سورة النمل

كلها مكية وهي تسعون وأربع آيات مكية

١

قول اللّه سبحانه وتعالى { طس تلك آيات القرآن } يعني هذه الأحكام ويقال تلك الآيات التي وعدتم بها وذلك أنهم وعدوا بالقرآن في كتبهم ويقال { آيات } يعني العلامات ويقال جميع أحرف القرآن { وكتاب مبين } كلاهما واحد وإنما كرر اللفظ للتأكيد { مبين } يعني بين ما فيه من أمره ونهيه ويقال مبين لأحكام الحلال والحرام

٢

ثم قال { هدى } يعني القرآن هدى وبيانا من الضلالة لمن عمل به ويقال { هدى } يعني هاديا { وبشرى للمؤمنين } يعني ما فيه من الثواب للمؤمنين قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو { وبشرى } بإمالة الراء وقرأ الباقون بالتفخيم وكلاهما جائز والإمالة أكثر في كلام العرب والتفخيم أفصح وهي لغة أهل الحجاز { للمؤمنين } يعني للمصدقين بالقرآن أنه من اللّه تعالى

٣

ثم نعتهم فقال { الذين يقيمون الصلاة } يعني يقرون بها ويتمونها { ويؤتون الزكاة } يعني يقرون بها ويعطونها { وهم بالآخرة هم يوقنون } يعني يصدقون بأنها كائنة

٤

ثم قال { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت { زينا لهم أعمالهم } يعني ضلالتهم عقوبة لهم ولما عملوا ومجازاة لكفرهم زينا لهم سوء أعمالهم { فهم يعمهون } يعني يترددون فيها ويتحيرون في ضلالتهم

٥

قوله عز وجل { أولئك } يعني أهل هذه الصفة { الذين لهم سوء العذاب } يعني شدة العذاب { وهم في الآخرة هم الأخسرون } يعني الخاسرون بحرمان النجاة والمنع من الحسنات ويقال هم أخسر من غيرهم

وقال أهل اللغة متى ذكر الأخسر مع الألف واللام فيجوز أن يراد به الأخسر من غيرهم وإن لم يذكر غيرهم وإن ذكر بغير ألف ولام فلا يجوز أن يراد به أنه أخسر إلا أن يقال هو أخسر من فلان أو من غيره

٦

قوله عز وجل { وإنك لتلقى القرآن } يعني لتؤتى بالقرآن يعني كقوله { وما يلقاها } [ فصلت : ٣٥ ] يعني وما يؤتى بها ويقال { وإنك لتلقى بالقرآن } يعني لتلقن القرآن

وقال أهل اللغة تلقى وتلقن بمعنى واحد إذا أخذ وقبل من غيره ويقال { وإنك لتلقى القرآن } أي يلقى إليك القرآن وحيا من اللّه عز وجل ثم قال { من لدن حكيم عليم } يعني نزل عليك جبريل من عند { حكيم } عليم في أمره { عليم } بأعمال الخلق

٧

قوله عز وجل { إذ قال موسى لأهله } قال بعضهم معناه إنه عليم بما ينزل عليك كعلمه بقول موسى عليه السلام ويقال حكمت لك بالنبوة كما حكمت لموسى إذ قال لأهله { إني آنست نارا } يعني رأيت نارا وأبصرتها من بعيد { سأتيكم منها بخبر } يعني خبر الطريق { أو آتيكم بشهاب قبس } يعني بنار أصيبها ويقال كل أبيض ذي نور فهو شهاب والقبس كل ما يقتبس من النار والقبس يعني المقبوس كما يقال ضرب فلان يعني مضروبه

قرأ عاصم وحمزة والكسائي { شهاب قبس } بالتنوين وقرأ الباقون بغير تنوين فمن قرأ منونا جعل القبس نعتا لشهاب ومن قرأ { بشهاب } غير منون أضاف الشهاب إلى القبس

ثم قال { لعلكم تصطلون } يعني تستدفئون من البرد

٨

قوله عز وجل { فلما جاءها } يعني النار ويقال يعني الشجرة { نودي أن بورك من في النار } يعني بورك من عند النار وهو موسى عليه السلام { ومن حولها } يعني الملائكة عليهم السلام وهو على وجه التقديم { فلما جاءها } ومن حولها من الملائكة { نودي أن بورك من في النار } أي عند النار ويقال من في طلب النار وقصدها والمعنى بورك فيك يا موسى

وقال أهل اللغة بارك فلان وبارك فيه وبارك عليه واحد وهذا تحية من اللّه تعالى لموسى عليه السلام

ثم قال { وسبحان اللّه } يعني قيل له قل سبحان اللّه تنزيها للّه تعالى من السوء ويقال إنه أي اللّه في النداء قال { فسبحان اللّه رب العالمين } وقال بعض المفسرين كان ذلك نور رب العزة وإنما أراد به تعظيم ذلك النور كما يقال للمساجد بيوت اللّه تعظيما لها

٩

ثم قال عز وجل { يا موسى إنه أنا اللّه } وذكر عن الفراء أنه قال هذه الهاء عماد وإنما يراد به وصل الكلام كما يقال إنما وما يكون للوصل كذلك ها هنا فكأنه قال يا موسى إني أنا اللّه { العزيز الحكيم } ويقال معناه إن الذي تسمع نداءه هو اللّه العزيز الحكيم

١٠

قوله عز وجل { وألق عصاك } يعني من يدك فألقاها فصارت حية وقد يجوز أن يضمر الكلام إذا كان في ظاهره دليل { فلما رآها تهتز } يعني تتحرك { كأنها جان } يعني حية والجان هي الحية الخفيفة الأهلية

فإن قيل إنه قال في موضع آخر { فإذا هي ثعبان مبين } [ الأعراف : ١٠٧ ] والثعبان الحية الكبيرة

فأجاب بعض أصحاب المعاني أنه كان في كبر الثعبان وفي خفة الجان قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه والجواب الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون والجان عند الطور

ثم قال { ولى مدبرا } يعني أدبر هاربا من الخوف { ولم يعقب } يعني لم يرجع ويقال لم يلتفت يقول اللّه تعالى لموسى { يا موسى لا تخف } من الحية { إني لا يخاف لدي المرسلون } يعني إلا من ظلم ثم إستثنى فقال { إلا من ظلم } قال مقاتل إلا من ظلم نفسه من المرسلين مثل آدم وسليمان وإخوة يوسف وداود وموسى صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين ويقال { إلا من ظلم } يعني لكن من ظلم { ثم بدل حسنا } أي فعل إحسانا { بعد سوء } أي بعد إساءته { فإني غفور رحيم } قال الكلبي { إلا من ظلم } يعني أشرك فهذا الذي يخاف { ثم بدل حسنا } يعني توحيدا بعد سوء يعني بعد شرك { فإني غفور رحيم }

١١

قال أبو الليث رحمه اللّه وتكون إلا على هذا التفسير بمعنى لكن لا على وجه الإستثناء وذكر عن الفراء أنه قال الإستثناء وقع في معنى مضمر من الكلام كأنه قال لا يخاف لدي المرسلون بل غيرهم يخاف { إلا من ظلم نفسه ثم تاب } فإنه لا يخاف

وقال القتبي هذا لا يصح لأن الإضمار يصح إذا كان في ظاهره دليل ولكن معناه أن اللّه تعالى لما قال { إني لا يخاف لدي المرسلون } علم أن موسى كان مستشعرا خيفة من قبل القبطي فقال { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء } فإنه يخاف ولكني أغفر له { فإني غفور رحيم }

١٢

ثم قال عز وجل { وأدخل يدك في جيبك } يعني جيب المدرعة ثم أخرجها { تخرج بيضاء من غير سوء } يعني من غير برص { في تسع آيات } يعني هذه الآية من تسع آيات كما تقول أعطيت لفلان عشرة أبعرة فيها فحلان أي منها وقد بين في موضع آخر حيث قال { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [ الإسراء : ١٠١ ] وقد ذكرناها { إلى فرعون } يعني إذهب إلى فرعون { وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين } يعني إنهم كانوا قوما عاصين

١٣

قوله { فلما جاءتهم آياتنا } يعني جاءهم موسى بآياتنا التسع { مبصرة } يعني معاينة ويقال مبينة يعني علامة لنبوته ويقال { مبصرة } يعني مضيئة واضحة { قالوا هذا سحر مبين } أي بين

١٤

 { وجحدوا بها } يعني بالآيات بعد المعرفة { واستيقنتها أنفسهم } أنها من اللّه تعالى وإنما إستيقنتها قلوبهم لأن كل آية رأوها إستغاثوا بموسى وسألوا بأن يكشف عنهم فكشفنا عنهم فظهر لهم بذلك أنه من اللّه تعالى وفي الآية تقديم ومعناه وجحدوا بها { ظلما } يعني شركا { وعلوا } يعني تكبرا وترفعا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى { وإستيقنتها } أنفسهم يعني وهم يعلمون أنها من اللّه تعالى

ثم قال { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } يعني الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي فكانت عاقبتهم الغرق

١٥

قوله عز وجل { ولقد آتينا داود وسليمان علما } يعني علم القضاء والعلم بكلام الطير والدواب { وقالا } يعني داود وسليمان { الحمد للّه الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } بالكتاب والنبوة وكلام الطير والبهائم والملك ويقال فضلنا على كثير من الأنبياء حيث لم يعط أحدا من الأنبياء عليهم السلام ما أعطانا وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا وأقضى من داود وكان داود أشد تعبدا من سليمان عليهما السلام

١٦

ثم قال عز وجل { وورث سليمان داود } يعني ورث ملكه وقال الحسن ورث المال والملك لا النبوة والعلم لأن النبوة والعلم فضل اللّه تعالى ولا يكون بالميراث ويقال ورث العلم والحكم لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون دراهم ولا دنانير

{ وقال } سليمان لبني إسرائيل { يا أيها الناس علمنا منطق الطير } يعني أفهمنا وألهمنا منطق الطير وذلك أن سليمان كان جالسا في أصحابه إذ مر بهم طير يصوت فقال لجلسائه أتدرون ماذا يقول قالوا لا قال إنه يقول ليت الخلق لم يخلقوا فإذا خلقوا علموا لماذا خلقوا قال وصاح عنده ديك فقال هل تدرون ماذا يقول قالوا لا قال إنه يقول أذكروا اللّه يا غافلون

ثم قال { وأوتينا من كل شيء } يعني أعطينا علم كل شيء ويقال النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح { إن هذا } الذي أعطينا { لهو الفضل المبين } يعني البين ويقال المبين يبين للناس فضلهم

١٧

ثم قال عز وجل { وحشر لسليمان جنوده } يعني جموعه والحشر هو أن يجمع ليساق

ثم قال { من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } يعني يساقون ويقال { يوزعون } يعني يكفون ويحبس أولهم على آخرهم وأصل الوزع الكف يقال وزعت الرجل إذا كففته وعن الحسن أنه قال لا بد للناس من وزعة أي من سلطان يكفهم وقال مقاتل إنه إستعمل جنيا عليهم يرد أولهم على آخرهم ويقال هكذا عادة القوافل والعساكر ويقال { وحشر } أي جمع لسليمان جنودة في مسيرة له من الجن والإنس والطير { فهم يوزعون } يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا

١٨

قوله عز وجل { حتى إذا أتوا على واد النمل } وذلك أن سليمان كان له بساط فرسخ في فرسخ ويقال أربع فراسخ في أربع فراسخ وكان يضع عليه كرسيه وجميع عساكره عليه ثم يأمر الريح فترفعه وتذهب به مسيرة شهر في ساعة واحدة فركب ذات يوم في جموعه فمر بواد النمل في أرض الشام { قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم } يعني في بيوتكم ويقال حجركم { لا يحطمنكم } أي لا يهلكنكم ويقال لا يكسرنكم { سليمان وجنوده } بأن يظلموكم وإنما خاطبهم بقوله { أدخلوا } بخطاب العقلاء لأنه حكى عنهم ما يحكى عن العقلاء ثم قال { وهم لا يشعرون } يعني قوم سليمان لا يشعرون بكم ولو كانوا يشعرون بكم لا يحطمونكم لأنهم علموا أن سليمان ملك عادل لا بغي فيه ولا جور فيه ولئن علم بها لم توطأ ويقال { وهم لا يشعرون } يعني جنوده خاصة لأنه علم أن سليمان يعلم بمكانه ويتعاهده ويقال { وهم لا يشعرون } يعني النمل لا يشعرون بجنود سليمان حتى أخبرتهم النملة المنذرة فرفع الريح صوتها إلى سليمان

١٩

 { فتبسم ضاحكا من قولها } كما يكون ضحك الأنبياء عليهم السلام وإنما ضحك من ثنائها على سليمان بعدله في ملكه يعني أنه لو شعر بكم لم يحطمنكم ويقال { فتبسم ضاحكا } أي متعجبا ويقال فرحا بما أنعم اللّه تعالى عليه { ضاحكا } صار نصبا على الحال و { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي } يعني ألهمني ويقال أوزعني من الكف أيضا كأنه قال إحفظ جوارحي لكيلا تشتغل بشيء سوى شكرك الذي أنعمت علي { وعلى والدي } يعني النبوة والملك { وأن أعمل صالحا ترضاه } يعني تقبله مني وذكر أنه مر بزارع فقال الزارع إنه ما أعطي مثل هذا الملك لأحد فقال له سليمان ألا أنبئك بما هو أفضل من هذا القصد في الغنى والفقر وتقوى اللّه تعالى في السر والعلانية والقضاء بالعدل في الرضا والغضب

ثم قال تعالى { وأدخلني برحمتك } يعني في جنتك { في عبادك الصالحين } يعني مع عبادك الصالحين يعني المرسلين فوقف سليمان عليه السلام بموضعه ليدخل النمل مساكنهم ثم مضى قرأ يعقوب الحضرمي وأبو عمرو في إحدى الروايتين { لا يحطمنكم } بسكون النون وقراءة العامة بنصب النون والتشديد وهذه النون تدخل للتأكيد فيجوز التخفيف والتثقيل ولفظه لفظ النهي ومعناه جواب الأمر يعني إن لم تدخلوا مساكنكم حطمكم

٢٠

ثم قال عز وجل { وتفقد الطير } يعني طلب الطير وذلك أنه أراد أن ينزل منزلا فطلب الهدهد { فقال ما لي لا أرى الهدهد } وكا رئيس الهداهد وكان سليمان قد جعل على كل صنف منهم رئيسا ثم جعل الكركي رئيسا على جميع الطيور قرأ نافع وأبو عمرو وإبن عامر وحمزة { ما لي } بسكون الياء وقرأ الباقون بنصب الياء وهما لغتان يجوز كلاهما

ثم قال { أم كان من الغائبين } يعني أم كان غائبا لم يحضر بعد ويقال الميم للصلة ومعناه { أكان من الغائبين } يعني أصار من الغائبين وذكر أن الهدهد كان مهتديا يعرف المسافة التي بينهم وبين الماء ويقال كان يعرف الماء من تحت الأرض ويراه كما يرى من القارورة

وروى عكرمة أنه قال قلت لابن عباس كيف يرى الماء من تحت الأرض وأن صبياننا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة فقال ابن عباس ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان أما علمت أنه إذا نزل القضاء ذهب البصر فدعا سليمان أمير الطير فسأله عن الهدهد فقال أصلح اللّه الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا فغضب سليمان عند ذلك

٢١

وقال { لأعذبنه عذابا شديدا } يعني لأنتفن ريشه فلا يطير مع الطيور حولا ولأشمسنه في الحر حتى يأكله الذر { أو لأذبحنه } يعني لأقتلنه حتى لا يكون له نسل { أو ليأتيني بسلطان مبين } يعني بحجة بينة واضحة أعذره بها

فإن قيل كيف يجوز أن يعاقب من لا يجري عليه القلم

قيل له تجوز العقوبة على وجه التأديب إذا كان منه ذنب كما يجوز للأب أن يؤدب ولده الصغير وأما الذبح فيجوز وإن لم يكن منه الذنب

قرأ إبن كثير { ليأتينني } بنونين وقرأ الباقون بنون واحدة فمن قرأ بنونين فهو للتأكيد لأن النون الأولى مشددة وتسمى تلك نون القسم وهي في الحقيقة نونين والنون الثانية للإضافة ومن قرأ بنون واحدة فقد إستقل الجمع بين النونات واقتصر على نونين فأدغم إحداهما في الأخرى

٢٢

قوله عز وجل { فمكث غير بعيد } قرأ عاصم بنصب الكاف وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان ومعناهما واحد يعني لم يلبث إلا قليلا ويقال لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد { فقال } فقال له سليمان أين كنت فخر له ساجدا وقال { أحطت } وفي الآية مضمر معناه فمكث غير بعيد أن جاءه الهدهد فقال له سليمان أين كنت فخر له ساجدا فقال { أحطت بما لم تحط به } يعني علمت ما لم تعلم به وجئتك بخبر لم تكن تعلمه ولم يخبرك عنه أحد ثم أخبره فقال { وجئتك من سبأ بنبأ يقين }

فإن قيل كيف يجوز أن يقال إن سليمان لم يعلم به وكانت أرض سبأ قريبة منه وهناك ملك لم يعلم به سليمان

قيل له علم سليمان ذلك ولكنه لم يعلم أنهم يسجدون للشمس ويقال إنه علم بها ولكنه لم يعلم أن ملكها قد بلغ هذا المبلغ وعلم أنهم أهل الضلالة والإحاطة هي العلم بالأشياء بما فيها وجهاتها كما قال { وجئتك من سبأ } يعني من أرض سبأ وهي مدينة باليمن { بنبإ يقين } يعني بخبر صدق لا شك فيه ويقال بخبر عجيب

قرأ إبن كثير وأبو عمرو { سبأ } بالنصب بغير تنوين وقرأ الباقون بالكسر والتنوين فمن قرأ بالنصب جعله إسم مدينة وهي مؤنث لا ينصرف ومن قرأ بالكسر والتنوين جعله إسم الرجل ويقال جعله إسم مكان فقال له سليمان وما ذلك الخبر

٢٣

 فقال { إني وجدت إمرأة تملكهم } يعني تملك أرض سبأ { وأوتيت من كل شيء } يعني أعطيت علم ما في بلادها ويقال من كل صنف من الأموال والجنود وأنواع الخير مما يعطى الملوك { ولها عرش عظيم } يعني سريرا كبيرا أعظم من سريرك ويقال كان طول سريرها ثمانون ذراعا في ثمانين مرصعا بالذهب والدر والياقوت وقوائمه من اللؤلؤ والياقوت واسمها بلقيس قال مقاتل كانت أمها من الجن ويقال { ولها عرش عظيم } أي شديد

٢٤

قوله عز وجل { وجدتها } يعني رأيتها { وقومها يسجدون للشمس } يعني يعبدون الشمس { من دون اللّه وزين لهم الشيطان أعمالهم } الخبيثة { فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون } يعني طريق الهدى ومعناه صدهم الشيطان عن الإسلام فهم لا يهتدون يعني لا يعرفون الدين

٢٥

قوله عز وجل { ألا يسجدوا للّه } قرأ الكسائي { ألا يسجدوا } بالتخفيف وقرأ الباقون بتشديد { إلا } فمن قرأ بالتخفيف فمعناه أن الهدهد قال عند ذلك أن لا تسجدوا للّه وقال مقاتل هذا قول سليمان قال لقومه { ألا يسجدوا } ويقال هذا كلام اللّه { ألا يسجدوا للّه } وهذا من الإختصار فكأنه قال ألا يا هؤلاء إسجدوا للّه ومن قرأ بالتشديد فمعناه فصدهم عن السبيل أن لا يسجدوا للّه يعني لأن لا يسجدوا ويقال معناه { وزين لهم الشيطان أعمالهم } لئلا يسجدوا للّه

وقال بعضهم وإذا قرئ بالتخفيف فهو موضع السجدة وإذا قرئ بالتشديد فليس بموضع سجدة في الوجهين جميعا وهذا القول أحوط { الذي يخرج الخبء } يعني المخبئات { في السموات والأرض } مثل المطر والثلج ويعني في الأرض مثل النبات والأشجار والكنوز والموتى ويقال الذي يظهر سر أهل السموات والأرض ويعلنها فذلك قوله تعالى { ويعلم ما تخفون وما تعلنون }

٢٦

ثم قال عز وجل { اللّه لا إله إلا هو رب العرش العظيم } أي الذي يعلم ذلك قرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص { ما تخفون وما تعلنون } بالتاء على معنى المخاطبة لهم وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر لهم

٢٧

ثم { قال } سليمان { سننظر أصدقت } في قولك { أم كنت من الكاذبين } يعني أم أنت فيه من الكاذبين فكتب كتابا

٢٨

 وقال له { إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } يعني إنصرف

٢٩

وقال بعضهم { إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } { فانظر ماذا يرجعون } يعني على ماذا يتفقون { ثم تول عنهم } يعني إرجع عنهم ويقال ليس فيها تقديم ومعناه { إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم } يعني إستأخر في ناحية غير بعيد { فانظر ماذا يرجعون } أي ماذا يريدون من الجواب أو { ماذا يرجعون } أي ماذا يرجع رأيهم ويتفق عليه من الجواب قرأ الكسائي إبن عامر وإبن كثير { فألقهي إليهم } بالياء بعد الهاء وقرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين وقرأ حمزة وعاصم { فألقه } بالجزم وقرأ نافع { فألقه إليهم } بكسر الهاء ولا يبلغ الياء وكل ذلك جائز في اللغة والقراءة بالياء أشبع اللغتين وأكثر إستعمالا قال مقاتل فجعل الهدهد الكتاب في منقاره ثم طار حتى وقف على رأس المرأة فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه فرفعت المرأة رأسها فألقى الهدهد الكتاب في حجرها

وروي في بعض الروايات أنها كانت نائمة في البيت وقد أغلقت بابها فدخل من الكوة ووضع الكتاب على صدرها ويقال عند رأسها وأكثر الروايات أنه ألقاه في حجرها فقرأت الكتاب فرأت فيه الخاتم فرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود لأن ملك سليمان كان في خاتمه فقرأت الكتاب وأخبرتهم بما فيه

٣٠

قال مقاتل ولم يكن في الكتاب إلا قوله { إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم}

٣١

{ ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } لأن كلام الأنبياء عليهم السلام على الإجمال ولا يكون على التطويل وقال في رواية الكلبي كتب في الكتاب إن كنتم من الإنس فعليكم بالطاعة وإن كنتم من الجن فقد عبدتم إلى

٣٢

 قوله عز وجل { قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } يعني حسن ويقال كتاب مختوم

وروي عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال كرامة الكتاب ختمه ويقال كل كتاب لا يكون مختوما فهو مغلوب ويقال كان سليمان عليه السلام إذا كتب إلى الشياطين ختمه بالحديد وإذا كتب إلى الجن ختمه بالصفر وإذا كتب إلى الإنس ختمه بالطين وإذا كتب إلى الملوك ختمه بالفضة فجعل ختم كتابها من ذهب ويقال إن المرأة إنما قالت { كتاب كريم } لأنها ظنت أنه نزل من السماء فلما نظرت إليه قرأت عنوانه { إنه من سليمان وإنه } يعني في داخله وأول سطره { بسم اللّه الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي } يعني لا تتعظموا علي ولا تتطاولوا علي ويقال لا تترفعوا علي وإن كنتم ملوكا { وأتوني مسلمين } يعني مستسلمين خاضعين ويقال { مسلمين } يعني مستسلمين مخلصين ويقال منقادين طائعين قال محمد بن موسى إنما بدأ سليمان بنفسه لعلمه بأن ذكره على سائر الملوك أعظم من ذكر معبوده فهول عليها بذكر نفسه ثم ذكر معبوده فذهبت بنفسها وانقادت في مملكتها وإنما خافت من هول سليمان حين آمنت باللّه فقالت عند ذلك رب إني ظلمت نفسي بعبادة الشمس وما خفت منك فالآن عرفتك وتبت إليك وأنت رب العالمين { قالت } المرأة { يا أيها الملأ } يعني قالت المرأة يا أيها الأشراف والقادة { أفتوني في أمري } وكان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا تحت يد كل قائد ألف رجل

وقد قيل أكثر من هذا { أفتوني في أمري } يعني أجيبوني في أمري ويقال بينوا لي أمري ما أعمل ويقال أخبروني ويقال أشيروا علي { ما كنت قاطعة أمرا } أي قاضية أمرا ويقال فاصلة أمرا { حتى تشهدون } يعني تحضرون أي لا أقطع أمرا دونكم

٣٣

{ قالوا } مجيبين لها { نحن أولو قوة } يعني عدة وكثرة وسلاحا { وأولو بأس شديد } يعني وقتال شديد { والأمر إليك } يعني أخبرناك بما عندنا أيتها الملكة ومع ذلك لا نجاوز ما تقولين يعني إن أمرتينا بقتال قاتلنا وإن أمرتنا بغير ذلك أطعناك { فانظري ماذا تأمرين } يعني ماذا تشيرين إلينا

٣٤

قوله عز وجل { قالت } يعني المرأة { إن الملوك إذا دخلوا قرية } على وجه العنوة والغلبة { أفسدوها } يعني أهلكوها وخربوها وقتلوا أهلها { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } يعني أهانوا أشرافها وكبراءها ليستقيم لهم الأمر { وكذلك يفعلون } قال ابن عباس هذا قول اللّه تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم قال { وكذلك يفعلون } تصديقا لقول المرأة وقال الحسن هذا قول بلقيس إن سليمان وجنوده كذلك يفعلون وأكثر المفسرين على خلاف ذلك

٣٥

ثم قالت المرأة { وإني مرسلة إليهم بهدية } يعني أصانعهم بالمال فإن كان من أهل الدنيا فإنه يقبل ويرضى بذلك ويقال أختبره أملك هو أم نبي فإن كان ملكا قبلها وإن كان نبيا لم يقبلها { فناظرة بم يرجع المرسلون } يعني أنظر بماذا يرجع المرسلون من الجواب من عنده وذكر في الخبر أنها بعثت إليه لبنتين من ذهب والمسك والعنبر وبعثت بعشرة غلمان وعشرة جواري وكان في الغلمان بعض اللين وكان في الجواري بعض الغلظة وأمرت بأن تخضب أيديهم جميعا وجعلتهم على هيئة الجواري وبعثت إليه جوهرة في ثقبها إعوجاج وطلبت أن يدخل الخيط فيها فأمر سليمان الشياطين بأن يلقوا في طريق الرسل لبنا كثيرا من ذهب فلما جاءت رسل بلقيس إستحضروا هديتهم فلما قدموا على سليمان أمر بماء فوضع وأمر الغلمان والجواري بأن يتوضأوا منه فجعل الغلام يحدر الماء على يده حدرا

وأما الجواري فكن يصببن صبا وفي رواية أخرى كانت الجارية تأخذ الماء بكفها وتدلك ذراعيها

وأما الجوهرة فأخذ دودة حمراء عقد فيها خيطا ثم أدخلها في الحجر حتى خرجت من الجانب الآخر فرد الهدية وقال للوفد { أتمدونني بمال } يعني أتغرونني بالمال

٣٦

قوله عز وجل { فلما جاء سليمان } قال بعضهم يعني جاء الرسول

وقال بعضهم يعني جاء بريدها والأول أشبه لأنه خاطب الرسول { قال أتمدوني بمال } قرأ حمزة { أتمدونني بمال } بنون واحدة والتشديد وقرأ الباقون بنونين وأصله نونان إلا أن حمزة أدغم إحداهما في الأخرى وشددها وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { أتمدونني } بالياء في الوصل لأنه في الأصل الياء وهو ياء الإضافة وقرأ الباقون بغير ياء لأن الكسر يدل عليه

ثم قال { فلما آتاني اللّه } يعني ما أعطاني اللّه عز وجل من النبوة والحكمة والدين والإسلام والملك { خير مما آتاكم } يعني خير مما أعطاكم من الدنيا والمال { بل أنتم بهديتكم تفرحون } يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض ويقال معناه بل أنتم تفرحون بهديتكم إذا ردت إليكم لأنكم قليلو المال ويقال لأنكم مكاثرة بالدنيا

٣٧

قوله عز وجل { إرجع إليهم } يعني قال سليمان لأمير الوفد إرجع إليهم بالهدية فإن لم يحضروني { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } يعني لا طاقة لهم بها قال بعض المتقدمين ومتى يكون لهم طاقة بجنود سليمان وكان جنود سليمان من الجن والإنس والشياطين { ولنخرجنهم منها } يعني من أرض سبأ { أذلة } يعني مغلولة أيديهم إلى أعناقهم { وهم صاغرون } أي ذليلون فلما بلغ الخبر إلى المرأة ورسالة سليمان لم تجد بدا من الخروج إليه فخرجت نحوه فلما علم سليمان بمسيرها إليه

٣٨

 { قال } لجلسائه { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } يعني بسرير بلقيس { قبل أن يأتوني مسلمين } أي موحدين لأنه قد كان أوحي إلى سليمان بأنها تسلم

وقال بعضهم إنما أراد سليمان بإحضار سريرها قبل أن تسلم ليكون السرير له لأنها لو أسلمت حرم عليه مالها وكان سريرها من ذهب وقوائمه من اللؤلؤ والجواهر مستور بالحرير والديباج وعليه الحجلة

وقال بعضهم إنما أراد أن يبين دلالة نبوته عندها فتعلم المرأة أنه نبي فتسلم

٣٩

قوله عز وجل { قال عفريت من الجن } يعني ماردا من الجن والعفريت هو الشديد القوي ويقال العفريت من كل شيء المبالغ والحاذق في أمره { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } يعني في مجلس الحكم وكان قضاؤه إلى إنتصاف النهار ويقال إلى وقت الضحى { وإني عليه } يعني على إتيان السرير { لقوي } على حمله { أمين } على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ وغير ذلك فقال سليمان أنا أريد أسرع من هذ

٤٠

ا { قال الذي عنده علم من الكتاب } يعني آصف بن برخيا وكان وزيره ومؤدبه في حال صغره ويقرأ كتاب اللّه ويعلمالإسم الأعظم يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ويقال هو قوله يا حي يا قيوم ويقال ذا الجلال والإكرام ويقال إن { الذي عنده علم من الكتاب } هو جبريل عليه السلام وأكثر المفسرين على أنه آصف بن برخيا رضي اللّه عنه

قال { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } يعني قبل أن ينتهي إليك الذي وقع عليه منتهى بصرك وهو جاء إليك ويقال قبل أن تطرف قال له سليمان لقد أسرعت إن فعلت ذلك فدعا بالإسم الأعظم فإذا بالسرير قد ظهر بين يدي سليمان { فلما رآه } رأى سليمان السرير { مستقرا عنده } أي موجودا عنده { قال هذا من فضل ربي ليبلوني } يعني ليختبرني { أأشكر } هذه النعمة { أم أكفر } نعم اللّه تعالى إذا رأيت من دوني هو أعلم مني قال مقاتل فلما رفع رأسه قال الحمد للّه أحمد اللّه الذي جعل في أهلي من يدعوه فيستجيب له { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } يعني يفعل لنفسه لأنه يعود إليه حيث يستوجب المزيد من اللّه تعالى { ومن كفر } النعم يعني ترك الشكر { فإن ربي غني } عن شكر العباد { كريم } في الإفضال على من شكره بالنعمة ويقال { كريم } لمن شكر من عباده ويقال لما رأى آصف السرير مستقرا عنده خرج من فضل نفسه ورجع إلى فضل ربه ورأى الحول والقوة للّه تعالى فقال { هذا من فضل ربي } لا من فضل نفسي ولو لم يقل من فضل ربي لسقط عن المنزلة أسرع من إتيان السرير حيث قال { إنا آتيك به } حيث شهر نفسه بالفضيلة ويقال { أنا آتيك به } يعني باللّه آتيك لا بالمدة والحيلة فأسقط الحول والقوة عن نفسه وسلم الأمر إلى اللّه فقال { هذا من فضل ربي } فلما رأى سليمان السرير عنده علم أن هذا ليس من قوة جلسائه وإنما هو من صنع ربه

٤١

قوله عز وجل { قال نكروا لها عرشها } يعني قال سليمان عليه السلام غيروا سريرها عن صورته والتنكير هو التغيير يقال نكرته فتنكر أي غيرته فتغير

وروى الضحاك عن ابن عباس قال التنكير أن يزاد فيه أو ينقص عنه يعني زيدوا في سريرها وانقصوا منه حتى نرى أنها تعرف سريرها أم لا وذلك قوله { ننظر أتهتدي } يعني أتعلم أنه عرشها { أم تكون من الذين لا يهتدون } يعني لا يعلمون يقال إنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ويقال إنه أمر بذلك لأن الجن قالوا لسليمان عليه السلام في عقلها شيء من النقصان فأراد سليمان أن يمتحن عقلها فأمر بأن يغير السرير ويسألها عن ذلك

٤٢

قوله { فلما جاءت } يعني بلقيس وجلست على السرير { قيل } لها { أهكذا عرشك } يعني أهكذا سريرك { قالت } بلقيس { كأنه هو } شبهته به قال مقاتل شبهوا عليها فشبهت عليهم

ولو قيل لها أهذا عرشك لقالت نعم ويقال إنها شكت في ذلك لأنها تركت سريرها في سبعة أبيات مقفلة أبوابها ومفاتيح الأقفال بيدها فقال سليمان { وأوتينا العلم من قبلها } يعني حمد اللّه على ما أعطاه من إتيان السرير وحضورها وعلى ما أعطاه قبل إتيانها من النبوة والإسلام فقال { وأوتينا العلم من قبلها } يعني أعطينا العلم من قبل مجيئها ويقال أعطينا علم ملكها وعرشها من قبل مجيئها { وكنا مسلمين } يعني مخلصين للّه تعالى ويقال { مسلمين } منقادين له

٤٣

قوله عز وجل { وصدها ما كانت تعبد من دون اللّه } يعني عبادتها التي كانت تعبد الشمس منعها عن الإسلام ويقال معناه صدها إبليس عن الإيمان فتكون { ما } ها هنا بمعنى الفاعل ويقال { ما } هنا بمعنى المفعول فكأنه يقول صدها سليمان عما كانت تعبد من دون اللّه عز وجل كرجل يقول منعت فلانا الماء يعني عن الماء ويقال معناه أن اللّه تعالى صدها عما كانت تعبد من دون اللّه فوفقها للإسلام ويقال صدها عن الإسلام العادة التي كانت عليها لأنها نشأت على ذلك وربيت ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس ثم قال { إنها كانت من قوم كافرين } أي من قوم جاحدين للّه تعالى

٤٤

قوله عز وجل { قيل لها أدخلي الصرح } يعني القصر وذلك لأنها لما أقبلت قالت الجن لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب فلو إجتمع سليمان وهذه وما عندها من العلم لهلكنا وخشوا أن يتزوجها ويكون بينهما ولد فيرث الملك فيبقون في ذلك العناء إلى الأبد فأرادوا إن يبغضوها إلى سليمان فقالوا إن رجليها شعراوان وقال مقاتل بل كانت أمها جنية

وروى إبن أبي نجيح عن مجاهد قال كانت أمها جنية وكانت شعراء

وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الجن ليس من جنس الآدمي فلا يكون بينهما شهوة ونسل وقال اللّه تعالى { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : ١٣ ] يعني آدم وحواء عليهما السلام فلا يجوز أن يكون النسل من غيرهما ويقال إنهم قالوا لسليمان إن رجلها تشبه حافر الدواب فأراد سليمان أن ينظر إلى رجليها فأمر بأن يوضع سريرها في الصرح المبني من القوارير يعني من الزجاج وجعل تحت الصرح الماء فيه السمك فجلس سليمان على سريره في الصرح في مقدمه ثم أمرت بلقيس بأن تدخل الصرح { فلما رأته } يعني فلما جاءت إلى الصرح رأت ما فيه من السمك { حسبته لجة } يعني ظنت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان فأرادت أن تخوض في الماء فشمرت ثيابها { وكشفت عن ساقيها } فنظر سليمان إلى ساقيها وكانت شعراء فاستشار سليمان الإنس في ذلك فأشاروا عليه بالموسى فقال سليمان الموسى تخدش ساقيها فاستشار الجن فأشاروا عليه بالنورة فأصل النورة من ذلك الوقت

وروي أن سليمان ما نظر إلى ساق أحسن الساقين ولا خلاف بين الروايتين لأنه يكون أحسن الساقين شعراوين

وروي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت أنا أحسن ساقين أم بلقيس فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم كانت هي أحسن ساقين منك في الدنيا وأنت أحسن ساقين منها في الآخرة فلما كشفت عن ساقيها قال لها سليمان لا تكشفي عن ساقيك { قال إنه صرح ممرد من قوارير } يقول قصر مملس ولهذا سمي أمرد الذي لم ينبت له الشعر ويقال ممرد يعني قوي شديد كما يقال شيطان مريد { من قوارير } يعني من الزجاج فلما رأت السرير والصرح علمت أن ملكها ليس بشيء عند ملك سليمان وأن ملكه من اللّه تعالى وأنه نبي حقا ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام فأجابت فذلك قوله تعالى { قالت رب إني ظلمت نفسي } بعبادتي للشمس { وأسلمت مع سليمان للّه } وأخلصت ديني للّه تعالى مع سليمان بالتوحيد ويقال { مع سليمان } يعني أسلمت على يدي سليمان للّه { رب العالمين } وتابت إلى اللّه تعالى من شركها قال مقاتل فاتخذها سليمان لنفسه فولدت له داود بن سليمان قال النبي صلى اللّه عليه وسلم هي أحسن ساقين من نساء العالمين وهي من أزواج سليمان في الجنة

٤٥

قوله عز وجل { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن أعبدوا اللّه } يعني أمرهم بأن يعبدوا اللّه ويطيعوه ويوحدوه { فإذا هم فريقان يختصمون } مؤمنون وكافرون فإذا قوم صالح مؤمن وكافر يختصمون يقول كل فريق الحق معي وقد ذكرنا خصومتهم في سورة الأعراف وهي قوله { قال الملأ الذين إستكبروا من قومه للذين إستضعفوا } [ الأعراف : ٧٥ ] الآية وطلبت الفرقة الكافرة على تصديق صالح العذاب

٤٦

 { قال } لهم صالح عليه السلام { يا قوم لم تستعجلون بالسيئة } يعني بالعذاب { قبل الحسنة } يعني العافية ويقال التوبة وهو قولهم يا صالح إن كان ما أتيت به حقا فأتنا بما تعدنا من العذاب

ثم قال { لولا تستغفرون اللّه } يعني هلا تسألون اللّه المغفرة ويقال هلا تؤمنون وتوحدون اللّه تعالى وترجعون من الشرك لعلكم ترحمون يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا

٤٧

قوله عز وجل { قالوا إطيرنا بك } وأصله تطيرنا بك يعني تشاءمنا بك { وبمن معك } وذلك أنه قد أصابهم القحط بتكذيبهم إياه فقالوا هذا الذي أصابنا بشؤمك وشؤم أصحابك { قال } لهم صالح { طائركم عند اللّه } يعني ما أصابكم فمن اللّه ويقال هذا الذي يصيبكم هو مكتوب عند اللّه ويقال خيركم وشركم ورخاؤكم وشدتكم من عند اللّه عليكم بفعلكم ويقال عقوبتكم عند اللّه { بل أنتم قوم تفتنون } أي تبتلون بذنوبكم ويقال تختبرون بالخير والشر وأصل الفتنة هي الإختبار ويقال فتنت الذهاب بالنار لتنظر إلى جودته

٤٨

قوله عز وجل { وكان في المدينة } يعني في قرية صالح عليه السلام وهي الحجر { تسعة رهط } كانوا أغنياء قوم صالح { يفسدون في الأرض ولا يصلحون } يعني يعملون بالمعاصي في أرض قريتهم { ولا يصلحون } أي لا يطيعون اللّه تعالى فيها ولا يتوبون من المعصية ولا يأمرون بها فسأل قوم صالح منه ناقة فصارت الناقة بلية لهم فكانت تأتي مراعيهم فتأكل جميع ما فيها فتنفر منها دوابهم وتشرب ماء بئرهم العذب الذي يشربون منه فجعلوا نيابة للشرب فتشرب ذلك اليوم الماء كله وتسقيهم اللبن حتى يرووا فجاء هؤلاء التسعة وفيهم قذار بن سالف عاقر الناقة وكان إبن زانية أحمر أزرق ومصدع بن دهر وكانا قد قعدا لها فلما مرت بهما رماها مصدع بسهم

ثم قال يا قذار إضرب فضرب عرقوبها فعقروها ثم سلخوها واقتسموا لحمها فأوعدهم اللّه الهلاك وبين لهم العلامة بتغيير ألوانهم فاجتمع التسعة و

٤٩

 { قالوا تقاسموا باللّه } يعني تحالفوا باللّه { لنبيتنه } قرأ حمزة والكسائي بالتاءين وضم التاء الثاني { وأهله ثم لنقولن } بالتاء وقرأ الباقون بالنون ونصب التاء { ثم لنقولن } بالنون ونصب اللام فمن قرأ بالنون جعل { تقاسموا } خبرا فكأنهم قالوا متقاسمين فيما بينهم { لنبيتنه وأهله } أي لنقتلنه وعياله ويقال { وأهله } يعني ومن آمن معه ومن قرأ بالتاء فمعناه جعل { تقاسموا } أمرا فكان أمر بعضهم بعضا

وقال بعضهم لبعض تحالفوا { لنبيتنه وأهله ثم لنقولن } { لوليه } يعني لولي صالح إن سألونا فنقول { ما شهدنا مهلك أهله } يعني لهلاك أهله وقومه ويقال ما حضرنا عند هلاك أهله { وإنا لصادقون } يعني إنا لصادقون بما نقول لكم ويقال معناه { إنا لصادقون } عندهم فيصدقوننا إذا خرجنا من بيوتنا ويقال { إنا لصادقون } في قولنا

٥٠

قال اللّه تعالى { ومكروا مكرا } يعني أرادوا قتل صالح عليه السلام { ومكرنا مكرا } يعني جثم عليهم الجبل فماتوا كلهم ويقال رجمتهم الملائكة عليهم السلام بالحجارة فماتوا فذلك قوله تعالى { ومكروا مكرا } أي أرادوا قتل صالح { ومكرنا مكرا } يعني أراد اللّه عز وجل قتلهم جزاء لأعمالهم { وهم لا يشعرون } بأن الملائكة يحرسون صالحا في داره قرأ عاصم في رواية أبي بكر ما شهدنا { مهلك } أهله بنصب الميم واللام وفي رواية حفص بنصب الميم وكسر اللام وقرأ الباقون بضم الميم ونصب اللام

٥١

ثم قال { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } يعني جزاء مكرهم { أنا دمرناهم } قرأ عاصم وحمزة والكسائي { أنا } بالنصب وقرأ الباقون بكسر الألف فمن قرأ بالنصب فمعناه فانطر كيف كان عاقبة مكرهم لأنا دمرناهم ويجوز أن يكون خبر كان ومن قرأ بالكسر لأنه لما قال { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } يعني إيش كان عاقبة مكرهم

ثم فسر فقال { إنا دمرناهم } على وجه الإستئناف { وقومهم أجمعين } يعني أهلكناهم بصيحة جبريل عليه السلام ويقال خرجت النار من تحت أرجلهم فأحرقتهم ويقال إنهم خرجوا ليلا لإهلاك صالح فدمغتهم الملائكة بأحجار من حيث لا يرونهم فقتلوهم وقومهم أجمعين

٥٢

قوله عز وجل { فتلك بيوتهم خاوية } يعني خالية من الناس ويقال { بيوتهم خاوية } يعني مساكنهم خربة ساقطة { بما ظلموا } أي أشركوا ويقال بكفرهم باللّه تعالى صارت خاوية نصبا على الحال يعني فانظر إلى بيوتهم خاوية وقرئ في الشاذ { خاوية } بالضم على معنى النعت للبيوت

ثم قال { إن في ذلك } يعني في هلاكهم وفيما صنع بهم { لآية } يعني لعبرة لمن بعدهم { لقوم يعلمون } يعني يعقلون ويصدقون

٥٣

 { وأنجينا الذين آمنوا } يعني أقروا بالتوحيد وصدقوا صالحا برسالته { وكانوا يتقون } الشرك والفواحش

٥٤

قوله عز وجل { ولوطا } يعني وأرسلنا لوطا عطفا على قوله { ولقد أرسلنا إلى ثمود } ويقال معناه واذكر لوطا { إذ قال لقومه } يعني حين قال لقومه { أتأتون الفاحشة } يعني أتعملون المعصية وهي اللواطة { وأنتم تبصرون } يعني تعلمون أنها فاحشة ومعصية هو وأعظم لذنوبكم

٥٥

قوله عز وجل { أئنكم لتأتون الرجال شهوة } يعني تجامعون الرجال شهوة منكم { من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون } أي جاهلون

٥٦

 { فما كان جواب قومه } وإنما نصب الجواب لأنه خبر كان وإسمه { إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } يعني يتنزهون ويقذروننا بهذا الفعل وإنا لا نحب أن يكون بين أظهرنا من ينهانا عن أعمالنا

٥٧

قال اللّه تعالى { فأنجيناه وأهله } يعني إبنتيه ريثا وزعورا { إلا إمرأته } لم ننجها من العذاب { قدرناها من الغابرين } أي تركناها من الباقين في العذاب ويقال قضينا عليها أنها من الباقين في العذاب

٥٨

{ وأمطرنا عليهم مطرا } يعني على شذاذهم أي الخارجين المنفردين منهم ومن كان منهم في الأسفار { مطرا } يعني الحجارة { فساء مطر المنذرين } يعني بئس مطر من أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا

٥٩

ثم قال عز وجل { قل الحمد للّه } قال بعضهم معناه قال اللّه تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم { قل الحمد للّه } وقال بعضهم معناه الحمد للّه على هلاك كفار الأمم الماضية يعني ما ذكر في هذه السورة من هلاك فرعون وقومه وثمود وقوم لوط ويقال قال الحمد للّه الذي علمك وبين لك هذا الأمر ويقال إن هذا كان للوط حين أنجاه أمره بأن يحمد اللّه تعالى

ثم قال { وسلام على عباده } يعني المرسلين { الذين إصطفى } يعني إختارهم اللّه تعالى للرسالة والنبوة وروي عن مجاهد أنه قال هم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكذلك قال مقاتل وقال سفيان الثوري هم أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم ثم قال { آللّه خير أما يشركون } يعني اللّه تعالى أفضل أم الآلهة التي تعبدونها اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به التقرير يعني اللّه تعالى خير لهم مما يشركون فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية قال بل اللّه خير وأبقى وأجل وأكرم ويقال معناه أعبادة اللّه خير أم عبادة ما يشركون به من الأوثان وقال القتبي { اللّه خيرا أما يشركون } يعني أم من تشركون فتكون { ما } مكان من كما قال { والسماء وما بناها } [ الشمس : ٥ ] يعني ومن بناها { وما خلق الذكر والأنثى } [ الليل : ٣ ] يعني ومن خلق

٦٠

ثم قال عز وجل { أمن خلق السموات والأرض } يعني اللّه الذي خلق السموات والأرض { وأنزل لكم من السماء ماء } يعني المطر { فأنبتنا به } يعني بالمطر { حدائق ذات بهجة } يعني البساتين واحدها حديقة وإنما سميت حديقة لأنها محاطة بالحيطان

وقال بعضهم إذا كانت ذا شجر يقال لها حديقة سواء كان لها حائط أو لا { ذات بهجة } يعني ذات حسن { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } يعني ما كان لمعبودكم قوة ويقال ما كان ينبغي لكم أن تنبتوا شجرها ويقال ما قدرتم عليه وقرأ أبو عمرو وإبن عامر { أما يشركون } بالياء على معنى الخبر وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { إلا إمرأته قدرناها } بتخفيف الدال وقرأ الباقون بالتشديد

ثم قال { أإله مع اللّه } يعينه على صنعه اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به الإنكار والزجر { بل هم قوم يعدلون } يعني يشركون الأصنام

٦١

ثم قال عز وجل { أمن جعل الأرض قرارا } يعني مستقرا لا تميد بأهلها ويقال { قرارا } أي لا تتحرك { وجعل خلالها أنهارا } و { جعل } يعني خلقا لها يعني فجر بنواحي الأرض أنهارا ويقال شق بينهما أنهارا { وجعل لها } أي خلق للأرض { رواسي } أي الجبال الثوابت { وجعل بين البحرين حاجزا } يعني العذب والمالح حاجزا يعني سترا مانعا من قدرته لا يختلطان بعضهما في بعض { أإله مع اللّه } يعينه على صنعه { بل أكثرهم لا يعلمون } توحيد اللّه عز وجل

٦٢

ثم قال { أمن يجيب المضطر } يعني أمن يستجيب في البلاء للمضطر { إذا دعاه } { ويكشف السوء } يعني ومن يكشف الضر { ويجعلكم خلفاء الأرض } يعني سكان الأرض بعد هلاك أهلها { أإله مع اللّه قليلا ما تذكرون } قرأ أبو عمرو وإبن عامر في إحدى الروايتين { يذكرون } بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون { تذكرون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف الذال وقرأ الباقون بالتشديد وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية قالون { أإله مع اللّه } بالهمز والمد وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين

٦٣

ثم قال عز وجل { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } يعني من يرشدكم في أهوال البر والبحر { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني قدام المطر { أإله مع اللّه تعالى اللّه } أي تعظم اللّه { عما يشركون }

٦٤

{ أمن يبدأ الخلق ثم يعيده } يعني خلقهم ولم يكونوا شيئا ثم يعيدهم في الآخرة { ومن يرزقكم من السماء } يعني المطر { والأرض } يعني النبات { أإله مع اللّه قل هاتوا برهانكم } يعني حجتكم وعذركم بأنه صنع شيئا من هذا غير اللّه { إن كنتم صادقين } بأن مع اللّه آلهة أخرى

٦٥

{ قل } يا محمد لكفار مكة { لا يعلم من في السموات والأرض } من الملائكة والناس { الغيب إلا اللّه } يعني متى تقوم الساعة إلا اللّه رفع على معنى البدل فكأنه يقول لا يعلم أحد الغيب إلا اللّه أي لا يعلم ذلك إلا اللّه ثم قال { وما يشعرون أيان يبعثون } يعني متى يبعثون يعني أوان يبعثون

٦٦

قوله عز وجل { بل إدارك علمهم في الآخرة } قرأ إبن كثير وأبو عمرو { بل أدرك } قرأ الباقون { إدراك } بالألف فمن قرأ { أدرك } فمعناه أدرك علمهم علم الآخرة

وروي عن السدي قال إجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا ويقال معناه علموا في الآخرة أن الذين كانوا يوعدون حق ولا ينفعهم ذلك ومن قرأ { إدراك علمهم } فأصله تدارك فأدغم التاء في الدال وشددت وأدخلت ألف الوصل ليسلم السكون للدال ومعناه تتابع علمهم أي حكمهم على الآخرة وإستعمالهم الظنون في علم الآخرة فهم يقولون تارة إنها تكون وتارة لا تكون الساعة ويقال معناه تدارك أي تكامل علمهم يوم القيامة لأنهم يبعثون ويشاهدون ما وعدوا { بل هم في شك منها } أي من قيام الساعة في الدنيا { بل هم منها عمون } يعني يتعامون عن قيامها ويقال { بل هم منها عمون } أي من علمها جاهلون

وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ { بل إدراك علمهم } وهذه القراءة أشد إيضاحا للمعنى الذي ذكرناه

٦٧

ثم حكى قول الكفار فقال عز وجل { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون } يعني أحياء من القبور

٦٨

 { لقد وعدنا هذا } يعني هذا الذي يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم { نحن وآباؤنا من قبل إن هذا } الذي يقول { إلا أساطير الأولين } يعني أحاديث الأولين وكذبهم مثل حديث رستم وإسفنديار ويقال إن هذا إلا مثل رسل الأولين فيما كذبوا

٦٩

قوله عز وجل { قل سيروا في الأرض فانظروا } يعني فاعتبروا { كيف كان عاقبة المجرمين } يعني آخر أمر المشركين

٧٠

 { ولا تحزن عليهم } إن لم يؤمنوا بك ويقال { ولا تحزن عليهم } أي على تكذيبهم وإعراضهم عنك { ولا تكن في ضيق } يعني لا يضيق صدرك { مما يمكرون } يعني بما يقولون من التكذيب ويقال ولا يضيق قلبك بمكرهم

٧١

 { ويقولون متى هذا الوعد } يعني البعث بعد الموت { إن كنتم صادقين } أن العذاب نازل بالمكذب ويقال { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } بقولهم فهذا دأبنا ودأبك أيام الموسم وهم الخراصون فكانوا يأمرون أهل الموسم بأن لا يسمعوا كلامه

٧٢

ثم قال عز وجل { قل عسى أن يكون ردف لكم } يعني قرب وحضر لكم قال القتبي أي تبعكم واللام زائدة فكأنه قال ردفكم قال

وقيل في التفسير دنا منكم { بعض الذي تستعجلون } من العذاب وهو عذاب القبر ويقال القحط ويقال يوم بدر

٧٣

 { وإن ربك لذو فضل على الناس } حين لم يأخذهم بالعذاب عند معصيتهم { ولكن أكثرهم لا يشكرون } بتأخير العذاب عنهم حتى يتوبوا

٧٤

{ وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } يعني ما تسر قلوبهم من عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم { وما يعلنون } بألسنتهم من الكفر والشرك

٧٥

قوله عز وجل { وما من غائبة } يعني من أمر العذاب ويقال ما من شيء غائب عن العباد { في السموات والأرض إلا في كتاب مبين } يعني مكتوب في اللوح المحفوظ ويقال أي جملة غائبة عن الخلق إلا في كتاب مبين

٧٦

 { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } قال مقاتل يعني أن هذا القرآن يبين للناس أهل الكتاب { أكثر الذي هم فيه يختلفون } يعني إختلافهم وقال ابن عباس إن أهل الكتاب إختلفوا فيما بينهم فصاروا أهواء وأحزابا يطعن بعضهم في بعض ويبرأ بعضهم من بعض فنزل القرآن بتبيان ما إختلفوا فيه

٧٧

ثم قال عز وجل { وإنه } يعني القرآن { لهدى } يعني لبيانا من الضلالة { ورحمة } من العذاب { للمؤمنين}

٧٨

{ إن ربك يقضي بينهم } يعني بين المختلفين في الدين { بحكمه } يعني بقضائه يوم القيامة { وهو العزيز } يعني المنيع بالنقمة { العليم } بأحوال خلقه ويقال { العزيز } يعني القوي فلا يرد له أمر { العليم } بأحوالهم

٧٩

 { فتوكل على اللّه } يعني ثق باللّه ويقال فوض أمرك إلى اللّه { إنك على الحق المبين } يعني الدين المبين وهو الإسلام

٨٠

ثم قال عز وجل { إنك لا تسمع الموتى } فهذا مثل ضربه للكفار فكما أنك لا تسمع الموتى فكذلك لا تفقه كفار مكة { ولا تسمع الصم الدعاء } قرأ إبن كثير { ولا يسمع } بالياء والنصب وضم العين و { الصم } بضم الميم وقرأ الباقون بالتاء وضم التاء وكسر الميم { والصم } بالنصب فمن قرأ بالياء فلا يسمع فالفعل للصم ومن قرأ بالتاء فالخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم { إنك لا تسمع الصم الدعاء } { إذا ولوا مدبرين } يعني أعرضوا عن الحق مكذبين

٨١

قوله عز وجل { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } قرأ حمزة { تهدي العمي } بغير ألف وقرأ الباقون بالألف فمن قرأ تهدي العمي فمعناه ما أنت يا محمد بالذي تهدي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا ولكن عليك الدعاء ويهدي اللّه من يشاء ومن قرأ { بهادي } فإن الباء دخلت لتأكيد النفي كقولك ما أنت بعالم فالباء لتأكيد النفي وخفض العمي للإضافة

ثم قال { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } يعني لا تسمع الهدى إلا من صدق بالقرآن أنه من اللّه تعالى ويقال { بآياتنا } يعني أدلتنا { فهم مسلمون } يعني مخلصين مقرين بها ويقال مسلمون في علم اللّه تعالى

٨٢

قوله عز وجل { وإذا وقع القول عليهم } يعني إذا وجب عليهم العذاب والسخط وذلك حين لا يقبل اللّه من كافر إيمانه ولم يبق إلا من يموت كافرا في علم اللّه تعالى { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وخروجها من أول أشراط الساعة { تكلمهم } أي تحدثهم يعني الدابة التي تكلم الناس بما يسوؤهم { أن الناس } قرأ عاصم وحمزة والكسائي { أن } بالنصب وقرأ الباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب يكون حكاية قول الدابة ومعناه تكلمهم بأن الناس { كانوا بآياتنا لا يوقنون } أي لا يؤمنون بآيات ربهم وهي خروج الدابة ومن قرأ بالكسر يكون بمعنى الإبتداء ويتم الكلام عند قوله { تكلمهم }

ثم يقول اللّه تعالى { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } يعني لا يؤمنون قال أبو عبيد حدثنا هشام عن المغيرة أن أبا زرعة بن عمر وابن عباس قرآها { تكلمهم } بنصب التاء وكسر اللام وبسكون الكاف والتخفيف يعني تسمهم فيتبين الكافر من المسلم

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثني الثقة عن أبي بكر الواسطي عن إبراهيم بن يوسف عن محمد بن الفضل الضبي عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن إبن عمر رضي اللّه عنهم قال ألا أريكم المكان الذي قال فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم تخرج الدابة منه فضرب بعصاه قبل الشق الذي في الصفا وقال إنها ذات زغب وريش وإنها لتخرج ثلثها أول ما تخرج كحضر الفرس الجواد ثلاثة أيام ولياليهن وإنها لتدخل عليهم وإنهم ليفرون منها إلى المساجد فتقول أترون أن المساجد تنجيكم مني

وروى مقاتل قال تخرج الدابة من الصفا ولا يخرج إلا رأسها وعنقها فتبلغ رأسها السحاب فيراه أهل المشرق والمغرب ثم تعود إلى مكانها ثم تزلزل الأرض في ذلك اليوم في ست ساعات فيمسون خائفين فإذا أصبحوا جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج

وروي عن أبي هريرة أنه قال تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو وجه المؤمن بعصا موسى وتختم وجه الكافر بخاتم سليمان عليهما السلام ثم تقول لهم يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار فترى أهل البيت مجتمعين على خوانهم يقول لهذا يا كافر ولهذا يا مؤمن

وروى إبن جريج عن أبي الزبير قال رأسها رأس ثور وعيناها عينا خنزير وأذناها أذنا فيل وقرناها قرنا أيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين منها إثني عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتنكت على وجه المؤمن حتى يبيض وتختم الكافر بخاتم سليمان حتى يسود فيعرف المؤمن من الكافر

وعن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه أنه قال تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء فتفشو في وجهه حتى يسود وجهه وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتغشو في وجهه حتى يبيض ويتبايعون في الأسواق فيعرفون المؤمن من الكافر

٨٣

قوله عز وجل { ويوم نحشر } يعني نوجب عليهم العذاب في يوم نحشر { من كل أمة فوجا } يعني من كل أهل دين جماعة ويقال { يوم نحشر } يعني نجمع من كل أمة فوجا يعني جماعة { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } يعني يحبس أولهم لآخرهم ليجتمعوا

٨٤

 { حتى إذا جاؤوا } يعني إجتمعوا للحشر { قال أكذبتم بآياتي } يعني قال اللّه تعالى لهم أكذبتم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآ ن اللفظ لفظ الإستفهام والمراد به التقرير يعني قد كذبتم بآياتنا { ولم تحيطوا بها علما } اللفظ لفظ النفي والمراد به المناقشة في الحساب يعني كذبتم كأنكم لم تعلموا ويقال لم تعرفوها حق معرفتها

ثم قال { أماذا كنتم تعملون } اللفظ لفظ السؤال والمراد به التوبيخ ومعناه ماذا كنتم تعملون إن تؤمنوا بالكتاب والرسل يعني أي عمل منعكم من ذلك

٨٥

ثم قال عز وجل { ووقع القول عليهم } يعني نزل عليهم العذاب ووجب عليهم { بما ظلموا } يعني بما أشركوا { فهم لا ينطقون } يعني لا يمكنهم أن يتكلموا من الهيبة لما ظهر لهم من المعاينة ولما تحيروا في ذلك

٨٦

ثم وعظ كفار مكة فقال { ألم يروا } يعني ألم يعتبروا { أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا } يعني مضيئا وأضاف الفعل إلى النهار لأن الكلام يخرج مخرج الفاعل إذا كان هو سببا للفعل كما قال { بل مكر الليل والنهار } [ سبأ : ٣٣ ] { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } يعني فيما ذكر من الليل والنهار لعبرات لقوم يصدقون بتوحيد اللّه تعالى

٨٧

وقال عز وجل { ويوم ينفخ في الصور } أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور { ففزع من في السموات ومن في الأرض } أي من شدة الصوت والفزع ويقال ماتوا

وقال بعضهم النفخ ثلاثة أحدها الفزع وهو قوله { ففزع من في السموات } ونفخة أخرى للموت وهو قوله { فصعق من في السموات } [ الزمر : ٦٨ ] ونفخة للبعث وهي قوله { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } [ الزمر : ٦٨ ]

وقال بعضهم إنما هما نفختان فالفزع والصعق كناية عن الهلاك ثم نفخة للبعث

ثم قال { إلا من شاء اللّه } قال بعضهم يعني أرواح الشهداء وهي أحياء عند ربهم

وقال بعضهم يعني من في الجنة ومن في النار من الخدم والخزنة

وقال بعضهم { إلا من شاء اللّه } يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ثم يموتون بعد ذلك { وكل أتوه داخرين } روى سفيان بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود أنه قرأ { وكل أتوه } بغير مد ونصب التاء وهي قراء حمزة وعاصم في رواية حفص وقرأ الباقون بالمد والضم ومن قرأ بالمد والضم فمعناه كل حاضروه { داخرين } أي صاغرين ويقال متواضعين ومن قرأ بغير مد يعني يأتون اللّه عز وجل

٨٨

 { وترى الجبال تحسبها جامدة } يعني تحسبها واقفة مكانها ويقال مستقرة { وهي تمر مر السحاب } حتى تقع على الأرض فتستوي يعني في أعين الناظرين كأنها واقفة قال القتبي وكذلك كل عسكر غض به الفضاء أو شيء عظيم فينظر الناظر فيرى أنها واقفة وهي تسير

ثم قال عز وجل { صنع اللّه الذي أتقن كل شيء } يعني أحكم خلق كل شيء ويقال الشيء المتقن أن يكون وثيقا ثابتا فما كان من صنع غيره يكون واهيا ولا يكون متقنا

ثم قال { إنه خبير بما تفعلون } أي عليم بما فعلتم

٨٩

قوله عز وجل { من جاء بالحسنة } يعني بالإيمان والتوحيد وهو كلمة الإخلاص وشهادة أن لا إله إلا اللّه { فله خير منها } على وجه التقديم وله منها خير أي حين ينال بها الثواب والجنة ويقال { فله خير منها } أي خير من الحسنة يعني أكثر منها للواحد عشرة ويقال { فله خير منها } من الحسنة وهي الجنة لأن الجنة هي عطاؤه وفضله والعمل هو إكتساب العبد فما كان من فضله وعطائه فهو أفضل وهذا تفسير المعتزلة والأول قول المفسرين

ثم قال { وهم من فزع يومئذ آمنون } يعني من فزع يوم القيامة { آمنون } قرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر { من فزع } بغير تنوين { ويومئذ } بكسر الميم وقرأ نافع في رواية ورش { من فزع يومئذ } بغير تنوين ونصب الميم وقرأ الباقون بالتنوين ونصب الميم قال أبو عبيد وبالإضافة نقرأ لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم وإذا قال { فزع } بالتنوين صار كأنه قال فزع دون فزع وقال غيره إنما أراد به الفزع الأكبر لأن بعض الأفزاع تصيب الجميع وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وإبن عامر في إحدى الروايتين { إنه خبير بما يفعلون } بالياء على معنى الإخبار عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة

٩٠

ثم قال عز وجل { ومن جاء بالسيئة } يعني بالشرك { فكبت وجوههم في النار } يعني قلبت وجوههم في النار ويقال يكبون على وجوههم ويجرون إلى النار وتقول لهم خزنة النار { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } من الشرك ويقال { فكبت } أي ألقيت وطرحت

٩١

قال عز وجل { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } أي قل يا محمد لأهل مكة أمرني اللّه تعالى أن أستقيم على عبادة رب هذه البلدة يعني مكة الذي حرمها بدعاء إبراهيم عليه السلام وحرم فيها القتل والصيد قال بعضهم كان حراما أبدا قال بعضهم وهو أصح أن إبراهيم لما دعا فجعلها اللّه حراما بدعوته وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة ما بين لابتيها ثم روي أنه قد رخص في المدينة

ثم قال تعالى { وله كل شيء } يعني له ملك كل شيء وخلق كل شيء { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي من المخلصين

٩٢

 { وأن أتلو القرآن } يعني أمرت أن أقرأ القرآن عليكم يا أهل مكة { فمن إهتدى } يعني آمن بالقرآن { فإنما يهتدي لنفسه } يعني يؤمن لنفسه ويثاب عليها الجنة { ومن ضل } يعني ولم يوحد ولم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم { فقل إنما أنا من المنذرين } أي من المخوفين ومن المرسلين فليس علي إلا تبليغ الرسالة

٩٣

 { وقل الحمد للّه } يعني الشكر للّه على ما هداني { سيريكم } أيها المشركون آياته يعني العذاب في الدنيا { فتعرفونها } أنها حق وذلك أنه أخبرهم بالعذاب فكذبوه فأخبرهم أنهم يعرفونها أنها حق وذلك إذا نزل بهم وهو القحط والقتل ويقال هو فتح مكة { وما ربك بغافل عما تعملون } فهذا وعيد للظالم وتعزية للمظلوم وقال الزجاج في قوله { سيريكم آياته } يعني سيريكم اللّه آياته في جميع ما خلق وفي أنفسكم قرأ نافع وعاصم في رواية حفص وإبن عامر في إحدى الروايتين { عما تعملون } بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون بالياء على معنى الخبر عنهم واللّه أعلم بالصواب وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم

﴿ ٠