سورة الأحزابمكية وهي سبعون وثلاث آيات ١قول اللّه سبحانه وتعالى { يا أيها النبي اتق اللّه ولا تطع الكافرين } قال مقاتل وذلك أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد أحد وبعد الهزيمة فمروا على عبد اللّه بن أبي المنافق فقام معهم عبد اللّه بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فجاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا له اترك ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال عمر رضي اللّه عنه إئذن لي في قتلهم فقال ( قد أعطيتهم الأمان ) فلم يأذن له بالقتل وأمره بأن يخرجهم من المدينة فقال لهم عمر اخرجوا في لعنة اللّه وغضبه فنزل { يا أيها النبي اتق اللّه } وقال مقاتل في رواية الكلبي قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة فنزلوا على عبد اللّه بن أبي ومعتب بن قشير وجد بن قيس فتكلموا فيما بينهم فلما اجتمعوا في أمر فيما بينهم أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعونه إلى أمرهم وعرضوا عليه أشياء فكرهها منهم فهم بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فنزل { يا أيها النبي اتق اللّه } ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدة ( ولا تطع الكافرين ) من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة فيما دعوك إليه ويقال إن المسلمين أرادوا أن ينقضوا العهد فأراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأذن لهم فنزل { يا أيها النبي اتق اللّه } في نقض العهد وإنما ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأراد هو وأصحابه ألا ترى أنه قال في سياق الآية { إن اللّه كان بما تعملون خبيرا } ثم قال { إن اللّه كان عليما } بما اجتمعوا عليه { حكيما } حيث نهاك عن نقض العهد وحكم بالوفاء ٢قوله عز وجل { واتبع ما يوحى إليك من ربك } يعني بما في القرآن { إن اللّه كان بما تعملون خبيرا } من وفاء العهد ونقضه ٣{ وتوكل على اللّه } يعني ثق باللّه وفوض أمرك إلى اللّه تعالى { وكفى باللّه وكيلا } يعني حافظا وناصرا قرأ أبو عمرو { بما يعملون } بالياء على معنى الخبر عنهم وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ٤قوله عز وجل { ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه } قال مقاتل نزلت في جميل بن معمر ويكنى أبا معمر وكان حافظا بما يسمع وأهدى الناس للطريق يعني طريق البلدان وكان مبغضا للنبي صلى اللّه عليه وسلم وكان يقول إن لي قلبين أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل { ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه } وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك حتى كان يوم بدر فانهزم وهو آخذ بإحدى نعليه والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب وكان لا يعلم بذلك حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه والأخرى في رجله فعرفوا أنه ليس له قلبان ويقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سهى في صلاته فقال المنافقون لو أن له قلبين أحدهما في صلاته والآخر مع أصحابه فنزل { ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه } . وروى معمر عن قتادة قال كان رجل لا يسمع شيئا إلا وعاه فقال الناس ما يعي هذا إلا أن له قلبين وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية وروى معمر عن الزهري قال بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة ضرب اللّه له مثلا يقول ليس ابن رجل آخر ابنك كما لا يكون لرجل آخر قلبان وذكر عن الشافعي رحمه اللّه أنه احتج على محمد بن الحسن قال { ما جعل اللّه لرجل من قلبين } يعني ما جعل اللّه لرجل من أبوين في الإسلام يعني لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من اثنين ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين فلو أراد به على وجه القياس لا يصح لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما وذكر عن عمر وعلي رضي اللّه تعالى عنهما أن جارية كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه فقالا إنه ابنهما يرثهما ويرثانه ثم قال عز وجل { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } قرأ عاصم { تظاهرون } بضم التاء وكسر الهاء والألف وقرأ ابن عامر { تظاهرون } بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء مع الألف وقرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو { تظهرون } بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد وقرأ حمزة والكسائي { تظاهرون } بنصب التاء والتخفيف مع الألف وهذه كلها لغات يقال ظاهر من امرأته وتظاهر وتظهر بمعنى واحد وهو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي فمن قرأ { تظهرون } بالتشديد فالأصل تتظهرون فأدغمت إحدى التاءين في الظاء وشددت من قرأ { تظاهرون } فالأصل تتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين ومن قرأ بالتخفيف حذف إحدى التاءين ولم يشدد للتخفيف كقوله { تسألون } والأصل تتساءلون والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة ٥ثم قال تعالى { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه ولا ابن غيره يكون ابنه ثم قال { ذلكم قولكم بأفواهكم } يعني قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى اللّه عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم { واللّه يقول الحق } يعني يبين الحق ويأمركم به كي لا تنسوا إليه غير النسبة { وهو يهدي السبيل } يعني يدل على طريق الحق ويقال يدل على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال كان زيد بن حارثة مملوكا لخديجة بنت خويلد رضي اللّه عنها فوهبته خديجة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأعتقه وتبناه فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله { ادعوهم لآبائهم } يعني انسبوهم لآبائهم فقالوا زيد بن حارثة { هو أقسط عند اللّه } يعني أعدل عند اللّه عز وجل { فإن لم تعلموا آباءهم } يعني إن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم { فإخوانكم في الدين } أي قولوا ابن عبد اللّه وابن عبد الرحمن { ومواليكم } يعني قولوا مولى فلان وفلان وكان أبو حذيفة أعتق عبدا يقال له سالم وتبناه فكانوا يسمونه سالم بن أبي حذيفة فلما نزلت هذه الآية سموه سالما مولى أبي حذيفة ثم قال { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } يعني أن تنسبوهم إلى غير آبائهم قبل النهي ويقال ما جرى على لسانهم بعد النهي لأن ألسنتهم قد تعودت بذلك { ولكن ما تعمدت قلوبكم } يعني ولكن الجناح فيما قصدت قلوبكم بعد النهي وروي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد اللّه بن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( تجاوز اللّه عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى ناسيا فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ( فأمره أن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم) ثم قال { وكان اللّه غفورا رحيما } يعني { غفورا } لمن أخطأ ثم رجع { رحيما } بهم ٦قوله عز وجل { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } يعني ما يرى لهم رأيا فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم ويقال معناه النبي أرحم بالمؤمنين من أنفسهم { وأزواجه أمهاتهم } يعني كأمهاتهم في الحرمة وذكر عن أبي أنه كان يقرأ { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وهو أب لهم { وأزواجه أمهاتهم } ثم قال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } قال في رواية الكلبي إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آخى بين الناس فكان يواخي بين الرجلين فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله فمكثوا في ذلك ما شاء اللّه حتى نزلت هذه الآية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } { في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين } الذين آخى بينهم فصارت المواريث بالقرابات روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( أنا ولي كل مسلم فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك دينا فإلى اللّه وإلى رسوله ) فأمر بصرف الميراث إلى العصبة ثم قال { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } يعني إلا أن يوصي له بثلث ماله وقال مقاتل كان المهاجرون والأنصار يرثون بعضهم من بعض بالقرابة ولا يرث من لم يهاجر إلى أن يوصي للذي لم يهاجر ثم نسخ بما في آخر سورة الأنفال ثم قال { كان ذلك في الكتاب مسطورا } يعني هكذا كان مكتوبا في التوراة ويقال في اللوح المحفوظ ويقال في القرآن ٧قوله عز وجل { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } وهو الوحي الذي أوحى إليهم أن يدعوا الخلق إلى عبادة اللّه عز وجل وأن يصدق بعضهم بعضا ويقال الميثاق الذي أخذ عليهم من ظهورهم ويقال كل نبي أمر بأن يأمر من بعده بأن يخبروا ببعث محمد صلى اللّه عليه وسلم حتى ينتهي إليه ثم قال { ومنك ومن نوح } في هذا تفضيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنه قد ذكر جملة الأنبياء عليهم السلام ثم خصه بالذكر قبلهم وكان آخرهم خروجا ثم ذكر نوحا لأنه كان أولهم ثم ذكر { إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } صلوات اللّه عليهم لأن كل واحد منهم كان على أثر بعض { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } يعني عقدا وثيقا أن يعبدوا اللّه ويدعوا الخلق إلى عبادة اللّه عز وجل وأن يبشر كل واحد منهم بمن بعده ٨ثم قال عز وجل { ليسأل الصادقين عن صدقهم } يعني أخذ عليهم الميثاق لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني يسأل المرسلين عن تبليغ الرسالة ويسأل الوافين عن وفائهم وروي في الخبر أنه يسأل القلم يوم القيامة فيقول له ما فعلت بأمانتي فيقول يا رب سلمتها إلى اللوح ثم جعل يرتعد القلم مخافة أن لا يصدقه اللوح فيسأل اللوح بأن القلم قد أدى الأمانة وأنه قد سلم إلى إسرافيل فيقول لإسرافيل ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح فيقول سلمتها إلى جبريل فيقول لجبريل عليه السلام ما فعلت بأمانتي فيقول سلمتها إلى أنبيائك فيسأل الأنبياء عليهم السلام فيقولون قد سلمناها إلى خلقك فذلك قوله تعالى { ليسأل الصادقين عن صدقهم } { وأعد للكافرين عذابا أليما } يعني الذين كذبوا الرسل ٩قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم } يعني احفظوا منة اللّه عليكم بالنصرة { إذا جاءتكم جنود } يعني الأحزاب وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكون عليه ولا معه فنقضت بنو النضير عهودهم وأجلاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم منها وذكر قصتهم في سورة الحشر ثم إن بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم إن حيي بن أخطب ركب وخرج إلى مكة فقال لأبي سفيان بن حرب إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلا فحثه على الخروج إلى قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريبا من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل ويقال ثمانية عشر ألف رجل ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة فاستأذن عليه فقال لجاريته انظري من هذا فعرفته الجارية فقالت هذا حيي بن أخطب فقال لا تأذني له علي فإنه مشؤوم إنه قد شام قومه يريد أن يشأمنا زيادة فقالت له الجارية ليس هاهنا فقال حيي بن أخطب بلى هو ثم ولكن عنده قدر جشيش لا يحب أن يشركه فيها أحد فقال كعب أحفظني أخزاه اللّه يعني أغضبني إئذني له في الدخول فدخل عليه فقال له يحييك مليكك قد جئتك بعارض برد جئتك بقريش بأجمعها وكنانة بأجمعها وغطفان بأجمعها لا يذهب هذا الفوز حتى تقتل محمدا فانقض الحلف بينك وبين محمد فقال له كعب بن الأشرف إن العارض ليصيب بنفحاته شيئا ثم يرجع وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي واللّه ما رأينا جارا قط خيرا من محمد ما أخفر لنا بذمة ولا هتك لنا سترا ولا آذانا وإنما أخشى أن لا يقتل محمد وترجع أنت وأقتل أنا قال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمدا في هذا الغور لأدخلن معكم حصنكم فيصيبني ما أصابكم فنقض الحلف وشق الصحيفة فقدم نعيم بن مسعود المدينة وكان تاجرا يقدم من مكة فقال يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( لعلنا نحن أمرناهم بذلك ) فقال عمر إن كنت أمرتهم بذلك وإن كنت تأمرهم بذلك فقتالهم علينا هين فقال ما أنا بكذاب ولكن الحرب خدعة ونعيم لم يسلم ذلك اليوم فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف يناشدوه اللّه الحلف الذي كان بينهم وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل فأبى كعب بن الأشرف وجرى بينهم كلام وسب سعد بن معاذ فقال أسيد بن حضير أتسب سيدك معاذا يا عدو اللّه ما هو لك بكفؤ فقال سعد اللّه م لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم فرجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحدثوه الحديث فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان فقال يا أبا سفيان واللّه ما كذب محمد قط كذبة أخبرني أنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة فقال سلمان الفارسي يا رسول اللّه إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود خندقنا على أنفسنا فهل لك أن تخندق خندقا فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أهل المدينة وخندق وأخذ المعول بيده فضرب لكي يقتدي الناس به فضرب ضربة فأبرق برقة حتى ظهر ضوء بضربته ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة ثم ضرب الثالثة فقال سلمان لقد رأيت أمرا عجيبا لقد رأيت ذلك قال نعم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( لقد رأيت بالأولى قصور الشام وبالثانية قصور كسرى وبالثالثة قصور اليمن فهذه فتوح يفتح اللّه عليكم ) فقال ناس من المنافقين يعدنا أن تفتح الشام وأرض فارس واليمن وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء ما يعدنا إلا غرورا فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة فأرسل عيينة بن حصن الفزاري والحرث بن عوف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة نرجع عنك بغطفان وكنانة ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( لا ) فقال فنصف ذلك التمر قال ( نعم ) وكان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج فقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عيينة بن حصين والحارث بن عوف لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اكتب لنا كتابا فدعى بصحيفة ليكتب بينهم فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يا رسول اللّه أوحي إليك في هذا الشيء فقال ( لا ولكنني رأيت العرب رمتكم من قوس واحدة فقلت أرد هؤلاء وأقاتل هؤلاء ) فقالا ما رجوا هذا منا في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا شراء أو قرى فحين زادنا اللّه بك وأمدنا بك وأكرمنا بك نعطيهم الدنية لا نعطيهم شيئا إلا بالسيف فشق النبي صلى اللّه عليه وسلم الصحيفة وقال ( اذهبوا فلا نعطيكم شيئا إلا بالسيف ) فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حيي بن أخطب أن استعد غدا إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يغدوا فلما جاء بني قريظة الرسول فقالوا غدا يوم السبت لا نقاتل فيه فقال أبو سفيان ما اشأن السبت قال قوم من الأمم يعظمون القتال فيه قال أبو سفيان نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد هاتوا لنا رهونا أبناءكم نثلج إليهم يعني نطمئن بذلك فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة وقد أمسوا فقالوا هذه الليلة لا يدخل علينا أحد ولا يخرج من عندنا أحد فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه حق وأن نقض العهد كان مكرا منهم فلما كانت الليلة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلث الليل ثم قال ( من رجل ينظر ما يفعل القوم أدخله اللّه الجنة ) فما تحرك منهم إنسان ثم صلى الثلث الثاني فقال ( من رجل ينظر ما يفعل القوم ) فما تحرك منهم إنسان ثم صلى ساعة ثم هتف مرة أخرى فما تحرك منهم إنسان فقال ( يا حذيفة ) فجاء حذيفة فقال ( أما سمعت كلامي منذ هذه الليلة ) قال بلى ولكن بي من الجوع والقر يعني البرد لم أقدر على أن أجيبك قال ( اذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمي بسهم ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضرب بسيف ) فقال يا رسول اللّه إني لا أخشى أن يقتلوني إني لميت ولكن أخشى أن يمثلوا بي فقال ( ليس عليك بأس ) فلما قال هذا قال حذيفة آمنت وعرفت أنه لا بأس علي فلما ولى حذيفة قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( اللّه م احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ) فدخل حذيفة رضي اللّه عنه في عسكر قريش فإذا هم يصطلون يعني يجتمعون على نار لهم فجلس حذيفة في حلقة منهم فقال أتدرون ما يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قال يقولون يعني أهل العساكر أين قريش أين سادات الناس وقادتهم فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر ثم دخل عسكر بني كنانة فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قالوا ماذا يريدون قالوا يقولون أين بنو كنانة أين ذروة العرب أين رماة الحدق فتجيبون فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا ويفروا ثم دخل عسكر غطفان فقال أتدرون ماذا يريد الناس غدا قولوا ماذا يريدون قال يقولون أين غطفان أين بنو فزارة أين أحلاس الخيول فتجيبوا فيطرحونكم في نحور العدو فتقتلوا أو تفروا قال فبعث اللّه تعالى عليهم ريحا شديدة فلم تترك لهم خباء إلا قلعته ولا إناء إلا أكفأته وقلعت أوتاد خيولهم وجالت الخيول بعضها في بعض فقالوا فيما بينهم لقد بدا محمد بالسر فالنجاة النجاة فركب أبو سفيان جمله معقولا فما حل عقاله إلا بعد أن انبعث قال حذيفة ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت ولكن نهاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فترحلوا كلهم وذهبوا فرجع حذيفة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل اللّه عز وجل بها فنزل { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم } في الدفع عنكم { إذ جاءتكم جنود } من المشركين { فأرسلنا عليهم ريحا } شديدة { وجنودا لم تروها } من الملائكة وذلك أن الملائكة عليهم السلام كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح وهي ريح الصبا وروي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) ثم قال تعالى { وكان اللّه بما تعملون بصيرا } في أمر الخندق ١٠قوله عز وجل { إذ جاؤوكم من فوقكم } يعني أتاكم المشركون من فوق الوادي يعني طلحة بن خويلد الأسدي { ومن أسفل منكم } من قبل المغرب وهو أبو الأعور السلمي ويقال { من فوقكم } أي من قبل المشرق مالك بن عوف وعيينة بن حصن الفزاري ويهود بني قريظة { ومن أسفل منكم } أبو سفيان فلما رأوا ذلك { وإذ زاغت الأبصار } يعني شخصت الأبصار فرقا يعني أبصار المنافقين لأنهم أشد خوفا كأنهم خشب مسندة { وبلغت القلوب الحناجر } خوفا هذا على وجه المثل ويقال اضطراب القلب يبلغ الحناجر ويقال إذا خاف الإنسان تنتفخ الرئة وإذا انتفخت الرئة يبلغ القلب الحنجرة ويقال للجبان منتفخ الرئة { وتظنون باللّه الظنونا } يعني الإياس من النصرة يعني ظننتم أن لن ينصر اللّه عز وجل محمدا صلى اللّه عليه وسلم قرأ إبن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص الظنون بالألف عند الوقف ويطرحونها عند الوصل وكذلك في قوله { وأطعنا الرسولا } [ الأحزاب ٦٦ ] { فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب ٦٧ ] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بالألف في حال الوصل والوقف وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالين جميعا فمن قرأ بالألف في الحالين فلاتباع الخط لأن في مصحف الإمام وفي سائر المصاحف بالألف ومن قرأ بغير ألف فلأن الألف غير أصلية وإنما يستعمل هذه الألف الشعراء في القوافي وقال أبو عبيدة أحب إلي في هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليها بالألف ليكون متبعا للمصحف واللغة ١١قوله عز وجل { هنالك ابتلي المؤمنون } يعني عند ذلك اختبر المؤمنون يعني أمروا بالقتال والحضور وكان في ذلك اختبارا لهم { وزلزلوا زلزالا شديدا } أي حركوا تحريكا شديدا واجتهدوا اجتهادا شديدا ١٢{وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا } وهم لم يقولوا رسول اللّه وإنما قالوا باسمه ولكن اللّه عز وجل ذكره بهذا اللفظ ١٣قوله عز وجل { وإذ قالت طائفة منهم } يعني جماعة من المنافقين { يا أهل يثرب } يعني يا أهل المدينة وكان اسم المدينة يثرب فسماها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة { لا مقام لكم } قرأ عاصم بضم الميم وقرأ الباقون بالنصب فمن يقرأ بالضم فمعناه لا إقامة لكم ومن قرأ بالنصب فهو بالمكان أي لا مكان لكم تقومون فيه والجمع المقامات وكان أبو عبيدة يقرأ بالنصب لأنه يحتمل المقام والمكان جميعا يعني أن المنافقين قالوا خوفا ورعبا منهم لا مقام لكم عند القتال { فارجعوا } يعني فانصرفوا إلى المدينة { ويستأذن فريق منهم النبي } وهم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك أن بيوتهم كانت من ناحية المدينة { يقولون إن بيوتنا عورة } يعني ضائعة نخشى عليها السراق ويقال معناه أن بيوتنا مما يلي العدو وإنا لا نأمن على أهالينا وقال القتبي أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ وكان الرجال سترا وحفظا للبيوت فقالوا { إن بيوتنا عورة } يعني خالية والعرب تقول أعور منزلك إذا سقط جداره يقول اللّه تعالى { وما هي بعورة } لأن اللّه عز وجل يحفظها يعني وما هي بخالية { إن يريدون إلا فرارا } أي ما يريدون إلا فرارا من القتال ١٤ثم قال { ولو دخلت عليهم من أقطارها } يعني لو دخل العسكر من نواحي المدينة { ثم سئلوا الفتنة } يعني دعوهم إلى الشرك { لأتوها } قرأ إبن كثير ونافع وابن عامر { لأتوها } بالهمزة بغير مد وقرأ الباقون بالهمز والمد فمن قرأ بالمد { لآتوها } يعني لأعطوها ومن قرأ بغير مد معناه صاروا إليها وجاؤوها وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني لو دعوا إلى الشرك لأجابوا سريعا { وما تلبثوا بها إلا يسيرا } أي وما تحسبوا بالشرك إلا قليلا يعني يجيبوا سريعا ويقال لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بالمدينة إلا قليلا ١٥ثم قال عز وجل { ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل } يعني من قبل قتال الخندق حين كان النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة خرج سبعون رجلا من المدينة إلى مكة فخرج إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة إلى السبعين فبايعهم وبايعوه فقالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم به أنفسكم وأولادكم ) فقالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال صلى اللّه عليه وسلم ( لكم النصرة في الدنيا والجنة في الآخرة ) قالوا قد فعلنا ذلك فذلك قوله { ولقد كانوا عاهدوا اللّه من قبل } { لا يولون الأدبار } منهزمين { وكان عهد اللّه مسؤولا } يعني يسأل في الآخرة من ينقض العهد ١٦قوله عز وجل { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا } أي لا تؤجلون إلا يسيرا لأن الدنيا كلها قليلة ١٧قال عز وجل { قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه } يعني يمنعكم من اللّه يعني من قضاء اللّه وعذابه { إن أراد بكم سوءا } يعني القتل { أو أراد بكم رحمة } أي عافية ويقال { سوءا } يعني الهزيمة { أو أراد بكم رحمة } يعني خيرا وهو النصر يعني من يقدر على دفع السوء عنكم وجر الخير إليكم { ولا يجدون لهم من دون اللّه وليا ولا نصيرا } يعني قريبا ومانعا ١٨قوله عز وجل { قد يعلم اللّه المعوقين منكم } يعني يرى المثبطين منكم المانعين من القتال منكم وهم المنافقون { والقائلين لإخوانهم } يعني لأوليائهم وأصدقائهم { هلم إلينا } يعني ارجعوا إلينا إلى المدينة ويقال هذا بلغة أهل المدينة يقولون للواحد وللأثنين وللجماعة هلم وسائر العرب تقول للجماعة هلموا ثم قال { ولا يأتون البأس إلا قليلا } وذلك أن المنافقين كانوا يقولون إن لنا شغلا فيرجعون إلى المدينة فإذا لقيهم أحد بالمدينة من المؤمنين يقولون دخلنا لشغل ونريد أن نرجع وإذا لقوا أحدا من المنافقين يقولون إيش تصنعون هناك ارجعوا إلينا { ولا يأتون البأس } يعني ولا يحضرون القتال إلا قليلا رياء وسمعة ولو كان ذلك القليل للّه لكان كثيرا وهذا كقوله { ولا يذكرون اللّه إلا قليلا } ١٩ثم قال عز وجل { أشحة عليكم } يعني أشفقة عليكم حتى يعوقكم يا معشر المسلمين ويقال يعني بخلاء في النفقة عليكم ويقال فيه تقديم فكأنه يقول ولا يأتون البأس شفقة عليكم أي لم يحضروا شفقة عليكم { إلا قليلا } يعني لا قليلا ولا كثيرا { فإذا جاء الخوف } يعني خوف القتال { رأيتهم ينظرون إليك } من الخوف { تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } يعني تدور أعينهم كدوران الذي هو في غشيان الموت ونزعاته جبنا وخوفا { فإذا ذهب الخوف } وجاءت قسمة الغنيمة { سلقوكم } يعني رموكم ويقال طعنوا فيكم { بألسنة حداد } يعني سلاط باسطة بالشر { أشحة على الخير } يعني حرصا على الغنيمة ويقال بخلا على الغنيمة { أولئك لم يؤمنوا } يعني لم يصدقوا حق التصديق { فأحبط اللّه أعمالهم } يعني أبطل اللّه ثواب أعمالهم { وكان ذلك على اللّه يسيرا } يعني إبطال أعمالهم ويقال عذابهم في الآخرة على اللّه { يسيرا } يعني على اللّه هين ٢٠ثم قال عز وجل { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } يعني يظنون أن الجنود لم يذهبوا من الخوف والرعب { وإن يأت الأحزاب } مرة أخرى ويقال حكاية عن الماضي { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } يعني تمنوا أنهم خارجون في البادية مع الأعراب { يسألون عن أبنائكم } يعني عن أخباركم وأحاديثكم { ولو كانوا فيكم } يعني معكم في القتال { ما قاتلوا إلا قليلا } رياء وسمعة من غير حسبة وقرئ في الشاذ { يسألون } بتشديد السين وأصله يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا وقراءة العامة { يسألون } لأنهم يسألون القادمين ولا يسأل بعضهم بعضا ٢١قوله عز وجل { لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة } قرأ عاصم { أسوة } بضم الألف وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان ومعناهما واحد يعني لقد كان لكم اقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم قدوة حسنة وسنة صالحة لأنه كان أسبقهم في الحرب وكسرت رباعيته يوم أحد وواساكم بنفسه في مواطن الحرب { لمن كان يرجو اللّه } يعني يخاف اللّه عز وجل { واليوم الآخر وذكر اللّه كثيرا } باللسان ٢٢{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب } يعني الجنود يوم الخندق والقتال { قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله } في سورة البقرة وهو قوله عز وجل { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [ البقرة ٢١٤ ] الآية ويقال إنه قد أخبرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه نازل ذلك الأمر فلما رأوه { قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله } { وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } يعني لم يزدهم الجهد والبلاء إلا تصديقا لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم وجرأة { وتسليما } يعني تواضعا لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ٢٣ثم نعت المؤمنين فقال عز وجل { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه } يعني وفوا بالعهد الذي عاهدوا ليلة العقبة { فمنهم من قضى نحبه } يعني أجله فمات أو قتل على الوفاء يعني وفي بعهده وقال القتبي النحب في اللغة النذر وذلك أنهم نذروا إذا لقوا العدو أن يقاتلوا فقتل في القتال فسمي قتله قضاء نحبه واستعير النحب مكان الموت وقال مجاهد النحب العهد وروى عيسى بن طلحة قال جاء أعرابي فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الذين قضوا نحبهم فأعرض عنه وطلع طلحة بن عبيد اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( هذا ممن قضى نحبه ) ٢٤ثم قال عز وجل { ومنهم من ينتظر } يعني ينتظر أجله { وما بدلوا تبديلا } يعني ما غيروا بالعهد الذي عهدوا تغييرا ثم قال عز وجل { ليجزي اللّه الصادقين بصدقهم } يعني الوافين بوفائهم { ويعذب المنافقين } يعني إذا ماتوا على النفاق { إن شاء أو يتوب عليهم } يعني يقبل توبتهم إن تابوا { إن اللّه كان غفورا رحيما } لمن تاب منهم رحيما بهم ٢٥قوله عز وجل { ورد اللّه الذين كفروا } يعني صدهم وهم الكفار الذين جاؤوا يوم الخندق { بغيظهم } يعني صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم { لم ينالوا خيرا } يعني لم يصيبوا ما أرادوا من الظفر والغنيمة { وكفى اللّه المؤمنين القتال } يعني دفع اللّه عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحا وجنودا { وكان اللّه قويا عزيزا } فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الخندق دخل المدينة ودخل على فاطمة رضي اللّه عنها وأراد أن يغسل رأسه فجاءه جبريل عليه السلام وقال لا تغسل رأسك ولكن اذهب إلى بني قريظة فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويقال إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه وضعت سلاحك قال نعم قال ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد وقد أمرك اللّه عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الناس فقال ( عزمت عليكم أن لا تصلوا العصر إلا ببني قريظة ) فلبس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح فقال ( من أمركم أن تلبسوا السلاح ) فقالوا دحية الكلبي وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته فلما جاء بني قريظة وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها وأبى بعضهم فقالوا نهانا رسول اللّه أن نصلي حتى نأتي بني قريظة فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس ولم يصلوا العصر قال فلم يؤنب أحدا من الفريقين أي رضي بما فعل الفريقان جميعا وفيه دليل لقول بعض الناس إن كل مجتهد نصيب فجاء علي رضي اللّه عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن فسبت اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأزواجه ورجع إليه علي رضي اللّه عنه فقال تأخر يا رسول اللّه ونحن نكفيك قال ( سبوني ولو كانوا دوني لم يسبوني ) فلما جاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال { يا أخوة القردة والخنازير أنزلوا على حكم اللّه وحكم رسوله }فقالوا يا أبا القاسم ما كنت فحاشا ورجع حيي بن أخطب من الروحاء ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف ودخل معهم في حصنهم ونزل بنو شعبة أسد وأسيد وثعلبة فأسلموا وأبى من بقي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر ( اذهب فقل لحلفائك ومواليك ينزلوا على حكم اللّه تعالى ورسوله ) عليه السلام فجاءهم أبو لبابة فقال انزلوا على حكم اللّه ورسوله فقالوا يا أبا لبابة نصرناك يوم بغاث ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحن مواليك وحلفاؤك فانصح لنا ماذا ترى فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني الذبح فقالوا لا تفعل يعني لا ننزل فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ( خنت اللّه ورسوله ) فقال نعم فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب اللّه عليه والتمسه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يجده فقالوا إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشب المسجد فقال صلى اللّه عليه وسلم ( لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ ربط نفسه فدعوه حتى يتوب اللّه عليه ) ثم أتاه النبي صلى اللّه عليه وسلم فحله فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام فقال لنا جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش وأنه يبعث بالذبح والقتل والسبي فلا يهولنكم ذلك وكونوا أولياءه وأنصاره فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا نحن أهل الكتاب والنبوة لا نتبع قوما أميين ما درسوا كتابا قط فلا نفعل فقال كعب بن أسد أطيعوني في إحدى ثلاث قالوا وما هي فقال إنكم لتعرفون أنه رسول اللّه فاتبعوه وانصروه فتكونوا أنصاره وأولياءه فقالوا لا نكون تبعا لغيرنا فقال أما إذا أبيتم فإن هذه ليلة السبت هم يأمنونكم انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم فقالوا لا نكسر سبتنا فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم فمسخهم اللّه تعالى قردة وخنازير قال فإن أبيتم هذا فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم ثم أنزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراما فقالوا لا نفعل فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( على حكم من تنزلون ) قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وكان جريحا قد رمته بني قريظة فأصاب أكحله فدعا اللّه تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة فأتي به على حمار فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة وكانوا يقولون له يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بغاث ويوم الحدائق فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة فقال سعد قد آن لي أن لا أخاف في اللّه لومة لائم فعرفوا أنه سوف يقتلهم فرجعوا عنه فلما دنا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن حوله ( قوموا إلى سيدكم فأنزلوه ) فقام إليه الأنصار فأنزلوه فقال احكم فيهم يا أبا عمرو فقال سعد لليهود أترضون بحكمي قالوا نعم فقال عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه قالوا نعم فالتفت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وهاب أن يخاطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال وعلي من هاهنا مثل ذلك وإنه ليغض بصره عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( نعم نعم وعلينا ) فقال لبني قريظة انزلوا فلما نزلوا قال احكم فيهم يا رسول اللّه أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتقسم أموالهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( لقد حكمت بحكم من فوق سبعة أرقعة ) فأتى حيي بن أخطب مأسورا في حلة فجاءه رجل من الأنصار فنزع رداءه فبقي في إزاره فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول لا بأس بأمر اللّه فلما جاء بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ألم يمكني اللّه منك يا عدو اللّه فقال بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه وقلقلت في كل مقلقل فأبى اللّه إلا أن يمكنك مني فأمر بضرب عنقه ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال ( ألم يمكني اللّه منك ) فقال بلى يا أبا القاسم فضرب عنقه ثم قال لسعد ( عليك بمن بقي ) وقال ( لا تجمعوا عليهم حرين حر الهاجرة وحر السيف ) فحبسهم في دار الحارث وفي بعض الروايات ببيت خراب ثم أخرجهم رسلا فقتلهم على الولاء والترتيب فقال بعضهم لبعض في الحبس ما تراهم يصنعون بنا فقال واحد ألا تعقلون أنهم يقتلون ألا ترون أن الداعي لا يسكت ومن ذهب لا يرجع فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم كان فيهم رجل يقال له زبير بن باطا فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمره فقال إن الزبير بن باطا له عندي يد وقد أعانني يوم بغاث فهبه لي يا رسول اللّه حتى أعتقه فقال عليه السلام ( هو لك ) فجاء إليه فقال يا أبا عبد الرحمن أتعرفني قال نعم وهل ينكر الرجل أخاه أنت ثابت بن قيس قال أتذكر يدا لك عندي يوم بغاث قال نعم إن الكريم يجزي باليد فاجز بها فقال قد وهبك النبي صلى اللّه عليه وسلم لي وقد أعتقتك قال شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش فجاء ثابت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه في أهله فقال ( لك أهله ) فجاء إليه فقال قد وهب لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهلك فهي لك فقال شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون فقام ثابت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسأله ماله فقال ( لك ماله ) فجاء إليه فقال قد وهب لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك لي فهو لك فقال ما فعل كعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي قال قتل قال فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا قال قتل قال فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل قال قتل قال فما فعل بفلان وفلان قال قتل قال فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا اصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة قال أبو بكر ويلك يا ابن باطا واللّه ما هو إفراغ دلو ماء ولكنه عذاب اللّه أبدا يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي فاضرب ضربة أجهز بها وأرفع يدك عن العظام وألصق بالرأس فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق فقال ثابت ما كنت لأقتلك قال ما أبالي من قتلني فتقدم رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضرب عنقه وغنم اللّه عز وجل رسوله أموال بني قريظة وذراريها فقسمها بين المسلمين ٢٦فنزل قوله تعالى { وأنزل الذين ظاهروهم } يعني عاونوهم { من أهل الكتاب }وهم بنو قريظة ( من صياصيهم ) يعني من قصورهم وحصونهم وأصل الصياصي في اللغة قرون الثور لأنه يتحصن بها فقيل للحصون صياصي لأنها تمنع ثم قال { وقذف في قلوبهم الرعب } حين انهزم الأحزاب { فريقا تقتلون } يعني رجالهم { وتأسرون فريقا } تسبون طائفة وهم النساء والصبيان قال مقاتل قتل أربعمائة وخمسون رجلا وسبي من النساء والصبيان ستمائة وخمسون وقال في رواية الكلبي كانوا سبعمائة فقسمها بين المهاجرين ٢٧ثم قال عز وجل { وأورثكم أرضهم } يعني مزارعهم { وديارهم } يعني منازلهم { وأموالهم } يعني العروض والحيوان { وأرضا لم تطؤوها } يعني لم تملكوها ولم تقدروا عليها يعني ورثكم تلك الأرض أيضا وهي أرض خيبر وروي عن الحسن وغيره في قوله { أرضنا لم تطؤوها } قال كل ما فتح على المسلمين إلى يوم القيامة { وكان اللّه على كل شيء قديرا } يعني على فتح مكة وغيرها من القرى ٢٨قوله عز وجل { يا أيها النبي قل لأزواجك } وذلك أنه رأى منهن الميل إلى الدنيا وطلبن منه فضل النفقة { إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } يعني وزهرتها { فتعالين أمتعكن } متعة الطلاق { وأسرحكن سراحا جميلا } يعني أطلقكن طلاق السنة من غير إضرار ٢٩قوله عز وجل { وإن كنتن تردن اللّه ورسوله } يعني تطلبن رضاء اللّه ورضاء رسوله { والدار الآخرة } يعني الجنة { فإن اللّه أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } يعني ثوابا جزيلا في الجنة فاعتزل النبي صلى اللّه عليه وسلم نساءه شهرا فلما نزلت هذه الآية جمع نساءه فبدأ بعائشة فقال ( يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت وما هو يا رسول اللّه فتلا عليها الآية فقالت أفيك يا رسول اللّه أستشير أبوي بل اختار اللّه ورسوله والدار الآخرة ثم خير نساءه فاخترنه سائر النساء ٣٠ثم قال عز وجل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } يعني الزنى { يضاعف لها العذاب ضعفين } يعني تعاقب مثلي ما يعاقب غيرها ويقال الجلد والرجم وهذا قول الكلبي ويقال { من يأت منكن بفاحشة مبينة } يعني بمعصية { يضاعف لها العذاب ضعفين } لأن كرامتهن كانت أكثر فجعل العقوبة عليهن أشد وهذا كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال يغفر للجاهل سبعون ما لا يغفر للعالم واحد ثم قال { وكان ذلك على اللّه يسيرا } يعني هينا قرأ إبن كثير وعاصم في إحدى الروايتين { مبينة } بنصب الياء وقرأ الباقون بالكسر وقرأ إبن كثير وابن عامر { نضعف } بالنون وتشديد العين { لها العذاب } بنصب الباء ومعناه لها العذاب وقرأ أبو عمرو { يضعف } بالياء والتشديد وضم الباء في { العذاب } على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يضاعف } وهما لغتان والعرب تقول ضعفت الشيء وضاعفته ٣١قوله عز وجل { ومن يقنت منكن للّه ورسوله } يعني ومن تطع منكن اللّه ورسوله { وتعمل صالحا } يعني تعمل بالطاعات فيما بينها وبين ربها { نؤتها أجرها مرتين } يعني ثوابها ضعفين { وأعتدنا لها رزقا كريما } يعني وثوابا حسنا في الجنة قرأ حمزة والكسائي { ويعمل صالحا } بالياء وقرأ الباقون بالتاء فمن قرأ بالياء فللفظ { من } لأن لفظها لفظ واحد مذكر كما اتفقوا في قوله { ومن يقنت }ومن قرأ بالياء ذهب إلى المعنى وصار { منكن } فاصلا بين الفعلين وقرأ حمزة والكسائي { يؤتها } بالياء يعني يؤتها اللّه وقرأ الباقون بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه ٣٢ثم قال عز وجل { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } يعني لستن كسائر النساء فقال لستن كأحد ولم يقل كواحد لأن لفظ الأحد يصلح للواحد والجماعة وأما لفظ الواحد فلا يصلح إلا للواحد ثم قال عز وجل { إن اتقيتن } يعني إن اتقيتن المعصية وأطعتن اللّه ورسوله { فلا تخضعن بالقول } يعني لا تلن بالقول ويقال { لستن كأحد من النساء إن اتقيتن } فأنتن أحق الناس بالتقوى وتم الكلام ثم قال { فلا تخضعن بالقول } يعني لا ترفقن بالقول وهو اللين من الكلام ومعلوم أن الرجل إذا أتى باب إنسان والرجل غائب فلا يجوز للمرأة أن تلين بالقول معه ثم قال { فيطمع الذي في قلبه مرض } يعني فجورا وقال عكرمة هو شهوة الزنى ويقال الميل إلى المعصية { وقلن قولا معروفا } يعني صحيحا جميلا ويقال قولا حسنا يعني لينا ويقال لا يقلن باللين فتفتن ولا بالخشن فتؤذين { وقلن قولا معروفا } بين ذلك ٣٣ثم قال عز وجل { وقرن في بيوتكن } من الوقار وهو من وقر يقر ويقال هو من التقرير ويقال قر يقر وأصله أقررن ولكن المضاعف يراد به التخفيف فحذف إحدى الراءين للتخفيف فلما طرحوا إحدى الراءين استثقلوا الألف ولم تكن أصلية وإنما دخلت للوصل فحذفت الألف ومن قرأ { وقرن } بنصب القاف لا يكون إلا للتقرير ثم قال { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } يعني لا تتزين كتزين الجاهلية الأولى والتبرج إظهار الزينة ويقال التبرج الخروج من المنزل و { الجاهلية الأولى } قال الكلبي يعني الأزمنة التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام فكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدروع من اللؤلؤ ثم تمشي وسط الطريق وكان ذلك في زمن نمرود الجبار وروي عن الحكم بن عيينة قال { الجاهلية الأولى } كانت بين نوح وآدم عليهما السلام وكانت نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها وروى عكرمة عن ابن عباس أن { الجاهلية الأولى } كانت بين نوح وإدريس عليهما السلام وكانت ألف سنة وقال مقاتل { الجاهلية الأولى } كانت قبل خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنما سمى جاهلية الأولى لأنه كان قبله ثم قال { وأقمن الصلاة } يعني أتممن الصلوات الخمس { وآتين الزكاة } يعني إن كان لكن مال { وأطعن اللّه ورسوله } فيما ينهاكن وفيما يأمركن { إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس } يعني الإثم وأصله في اللغة كل خبيث من المأكول وغيره { أهل البيت } يعني يا أهل البيت وإنما كان نصبا للنداء ويقال إنما صار نصبا للمدح ويقال صار نصبا على جهة التفسير فكأنه يقول أعني أهل البيت وقال { عنكم } بلفظ التذكير ولم يقل عنكن لأن لفظ أهل البيت يصلح أن يذكر ويؤنث { ويطهركم تطهيرا } يعني من الإثم والذنوب ٣٤قوله عز وجل { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } يعني احفظن ما يقرأ عليكن { من آيات اللّه } يعني القرآن { والحكمة } يعني أمره ونهيه في القرآن فوعظهن ليتفكرون ثم قال { إن اللّه كان لطيفا } لطيف علمه فيعلم حالهن إن خضعن بالقول ويقال { لطيفا } أمر نبيه بأن يلطف بهن { خبيرا } يعني عالما بأعمالهن ٣٥قوله عز وجل { إن المسلمين والمسلمات } وذلك أن أم سلمة رضي اللّه عنها سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه فأخشى أن لا يكون فيهن خير ولا للّه عز وجل فيهن حاجة فنزل { إن المسلمين والمسلمات } ويقال إن النس اء اجتمعن وبعثن أنيسة رسولا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت أنيسة إن اللّه تبارك وتعالى خالق الرجال والنساء وقد أرسلك إلى الرجال والنساء فما بال النساء ليس لهن ذكر في الكتاب فنزلت هذه الآية وقال قتادة لما ذكر اللّه عز وجل أزواج النبي دخل نساء مسلمات عليهن فقلن ذكرتن ولم نذكر ولو كان فينا خيرا ذكرنا فنزلت هذه الآية { إن المسلمين والمسلمات } يعني المسلمين من الرجال والمسلمات من النساء { والمؤمنين } يعني المصدقين الموحدين من الرجال { والمؤمنات } يعني المصدقات الموحدات من النساء { والقانتين } يعني المطيعين وأصل القنوت القيام ثم يكون للمعاني ويكون للطاعة كقوله { والقانتين } ويكون للإقرار بالعبودية كقوله { كل له قانتون } [ البقرة ١١٦ والروم ٢٦ ] { والقانتات } أي المطيعات من النساء { والصادقين } يعني الصادقين في إيمانهم من الرجال { والصادقات } من النساء { والصابرين والصابرات } على أمر اللّه تعالى من الرجال والنساء { والخاشعين والخاشعات } يعني المتواضعين من الرجال والنساء { والمتصدقين والمتصدقات } يعني المنفقين أموالهم في طاعة اللّه من الرجال والنساء { والصائمين والصائمات } قال مقاتل من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر فهو من الصائمين والصائمات ثم قال { والحافظين فروجهم والحافظات } يعني من الفواحش من الرجال والنساء { والذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات } يعني باللسان من الرجال والنساء فذكر أعمالهم ثم ذكر ثوابهم فقال { أعد اللّه لهم مغفرة } في الدنيا لذنوبهم { وأجرا عظيما } في الآخرة وهو الجنة ٣٦قوله عز وجل { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لزينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبي صلى اللّه عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب ( إني أريد أن أزوجك من زيد بن حارثة ) فقالت يا رسول اللّه لا أرضاه لنفسي وأنا أرفع قريش لأنني من قريش وابنة عمتك فنزل { وما كان لمؤمن } يعني ما جاز لمؤمن يعني زيد بن حارثة { ولا مؤمنة } يعني زينب بنت جحش { إذا قضى اللّه ورسوله أمرا } يعني حكم حكما في تزويجهما { أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } يعني اختيارا من أمرهم بخلاف ما أمر اللّه ورسوله قرأ حمزة والكسائي وعاصم { أن يكون } بالياء بالتذكير وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث فمن قرأ بالتاء فلأن لفظ الخيرة مؤنث ومن قرأ بالياء فإنه ينصرف إلى المعنى ومعناهما الاختيار ولتقدم الفعل ثم قال { ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } يعني بينا فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت قد أطعتك يا رسول اللّه ٣٧ثم قال عز وجل { وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه } يعني زيد بن حارثة قد أنعم اللّه عز وجل عليه بالإسلام { وأنعمت عليه } بالعتق { أمسك عليك زوجك } قال قتادة جاء زيد بن حارثة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إن زينب اشتد علي لسانها وإني أريد أن أطلقها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ( اتق اللّه { وأمسك عليك زوجك } ) وكان يحب النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطلقها وخشي مقالة الناس أن أمره بطلاقها فنزلت هذه الآية وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم إلى زيد بن حارثة يطلبه في حاجة له فإذا زينب بنت جحش قائمة في درع وخمار فلما رآها أعجبته ووقعت في نفسه فقال ( سبحان اللّه يا مقلب القلوب ثبت قلبي ) فلما سمعت زينت جلست فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما جاء زيد ذكرت ذلك له فعرف زيد أنها وقعت في نفسه وأعجب بها النبي صلى اللّه عليه وسلم فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال يا رسول اللّه إن زينب امرأة فيها كبر تعصي أمري ولا تبر قسمي فلا حاجة لي فيها فقال له ( اتق اللّه يا زيد في أهلك وأمسك عليه زوجك ) فطلقها زيد ونزلت هذه الآية { وتخفي في نفسك } يعني تسر في نفسك ليت أنه طلقها { ما اللّه مبديه } يعني مظهره عليك حتى ينزل به قرآنا { وتخشى الناس } يعني تستحي من الناس ويقال { وتخشى } مقالة الناس { واللّه أحق أن تخشاه } في أمرها قال الحسن ما أنزل اللّه عز وجل على النبي صلى اللّه عليه وسلم آية أشد منها ولو كان كاتما شيئا من الوحي لكتمها ثم قال { فلما قضى زيد منها وطرا } يعني حاجة { زوجناكها } فلما انقضت عدتها تزوجها النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الحسن فكانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم فتقول أما أنتن فزوجكن آباؤكن وأما أنا فزوجني رب العرش تعني قوله { زوجناكها } ثم قال { لكيلا يكون على المؤمنين حرج } يعني لكيلا يكون على الرجل حرج بأن يتزوج امرأة ابنه الذي تبناه { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } يعني حاجة { وكان أمر اللّه مفعولا } يعني تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم إياها كائن لا بد واللام للزيادة وكي مثله فلو كان أحدهما لكان يكفي ولكن يجوز أن يجمع بين حرفين زائدين إذا كانا جنسين وإنما لا يجوز إذا كانا من جنس واحد كما قال { ليس كمثله شيء } [ الشورى١١ ] ولا يصلح أن يقال مثل مثل أو كي كي فإذا كانا جنسين جاز ٣٨فقالت اليهود والمنافقون يا محمد تنهى عن تزوج امرأة الابن ثم تتزوجها فنزل قوله عز وجل { ما كان على النبي من حرج } يقول ليس على النبي إثم { فيما فرض اللّه له } يعني في الذي رخص اللّه عز وجل من تزوج زينب { سنة اللّه في الذين خلوا من قبل } يعني هكذا سنة اللّه في الذين مضوا يعني في كثرة تزوج النساء كما فعل الأنبياء عليهم السلام { وكان أمر اللّه قدرا مقدورا } يعني قضاء كائنا ٣٩قوله عز وجل { الذين يبلغون رسالات اللّه } قال مقاتل يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم وحده ويقال ينصرف إلى قوله { سنة اللّه في الذين خلوا من قبل } { الذين يبلغون رسالات اللّه } { ويخشونه } في كتمان ما أظهر اللّه عليهم { ولا يخشون أحدا } في البلاغ { إلا اللّه وكفى باللّه حسيبا } يعني شهيدا بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم بلغ الرسالة عن اللّه عز وجل ويقال شهيدا يعني حفيظا ٤٠قوله عز وجل { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني بالتبني وليس بأب لزيد بن حارثة { ولكن رسول اللّه } يعني ولكنه محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويقال لم يكن أب الرجال لأن بنيه ماتوا صغارا ولو كان الرجال بنيه لكانوا أنبياء ولا نبي بعده فذلك قوله { وخاتم النبيين } قرأ بعضهم { ولكن رسول اللّه } بضم اللام ومعناه ولكن هو رسول اللّه ومن قرأ بالنصب معناه ولكن كان رسول اللّه وكان { خاتم النبيين } وقرأ عاصم في إحدى الروايتين { وخاتم النبيين } بنصب التاء وقرأ الباقون بالكسر فمن قرأ بالكسر يعني آخر النبيين ومن قرأ بالنصب فهو على معنى إضافة الفعل إليه يعني أنه ختمهم وهو خاتم قال أبو عبيد وبالكسر نقرأ لأنه رويت الآثار عنه أنه قال ( أنا خاتم النبيين ) فلم يسمع أحد من فقهائنا يروون إلا بكسر التاء { وكان اللّه بكل شيء عليما } بمن يصلح للنبوة وبمن لا يصلح فإن قيل كيف يظن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه يظهر من نفسه خلاف ما في قلبه قيل له يجوز مثل هذا لأن في قوله { أمسك عليك زوجك واتق اللّه } أمر بالمعروف وفيه رد النفس عما تهوى وهذا عمل الأنبياء والصالحين عليهم السلام وقال بعضهم للآية وجه آخر وهو أن اللّه تعالى قد أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها تكون زوجته فلما زوجها من زيد بن حارثة لم يكن بينهما ألفة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ينهاه عن الطلاق ويخفي في نفسه ما أخبره اللّه تعالى وقال بأنها تكون زوجته فلما طلقها زيد بن حارثة كان يمتنع من تزوجها خشية مقالة الناس يتزوج امرأة ابنه المتبنى به فأمره اللّه عز وجل بأن يتزوجها ليكون ذلك سبب الإباحة لنكاح امرأة الابن المتبنى لأمته فنزل { وإذ تقول للذي أنعم اللّه عليه } [ الأحزاب ٣٧ ] الآية ٤١قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا } يعني اذكروا اللّه باللسان وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ) قيل يا رسول اللّه فما جلاؤها قال ( تلاوة كتاب اللّه عز وجل وكثرة ذكره ) وذكر أن أعرابيا سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال إن شرائع الإسلام قد كثرت فأنبئني منها بأمر أتشبث به فقال ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر اللّه عز وجل ) ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من ذكر اللّه تعالى لأنه قدر لكل عبادة مقدارا ولم يقدر للذكر وأمر بالكثرة فقال { اذكروا اللّه ذكرا كثيرا } يعني اذكروه في الأحوال كلها لأن الإنسان لا يخلو من أربعة أحوال إما أن يكون في الطاعة أو في المعصية أو في النعمة أو في الشدة فإذا كان في الطاعة ينبغي أن يذكر اللّه عز وجل بالإخلاص ويسأله القبول والتوفيق وإذا كان في المعصية ينبغي أن يذكر اللّه عز وجل بالامتناع عنها ويسأل منه التوبة منها والمغفرة وإذا كان في النعمة يذكره بالشكر وإذا كان في الشدة يذكره بالصبر ٤٢ثم قال { وسبحوه بكرة وأصيلا } يعني غدوا وعشيا يعني صلوا للّه بالغداة والعشي يعني الفجر والعصر ويقال بالغداة يعني صلوا أول النهار وهي صلاة الفجر { وأصيلا } يعني صلوا آخر النهار وأول النهار وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ٤٣ثم قال عز وجل { هو الذي يصلي عليكم } يقول هو الذي يرحمكم ويغفر لكم { وملائكته } أي يأمر الملائكة عليهم السلام بالاستغفار لكم { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى الإيمان ووفقكم لذلك اللفظ لفظ المستأنف والمراد به الماضي يعني أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ونور قلوبكم بالمعرفة ويقال معناه ليثبتكم على الإيمان ويمنعكم عن الكفر ويقال { ليخرجكم من الظلمات } يعني من المعاصي إلى نور التوبة والطهارة من الذنوب ويقال من ظلمات القبر إلى نور المحشر ويقال من ظلمات الصراط إلى نور الجنة ويقال من ظلمات الشبهات إلى نور البرهان والحجة ثم قال { وكان بالمؤمنين رحيما } يعني بالمصدقين الموحدين { رحيما } يرحم عليهم ٤٤ثم قال عز وجل { تحيتهم يوم يلقونه سلام } قال مقاتل يعني يلقون الرب في الآخرة بسلام وقال الكلبي تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام فإذا دخلوها حيا بعضهم بالسلام وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام ويقال يعني يسلم بعضهم على بعض ويقال يسلمون على اللّه تعالى { وأعد لهم أجرا كريما } يعني جزاء حسنا في الجنة ويقال مساكن في الجنة حسنة ٤٥قوله عز وجل { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا } يعني شهيدا على أمتك بالبلاغ { ومبشرا } بالجنة لمن أطاع اللّه في الآخرة وفي الدنيا بالنصرة { ونذيرا } من النار يعني مخوفا لمن عصى اللّه عز وجل ٤٦{ وداعيا إلى اللّه } يعني أرسلناك داعيا إلى توحيد اللّه ومعرفته { بإذنه } يعني بأمره { وسراجا منيرا } يعني أرسلناك سراجا منيرا لأنه يضيء الطريق فهذه كلها صارت نصبا لنزع الخافض ٤٧ثم قال عز وجل { وبشر المؤمنين } يعني بشر يا محمد المصدقين بالتوحيد { بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا } في الجنة وذلك أنه لما نزل قوله عز وجل { ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح ٢٠ ] فقال المؤمنون هذا لك فما لنا فنزل قوله تعالى { وبشر المؤمنين بأن لهم من اللّه فضلا كبيرا } في الجنة فلما سمع المنافقون ذلك قالوا فما لنا فنزل و { وبشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما } [ النساء ١٣٨ ] ٤٨ثم رجع إلى ما ذكر في أول السورة فقال تعالى { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة { ودع أذاهم } أي تجاوز عن المنافقين ولا تقتلهم ويقال { ودع أذاهم } يعني اصبر على أذاهم وإن خوفك شيء منهم { فتوكل على اللّه } يعني فوض أمرك إلى اللّه وروى الأعمش عن سفيان بن سلمة عن ابن مسعود قال قسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه فأخبر بذلك فاحمر وجهه فقال ( رحم اللّه أخي موسى عليه السلام لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) ثم قال { وتوكل على اللّه وكفى باللّه وكيلا } يعني حافظا نصيرا ٤٩قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } قرأ حمزة والكسائي { تماسوهن } وقرأ الباقون { تمسوهن } مثل الاختلاف الذي ذكرنا في سورة البقرة { فما لكم عليهن من عدة } يعني ليس للأزواج عليهن عدة { تعتدونها } وإنما خص المؤمنات لأن نكاح المؤمنات كان مباحا في ذلك الوقت فلما أحل اللّه تعالى نكاح الكتابيات صار حكم الكتابية وحكم المؤمنة في هذا سواء إذا طلقها قبل أن يخلو بها لا عدة عليها بالإجماع وإن طلقها بعد ما خلا بها ولم يدخل بها فقد روي عن ابن مسعود وابن عباس رضي اللّه عنهما أنهما قالا لا عدة عليها وقال عمر وعلي ومعاذ وزيد بن ثابت وجماعة منهم رضي اللّه عنهم أن عليها العدة وهو أحوط الوجهين أنه إذا خلا بها ولم تكن المرأة حائضا ولم يكن أحدهما مريضا ولا محرما ولا صائما صوم فرض يجب على الزوج المهر كاملا وعليها العدة احتياطا وأما إذا كانت المرأة حائضا أو مريضة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو الرجل مريض أو صائم عن فرض أو محرم فطلقها بعد الخلوة قبل الدخول فعليه نصف المهر وعليها العدة احتياطا ثم قال { فمتعوهن } يعني متعة الطلاق ثلاثة أبواب وهي مستحبة غير واجبة { وسرحوهن سراحا جميلا } يعني خلو سبيلهن تخلية حسنة وهو أن يعطيها حقها ٥٠قوله عز وجل { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } يعني نساءك { اللاتي آتيت أجورهن } يعني أعطيت مهورهن لأن غيره كان له أكثر من أربع نسوة أمره أن يترك ما زاد على الأربع وقد أحل للنبي صلى اللّه عليه وسلم إمساك التسع ولم يأمره بالفرقة { وما ملكت يمينك } يعني أحللنا لك من الإماء مثل مارية القبطية { مما أفاء اللّه عليك } من الغنيمة يعني أعطاك اللّه كقوله تعالى { وما أفاء اللّه على رسوله } [ الحشر ٧ ] ثم قال { وبنات عمك } يعني أحللنا لك نكاح بنات عمك { وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك } يعني هاجرن معه من مكة إلى المدينة أو قبله أو بعده ثم قال { وامرأة مؤمنة } يعني أحللنا لك امرأة مؤمنة { إن وهبت نفسها للنبي } صلى اللّه عليه وسلم وقرأ الحسن { أن وهبت } بنصب الألف ومعناه إذا وهبت ويكون ذلك الفعل خاصة لامرأة واحدة وقراءة العامة { إن } بالكسر فيكون معناه لكل امرأة إن فعلت ذلك في المستقبل قال مقاتل وذلك أن أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم بغير مهر كذا قال الكلبي وروى معمر عن الزهري في قوله { إن وهبت نفسها للنبي } قال بلغنا أن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم ووهبت سودة يومها لعائشة رضي اللّه عنهن وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي وعمرو بن الحكم وعبد اللّه بن عبيدة قال تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاث عشر امرأة ستة من قريش خديجة بنت خويلد وعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وثلاثا من بني عامر وامرأتين من بني هلال ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم وزينب أم المساكين وامرأة من بني بكر وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الحزن من كندة وهي التي استعاذت منه وقال يحيى بن أبي كثير تزوج أربعة عشر خديجة وسودة وعائشة تزوج هؤلاء الثلاث بمكة وتزوج بالمدينة زينب بنت خزيمة وأم سلمة وجويريه من بني المصطلق وميمونة بنت الحارث وصفية بنت حيي بن أخطب وزينب بنت جحش وكانت امرأة زيد بن حارثة وعالية بنت ظبيان وحفصة وأم حبيبة والكندية وامرأة من كلب وروى الزهري عن عروة قال لما دخلت الكندية على النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت أعوذ باللّه منك فقال ( لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك ) ثم قال { إن أراد النبي أن يستنكحها } يعني أن يتزوجها بغير صداق { خالصة لك من دون المؤمنين } يعني خالصا للنبي صلى اللّه عليه وسلم بغير مهر ولا يحل لغيره وقال الزهري الهبة كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة ولا تحل لأحد أن تهب له امرأة نفسها بغير صداق وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال لم تحل الموهوبة لأحد بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم واختلف الناس في جواز النكاح قال أهل المدينة باطل وقال أهل العراق النكاح جائز ولها مهر مثلها وروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه أجاز ذلك وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي اللّه عنها أن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول وقال القتبي العرب تخبر عن الغائب ثم ترجع إلى الشاهد فتخاطبه كما قال هاهنا { إن وهبت نفسها للنبي } بلفظ الغائب ثم قال { خالصة لك من دون المؤمنين } ثم قال { قد علمنا ما فرضنا عليهم } يعني ما أوجبنا عليهم { في أزواجهم } يعني في أن لا يتزوجوا إلا بالمهر ويقال إلا أربعا { وما ملكت أيمانهم } ويقال يعني إلا ما لا وقت فيهن { لكيلا يكون عليك حرج } في الهبة بغير مهر وفي الآية ومعناه أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم لكي لا يكون عليك حرج ثم قال { وكان اللّه غفورا } يعني غفورا فيما تزوج قبل النهي { رحيما } في تحليل ذلك ٥١قوله عز وجل { ترجي من تشاء منهن } قرأ أبو عمرو وإبن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم { ترجىء } بالهمزة وقرأ الباقون بغير الهمز كلاهما في اللغة واحد وأصله من التأخير يقول تؤخر من تشاء منهن ولا تتزوجها { وتؤوي إليك من تشاء } يعني تضم فتتزوجها فخيره في تزويج القرابة ويقال تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء وقال قتادة جعله في حل أن يدع من يشاء منهن ويضم إليه من يشاء يعني إن شاء جعل لهن قسما وإن شاء لم يجعل وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم وقال الحسن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها أو يدعها وفي ذلك نزل { ترجي من تشاء منهن } ثم قال { ومن ابتغيت } يعني آثرت { ممن عزلت } يعني تركت { فلا جناح عليك } يعني لا إثم عليك { ذلك أدنى } يعني أحرى وأجدر إذا علمن أنك تفعل بأمر اللّه { أن تقر أعينهن } يعني تطمئن قلوبهن { ولا يحزن } مخافة الطلاق { ويرضين بما آتيتهن } يعني أعطيتهن { كلهن } من النفقة إذا علمن أنه من اللّه عز وجل وقرئ في الشاذ { كلهن } بالنصب صار نصبا لوقوع الفعل عليه وهو الإعطاء وقراءة العامة { أتيتهن كلهن } بالضم ومعناه يرضين كلهن بما أعطيتهن ثم قال { واللّه يعلم ما في قلوبكم } من الحب والبغض { وكان اللّه عليما } بما في قلوبكم { حليما } بالتجاوز ٥٢قوله عز وجل { لا يحل لك النساء من بعد } قال مجاهد أي لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات { من بعد } يعني من بعد المسلمات { ولا أن تبدل بهن من أزواج } يقول لا تبديل اليهوديات ولا النصرانيات على المؤمنات يقول لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية إلا ما ملكت يمينك من اليهوديات والنصرانيات يتسراهن قال الحسن وابن سيرين خير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه بين الدنيا والآخرة فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة فشكر اللّه لهن على ذلك فحبسه عليهن فقال { لا يحل لك النساء من بعد } { ولا أن تبدل بهن من أزواج } يعني لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرهن قرأ أبو عمرو { لا تحل } بالتاء بلفظ التأنيث وقرأ الباقون بالياء يعني لا يحل لك من النساء شيء ويقال معناه لا تحل لك جميع النساء فمن قرأ بالتاء بالتأنيث يعني جماعة النساء ثم قال { ولو أعجبك حسنهن } يعني أسماء بنت عميس أراد أن يتزوجها فنهاه اللّه تعالى عز وجل عن ذلك فتركها وتزوجها أبو بكر رضي اللّه عنه بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { إلا ما ملكت يمينك } من السريات { وكان اللّه على كل شيء رقيبا } من أمر التزويج { رقيبا } يعني حفيظا وروى عمرو بن دينار عن عطاء عن عائشة رضي اللّه عنها قالت ما مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى حل له النساء بعد قوله { لا يحل لك النساء } ٥٣قوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } وذلك أن أناسا من المسلمين كانوا يتحينون غذاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ويدخلون عليه بغير إذن ويجلسون وينتظرون الغداء وإذا أكلوا جلسوا طويلا ويتحدثون طويلا فأمرهم اللّه عز وجل بحفظ الأدب فقال { لا تدخلوا بيوت النبي } { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام } يعني إلا أن يدعوكم ويأذن لكم في الدخول { غير ناظرين إناه } يعني من غير أن تنتظروا وقته ويقال أصله إدراك الطعام يعني غير ناظرين إدراكه ويقال { إناه } يعني نضج الطعام ثم قال { ولكن إذا دعيتم فادخلوا } يعني إذا دعاكم إلى الطعام فادخلوا بيته { فإذا طعمتم } الطعام { فانتشروا } يعني تفرقوا { ولا مستأنسين لحديث } أي لا تدخلوا مستأنسين للحديث { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم } أن يقول لكم تفرقوا { واللّه لا يستحي من الحق } يعني من بيان الحق أن يأمركم بالخروج بعد الطعام قال الفقيه أبو الليث في الآية حفظ الأدب والتعليم أن الرجل إذا كان ضيفا لا ينبغي أن يجعل نفسه ثقيلا ولكنه إذا أكل ينبغي أن يخرج ثم قال { وإذا سألتموهن متاعا } يعني إذا سألتم من نسائه متاعا فلا تدخلوا عليهن { فاسألوهن من وراء حجاب } يعني من خلف الستر ويقال خارج الباب { ذلكم أطهر } من الريبة { لقلوبكم وقلوبهن } ثم قال { وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه } قال وذلك أن طلحة بن عبيد اللّه قال لئن مات محمد لأتزوجن بعائشة فنزل { وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه } { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } يعني ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد وفاته أبدا { إن ذلك كان عند اللّه عظيما } في العقوبة ويقال إنما نهى عن ذلك لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وروي عن حذيفة أنه قال لامرأته إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم اللّه تعالى على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يتزوجن بعده وروي أن أم الدرداء قالت لأبي الدرداء عند موته إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة فقال لها فلا تنكحي بعدي فخطبها معاوية بن أبي سفيان فأخبرته بالذي كان وأبت أن تتزوجه وروي في خبر آخر بخلاف هذا أن أم حبيبة قالت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن المرأة منا كان لها زوجان لأيهما تكون في الآخرة فقال ( إنها تخير فتختار أحسنهما خلقا معها ) ثم قال ( يا أم حبيبة إن حسن الخلق ذهب بالدنيا والآخرة) ٥٤ثم قال عز وجل { إن تبدوا شيئا أو تخفوه } يعني إن تظهروا شيئا من أمر التزويج أو تسروه وتضمروه { فإن اللّه كان بكل شيء عليما } من السر والعلانية يعلم ما أعلنتم وما أخفيتم يجازيكم به ثم خص الدخول على نساء ذوات محرم بغير حجاب فرخص في ذلك وهو ٥٥قوله عز وجل { لا جناح عليهن في آبائهن } يعني في الدخول عليهن { ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن } يعني نساء أهل دينهن { ولا ما ملكت أيمانهن } من الخدم { واتقين اللّه } يعني اخشين اللّه وأطعن اللّه فلا يراهن غير هؤلاء { إن اللّه كان على كل شيء شهيدا } يعني عالما بأعمالهم ٥٦قوله عز وجل: { إِنَّ ٱللّه وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ} والصلاة من اللّه الرحمة والمغفرة ومن الملائكة - عليهم السلام - الاستغفار يعني أن اللّه عز وجل يغفر للنبي ويأمر ملائكته بالاستغفار والصلاة عليه ثم أمر المسلمين بالصلاة عليه فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه قال { قلنا يا رسول اللّه كيف نصلي عليك فقال: قولوا اللّه م صل على محمد وعلى آل محمد } إلى آخره وروى أبو هريرة عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال: { صلوا علي فإن الصلاة علي زكاة لكم واسألوا اللّه لي الوسيلة قالوا وما الوسيلة يا رسول اللّه قال أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو } وروى أنس بن مالك عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال { من صلى عليَّ واحدة صلى اللّه عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات } ويقال ليس شيء من العبادات أفضل من الصلاة على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لأن سائر العبادات أمر اللّه تعالى بها عباده وأما الصلاة على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فقد صلى عليه أولاً هو بنفسه وأمر الملائكة بذلك ثم أمر العباد بذلك ثم قال { وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} يعني: اخضعوا له خضوعاً ويقال: ائتمروا بما يأمركم اللّه تعالى ويقال: لما نزلت هذه الآية قال المسلمون هذا لك فما لنا فنزل: { هُوَ ٱلَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـٰئِكَتُهُ}[الأحزاب: ٤٣] ٥٧ثم قال عز وجل { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللّه وَرَسُولَهُ} يعني: اليهود والنصارى حيث قالوا: { يَدُ ٱللّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}[المائدة: ٦٤] ونحو ذلك من الكلمات ويقال أذاهم اللّه وهو قولهم للّه ولد ونحو ذلك وإيذاءهم رسوله أنهم زعموا أنه ساحر ومجنون { لَعَنَهُمُ ٱللّه فِى ٱلدُّنْيَا} يعني: عذبهم اللّه في الدنيا بالقتل والسبي { وَٱلآخِرَةِ} بالنار ويقال: هم الذين يجعلون التصاوير ويقولون تخلق كما يخلق اللّه تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون فيه ٥٨ثم قال عز وجل { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ} يعني: بغير جرم { فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰناً} يعني: قالوا كذباً { وَإِثْماً مُّبِيناً} يعني ذنباً بيّناً قال مقاتل: قال السدي: نزلت هذه الآية في أمر عائشة وصفوان ويقال: في جميع من يؤذي مسلماً بغير حق وقال عثمان لأبي بن كعب: إني قرأت هذه الآية { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} فوقعت مني كل موقع واللّه إني لأضربهم وأعاقبهم فقال له أبي إنك لست منهم إنك مؤدب معلم ٥٩قوله عز وجل { يـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ} وذلك أن المهاجرين نزلوا في ديار الأنصار فضاقت الدور عليهم وكن النساء يخرجن بالليل إلى التخلي يقضين حوائجهن كان الزناة يرصدون في الطريق وكانوا يطلبون الولائد ولم يعرفوا المرأة الحرة من الأمة بالليل فأمر الحرائر بأخذ الجلباب وقال الحسن كن النساء والإماء بالمدينة يقال لهن كذا وكذا يخرجن فيتعرض لهن السفهاء فيؤذونهن فكانت الحرة تخرج فيحسبون أنها أمة ويؤذونها فأمر اللّه تعالى المؤمنات أن يدنين عليهن من جلابيبهن وقال القتبي يلبسن الأردية ويقال يعني: يرخين الجلابيب على وجوههن وقال مجاهد يدنين عليهن من جلابيبهن يعني متجلببين ليعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة قوله: { وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ} يعني: أحرى { فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللّه غَفُوراً رَّحِيماً} إذا تابوا ورجعوا ثم وعد المنافقين وخوّفهم لينزجروا عن الحرائر أو الإماء. ٦١فقال عز وجل: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ} عن نفاقهم { وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يعني: الميل إلى الزنا إن لم يتوبوا عن ذلك { وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ} يعني: الذين يخبرون بالأراجيف وكانوا يخبرون المؤمنين بما يكرهون من عدوهم والأراجيف هي أول الاختيار وأصل الرجف هو الحركة فإذا وقع خبر الكذب فإنه يقع الحركة بالناس فسمي إرجافاً ويقال: الأراجيف تلقح الفتنة يعني: إن لم ينتهوا عن النفاق وعن الفجور وعن القول بالأراجيف { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} يعني: لنسلطنك عليهم ويقال: لنحملنك على قتلهم وروى سفيان عن منصور بن زرين قال: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِى ٱلْمَدِينَةِ} هذا كله شيء واحد يعني: أنه نعتهم بأعمالهم الخبيثة { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} يعني: لا يساكنوك في المدينة إلا قليلاً حتى أهلكهم ويقال إلا جواراً قليلاً ويقال إلا قليلاً منهم وقال قتادة: إن أناساً من المنافقين أرادوا أن يُظْهِرُوا نفاقهم فنزلت هذه الآية ثم قال عز وجل { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} يعني: يجعلهم ملعونين أينما وجدوا فأوجب اللّه تعالى لهم اللعنة على كل حال أينما وجدوا وأدركوا { أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً} فلما سمعوا بالقتل انتهوا عن ذلك ٦٢قوله عز وجل: { سُنَّةَ ٱللّه فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} يعني: سنة اللّه في الزناة القتل ويقال: هذا سنة اللّه في الذين مضوا من قبل يعني الذين أضمروا النفاق بأن يسلط اللّه عليهم الأنبياء بالقتل سنة اللّه { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللّه تَبْدِيلاً} يعني: مبدلاً ومغيراً ٦٣قوله عز وجل: { يَسْـئَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ} يعني عن قيام الساعة وذلك أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فسأله: متى الساعة فقال - عليه السلام - { ما المسؤول عنها بأعلم من السائل } فنزل { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللّه } يعني: علم قيام الساعة عند اللّه { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} يعني سريعاً وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال: من أشراط الساعة أن يفتح القول ويحزن الفعل وأن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار ومعنى يفتح الأقوال أن يقول: أفعل غداً فإذا جاء غداً خالف قوله وقت الفعل وأصل الفتح الابتداء وهو أن يعد لأخيه عدة حسنة ثم يخالفه وقال عطاء بن أبي رباح: من اقتراب الساعة مطر ولا نبات وعلو أصوات الفساق في المساجد وظهور أولاد الزنا وموت الفجأة وانبعاث الدويبضة يعني السفلة من الناس وقوله لعل الساعة تكون (قَرِيباً) ولم يقل قريبة لأنها جعلت ظرفاً وبدلاً ولم تجعل نعتاً وصفة ٦٤ثم قال عز وجل: { إِنَّ ٱللّه لَعَنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} يعني: خذلهم وطردهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} يعني: جهنم ويقال: لعن الكافرين في الدنيا بالقتل وفي الآخرة أعد لهم سعيراً ٦٥{ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يعني: قريباً ينفعهم { وَلاَ نَصِيراً} أي: مانعاً يمنعهم من العذاب والسعير في اللغة هو النار الموقدة ٦٦ثم قال عز وجل: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ} يعني: تحول يقول هذا العذاب في يوم تقلب وجوههم في النار يعني: تحول عن الحسن إلى القبح من حال البياض إلى حال السواد وزرقة الأعين ويقال تقلب يعني: تجدد كقوله: { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: ٥٦] فيندمون على فعلهم ويوبخون أنفسهم { يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَا أَطَعْنَا ٱللّه } فيما أمرنا ونهانا في دار الدنيا { وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ} فيما دعانا إلى الحق ٦٧{ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} يعني: قادتنا وأشرافنا وعظماءنا { فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ} يعني: صرفونا عن طريق الإسلام ويقال أضللت الطريق وأضللته عن الطريق بمعنى واحد قرأ ابن عامر ساداتنا وقرأ الباقون سادتنا جمع سيد وساداتنا جمع الجمع ٦٨ثم قال عز وجل: { رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ} يعني: زدهم واحمل عليهم يعني عذبهم وارفع عنا بعض العذاب واحمل عليهم فإنهم هم الذين أضلونا { وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} قرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين كبيراً بالباء من الكبر والعظم يعني عذبهم عذاباً عظيماً وقرأ الباقون كثيراً من الكثرة يعني: عذبهم عذاباً كثيراً دائماً. ٦٩قوله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَىٰ} عليه السلام يعني: لا تؤذوا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - كما آذى بنو إسرائيل موسى - عليه السلام - قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه أخبرني الثقة بإسناده عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال: { كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى - عليه السلام - يغتسل وحده فقال بعضهم واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر فذهب موسى مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فخرج موسى بأثره يقول حجر ثوبي حجر ثوبي حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا واللّه ما بموسى من بأس فقام الحجر وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضرباً } فقال أبو هريرة: ستة أو سبعاً واللّه إن بالحجر لندباً سبعة بضرب موسى وذلك قوله: { فَبرَّأَهُ ٱللّه مِمَّا قَالُواْ} ويقال: إن موسى وهارون وابني هارون خرجوا فتوفي هارون في تلك الخرجة فلما رجع موسى إلى قومه قالت السفهاء من بني إسرائيل لموسى أنت قتلت هارون فخرج موسى مع جماعة من بني إسرائيل فأحيا اللّه تعالى هارون - عليه السلام - فأخبر أنه لم يقتله أحد وأنه مات بأجله فذلك قوله تعالى: { فَبرَّأَهُ ٱللّه مِمَّا قَالُواْ} { وَكَانَ عِندَ ٱللّه وَجِيهاً} يعني: مكيناً وكان له جاه عنده منزلة وكرامة ٧٠ثم قال عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللّه } يعني: أطيعوا اللّه واخشوا اللّه { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} يعني: عدلاً صواباً فيما بينكم وهو قولهم ابن فلان فأمرهم أن ينسبوهم إلى آبائهم ويقال قولوا { قَوْلاً سَدِيداً} يعني: لا إلٰه إلا اللّه ويقال: قولاً مخلصاً ٧١{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ} يعني: يقبل أعمالكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللّه وَرَسُولَهُ} في السر والعلانية { فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} يعني: نجى بالخير وأصاب نصيباً وافراً ٧٢قوله عز وجل: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَٱلْجِبَالَ} قال مجاهد لما خلق اللّه عز وجل آدم - عليه السلام - عرض عليه الأمانة فحملها فما كان بين أن حملها وبين أن أخرج من الجنة إلا كما بين الظهر والعصر وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال إنا عرضنا الأمانة يعني الفرائض على السماوات والأرض والجبال فقال لهن يأخذن بما فيها فقلنا وما فيها يا رب قال: إن أحسنتن جوزيتن وإن أسأتن عوقبتن فقلن يا رب إن تعرضها علينا فلا نريد وإن أمرتنا بها فنحن نجتهد وعرضت على الإنسان يعني: آدم - عليه السلام - فقبلها وحملها وقال بعضهم هذا على وجه المثل إن لم تظهر الخيانة في الأمانة إلا من الإنسان فلم تظهر من السماوات والأرض والجبال كما قال: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ عَلَىٰ جَبَلٍ} [الحشر: ٢١] فكأنه يقول لو عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال لأبين حملها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ} يعني: آدم وذريته { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} بالقبول وروي عن الحسن أنه قال: عرض على السموات عرض تخيير لا عرض إيجاب فلذلك لم تعصِ بترك قبولها ويقال: عرضنا الأمانة على السموات يعني على ملائكة السماوات والأرض والجبال كما قال: { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] يعني: أهل القرية وقال السدي: لما أراد أن يحج عرض الأمانة يعني أمر ولده شِيْث وقابيل وهابيل فعرض على قابيل الكخداذبية والائتمار والقيام في شغل الدنيا والعيش حتى يرجع هو من الحج إلى وطنه فقبله ثم خانه فقتل أخاه وإنما كان عرض آدم بأمر اللّه تعالى فلذلك قال عرضنا وقال بعضهم إن اللّه عز وجل لما استخلف آدم على ذريته وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والوحوش والطير عهد إليه عهداً أمره فيه ونهاه فقبله ولم يزل عاملاً به إلى أن حضرته الوفاة فسأل ربه أن يعلمه من يستخلف بعده ويقلده الأمانة أن يعرض على السموات والأرض بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى فأبين أن يقبلنها شفقاً من عذاب اللّه فأمره أن يعرض على الأرض والجبال فكلاهما أبيا ثم أمره أن يعرض على ولده فقبل بالشرط إنه كان ظلوماً جهولاً لعاقبة ما تقلده يعني المتقبل الذي تقبله منه وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال الأمانة ثلاث في الصلاة والصيام والجنابة ٧٣ثم قال عز وجل: { لّيُعَذّبَ ٱللّه ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ} يعني: عرضنا الأمانة على الإنسان لكي يعذب اللّه المنافقين والمنافقات { وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ} بما خانوا الأمانة { وَيَتُوبَ ٱللّه عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} بما أوفوا الأمانة { وَكَانَ ٱللّه غَفُوراً رَّحِيماً} وكان صلة في الكلام يعني واللّه غفور لذنوب المؤمنين رحيم بهم وروى سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: قال أبي بن كعب: كانت سورة الأحزاب لتقارب سورة البقرة أو أطول منها وكان فيها آية الرجم قلت يا أبا المنذر وما آية الرجم فقال إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من اللّه العزيز الحكيم واللّه أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وسلم. |
﴿ ٠ ﴾