سورة النورمدنية وهي ستون وأربع آيات ١قوله سبحانه وتعالى { سورة أنزلناها } قرأ بعضهم { سورة } بنصب الهاء وقراءة العامة بالضم فمن قرأ بالضم فمعناه هذه سورة أنزلناها ومن قرأ بالنصب فمعناه أنزلنا سورة ويقال إقرأ سورة وقد قرئت { سورة } بالهمزة وبغير همز فمن قرأ بالهمز جعلها من أسأرت يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن ومن لم يهمز جعلها من سور المدينة سورا أي منزلة بعد منزلة ويقال السورة أصلها الرفعة ولهذا سمي سور المدينة وقال النابغة للنعمان بن المنذر ( ألم تر أن اللّه أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب ) وإنما خص هذه السورة بذكر السورة لما فيها من الأحكام فذلك كله يرجع إلى أمر واحد وهو أمر النساء ثم قال تعالى { وفرضناها } يعني بينا حلالها وحرامها وقال القتبي أصل الفريضة الوجوب وها هنا يجوز أن يكون بمعنى بيناها وقد يجوز أوجبنا العمل بما فيها وقال بعض أهل اللغة أصل الفرض هو القطع ولهذا سمي ما يقطع من حافة النهر فرضة ويسمى الموضع الذي يقطع من السواك أي ليشد فيه الخيط فرض ولهذا يسمى الميراث فريضة لأن كل واحد قطع له نصيب معلوم قرأ إبن كثير وأبو عمرو { وفرضناها } بتشديد الراء وقرأ الباقون بالتخفيف فمن قرأ بالتخفيف فمعناه ألزمناكم العمل بما فرض فيها ومن قرأ بالتشديد فهو على وجهين أحدهما على معنى التكثير أي إنا فرضنا فيها فروضا ومعنى آخر وبينا وفصلنا فيها من الحلال والحرام ثم قال { وأنزلنا فيها } يعني في السورة { آيات بينات } يعني الحدود والفرائض والأمر والنهي ويقال الآيات يعني العلامات والعبرات ويقال يعني آيات القرآن { لعلكم تذكرون } يعني تتعظون فلا تعطلون الأحكام والحدود ٢قوله عز وجل { الزانية والزاني } وقرأ بعضهم { الزانية } بنصب الهاء على معنى إجلدوا الزانية والزاني وهكذا السارق والسارقة بالنصب على هذا المعنى ويقال في الزنى بدأ بذكر المرأة لأن الزنى في النساء أكثر وفي السرقة بدأ بالرجال لأن السرقة في الرجال أكثر وقراءة العامة بالرفع على معنى الإبتداء وقيل إنما بدأ بالمرأة لأنها أحرص على الزنى من الرجال ويقال لأن الفعل ينتهي إليها ولا يكون إلا برضاها ثم قال { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } يعني إذا كانا غير محصنين { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه } قرأ إبن كثير { رآفة } بالهمزة والمد وقرأ أبو عمرو بالمد بغير همز وقرأ الباقون بالهمز بلا مد ومعنى الكل واحد وهو الرحمة وقال بعضهم الرأفة إسم جنس والرحمة إسم نوع قال بعضهم الرأفة للمذنبين والرحمة للتائبين وهو قول سفيان الثوري وقال بعضهم الرأفة تكون دفع المكروه والرحمة إيصال المحبوب يعني لا تحملنكم الشفقة عليهما على ترك الحد { إن كنتم تؤمنون باللّه } يعني في دين اللّه أي في حكم اللّه { إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر } يعني يوم القيامة وإنما سمي اليوم الآخر لأنه لا يكون بعده ليل فيصير كله بمنزلة يوم واحد وقد قيل إنه تجتمع الأنوار كلها وتصير في الجنة يوما واحدا وجمعت الظلمات كلها في النار وتصير كلها ليلة واحدة ثم قال { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } يعني ليحضر عند إقامة الحد طائفة من المؤمنين وفي حضور الطائفة ثلاث فوائد أولها أنهم يعتبرون بذلك ويبلغ الشاهد الغائب والثانية أن الإمام إذا إحتاج إلى الإعانة أعانوه والثالثة لكي يستحي المضروب فيكون زجرا له من العود إلى مثل ذلك الفعل وقال الزهري الطائفة ثلاثة فصاعدا وذكر عن أنس بن مالك أنه قال أربعة فصاعدا لأن الشهادة على الزنى لا تكون أقل من أربعة وقال بعضهم إثنان فصاعدا وقال بعضهم الواحد فصاعدا وهو قول أهل العراق وهو إستحباب وليس بواجب وروي عن ابن عباس أنه قال رجلان وعن مجاهد قال واحد فما فوقه طائفة وروي عن ابن عباس مثله ٣قوله عز وجل { الزاني لا ينكح إلا زانية } روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم أأنكح عناقا يعني إمرأة بغية كانت بمكة قال فسكت عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية { الزاني لا ينكح إلا زانية } { أو مشركة } فقال يا مرثد لا تنكحها وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ليس هو على النكاح ولكنه الجماع ويقال إن أصحاب الصفة إستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يتزوجوا الزواني وكانت لهن رايات كعلامة البيطار لتعرف أنها زانية وقالوا لنا في تزويجهن مراد فأذن لنا فإنهن أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا والمدينة غالية السعر وقد أصابنا الجهد فإذا جاءنا اللّه تعالى بالخير طلقناهن وتزوجنا المسلمات فنزلت الآية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } وقال سعيد بن جبير والضحاك الزاني لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله في الزنى والزانية لا تزني إلا بزان مثلها في الزنى { وحرم ذلك على المؤمنين } يعني الزنى وقال الحسن البصري { الزاني } المجلود بالزنى { لا ينكح إلا زانية } مجلودة مثله في الزنى وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أن مجلودا تزوج إمرأة غير مجلودة ففرق بينهما ويقال أراد به النكاح { لا ينكح } يعني لا يتزوج وكان التزويج حراما بهذه الآية ثم نسخ بما روي أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم إن إمرأتي لا ترد يد لامس فقال طلقها قال إني أحبها فقال أمسكها وقال سعيد بن المسيب { الزاني لا ينكح إلا زانية } كانوا يرون أن الآية التي بعدها نسختها { وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : ٣٢ ] الآية ٤ثم قال عز وجل { والذين يرمون المحصنات } يعني يقذفون العفائف من النساء الحرائر المسلمات { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } على صدق مقالتهم { فاجلدوهم } يقول للحكام ويقال هذا الخطاب لجميع المسلمين ثم إن المسلمين فوضوا الأمر إلى الإمام وإلى القاضي ليقيم عليهم الحد { ثمانين جلدة } يعني ثمانين سوطا { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } أي لا تقبلوا لهم شهادة بعد إقامة الحد عليهم { وأولئك هم الفاسقون } يعني العاصين ٥قال عز وجل { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } يعني القذف { وأصلحوا } يعني العمل بعد توبتهم { فإن اللّه غفور } لذنوبهم بعد التوبة { رحيم } بهم بعد التوبة وقال شريح يقبل توبته فيما بينه وبين اللّه تعالى فأما شهادته فلا تقبل أبدا وقال إبراهيم النخعي رحمه اللّه إذا تاب ذهب عنه الفسق ولا تقبل شهادته أبدا وروي عن ابن عباس أنه قال { إلا الذين تابوا } تاب اللّه عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تقبل أبدا وهكذا عن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن جماعة من التابعين أن شهادته تقبل إذا تاب مثل عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم وهو قول أهل المدينة والأول قول أهل العراق وبه نأخذ ٦ثم قال تعالى { والذين يرمون أزواجهم } يعني يقذفون أزواجهم بالزنى قال الفقيه أبو الليث حدثنا أبو جعفر قال حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد قال حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا يزيد بن هارون عن عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزل { والذين يرمون المحصنات } الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار أهكذا أنزلت يا رسول اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم فقال سعد واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم أنها حق وأنها من اللّه تعالى ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أخرجه حتى آتي بأربعة شهداء فواللّه لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه فلم يهجه حتى أصبح فغدا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره النبي صلى اللّه عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا قد إبتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال واللّه إني لأرجو أن يجعل اللّه لي مخرجا فواللّه إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ليريد أن يأمر بضربي إذ نزل عليه الوحي فعرفوا ذلك في تربد وجهه فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآية فسري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجا ومخرجا فقال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال واللّه يا رسول اللّه لقد صدقت عليهما فقالت كذب علي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لاعنوا بينهما فقيل لهلال إشهد فشهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل يا هلال إتق اللّه فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب قال واللّه لا يعذبني اللّه عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل لها إشهدي فشهدت أربع شهادات باللّه إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها إتقي اللّه فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فمكثت ساعة ثم قالت واللّه لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب وقال إن جاءت به أصيهب أريسج أثيبج خمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليجا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لولا الأيمان لكان لي ولها شأن قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر ولا يدعى لأب وروى إبن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمرا العجلاني أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أرأيت إن وجد الرجل مع إمرأته رجلا إن قتله قتقتلوه أو كيف يفعل قال قد أنزل اللّه فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها فتلاعنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما فرغا قال كذبت عليها يا رسول اللّه إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إبن شهاب تلك سنة المتلاعنين وفي رواية أخرى إنه فرق بينهما وقال الزهري صار ذلك سنة في المتلاعنين فذلك قوله { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } يعني الزوج خاصة { فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه إنه لمن الصادقين } أي يحلف الزوج أربع مرات فيقول في كل مرة أشهد باللّه الذي لا إله إلا هو أني صادق فيما رميتها به من الزنى ٧{ والخامسة } يعني يقول في المرة الخامسة { أن لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين } فيما رماها به من الزنى ٨قوله { ويدرأ عنها العذاب } يعني ويدفع الحاكم الحد عن المرأة { أن تشهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الكاذبين } يعني بعد ما تحلف المرأة أربع مرات فتقول في كل مرة أشهد باللّه الذي لا إله إلا هو أن الزوج من الكاذبين في قوله { والخامسة } يعني وتقول المرة الخامسة { أن غضب اللّه عليها إن كان } الزوج { من الصادقين } في مقالته قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص { أربع شهادات } بضم العين وقرأ الباقون بالنصب فمن قرأ بالضم يكون على معنى خبر الإبتداء فشهادة أحدهم التي تدرأ حد القذف أربع شهادات ومن قرأ بالنصب فالمعنى فعليه أن يشهد أحدهم أربع شهادات قال أبو عبيد وبهذا نقرأ ومعناه فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات فيكون الجواب في قوله { إنه لمن الصادقين } وقرأ نافع { أن لعنة اللّه } بتخفيف أن والجزم وقرأ الباقون بالتشديد وقرأ عاصم في رواية حفص ٩{ والخامسة أن غضب اللّه عليها } بنصب التاء وقرأ الباقون بالرفع فإذا فرغا من اللعان فرق القاضي بينهما وقال بعضهم تقع الفرقة بنفس اللعان وهو قول الشافعي رحمه اللّه وفي قول علمائنا رحمهم اللّه لا تقع الفرقة ما لم يفرق بينهما ١٠ثم قال عز وجل { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } وجوابه مضمر ومعناه { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } لبين الصادق من الكاذب ويقال { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم ثم قال { وإن اللّه تواب حكيم } يعني { تواب } لمن تاب ورجع { حكيم } حكم بينهما بالملاعنة ١١قوله عز وجل { إن الذين جاءوا بالإفك } يعني قالوا بالكذب وقال الأخفش الإفك أسوأ الكذب وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي اللّه عنها قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه أخبرني الثقة بإسناده عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه قالت قأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب وكان ذلك في غزوة بني المصطلق قالت فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه في مسيرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة أذن ليلة بالرحيل فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد إنقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني إبتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه قالت وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما إستمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب قالت فجلست مكاني فظننت أن القوم يستفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي إذ غلبني النوم فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر إذا إرتحل الناس يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم فيحمله إلى المنزل الآخر فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء فأصبح صفوان عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب فاسترجع فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي فواللّه ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير إسترجاعه حتى أناخ راحلته فركبتها فانطق بي يقود بي الراحلة قالت وكان عبد اللّه بن أبي إذا نزل في العسكر نزل في أقصى العسكر فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون قالت وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبر أن عائشة قد فقدت فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل فتكلم عبد اللّه بن أبي بما تكلم وحسان بن ثابت وسائرهم وأفشوه في العسكر وخاض أهل العسكر فيه فجعل يرويه بعضهم عن بعض ويحدث بعضهم بعضا قالت وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل ويسلم ثم يقول كيف تيكم فذلك يريبني ولا أشعر بالسر فلما رأيت ذلك قلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانقلبت إلى أبوي يمرضاني قال لا بأس عليك وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه قالت فانقلبت إلى أمي ولا علم لي بشيء مما كان حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة قالت وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة قالت فخرجت في بعض الليل ومعي أم مسطح حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت تسبين رجلا وقد شهد بدرا فقالت أولم تسمعي ما قال قلت وماذا قال قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي وأخذتني الحمى مكاني فرجعت أبكي ثم قلت لأمي يغفر اللّه لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي منه شيئا فقالت هوني عليك فواللّه لقل ما كانت إمرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي اللّه عنهما حيث إستلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله فأما علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال لم يضيق اللّه عليك والنساء كثير فاستبدل وأما أسامة بن زيد رضي اللّه عنه فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود فقال يا رسول اللّه ما علمت منها إلا خيرا فلا تعجل وانظر واسأل أهلك قالت فسأل حفصة بنت عمر عنها فقالت يا رسول اللّه ما رأيت عليها سوءا قط وسأل زينب بنت جحش فقالت مثل ذلك وسأل بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة قالت له بريرة والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت فأقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى دخل علي وعندي أبواي فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ثم قال يا عائشة لقد بلغك ما يقول الناس فإن كان ما يكون منك زلة مما يكون من الناس فتوبي إلى اللّه تعالى فإن اللّه يقبل التوبة عن عباده فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثم تاب تاب اللّه عليه فانتظرت أبوي أن يجيبا عني فلم يفعلا فقلت يا أبت أجبه فقال ماذا أقول فقلت يا أماه أجيبيه فقالت ماذا أقول ثم إستعبرت فبكيت فقلت لا واللّه لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس لقلت وأنا منه بريئة ولا أقول فيما لم يكن حقا ولئن أنكرت فلا تصدقني قالت ثم أنسيت إسم يعقوب فلم أذكره فقلت ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف { فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون } [ يوسف : ١٨ ] قالت فواللّه ما برح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى تغشاه من اللّه ما كان يغشاه قالت أنا واللّه حينئذ أعلم أني بريئة وأن اللّه عز وجل يبرئني ببراءتي ولكني واللّه ما كنت أظن أن ينزل اللّه في شأني وحيا يتلى ولساني كان أحقر من أن يتكلم اللّه تعالى في بقرآن يقرأ به في المساجد ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى اللّه عليه وسلم في منامه شيئا ببراءتي فلما سري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال يا عائشة أبشري أما واللّه فقد برأك اللّه تعالى فقالت لي أمي قومي إليه فقلت واللّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلا اللّه تعالى هو الذي أنزل براءتي وفي رواية قالت أحمد اللّه تعالى وأذمكم قالت فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصعد المنبر فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي برجل ما رأيت عليه سوءا قط ولا دخل علي أهلي إلا وأنا معه فقام سعد بن معاذ فقال أخبرنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هو فإن يكن من الأوس نقتله وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأيا أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن حملته الحمية فقال كلا ولكنها عداوتك للخزرج قال فاستبا فقام أسيد بن حضير الأوسي وقال يا سعد بن عبادة أتقول هذا كلا واللّه ولكنك منافق تحب المنافقين فاستب حي هذا وحي هذا فلما رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللغط نزل وتركهم وقد تلا عليهم ما أنزل اللّه تعالى عليه في أمر عائشة رضي اللّه عنها { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } يعني جماعة منكم وهو ما قال عبد اللّه بن أبي وأصحابه ما برئت عائشة من صفوان وما برىء عنها صفوان والعصبة عشرة فما فوقها كما قال الكلبي { لا تحسبوه شرا لكم } يعني عائشة ومن كان ينسبها والنبي صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر { بل هو خير لكم } لأنه لو لم يكن قولهم لم يظهر فضل عائشة رضي اللّه عنها وإنما ظهر فضل عائشة بما صبرت على المحنة فنزل بسببها سبع عشرة آية من القرآن من قوله { إن الذين جاءوا بالإفك } إلى قوله { لهم مغفرة ورزق كريم } ووجه آخر { بل هو خير لكم } لأنه يؤخذ من حسناتهم ويوضع في ميزانه يعني عائشة وصفوان وهذا خير له ثم قال { لكل إمرئ منهم ما اكتسب من الإثم } يعني لكل واحد منهم العقوبة بمقدار ما شرع في ذلك الأمر لأن بعضهم قد تكلم بذلك وبعضهم ضحك وبعضهم سكت فكل واحد منهم ما اكتسب من الإثم بقدر ذلك { والذي تولى كبره } يعني الذي تكلم بالقذف { منهم له عذاب عظيم } يعني الحد في الدنيا فأقام النبي صلى اللّه عليه وسلم الحد وكان حميد يقرأ { والذي تولى كبره } بضم الكاف يعني عظمه قال أبو عبيد والقراءة عندنا بالكسر وإنما الكبر في النسب وفي الولاء ١٢ثم قال عز وجل { لولا إذ سمعتموه } يعني هلا إذ سمعتم قذف عائشة وصفوان { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } يعني هلا ظننتم به كظنكم بأنفسكم ويقال ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم كظن المؤمنين والمؤمنات بأمثالهم وبأهل دينهم خيرا ويقال يعني هلا ظننتم كما ظن المؤمنون والمؤمنات { وقالوا هذا إفك مبين } يعني هلا قلتم حين بلغكم هذا الكذب هذا كذب بين وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } يعني هلا جاؤوا بها { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه هم الكاذبون } في قولهم اللفظ لفظ الماضي والمراد به المستقبل يعني إطلبوا منهم أربعة شهداء فإن لم يأتوا بها فأقم عليهم الحد ١٣ثم قال عز وجل { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } يعني منته ونعمته عليكم ١٤{ في الدنيا والآخرة لمسكم } يعني أصابكم { فيما أفضتم فيه } يعني فيما قلتم من القذف { عذاب عظيم } في الدنيا والآخرة على وجه التقديم قوله عز وجل { إذ تلقونه بألسنتكم } أي يرويه بعضكم من بعض ويتلقاه بعضكم من بعض وقرىء { إذ تلقونه } بكسر اللام وضم القاف والتخفيف أي تكذبون بألسنتكم ويقال معناه تهرعون إلى الكذب يقال ولق يلق إذا أسرع إلى الكذب وروى إبن أبي مليكة عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت تقرأ { إذ تلقونه بألسنتكم } بكسر اللام وقال إبن أبي مليكة هي أعلم لأن الآية نزلت فيها وروي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ { إذ تتلقونه } وقال أبو عبيد لولا قراءة أبي وكراهة الخلاف على الناس ما كان أحد أولى أن يتبع فيها من عائشة كما إحتج إبن أبي مليكة ١٥ثم قال تعالى { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } من الفرية { وتحسبونه هينا } يعني تظنون عقوبته هينة { وهو عند اللّه عظيم } في الوزر والعقوبة ١٦قوله تعالى { ولولا } يعني فهلا { إذ سمعتموه } أي إذ سمعتم القذف { قلتم ما يكون لنا } يعني لا ينبغي لنا ويجوز لنا { أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } وفي هذا بيان فضل عائشة رضي اللّه عنها حيث نزهها باللفظ الذي نزه به نفسه وهو لفظ سبحان اللّه ويقال سبحان اللّه أن تكون إمرأة النبي صلى اللّه عليه وسلم زانية ما كانت إمرأة نبي زانية قط ١٧ثم وعظ الذين يخوضون في أمر عائشة فقال عز وجل { يعظكم اللّه } يعني ينهاكم اللّه عز وجل { أن تعودوا لمثله أبدا } يعني القذف { إن كنتم مؤمنين } يعني مصدقين باللّه وبرسوله عليه السلام وباليوم الآخر ١٨{ ويبين اللّه لكم الآيات } يعني الأمر والنهي { واللّه عليم حكيم } ١٩ونزل في عبد اللّه بن أبي وأصحابه { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } يعني يظهر الزنى ويفشو ويقال يحبون ما شاع لعائشة من الثناء السيء { في الذين آمنوا } يعني عائشة وصفوان رضي اللّه عنهما { لهم عذاب أليم في الدنيا } الحد { والآخرة } النار إن لم يتوبوا { واللّه يعلم } أنهما لم يزنيا { وأنتم لا تعلمون } ذلك منهما ٢٠ثم قال عز وجل { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته } وجوابه مضمر يعني لولا من اللّه عليكم ونعمته لعاقبكم فيما قلتم في أمر عائشة وصفوان { وأن اللّه رؤوف رحيم } حيث لم يعجل بالعقوبة ٢١قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } يعني لا تتبعوا تزيين الشيطان ووساوسه بقذف المؤمنين والمؤمنات { ومن يتبع خطوات الشيطان } وفي الآية مضمر ومعناه { ومن يتبع خطوات الشيطان } وقع في الفحشاء والمنكر { فإنه } يعني به الشيطان { يأمر بالفحشاء } يعني المعاصي { والمنكر } ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وروي عن أبي مجلز قال { خطوات الشيطان } النذور في معصية اللّه تعالى ثم قال { ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته ما زكى منكم } يعني ما ظهر وما صلح منكم { من أحد أبدا } يعني أحدا و { من } صلة { ولكن اللّه يزكي } يعني يوفق للتوحيد { من يشاء } ويقال ما زكى أي ما وحد { ولكن اللّه يزكي } أي يطهر { واللّه سميع } لمقالتهم { عليم } بهم ٢٢ثم قال عز وجل { ولا يأتل } يعني لا يحلف وهو يفتعل من الألية وهي اليمين قرأ أبو جعفر المدني وزيد بن أسلم { ولا يتأل } على معنى يتفعل ويقال معناه ولا يدع أن ينفق ويتصدق وهو يتفعل من ألوت أني أصنع كذا ويقال ما ألوت جهدي أي ما تركت طاقتي وذلك أن أبا بكر كان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره فلما تكلم بما تكلم به حلف أبو بكر رضي اللّه عنه أن لا ينفق عليه فنزلت هذه الآية { أولو الفضل منكم } يعني { أولو الفضل } في دين اللّه لأنه كان أفضل الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { والسعة } يعني السعة في المال وهذا من مناقب أبي بكر رضي اللّه عنه حيث سماه اللّه { أولو الفضل } في الإسلام ويقال { ولا يأتل } يعني ولا يحلف { أولو الفضل منكم } يعني أولو الغنى والسعة في المال والأول أشبه لكي لا يكون حمل الكلام على التكرار { أن يؤتوا أولي القربى } يعني لا يحلف أن لا يعطي ولا ينفق على { أولي القربى } يعني على ذوي القربى وهو مسطح { والمساكين والمهاجرين في سبيل اللّه } وكان مسطح من فقراء المهاجرين ومن أقرباء أبي بكر { وليعفوا } يقول ليتركوا { وليصفحوا } يعني وليتجاوزوا { ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم } فقال أبو بكر أنا أحب أن يغفر اللّه لي فقد تجاوزت عن قرابتي ويقال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر ألا تحب أن يغفر اللّه لك قال نعم فقرأ عليه السلام هذه الآية وأمره بأن ينفق على مسطح وفي الآية دليل على أن من حلف على أمر فرأى الحنث أفضل منه فله أن يحنث ويكفر عن يمينه ويكون له ثلاثة أجور أحدها ائتماره بأمر اللّه تعالى والثاني أجر بره وذلك صلته في قرابته والثالث أجر التكفير ثم قال تعالى { واللّه غفور رحيم } يعني { غفور } لذنوبكم { رحيم } بالمؤمنين ٢٣قوله عز وجل { إن الذين يرمون المحصنات } يعني العفائف { الغافلات } يعني عن الزنى والفواحش { المؤمنات } يعني المصدقات بالألسن والقلوب { لعنوا في الدنيا والآخرة } وأصل اللعن هو الطرد والبعد ويقال للشيطان اللعين لبعده عن الرحمة وروي في الخبر أن يوم القيامة تكون هذه الأمة شاهدة على الأمم الأولين إلا الذين تجري على لسانهم اللعنة وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رجلا يلعن بعيره فقال أتلعنها وتركبها فنزل عنها ولم يركبها أحد قوله تعالى { ولهم عذاب عظيم } يعني شديد يوم القيامة وذكر أن حسان بن ثابت ذهب بصره في آخر عمره فدخل يوما على عائشة رضي اللّه عنها فجلس عندها ساعة ثم خرج فقيل لها إن اللّه تعالى قال { لهم عذاب عظيم } في الدنيا والآخرة فقالت عائشة أوليس هذا أعظم يعني ذهاب بصره ويقال { عذاب عظيم } إن لم يتوبوا ٢٤{ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } أي بما تكلموا ٢٥ثم قال { يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق } يعني يوفيهم جزاء أعمالهم قرأ حمزة والكسائي { يشهد } بالياء بلفظ المذكر وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث لأن الفعل مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث وقرأ مجاهد { الحق } بضم القاف فيكون الحق نعت اللّه وتكون قراءة أبي بن كعب شاهدة له كأنه يقول يومئذ يوفيهم اللّه الحق دينهم وقراءة العامة { الحق } بالنصب وإنما يكون نصبا لنزع الخافض يعني يوفيهم اللّه ثواب دينهم بالحق أي بالعدل وجه آخر أن يكون الحق نعتا للدين ويكون كقوله { حقا } ثم يدخل عليه الألف واللام ثم قال { ويعلمون أن اللّه هو الحق المبين } يعني عبادة اللّه هي الحق المبين ويقال ويعلمون أن ما قال اللّه عز وجل هو الحق ٢٦ثم قال { الخبيثات للخبيثين } قال الكلبي الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال يعني عبد اللّه بن أبي { والخبيثون } من الرجال { للخبيثات } من الكلام على معنى التكرار والتأكيد ويقال { الخبيثات } من النساء { للخبيثين } من الرجال مثل عبد اللّه بن أبي تكون له زوجة خبيثة زانية وامرأة النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تكون زانية خبيثة ويقال { الخبيثات للخبيثين } يعني لا يتكلم بكلام الخبيث إلا الخبيث ولا يليق إلا بالخبيث ويقال الكلمات الخبيثات إنما تليق بالخبيثين من الرجال ثم قال { والطيبات للطيبين } يعني { الطيبات } من الكلام { للطيبين } من الرجال ويقال { الطيبات } من النساء { للطيبين } من الرجال { والطيبون للطيبات } على معنى التكرار والتأكيد ثم قال { أولئك مبرؤون مما يقولون } يعني عائشة وصفوان مما يقولون من الفرية { لهم مغفرة ورزق كريم } يعني رزقا في الجنة كثيرا ويقال { كريم } يعني حسن وذكر ابن عباس أنه دخل على عائشة رضي اللّه عنها في مرضها الذي ماتت فيه فذكرت ما كان منها من الخروج في يوم الجمل وغيره فقال لها ابن عباس أبشري فإن اللّه تعالى يقول { لهم مغفرة ورزق كريم } واللّه تعالى ينجز وعده فسري بذلك عنها ٢٧قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } يعني بيوتا ليست لكم { حتى تستأنسوا } يعني حتى تستأذنوا وروي عن سعيد بن جبير أن عبد اللّه بن عباس كان يقرأ { حتى تستأذنوا } ويقول تستأذنوا خطأ من الكاتب وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال أخطأ الكاتب في قوله { حتى تستأنسوا } وقراءة العامة { حتى تستأنسوا } وقال القتبي الإستئناس أن تعلم من في الدار يقال إستأنست فما رأيت أحدا أي إستعلمت وتعرفت ومنه قوله { فإن آنستم منهم رشدا } [ النساء : ٦ ] أي علمتم وروي عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال جاءت إمرأة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد فيأتي الأب فيدخل علي فكيف أصنع قال إرجعي فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } قال مجاهد وهو التنحنح { وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم } يعني التسليم والإستئذان خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن وسلام { لعلكم تذكرون } أن التسليم والإستئذان خير لكم ٢٨قال عز وجل { فإن لم تجدوا فيها أحدا } يعني إن لم تجدوا في البيوت أحدا يأذن لكم في الدخول { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } في الدخول { وإن قيل لكم إرجعوا فارجعوا } ولا تقيموا على أبواب الناس فلعل لهم حوائج { هو أزكى لكم } يعني الرجوع أصلح لكم من القيام والقعود على أبواب الناس { واللّه بما تعملون عليم } يعني إذا دخلتم بإذن أو بغير إذن ثم رخص لهم في البيوت على طريق الناس مثل الرباطات والخانات وذلك أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه قال يا رسول اللّه فكيف بالبيوت التي بين الشام ومكة والمدينة التي على ظهر الطريق ليس لها ساكن فنزل ٢٩قوله عز وجل { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } مثل الخانات وبيوت السوق { فيها متاع لكم } يعني منافع لكم ويقال الخربات التي يدخل فيها لقضاء الحوائج فيها منفعة لكم ويقال في الخانات منفعة لكم من الحر والبرد { واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون } من التسليم والإستئذان ٣٠قوله عز وجل { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } يعني يكفوا أبصارهم و { من } صلة في الكلام { ويحفظوا فروجهم } عما لا يحل لهم وقال أبو العالية الرياحي كلما ذكر حفظ الفرج في القرآن أراد به الحفظ عن الزنى إلا ها هنا فإن المراد به ها هنا الستر عن النظر يعني قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم عن عورات النساء ويحفظوا فروجهم عن أبصار الناس وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي رضي اللّه عنه يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والأخرى عليك وروي عن عيسى إبن مريم أنه قال إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة فذلك قوله { ذلك أزكى لكم } وأطهر من الريبة يعني غض البصر والحفظ خير لكم من ترك الحفظ والنظر ثم قال { إن اللّه خبير بما يصنعون } يعني عالم بهم ٣١قوله عز وجل { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } يعني يحفظن أبصارهن عن الحرام { ويحفظن فروجهن } عن الفواحش { ولا يبدين زينتهن } يعني لا يظهرن مواضع زينتهن { إلا ما ظهر منها } روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال وجهها وكفيها وهكذا قال إبراهيم النخعي وروي أيضا عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت الوجه والكفان وهكذا قال الشعبي وروى نافع عن إبن عمر أنه قال الوجه والكفان وقال مجاهد الكحل والخضاب وروى أبو صالح عن ابن عباس الكحل والخاتم وروي عن ابن عباس في رواية أخرى { إلا ما ظهر منها } يعني فوق الثياب وروى أبو إسحاق عن إبن مسعود أنه قال ثيابها وروي عن إبن مسعود رواية أخرى أنه سئل عن قوله { إلا ما ظهر منها } فتقنع عبد اللّه بن مسعود وغطى وجهه وأبدى عن إحدى عينيه قوله تعالى { وليضربن بخمرهن } يعني ليرخين بخمرهن { على جيوبهن } يعني على الصدر والنحر قال ابن عباس وكن النساء قبل هذه الآية يبدين خمرهن من ورائهن كما يصنع النبط فلما نزلت هذه الآية سدلن الخمر على الصدر والنحر ثم قال { ولا يبدين زينتهن } يعني لا يظهرن مواضع زينتهن وهو الصدر والساق والساعد والرأس لأن الصدر موضع الوشاح والساق موضع الخلخال والساعد موضع السوار والرأس موضع الإكليل فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة { إلا لبعولتهن } يعني لأزواجهن { أو آبائهن } يعني يجوز للآباء النظر إلى مواضع زينتهن { أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } وقد ذكر في الآية بعض ذوي الرحم المحرم فيكون فيه دليل على ما كان بمعناه لأنه لم يذكر فيها الأعمام والأخوال ولكن الآية إذا نزلت في شيء فقد نزلت فيما هو في معناه والأعمام والأخوال بمعنى الإخوة وبني الإخوة لأنه ذو رحم محرم وقد ذكر الأبناء في آية أخرى وهي قوله { لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن} [ الأحزاب : ٥٥ ] والنظر إلى النساء على أربع مراتب في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها وهي النظر إلى زوجته وأمته وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرما لها ويأمن كل واحد منهما على نفسه فلا بأس بالنظر عند الحاجة وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والساق والرأس والساعد وهو النظر إلى إمرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم مثل الأخت والأم والعمة والخالة وأولاد الأخ والأخت وإمرأة الأب وإمرأة الإبن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر ثم قال تعالى { أو نسائهن } يعني نساء أهل دينهن ويكره للمرأة أن تظهر مواضع زينتها عند إمرأة كتابية لأنها تصف ذلك عند غيرها ويقال { نسائهن } يعني العفائف ولا ينبغي أن تنظر إليها المرأة الفاجرة لأنها تصف ذلك عند الرجال ثم قال { أو ما ملكت أيمانهن } يعني الجواري فإنها نزلت في الإماء وقال سعيد بن المسيب لا تغرنكم هذه الآية { أو ما ملكت أيمانهن } يعني الجواري فإنها نزلت في الإماء لا ينبغي للمرأة أن ينظر العبد إلى شعرها ولا إلى شيء من محاسنها وقال مجاهد أكره أن ينظر العبد إلى شعر مولاته وكذلك قال عطاء وطاوس وقال مجاهد في بعض القراءات { أو ما ملكت أيمانهن } الذين لم يبلغوا الحلم وروى سفيان عن ليث قال كان بعضهم يقرأ { أو ما ملكت أيمانهن } من الصغار وقال الشعبي لا ينظر العبد إلى مولاته ولا إلى شعرة منها ثم قال تعالى { أو التابعين غير أولى الإربة } يعني الخادم أو الأجير للمرأة يعني غير ذوي الحاجة مثل الشيخ الكبير ونحوه وقال مجاهد هو الذي لا إرب له أي لا حاجة له بالنساء مثل فلان وكذا روى الشعبي عن علقمة وقال الحسن والزهري { غير أولي الإربة } هو الأحمق وقال الضحاك هو الأبله ويقال هو الذي طبعه طبع النساء فلا يكون له شهوة الرجال وسئلت عائشة رضي اللّه عنها هل يرى الخصي حسن المرأة قالت لا ولا كرامة أليس هو رجل قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { غير أولي الإربة } بنصب الراء وقرأ الباقون بالكسر فمن قرأ بالكسر يكون على النعت للتابعين فيكون معناها التابعين الذين هذه حالهم ومن نصب أراد به الإستثناء والمعنى إلا أولي الإربة ثم قال { من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } يعني لم يطلعوا ولم يشتهوا الجماع ثم قال { ولا يضربن بأرجلهن } يعني لا يضربن بإحدى أرجلهن على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال { ليعلم ما يخفين من زينتهن } يعني ما يواري الثياب من زينتهن وروى سفيان عن السدي قال كانت المرأة تمر على المجلس وفي رجلها الخلخال فإذا جازت بالقوم ضربت برجلها ليصوت خلخالها فنزلت { ولا يضربن بأرجلهن } وقال بعض المفسرين قد علم اللّه تعالى أن من النساء من تكون حمقاء فتحرك رجلها ليعلم أن لها خلخالا فنهي النساء أن يفعلن كما تفعل الحمقاء ثم قال { وتوبوا إلى اللّه جميعا } يعني من جميع ما وقع التقصير من الأوامر والنواهي التي ذكر من أول السورة إلى ها هنا { أيها المؤمنون } يعني أيها المصدقون باللّه ورسوله وفي هذه الآية دليل أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان لأنه أمر بالتوبة والتوبة لا تكون إلا من الذنب ولم يفصل بين الكبائر وغيرها فقال بعدما أمر بالتوبة { أيها المؤمنون } سماهم مؤمنين بعد الذنب ثم قال { لعلكم تفلحون } أي تنجون من العذاب قرأ إبن عامر { أيه } بضم الهاء وكذلك في قوله { يا أيه الساحر } { وأيه الثقلان } وقرأ الباقون بالنصب ٣٢قوله عز وجل { وانكحوا الأيامى منكم } والأيامى الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم يقال رجل أيم وإمرأة أيم كما يقال رجل بكر وإمرأة بكر ويقال الأيم من النساء خاصة كل إمرأة لا زوج لها فهي أيم فأمر الأولياء بأن يزوجوا النساء وأمر الموالي بأن يزوجوا العبيد والإماء إذا إحتاجوا إلى ذلك فقال للأولياء { وأنكحوا الأيامى منكم } يعني من قومكم ومن عشيرتكم ثم قال للموالي { والصالحين من عبادكم } يعني من عبيدكم زوجوهم إمرأة وهذا أمر إستحباب وليس بحتم { وإمائكم } يعني زوجوا إماءكم لكيلا يقعن في الزنى { إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله } يعني يرزقهم اللّه من فضله وسعته وقال بعضهم هذا منصرف إلى الحرائر خاصة دون العبيد والإماء وقال بعضهم إنصرف إلى جميع ما سبق ذكرهم من الأحرار والمماليك { يغنهم اللّه من فضله } يعني من رزقه والغنى على وجهين غني بالمال وهو أضعف الحالين وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين كما روي في الخبر الغنى غنى النفس وروى هشام بن عروة عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أنكحوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال وقال عمر رضي اللّه عنه إبتغوا الغنى في النكاح ثم قرأ { يغنهم اللّه من فضله } وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر فأمره أن يتزوج فتزوج الرجل ثم جاء فشكا إليه الفقر فأمره بأن يطلقها فسأل عن ذلك فقال قلت لعله من أهل هذه الآية { إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله } فلما لم يكن من أهلها قلت لعله من أهل آية أخرى { وإن يتفرقا يغن اللّه كلا من سعته } [ النساء : ١٣٠ ] ثم قال { واللّه واسع عليم } أي واسع الفضل ويقال { واسع } أي موسع في الرزق يوسع على من يشاء { عليم } بقدر ما يحتاج إليه كل واحد منهم ثم أخبر أنه لا رخصة لمن لم يجد النكاح في الزنى وأمر بالتعفف للذي لا إمرأة له ٣٣فقال عز وجل { وليستعفف الذين } يعني ليحفظ نفسه عن الحرام الذين { لا يجدون نكاحا } يعني سعة بالنكاح المهر والنفقة ويقال يعني إمرأة موافقة { حتى يغنيهم اللّه من فضله } يعني من رزقه بالنكاح وقد قيل إن الصبر والطلب خير من الغارة والهرب { والذين يبتغون الكتاب } أي يطلبون الكتابة قال ابن عباس وذلك أن مملوكا لحويطب يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فنزلت الآية { والذين يبتغون الكتاب } يعني يطلبون الكتابة { مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } يعني حرفة قال مجاهد وعطاء يعني مالا وروي عن إبن سيرين عن عبيدة السلماني قال أدبا وصلاحا وقال إبراهيم يعني وفاء وصدقا وروى يحيى بن أبي كثير قال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال { إن علمتم فيهم خيرا } أي حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس وقال ابن عباس الخير المال كقوله { إن ترك خيرا } [ البقرة : ١٨٠ ] يعني مالا وقيل { خيرا } يعني صلاحا في دينه لكيلا يقع في الفساد بعد العتق وهذا أمر إستحباب لا إيجاب وقال بعضهم هو واجب وروى معمر عن قتادة قال سأل سيرين أبو محمد بن سيرين أنس بن مالك بأن يكاتبه فأبى أنس بن مالك فرفع عليه عمر الدرة وتلا هذه الآية { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ثم قال { وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم } يعني أعطاكم يعني يحطه من الكتاب شيئا ويقال يعطى من بيت المال حتى يؤدي كتابه وقال عمر وعلي رضي اللّه عنهما يترك له ربع الكتابة وقال قتادة يترك له العشر وقال إبراهيم حث المولى وغيره بأن يعينوه هذا أمر إستحباب وليس بواجب وقال بعضهم الحط واجب والأول أصح ثم قال { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } يعني لا تكرهوا الإماء على الزنى وقال عكرمة كانت جارية لعبد اللّه بن أبي يقال لها معاذة وكان يكلفها الخراج عن الزنى فنزل { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } يعني تعففا { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } يعني لتطلبوا بكسبهن وولدهن المال { ومن يكرههن } يعني يجبرهن على الزنى { فإن اللّه من بعد إكراههن } يعني من بعد إجبارهن على الزنى { غفور } لذنوبهن { رحيم } يعني الإماء لأنهن كن مكرهات على فعل الزنى ٣٤قوله عز وجل { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات } يعني واضحات { ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } يعني فيه خير من قبلكم من الأمم الماضية { وموعظة للمتقين } لكي يعتبروا بما أصابهم ٣٥قوله عز وجل { واللّه نور السموات والأرض } قال ابن عباس رضي اللّه عنه هادي أهل السموات وأهل الأرض ويقال هادي أهل السموات والأرض من يشاء وبين ذلك في آخر الآية بقول { يهدي لنوره من يشاء } ويقال معناه اللّه منور السموات والأرض وقال ابن عباس بدليل قوله { مثل نوره } فأضاف النور إليه وبدليل ما قال في سياق الآية { ومن لم يجعل اللّه له نورا } [ النور : ٤٠ ] وروي عن أبي العالية أنه قال معناه اللّه منور قلوب أهل السموات وقلوب أهل الأرض بالمعرفة والتوحيد يعني من كان أهلا للإيمان ويقال اللّه منور السموات والأرض أما السموات فنورها بالشمس والقمر والكواكب وأما الأرض فنورها بالأنبياء والعلماء والعباد عليهم السلام ثم قال تعالى { مثل نوره } يعني مثل نور المعرفة في قلب المؤمن { كمشكاة فيها مصباح } يعني كمثل كوة فيها سراج ويقال المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وهي بلغة الحبشة وروي في قراءة إبن مسعود { مثل نوره } في قلب المؤمن { كمشكاة فيها مصباح } ثم وصف المصباح فقال { المصباح في زجاجة } يعني كمثل سراج في قنديل في كوة فكذلك الإيمان والمعرفة في قلب المؤمن والقلب في الصدر والصدر في الجسد فشبه القلب بالقنديل والماء الذي في القنديل شبه بالعلم والدهن بالرفق وحسن المعاملة وشبه الفتيلة باللسان وشبه النار بالجوف في زجاجة يعني في قلب مضيء ويقال إنما شبه القلب بالزجاجة لأن ما في الزجاجة يرى من خارجها فكذلك ما في القلب يرى من ظاهره ويبين ذلك في أعضائه ويقال لأن الزجاجة تسرع الكسر بأدنى آفة تصيبها فكذلك القلب بأدنى آفة تدخل فيه فإنه يفسد ثم وصف الزجاجة فقال { كأنها كوكب دري } يعني إستنارة القنديل بصفاء الزجاجة { كأنها كوكب دري } قرأ نافع وإبن كثير وعاصم في رواية حفص { كوكب دري } بضم الدال غير مهموز وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وبهمز الياء وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالضم والهمز فمن قرأ بضم الدال فهو منسوب إلى الدر يعني يشبه في ضوئه الدر وممن قرأ بكسر الدال يعني الذي يدرأ عن نفسه يعني لا يكاد يقدر النظر إليه من شدة ضوئه ثم قال تعالى { يوقد من شجرة مباركة } يعني السراج يوقد بدهن من شجرة مباركة { زيتونة } قرأ أبو عمرو وإبن كثير { توقد } بنصب التاء والواو والقاف بلفظ التأنيث وأصله تتوقد فحذف إحدى التاءين وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بضم التاء والتخفيف بلفظ التأنيث على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يوقد } بالياء والضم بلفظ التذكير والتفسير على معنى فعل ما لم يسم فاعله فمن قرأ بالتأنيث إنصرف إلى الزجاجة ومن قرأ بالتذكير إنصرف إلى المصباح والسراج ثم وصف الشجرة المباركة فقال { زيتونة لا شرقية ولا غربية } يعني لم تكن بحال يصيبها الشمس في أول النهار ولا يصيبها في آخر النهار ولكنها في مكان مطمئن تصيبها الشمس في أول النهار وآخره فكذلك هذا المؤمن تكون كلمة الإخلاص في قلبه ثابتة مثل ثبوت الشجرة فلا يكون مشبها ولا معطلا ولا قدريا ولا جبريا ولكنه على الإستقامة ويقال { لا شرقية ولا غربية } يعني تكون في وسط الأشجار حتى لا تحرقها الشمس فكذلك هذا المؤمن بين أصحاب صلحاء يثبتونه على الإستقامة وروي عن الحسن أنه قال ليس هذه من أشجار الدنيا لكن من أشجار الآخرة يعني أن أشجار الدنيا لا تخلو من أن تكون شرقية أو غربية ولكن هذه من أشجار الآخرة فكذلك هذا المؤمن من أصاب المعرفة بتوفيق اللّه عز وجل وقال { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } يعني أن الزيت في الزجاجة يكاد أن يضيء ولو لم يكن موقدا فكذلك المؤمن يعرف اللّه تعالى ويخافه ويطيعه وإن لم يكن له أحد يذكره ويأمره وينهاه ثم قال { نور على نور } يعني الزجاجة نور والسراج نور والزيت نور فكذلك المؤمن إعتقاده نور وقوله نور وفعله نور وقال أبو العالية فهو يتقلب في خمسة من الأنوار فكلامه نور وعمله نور ومخرجه نور ومدخله نور ومصيره إلى النور يوم القيامة { يهدي اللّه لنوره من يشاء } يعني يوفق ويعطي من يشاء يعني الهدى وللآية وجه آخر { اللّه نور السموات والأرض } يعني اللّه مرسل الرسل إلى أهل السموات وأهل الأرض { مثل نوره } يعني مثل نور محمد صلى اللّه عليه وسلم فسماه نورا كقوله { قد جاءكم من اللّه نور } [ المائدة : ١٥ ] ثم قال { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } يعني مثل نور محمد صلى اللّه عليه وسلم في صلب أبيه كالقنديل يضيء البيت المظلم فكما أن البيت يكون مضيئا بالقنديل فإذا أخذ منه القنديل يبقى البيت مظلما فكذلك محمد صلى اللّه عليه وسلم كان كالقنديل في صلب أبيه فلما خرج بقي صلب أبيه مظلما { يوقد من شجرة مباركة } يعني نور محمد صلى اللّه عليه وسلم من نور إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام { زيتونة لا شرقية ولا غربية } يعني لم يكن إبراهيم عليه السلام يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ويقال { لا شرقية ولا غربية } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان من العرب { يكاد زيتها يضيء وإن لم تمسسه نار } يعني يضيء بطاعته وإن لم يكن نبيا { نور على نور } يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم كان عمله نورا وقوله نورا { يهدي اللّه لنوره من يشاء } يعني يعطي النبوة لمن يشاء ولها وجه آخر { اللّه نور السموات والأرض } يعني منزل القرآن فنور بالقرآن السموات والأرض { مثل نوره } يعني مثل نور القرآن في قلب المؤمن { كمشكاة فيها مصباح } يعني قلب المؤمن بالقرآن { يوقد من شجرة مباركة } يعني ينزل القرآن من رب كريم ذي بركة { لا شرقية ولا غربية } أي ليس القرآن بلغة السريانية ولا بلغة العبرانية ولكنه عربي مبين { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } يعني القرآن يضيء وألفاظه مهذبة وإن لم تفهم معانيه { يهدي اللّه لنوره من يشاء } يعني يوفق ويكرم بفهم القرآن من يشاء { ويضرب اللّه الأمثال للناس } يعني اللّه عز وجل يبين الأشباه للناس لكي يفهموا ويقال المثل كالمرآة يظهر عنده الحق { واللّه بكل شيء عليم } من ضرب الأمثال ٣٦ثم قال عز وجل { في بيوت أذن اللّه أن ترفع } يعني ما ذكر من القنديل المضيء هو في المساجد ثم وصف المساجد ويقال هذا إبتداء القصة وفيه معنى التقديم يعني أذن اللّه أن ترفع البيوت وهي المساجد { أذن اللّه أن ترفع } يعني تبنى وتعظم { ويذكر فيها إسمه } يعني توحيده ويقال بالأذان والإقامة { يسبح له } فيها يعني يصلي للّه في المساجد { بالغدو والآصال } يعني عند الغداة والعشي قرأ إبن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { يسبح } بنصب الباء على معنى فعل ما لم يسم فاعله ٣٧ثم قال عز وجل { رجال لا تلهيهم تجارة } يعني هم رجال وقرأ الباقون { يسبح } بكسر الباء ويكون الفعل للرجال يعني يسبح فيها { رجال لا تلهيهم } يعني لا يشغلهم البيع والشراء عن ذكر اللّه يعني عن طاعة اللّه وعن مواقيت الصلاة { ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة } يعني عن إتمام الصلاة قال بعضهم نزلت الآية في أصحاب الصفة وأمثالهم الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد وقال بعضهم هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارة عن الصلوات في مواقيتها وهذا أشبه لأنه قال { وإيتاء الزكاة } وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة وقال الحسن { رجال لا تلهيهم تجارة } أما أنهم كانوا يتجرون ولم تكن تشغلهم تجارة عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وروي عن إبن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا بياعاتهم وقاموا إلى الصلاة فقال هؤلاء من الذين { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه } ثم قال { يخافون يوما } يعني من اليوم الذي { تتقلب فيه القلوب والأبصار } يعني يتردد فيه القلوب والأبصار في الصدر إن كان كافرا فإنه يبلغ الحناجر من الخوف وإن كان تقيا مؤمنا تقول الملائكة { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : ١٠٣ ] فيتبين ما في قلبه في البصر وإن كان حزنا فحزن وإن كان سرورا فسرور ويقال { تتقلب } يعني تتحول حالا بعد حال مرة يعرفون ومرة لا يعرفون ويقال { تنقلب } يعني تتحول عما كانت عليه في الدنيا من الشك حين رأى بالمعاينة فيتحول قلبه وبصره من الشك إلى اليقين ٣٨ثم قال عز وجل { ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا } يعني يجزيهم بإحسانهم ويقال يجزيهم أحسن وأفضل من أعمالهم وهو الجنة ويقال ويجزيهم أكثر من أعمالهم بكل حسنة عشرة وأضعافا مضاعفة ويقال يجزيه ويغفر له بأحسن أعماله ويبقى سائر أعماله فضلا ثم قال { ويزيدهم من فضله } أي يرزقهم من عطائه { واللّه يرزق من يشاء بغير حساب } أي يرزقه ولا يحاسبه ويقال يرزقه رزقا لا يدرك حسابه ويقال ليس أحد يحاسبه فيما يعطي ويقال { بغير حساب } أي من غير حساب أي من حيث لا يحتسب ٣٩ثم ضرب مثلا لعمل الكفار فقال عز وجل { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } يعني مثل أعمالهم الخبيثة في الآخرة { كسراب بقيعة } يعني كمثل سراب في مفازة ويقال قاع وقيعة وقيعان يعني أرضا مستوية كما يقال صبي وصبية وصبيان { يحسبه الظمآن ماء } يعني العطشان إذا رأى السراب من بعيد يعني يجده ماء { حتى إذا جاءه } يعني فإذا أتاه ليشرب منه { لم يجده شيئا } مما طلبه وأراده فكذلك الكافر يظن أنه يثاب في صدقته وعتقه وسائر أعماله فإذا جاءه يوم القيامة وجده هباء منثورا ولا ثواب له { ووجد اللّه عنده } أي يوم القيامة عند عمله وهذا كما قال { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : ١٤ ] يعني مصير الخلائق إليه { فوفاه حسابه } يعني يوفيه ثواب عمله { واللّه سريع الحساب } فكأنه حاسب ويقال سريع الحفظ ويقال إذا حاسب فحسابه سريع فيحاسبهم جميعا فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة فلا يشغله حساب أحدهم عن الآخر لأنه لا يحتاج إلى أخذ الحساب ولا يجري فيه الغلط ولا يلتبس عليه ويحفظ على كل صاحب حساب حسابه ليذكره فهذا المثل لأعمال الكفار والتي في ظاهرها طاعة فأخبر أنه لا ثواب لهم بها ثم ضرب مثلا آخر للكافر ٤٠فقال عز وجل { أو كظلمات } قال بعضهم الألف زيادة ومعناه وكظلمات يعني ومثلهم أيضا كظلمات ويقال { أو } للتخيير يعني إن شئت فاضرب لهم المثل بالسراب وإن شئت بالظلمات فقال { أو كظلمات } { في بحر لجي } يعني مثل الكفار كمثل من في الظلمات فشبه قلب المؤمن بالقنديل وشبه قلب الكافر بالظلمات يعني كمثل رجل يكون في بحر عميق في ليل كثير الماء { يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات } يعني يكون في ظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة السحاب فكذلك الكافر في ظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة الجور والظلم ويقال { يغشاه موج من فوقه موج } يعني المعاصي ومن فوقه العداوة والحسد والبغضاء و { من فوقه سحاب } يعني الخذلان من اللّه تعالى ثم قال { ظلمات بعضها فوق بعض } كما قال للمؤمن { نور على نور } فيكون للكافر ظلمة على ظلمة قوله ظلمة وعمله ظلمة وإعتقاده ظلمة وقال أبو العالية يتقلب في خمس من الظلم كلامه ظلمة وعلمه ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمة وهو النار ويقال شبه قلب الكافر بالبحر العميق وشبه أعضاءه بالأمواج الثلاث طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق ثم قال { إذا أخرج يده لم يكد يراها } يعني من شدة الظلمة فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة يعني لم يكن شيء أقرب إليه من نفسه فلم ير نفسه فكذلك الكافر لم ينظر إلى القبر ولم يتفكر في أمر نفسه أيضا كقوله عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : ٢١ ] ثم قال { ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور } يعني من لم يكرمه اللّه بالهدى فما له من مكرم بالمعرفة قرأ إبن كثير { ظلمات } بكسر التاء والتنوين فكأنه يجعله بمنزلة قوله { كظلمات } وقرأ الباقون بالضم على معنى الإبتداء وقرئ في الشاذ سحاب ظلمات على معنى الإضافة ٤١قوله عز وجل { ألم تر أن اللّه يسبح له } يعني يصلي له ويذكر له ويقال يخضع له { من في السموات والأرض } أي من في السموات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق { والطير صافات } يعني مفتوحة الأجنحة وأصل الصف هو البسط ولهذا يسمى اللحم القديد صفيفا لأنه يبسط { كل قد علم صلاته وتسبيحه } يعني كل واحد من المسبحين يعلم كيف يصلي وكيف يسبح { واللّه عليم بما يفعلون } يعني واللّه يعلم عمل كل عامل فيجازيهم بأعمالهم إلا أنه لا يعجل بعقوبة المذنبين والكافرين لأنه قادر عليهم ٤٢قوله تعالى { وللّه ملك السموات والأرض } وهذا معنى قوله وللّه ملك السموات قال مجاهد في قوله { كل قد علم صلاته وتسبيحه } الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه ثم قال { وإلى اللّه المصير } يعني إليه المرجع في الآخرة ٤٣قوله عز وجل { ألم تر أن اللّه يزجي سحابا } يعني يسوق سحابا { ثم يؤلف بينه } يعني يجمع بينه { ثم يجعله ركاما } يعني قطعا قطعا ويقال يجعل بعضها فوق بعض { فترى الودق } يعني المطر { يخرج من خلاله } يعني من وسط السحاب قرأ ابن عباس يخرج خلاله وقراءة العامة { من خلاله } وهي جمع خلل { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } يعني من جبال في السماء قال مقاتل روي عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال جبال السماء أكثر من جبال الأرض فيها من برد يعني في الجبال من برد ويقال وهو الجبال من البرد أي ينزل من السماء من جبال البرد وروي عن ابن عباس أنه قال البرد هو الثلج وما رأيته ويقال الجبال عبارة عن الكثرة يعني ينزل الثلج مقدار الجبال كما تقول عند فلان جبال من مال أي مقدار جبال من كثرته ويقال البرد هو الذي له صلابة كهيئة الجمد { فيصيب به من يشاء } يعني البرد يصيب الزرع والإنسان إذا كان في مفازة { ويصرفه عمن يشاء } فلا يصيبه ويقال { يصيب به } يعني يعذب به من يشاء { ويصرفه عمن يشاء } فلا يعذبه { يكاد سنا برقه } يعني ضوء برقه { يذهب بالأبصار } يعني من شدة نوره قرأ أبو جعفر المدني { يذهب } بضم الياء وكسر الهاء وقراءة العامة { يذهب } بنصب الياء والهاء ٤٤ثم قال { يقلب اللّه الليل والنهار } يعني يذهب اللّه بالليل ويجيء بالنهار ويقال ينقص من النهار ويزيد من الليل { إن في ذلك } يعني في تقلبهما وإختلاف ألوانهما { لعبرة } يعني لآية { لأولي الأبصار } يعني لذوي العقول والفهم في الدين وسئل سعيد بن المسيب أي العبادة أفضل فقال التفكير في خلقه والتفقه في دينه ويقال العبر بالوقار والمعتبر بمثقال ٤٥قوله عز وجل { واللّه خلق كل دابة من ماء } يعني من ماء الذكر قرأ حمزة والكسائي { خالق كل دابة } على معنى الإضافة وقرأ الباقون { خلق كل دابة } على معنى فعل الماضي ويقال هذا معطوف على ما سبق { يهدي اللّه لنوره من يشاء } فكأنه يقول يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما أنه يخلق ما يشاء من الخلق ألوانا ثم وصف الخلق فقال تعالى { فمنهم من يمشي على بطنه } مثل الحية ونحو ذلك فإن قيل لا يقال للدواب منهم وأن هذا اللفظ يستعمل للعقلاء قيل له الدابة إسم عام وهو يقع على ذي روح فيقع ذلك على العقلاء وغيرهم فإذا كان هذا اللفظ يقع على العقلاء وغيرهم فذكر بلفظ العقلاء ولو قال فمنه كان جائزا وينصرف إلى قوله { كل } ولكنه لم يقرأ وإنما قال { يمشي } على وجه المجاز وإن كان حقيقته المشي بالرجل لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع ثم قال { ومنهم من يمشي على رجلين } مثل الإنسان ونحوه { ومنهم من يمشي على أربع } أي على أربع قوائم مثل الدواب وأشباهها فإن قيل إيش الحكمة في خلق كل شيء من الماء قيل له لأن الخلق من الماء أعجب لأنه ليس شيء من الأشياء أشد طوعا من الماء لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده أو أراد أن يبني عليه أو يتخذ منه شيئا لا يمكنه والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء قيل فاللّه تعالى أخبر أنه يخلق من الماء ألوانا من الخلق وهو قادر على كل شيء ثم قال { يخلق اللّه ما يشاء } يعني كما يشاء وكيف يشاء { إن اللّه على كل شيء } من الخلق وخلقه { قدير } أي قادر ٤٦قوله عز وجل { لقد أنزلنا آيات مبينات } قرأ أبو عمرو وعاصم ونافع وإبن كثير في رواية أبي بكر { مبينات } بنصب الياء في جميع القرآن يعني مفصلات وقرأ حمزة والكسائي وإبن عامر { مبينات } بكسر الياء يعني يبين للناس دينهم { واللّه يهدي من يشاء } أي يرشد من كان أهلا لذلك { إلى صراط مستقيم } يعني إلى دين مستقيم وهو دين الإسلام ٤٧قوله عز وجل { ويقولون آمنا باللّه وبالرسول } قال مقاتل نزلت في شأن بشر المنافق وذلك أن رجلا من اليهود كانت بينه وبين بشر خصومة وأن اليهودي دعا بشرا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال بشر نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمدا يحيف علينا فنزل { وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله } وقال في رواية الكلبي إن عثمان بن عفان إشترى من علي رضي اللّه عنهما أرضا فندمه قومه وقالوا عمدت إلى أرض سبخة لا ينالها الماء فاشتريتها ردها عليه فقال قد إبتعتها منه فقالوا ردها فلم يزالوا به حتى أتاه فقال إقبض مني أرضك فإني قد إشتريتها ولم أرضها لأنه لا ينالها الماء فقال له علي رضي اللّه عنه بل إشتريتها ورضيتها وقبضتها مني وأنت تعرفها وتعلم ما هي فلا أقبلها منك قال فدعا علي عثمان رضي اللّه عنهما أن يخاصمه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال قوم عثمان لا تخاصمه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فإن خاصمته إليه قضى له عليك وهو إبن عمه وأكرم عليه منك ثم إختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقضى لعلي على عثمان فنزل في قوم عثمان رضي اللّه عنه { ويقولون آمنا باللّه وبالرسول } يعني صدقنا باللّه وبالرسول { وأطعنا } { ثم يتولى فريق منهم } أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم { من بعد ذلك } الإقرار { وما أولئك بالمؤمنين } يعني بمصدقين قال بعضهم هذا التفسير الذي ذكره الكلبي غير صحيح لأن قوم عثمان كانوا مؤمنين من الذين هاجروا معه إلى المدينة وقد ذكر أنهم ليسوا بمؤمنين وقال بعضهم هذا صحيح لأن في قوم عثمان بعضهم منافقين مبغضين لبني هاشم لعداوة كانت بينهم في الجاهلية وكان عثمان يميل إلى قرابته ولا يعرف نفاقهم ويقال { وما أولئك بالمؤمنين } يعني ليس عملهم عمل المؤمنين المخلصين ٤٨ثم قال عز وجل { وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله } يعني إلى حكم اللّه ورسوله ويقال إلى كتاب اللّه تعالى وسنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم { ليحكم بينهم } يعني ليقضي بينهم بالقرآن { إذا فريق منهم معرضون } يعني طائفة منهم معرضون عن طاعة اللّه ورسوله ٤٩قوله عز وجل { وإن يكن لهم الحق } يعني القضاء { يأتوا إليه مذعنين } يعني خاضعين مسرعين طائعين قال الزجاج الإذعان الإسراع مع الطاعة ٥٠ثم قال { أفي قلوبهم مرض } أي شك ونفاق { أم إرتابوا } يعني شكوا في القرآن { أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم ورسوله } يعني يجور اللّه عليهم ورسوله قال بعضهم اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإفهام فكأن اللّه تعالى يعلمنا بأن في قلوبهم مرضا وأنهم شكوا ونافقوا ويقال في قلوبهم مرض يعني بل في قلوبهم مرض أم { إرتابوا } بل شكوا ونافقوا قال اللّه تعالى { بل أولئك هم الظالمون } يعني هم الظالمون لا النبي صلى اللّه عليه وسلم ٥١ثم قال عز وجل { إنما كان قول المؤمنين } يعني المصدقين { إذا دعوا إلى اللّه ورسوله } يعني إلى كتاب اللّه ورسوله يعني أمر رسوله { ليحكم بينهم } يعني ليقضي بينهم بالقرآن { أن يقولوا سمعنا وأطعنا } يعني سمعنا قول النبي صلى اللّه عليه وسلم وأطعنا أمره فإن فعلوا ذلك { وأولئك هم المفلحون } يعني الناجين الفائزين ٥٢ثم قال عز وجل { ومن يطع اللّه ورسوله } يعني يطع اللّه في الفرائض ويطع الرسول في السنن { ويخش اللّه } فيما مضى { ويتقه } فيما يستقبل { فأولئك هم الفائزون } أي الناجون وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى { ومن يطع اللّه ورسوله } فيوحده { ورسوله } فيصدقه بالرسالة يخشى اللّه فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما بقي من عمره { فأولئك } هم الفائزون يعني الناجين من العذاب آمنين عند سكرات الموت قال فلما نزلت هذه الآية أقبل عثمان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال يا رسول اللّه إن شئت لأخرجن من أرضي ولأدفعنها إليه وحلف على ذلك فمدحه اللّه تعالى بذلك ٥٣فقال عز وجل { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } يعني حلفوا باللّه وإذا حلفوا باللّه كان ذلك جهد اليمين { لئن أمرتهم ليخرجن } من الأموال قال اللّه تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم { قل لا تقسموا } يعني لا تحلفوا { طاعة معروفة } يعني هذه منكم طاعة معروفة وقال القتبي ومعناه هذه طاعة معروفة لا طاعة نفاق فكأن فيه مضمرا لأن بعض الناس منافقون فأخبر أن هذه طاعة ليس فيها نفاق ثم قال { إن اللّه خبير بما تعملون } يعني في السر والعلانية ٥٤ثم قال عز وجل { قل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول } يعني أطيعوا اللّه في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن { فإن تولوا } يعني أعرضوا عن الطاعة للّه والرسول { فإنما عليه ما حمل } يعني ما أمر بتبليغ الرسالة وليس عليه من وزركم شيء { وعليكم ما حملتم } يعني ما أمرتم والإثم عليكم إذا تركتم الإجابة { وإن تطيعوه } يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم { تهتدوا } من الضلالة ثم قال { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وفي الآية مضمر فكأنه يقول وإن تعصوه { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } يعني ليس عليه إلا التبليغ ٥٥قوله عز وجل { وعد اللّه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات } وذلك أن كفار مكة لما صدوا المسلمين عن مكة عام الحديبية فقال المسلمون لو فتح اللّه تعالى مكة ودخلناها آمنين فنزل قوله { ليستخلفنهم في الأرض } يعني لينزلنهم في أرض مكة { كما إستخلف الذين من قبلهم } يعني من قبل أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم من بني إسرائيل وغيرهم { وليمكنن لهم } يعني ليظهرن لهم { دينهم } الإسلام { الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم } من كفار { أمنا } من الكفار { يعبدونني } يعني لكي يعبدوني { لا يشركون بي شيئا } ويقال معناه يعبدونني لا يشركون بي شيئا أي يظهر عبادة اللّه تعالى ويبطل الشرك وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بمكة زمانا نحوا من عشر سنين وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى إذا أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة أمرهم اللّه تعالى بالقتال فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فقال رجل من أصحابه يا رسول اللّه نحن أبدا خائفون هل يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يكون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة ونزلت هذه الآية { وعد اللّه الذين آمنوا منكم } الآية ويقال نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم { ليستخلفنهم } يعني يكونوا خلفاء بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واحدا بعد واحد ثم قال { ومن كفر بعد ذلك } يعني بعد الأمن والتمكين { فأولئك هم الفاسقون } يعني العاصين قرأ عاصم في رواية أبي بكر { كما إستخلف } بضم التاء وكسر اللام على فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون بنصب التاء واللام لأنه سبق ذكر اللّه تعالى وقرأ إبن كثير وعاصم في رواية أبي بكر { وليبدلنهم } بالتخفيف وقرأ الباقون بتشديد الدال من بدل يبدل والأول من أبدل يبدل ٥٦قوله عز وجل { وأقيموا الصلاة } يعني أقروا بها وأتموها { وآتوا الزكاة } يعني أقروا بها وأعطوها { وأطيعوا الرسول } فيما يأمركم به من التوحيد والطاعة { لعلكم ترحمون } فلا تعذبون ٥٧قوله عز وجل { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض } يعني فائتين ويقال سابقين أمر اللّه تعالى ويقال معناه لا تظن أنهم يهربون منا وأنهم يفوتون من عذابنا { ومأواهم النار وبئس المصير } يعني صاروا إليه وبئس المرجع قرأ حمزة وإبن عامر { لا يحسبن } بالياء ونصب السين وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة وكسر السين ٥٨قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا } قال ابن عباس وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ظهيرة ليدعوه فانطلق الغلام ليدعوه فوجده نائما قد أغلق الباب فأخبر الغلام أنه في هذا البيت فقرع الباب على عمر فلم يستيقظ فدخل فاستيقظ عمر فجلس وانكشف منه شيء فرآه الغلام فعرف عمر أنه قد رآه فقال عمر وددت أن اللّه تعالى نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعة إلا بإذن ثم إنطلق معه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } يعني العبيد والإماء والولائد { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } يعني وليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم يعني الإحتلام وهم الأحرار من الغلمان { ثلاث مرات } لأنها ساعات غرة وغفلة ثم بين الساعات الثلاث فقال { من قبل صلاة الفجر } لأن ذلك وقت لباس الثياب { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } يعني وقت القيلولة { ومن بعد صلاة العشاء } وذلك وقت النوم { ثلاث عورات لكم } يعني ثلاث ساعات وقت غرة وغفلة وهن أوقات التجرد وظهور العورة وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية واحدة { ثلاث عورات } بنصب الثاء وقرأ الباقون بالضم فمن قرأ بالنصب فمعناه ليستأذنكم ثلاث عورات أي ثلاث ساعات ومن قرأ بالضم فمعناه هي ثلاث عورات فيكون خبرا عن الأوقات الثلاثة وروى عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن قوله { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات } فقال ابن عباس إن اللّه تعالى ستير يحب الستر وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم فربما فاجأ الرجل ولده أو خادمه أو يتيم في حجره وهو مع أهله فأمرهم اللّه تعالى أن يستأذنوا في ثلاث ساعات التي سمى اللّه تعالى ثم جاء اللّه باليسر وبسط الرزق عليهم فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الإستذان الذي قد أمروا به وقد قيل إن فيه دليلا أن ذلك الحكم إذا ثبت فإذا زال المعنى زال الحكم وقال مجاهد الإستئذان هو التنحنح ثم قال { ليس عليكم ولا عليهم } أي ليس عليكم يا معشر المؤمنين ولا عليهم يعني الخدم { جناح بعدهن } يعني ما ثم بعد الساعات الثلاث { طوافون عليكم } يعني يتقلبون فيكم ليلا ونهارا يدخلون عليكم بغير إستئذان في الخدمة { بعضكم على بعض } يعني يدخل بعضكم على بعض بغير إذن { كذلك يبين اللّه لكم الآيات } يعني أمره ونهيه في الإستئذان { واللّه عليم } بصلاح الناس { حكيم } حكم بالإستئذان ٥٩قوله عز وجل { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } يعني الإحتلام { فليستأذنوا كما إستأذن الذين من قبلهم } يعني الكبار من ولد الرجل وأقربائه معناه فليستأذنوا في كل وقت كما إستأذن الذين من قبلكم يعني من الرجال { كذلك يبين اللّه لكم آياته } أي أمره ونهيه في كل وقت { واللّه عليم } بصلاحكم { حكيم } حكم بالإستذان ٦٠قوله { والقواعد من النساء } يعني الآيسات من الحيض والقاعدة المرأة التي قعدت عن الزوج وعن الحيض والولد والجماعة قواعد { اللاتي لا يرجون نكاحا } يعني لا يحتجن إلى الزوج ولا يرغب فيهن { فليس عليهن جناح } أي مأثم { أن يضعن ثيابهن } يعني جلبابهن ويخرجن بغير جلباب { غير متبرجات بزينة } والتبرج إظهار الزينة يعني لا يؤذن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن { وأن يستعففن } يعني يتعففن فلا يضعن الجلباب { خير لهن } من الوضع { واللّه سميع } لمقالتهن يعني العجوز إذا وضعت جلبابها وتبدي زينتها وتقول من يرغب في { عليم } بنيتها وبفعلها ويقال { سميع عليم } بجميع ما سبق في هذه السورة ويقال { سميع عليم } إنصرف إلى ما بعده فيما يتحرجون عن الأكل ٦١قوله عز وجل { ليس على الأعمى حرج } قال في رواية الكلبي كانت الأنصار يتنزهون عن الأكل مع الأعمى والمريض والأعرج وقالوا إن هؤلاء لا يقدرون أن يأكلوا مثل ما نأكل فنزل { ليس على الأعمى حرج } يعني ليس على من أكل مع الأعمى حرج { ولا على } من أكل مع { الأعرج حرج ولا على } من أكل مع { المريض حرج } إذا أنصف في مؤاكلته وقال بعضهم هذا التفسير خطأ وهو غير محتمل في اللغة لأنه أضاف الحرج إلى الأعمى لا إلى من أكل معه وقد قيل إن هذا صحيح لأنه ذكر الأعمى وأراد به الأكل مع الأعمى كقوله { وأشربوا في قلوبهم العجل } [ البقرة : ٩٣ ] أي حب العجل قال وكما قال { واسأل القرية } وللآية وجه آخر وهو أن الأعمى كان يتحرج عن الأكل مع الناس مخافة أن يأكل أكثر منهم وهو لا يشعر والأعرج أيضا يقول إني أحتاج لزمانتي أن يوسع لي في المجلس فيكون عليهم مضرة والمريض يقول الناس يتأذون مني لمرضي ويقذرونني فيفسد عليهم الطعام فنزل { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } يعني لا بأس بأن يأكلوا مع الناس ولا مأثم عليهم ولها وجه آخر وهو ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت كان الناس يخرجون إلى الغزو ويدفعون مفاتيحهم إلى الزمنى والمرضى ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في منازلنا وكانوا يتورعون منازلهم حتى نزلت هذه الآية وإلى هذا يذهب الزهري رضي اللّه عنه وذكر أيضا أن مالك بن زيد وكان صديقه الحارث بن عمرو خرج غازيا وخلف مالكا في أهله وماله وولده فلما رجع الحارث رأى مالكا متغيرا لونه فقال ما أصابك فقال لم يكن عندي شيء آكله فجهدت من الشدة والجوع ولم يكن يحل لي أن آكل شيئا من مالك فنزلت هذه الآية إلى قوله { أو صديقكم } ثم قال تعالى { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم أو من بيوت عيالكم وأزواجكم ويقال { من بيوتكم } يعني من بيوت بعضكم بعضا وذلك أنه لما نزل قوله { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } إمتنع الناس من أن يأكل بعضهم من طعام بعض فنزلت في ذلك { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } يعني من بيوت بعضكم بعضا { أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم } يعني لا بأس أن يأكل من بيت هؤلاء بغير إذنهم لأنه يجري بينهما من الإنبساط ما يغني عن الإذن ثم قال { أو ما ملكتم مفاتحه } أي خزائنه يعني عبيدكم وإماءكم إذا كان له عبد مأذون فلا بأس أن يأكل من ماله لأن ذلك من مال مولاه ويقال يعني حافظ البيوت فلا بأس أن يأكل مقدار حاجته ثم قال { وصديقكم } يعني لا جناح على الصديق أن يأكل من بيت صديقه إذا كان بينهما إنبساط وروي عن قتادة أنه قال لو دخلت على صديق ثم أكلت من طعامه بغير إذنه كان حلالا ثم قال { ليس عليكم أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } يعني جماعة أو متفرقين في بيت هؤلاء ويقال إنهم كانوا يمتنعون عن الأكل وحده وذكر في قوله تعالى { إن الإنسان لربه لكنود } [ العاديات : ٦ ] يعني الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده فرخص في هذه الآية لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحدا يأكل معه وروى معمر عن قتادة قال نزلت الآية في حي من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده وكان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكل معه فنزل { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } ثم قال { فإذا دخلتم بيوتا } قال مقاتل يعني دخلتم بيوت المسلمين { فسلموا على أنفسكم } يعني بعضكم على بعض كما قال { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : ٢٩ ] يعني بعضكم بعضا وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس { فإذا دخلتم بيوتا } قال هو المسجد { فسلموا على أنفسكم } يعني فقولوا السلام علينا من ربنا { تحية من عند اللّه } يعني السلام { مباركة } بالأجر { طيبة } بالمغفرة وقال إبراهيم النخعي { فسلموا على أنفسكم } إذا كان في البيت إنسان يقول السلام عليكم وإذا لم يكن فيه أحد يقول السلام علينا من ربنا وعلى عباد اللّه الصالحين وهكذا قال مجاهد وقال الحسن والكلبي { فسلموا على أنفسكم } يعني بعضكم على بعض وروى أبو ذر رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أبخل الناس الذي يبخل بالسلام ويقال إن معنى السلام إذا قال السلام عليكم يعني السلامة لكم مني فكأنه آمنهم من شر نفسه ويقال يعني حفظكم اللّه من الآفات ويقال السلام هو اللّه تعالى فكأنه يقول اللّه حفيظ عليكم ومطلع على ضمائركم فإن كنتم في خير فزيدوا وإن كنتم في شر فانزجروا { تحية من عند اللّه } وأصل التحية هو البقاء والحياة كقوله حياك اللّه وإنما صار نصبا على المصدر ثم قال { كذلك يبين اللّه لكم الآيات } يعني أمره ونهيه في أمر الطعام والشراب { لعلكم تعقلون } أي لكي تعقلوا وتفهموا وتعملوا به ٦٢قوله عز وجل { إنما المؤمنون } يعني المصدقين { الذين آمنوا باللّه ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع } يعني مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على أمر جمعهم لتدبير في أمر جهاد أو في أمر من أمور اللّه تعالى فيه طاعة { لم يذهبوا } يعني لم يفارقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { حتى يستأذنوه } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يجمعهم يوم الجمعة فيستشيرهم في أمر الغزو فكان يثقل على بعضهم المقام فيخرجون بغير إذنه وقال بعضهم نزلت في يوم الخندق وكان بعض الناس يرجعون إلى منازلهم بغير إذن النبي صلى اللّه عليه وسلم وتركوه وأصحابه فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وأمرهم بأن لا يرجعوا إلا بإذنه عليه السلام وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو لا ينبغي لأحد أن يرجع بغير إذنه وفي الآية بيان حفظ الأدب بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو لا ينبغي لأحد أن يرجع إلا بإذنه ولا يخالف أمر السرية وروي عن مكحول أنه سئل عن هذه الآية وعنده عطاء قال هذا في الجمعة وفي الزحف وفي كل أمر جامع ثم قال تعالى { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون باللّه ورسوله } وليسوا بمنافقين وكان المؤمنون بعد نزول هذه الآية لم يرجعوا حتى يستأذنوا وأما المنافقون فيرجعون بغير إذنه ثم قال { فإذا إستأذنوك لبعض شأنهم } يعني لبعض أمورهم وحوائجهم { فأذن لمن شئت منهم } ولا تأذن لمن شئت لأن بعض المنافقين لم يكن لهم في الرجوع حاجة فإن أرادوا أن يرجعوا فلا تأذن لهم وأذن للمؤمنين وقال مقاتل نزلت في شأن عثمان حين إستأذن في غزوة تبوك بالرجوع إلى أهله فأذن له ثم قال { واستغفر لهم اللّه } أي فيما إستأذنوك من الرجوع بغير حاجة لهم { إن اللّه غفور } لمن تاب { رحيم } به ٦٣ثم قال عز وجل { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم } يعني لا تدعوا محمدا بإسمه صلى اللّه عليه وسلم { كدعاء بعضكم بعضا } ولكن وقروه وعظموه وقولوا يا رسول اللّه ويا نبي اللّه ويا أبا القاسم وفي الآية بيان توقير معلم الخير لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان معلم الخير فأمر اللّه عز وجل بتوقيره وتعظيمه وفيه معرفة حق الأستاذ وفيه معرفة أهل الفضل ثم ذكر المنافقين فقال تعالى { قد يعلم اللّه } يعني يرى اللّه { الذين يتسللون منكم } يعني يخرجون من المسجد { لواذا } يلوذ بعضهم ببعض وذلك أن المنافقين كان يشق عليهم المقام هناك يوم الجمعة وغيره فيتسللون من بين القوم ويلوذ الرجل بالرجل أو بالسارية لئلا يراه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى يخرج من المسجد يقال لاذ يلوذ إذا عاذ وامتنع بشيء ويقال معنى لواذا هنا معنى الخلاف يعني يخالفون خلافا فخوفهم اللّه تعالى عقوبته فقال { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } يعني عن أمر اللّه تعالى ويقال عن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويقال { عن } زيادة في الكلام للصلة ومعناه يخالفون أمره إلى غير ما أمرهم به { أن تصيبهم فتنة } يعني الكفر لأن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واجب فمن تركه على وجه الجحود كفر ويقال { فتنة } يعني بلية في الدنيا ويقال فساد في القلب { أو يصيبهم عذاب أليم } يعني يصيبهم عذابا عظيما في الآخرة ويقال القتل بالسيف ويقال يجعل حلاوة الكفر في قلبه وقوله { أو } على معنى الإفهام لا على وجه الشك والتخيير ٦٤ثم قال عز وجل { ألا إن للّه ما في السموات والأرض } من الخلق عبيده وإماؤه وفي مملكته { قد يعلم ما أنتم عليه } من الإستقامة في الإيمان والنفاق وغير ذلك ويقال { قد يعلم ما أنتم عليه } من خير أو شر فيجازيكم بذلك { ويوم يرجعون إليه } في الآخرة { فينبئهم بما عملوا } من خير أو شر فيجازيهم بذلك { واللّه بكل شيء عليم } من أعمالهم وأقوالهم وبما في أنفسهم وروي عن الأعمش عن سفيان بن سلمة قال شهدت ابن عباس ولي الموسم وقرأ سورة النور على المنبر وفسرها فلو سمعتها الروم لأسلمت وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم |
﴿ ٠ ﴾