوا لحومها بالبيت وقالوا اللّهم تقبل منا فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك

٣٧

 فنزل { لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها } يعني لن يصل إلى اللّه عز وجل لحومها ولا دماؤها { ولكن يناله التقوى منكم } أي يصل إليه التقوى من أعمالكم الزاكية والنية الخالصة قرأ الحضرمي { لن تنال اللّه } بالتاء لأن لفظ اللحوم مؤنثة ولكن تناله بالتاء لأن لفظ التقوى مؤنث وقراءة العامة بالياء وانصرف إلى المعنى لأن الفعل مقدم

ثم قال { كذلك سخرها لكم } يعني ذللّها لكم { لتكبروا اللّه } يقول لتعظموا اللّه عز وجل { على ما هداكم } يعني أرشدكم لأمر دينه { وبشر المحسنين } بالجنة فمن فعل ما ذكر في هذه الآيات فهو محسن ويقال المحسن الذي يحسن الذبيحة فيختار بغير عيب

٣٨

قوله عز وجل { إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا } يعني يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا فلا ينالون منهم شيئا وقال الزجاج إذا فعلتم هذا وخالفتم أهل الجاهلية فيما يفعلونه في نحرهم وإشراكهم فإن اللّه يدافع عن حزبه ويقال إن أهل مكة آذوا المسلمين قبل الهجرة فاستأذنوا النبي صلى اللّه عليه وسلم في قتالهم في السر فنهاهم اللّه عز وجل عند ذلك

ثم قال عز وجل { إن اللّه يدافع عن الذين آمنوا } يعني يدفع أذاهم عن المسلمين فأمرهم بالصبر قرأ إبن كثير وأبو عمرو { إن اللّه يدفع } بغير ألف وقرأ الباقون { يدافع } بالألف من دافع يدافع بمعنى دفع ثم قال { إن اللّه لا يحب كل خوان } للأمانة { كفور } كفور لربه ولنعمه

وقال أهل اللغة الخوان الفعال من الخيانة وهو المبالغة في الخيانة فمن ذكر إسما غير إسم اللّه تعالى وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور

٣٩

قوله عز وجل { أذن للذين يقاتلون } يعني أذن للمؤمنين بقتال المشركين { بأنهم ظلموا} يعني أذن لهم بالقتال بسبب أنهم ظلموا قرأ عاصم في رواية حفص { أذن } بضم الألف على معنى أذن اللّه للذين يقاتلون بنصب التاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو { أذن } بالضم { يقاتلون } بكسر التاء وقرأ الباقون بالنصب قرأ حمزة والكسائي وإبن كثير { يقاتلون } بالكسر

ثم قال { وإن اللّه على نصرهم لقدير } يعني قادر وكان المشركون لا يزالون يؤذونهم باللسان وباليد فشكوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما هاجروا أمروا بالقتال

٤٠

ثم أخبر عن ظلم كفار مكة فقال عز وجل { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } يعني بلا جرم أجرموا { إلا أن يقولوا ربنا اللّه } يعني لم يخرج كفار مكة المؤمنين بسبب سوى أنهم كانوا يقولون ربنا اللّه فأخرجوهم بهذا السبب ويقال في الآية تقديم ومعناه { أذن للذين يقاتلون } الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللّه { وأن اللّه على نصرهم لقدير }

ثم قال { ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض } بالجهاد وإقامة الحدود وكف الظلم يقول لولا أن يدفع المشركين بالمؤمنين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين { لهدمت صوامع وبيع } ويقال لولا دفع اللّه بالأنبياء عن المؤمنين وبالمؤمنين من غيرهم لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى { وصلوات } يعني كنائس اليهود { ومساجد } المسلمين { يذكر فيها إسم اللّه كثيرا } وقال مجاهد { لولا دفع اللّه تعالى الناس بعضهم ببعض } في الشهادة في الحق لهدمت هذه الصوامع وما ذكر معها وقال الزجاج تأويل هذا ولولا أن دفع اللّه بعض الناس ببعض لهدمت في شريعة كل نبي المكان الذي يصلي فيه لهدم في زمان موسى عليه السلام الكنائس وفي زمن عيسى عليه السلام البيع وفي زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المساجد قرأ نافع { ولولا دفاع اللّه } بالألف وقرأ الباقون بغير ألف وقرأ إبن كثير ونافع { لهدمت } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد على معنى المبالغة والتكثير

ثم قال { ولينصرن اللّه من ينصره } يعني لينصرن بالغلبة على عدوه من ينصره بنبيه صلى اللّه عليه وسلم ويقال { لينصرن اللّه من ينصره } يعني ينصر اللّه من ينصر دينه كما قال في آية أخرى { إن تنصروا اللّه ينصركم } [ محمد : ٧ ]

ثم قال { إن اللّه لقوي عزيز } أي منيع قادر على أن ينصر محمدا صلى اللّه عليه وسلم بغير عونكم

٤١

قوله عز وجل { الذين إن مكناهم في الأرض } يعني إن أنزلناهم بالمدينة وهم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم قوله { أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف } يعني بالتوحيد وإتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم { ونهوا عن المنكر } عن الشرك { وللّه عاقبة الأمور } يعني للّه ترجع عواقب الأمور يعني عاقبة أمور العباد في

الآخرة

٤٢

قوله عز وجل { وإن يكذبوك } يعني إن يكذبوك يا محمد أهل مكة { فقد كذبت قبلهم } يعني قبل قومك { قوم نوح } كذبوا نوحا { وعاد } كذبت هودا { وثمود } كذبوا صالحا

٤٣

 { وقوم إبراهيم } كذبوا إبراهيم { وقوم لوط } كذبوا لوطا { وأصحاب مدين } كذبوا شعيبا { وكذب موسى } يعني كذبه قومه { فأمليت للكافرين } يعني أمهلتهم { ثم أخذتهم } يعني عاقبتهم بعد المهل بالعذاب

٤٤

 { فكيف كان نكير } يعني كيف رأيت تغييري عليهم وإنكاري يعني أليس قد وجدوا حقا فكذلك كفار مكة تصيبهم العقوبة كما أصابهم

٤٥

ثم قال عز وجل { فكأين من قرية } يعني وكم من أهل قرية { أهلكناها } يعني أهلكنا أهلها { وهي ظالمة } أي كافرة { فهي خاوية على عروشها } يعني ساقطه حيطانها على سقوفها { وبئر معطلة } يعني خالية ليس عندها ساكن { وقصر مشيد } يعني طويلا في السماء ويقال معناه كم من بئر معطلة عطلها أربابها وليس عليها أحد يستقي { وقصر مشيد } يعني كم من حصن طويل مشيد ليس فيه ساكن ويقال المشيد هو المبنى بالشد وهو الجص وهو المشيد سواء أي المطول قرأ أبو عمرو { أهلكتها } بالتاء وقرأ الباقون { أهلكناها } بلفظ وهو الجماعة وقرأ نافع في رواية ورش وأبو عمرو في إحدى الروايتين { وبير } بالتخفيف وهي لغة لبعض العرب وقرأ الباقون بالهمز وهي اللغة المعروفة

٤٦

ثم قال عز وجل { أفلم يسيروا في الأرض } يعني أو لم يسافروا في الأرض فيعتبروا { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } يعني فتصير لهم قلوب بالنظر والعبرة لو كانوا يعقلون بها { أو آذان يسمعون بها } التخويف { فإنها } أي النظرة بغير عبرة ويقال كلمة الشرك { لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } يعني العقول التي في الصدور وذكر وذكر الصدر للتأكيد

٤٧

ثم قال عز وجل { ويستعجلونك بالعذاب } هو النضر بن الحارث { ولن يخلف اللّه وعده } في العذاب { وإن يوما عند ربك } يعني إن يوما من الأيام التي وعد لهم في العذاب { عند ربك } في الآخرة { كألف سنة مما تعدون } في الدنيا

ثم بين لهم العذاب حيث قال { ولن يخلف اللّه وعده } ووصف طول عذابهم ويقال إنه أراد بذلك قدرته عليهم بحال إستعجالهم أنه يأخذهم متى شاء قرأ إبن كثير وحمزة والكسائي { مما يعدون } بالياء وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة

٤٨

ثم قال عز وجل { وكأين من قرية أمليت لها } فلم أعجل عليها العقوبة { وهي ظالمة } أي كافرة { ثم أخذتها } بالعذاب ولكن لم يذكر العذاب لأنه سبق ذكره

ثم قال { وإلي المصير } يعني المرجع في الآخرة

٤٩

قوله عز وجل { يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } يعني رسول مبين أبلغكم بلغة تعرفونها

٥٠

{ فالذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني الطاعات { لهم مغفرة } لذنوبهم { ورزق كريم } حسن في الجنة

٥١

{ والذين سعوا في آياتنا } يعني عملوا في القرآن بالتكذيب { معاجزين } قرأ إبن كثير وأبو عمرو { معجزين } بغير ألف والتشديد في جميع القرآن وقرأ الباقون بالألف والتخفيف فمن قرأ { معجزين } أي يعجزون من إتبع النبي صلى اللّه عليه وسلم ويثبطونهم ومن قرأ { معاجزين } أي ظانين أنهم يعجزوننا لأنهم يظنون أنهم لا يبعثون وقيل { معاجزين } أي معاندين ومعناه ليسوا بفائتين { أولئك أصحاب الجحيم } يعني النار

٥٢

قوله عز وجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى } أي حدثت نفسه { ألقى الشيطان في أمنيته } أي في حديثه ويقال تمنى أي قرأ كما قال القائل

( تمنى كتاب اللّه أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر )

وقال آخر

( تمنى داود الزبور على الرسل )

{ ألقى الشيطان في أمنيته } أي في تلاوته { فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان } يعني يذهب اللّه به ويبطله { ثم يحكم اللّه آياته } يعني بين اللّه عز وجل الناسخ من المنسوخ قال ابن عباس في رواية أبي صالح أتاه الشيطان في صورة جبريل وهو يقرأ سورة { والنجم إذا هوى } [ النجم : ١ ] عند الكعبة حتى إنتهى إلى قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : ١٩ - ٢٠ ] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فلما سمعه المشركون يقرأ ذلك أعجبهم فلما إنتهى إلى آخرها سجد وسجد المسلمون والمشركون معه فلما فأتاه جبريل عليه السلام فقال ما جئتك بهذا فنزل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الآية

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا أبو عاصم عن عمار بن الأسود عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { ومناة الثالثة الأخرى }

ثم قال تلك الغرانيق العلى وإن الشفاعة منها ترتجى فقال المشركون قد ذكر آلهتنا في أحسن الذكر فنزلت الآية

وقال مقاتل قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم والنجم بمكة عند مقام إبراهيم فنعس فقرأ تلك الغرانيق العلى فلما فرغ من السورة سجد وسجد من خلفه فنزل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } وقال قتادة لما ألقى الشيطان ما ألقى قال المشركون قد ذكر اللّه آلهتنا بخير ففرحوا بذلك فذلك قوله { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض }

روى أسباط عن السدي قال خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد فقرأ سورة النجم فلما إنتهى إلى قوله { ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : ٢٠ ] فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى حتى بلغ إلى آخر السورة سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه وأسندوا به بين قطري مكة حتى إذا جاءه جبريل عليه السلام عرض عليه فقرأ عليه الحرفين فقال جبريل عليه السلام معاذ اللّه أن أكون أقرأتك هذا واشتد عليه فأنزل اللّه تعالى لتطييب نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأخبره أن الأنبياء عليهم السلام قبله قد كانوا مثله

ويقال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل المسجد وجلس عنده جماعة من المشركين فتمنى في نفسه أن لا يأتيه من اللّه شيء ينفرون منه فابتلاه اللّه تعالى بما ألقى الشيطان في أمنيته

وقال بعضهم تمنى أي تفكر وحدث بنفسه تلك الغرانيق العلى ولم يتكلم به لأن قول النبي صلى اللّه عليه وسلم كان حجة فلا يجوز أن يكون يجري على لسانه كلمة الكفر

وقال بعضهم لما رآه الشيطان يقرأ خلط صوته بصوت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقرأ الشيطان تلك الغرانيق فظن الناس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن قرأها

وقال بعضهم قال ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على وجه التعيير والزجر يعني أنكم تعبدونها كأنهن الغرانيق العلى كما قال إبراهيم عليه السلام { فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : ٦٣ ] وقال الزجاج ألقى الشيطان في تلاوته فذلك محنة يمتحن اللّه تعالى بها من يشاء فجرى على لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم شيء من صفة الأصنام فافتتن بذلك أهل الشقاوة والنفاق

وروي عن سفيان بن عيينة وعن عمرو بن دينار أن ابن عباس كان يقرأ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث والمحدث الذي يرى أمره في منامه من غير أن يأتيه الوحي

ثم قال { واللّه عليم } بما ألقى الشيطان { حكيم } حكم بالناسخ وبين

٥٤

 قوله عز وجل { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة } يعني بلية { للذين في قلوبهم مرض } أي شك { والقاسية قلوبهم } يعني الذين قست قلوبهم عن ذكر اللّه وهم المشركون { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } عن الحق يعني المشركين في خلاف طويل عن الحق

ثم ذكر المؤمنين فقال { وليعلم الذين أوتوا العلم } يعني الذين أكرموا بالتوحيد والقرآن ويقال هم مؤمنو أهل الكتاب { أنه الحق من ربك } يعني القرآن { فيؤمنوا به } أي فيصدقوا به ويقال لكي يعلموا أن ما أحكم اللّه في آياته حق وأن ما ألقى الشيطان باطل ويزداد لهم يقين وبيان فذلك قوله { فيؤمنوا به } أي يثبتوا به على إيمانهم { فتخبت له قلوبهم } يعني فتخلص له قلوبهم { وإن اللّه لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } يعني إن اللّه عز وجل لحافظ قلوب المؤمنين في هذه المحنة حتى لم ينزع المعرفة من قلوبهم عند إلقاء الشيطان

٥٥

ثم قال عز وجل { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي في شك منه يعني من القرآن { حتى تأتيهم الساعة بغتة } يعني فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } لا فرح فيه ولا راحة ولا رحمة ولا رأفة وهو عذاب يوم القيامة وقال السدي وقتادة { يوم عقيم } يوم بدر ويقال إنما سمي { يوم عقيم } لأنه أعقم كثيرا من النساء

وقال عمرو بن قيس { يوم عقيم } يوم القيامة يوم ليس له ليلة ولا بعده يوم والعقيم أصله في اللغة المرأة التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له وكذلك كل شيء لا يكون فيه خير يعني لا يكون للكافرين خير في يوم القيامة كما قال اللّه تعالى { على الكافرين غير يسير } [ المدثر : ١٠ ]

٥٦

ثم وصف ذلك اليوم فقال عز وجل { الملك يومئذ للّه } لا ينازع فيه أحد { يحكم بينهم } يعني يقضي بين الخلق لا حاكم في ذلك اليوم غيره

ثم قال { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني أن حكمه في يوم القيامة أن المؤمنين { في جنات النعيم }

٥٧

قوله عز وجل { الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين } يعني الشدة

ثم قال عز وجل { والذين هاجروا } وذلك أن المسلمين قاتلوا فاستشهدوا فقال الذين لم يستشهدوا وهل لنا أجر

٥٨

فنزل { والذين هاجروا في سبيل اللّه } يعني في طاعة اللّه من مكة إلى المدينة { ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا } يعني يرزقهم الغنيمة في الدنيا لمن لم يموتوا ولم يقتلوا { وإن اللّه لهو خير الرازقين } يعني أفضل الرازقين وأقوى المعطين

٥٩

{ ليدخلنهم مدخلا يرضونه } يعني الجنة إذا قتلوا وماتوا { وإن اللّه لعليم حكيم } حيث لم يعجل بالعقوبة وهذه الآية مدنية

٦٠

قوله عز وجل { ذلك ومن عاقب } قال مقاتل وذلك أن مشركي العرب لقوا المسلمين في الشهر الحرام فكره المسلمون القتال فقاتلهم المشركون فبغوا عليهم فنصر اللّه المسلمين عليهم فوقع في أنفس المؤمنين من القتال في الشهر الحرام فنزل { ذلك ومن عاقب } يقول هذا جزاء من عاقب { بمثل ما عوقب به }

وقال بعضهم { ذلك } يعني ما وصفنا من صفة أهل الجنة وأهل النار فهو كذلك فقد تم الكلام { ومن عاقب } إبتداء الكلام { بمثل ما عوقب به } في الدنيا وقال الكلبي الرجل يقتل له الحميم فله أن يقتل به قاتله

{ ثم بغي عليه لينصرنه اللّه } على من بغى عليه ويقال إذا زاد على القتل لينصرنه اللّه ويقال إن الرجل إذا وجب له القصاص فله أن يقتل أو يأخذ الدية فإن أخذ أكثر من حقه بالقتل وأخذ الدية { ثم بغي عليه } أي ظلم عليه يعني غضب عليه أولياء المقتول باستيفاء حقه فجنوا عليه لينصرنه اللّه أي له أن يطلب بجنايته ويقال له إذا ظلم على ولي المقتول بالإستطالة بالقتل أو بأخذ الدية لينصرنه اللّه بأخذ حقه { إن اللّه لعفو غفور } بقتالهم

٦١

ثم قال عز وجل { ذلك } يعني ذلك القدرة { بأن اللّه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قال مقاتل يعني هذا الذي فعل هو من قدرته

ثم بين قدرته فقال { ذلك بأن اللّه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن اللّه سميع بصير}

٦٢

ثم قال { ذلك } يعني هذا الذي ذكر من صفته وقدرته { بأن اللّه } يعني لعلموا أن اللّه { هو الحق } وأن عبادته الحق { وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } ولا يقدرون على شيء { وأن اللّه هو العلي الكبير } يعني هو أعلى وأكبر من أن يعدل به الباطل قرأ إبن عامر { ثم قتلوا } بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { وأن ما يدعون } بالياء بلفظ المغايبة وقرأ الباقون بالتاء وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر { ليدخلنهم مدخلا } بنصب الميم وقرأ الباقون بالضم

٦٣

ثم قال عز وجل { ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء } يعني المطر { فتصبح الأرض مخضرة } يعني تصير الأرض مخضرة بالنبات ويقال ذات خضرة { إن اللّه لطيف } باستخراج النبات { خبير } أي عليم به وبمكانه

٦٤

ثم قال عز وجل { له ما في السموات وما في الأرض } من الخلق { وإن اللّه لهو الغني } عن الخلق وعن عبادتهم { الحميد } يعني المحمود في أفعاله

٦٥

قوله عز وجل { ألم تر أن اللّه سخر لكم } يعني ذلل لكم { ما في الأرض والفلك تجري } يعني تسير { في البحر بأمره } يعني بإذنه

وروي عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأ { الفلك } بضم الكاف على معنى الإبتداء وقراءة العامة بالنصب لوقوع التسخير عليها يعني سخر لكم الفلك ويقال صار نصبا بالنسق على أن معنى أن الفلك تجري

ثم قال { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } يعني لئلا تقع على الأرض ويقال كراهة أن تقع على الأرض { إلا بإذنه } يعني بأمره يوم القيامة

{ إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم } يعني { رحيم } مع شركهم ومعصيتهم حيث يرزقهم في الدنيا ولم يعاقبهم في العاجل

٦٦

ثم قال عز وجل { وهو الذي أحياكم } يعني خلقكم ولم تكونوا شيئا { ثم يميتكم } في الدنيا { ثم يحييكم } للبعث { إن الإنسان لكفور } أي كفور لنعمه لا يشكره ولا يطيعه

٦٧

قوله عز وجل { لكل أمة } يعني لكل قوم { جعلنا منسكا } يعني مذبحا { هم ناسكوه } يعني ذابحوه وفي منسك من الإختلاف ما سبق { فلا ينازعنك في الأمر } لا يخالفنك في أمر الذبيحة نزلت في قوم من خزاعة قالوا ما ذبح اللّه فهو أحل مما ذبحتم وقال الزجاج المعنى فيه أي فلا يجادلنك ولا تجادلهم والدليل عليه وإن جادلوك ويقال { فلا ينازعنك في الأمر } يعني لا يغلبونك في المنازعة { وادع إلى ربك } يعني أدع الخلق إلى معرفة ربك وإلى توحيد ربك { إنك لعلى هدى مستقيم } على دين مستقيم

٦٨

قوله عز وجل { وإن جادلوك } يعني إن حاججوك في أمر الذبيحة والتوحيد { فقل اللّه أعلم بما تعملون } يعني عالما بأعمالكم فيجازيكم

٦٩

 وذلك قوله { اللّه يحكم بينكم } يقضي بينكم { يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين والذبيحة

٧٠

قال عز وجل { ألم تعلم } يا محمد { أن اللّه يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب } يعني إن ذلك العلم مكتوب في اللوح المحفوظ { إن ذلك في كتاب } أي إن كتابته { على اللّه يسير } يعني هين حال حفظه على اللّه أي كتابته على اللّه يسير

٧١

ثم قال عز وجل { ويعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا } يعني عذر ولا حجة قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين { ما لم ينزل } بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد { وما ليس لهم به علم } يعني ليس لهم بذلك حجة من المعقول { وما للظالمين من نصير } يعني مانع يمنعهم من العذاب

٧٢

ثم قال عز وجل { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يعني يعرض عليهم القرآن { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } يعني الغم والحزن والكراهية { يكادون يسطون } يعني هموا لو قدروا يضربون ويبطشون أشد البطش { بالذين يتلون عليهم آياتنا } يعني يقرؤون عليهم القرآن وقال القتبي { يسطون } يعني يتناولونهم بالمكروه من الضرب والشتم ويقال { يسطون } يعني يفرضون عليهم والسطوة العقوبة

{ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار } يعني بأشد وأسوأ من ضربكم وبطشكم ويقال إنهم كانوا يسخرون من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ورثاثة حالهم قال اللّه تعالى قل لهم يا محمد { أفأنبئكم بشر من ذلك } يعني مما قلتم للمؤمنين قالوا ما هي قال النار { وعدها اللّه الذين كفروا } يعني للكافرين قوله { وبئس المصير } الذي صاروا إليه

٧٣

قوله عز وجل { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } يعني بين ووصف شبه به لآلهتكم أي أجيبوا عنه

وقال بعضهم ليس ها هنا مثل وإنما أراد به قطع الشغب لأنهم كانوا يقولون { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : ٢٦ ] فقال { يا أيها الناس ضرب مثل } فاصغوا إليه إستماعا للمثل فأوقع في أسماعهم عيب آلهتهم فقال { إن الذين تدعون من دون اللّه } ويقال معناه مثلكم مثل من عبد آلهة { لن يخلقوا ذبابا } لن يقدروا على خلق الذباب ويقال المثل في الآية لا غير وهو قوله { إن الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذبابا } أي لن يقدروا أن يخلقوا ذبابا من الذباب في المثل { ولو إجتمعوا له } يعني على تخليقه

ثم ذكر من أمرها ما هو أضعف من خلق الذباب فقال { وإن يسلبهم الذباب شيئا } وذلك أنهم كانوا يلطخون العسل على فم الأصنام فيجيء الذباب فيسلب منها ما لطخوا عليها { لا يستنقذوه منه } أي لا يقدرون أن يستنقذوا من الذباب ما أخذ منهم { ضعف الطالب والمطلوب } يعني الذباب والصنم ويقال ضعف العابد والمعبود

٧٤

قوله عز وجل { ما قدروا اللّه حق قدره } يعني ما عظموا اللّه حق عظمته حين أشركوا به غيره ولم يوحدوه ويقال ما وصفوه حق صفته ويقال ما عرفوه حق معرفته كما ينبغي

وقال ابن عباس نزلت الآية في يهود المدينة حين قالوا خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم إستلقى فاستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى وكذب أعداء اللّه فنزل { ما قدروا اللّه حق قدره } { إن اللّه لقوي } في أمره { عزيز } يعني منيع في ملكه ومعبودهم لا قوة له ولا منفعة ويقال { إن اللّه لقوي } على عقوبة من جعل له شريكا { عزيز } للإنتقام منهم

٧٥

قوله عز وجل { اللّه يصطفى من الملائكة رسلا } قيل جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت والحفظة الذين يكتبون أعمال بني آدم عليهم السلام { ومن الناس } يعني ويختار من الناس رسلا منهم محمد وعيسى ونوح وموسى عليهم السلام فجعلهم أنبياء ورسلا إلى خلقه { إن اللّه سميع } أي سميع لمقالتهم { بصير } بمن يتخذه رسولا وذلك أن الوليد بن المغيرة قال أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر اللّه تعالى أنه { سميع } مقالة من يكفر { بصير } بمن يصلح للرسالة فيختاره ويجعله رسولا

٧٦

ثم قال عز وجل { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } يعني من أمر الآخرة وأمر الدنيا { وإلى اللّه ترجع الأمور } يعني عواقب الأمور في الآخرة ويقال معناه منه بدأ وإليه يرجع

٧٧

قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إركعوا واسجدوا } يعني صلوا للّه تعالى وقال بعض الناس يسجد في هذا الموضع يذكر ذلك عن عمر وإبن عمر

وروي عن ابن عباس أنه قال السجدة في الحج في الأولى منهما وهذا قول أهل العراق لأن السجدة سجدة الصلاة بدليل أنها مقرونة بالركوع معناه إركعوا واسجدوا في الصلوات المفروضات التطوع

وروي عن ابن عباس أنه قال أول ما أسلموا كانوا يسجدون بغير ركوع فأمرهم اللّه تعالى بأن يركعوا ويسجدوا

ثم قال { واعبدوا ربكم } أي وحدوه وأطيعوه { وافعلوا الخير } أي أكثروا من الطاعات والخيرات ما استطعتم وبادروا إليها ويقال التسبيحات { لعلكم تفلحون } يعني تنجون من عذاب اللّه تعالى

٧٨

قوله عز وجل { وجاهدوا في اللّه حق جهاده } يعني إعملوا للّه عز وجل حق عمله ويقال جاهدوا في طاعة اللّه عز وجل وطلب مرضاته وقال الحسن { حق جهاده } أن تؤدي جميع ما أمرك اللّه عز وجل به وتجتنب جميع ما نهاك اللّه عنه وأن تترك رغبة الدنيا لرهبة الآخرة

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أن رجلا سأله فقال أي الجهاد أفضل فقال كلمة عدل عند السلطان

ثم قال { هو إجتباكم } يعني إختاركم واصطفاكم { وما جعل عليكم في الدين من حرج } يعني في الإسلام من ضيق ولكن جعله واسعا ولم يكلفكم مجهود الطاقة وإنما كلفكم دون ما تطيقون ويقال وضع عنكم إصركم والأغلال التي كانت عليكم ويقال { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وهو ما رخص في الإفطار في السفر والصلاة قاعدا عند العلة وقال قتادة أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم إذهب فليس عليك من حرج وقال لهذه الأمة { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وكان يقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم أنت شهيد على قومك وقال لهذه الأمة { وتكونوا شهداء على الناس } وكان يقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم سل تعط وقال لهذه الأمة { أدعوني أستجب لكم } [ غافر : ٦٠ ]

ثم قال { ملة أبيكم إبراهيم } قال الزجاج إنما صار منصوبا لأن معناه إتبعوا ملة أبيكم إبراهيم قال وجائز أن يكون وافعلوا الخير فعل أبيكم إبراهيم ويقال معناه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ولكن جعل لكم ملة سمحة سهلة كملة أبيكم إبراهيم { هو سماكم المسلمين من قبل } يعني اللّه تعالى سماكم المسلمين ويقال إبراهيم سماكم أي من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن والطريق الأول أصح لأنه قال من قبل { وفي هذا } يعني اللّه سماكم المسلمين في سائر الكتب من قبل هذا القرآن وفي هذا القرآن { ليكون الرسول شهيدا عليكم } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم شهيدا على أمته بأنه بلغهم الرسالة بالتصديق لهم { وتكونوا شهداء على الناس } يعني على سائر الأمم أن الرسل قد بلغتهم وقال مقاتل { وتكونوا شهداء على الناس } يعني للناس يعني للرسل على قومهم كقوله وما ذبح على النصب أي للنصب

ثم قال { فأقيموا الصلاة } يعني أقروا بها وأتموها { وآتوا الزكاة } يعني أقروا بها وأدوها

ثم قال { واعتصموا باللّه } يعني وثقوا باللّه إذا فعلتم ذلك ويقال معناه تمسكوا بتوحيد اللّه تعالى وهو قول لا إله إلا اللّه { هو مولاكم } أي وليكم وناصركم وحافظكم { فنعم المولى } يعني نعم الحافظ { ونعم النصير } يعني نعم المانع لكم برحمته واللّه سبحانه وتعالى أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

﴿ ٠