سورة القصص

كلها مكية إلا قوله { إن الذي فرض عليك القرآن } نزلت بين مكة والمدينة وهي ثمانون وثمان آيات

١

قوله تعالى { طسم }

٢

{ تلك آيات الكتاب المبين } أي القرآن وهو مبين للأحكام وقد ذكرناه قال أبو سعيد الفاريابي في قوله تعالى طا قال هو طاهر كما يحلوه والسين سامع لما وصفوه والميم ماجد حين سألوه والما جد كثير العطاء يقال أمجدني فلان إذا كثر إعطاؤه ويقال طا أقسم اللّه بطالوت وسين أقسم اللّه بسليمان وميم أقسم اللّه بمحمد صلى اللّه عليه وسلم

٣

{ نتلوا عليك } يعني ننزل عليك جبريل عليه السلام يقرأ عليك { من نبإ موسى } يعني من خبر موسى عليه السلام { وفرعون بالحق } يعني بالصدق { لقوم يؤمنون } يعني يصدقون محمدا صلى اللّه عليه وسلم بهذه الآية وإنما نزل القرآن لجميع الناس ولكن المؤمنين به يصدقون فكأنه لهم وذلك أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم فيشكون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه السورة في شأنهم لكي يعرفوا ما نزل في بني إسرائيل من فرعون وقومه ليصبروا كصبرهم وينجيهم ربهم كما أنجى بني إسرائيل من فرعون وقومه وهذا كقوله { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }

٤

ثم أخبر عن فرعون فقال { إن فرعون علا في الأرض } يعني إستكبر وتعظم عن الإيمان وخالف أمر موسى في أرض مصر { وجعل أهلها شيعا } يعني أهل مصر فرقا { يستضعف } يعني يستقهر { طائفة منهم } يعني من أهل مصر وهم بنو إسرائيل فجعل بعضهم ينقل الحجارة من الجبل وبعضهم يعملون له عمل النجارة وبعضهم أعمال الطين ومن كان لا يصلح لشيء من أعماله يأخذ منه كل يوم ضريبة درهما فإذا غربت الشمس ولم يأت بالضريبة غلت عليه يده اليمنى إلى عنقه ويأمره بأن يعمل بشماله هكذا شهرا

ثم قال { يذبح أبناءهم } أي يعني أبناء بني إسرائيل صغارا { ويستحيي نساءهم } يعني يستخدم نساءهم وأصله من الإستحياء يعني يتركهن أحياء

وروى أسباط عن السدي قال بلغنا أن فرعون رأى فيما يرى النائم كأن نارا أقبلت من أرض الشام فاشتملت على بيوت مصر وكانت الشام أرض بني إسرائيل أول ما كانوا فأحرقتها كلها إلا بيوت بني إسرائيل فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا يولد في بني إسرائيل مولود يكون على يديه هلاك أهل مصر فأمر فرعون بأن لا يولد في بني إسرائيل ذكر إلا ذبح وعمد إلى ما كان من بني إسرائيل خارج المصر فأدخله المدينة واستعبدهم ورفع العمل عن رقاب أهل مصر ووضعه على بني إسرائيل ثم قال { إنه كان من المفسدين } يعني فرعون كان يعمل بالمعاصي

٥

قوله عز وجل { ونريد أن نمن على الذين إستضعفوا في الأرض } يعني أردنا أن نمن بالنجاة { على الذين إستضعفوا في الأرض } وهم بنو إسرائيل { نمن } يعني ننعم عليهم { ونجعلهم أئمة } يعني قادة في الخير { ونجعلهم الوارثين } يعني أرض مصر وملك فرعون وقومه بعد هلاك فرعون

٦

 { ونمكن لهم } يعني نملكهم ويقال ننزلهم في الأرض { في الأرض } يعني في أرض مصر { ونري فرعون وهامان } قرأ حمزة والكسائي { ويرى } بالياء والنصب و { فرعون وهامان } { وجنودهما } بالضم كل ذلك وقرأ والباقون { ونري } بالنون والضم و { فرعون وهامان وجنودهما } كلها بالنصب ونصب { نري } لأنه معطوف على قوله { أن نمن } فكأنه قال أن نمن وأن نري ونصب فرعون لوقوع الفعل عليه ومن قرأ بالياء رفعه لأن الفعل منه

ثم قال { وهامان وجنودها منهم ما كانوا يحذرون } يعني يرون ما كانوا يخافون من ذهاب الملك

٧

وقوله عز وجل { وأوحينا إلى موسى } يعني ألهمنا أم موسى { أن أرضعيه } وذلك أن أم موسى حبلت فلم يظهر بها أثر الحبل حتى ولدت موسى وأرضعته ثلاثة أشهر أو أكثر فألهمها اللّه تعالى بقوله { فإذا خفت عليه } يعني صياحه { فألقيه في اليم } يعني في البحر

قال مقاتل وهو النيل فعلمها جبريل عليه السلام ويقال رأت في المنام بأنها تؤمر أن تلقيه في البحر ويقال كان هذا إلهاما ويقال كانت دلالة لها حيث علمت بالرؤيا أو بشيء خيل لها أن تفعل ما فعلت كما أن إبراهيم عليه السلام رأى في المنام ذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما السلام وذكر أنها كانت تخبز يوما وكان موسى عليه السلام على رأس التنور فدخل قوم فرعون يطلبون الولد فوضعته في التنور فدخلوا فلم يجدوا موسى عليه السلام فجاءت إلى التنور فوجدته يلعب بأصابعه في الأرض فاستيقنت أن اللّه تعالى يحفظه فجعلته في التابوت وألقته في النيل

ثم قال { ولا تخافي } الغرق { ولا تحزني } أن لا يرد إليك { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } يعني رسولا إلى فرعون وقومه فلما ألقته في النيل جاء به الماء وكان يمر النيل في دار فرعون فوجدته جواري فرعون بين الماء والشجر فمن ثم سمي موسى بلفظ القبط موشى فالمو الماء وشا الشجر فذلك

٨

 قوله تعالى { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } يعني إن أخذهم إياه كان سببا لحزنهم فكأنهم أخذوه لذلك وإن كان أخذهم لم يكن لذلك قرأ حمزة والكسائي { وحزنا } بضم الحاء وسكون الزاي وقرأ الباقون بنصب الحاء والزاي وهما لغتان ومعناهما واحد

ثم قال { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } يعني مشركين ويقال عاصين آثمين

٩

قوله عز وجل { وقالت إمرأة فرعون } وإسمها آسية لفرعون هذا الغلام { قرة عين لي ولك لا تقتلوه } فإنه آتانا به الماء من مصر آخر ومن أرض أخرى وليس من بني إسرائيل ويقال إنها قالت إن هذا كبير ومولود قبل هذه المدة التي أخبر لك { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } فإنه لم يكن له ولد ذكر قال فرعون فهو قرة عين لك فأما أنا فلا

وروي عن ابن عباس أنه قال لو قال فرعون أيضا هو قرة عين لي لنفعه اللّه تعالى به ولكنه أبى ويقال { قرة عين لي } وقد تم الكلام

ثم قالت { ولك لا تقتلوه } قال وروى عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقف على { قرة عين لي ولك }

ثم قال { لا تقتلوه } أي { لا تقتلوه } فلا الثاني إضمار في الكلام والتفسير الأول أصح

ثم قال { وهم لا يشعرون } يعني لا يشعر فرعون وقومه أن هلاكهم على يديه

ثم قال عز وجل { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } يعني خاليا من كل ذكر وشغل إلا ذكر موسى عليه السلام وهمه ويقال صار قلبها فارغا حين بعثت أخته لتنظر فأخبرتها بأنه قد أخذ في دار فرعون فسكنت حيث لم يغرق ويقال صار قلبها فارغا لأنها علمت أنه لا يقتل

١٠

وروي عن فضالة بن عبيد أنه قرأ { وأصبح فؤاد أم موسى فزعا } يعني خائفا وقراءة العامة { فارغا } وتفسيره ما ذكرناه وقد قيل أيضا فارغا من شغل نفقته

ثم قال { إن كادت لتبدي به } يعني قد كادت لتظهر به قال مقاتل وذلك أنها لما ألقت التابوت في النيل فرأت التابوت يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى فخشيت عليه الغرق فعند ذلك فزعت عليه وكادت أن تصيح ويقال إنه لما كبر كان الناس يقولون هو إبن فرعون فشق ذلك عليها وكادت أن تظهر أن هذا ولدي وليس بولد فرعون ويقال إنها لما دخل الليل دخل الغم في قلبها حيث لم تدر أين صار ولدها فأرادت أن تظهر ذلك { لولا أن ربطنا على قلبها } أي ثبتنا قلبها ويقال قوينا قلبها وألهمناها الصبر { لتكون من المؤمنين } يعني من المصدقين بوعد اللّه تعالى حيث وعد لها بإنا رادوه إليك فلم تجزع ولم تظهر

١١

قوله عز وجل { وقالت لأخته قصيه } يعني قالت أم موسى لأخت موسى وكان إسم أخته مريم { قصيه } يعني إتبعي أثره ويقال يعني إمشي بجنبه في الحد وهو في الماء حتى تعرف من يأخذه { فبصرت به عن جنب } يعني أبصرته عن بعد كما قال { والجار الجنب } [ النساء : ٣٦ ] يعني البعيد منهم من قوم آخرين ويقال { عن جنب } يعني في جانب { وهم لا يشعرون } أنها أخت موسى ويقال { وهم لا يشعرون } يعني وهم لا يعرفون أنها ترقبه

١٢

قوله عز وجل { وحرمنا عليه المراضع من قبل } يعني من قبل مجيء أمه ويقال في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن أم موسى عليهما السلام قالت لأخته { قصيه } أي أطلبي أثره بعد ما أخذه آل فرعون ولم يقبل رضاع أحد { وحرمنا عليه المراضع } من قبل مجيء أخته ويقال { حرمنا عليه المراضع } يعني منعنا موسى أن يقبل ثدي مرضع من قبل أن نرده على أمه { فقالت } أخته حين تعذر عليهم إرضاعه { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } يعني يضمنون لكم رضاعه ويقال يضمنونه { وهم له ناصحون } يعني مشفقون للولد ويقال مخلصون شفقته فقال هامان خذوها حتى تخبرنا بقصة هذا الغلام فأخذت فألهمها اللّه تعالى عند ذلك حتى قالت إنما ذكرت النصيحة لفرعون أعني { وهم له ناصحون } لفرعون لا لغيره فقال هامان دعوها فقد صدقت فأرسل إليها فلما جاءت أمه وضعت الثدي في فمه فأخذ ثديها وسكن فذلك

١٣

 قوله تعالى { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد اللّه حق } يعني كائن صدق وهو قوله { إنا رادوه إليك } ثم قال { ولكن أكثرهم لا يعلمون } بأن وعد اللّه حق يعني أهل مصر

١٤

قوله عز وجل { ولما بلغ أشده } قال مجاهد يعني بلغ ثلاثا وثلاثين سنة { واستوى } يعني بلغ أربعين سنة قال وفي رواية الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة ويقال { ولما بلغ أشده } يعني منتهى قوته وهو ما فوق الثلاثين { واستوى } يعني بلغ أربعين سنة { آتيناه حكما وعلما } يعني علما وعقلا ويقال النبوة وعلم التوراة

وروى مجاهد عن ابن عباس قال الأشد ثلاثا وثلاثون سنة وأما الإستواء فأربعون سنة والعمر الذي أعذر اللّه تعالى إبن آدم فيه إلى ستين سنة يعني قوله { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } [ فاطر : ٣٧ ]

ثم قال { وكذلك نجزي المحسنين } يعني المؤمنين

١٥

قوله عز وجل { ودخل المدينة } قال مقاتل يعني قرية على رأس فرسخين وقال غيره يعني المصر { على حين غفلة من أهلها } يعني نصف النهار وقت القيلولة ويقال ما بين المغرب والعشاء { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته } يعني من بني إسرائيل { وهذا من عدوه } يعني من القبط

وقال القتبي { هذا من شيعته } أي من أصحابه { وهذا من عدوه } أي من أعدائه والعدو يدل على الواحد والجمع وذكر أن خباز فرعون أخذ رجلا من بني إسرائيل سخرة فأمره بأن يحمل الحطب إلى دار فرعون { فاستغاثه الذي من شيعته } يعني هذا الذي من شيعة موسى إستغاث بموسى { على الذي من عدوه فوكزه موسى } يعني ضربه بكفه ضربة في صدره وقال القتبي { فوكزه } يعني لكزه ويقال لكزته ووكزته إذا دفعته { فقضى عليه } يعني مات الخباز بضربته وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه فمعنى قوله { فقضى عليه } أي قتله ولم يتعمد قتله وكان موسى شديد البطش ثم ندم على قتله فقال إني لم أؤمر بالقتل وإن كان كافرا { قال هذا من عمل الشيطان } يعني هو الذي حملني على هذا الفعل { إنه عدو مضل مبين } يعني يضل الخلق { مبين } يعني ظاهر العداوة

١٦

ثم إستغفر إلى اللّه تعالى فقال عز وجل { فقال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } يعني غفر اللّه عز وجل ذنبه { إنه هو الغفور } للذنوب لمن تاب { الرحيم } بخلقه

١٧

ثم قال { قال } موسى { رب بما أنعمت علي } يعني بالمغفرة كقوله { فبما أغويتني } [ الحجر : ٣٩ ] يعني أما إذا أغويتني ثم قال { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } يعني أعوذ باللّه أن أكون معينا للكافرين لأن الإسرائيلي كان كافرا ولم يستثن على كلامه فابتلاه اللّه عز وجل في اليوم الثاني بمثل ذلك وكانوا لا يعرفون من قتل خباز الملك وكانوا يطلبون قاتله

١٨

 { فأصبح } موسى { في المدينة خائفا } أن يؤخذ فيقتل { يترقب } يعني ينتظر الطلب ويقال ينتظر الأخبار { فإذا الذي إستنصره بالأمس يستصرخه } يعني رأى الإسرائيلي كان يقاتل مع رجل آخر من القبط يستصرخه يعني يستغيثه كقوله { ما أنا بمصرخكم } [ إبراهيم : ٢٢ ] يعني بمغيثكم { قال له موسى } يعني للإسرائيلي { إنك لغوي مبين } يعني ضال بين ويقال جاهل بين ويقال ظاهر الغواية وقد قتلت لك الأمس رجلا وتدعوني إلى لآخر ثم أقبل إليه فظن الذي من شيعته أنه يريده فذلك

١٩

 قوله تعالى { فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما } يعني يريد أن يضرب القبطي فظن الإسرائيلي أنه يريده بعدها عاينه قرأ أبو جعفر المدني { يبطش } بضم الطاء وقراءة العامة بالكسر ومعناهما واحد فظن الإسرائيلي أن موسى يريد ضربه ف { قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } وقال بعضهم كان ذلك إبليس تشبه بالرجل الإسرائيلي ليظهر أمر موسى

وقال بعضهم كان ذلك الرجل بعينه فقال ذلك الرجل من الخوف { إن تريد } يعني ما تريد { إلا أن تكون جبارا في الأرض } يعني قتالا تقتل ظلما

قال الكلبي من قتل رجلين فهو جبار ويقال إن من سيرة الجبابرة القتل بغير حق { وما تريد أن تكون من المصلحين } يعني المطيعين للّه تعالى فلما قال الإسرائيلي هذا علم القبطي أن موسى هو قاتل القبطي فرجع القبطي فأخبرهم أن موسى هو القاتل فائتمروا بينهم بقتل موسى قال فأذن فرعون بقتله فجاءه خزبيل وهو مؤمن من آل فرعون وأخبر موسى بذلك

٢٠

وهو قوله { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } يعني من وسط المدينة يمشي على رجليه ويقال يسرع ويشتد في مشيته ف { قال يا موسى إن الملأ } يعني الأشراف من أهل مصر { يأتمرون بك ليقتلوك } قال أبو عبيد يعني يتشاورون في أمرك وقال القتبي يعني يهمون بك ليقتلوك { فأخرج } من هذه المدينة { إني لك من الناصحين }

٢١

قوله عز وجل { فخرج منها } يعني من مصر { خائفا يترقب } يعني ينتظر الطلب { قال رب نجني من القوم الظالمين } يعني المشركين

٢٢

قوله تعالى { ولما توجه تلقاء مدين } يعني قصد بوجهه نحو مدين وذلك أن موسى عليه السلام حين خرج وتوجه نحو مدين وكان بينه وبين مدين ثمانية أيام كما بين الكوفة والبصرة ويقال { تلقاء مدين } يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين ويقال لما قال { رب نجني من القوم الظالمين } إستجاب اللّه تعالى دعاءه فجاءه جبريل عليه السلام وأمره بأن يسير تلقاء مدين فسار إلى مدين في عشرة أيام وهو قوله { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } يعني يرشدني قصد الطريق إلى مدين

٢٣

قوله عز وجل { ولما ورد ماء مدين } وكان مدين بن إبراهيم عليهما السلام وكانت البير تنسب إليه وكان ينسب الماء إليه وصار مدين إسم قبيلة { وجد عليه أمة من الناس يسقون } يعني وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أنعامهم وأغنامهم ويقال هم أربعون رجلا ويقال عشرة رجال { ووجد من دونهم } يعني من دون الناس { إمرأتين تذودان } أي تطردان قال سعيد بن جبير يعني حابستان ويقال تحبسان غنمهما وقال القتبي { تذودان } أي تكفان غنمهما وحذف الغنم إختصارا ويقال كانتا تحبسان الغنم لكيلا تختلط بغيرها ويقال تحبسان الغنم لتصدر مواشي الناس وتسقيان بفضل الماء ومما فضل من أغنام الناس وهما إبنتا شعيب عليه السلام { قال ما خطبكما } يعني قال لهما موسى ما شأنكما ترعيان الغنم مع الرجال وما بالكما لا تسقيان مع الناس { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء } قرأ أبو عمرو وإبن عامر { يصدر } بنصب الياء وضم الدال وقرأ الباقون { يصدر } بضم الياء وكسر الدال فمن قرأ بالنصب فهو من صدر يصدر إذا رجع من الماء ومعناه لا نسقي حتى يرجع الرعاء عن الماء ونسقي بفضلهم لأنا لا نقدر أن نستقي وأن نزاحم الرجال وإذا صدروا سقينا من فضل مواشيهم ومن قرأ { يصدر } بالضم فهو من أصدر يصدر والمعنى حتى يصدر الرعاة أغنامهم

{ وأبونا شيخ كبير } لم يقدر على الخروج وليس له عون يعينه غيرنا فرجع الرعاة ووضعوا صخرة على البئر فانتهى موسى إلى البئر وقد أطبقت عليها الصخرة فاقتلعها ثم سقى لهما حتى أروتا أغنامهما وقال في رواية الكلبي كان للبئر دلو يجتمع عليه أربعون رجلا حتى يخرجوه من البئر فأتى موسى أهل الماشية فسألهم أن يهيئوا له دلوا من الماء فقالوا إن شئت أعطيناك الدلو على أن تسقي أنت فقال نعم فأخذ موسى عليه السلام الدلو فسقى بها وحده فصب في الحوض ثم قربتا غنمهما فشربت فذلك

٢٤

 قوله عز وجل { فسقى لهما } يعني أغنامهما { ثم تولى إلى الظل } يعني تحول إلى ظل الشجرة { فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } أي لما أنزلت إلي من الطعام فأنا محتاج إلى ذلك وهو أنه كان جائعا فسأل ربه عز وجل ولم يسأل الناس ففطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة فقال أبوهما هذا رجل جائع وقال لإحداهما إذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبي يدعوك فذلك

٢٥

قوله عز وجل { فجاءته إحداهما تمشي على إستحياء } يعني على حياء لأنها كانت مقنعة ولم تك متبرجة ويقال { على إستحياء } يعني على حياء واضعة يدها على وجهها ويقال { على إستحياء } يعني مستترة بكم درعها قال فالوقف على { تمشي } إذا كان قولها على الحياء فأما إذا كان مشيها على الحياء فالوقف على { إستحياء } والقول بالحياء أشبه من المشي بالحياء فكيف ما يقف يجوز بالمعنى فقالت { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ويقال أقل من ذلك فتبعها فلم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال خائفا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها وتظهر عجيزتها وجعل موسى عليه السلام يعرض مرة ويغض مرة فلما عيل صبره ناداها يا أمة اللّه كوني خلفي وأريني السمت بقولك يعني دليني الطريق فلما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب إجلس يا شاب فتعش فقال له موسى أعوذ باللّه فقال له شعيب لم لا تأكل أما أنت جائع فقال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي أنا نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل وأخبره بقصة القتل والهرب فذلك قوله عز وجل { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني خرجت من ولاية فرعون ولا سلطان له في أرضنا وقال في رواية الكلبي كان هذا الرجل إسمه نيرون إبن أخي شعيب وشعيب كان توفي قبل ذلك وقال عامة المفسرين إن هذا كان شعيبا

٢٦

قوله عز وجل { قالت إحداهما يا أبت } يعني قالت إحدى الإبنتين التي جاءت به وقال في رواية مقاتل هي الكبرى وقال في رواية الكلبي هي الصغرى { يا أبت إستأجره } يعني إستأجر موسى ليرعى لك الغنم { إن خير من إستأجرت القوي الأمين } يعني خير الأجراء من يكون قويا في العمل أمينا على المال والعورة

ثم قال إيش تعلمين أنه قوي أمين فأخبرته بالقصة قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثنا محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا إبراهيم بن يوسف قال حدثنا أبو معاوية عن الحجاج عن الحكم قال كان شريح لا يفسر شيئا من القرآن إلا ثلاث آيات قوله { الذي بيده عقدة النكاح } [ البقرة : ٢٣٧ ] قال أي الزوج وقوله { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } [ ص : ٢٠ ] قال { الحكمة } الفقه والعلم { وفصل الخطاب } البينة والإيمان وقوله { إن خير من إستأجرت القوي الأمين } قال كانت قوته أن يحمل صخرة لا يقوى عليها إلا عشرة رجال وكانت أمانته أن إبنة شعيب كانت أمامه فوصفتها له الريح فقال لها تأخري وصفي لي الطريق

٢٧

{ قال } شعيب لموسى عليهما السلام { إني أريد أن أنكحك إحدى إبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } يعني أزوجك إحدى إبنتي على أن ترعى غنمي ثمان سنين وهذا الحكم في هذه الأمة جائز أيضا لو تزوج الرجل المرأة على أن يرعى غنمها كذا وكذا سنة أو يرعى غنم أبيها يجوز النكاح ويكون ذلك مهرا لها { فإن أتممت عشرا } يعني عشر سنين { فمن عندك } يعني فإن أتممت عشر سنين فبفضلك وليس بواجب { وما أريد أن أشق عليك } في السنتين يعني أنت بالخيار في ذلك

ويقال بأن أشرط عليك العشر { ستجدني إن شاء اللّه من الصالحين } أي من الوافين بالعهد

وقال مقاتل يعني من الوافين بك كقوله { أخلفني في قومي وأصلح } [ الأعراف : ١٤٢ ] يعني إرفق بهم

٢٨

{ قال } موسى { ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت } يعني أتممت لك إما الثماني وأما العشر { فلا عدوان علي } أي لا سبيل لك علي ويقال لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منه

فإن قيل كيف تجوز الإجازة بهذا الشرط على أحد الأجلين بغير وقت معلوم

قيل له العقد قد وقع على الثماني وهو قوله { أن تأجرني ثماني حجج } وإنما خيره في الزيادة والإجارة بهذا الشرط في الشريعة جائزة أيضا

ثم قال { واللّه على ما نقول وكيل } يعني شهيد فيما بيننا ويقال شاهد على ما نقول وعلى عقدنا وذكر مقاتل أن رجلا من الأزد سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيما الأجلين قضى موسى قال اللّه أعلم حتى أسأل جبريل عليه السلام فأتاه جبريل فسأله فقال اللّه أعلم سأسأل إسرافيل عليه السلام فسأله فقال حتى أسأل رب العزة فأوحى اللّه تعالى إلى إسرافيل عليه السلام أن قد قضى موسى أبرهما وأوفاهما

وروي عن ابن عباس أنه قال قضى موسى أتم الأجلين وقد كان شرطه له أن ما ولدت في ذلك العام ولدا أبلق فهو له فولدت في ذلك العام كلها بلقا فأخذ الغنم البلق

وقيل مثل هذا الشرط في شريعتنا غير واجب إلا أن الوعد من الأنبياء عليهم السلام واجب فوفاه بوعده فلما أراد أن يخرج قال لشعيب عليه السلام يا شيخ أعطني عصا أسوق بها غنمي فقال لإبنته إلتمسي له عصا فجاءت بعصا شعيب عليه السلام فقال شعيب عليه السلام ردي هذه وكانت تلك العصا أودعها إياه ملك في صورة إنسان وكانت من عود آس الجنة فردتها والتمست غيرها فلم يقع في يدها غيرها فأعطته فخرج مع أهله فضل الطريق وكانت ليلة باردة مظلمة فذلك

٢٩

 قوله تعالى { فلما قضى الأجل وسار بأهله } يعني بإمرأته { آنس } يعني أبصر { من جانب الطور نارا قال لأهله إمكثوا } يعني قفوا مكانكم { إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر } أي خبر الطريق { أو جذوة من النار } قرأ عاصم { جذوة } بنصب الجيم وقرأ حمزة { جذوة } بضم الجيم وقرأ الباقون { جذوة } بالكسر فهذه لغات معناها واحد يعني قطعة من النار ويقال شعلة وهو عود قد إحترق بعضه { لعلكم تصطلون } أي لكي تصطلوا من البرد فترك إمرأته في البرية وذهب

٣٠

{ فلما أتاها } يعني النار { نودي من شاطىء الواد الأيمن } يعني من جانب الوادي الأيمن عن يمين موسى عليه السلام { في البقعة المباركة } يعني من الموضع المبارك الذي كلم اللّه تعالى فيه موسى عليه السلام { من الشجرة أن يا موسى إني أنا اللّه رب العالمين } يعني الذي يناديك رب العالمين

٣١

قوله عز وجل { وأن ألق عصاك } يعني ونودي بأن ألق عصاك { فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب } وقد ذكرناه قال اللّه عز وجل { يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين } يعني من الحية يعني قد آمنت أن ينالك منها مكروه

٣٢

 { أسلك يدك } أي أدخل يدك { في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب } يعني يدك

قال بعضهم هذا ينصرف إلى قوله { ولم يعقب } من الرهب يعني لم يلتفت من الخوف ويقال كان خائفا فأمره بأن يضم يده إلى صدره ففعل حتى سكن عن قلبه الرعب

قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { من الرهب } بنصب الراء والهاء وقرأ عاصم في رواية حفص بنصب الراء وجزم الهاء والباقون بضم الراء وجزم الهاء ومعنى ذلك كله واحد وهو الخوف

وقال بعضهم هو الكدر

ثم قال { فذانك برهانان من ربك } يعني اليد والعصا آيتان وعلامتان من ربك وحجتان لنبوتك قرأ إبن كثير وأبو عمرو { فذانك } بتشديد النون وقرأ الباقون بالتخفيف وهم لغتان وهو الإشارة إلى شيئين يقال للواحد ذلك وذاك وللإثنين ذانك وذايك { إلى فرعون وملئه } ومعناه أرسلناك إلى فرعون بهاتين الآيتين { إنهم كانوا قوما فاسقين } يعني عاصين

٣٣

{ قال } موسى { رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون } به

٣٤

 { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } يعني أبين مني لسانا وكانت في لسان موسى عقدة من النار التي أدخلها فاه { فأرسله معي ردءا } أي عونا { يصدقني } يعني لكي يصدقني ويعبر عن كلامي قرأ نافع { ردا } بغير همز وقرأ الباقون بالهمز فمن قرأ بالهمز فهو الأصل ومن قرأ بغير همز فإنما ألقى فتحة الهمزة على الدال ولين الهمزة وقرأ عاصم وحمزة { يصدقني } بضم القاف وقرأ الباقون بالجزم فمن قرأ بالجزم جعله جواب الأمر ومن قرأ بالضم جعله صفة ردءا أي ردءا مصدقا

ثم قال { إني أخاف أن يكذبون } أي فرعون وآله

٣٥

 { قال } اللّه تعالى { سنشد عضدك بأخيك } أي نقويك بأخيك { ونجعل لكما سلطانا } يعني حجة ثانية وهي اليد والعصا { فلا يصلون } بسوء إليكما { أنتما ومن إتبعكما } يعني من آمن بكما { الغالبون } في الحجة

٣٦

قوله عز وجل { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات } يعني جاء إلى فرعون وقومه بعلاماتنا وذكر في رواية مقاتل أن فرعون لم يأذن لهما إلى سنة أن يدخلا عليه وقال في رواية السدي وغيره أنه لما جاء إلى الباب لم يأذن له البواب فضرب عصاه على باب فرعون ضربة ففزع من ذلك فرعون وجلساؤه فدعا البواب وسأله فأخبره أن بالباب رجلا يقول أنا رسول رب العالمين فأذن له فدخل فأدى الرسالة وأراهم العلامة فقالوا هذا سحر فذلك قوله عز وجل { قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } يعني ما هذا إلا كذب مختلق يعني الذي جئت به ما هو إلا سحر قد إختلقته من ذات نفسك { وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين }

٣٧

قوله عز وجل { وقال موسى } قرأ إبن كثير { قال موسى } بغير واو وقرأ الباقون بالواو فمن قرأ بالواو فهو عطف جملة على جملة ومن قرأ بغير واو فهو إستئناف { قال موسى } { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } يعني أنا جئت بالهدى من عند اللّه { ومن تكون له عاقبة الدار } يعني هو أعلم بمن تكون له عاقبة الجنة أو النار ويقال بمن يكون له عاقبة الأمر والدولة وقرأ حمزة والكسائي { ومن يكون } بلفظ التذكير وقرأ الباقون { تكون } بلفظ التأنيث

ثم قال { إنه لا يفلح الظالمون } يعني لا يأمن الكافرون من عذابه

٣٨

 { وقال فرعون } لأهل مصر { يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } فلا تطيعوا موسى وهذه إحدى كلمتيه التي أخذه اللّه بهما والأخرى { فقال أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : ٢٤ ]

ثم قال { فأوقد لي يا هامان على الطين } يعني أوقد النار على اللبن حتى يصير آجرا قال مقاتل وكان فرعون أول من طبخ الآجر وبنى به { فاجعل لي صرحا } أي قصرا طويلا مشرفا وهو المنارة { لعلي أطلع إلى إله موسى } يعني أنظر إليه وأقف عليه فبنى الصرح وكان بلاطه خبث القوارير وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الرياح وكان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع وعرضه ثلاثة آلاف ذراع فلما فرغ من بنائه جاء جبريل عليه السلام فضرب جناحه على الصرح فهدمه وقال { وإني لأظنه } يعني أحسب موسى { من الكاذبين } بما يقول أن في السماء إلها

٣٩

قوله عز وجل { واستكبر هو وجنوده في الأرض } يعني إستكبر فرعون عن الإيمان هو وقومه { بغير الحق } يعني بغير حجة { وظنوا أنهم } يعني وحسبوا أنهم { إلينا لا يرجعون } بعد الموت قرأ نافع وحمزة والكسائي { لا يرجعون } بنصب الياء وكسر الجيم على فعل لازم وقرأ الباقون بضم الياء نصب الجيم يعني لا يردون بمعنى التعدي

٤٠

يقول اللّه تعالى { فأخذناه وجنوده } يعني عاقبناه وجنوده { فنبذناهم في اليم } يعني أغرقناهم في البحر وقال مقاتل في النيل { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } يعني المشركين

٤١

قوله عز وجل { وجعلناهم أئمة } يعني خذلناهم حتى صاروا قادة ورؤساء للضلال والجهال { يدعون إلى النار } يعني إلى عمل أهل النار ويقال إلى الضلالة التي عاقبتها النار { ويوم القيامة لا ينصرون } يعني لا يمنعون من عذابي { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } عقوبة عقوبة وهي الغرق { ويوم القيامة هم من المقبوحين } أي من المهلكين والعرب تقول قبحه اللّه أي أهلكه اللّه

٤٢

ويقال { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } وذلك أنهم لما أهلكوا لعنوا فهم يعرضون على النار غدوة وعشية إلى يوم القيامة ويوم القيامة { هم من المقبوحين } يعني من الممقوتين المهلكين ويقال { من المقبوحين } يعني من المعذبين ويقال إنه يقبح صورتهم ويقال { من المقبوحين } يعني من المشوهين

٤٣

قوله عز وجل { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني أعطيناه التوراة { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } بالعذاب يعني من بعد قوم نوح وعاد وثمود { بصائر للناس } يعني هلاكهم بصيرة للناس وعبرة ويقال { بصائر } يعني الكتاب بيانا لبني إسرائيل ومعناه { ولقد آتينا موسى الكتاب بصائر } أي مبينا للناس { وهدى } من الضلالة لمن عمل به { ورحمة } لمن آمن به من العذاب { لعلهم يتذكرون } أي لكي يتعظوا فيؤمنوا بتوحيد اللّه تعالى

٤٤

قوله عز وجل { وما كنت بجانب الغربي } يعني ما كنت يا محمد بناحية الجبل من قبل المغرب { إذ قضينا إلى موسى الأمر } يعني إذ عهدنا إليه بالرسالة ويقال أحكمنا معه وعهدنا إليه بأمرنا ونهينا { وما كنت من الشاهدين } يعني الحاضرين لذلك الأمر { ولكنا أنشأنا قرونا } يعني أحدثنا وخلقنا أمما { فتطاول عليهم العمر } يعني الأجل فنسوا عهد اللّه عز وجل وتركوا أمره

٤٥

وقال { وما كنت ثاويا } يعني مقيما { في أهل مدين } { تتلو عليهم آياتنا } يعني تتلو على أهل مكة القرآن يعني أن اللّه تعالى أعلمك أخبار الأمم الماضية من حديث موسى وشعيب عليهما السلام ليكون علامة لنبوتك حيث تخبرهم بخبر موسى ولم تكن حاضرا هناك ولم تكن تقرأ القرآن { ولكنا كنا مرسلين } إليك لتخبرهم بخبر أهل مدين وبخبر موسى عليه السلام ويقال { ولكنا كنا مرسلين } يعني أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك هذه الأخبار لتخبرهم ولولا ذلك لما علمتها

٤٦

قوله عز وجل { وما كنت بجانب الطور } يعني بناحية الجبل الذي كلم اللّه تعالى به موسى يعني عن يمين موسى ولولا ذلك { إذ نادينا } يعني كلمنا موسى ويقال { إذ نادينا } يعني أمتك وذلك أن اللّه تعالى لما وصف لموسى نعت أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فأحب موسى أن يراهم قال اللّه تعالى لموسى إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك كلامهم فأسمعه اللّه تعالى كلامهم وقال أبو هريرة رضي اللّه عنه معنى قوله { إذ نادينا } يعني نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني

وروى الأعمش عن إبن مدرك عن أبي زرعة قال رفع الحديث في قوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } قال نودي يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتم قبل أن تسألوني وعن عمرو بن شعيب قال سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } ما كان النداء وما كانت الرحمة قال كتاب كتبه اللّه تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام وستمائة عام على ورقة آس ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله أدخلته الجنة

ثم قال { ولكن رحمة من ربك } يعني القرآن نعمة من ربك حيث إختصصت به نصب { رحمة } لأن معناه فعلنا ذلك للرحمة كقوله فعلت ذلك إبتغاء الخير يعني لإبتغاء الخير

ثم قال { لتنذر قوما ما أتاهم } يعني لم يأتهم { من نذير من قبلك } يعني لم يأتهم رسول من قبلك وهم أهل مكة { لعلهم يتذكرون } يعني لكي يتعظوا

٤٧

قوله عز وجل { ولولا أن تصيبهم مصيبة } يعني عقوبة ونقمة وفي الآية تقديم ومعناها لولا أن يقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين لعذبوا في الدنيا ولأصابتهم مصيبة { بما قدمت أيديهم } وهذا هو قول مقاتل ويقال معناه لولا أن يصيبهم عذاب { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } لعذبوا في الدنيا فيكون جوابه مضمرا ويقال معناه لو أني أهلكتهم قبل إرسالي إليك لقالوا يوم القيامة { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } يقول لولا ذلك لم نحتج إلى إرسال الرسل فأرسلناك لكي لا يكون لهم حجة علي

٤٨

ثم قال عز وجل { فلما جاءهم الحق من عندنا } يعني الكتاب أو الرسل { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } من قبل يعني هلا أعطي محمد صلى اللّه عليه وسلم القرآن جملة واحدة كما أعطي موسى التوراة جملة

يقول اللّه تعالى { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } يعني بالتوراة فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد صلى اللّه عليه وسلم { قالوا سحران تظاهرا } يعني تعاونا وذلك أن أهل مكة سألوا اليهود عنه فأخبروهم أنهم يجدون في كتبهم نعته وصفته فأمروهم بأن يسألوه عن أشياء فلما أجابهم قالوا { ساحران تظاهرا } { وقالوا إنا بكل كافرون } يعني جاحدين قرأ حمزة والكسائي وعاصم { سحران } بغير ألف عنوا محمدا وموسى عليهما السلام ويقال التوراة والفرقان ويقال التوراة والإنجيل وقرأ الباقون بالألف { ساحران } عنوا محمدا وموسى عليهما السلام وقال سعيد بن جبير يعني موسى وهارون عليهما السلام ويقال موسى وعيسى عليهما السلام وأحتج من يقرأ بغير ألف بما في سياق الآية

٤٩

 { قل فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما أتبعه } وأحتج من قرأ بالألف بقوله تعالى { تظاهرا } تعاونا والتظاهر يكون بالناس يقول اللّه تعالى للنبي صلى اللّه عليه وسلم قل لهم فأتوا بكتاب من عند اللّه هو أهدى منهما أتبعه يعني من التوراة والقرآن أتبعة أي أعمل به { إن كنتم صادقين } بأنهما كانا ساحرين

٥٠

 { فإن لم يستجيبوا لك } يعني إن لم يجيبوك إلى الإتيان بالكتاب { فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } بعبادة الأوثان ويقال يؤثرون أهواءهم على الدين { ومن أضل } يعني ومن أضر بنفسه { ممن إتبع هواه بغير هدى من اللّه } يعني بغير بيان من اللّه { إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين } يريد كفار مكة يعني لا يرشدهم إلى دينه

٥١

قوله { ولقد وصلنا لهم القول } يعني بينا لكفار مكة لهم في القرآن من خبر الأمم الماضية كيف عذبوا { لعلهم يتذكرون } لكي يخافوا فيؤمنوا بما في القرآن ويقال { ولقد وصلنا لهم القول } يعني أرسلنا لهم الكتب بعضها ببعض يعني بعثنا بعضها على إثر بعض ويقال { ولقد وصلنا } أي أوصلنا لهم القول يعني أنزلنا لهم القرآن آية بعد آية هداية { لعلهم يتذكرون } يعني لكي يتعظوا

٥٢

ثم وصف مؤمني أهل الكتاب فقال { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } يعني من قبل القرآن { هم به مؤمنون } يعني مؤمني أهل الكتاب وهم أربعون رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم إثنان وثلاثون من أهل أرض الحبشة قدموا مع جعفر الطيار وثمانية من أهل الشام ويقال إنهم ثمانية عشر رجلا

٥٣

 { وإذا يتلى عليهم } يعني القرآن { قالوا آمنا به } أي صدقنا { إنه الحق من ربنا } يعني القرآن وذلك أنهم عرفوا بما ذكر في كتبهم من نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وصفته وكتابه فقالوا { إنا كنا من قبله مسلمين } يعني من قبل هذا القرآن ومن قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم كنا مخلصين

٥٤

قوله عز وجل { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } يعني يعطون ثوابهم ضعفين مرة إيمانهم بكتابهم ومرة بإيمانهم بالقرآن وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم { بما صبروا } يعني بصبرهم على ما أوذوا ويقال بصبرهم على دينهم الأول وبصبرهم على أذى المشركين فصدقوا وثبتوا على إيمانهم حيث قال لهم أبو جهل وأصحابه ما رأينا أحدا أجهل منكم تركتم دينكم وأخذتم دينه فقالوا ما لنا لا نؤمن باللّه فذلك قوله عز وجل { ويدرؤون بالحسنة السيئة } يعني يدفعون قول المشركين بالمعروف ويقال يدفعون الشرك بالإيمان ويقال يدفعون بالكلام الحسن الكلام القبيح ويقال يدفعون ما تقدم لهم من السيئات بما يعملون من الحسنات { ومما رزقناهم ينفقون } يعني يتصدقون

٥٥

قوله عز وجل { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } يعني إذا سمعوا الشتم والأذى والقبيح لم يردوا عليهم ولم يكافئوهم به ولم يلتفتوا إليه يعني إذا شتمهم الكفار لم يشتغلوا بمعارضتهم بالشتم { وقالوا لنا أعمالنا } يعني ديننا { ولكم أعمالكم } يعني دينكم { سلام عليكم } يعني ردوا معروفا عليهم ليس هذا تسليم التحية وإنما هو تسليم المتاركة والمسالمة أي بيننا وبينكم المتاركة والمسالمة وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال ويقال { السلام عليكم } يعني أكرمكم اللّه تعالى بالإسلام { لا نبتغي الجاهلين } أي لا نطلب دين الخاسرين ولا نصحبهم ويقال هذه الآية مدنية نزلت في شأن عبد اللّه بن سلام

وروى أسباط عن السدي قال لما أسلم عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه فقال يا رسول اللّه إبعث إلى قومي فاسألهم عني فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد ستر بينهم وبينه سترا وقال أخبروني عن عبد اللّه بن سلام كيف هو فيكم قالوا ذاك سيدنا وأعلمنا قال أرأيتم إن آمن بي وصدقني أتؤمنون بي وتصدقوني قالوا هو أفقه من أن يدع دينه ويتبعك قال أرأيتم إن فعل قالوا لا يفعل قال أرأيتم إن فعل قالوا إنه لا يفعل ولو فعل إذا نفعل فقال عليه السلام أخرج يا عبد اللّه فخرج فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه فوقعوا فيه وشتموه وقالوا ما فينا أحد أقل علما ولا أجهل منك قال ألم تثنوا عليه آنفا قالوا إنا إستحينا أن نقول إغتبتم صاحبكم فجعلوا يشتمونه وهو يقول { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } فقال إبن يامين وكان من رؤساء بني إسرائيل أشهد أن عبد اللّه بن سلام صادق فابسط يدك يا محمد فبسط يده فبايع إبن يامين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } إلى قوله { ومما رزقناهم ينفقون } وإلى قوله { لا نبتغي الجاهلين }

٥٦

قوله عز وجل { إنك لا تهدي من أحببت } يعني لا ترشد من أحببته إلى الهدى ويقال من أحببت هدايته إلى دينك وذلك أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد اللّه بن أمية فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا عماه قل لا إله إلا اللّه كلمة أحاج لك بها عند اللّه تعالى فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا به يكلمانه ويكلمه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى مات على الكفر فنزل { إنك لا تهدي من أحببت } بهدايته { ولكن اللّه يهدي من يشاء } يعني يرشد من يشاء إلى دينه { وهو أعلم بالمهتدين } يعني بمن قدر له الهدى

٥٧

قوله عز وجل { وقالوا } يعني مشركي مكة { إن نتبع الهدى معك } يعني الإيمان بك { نتخطف من أرضنا } يعني نسبى ونخرج من مكة لإجماع العرب على خلافنا وهذا قول الحارث بن عامر النوفلي حين قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم ما كذبت كذبة قط فنتهمك اليوم ولكن متى ما نؤمن بك تختلسنا العرب من أرضنا يقول اللّه تعالى { أولم نمكن لهم حرما آمنا } يعني أولم ننزلهم مكة حرما آمنا يعني كان الحرم أمنا لهم في الجاهلية من الغارة والسبي وهم يعبدون غيري فكيف يخافون إن أسلموا أن لا يكون الحرم أمنا لهم فذلك قوله { أولم نمكن لهم } يعني أولم ننزلهم مكة حرما آمنا من الغارة والسبي { يجبى إليه } بالتاء يعني يحمل إليه { ثمرات كل شيء } أي من ألوان الثمرات مؤنثة قرأ نافع { تجبى } بالتاء لأن الثمرات مؤنثة وقرأ الباقون بالياء لتقديم الفعل ثم قال { رزقا من لدنا } يعني من عندنا { ولكن أكثرهم لا يعلمون } يأكلون رزقي ويعبدون غيري وهم آمنون في الحرم ويقال لا يعلمون أن ذلك من فضل اللّه عليهم

٥٨

ثم خوفهم فقال { وكم أهلكنا من قرية } فيما مضى { بطرت معيشتها } يعني كفرت برزق ربها ذكر القرية وأراد به أهل القرية يعني أنهم كانوا يتقلبون في رزق اللّه تعالى فلم يشكروه في نعمته ويقال { بطرت معيشتها } يعني طغوا في نعمة اللّه فأهلكهم اللّه تعالى بالعذاب في الدنيا ويقال عاشوا في البطر وكفران النعم { فتلك مساكنهم } يعني أنظروا واعتبروا في بيوتهم وديارهم بقيت خالية { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } وهم المسافرون ينزلون بها يوما أو ساعة { وكنا نحن الوارثين } يعني نرث الأرض ومن عليها

٥٩

قوله عز وجل { وما كان ربك مهلك القرى } يعني لم يعذب أهل القرى { حتى يبعث في أمها رسولا } يعني في معظمها ويقال في أكبر قراها ويقال أم القرى مكة قرأ حمزة والكسائي { في إمها } بكسر الألف وقرأ الباقون { أمها } بالضم ومعناهما واحد يبعث في أمها رسولا { يتلو عليهم آياتنا } يعني القرآن { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } يعني لم نهلكها إلا بظلم أهلها

٦٠

ثم قال عز وجل { وما أوتيتم من شيء } يعني ما أعطيتم من مال ويقال ما أعطيتم من الدنيا فهو { فمتاع الحياة الدنيا } يعني فهو متاع الحياة الدنيا يعني ينتفعون بها أيام حياتهم { وزينتها } يعني وزهراتها ولا تبقى دائما { وما عند اللّه } من الثواب والجنة { خير وأبقى } يعني أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا { أفلا تعقلون } أن الباقي خير من الفاني قرأ عمرو { يعقلون } بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة

٦١

قوله عز وجل { أفمن وعدناه وعدا حسنا } يعني الجنة { فهو لاقيه } يعني مدركه ومصيبه { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } بالمال { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } في النار هل يستوي حالهما قال في رواية الكلبي نزل في عمار بن ياسر وأبي جهل بن هشام وقال غيره هذا في جميع المؤمنين وجميع الكافرين ويقال نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي أبي جهل يعني من كان له في هذه الدنيا شدة مع دين اللّه خير ممن كان له سعة وفرج مع الشرك { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } يعني من المعذبين في النار

٦٢

وقال عز وجل { ويوم يناديهم } يعني واذكر يوم يدعوهم يعني المشركين { فيقول أين شركائي الذين } يعني المشركين { كنتم تزعمون } في الدنيا أنهم شركائي

٦٣

{ قال الذين حق عليهم القول } وجبت عليهم الحجة فوجب عليهم العذاب ويقال وجب عليهم القول وهو قوله { لأملأن جهنم } [ الأعراف : ١٨ ] { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم } يعني القادة يقولون ربنا هؤلاء الذين أضللنا يعني السفلة أغويناهم { كما غوينا } أي أضللناهم كما كنا ضالين ويقال يقول الكافرون { ربنا هؤلاء الذين أغوينا } يعني الشياطين فقالت الشياطين أغويناهم يعني أضللناهم كما غوينا أي أضللنا { تبرأنا إليك } من عبادتهم { ما كانوا إيانا يعبدون } يعني ما كانوا يأمرونا بعبادة الآلهة

٦٤

{ وقيل } للكفار { أدعوا شركائكم } يعني آلهتكم التي تعبدون من دون اللّه { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم }

يقول اللّه عز وجل { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } يعني يودون لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ويقال يودون أن لم يكونوا إتبعوهم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم أي لم يجيبوهم بحجة تنفعهم فيودون أنهم لم يعبدوهم لما رأوا العذاب

٦٥

ثم قال عز وجل { ويوم يناديهم } يعني يسألهم يوم القيامة { فيقول ماذا أجبتم المرسلين } في التوحيد

٦٦

{ فعميت عليهم الأنباء } يعني ألبست عليهم الحجج { يومئذ } من الهول { فهم لا يتساءلون } يعني لا يسأل بعضهم بعضا عما يحتجون به رجاء أن يكون عنده من الحجة ما لم يكن عند غيره لأن اللّه تعالى أدحض حجتهم وفي الدنيا إذا إشتبهت عليه الحجة ربما يسأل عن غيره فيلقنه الحجة وفي الآخرة آيس من ذلك

٦٧

ثم قال عز وجل { فأما من تاب وآمن } يعني من الشرك { وعمل صالحا } فيما بينه وبين اللّه تعالى { فعسى أن يكون من المفلحين } أي من الناجين الفائزين بالخير

٦٨

قوله عز وجل { وربك يخلق ما يشاء ويختار } وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : ٣١ ] يعني به نفسه وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف

٦٩

 فقال تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار } للرسالة من يشاء { ما كان لهم الخيرة } يعني ليس الخيار إليهم ويقال هو ربك يخلق ما يشاء ويختار لهم ما يشاء { ما كان لهم الخيرة } أي ما كان لهم طلب الخيار والأفضل ويقال ما كان لبعضهم على بعض فضل واللّه تعالى هو الذي يختار وقال الزجاج الوقف على قوله { ويختار } والمعنى وربك يخلق ما يشاء ويختار

ثم قال { ما كان لهم الخيرة } أي لم يكن لهم أبدا أن يختاروا على اللّه ويكون ما للنفي قال ووجه آخر أن تكون بمعنى الذي يعني وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يدعوهم إليه من عبادته ما لهم فيه الخيرة ويقال ما كان لهم الخيرة يعني ليس لهم أن يختاروا على اللّه عز وجل وليس إليهم الإختيار والمعنى لا نرسل الرسل إليهم على إختيارهم

ثم قال { سبحان اللّه } أي تنزيها للّه { وتعالى عما يشركون } يعني ما تضمر وتسر قلوبهم { وما يعلنون } من القول

٧٠

 { وهو اللّه لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا رازق غيره { له الحمد في الأولى والآخرة } أي في الدنيا والآخرة وقال مقاتل يعني يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الجنة ويقال له الألوهية في الدنيا والآخرة وله الحكم يعني نفاذ الحكم والقضاء يحكم في الدنيا والآخرة بما يشاء { وإليه ترجعون } في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم

٧٢

قوله عز وجل { قل أرأيتم إن جعل اللّه } يعني ألا تنظرون إلى نعمة اللّه تعالى في خلق الليل والنهار لمصلحة الخلق فلو جعل { عليكم الليل سرمدا } أي دائما { إلى يوم القيامة من إله غير اللّه يأتيكم بضياء أفلا تسمعون } المواعظ وتعتبرون بها

قوله عز وجل { قل أرأيتم إن جعل اللّه عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة } يعني دائما { من إله غير اللّه يأتيكم بليل تسكنون فيه } يعني تقرون وتستريحون فيه { أفلا تبصرون}

٧٣

من يفعل ذلك بكم لأن العيش لا يصلح إلا بالليل والنهار فأخبر عن صنعه لمصلحة الخلق ليشكروه ويوحدوه ويعبدوه فقال { ومن رحمته } أي ومن نعمته وفضله { جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } يعني في الليل وجعل لكم النهار { ولتبتغوا من فضله } يعني لتطلبوا من رزقه في النهار { ولعلكم تشكرون } أي تشكرون رب هذه النعمة

٧٤

ثم قال عز وجل { ويوم يناديهم } يعني أنذرهم بذلك اليوم ويقال معناه أذكر ذلك اليوم الذي يناديهم يعني يدعوهم { فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } أنها لي شريك

٧٥

 { ونزعنا من كل أمة شهيدا } يعني أخرجنا من كل أمة نبيها ورسولها { شهيدا } بالرسالة والبلاغ { فقلنا } للمشركين { هاتوا برهانكم } يعني حجتكم بأن معي شريكا فلم يكن لهم حجة { فعلموا أن الحق للّه } يعني أن عبادة اللّه هي الحق ويقال علموا أن التوحيد للّه ويقال إن الحق ما دعا إليه اللّه وأتاهم به الرسول { وضل عنهم ما كانوا يفترون } يعني إشتغل عنهم بأنفسهم { ما كانوا يفتدون } يعني يكذبون في الدنيا يعني الأصنام ويقال الشياطين ويقال { وضل عنهم ما كانوا يفترون } يعني لم ينتفعوا بما عبدوه من دون اللّه

٧٦

قوله عز وجل { إن قارون كان من قوم موسى } يعني من بني إسرائيل ويقال كان إبن عم موسى { فبغى عليهم } يعني تطاول وتكبر على بني إسرائيل وكان فرعون قد ملكه على بني إسرائيل حين كانوا بمصر فلما قطع موسى البحر ببني إسرائيل ومعه قارون وأغرق اللّه تعالى فرعون وجنوده ورجع موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى أرض مصر وسكنوا ديارهم كما قال في رواية أخرى { وأورثناها بني إسرائيل } [ الشعراء : ٥٩ ] وجعلت الحبورة لهارون وهو الرأس الذي يقرب القربان فقال قارون لموسى لك النبوة ولهارون الحبورة والمذبح وأنا لست في ذلك من شيء فقال له موسى أنا لم أفعل ذلك ولكن اللّه تعالى فعل ذلك فقال له قارون لا أصدقك على هذا واعتزل قارون ومن تبعه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع

وروي عن الحسن أنه قال إن أول من شرف الشرف قارون لما بنى داره وفرغ منها وشرفها وصنع للناس طعاما سبعة أيام يجمعهم كل يوم ويطعمهم

وروي عن ابن عباس أنه قال لما أمر اللّه تعالى موسى بالزكاة قال لقارون إن اللّه تعالى أمرني أن آخذ من مالك الزكاة فأعط من كل مائتي درهم خمسة دراهم فلم يرض بذلك ثم قال له أعط من كل مائتي درهم درهما فلم يرض بذلك فقال له أعط من كل ألف درهم درهما فلم يرض بذلك وقال لبني إسرائيل إن موسى لم يرض حتى تناول أموالكم فما ترون قالوا رأينا لرأيك تبع قال فإني أرى أن ترموه فتهلكوه فبعثوا إلى إمرأة زانية فأعطوه حكما على أن ترميه بنفسها ثم أتوه في جماعة من بني إسرائيل فقالوا يا موسى ما على من يسرق من الحرز قال تقطع يده قالوا وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قالوا وما على الزاني إذا زنى قال يرجم قالوا وإن كنت أنت قال وأنت كنت أنا قالوا فأنت قد زنيت قال أنا وجزع من ذلك فأرسلوا إلى المرأة فلما جاءت وعظها وعظم عليها موسى الحلف باللّه وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت قالت أما إذا حلفتني فإني أشهد أنك بريء وإنك رسول اللّه وقالت أرسلوا إلي فأعطوني حكمي على أن أرميك بنفسي قال فخر موسى عليه السلام للّه ساجدا يبكي فأوحى اللّه تعالى إليه ما يبكيك قد أمرت الأرض أن تطيعك فأمرها بما شئت فقال موسى خذيهم فأخذتهم

وفي رواية الحسن خرج موسى عليه السلام مغضبا فدعا اللّه عز وجل وقال عبدك قارون الذي عبد غيرك وجحدك فأوحى اللّه تعالى إلى موسى إني قد أمرت الأرض بأن تطيعك فجاء موسى حتى دخل إلى قارون حين إجتمع الناس في داره فقال يا عدو اللّه كذبتني في كلام له غيظ حتى غضب قارون وأقبل عليه بكلام شديد وهم به فلما رأى موسى ذلك قال يا أرض خذيهم قال وكان قارون على فرش على سرير مرتفع في السماء فأخذت الأرض أقدامهم وغاب سريره ومجلسه وقد دخل من الدار في الأرض مثل ما أخذت منهم على قدرها فأقبل موسى يوبخهم ويغلظ لهم المقالة فلما رأى القوم ما نزل بهم عرفوا أن هذا الأمر ليس لهم به قوة فنادوا يا موسى إرحمنا وكف عنا وجعلوا يتضرعون إليه ويطلبون رضاه وهو لا يزداد إلا غضبا وتوبيخا لهم

ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يتضرعون إليه ويسألونه وهو يوبخهم

ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أوساطهم وكانت الأرض تأخذ من الدار كل مرة مثل ما تأخذ منهم وهم يتضرعون في ذلك إلى موسى ويسألونه

ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى آباطهم فمدوا أيديهم إلى وجه الأرض رجاء أن يمتنعوا بها

ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فلم يبق على وجه الأرض منهم شيء إلا رؤوسهم ولم يبق من الدار إلا شرفها وقال قارون يا موسى أنشدك باللّه وبالرحم فقال يا أرض خذيهم فاستوت الأرض عليهم وعلى الدار فانطلق موسى وهو فرح بذلك فأوحى اللّه تعالى إليه يا موسى يتضرع إليك عبادي ودعوك وسألوك فلم ترحمهم أما وعزتي وجلالي لو أنهم دعوني واستغاثوا بي لرحمتهم ولكن تركوا أن يجعلوا رغبتهم ورجاءهم إلي وجعلوها إليك فتركتهم فذلك قوله تعالى { أن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم } يعني تطاول على بني إسرائيل وعلى موسى { وآتيناه من الكنوز } يعني من المال { ما إن مفاتحه } يعني خزائنه { لتنوء بالعصبة } قال مقاتل العصبة من العشرة إلى الأربعين فإذا كانوا أربعين فهم أولو قوة يقول لتعجز العصبة أولو القوة عن حمل مفاتيح الخزائن

وقال أهل اللغة ناء به الحمل إذا أثقله وقال القتبي تنوء بالعصبة أي تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها وقال ابن عباس في رواية أبي صالح العصبة في هذا الموضع أربعون رجلا وخزائنه كانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف ويقال { مفاتحه } يعني مفاتيح خزائنه يحملها أربعون رجلا ويقال أربعون بغلا

وروى وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال كان مفاتيح كنوز قارون من جلد كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حمل المفاتيح على ستين بغلا كل

بغل أغر محجل { إذ قال له قومه } يعني بني إسرائيل { لا تفرح } يعني لا تفخر بما أوتيت من الأموال ويقال لا تفرح بكثرة المال { إن اللّه لا يحب الفرحين } يعني المرحين المفاخرين ويقال البطرين ويقال { لا تفرح } أي لا تأشر والأشر أشد الفرح الذي يخالطه حرص شديد حتى يبطر يعني يطغى

٧٧

وقالوا له { وابتغ فيما آتاك اللّه } يعني أطلب مما أعطاك اللّه تعالى من الأموال والخير { الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } يعني لا تترك حظك من الدنيا أن تعمل لآخرتك { وأحسن } العطية من الصدقة والخير { كما أحسن اللّه إليك } يعني أعط الناس كما أعطاك اللّه ويقال أحسن إلى الناس كما أحسن اللّه إليك { ولا تبغ الفساد في الأرض } يعني أنفقه في طاعة اللّه تعالى ولا تنفقه في معصية اللّه تعالى { إن اللّه لا يحب المفسدين } المنفقين في المعصية

وقوله { وابتغ فيما آتاك اللّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } أي لا تضيع عمرك فإنه نصيبك من الدنيا { قال } قارون { إنما أوتيته على علم عندي } قال مقاتل يعني على خير علمه اللّه عندي وقال في رواية الكلبي يعني علم التوراة وكان قارون أقرأ رجل في بني إسرائيل بالتوراة فأعطيت ذلك لفضل علمي وكنت بذلك العلم مستحقا لفضل المال ويقال { على علم عندي } يعني علم الكيميا وكان يعمل كيميا الذهب وقال الزجاج الطريق الأول أشبه لأن الكيميا لا حقيقة لها

٧٨

يقول اللّه تعالى { أو لم يعلم أن اللّه قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } من الأموال منهم نمرود وغيره { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } يعني لا يسأل الكافرون عن ذنوبهم لأن كل كافر يعرف بسيماه وهذا قول الكلبي

وقال مقاتل لا يسأل مجرمو هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية وقيل لا يسأل الكافرون يوم القيامة عن ذنوبهم سؤال النجاة بل يسألون سؤال العذاب والمناقشة

٧٩

قوله عز وجل { فخرج على قومه } يعني خرج قارون على بني إسرائيل { في زينته }

قال مقاتل وهو على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه أرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن من الحلل والثياب الحمر على البغال الشهب

وقال قتادة خرج معه أربعة آلاف دابة عليها ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء عليها قطائف أرجوان

وقال في رواية الكلبي خرج على ثلاثمائة دابة بيضاء عليها أنواع من الكساء وعليها ثلثمائة قطيفة حمراء عليها جواري وغلمان { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وكانوا من أهل التوحيد { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } يعني مثل ما أعطي من الأموال قارون { إنه لذو حظ عظيم } يقول ذو نصيب وافر في الدنيا

٨٠

قوله عز وجل { وقال الذين أوتوا العلم } يعني أكرموا بالعلم بما وعد اللّه تعالى في الآخرة للذين تمنوا ذلك { ويلكم ثواب اللّه } يعني ويحكم ثواب الآخرة { خير } يعني أفضل { لمن آمن } يعني صدق بتوحيد اللّه تعالى { وعمل صالحا } فيما بينه وبين اللّه تعالى مما أعطي قارون في الدنيا { ولا يلقاها } يعني ولا يوفق ولا يرزق في الجنة { إلا الصابرون } في الدنيا على أمر اللّه تعالى ويقال { ولا يلقاها } يعني لا يعطى الأعمال الصالحة إلا الصابرون على الطاعات وعن زينة الدنيا ويقال { ولا يلقاها } يعني ولا يلقن ولا يوفق لهذه الكلمة إلا الصابرون عن زينة الدنيا

٨١

يقول اللّه تعالى { فخسفنا به } يعني قارون { وبداره الأرض } يعني بقارون وبداره وأمواله فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة { فما كان له من فئة ينصرونه من دون اللّه } يعني لم يكن له جند وأعوان يمنعونه من عذاب اللّه عز وجل { وما كان من المنتصرين } يعني وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من عذاب اللّه

٨٢

قوله عز وجل { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } حين رأوه في زينته وقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون { يقولون ويكأن اللّه } قال القتبي قد أختلف في هذه اللفظة فقال الكسائي معناها ألم تر { أن اللّه يبسط } { ويكأنه } يعني ألم تر أنه لا يفلح الكافرون

روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال { ويكأن اللّه } يعني أو لا يعلم أن اللّه { يبسط } وهذا شاهد لقول الكسائي وذكر الخليل بن أحمد أنها مفصولة وي ثم يبتدئ فيقول كأن اللّه وقال ابن عباس في رواية أبي صالح كان اللّه يبسط { الرزق لمن يشاء } كأنه لا يفلح الكافرون وقال وي صلة في الكلام وهذا شاهد لقول الخليل

وقال الزجاج الذي قاله الخليل أجود وهو أن قوله وي مفصولة من كان لأن من ندم على شيء يقول وي كما تعاتب الرجل على ما سلف تقول وي كأنك قصدت مكروهي

وقال مقاتل معناه ولكن { اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده } يعني يوسعه على من يشاء من عباده { ويقدر } يعني يقتر ويقال ويضيق على من يشاء { لولا أن اللّه من علينا } يعني لولا أن من اللّه علينا لكنا مثل قارون في العذاب { الخسف بنا } معهم ويقال { لولا أن من اللّه علينا } يعني عصمنا مثل ما كان عليه من البطر والبغي { لخسف بنا } كما خسف به قال قرأ عاصم في رواية حفص بنصب الخاء وكسر السين يعني { لخسف اللّه بنا } وقرأ الباقون بضم الخاء وكسر السين على فعل ما لم يسم فاعله { ويكأنه } يعني ولكنه { لا يفلح الكافرون } الجاحدون للنعم

٨٣

قوله عز وجل { تلك الدار الآخرة } يعني الجنة { نجعلها للذين } يعني نعطيها للذين { لا يريدون علوا في الأرض } يعني تعظيما وتكبرا وتجبرا فيها عن الإيمان { ولا فسادا } في الأرض يعني لا يريدون المعاصي في الدنيا

وروى وكيع عن سفيان عن مسلم البطين { لا يريدون علوا في الأرض } يعني التكبر بغير حق { ولا فسادا } قال أخذ المال بغير حق ويقال العلو الخطرات في القلب والفساد فعل الأعضاء { والعاقبة للمتقين } يعني الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي ويقال عاقبة الأمر وما يستقر عليه للمتقين الموحدين ويقال والعاقبة المحمودة للمتقين

٨٤

قوله عز وجل { من جاء بالحسنة } يعني بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا اللّه { فله خير منها } وقد ذكرناه { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى } يعني لا يثاب { الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } يعني يصيبهم بأعمالهم

٨٥

قوله عز وجل { إن الذي فرض عليك القرآن } يعني أنزل عليك القرآن ويقال أمرك بالعمل بما في القرآن { لرادك إلى معاد } وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الموت وقال السدي { إلى معاد } يعني الجنة وهكذا روي عن مجاهد

وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال يعني إلى مكة وقال القتبي معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد وينصرف في الأرض ثم يعود إلى بلده والعرب تقول رد فلان إلى معاده يعني إلى بلده وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم حين خرج من مكة إلى المدينة أغتم لمفارقته مكة لأنها مولده وموطنه ومنشأه وبها عشيرته واستوحش فأخبر اللّه تعالى في طريقه أنه سيرده إلى مكة وبشره بالظهور والغلبة

ثم قال تعالى { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } يعني بالرسالة والقرآن وذلك حين قالوا له إنك في ضلال مبين فنزل { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } يعني فأنا الذي جئت بالهدى وهو أعلم بمن هو في ضلال مبين نحن أو أنتم

٨٦

ثم قال عز وجل { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب } يعني أن ينزل عليك القرآن { إلا رحمة من ربك } يعني إلا كان الكتاب رحمة من ربك ويقال في الآية تقديم ومعناه أن الذي فرض عليك القرآن يعني جعلك نبيا ينزل عليك القرآن وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيا بوحي إليك لرادك إلى معاد إلى مكة ظاهرا قاهرا ويقال { إلا رحمة من ربك } يعني لكن دين ربك رحمة واختارك لنبوته وأنزل عليك الوحي

ثم قال { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } يعني عونا للكافرين حين دعوه إلى دين آبائه

٨٨

ثم قال عز وجل { ولا يصدنك عن آيات اللّه } يعني لا يصرفنك عن القرآن والتوحيد { بعد إذ أنزلت إليك } يعني بعد ما أنزل إليك جبريل عليه السلام بالقرآن { وادع إلى ربك } يعني أدع الخلق إلى توحيد ربك { ولا تكونن من المشركين } يعني لا تكونن مع المشركين على دينهم قوله عز وجل { ولا تدع مع اللّه إلها آخر } أي لا تعبد غير اللّه

ثم وحد الرب نفسه فقال { لا إله إلا هو } يعني لا خالق ولا رازق غيره { كل شيء هالك إلا وجهه } يعني كل عمل هالك لا ثواب له إلا ما يراد به وجه اللّه عز وجل ويقال كل شيء متغير إلا ملكه فإن ملكه لا يتغير ولا يزول إلى غيره أبدا { له الحكم } يعني له القضاء وله نفاذ الحكم يحكم ما يريد { وإليه ترجعون } يعني إليه المرجع في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من قرأ سورة القصص كان له من الأجر بعدد من صدق موسى وكذبه ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة أنه كان صادقا في قوله { كل شيء هالك إلا وجهه } { له الحكم وإليه ترجعون } صدق اللّه جل ربنا وهو أصدق الصادقين وصدق رسله قوله صدق ووعده حق والحمد للّه وحده وصلى اللّه على من لا نبي بعده وحسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا باللّه

﴿ ٠