سورة سبأمكية وهي خمسون وأربع آيات ١قول اللّه تعالى: { ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ} من الخلق { وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلآخِرَةِ} يعني: يحمده أهل الجنة ويقال: يحمدونه في ستة مواضع أحدها حين نودي { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ} [يس: ٥٩] فإذا تميز المؤمنون من الكافرين يقولون { ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِى نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} [المؤمنون: ٢٨] كما قال نوح - عليه السلام - حين أنجاه اللّه عز وجل من قومه، والثاني حين جازوا الصراط قالوا { ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِىۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ} [فاطر: ٣٤] والثالث لما دنوا إلى باب الجنة واغتسلوا بماء الحيوان، ونظروا إلى الجنة وقالوا { ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا} [الأعراف: ٤٣] والرابع لما دخلوا الجنة استقبلتهم الملائكة - عليهم السلام - بالتحية فقالوا { ٱلْحَـمْدُ للّه ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ} [الزمر: ٧٤] الآية، والخامس: حين استقروا في منازلهم وقالوا { ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِىۤ... أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} [فاطر: ٣٤-٣٥] والسادس كلما فرغوا من الطعام قالوا: { ٱلْحَمْدُ للّه رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢] وقال بعضهم إنها الذي استوجب الحمد في الآخرة كما استوجب الحمد في الدنيا ثم قال { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ} حين حكم بالبعث { ٱلْخَبِيرُ} يعني: العليم بهم ٢ثم قال عز وجل: { يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ٱلأَرْضِ} يعني: ما يدخل في الأرض من المطر والأموات والكنوز { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات والكنوز والأموات { وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاء} من مطر أو وحي أو رزق أو مصيبة { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يعني يصعد إلى السماء من الملائكة، وأعمال بني آدم { وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ} بخلقه { ٱلْغَفُورُ} بستر الذنوب وتأخير العذاب عنهم. ٣قوله عز وجل: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى} قسم أقسم به يعني: بلى واللّه ، قوله { لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ} قرأ ابن عامر ونافع عـالم بالضم جعله رفعاً بالابتداء، وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وعاصم عالم الغيب بكسر الميم وهو صفة للّه تعالى وهو قوله { ٱلْحَمْدُ للّه } ويقال ردّه إلى حرف القسم وهو قوله تعالى { قُلْ بَلَىٰ وَرَبّى عَـٰلِمُ} وقرأ حمزة والكسائي علام الغيب، وهو على المبالغة في وصف اللّه عز وجل بالعلم ويقال من قرأ عالم الغيب بالضم فهو على المدح، ومعناه هو عالم الغيب، ويقال: هو على الابتداء وخبره { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} قرأ الكسائي لا يعزِب بكسر الواو وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد أي لا يغيب عنه { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني: وزن ذرة صغيرة والذرة النملة الصغيرة الحمراء، ويقال: التي ترى في شعاع الشمس { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ} يعني: قد بيّن اللّه عز وجل في اللوح المحفوظ ٤{ لِيَجْزِىَ} يعني: لكي يثيب { ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} بأعمالهم في الدنيا { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي ثواب حسن في الجنة ٥قوله عز وجل { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِى ءايَـٰتِنَا} يعني: عملوا في القرآن { مُعَـٰجِزِينَ} يعني: متسابقين ليسبق كل واحد منهم بالتكذيب قرأ أبو عمرو وإبن كثير معجزين أي مثبطين يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن و { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٍ} قرأ إبن كثير وعاصم في رواية حفص أليم بضم الميم وكذلك في الجاثية جعلاه من نعت العذاب يعني: عذاب أليم من رجز على معنى التقديم يعني: عذاب شديد وقرأ الباقون بالكسر فيكون صفة للرجز يعني: عذاب من العذاب الأليم. ٦قال عز وجل: { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ} يعني: أي يعلم الذين أوتوا العلم وهذا روي في قراءة ابن مسعود يعني به مؤمني أهل الكتاب يعني: إنهم يعلمون أن { ٱلَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} يعني: القرآن { هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِى} يعني: يدعو ويدل { إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ} يعني: إلى طريق الرب العزيز بالنقمة لمن لم يجب الرسل الحميد في فعاله ٧قوله عز وجل: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: كفار أهل مكة { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ} يعني: قال بعضهم لبعض هل ندلكم على رجل { يُنَبّئُكُمْ} يعني: يخبركم { إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} يعني: يخبركم أنكم إذا متم وتفرقتم في الأرض وأكلتكم الأرض كل ممزق يعني: وكنتم تراباً { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني: بعد هذا كله صرتم خلقاً جديداً ٨قوله عز وجل { ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِبًا} يعني: قالوا إن الذي يقول إنكم لفي خلق جديد اختلق على اللّه كذباً { أَم بِهِ جِنَّةٌ} يعني: به جنون يقول اللّه { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ} هم كذبوا حين كذبوا بالبعث { فِى ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلْبَعِيدِ} يعني: هم في العذاب في الآخرة والخطأ الطويل في الدنيا عن الحق ثم خوفهم ليعتبروا ٩فقال عز وجل { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ} لأن الإنسان حيثما نظر رأى السماء والأرض قال قتادة إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ} يعني: تغور بهم وتبتلعهم الأرض { أو نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ ٱلسَّمَاء} يعني: جانباً من السماء قرأ حمزة والكسائي {إن نشأ نخسف} أو يسقط، الثلاثة كلها بالياء وقرأ الباقون كلها بالنون فمن قرأ بالياء فمعناه إن يشأ اللّه ومن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه ثم قال عز وجل: { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً} يعني: لعبرة { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} يعني: مقبل إلى طاعة اللّه عز وجل ويقال مخلص القلب بالتوحيد ويقال مشتاق إلى ربه ويقال { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني: أفلم يعلموا أن اللّه خالقهم وخالق السماوات والأرض وهو قادر على أن يخسف بهم إن لم يوحدوا { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً} أي لعلامة لوحدانيتي. ١٠قوله عز وجل: { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدُ مِنَّا فَضْلاً} يعني: أعطيناه النبوة والملك { يٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ} يعني: سبحي مع داود، وأصله في اللغة من الرجوع وإنما سمي التسبيح إياباً لأن المسبح مرة بعد مرة وقال القتبي: أصله التأويب من السير وهو أن يسير النهار كله كأنه أراد أوبي النهار كله بالتسبيح إلى الليل ثم قال { وَٱلطَّيْرَ} وقرىء في الشاذ والطيرُ بالضم، وقراءة العامة بالنصب، فمن قرأ بالضم فهو على وجهين: أحدهما أن يكون نسقاً على أوبي والمعنى يا جبال ارجعي بالتسبيح معه أنت والطير ويجوز أن يكون مرفوعاً على النداء والمعنى أيها الجبال وأيها الطير، ومن قرأ بالنصب فلثلاث معانٍ أحدها لنزع الخافض ومعناه أوبي معه ومع الطير والثاني أنه عطف على قوله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُدُ مِنَّا فَضْلاً} وآتيناه الطير يعني: وسخرنا له الطير والثالث أن النداء إذا كان على أثره إسم فكان الأول بغير الألف واللام والثاني بالألف واللام فإنه في الثاني بالخيار إن شاء نصبه وإن شاء رفعه والنصب أكثر كما قال الشاعر ألاَ يَا زَيْدُ والضَّحَّاكَ سِيْرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمرَ الطَّرِيقِ ورفع زيداً لأنه نداء مفرد ونصب الضحاك بإدخال الألف واللام ثم قال عز وجل { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ} يعني: جعلنا له الحديد مثل العجين ١١{ أَنِ ٱعْمَلْ سَـٰبِغَـٰتٍ} يعني: قلنا له اعمل الدروع الواسعة وكان قبل ذلك صفائح الحديد مضروبة ثم قال { وَقَدّرْ فِى ٱلسَّرْدِ} قال السدي السرد المسامير التي في خلق الدرع وقال مجاهد وقدر في السرد أي لا تدق المسامير فتقلقل في الحلقة ولا تغلظها فتعصمها واجعله قدراً بين ذلك وقال في رواية الكلبي هكذا، وقال بعضهم هذا لا يصح لأن الدروع التي عملها داود - عليه السلام - وكانت بغير مسامير لأنها كانت معجزة له ولو كان محتاجاً إلى المسمار لما كان بينه وبين غيره فرق وقد يوجد من بقايا تلك الدروع بغير مسامير ولكن معنى قوله: { وَقَدّرْ فِى ٱلسَّرْدِ} أي: قدر في نسخها وطولها وعرضها وضيقها وسعتها ويقال: قدر في تأليفه والسرد في اللغة تقدمة الشيء إلى الشيء يأتي منسقاً بعضه إلى أثر بعض متتابعاً ويقال يسرد في الكلام إذا ذكره بالتأليف ومنه قيل لصانع الدروع سراد وزراد تبدل من السين الزاي وروي عن عائشة أنها قالت إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكن سرد الحديث كسردكم: أي لم يتابع في الحديث كتتابعكم ثم قال { وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً} يعني: أدوا فرائضي وقد خاطبه بلفظ الجماعة كما قال: { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ} [المؤمنون: ٥١] وأراد به النبي - صلى اللّه عليه وسلم - خاصة، ويقال: إنه أراد به داود وقومه { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعني: عالم. ١٢قوله عز وجل: { وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ} قرأ عاصم في رواية أبي بكر الريح بالضم وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب فمعناه وسخرنا لسليمان الريح كما اتفقوا في سورة الأنبياء ولسليمان الريح مسخرة تكون رفعاً على معنى الخبر ثم قال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} تسير به الريح عند الغداة مسيرة شهر فتحمله مع جنوده من بيت المقدس إلى اصطخر ورواحها شهر: يعني: تسير به عند آخر النهار سيرة شهر من اصطخر إلى بيت المقدس واصطخر عند بلاد فارس { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ} يعني أجرينا له عين الصفر المذاب يقال تسيل له في كل شهر ثلاثة أيام يعمل بها ما أحب وروى سفيان عن الأعمش قال سيلت له كما سيل الماء، ويقال: جرى له عين النحاس في اليمن وقال شهر بن حوشب جرى له عين النحاس من صنعاء { وَمِنَ ٱلْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني: وسخرنا لسليمان من الجن من يعمل بين يديه { بِإِذْنِ رَبّهِ} يعني: بأمر ربه { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} يعني: من يعصِ سليمان فيما أمره { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ} قال بعضهم: كان معه ملك ومعه سوط من عذاب السعير فإذا خالف سليمان أحد الشياطين ضربه بذلك السوط، وقال مقاتل: يعني: به عذاب الوقود في الآخرة ١٣قوله عز وجل { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} يعني: ما يشاء سليمان { مِن مَّحَـٰرِيبَ} يعني: المساجد ويقال الغرق { وَتَمَـٰثِيلَ} يعني: على صور الرجال من الصفر والنحاس لأجل الهيبة في الحرب وغيره، ويقال ويجعلون صوراً للأنبياء ليستزيد الناس رغبة في الإسلام ثم قال: { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ} يعني: قصاعاً كالحياض الكبيرة ويجلس على القصعة الواحدة ألف رجل أو أقل أو أكثر الجابية في اللغة الحوض الكبير وجماعته جواب قرأ إبن كثير كالجوابي بالياء في الوقف والوصل جميعاً وقرأ أبو عمرو بالياء في الوصل، والباقون بغير ياء فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل ومن حذف فلاكتفائه بكسر الياء قوله: { وَقُدُورٍ رَّاسِيَـٰتٍ} يعني: ثابتات في الأرض لا تزول من مكانها وكان يتخذ القدور من الجبال، قال مقاتل: كان ملكه ما بين مصر وبابل، وقال بعضهم: جميع الأرض ثم قال { ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُدُ شُـكْراً} يعني: يا آل داود لما أعطيتكم من الفضل، ويقال: معناه اعملوا عملاً تؤدوا بذلك شكر نعمتي { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ} والشكور هو المبالغة في الشكر وهو من كان عادته الشكر في الأحوال كلها ومثل هذا في الناس قليل وهذا معنى قوله { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ} وروي عن أبي العالية أنه قال هو شكر الشكر يعني: إذا شكر النعمة يعلم أن ذلك الشكر بتوفيق اللّه عز وجل ويشكر لذلك الشكر وهذا في الناس قليل ١٤ثم قال عز وجل { فلما قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ} يعني: على سليمان - عليه الصلاة والسلام - فكان سليمان يبني في بيت المقدس فرأى أن ذلك لا يتم إلا بالجن فأمرهم بالعمل وقال لأهله لا تخبروهم بموتي فكان قائماً في الصلاة متكئاً على عصاه، وكان سليمان - عليه الصلاة والسلام - يطول الصلاة فكان الجن إذا حضروا رأوه قائماً فرجعوا ويقولون إنه قائم يصلي فيقبلون على أعمالهم، وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال كان سليمان - عليه السلام - إذا مر بشجرة يعني: بشيء من نبات الأرض قال لها ما شأنك فتخبره الشجرة أنها كذا وكذا، ولمنفعة كذا وكذا فيدفعها إلى الناس حتى ينتفعوا بها فمر بشجرة فقال لها ما إسمك يا شجرة فقالت أنا خرنوبة فقال ما شأنك قالت أنا لخراب المسجد فتعصى سليمان منها عصا فكانت الجن يقولون للإنس إنا نعلم الغيب وإن سليمان سأل اللّه عز وجل أن يخفي موته فلما قضى اللّه عز وجل على سليمان الموت لم تدر الجن ولا الإنس ولا أحد كيف مات ولم يطلع أحد على موته والجن تعمل بأشد ما كانوا عليه، حتى خرّ سليمان - عليه السلام - فنظروا كيف مات فلم يدروا فنظروا إلى العصا فرأوا العصا قد أكلت يعني: قد أكل منها وفي العصا أرضة فنظروا إلى أين أكلت الأرض من العصا فجعلوا له علماً ثم ردوا الأرض فيها فأكلت شهراً ثم نظروا كم أكلت في ذلك الشهر ثم قاسوها بما أكلت من قبل فكان لموته أثني عشر شهراً فتبيّن للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين فقالت الجن: إن لها علينا حقاً يعني: الأرضة فهم يبلغونها الماء فلا يزال لها طينة رطبة فذلك قوله { فلما قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ} { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ} يعني: ما دل على موت سليمان { إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} يعني: الأرضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} يعني: عصاه قرأ نافع وأبو عمرو منساية بلا همز وقرأ الباقون بالهمز فمن قرأ بالهمز فهو من نسأ ينسأ إذا زجر الدابة ثم تسمى عصاه منسأة لأنه يزجر بها الدَّابَة ومن قرأ بغير همز فقد حذف الهمزة للتخفيف وكلاهما جائز { فلما خَرَّ} يعني: سقط - عليه السلام - { تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ} علم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، ويقال: تبينت الجن يعني: ظهر لهم أنهم لو علموا الغيب يعني: { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ} فتفرقوا عن ذلك قرأ حمزة من عبادي الشكور بسكون الياء وقرأ الباقون بالنصب وهما لغتان وكلاهما جائز. ١٥قوله عز وجل: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ} قرىء بالنصب والكسر وقد ذكرناه من قبل فمن قرأ بالكسر والتنوين جعله إسم أب القبيلة ومن قرأ بالنصب جعله أرضاً والأول أشبه لأنه روي عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه سئل عن سبأ فقال { هو اسم رجل } ويقال هو سبأ بن يشخب بن يغرب بن قحطان وروي عن ابن عباس أنه قال هي من قرى اليمن بعث عز وجل ثلاثة عشر نبياً - عليهم السلام - إلى ثلاث عشر قرية باليمن اتبع بعضهم بعضاً حتى اجتمعت الرسل في آل سبأ وقرية أخرى فأتوهم فذكروهم نعم اللّه عز وجل وخوفهم عقابه، وروى أسباط عن السدي قال: كانت أرضهم أرضاً خصيبة وكانت المرأة تخرج على رأسها مكيلاً فلا ترجع حتى تملأ مكتلها من أنواع الفاكهة من غير أن تمد يدها وكان الماء يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يحبس بين جبلين وكانوا قد ردموا ردماً بين جبلين فحبسوا الماء وكان يأتيهم من السيول فيسقون بساتينهم وأشجارهم، ويقال: كان لهم وادي وكان للوادي ثلاث درفات فإذا كثر الماء فتحوا الدرفة العليا، وإذا انتقص فتحوا الدرفة الوسطى، وإذا قل الماء فتحوا الدرفة السفلى فأخصبوا وكثرت أموالهم واتخذوا من الجنان ما شاؤا فلما أحبوا ذلك وكذبوا رسلهم بعث اللّه عز وجل عليهم جرذاً فنقب ذلك الردم بجنب بستان رجل منهم يقال له عمران بن عامر وهو أب الأنصار والأزد وغسان وخزاعة ويسمون المنسأة العرم فدخل البستان فإذا هو ينقب العرم وقد سال فأمر به فسد ثم نظر إلى الجرزة تنقل أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه وكان كاهناً فقال ما تنقل هذه الجرزة أولادها من أصل الجبل إلى أعلاه إلا وقد حضر هلاك هذه البلدة فدعى إبن أخ له فقال إذا رأيتني جلست في جماعة قومي فائتني فقل أي عم أعطني ميراثي من أبي فإني سأقول وهل ترك أبوك شيئاً فاردد علي وكذبني فإذا كذبتني فإني سألطمك فالطمني فقال أي عم ما كنت لأفعل هذا بك، قال: بلى، فلما رأى لعمه في ذلك هوى قال أفعل ما تأمرني، ففعل، فقال عمران بن عامر للّه علي كذا وكذا أن أسكن هذه البلاد من يشتري ما لي فلما عرفوا منه الجد قال هذا أعطيك كذا فنظر إلى أجودهم صفقة فقال عجل إلى مالي فقد حلفت أن لا أبيت بها فعجل إليه ماله وارتحل من يومه حتى شخص عنهم فاتسع ذلك الخرق حتى انهدم وغرق بلادهم وتفرقوا في البلدان فذلك قوله لقد كان لسبأ { فِى مَسْكَنِهِمْ} قرأ الكسائي في مسكنهم بكسر الكاف والنون وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص مسكنهم بنصب الكاف وكسر النون وقرأ الباقون مساكنهم بالألف والمسكن بنصب الكاف وكسره واحد، وهما لغتان مثل مطلع ومطلع والمساكين جمع مسكين وقد قيل المسكن جمع المساكين لقد كان في منازلهم وقرياتهم { ءايَةً} أي علامة ظاهرة لوحدانيتي { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} يعني بستانان عن يمين الوادي وعن شماله وإنما أراد بالبستان البساتين ويقال بساتين عن يمين الطريق وبساتين عن شماله فأرسل اللّه تعالى إليهم الرسل فذكروهم النعم فقيل لهم { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ} يعني من فضل ربكم { وَٱشْكُرُواْ لَهُ} فيما رزقكم { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ} يعني: هذه بلدة طيبة لينة بلا سبخة { وَرَبٌّ غَفُورٌ} لمن تاب من الشرك ١٦{ فَأَعْرِضُواْ} عن الإيمان وقالوا: من ذا الذي يأخذ منا النعم { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ} والعرم هو اسم لذلك الوادي، ويقال: اسم للمنشأة، ويقال: هو اسم للفأرة التي قرضت النهر حتى سال عليهم الماء وجرى في بساتينهم وفي بيوتهم فخربها، وندت أنعامهم، وأخذ كل واحد منهم بيد ولده وامرأته فصعدوا بهم الجبل فذلك قوله تعالى: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} يعني أبدلهم اللّه تعالى مكان الفاكهة ذواتي أكل خمط أي الأراك { وَأَثْلٍ} يعني الطرفاء { وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} والسدر كانوا يستظلون في ظله ويأكلون من ثمره قرأ أبو عمرو (أُكُلِ) بكسر اللام بغير تنوين وقرأ الباقون بالتنوين فمن قرأ بالتنوين أراد ذواتي ثمر يؤكل ثم قال خمط بدلاً من أكل، والمعنى ذواتي خمط وأكله ثمرة، ومن قرأ بغير تنوين أضاف الأكل إلى الخمط، والخمط هو الأراك في اللغة المعروفة وقال بعضهم كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط ١٧ثم قال { ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم} يعني ذلك الذي أصابهم عقوبة لهم عاقبناهم { بِمَا كَفَرُواْ} أي بكفرهم { وَهَلْ نُجازي إِلاَّ ٱلْكَفُورَ} يعني وهل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة اللّه تعالى ويقال الكفور الكافر، قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وهل نجازي بالنون وكسر الزاى إلا الكفور بالنصب وقرأ الباقون يجازي بالياء وفتح الزاي إلا الكفور بالضم، فمن قرأ بالنون فهو على معنى الإضافة إلى نفسه والكفور بنصب لوقوع الفعل عليه، ومن قرأ يجازي بالياء فهو على فعل ما لم يسم فاعله، يعني هل يعاقب بمثل هذه العقوبة إلا الكفور بنعمة اللّه تعالى ويقال هل يجازي اللّه ومعنى الآية أن المؤمن من يكفر عنه السيئات بالحسنات، وأما الكافر فإنه يحبط عمله كله فيجازى بكل سوء يعمله كما قال تعالى: { أَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ} [محمد: ١] أي: أبطل أعمالهم وأحبطها فلم ينفعهم منها شيء وهذا معنى قوله: (وَهَلْ يُجَازَى إِلاَّ الْكَفُورْ). ١٨قال عز وجل: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} قال في رواية الكلبي إنهم قالوا للرسل إنا قد عرفنا نعمة اللّه علينا فواللّه لئن يرد اللّه فيئتنا وجماعتنا والذي كنا عليه لنعبدنه عبادة لم يعبدها إياه قوم قط فدعت لهم الرسل ربهم فرد اللّه لهم ما كانوا عليه وأتاهم نعمة وجعل لهم من أرضهم إلى أرض الشام قرى متصلة بعضها إلى بعض فذلك قوله وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها { قُرًى ظَـٰهِرَةً} ثم عادوا إلى الكفر فأتاهم الرسل فذكروهم نعمة اللّه فكذبوهم فمزقهم اللّه كل ممزق وقال غيره { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} هذا حكاية عما كانوا فيه من قبل أن يرسل عليهم سيل العرم قرى ظاهرة يعني متصلة على الطريق من حيث يرى بعضها من بعض { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ} للمبيت والمعيل من قرية إلى قرية { سِيرُواْ فِيهَا} يعني ليسيروا فيها، اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الشرط والجزاء فلم يشكروا ربهم فسألوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } ١٩{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَـٰعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وقد كانوا في قراهم آمنين منعّمين فذلك قوله: { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} يعني أنهم كانوا يسيرون من قرية إلى قرية بالليل والنهار آمنين من الجوع والعطش واللصوص والسباع، قرأ إبن كثير وأبو عمرو بعد بغير ألف وتشديد العين وقرأ الباقون باعد بالألف، وهما لغتان بَعّدَ باعد، وقرأ يعقوب الخضرمي وكان من أهل البصرة ربُنا بضم الباء باعَد بنصب العين وهو على معنى الخبر، وروى الكلبي عن أبي صالح أنه قرأ هكذا معناه ربنا باعد بين أسفارنا فلذلك لا ينصب ثم قال { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالشرك وتكذيب الأنبياء { فَجَعَلْنَـٰهُمْ أَحَادِيثَ} يعني أهلكهم اللّه تعالى فصاروا أحاديث للناس يتحدثون في أمرهم وشأنهم لم يبق أحد منهم في تلك القرى { وَمَزَّقْنَـٰهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرقناهم في كل وجه فألقى اللّه الأزد بعمان الأوس والخزرج بالمدينة وهما أخوان وأهل المدينة كانوا من أولادهما إحدى القبيلتين الخزرج والأخرى الأوس فسموا بإسم أبيهم وخزاعة بمكة كانوا بنو خزاعة منهم لخم وجذام بالشام، ويقال: كلب وغسان { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: في هلاكهم وتفريقهم لعبرات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} يعني للمؤمنين الذين صبروا على طاعة اللّه تعالى وشكروا نعمته ٢٠قوله عز وجل: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} يعني على أهل سبأ، ويقال: هذا ابتداء يعني جميع الكفار وذلك أن إبليس قد قال: { لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [ص: ٨٢-٨٣] فكان ذلك ظناً منه فصدق ظنه { فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً} يعني طائفة { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} وهم الذين قال اللّه تعالى{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ} [الحجر: ٤٢] وقال سعيد بن جبير: كان ظنه أنه قال أنا ناري وآدم طيني، والنار تأكل الطين وكذا روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه قرأ إبن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ولقد صدق بالتخفيف يعني صدق في ظنه وقرأ الباقون صدق بالتشديد يعني صار ظنه صدقاً ٢١قوله عز وجل { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ} يعني لم يكن له عليهم ملك فيقهرهم ويقال يعني ما سلطناه عليهم إلا لنختبرهم من الذي يطيعنا، وقال الحسن البصري رحمه اللّه واللّه ما ضربهم بعصاً ولا أكرههم على شيء وما كان إلا غروراً وأماني دعاهم إليها فأجابوه، وقال قتادة واللّه ما كان ظنه إلا ظناً فنزل الناس عند ظنه وقال معمر قال لي مقاتل: إن إبليس لما أنزل آدم - عليه السلام - ظن أن في ذريته من سيكون أضعف منه فصدق عليهم ظنه، فإن قيل في آية أخرى{ إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: ١٠٠] وهاهنا يقول { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَـٰنٍ} قيل له أراد بالسلطان هناك الحجة يعني إنما حجته على الذين يتولونه وهاهنا أراد به الملك والقهر يعني لم يكن له عليهم ملك يقهرهم به، ويقال: معنى الآيتين واحد لأن هناك قال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا، وهاهنا قال: وما كان له عليهم من سلطان يعني حجة على فريق من المؤمنين إلا بالتزين والوسوسة منه { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ} يعني نميز من يصدق بالبعث ممن هو في شك يعني من قيام الساعة وقال القتبي: علم اللّه نوعان: أحدهما: علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين من قبل أن يكون، وهذا علم لا يجب به حجة ولا عقوبة والآخر علم الأمور الظاهرة فيحق به القول ويقع بوقوعها الجزاء يعني: ما سلطانه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهراً موجوداً وكفر الكافرين ظاهراً موجوداً وكذلك قوله:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللّه ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ} [آل عمران: ١٤٢] الآية ثم قال عز وجل: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ} يعني عالماً بالشك واليقين، ويقال: عالم بقولهم، ويقال: عالم بما يكون منهم قبل كونه، ويقال: حفيظ يحفظ أعمالهم ليجازيهم. ٢٢قال عز وجل: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم} يعني قل لكفار مكة ادعو الذين زعمتم { مِنْ دُونِ ٱللّه } أنهم آلهة فيكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع يعني الأصنام ويقال: الملائكة - عليهم السلام - { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} يعني نملة صغيرة { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأَرْضِ} يعني إذا كان حالهم هذا فمن أين جعلوا لهم الشركة في العبادة ثم قال { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} يعني في خلق السماوات والأرض من عون ويقال ما لهم فيها من نصيب { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ} يعني معين من الملائكة الذين يعبدونهم ثم ذكر أن الملائكة لا يملكون شيئاً من الشفاعة ٢٣فقال عز وجل { وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ} يعني لا تنفع لأحد لا نبياً ولا ملكاً { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أن يشفع لأحد من أهل التوحيد قرأ نافع وإبن كثير وابن عامر في إحدى الروايتين إلا لمن أذن له بالنصب يعني حتى يأذن اللّه عز وجل له قرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله ومعناه مثل الأول ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خروا سجداً من مخافة اللّه عز وجل وكيف يعبدون من هذه حاله وكذلك قوله { حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} وذلك أن أهل السموات لم يكونوا سمعوا صوت الوحي بين عيسى ومحمد - عليهما السلام - فسمعوا صوتاً كوقع الحديد على الصفا (فخروا سجداً مخافة القيامة) وذلك صوت الوحي ويقال: صوت نزول جبريل - عليه السلام - فخروا سجداً مخافة القيامة، فهبط جبريل - عليه السلام - على أهل كل سماء فذلك قوله { حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} وذكر عن بعض أهل اللغة أنه قال إذا كانت حتى موصولة بإذا تكون بمعنى لما تقع موقع الابتداء كقوله عز وجل: { حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} [المؤمنون: ٧٧] كقوله حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج { حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} يعني لما فزع عن قلوبهم ومعناه انجلاء الفزع عن قلوبهم فقاموا عن السجود وسأل بعضهم بعضاً { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} يعني ماذا قال جبريل - عليه السلام - عن ربكم { قَالُواْ ٱلْحَقَّ} يعني الوحي قال حدثنا الفقيه أبو الليث رحمه اللّه قال حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا الدبيلي قال حدثنا أبو عبد اللّه قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال: { إذا قضى اللّه في السماء أمراً ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله وسمع لذلك صوت كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا: الحق الذي قال فسيحي الشياطين بعضهم فوق بعض فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته وربما أدركه الشهاب قبل أن ينبذها، وربما نبذها قبل أن تدركه فينبذها بعضهم إلى بعض حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على لسان الكاهن والساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقول أليس قد أخبر بكذا وكذا وكان حقاً وهي الكلمة التي سمع من السماء } قرأ ابن عامر حتى إذا فزع بنصب الفاء والزاي يعني كشف اللّه الفزع وقرأ الباقون بضم الفاء على معنى ما لم يسم فاعله، وقرأ الحسن حتى إذا فزع بالواو والغين يعني فرغ الفزع عن قلوبهم، وقراءة العامة بالزاي أي خفف عنها الفزع وقال مجاهد معناه حتى إذا كشف عنها الغطاء يوم القيامة ثم قال { وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ} يعني هو أعلى وأعظم وأجلّ من أن يوصف له شريك. ٢٤قوله عز وجل { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ} يعني المطر والنبات فإن أجابوك وإلا { قُلِ ٱللّه } يعني اللّه يرزقكم من السماوات والأرض { وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ} يعني قل لهم أحدنا { لَعَلَىٰ هُدًى} والأخرى على الضلال، يعني إنا على الهدى وأنتم على الضلالة وهذا كرجل يقول لأخر أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه أراد به صاحبه، ويقال في الآية تقديم يعني وإنا على الهدى وإياكم { أو فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} ٢٥ثم قال عز وجل: { قُل لاَّ تُسْـئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} يعني لا تسألون عن جرم أعمالنا { وَلاَ نُسْـئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يعني لا نسأل عن جرم أعمالكم ويقال لا تؤخذون بجرمنا ولا نؤخذ بجرمكم ٢٦قوله عز وجل { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} يعني يوم القيامة نحن وأنتم { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقّ} يعني بالعدل { وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ} القابض العليم بما يقضي ٢٧{ قُلْ أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء} أروني آلهتكم الذين تعبدون من دون اللّه وتزعمون أنها له شركاء أي ماذا خلقوا في السموات والأرض من الخلق { كَلاَّ} يعني ما خلقوا شيئاً { بَلْ هُوَ ٱللّه } خالق كل شيء { ٱلْعَزِيزُ} في ملكه { ٱلْحَكِيمُ} في أمره ٢٨قوله عز وجل { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} أي عامة للناس { بَشِيراً} وروى خالد الحذاء عن قلابة عن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي بعثت إلى كل أحمر وأسود فليس أحد من أحمر وأسود يدخل في أمتي إلا كان منهم، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وجعلت فاتحاً وخاتماً وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتنا الصلاة صلينا وإن لم نجد ماء تيممنا وأطعمنا غنائمنا ولم يطعمها أحد كان قَبلنا كانت قربانهم تأكله النار ثم قال {بشيراً وَنَذِيراً} يعني بشيراً بالجنة لمن أطاعه ونذيراً بالنار لمن عصاه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني لا يصدقون بالجنة ولا بالنار ٢٩{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ} يعني البعث { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} يعني إن كنت صادقاً ويقال: إن كنت رسول اللّه ٣٠قوله عز وجل { قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} يعني ميقاتاً في العذاب، ويقال: ميعاداً في البعث والعذاب { لاَّ تَسْتَـئَخِرُونَ عَنْهُ} يعني عن الميعاد والعذاب { سَاعَةِ} يعني قدر ساعة { وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} قبل الأجل، ويقال: معناه أنا قادر اليوم على عذابهم، ولكن أؤخرهم في الوعد الذي كتب لهم في اللوح المحفوظ. ٣١قوله تعالى: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَلاَ بِٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة والإنجيل يعني لا نصدق بذلك كله فحكى اللّه قولهم ثم ذكر عقوبتهم في الآخرة فقال { وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ} يعني لو رأيت يا محمد الظالمين يوم القيامة { مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} يعني محبوسين في الآخرة { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ} يعني يرد بعضهم بعضاً الجواب ثم أخبر عن قولهم فقال { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} وهم السفلة والاتباع { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ} يعني القادة والرؤساء { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} يعني لولا دعوتكم وتعريفكم إيانا لكنا مصدقين قوله عز وجل ٣٢{ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ} يعني القادة { لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} وهم الاتباع { أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ} يعني أنحن منعناكم عن الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ} به الرسول { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} يعني مشركين قوله عز وجل ٣٣{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} يعني ردت الضعفاء عليهم الجواب وقالوا { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ} يعني قولكم لنا بالليل والنهار واحتيالكم بالدعوة إلى الشرك { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِٱللّه } يعني نجحد بوحدانية اللّه { وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} يعني نقول له شركاء { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ} يعني أخفوا الحسرة ويقال اظهروا الندامة والحسرة { لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلَـٰلَ} يعني نجعل الأغلال يوم القيامة { فِى أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} من الرؤساء والسفلة { هَلْ يُجْزَوْنَ} يعني هل يثابون في الآخرة { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا قوله عز وجل ٣٤{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ} يعني من رسول { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} يعني جبابرتها ورؤساؤها للرسل { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ} يعني جاحدون بالتوحيد والمترف المتنعم وإنما أراد به المتكبرين ٣٥{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰداً} في الدنيا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} في الآخرة ومعناه أن الكفار المتقدمين استخفوا بالفقراء وآذوا الرسل كما يفعل بك قومك وافتخروا بما أعطاهم اللّه عز وجل من الأموال كما افتخر قومك وأمره بأن يأمرهم بأن لا يفتخروا بالمال فإن اللّه تعالى يعطي المال لمن يشاء ٣٦وهو قوله عز وجل: { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَاء } أي يوسع المال لمن يشاء وهو مكر منه واستدراج { وَيَقْدِرُ } يعني يقتر على من يشاء وهو نظر له لكي يعطى في الآخرة من الجنة بما قتر عليه في الدنيا { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن التقتير والبسط من اللّه عز وجل، ويقال: لا يصدقون أن الذين اختاروا الآخرة خير من الذين اختاروا الدنيا ثم أخبر اللّه تعالى أن أموالهم لا تنفعهم يوم القيامة فقال عز وجل ٣٧{ وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } يعني قربة، ومعناه وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا ولو كان على سبيل الجمع لقال بالذين يقربونكم لأن الحكم للآدميين إذا اجتمع معهم غيرهم ثم قال { إِلاَّ مَنْ آمَنَ } يعني إلا من صدق باللّه ورسوله { وَعَمِلَ صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } يعني للواحد عشرة إلى سبع مائة، وإلى ما لا يحصى وقال القتبي: أراد بالضعف التضعيف أي لهم جزاء وزيادة، قال: ويحتمل جزاء الضعف أي جزاء الأضعاف كقوله: { عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ} [ص: ٦١] أي مضافاً وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إن الغني إذا كان تقياً يضاعف اللّه له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية { وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ } إلى قوله: { فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاء ٱلضّعْفِ } يعني أجره مِثْلَيْ ما يكون لغيره، ويقال هذا لجميع من عمل صالحاً { وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ } قرأ حمزة وهم في الغرفة وقرأ الباقون وهم في الغرفات والغرفة في اللغة: كل بناء يكون علواً فوق سفل، وجمعه غرف وغرفات، ومعناه وهم في الجنة آمنون من الموت والهرم والأمراض والعدو وغير ذلك من الآفات ٣٨ثم قال عز وجل { وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءايَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِينَ } والقراءة قد ذكرناها { أُوْلَـئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } يعني في النار معذبون ٣٩{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } وقد ذكرناه { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء } يعني ما تصدقتم من صدقة { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } يعني فإن اللّه يعطي خلفه في الدنيا وثوابه في الآخرة { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرزِقِينَ } يعني أقوى المعطين وروى أبو الدرداء عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أنه قال ( ما طلعت شمس ولا غربت شمس إلا بعث بجنبيها ملكان يناديان اللّهم عجل لمنفق ماله خلفاً وعجل لممسك ماله تلفاً ) ٤٠ثم قال عز وجل { ويوم يحشرهم جميعا } يعني الملائكة عليهم السلام ومن عبدهم قرأ بعضهم من أهل البصرة { يحشرهم } بالياء يعني يحشرهم اللّه عز وجل وقراءة العامة بالنون على معنى الحكاية عن نفسه { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } يعني أنتم أمرتم عبادي أن يعبدوكم وهذا سؤال توبيخ كقوله لعيسى عليه السلام ٤١{ ءأنت قلت للناس اتخذوني } [ المائدة ١١٦ ] الآية { قالوا سبحانك } فنزهت الملائكة ربها عن الشرك وقالوا { سبحانك } يعني تنزيها لك { أنت ولينا من دونهم } ونحن براء منهم من أن نأمرهم أن يعبدونا { بل كانوا يعبدون الجن } يعني أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا { أكثرهم بهم مؤمنون } يعني مصدقين الشياطين مطيعين لها ٤٢يقول اللّه تعالى { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا } يعني شفاعة { ولا ضرا } يعني ولا دفع الضر عنهم { ونقول للذين ظلموا } يعني كفروا في الدنيا يعني يقال لهم في الآخرة { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } إنها غير كائنة ٤٣ثم أخبر عن أفعالهم في الدنيا فقال عز وجل { وإذا تتلى } يعني تقرأ وتعرض { عليهم آياتنا بينات } بالأمر والنهي والحلال والحرام { قالوا } ما نعرف هذا { ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم } يعني يصرفكم { عما كان يعبد آباؤكم } من عبادة الأصنام { وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى } يعني كذبا مختلقا { وقال الذين كفروا للحق } يعني القرآن { لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين } يعني كذب بين ٤٤ثم قال عز وجل { وما آتيناهم } يعني وما أعطيناهم { من كتب يدرسونها } يعني يقرؤونها وفيها حجة لهم بأن مع اللّه شريكا { وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير } يعني من رسول في زمانهم ٤٥{ وكذب الذين من قبلهم } يعني من قبل قومك رسلهم كما كذبك قومك { وما بلغوا } يعني ما بلغ قومك { معشار ما آتيناهم } يعني ما بلغ أهل مكة عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والقوة فأهلكتهم بالعذاب حين { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم وإيش خطر هؤلاء بجنب أولئك فاحذروا مثل عذابهم ٤٦ثم قال عز وجل { قل إنما أعظكم بواحدة } يعني بكلمة واحدة ويقال بخصلة واحدة { أن تقوموا للّه } بالحق { مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } يعني آمركم بالإنصاف أن تتأملوا حق التأمل وتتفكروا في أنفسكم هل لهذا الرجل الذي يدعوكم إلى خالقكم وخالق السموات والأرض هل رأيتم به جنونا ثم قال { ما بصاحبكم من جنة } يعني من جنون وقال القتبي تأويله أن المشركين لما قالوا إنه ساحر ومجنون وكذاب فقال اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم قل لهم اعتبروا أمري بواحدة أن تنصحوا لأنفسكم ولا يميل بكم هوى فتقوموا للّه في دار يخلو فيها الرجل منكم بصاحبه فيقول لهم هلم فلنتصادق هل رأينا بهذا الرجل جنة أم جربنا عليه كذبا ثم ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه فيتفكروا وينظروا فإن ذلك يدل على أنه نذير قال وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم أخرجه من الحيرة أن يسأل ويناظر فيه ثم يتفكر ويعتبر ثم قال { إن هو إلا نذير لكم } أي ما هو إلا مخوف لكم { بين يدي عذاب شديد } أي بين يدي القيامة ٤٧ثم قال عز وجل { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر كفار مكة أن لا يؤذوا قراباته فكفوا عن ذلك ونزل { قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } [ الشورى ٢٣ ] فكفوا عن ذلك ثم سمعوا بذكر آلهتهم فقالوا لا تنظرون إليه ينهانا عن إيذاء قرابته وسألناه أن لا يؤذينا في آلهتنا فلا يمتنع فنزل { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } إن شئتم آذوهم وإن شئتم امتنعتم { إن أجري إلا على اللّه } فهو الحافظ والناصر { وهو على كل شيء شهيد } بأني نذير وما بي جنون ٤٨ثم قال عز وجل { قل إن ربي يقذف بالحق } يعني يبين الحق من الباطل ويقال يأمر بالحق ويقال يتكلم بالحق يعني بالوحي { علام الغيوب } يعني هو عالم كل غيب ٤٩قوله عز وجل { قل جاء الحق } يعني ظهر الإسلام { وما يبدئ الباطل } يعني لا يقدر الشيطان أن يخلق أحدا { وما يعيد } يعني لا يقدر أن يحييه بعد الموت واللّه تعالى يفعل ذلك ويقال { الباطل } أيضا الصنم وروى ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول { جاء الحق وزهق الباطل } { قل جاء الحق } { وما يبدي الباطل وما يعيد } ٥٠قوله عز وجل { قل } يا محمد { إن ضللت فإنما أضل على نفسي } يعني وزر الضلال على نفسي { وإن اهتديت } إلى الحق والهدى { فبما يوحي إلي ربي } يعني اهتديت بما يوحي إلي من القرآن { إنه سميع } للدعاء { قريب } بالإجابة ممن دعاه وقيل للنابغة حين أسلم أصبوت يعني آمنت بمحمد صلى اللّه عليه وسلم قال بلى هو غلبني بثلاث آيات من كتاب اللّه عز وجل فأردت أن أقول ثلاثة أبيات من الشعر على قافيتها فلما سمعت هذه الآيات فعييت فيها ولم أطق فعلمت أنه ليس من كلام البشر وهي هذه { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب } { قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } ٥١قوله عز وجل { ولو ترى إذ فزعوا } يعني خافوا من العذاب { فلا فوت } يعني فلا نجاة لهم منها { وأخذوا من مكان قريب } روي عن الكلبي أنه قال نزلت الآية في قوم يقال لهم السفيانية يخرجون في آخر الزمان عددهم ثلاثون ألف رجل إلى أن يبلغوا أرض الحجاز فافترقوا فرقتين فتقدمت فرقة إلى موضع يقال له بيداء صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فخسف بهم الأرض كلهم إلا واحدا منها ينجو فيحول وجهه إلى خلفه فيرجع إلى الفرقة الأخرى فيخبرهم بما أصابهم يعني ولو ترى يا محمد فزعهم حين صاح بهم جبريل عليه السلام { فلا فوت } أي لا يفوت منهم فائت { وأخذوا من مكان قريب } يعني خسف بهم بالبيداء بقرب مكة ويقال يعني يوم القيامة { ولو ترى } يا محمد { إذ فزعوا } حين نزل بهم العذاب يوم القيامة { فلا فوت وأخذوا من مكان قريب } كما قال { وبرزت الجحيم } [ النازعات ٣٦ ] وقال الحسن { ولو ترى إذ فزعوا } من قبورهم يوم القيامة وقال الضحاك يعني يوم بدر ٥٢ثم قال عز وجل { وقالوا آمنا به } يعني بالعذاب حين رأوه يقول اللّه تعالى { وأنى لهم التناوش } يعني من أين لهم التوبة ويقال من أين لهم الرجفة قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في إحدى الروايتين { التناؤش } بالهمز وقرأ الباقون بغير همز فمن قرأ بالهمز فهو من التناوش وهو الحركة في إبطاء والمعنى من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم ومن قرأ بغير همز فهو من التناول ويقال تناول إذا مد يده إلى شيء ليصل إليه وتناوش يده إذا مد يده إلى شي لا يصل إليه ثم قال { من مكان بعيد } يعني من الآخرة إلى الدنيا وروي عن ابن عباس أنه قال { من مكان بعيد } قال سألوا الرد حين لا رد ٥٣ثم قال عز وجل { وقد كفروا به من قبل } يعني كفروا باللّه من قبل الموت ويقال { به } يعني بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويقال بالقرآن { ويقذفون بالغيب } يعني يتكلمون بالظن في الدنيا { من مكان بعيد } أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ٥٤ثم قال { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } يعني من الرجعة إلى الدنيا ويقال من التوبة كيف ينالون التوبة في هذا الوقت وقد كفروا به من قبل ثم قال { كما فعل بأشياعهم من قبل } يعني بأهل دينهم الأقدمون الأولون من قبل والأشياع جمع الجمع يقال شيعة وشيع وأشياع ثم قال { إنهم كانوا في شك مريب } يعني هم في شك مما نزل بهم { مريب } يعني إنهم لا يعرفون شكهم وقال القتبي في قوله { فلا فوت } يعني لا مهرب ولا ملجأ وهذا مثل قوله { فنادوا ولات حين مناص } [ ص ٣] أي نادوا حين لا مهرب واللّه أعلم |
﴿ ٠ ﴾