سورة فاطر

مكية وهي أربعون وخمس آيات

١

قوله اللّه سبحانه وتعالى { الحمد للّه فاطر السموات والأرض } يعني خالق السموات والأرض يقال فطر الشيء إذا بدأه قال ابن عباس رضي اللّه عنه ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها يعني بدأتها { جاعل الملائكة رسلا } يعني مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين عليهم السلام { أولي أجنحة } يعني ذوي أجنحة ولفظ { أولي } يستعمل في الجماعة ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو

ثم قال { مثنى وثلاث ورباع } يعني من الملائكة من له جناحان ومنهم من له ثلاثة أجنحة ومنهم من له أربعة أجنحة

ويقال { ثلاث } معدول من ثلاثة ثلاثة يعني ثلاثة ثلاثة { ورباع } معدول من أربعة أربعة يعني أربعة أربعة

ثم قال { يزيد في الخلق ما يشاء } يعني يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء

وروي عن ابن شهاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال له جبريل إنك لا تطيق ذلك فقال ( إني أحب أن تفعل ) فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رآه ثم أفاق وجبريل عليه السلام يسنده واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( سبحان اللّه ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا ) فقال جبريل فكيف لو رأيت إسرافيل إن له اثني عشر جناحا منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وأن العرش لعلى كاهله وإنه لينضال بالأحايين لعظمة اللّه فيعود مثل الوضع يعني عصفورا حتى لا يحمل عرشه إلا عظمته فذلك قوله تعالى { يزيد في الخلق ما يشاء } يعني في خلق الملائكة

ويقال { يزيد في الخلق ما يشاء } يعني الشعر الحسن والصوت الحسن

ويقال { يزيد في الخلق ما يشاء } يعني في الجمال والكمال والدماثة

ثم قال { إن اللّه على كل شيء قدير } من الزيادة والنقصان وغيره

٢

ثم قال عز وجل { ما يفتح اللّه للناس من رحمة } يعني ما يرسل اللّه للناس من رزق كقوله { ابتغاء رحمة من ربك } [ الإسراء ٢٨ ] ويقال الغيث

ويقال { من رحمة } يعني من كل خير { فلا ممسك لها } يعني لا يقدر أحد على حبسها { وما يمسك } يعني ما يحبس من رزق { فلا مرسل له من بعده } يعني فلا معطي أحد بعد اللّه عز وجل قال في أول الكلام { فلا ممسك لها } بلفظ التأنيث لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة

ثم قال { فلا مرسل له } بلفظ التذكير لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير لجاز حذف ما

ثم قال { وهو العزيز } فيما أمسك { الحكيم } فيما أرسل

٣

قوله عز وجل { يا أيها الناس اذكروا نعمة اللّه عليكم } يعني احفظوا نعمة اللّه عليكم ثم ذكر النعمة فقال { هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء والأرض } يعني النبات والمطر

قرأ حمزة والكسائي { غير اللّه } بكسر الراء وقرأ الباقون بالضم مثل ما في سورة الأعراف والاستثناء إذا كان بحرف إلا فإن الإعراب يكون على ما بعده وإذا كان الاستثناء بحرف غير فإن الإعراب يقع على نفس الغير فمن قرأ بالكسر صار كسرا على البدل

ومن قرأ بالرفع فمعناه هل خالق غير اللّه لأن { من } موكدة ولفظ الآية لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه ولا يرزقكم أحد سواه ثم وحد نفسه فقال { لا إله إلا هو } يفعل بكم ذلك { فأنى تؤفكون } يعني من أين تكذبون وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه

٤

ثم قال عز وجل { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } كما كذبك قومك وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلى اللّه عليه وسلم ليصبر على أذاهم { وإلى اللّه ترجع الأمور } يعني إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث

٥

ثم قال عز وجل { يا أيها الناس } يعني يا أهل مكة { إن وعد اللّه حق } يعني البعث بعد الموت حق كائن { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } يعني حياتكم في الدنيا والدنيا في الأصل هي القربى سميت بهذا لأن حياتهم صارت هذه أقرب إليهم

ويقال هي فعلى من الأدون يعني حياة الأدون { ولا يغرنكم باللّه الغرور } يعني الباطل وهو الشيطان

قال الفقيه أبو الليث رحمه اللّه حدثني أبي قال حدثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي قال حدثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زياد قال رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء عليها من كل زينة فقلت من أنت أعوذ باللّه منك فقالت أنا الدنيا فإن سرك أن يعيذك اللّه مني فأبغض الدراهم يعني لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق

٦

ثم قال عز وجل { إن الشيطان لكم عدو } يعني حين يأمركم بالكفر ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة اللّه { فاتخذوه عدوا } يعني فعادوه بطاعة اللّه ومعناه أطيعوا اللّه عز وجل لأنك إذا أطعت اللّه فقد اتخذت الشيطان عدوا { إنما يدعو حزبه } يعني شيعته إلى الكفر { ليكونوا من أصحاب السعير } يعني من أهل النار

٧

ثم بين مصير من أطاع الشيطان ومصير من عصاه فقال { الذين كفروا } يعني جحدوا بوحدانية اللّه عز وجل { لهم عذاب شديد } في الآخرة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني صدقوا بوحدانية اللّه وعملوا الطاعات واتخذوا الشيطان عدوا { لهم مغفرة } في الدنيا لذنوبهم { وأجر كبير } يعني ثوابا حسنا في الجنة

٨

قوله عز وجل { أفمن زين له سوء عمله } يعني قبيح عمله { فرآه حسنا } يعني يظنه حقا والجواب فيه مضمرا يعني أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك

وقال الزجاج { أقمن زين له سوء عمله } يعني أبا جهل وأصحابه كمن لم يزين له ذلك وهداه اللّه تعالى

ثم قال { فإن اللّه يضل من يشاء } عن دينه { ويهدي من يشاء } لدينه { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } قال القتبي هذا من الإضمار يعني ذهبت نفسك حسرة عليهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بتركهم الإيمان وقرئ في الشاذ { فلا تذهب } بضم التاء وكسر الهاء { نفسك } بنصب السين من أذهب يذهب يعني لا تقتل نفسك وقراءة العامة { فلا تذهب نفسك } بنصب التاء والهاء وضم السين { إن اللّه عليم بما يصنعون } من الخير والشر

٩

ثم قال عز وجل { واللّه الذي أرسل الرياح فتثير سحابا } أي ترفعه وتهيجه { فسقناه } يعني نسوقه { إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها } يعني بعد يبسها { كذلك النشور } يعني هكذا تحيون بعد الموت يوم القيامة

وروي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن ابن الزبعرى عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال تقوم الساعة على شرار الناس ثم يقوم ملك بالصور فينفخ فيه فلا يبقى خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء اللّه ثم يكون بين النفختين ما شاء اللّه فيرسل اللّه الماء من السماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت لحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الندىثم قرأ { فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } ثم ينفخ في الصور

١٠

قوله عز وجل { من كان يريد العزة فللّه العزة جميعا } يعني من طلب العزة بعبادة الأوثان فليتعزز بطاعة اللّه عز وجل فإن العزة للّه جميعا يقول من يتعزز بإذن اللّه ويقال معناه من كان يريد أن يعلم لمن تكون العزة فليعلم بأن العزة للّه جميعا

ويقال من كان يطلب لنفسه العزة فإن العزة للّه جميعا

ثم قال { إليه يصعد الكلم الطيب } قال مقاتل يصعد إلى السماء كلمة التوحيد { والعمل الصالح يرفعه } يقول التوحيد يرفع العمل الصالح إلى اللّه تعالى في السماء فيها تقديم

وقال الحسن البصري العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى اللّه عز وجل فإذا كان الكلام الطيب عملا غير صالح يرد القول إلى العمل لأنه أحق من القول

وقال قتادة { والعمل الصالح يرفعه } قال اللّه يرفعه

ويقال العمل الصالح يرفعه لصاحبه

ويقال { يرفعه } يعني يعظمه

ويقال { العمل الصالح يرفعه } أي يقبل الأعمال بالإخلاص

معناه العمل الخالص الذي يقبله

ثم قال { والذين يمكرون السيئات } أي يعملون بالشرك ويقال يعملون بالرياء لا يقبل منهم { لهم عذاب شديد } في الآخرة { ومكر أولئك هو يبور } يعني شرك أولئك وفسقهم وصنيعهم يهلك صاحبه في الآخرة

يقال بارت السلعة إذا كسدت لأنها إذا كسدت فقد تعرضت للّه لاك

١١

ثم قال عز وجل { واللّه خلقكم من تراب } يعني آدم عليه السلام وهو أصل الخلق { ثم من نطفة } يعني خلقكم من نطفة { ثم جعلهم أزواجا } يعني أصنافا ذكرا وأنثى

ويقال أصنافا أحمر وأبيض أسود يعني فاذكروني ووحدوني { وما تحمل من أنثى } و { من } صلة في الكلام { ولا تضع إلا بعلمه } يعني بمشيئته { وما يعمر من معمر } فيطول عمره { ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } يعني إلا وكل ذلك في كتاب اللّه قد بين في اللوح المحفوظ

وروي عن ابن عمر أنه قرأ { من عمره } بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر { إن ذلك على اللّه يسير } يعني حفظه على اللّه هين بغير كتابة

١٢

ثم قال عز وجل { وما يستوي البحران } العذب والمالح { هذا عذب فرات } يعني طيب هين شربه ويقال سلس في حلقه حلو في شرابه { سائغ } يعني شهيا شرابه

ويقال يسوغه الشراب { وهذا ملح أجاج } يعني الشديد الذي يضرب إلى المرارة { ومن كل تأكلون لحما طريا } يعني السمك { وتستخرجون } يعني من المالح { حلية } وهي اللؤلؤ { تلبسونها } يعني تستعملونها وتلبسون نساءكم وهذا المثل لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم مع الكفار يعني وما يستوي الذين صدقوا والذين كذبوا ومن كل يظهر شيء من الصلاح يعني يلد الكافر المسلم مثل ما ولد للوليد بن المغيرة خالد بن الوليد وأبو جهل عكرمة بن أبي جهل

قوله { وترى الفلك } يعني السفن { مواخر } يعني تذهب وتجيء { فيه } يعني في البحر { لتبتغوا من فضله } يعني من رزقه { ولعلكم تشكرون } يعني لكي تشكروا رب هذه النعمة

يقال في اللغة مخر يمخر إذا شق الماء يعني أن السفينة تشق الماء في حال جريها يقال مخرت السفينة إذا جرت وشقت الماء في جريها

١٣

ثم قال عز وجل { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } وقد ذكرناه { وسخر الشمس والقمر } يعني ذلل الشمس والقمر لبني آدم { كل يجري لأجل مسمى } يعني إلى أقصى منازلها في الغروب لأنها تغرب كل ليلة في موضع وهو قوله عز وجل { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } [ المعارج ٣٠ ] ويقال { إلى أجل مسمى } يعني يجريان دائما إلى يوم القيامة { ذلكم اللّه ربكم } يعني هذا الذي فعل الفعل هو ربكم وخالقكم { له الملك } فاعرفوا توحيده وادعوه ولا تدعوا غيره { والذين تدعون من دونه } يعني الأوثان وما تعبدونهم من دون اللّه { ما يملكون من قطمير } يعني لا يقدرون أن يعطوكم ولا ينفعوكم بمقدار القطمير والقطمير قشر النواة الأبيض الذي يكون بين النوى والتمر

وقال مجاهد القطمير لفاف النوى

١٤

ثم قال { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } يعني ولو كانوا بحال يسمعون أيضا فلا يجيبونكم ولا يكشفون عنكم شيئا { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } يعني يتبرؤون من عبادتكم ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون

يقول اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم { ولا ينبئك مثل خبير } يعني لا يخبركم من عمل الآخرة مثل الرب تبارك وتعالى

ويقال لا يخبرك أحد مثل الرب بأن هذا الذي ذكر عن الأصنام أنهم يتبرؤون عن عبادتهم

١٥

ثم قال عز وجل { يا أيها الناس أنتم الفقراء } يعني أنتم محتاجون إلى ما عنده

ويقال { أنتم الفقراء إلى اللّه } في رزقه ومغفرته { واللّه هو الغني الحميد } عن عبادتكم { الحميد } في سلطانه وهذا كما قال في آية أخرى { واللّه الغني وأنتم الفقراء } [ محمد ٣٨ ] لأن كل واحد يحتاج إليه ولأن أحدا لا يقدر أن يصلح أمره إلا بالأعوان والأمير ما لم يكن له خدم وأعوان لا يقدر على الإمارة وكذلك التاجر يحتاج إلى المكارين واللّه عز وجل غني عن الأعوان وغيره

١٦

ثم قال عز وجل { إن يشأ يذهبكم } يعني يهلككم ويميتكم { ويأت بخلق جديد } أفضل منكم وأطوع للّه تعالى

١٧

 { وما ذلك على اللّه بعزيز } يعني شديد

١٨

ثم قال عز وجل { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى

ويقال لا تحمل بالطوع ولكن يحمل عليها إذا كان له خصما

ثم قال { وإن تدع مثقلة إلى حملها } يعني الذي أثقلته الذنوب والأوزار أن لو دعا

أحدا ليحمل عنه بعض أوزاره لا يحمل من وزره شيئا { ولو كان ذا قربى } أي وإن كان ذا قرابة لا يحمل من وزره

وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال إن الوالد يتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني إني كنت لك والدا فيثني عليه خيرا فيقول يا بني قد احتجت إلى مثقال ذرة

وفي رواية أخرى إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول له ولده ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أخاف مثل الذي تخوفت ثم يتعلق بزوجته فيقول لها إني كنت لك زوجا في الدنيا فيثني عليها خيرا ويقول إني أطلب إليك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين فتقول ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق إني أتخوف مثل الذي تخوفت فذلك قوله { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى }

ثم قال { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } يعني إنما تخوف بالقرآن الذين يخافون ربهم بالغيب يعني آمنوا باللّه وهم يعلمونه وهم في غيب منه { وأقاموا الصلاة } يعني يقيمون الصلاة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ينذر المؤمنين والكافرين ولكن الذين يخشون ربهم هم الذين يقبلون الإنذار فكأنه أنذرهم خاصة

ثم قال { ومن تزكى } يعني توحد

ويقال يطهر نفسه من الشرك

ويقال من صلح فإنما صلاحه لنفسه يثاب عليه في الآخرة وقال من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه

{ فإنما يتزكى لنفسه وإلى اللّه المصير } فيجازيهم بعملهم

١٩

قوله عز وجل { وما يستوي الأعمى } يعني الكافر الأعمى عن الهدى { والبصير } يعني المؤمن

٢٠

 { ولا الظلمات ولا النور } يعني الكفر والإيمان

٢١

 { ولا الظل ولا الحرور } يعني الجنة والنار { ولا الحرور } هو استقرار الحر

٢٢

 { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } قال القتبي مثل الأعمى والبصير كالكافر والمسلم والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان والظل والحرور مثل الجنة والنار { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } مثل العقلاء والجهال

ثم قال { إن اللّه يسمع من يشاء } يعني يفقه من يشاء { وما أنت بمسمع من في القبور } يعني لا تقدر أن تفقه الأموات وهم الكفار

٢٣

ثم قال { إن أنت إلا نذير } يعني ما أنت إلا رسول

٢٤

 { إنا أرسلناك بالحق } يعني بالقرآن ويقال لبيان الحق { بشيرا ونذيرا } وقد ذكرناه { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } يعني وما من أمة فيما مضى إلا فيهم نذير يعني إلا جاءهم رسول

٢٥

ثم قال { وإن يكذبوك } يا محمد { فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني بالأمر والنهي { وبالزبر } يعني بالكتب وبأخبار من كان قبلهم { وبالكتاب المنير } يعني المضيء الكتاب هو نعت لما سبق ذكره من البينات والزبر

٢٦

 { ثم أخذت الذين كفروا } يعني الذين كذبوهم فعاقبتهم { فكيف كان نكير } يعني كيف كان إنكاري وتغييري عليهم

٢٧

ثم ذكر خلقه ليعتبروا به ويوحدوه فقال عز وجل { ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء } يعني المطر { فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } من الثمار الأحمر والأصفر والحلو والحامض { ومن الجبال جدد بيض } يعني خلق من الجبال جددا يعني جماعة الجدة والجدة هي الطريق التي في الجبل والجدد هي الطرائق فترى الطريق من البعد منها بيض وبعضها حمر

وقال القتبي الجدد الخطوط والطرق تكون في الجبال فبعضها بيض وبعضها حمر وبعضها { غرابيب سود } وهو جمع غربيب وهو الشديد السواد ويقال أسود غربيب

٢٨

ثم قال عز وجل { ومن الناس والدواب } يعني خلق من الناس والدواب { والأنعام مختلف ألوانه كذلك }

قال بعضهم إنما يتم الكلام عند قوله { كذلك } يعني من الناس والدواب والأنعام { مختلفا ألوانه } كذلك كاختلاف الثمرات

ثم استأنف فقال { إنما يخشى اللّه من عباده العلماء }

قال بعضهم تم الكلام عند قوله { مختلف ألوانه } ثم استأنف فقال { كذلك إنما يخشى اللّه } يعني هكذا يخشى اللّه من عباده العلماء يعني لأن العلماء يعلمون خلق اللّه تعالى ويتفكرون في خلقه ويعملون ثوابه وعقابه فيخشونه ويعلمون بالطاعة طمعا لثوابه ويمتنعون عن المعاصي خشية عقابه

وقال مقاتل أشد الناس خشية أعلمهم باللّه تعالى فيها تقديم

وروى سفيان عن بعض المشيخة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل يا رسول اللّه أينا أعلم فقال ( أخشاكم للّه تعالى إنما يخشى اللّه من عباده العلماء ) قالوا يا رسول اللّه فأي الأصحاب أفضل قال ( الذي إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكرك ) قالوا فأي الأصحاب شر قال ( الذي إذا ذكرت لم يعنك وإذا نسيت لم يذكرك ) قالوا فأي الناس شر قال ( اللّه م اغفر للعلماء والعالم إذا فسد فسد الناس )

ثم قال { إن اللّه عزيز } في ملكه { غفور } لمن تاب

٢٩

قوله عز وجل { إن الذين يتلون كتاب اللّه } يعني يقرؤون القرآن ويقال معناه يتبعون كتاب اللّه تعالى

يقال تلا يتلو إذا تبعه كقوله تعالى { والقمر إذا تلاها } [ الشمس ٢ ] { وأقاموا الصلاة } يعني أتموا الصلوات في مواقيتها { وأنفقوا مما رزقناهم } يعني تصدقوا مما أعطيناهم من الأموال { سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور } يعني لن تهلك ولن تخسر ومعناه { يرجون تجارة } رابحة وهي الجنة مكان الحياة الدنيا

٣٠

ثم قال عز وجل { ليوفيهم أجورهم } يعني يوفر ثواب أعمالهم { ويزيدهم من فضله } يعني من رزقه من الجزاء والثواب في الجنة

ويقال { من فضله } يعني من تفضله { إنه غفور } لذنوبهم { شكور } لأعمالهم اليسيرة والشكر على ثلاثة أوجه الشكر ممن يكون دونه الطاعة لأمره وترك مخالفته والشكر ممن هو شكله يكون الجزاء والمكافأة والشكر ممن فوقه يكون رضي منه باليسير

٣١

قوله عز وجل { والذي أوحينا إليك من الكتاب } يعني أرسلنا إليك جبريل عليه السلام بالقرآن { هو الحق } لا شك فيه { مصدقا لما بين يديه } يعني موافقا لما قبله من الكتب { إن اللّه بعباده لخبير بصير } يعني عالم بهم وبأعمالهم

٣٢

قوله عز وجل { ثم أورثنا الكتاب } { ثم } بمعنى العطف يعني وأورثنا الكتاب ويقال { ثم } بمعنى التأخير يعني بعد كتب الأولين

{ ثم أورثنا الكتاب } ويقال أعطينا القرآن { الذين اصطفينا من عبادنا } يعني اخترنا من عبادنا من هذه الأمة

{ فمنهم ظالم لنفسه } يعني من الناس ظالم لنفسه { ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات }

روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال الظالم الكافر والمقتصد المنافق والسابق المؤمن

وروي عنه رواية أخرى أنه قال هؤلاء كلهم من المؤمنين فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة قبل فتح مكة والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة

وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( السابق الذي يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد الذي يحاسب حسابا يسيرا والظالم الذي يحاسب في طول المحشر )

وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال سابقنا سابق ومقتصدنا ناجي وظالمنا مغفور له

وطريق خامس ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أنه قال سابقنا أهل الجهاد ومقتصدنا أهل حضرنا يعني أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات وظالمنا أهل بدونا

وطريق سادس ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها أنها سئلت عن هذه الآية فقالت السابق النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن مضى معه والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه والظالم فمثلي ومثلكم

وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق هم السابقون بالخيرات فكأنه استخرجه من قوله { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة } [ الواقعة ٨ ] إلى قوله { والسابقون السابقون } [ الواقعة ١٠ ]

وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري رحمه اللّه أنه قال الظالم هم المنافقون والمقتصد هم التابعون بإحسان والسابق هم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم

وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضا أنه قال السابق الذي ترك الدنيا والمقتصد الذي أخذ من الحلال والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ

وقيل طريق عاشر السابق الذي رجحت حسناته على سيئاته والمقتصد الذي استوت حسناته مع سيئاته والظالم الذي رجحت سيئاته على حسناته

وقيل طريق حادي عشر السابق الذي سره خير من علانيته والمقتصد الذي سره وعلانيته سواء والظالم الذي علانيته خير من سره

وقيل طريق ثاني عشر السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها والظالم الذي ينتظر الإقامة

وقيل وطريق ثالث عشر السابق الذي يتوكل على اللّه ويجعل جميع جهده في طاعة اللّه عز وجل والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف

طريق رابع عشر السابق الذي شغله معاده عن معاشه والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعا والظالم الذي شغله معاشه عن معاده

وقيل طريق خامس عشر السابق الذي ينجو بنفسه وينجو غيره بشفاعته والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة اللّه وفضله والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين

وطريق سادس عشر السابق الذي يعطى كتابه بيمينه والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره

وطريق سابع عشر قيل السابق الذي ركن إلى المولى والمقتصد الذي ركن إلى العقبى والظالم الذي ركن إلى الدنيا

وطريق ثامن عشر ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة والمعصية والمقتصد الذي يحارب فيهما والسابق الذي يجتهد في الزلات ثم قال لأن محاربة الصديقين في الزلات ومحاربة الزاهدين في الشهوات ومحاربة التائبين في الموبقات

وطريق تاسع عشر قال الظالم يطلب الدنيا تمتعا والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذا والسابق الذي ترك الدنيا تزهدا

وطريق العشرين قال الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه وهو الرزق والمقتصد الذي يطلب ما أمر به وما لم يؤمر بطلبه والسابق الذي طلبه مرضاة اللّه ومحبته

وطريق حادي وعشرين قيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر

وطريق ثاني وعشرين قيل السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس والمقتصد الخارج إليها مع الناس والظالم المتخلف عن الجمعة والجماعة

وطريق ثالث وعشرون قيل السابق الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به والمقتصد الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعلم

وطريق رابع وعشرون السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره والمقتصد الذي يطلب عيب نفسه ويطمع في عيب غيره والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه

وطريق خامس وعشرون ما روي عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله { ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا } إلى قوله { الفضل الكبير } قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

 هؤلاء كلهم في الجنة

أما السابق بالخيرات فإنه يدخل الجنة بدون حساب

وأما المقتصد فإنه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة

وأما الظالم لنفسه فإنه يحاسب حسابا شديدا أو يحبس حبسا طويلا ثم يدخل الجنة فإذا دخلوا الجنة قالوا: الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.

وقد قيل غير هذا إلا أنه يطول وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون وأول الآية وآخرها دليل على ذلك

فأما أول الآية فقوله عز وجل { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } يعني أعطينا الكتاب فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة وقال في آخر الآية { جنات عدن يدخلونها } [ النحل ٣١ ] فأشار إلى الأصناف الثلاثة

وقال بعضهم تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح إن الظالم كافر يعني كفر النعمة ومعناه فمنهم من كفر بهذه النعمة ولم يشكر اللّه عز وجل عليها ومنهم مقتصد يعني يشكر ويكفر ومنهم سابق يعني يشكر ولا يكفر

وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يوما لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمته وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون عليهم السلام فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الأول لعلي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث

فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل { ثم أورثنا الكتاب الذين } إلى قوله { جنات عدن يدخلونها } الآية

فإن قيل إيش الحكمة في ذكره الظالم ابتداء وتأخيره ذكر السابق

قيل له الحكمة فيه واللّه أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه ولا ييأس الظالم من رحمة اللّه عز وجل

ثم قال { ذلك هو الفضل الكبير } من اللّه تعالى يعني الذي أورثهم الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من اللّه تعالى

٣٣

ثم قال عز وجل { جنات عدن } يعني لهم جنات عدن أي دار الإقامة

يقال عدن يعدن إذا قام قرأ أبو عمرو وإبن كثير في إحدى الروايتين { يدخلونها } بضم الياء وفتح الخاء على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { يدخلونها } على معنى أن الفعل لهم { يحلون فيها من أساور } يعني يلبسون الحلي من أساور { من ذهب ولؤلؤا } قرأ نافع وعاصم { ولؤلؤا } بالنصب ومعناه يحلون أساور ولؤلؤا وقرأ الباقون بالكسر يعني من ذهب ومن لؤلؤ

ثم قال { ولباسهم فيها حرير } يعني لباسهم في الجنة من حرير الجنة لا كحرير الدنيا

٣٤

قوله عز وجل { وقالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن } يعني حزن الموت وحزن خوف الخاتمة

ويقال هم العيش ويقال هم المرور على الصراط { إن ربنا لغفور } يغفر الذنوب { شكور } يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل عز وجل

٣٥

{ الذي أحلنا دار المقامة من فضله } يعني الحمد للّه الذي أنزلنا دار الخلود والمقامة والمقام بمعنى واحد يعني الإقامة والدوام من فضله يعني بفضله وكرمه { لا يمسنا فيها نصب } يعني لا يصيبنا في الجنة تعب { ولا يمسنا فيها لغوب } يعني لا يصيبنا فيها من أعباء كما يصيبنا في الدنيا

٣٦

ثم بين حال المشركين في النار فقال عز وجل { والذين كفروا } يعني جحدوا بوحدانية اللّه عز وجل { لهم نار جهنم لا يقضى عليهم } الموت

ويقال لا يرسل عليهم ولا ينزل الموت { فيموتوا } حتى يستريحوا { ولا يخفف عنهم من عذابها } يعني من عذاب جهنم { كذلك نجزي كل كفور } يعني هكذا نعاقب كل كافر باللّه تعالى قرأ أبو عمرو { يجزي } بالياء وضم الياء ونصب الزاي { كل كفور } بضم اللام على معنى فعل ما لم يسم فاعله وقرأ الباقون { نجزي } بالنون والنصب { كل كفور } بنصب اللام ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد يعني كذلك يجزي اللّه تعالى

٣٧

ثم أخبر عن حالهم فيها فقال عز وجل { وهم يصطرخون فيها } يستغيثون صرخ يصرخ إذا أغاث واستغاث وهو من الأضداد ويستعمل للإغاثة والاستغاثة لأن كل واحد منهما يصلح وهو افتعال من الصراخ يعني يدعون في النار ويقولون { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } يعني نعمل غير الشرك وغير المعصية

يقول اللّه تعالى { أولم نعمركم } يعني أو لم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا { ما يتذكر فيه من تذكر } يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ

وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى { أو لم نعمركم } يعني أو لم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا ما نتذكر فيه لمن تذكر يعني يتعظ فيه من أراد أن يتعظ

وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى { أو لم نعمركم } قال العمر ستون سنة { وجاءكم النذير } يعني الشيب والهرم

وروي أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام أول من رأى الشيب فقال ما هذا يا رب فقال هذا وقار في الدنيا ونور في الآخرة فقال رب زدني وقارا

ويقال { أو لم نعمركم } يعني نطول أعماركم و { ما يتذكر فيه من تذكر } أي مقدار ما يتعظ فيه من يتعظ

وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال ( لقد أعذر اللّه إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين سنة ) { وجاءكم النذير } يعني الرسول { فذوقوا } العذاب في النار { فما للظالمين من نصير } يعني ما للمشركين من مانع من عذاب اللّه عز وجل

٣٨

ثم قال عز وجل { إن اللّه عالم غيب السموات والأرض } يعني غيب ما يكون في السموات والأرض يعني يعلم أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه { إنه عليم بذات الصدور } يعني عليم بما في قلوبهم ويقال عالم بما في قلوب العباد من الخير والشر

٣٩

ثم قال عز وجل { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } يعني قل لهم يا محمد للكفار اللّه تعالى جعلكم سكان الأرض من بعد الأمم الخالية { فمن كفر } بتوحيد اللّه عز وجل { فعليه كفره } يعني عاقبة كفره وعقوبة كفره { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا } وهو الغضب الشديد الذي يستوجب العقوبة يعني لا يزدادون في طول أعمارهم إلا غضب اللّه تعالى عليهم

وقال الزجاج المقت أشد الغضب { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } يعني غبنا في الآخرة وخسرانا

٤٠

ثم قال عز وجل { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون اللّه } يعني تعبدون من دون اللّه { أروني ماذا خلقوا من الأرض } يعني أخبروني أي شيء خلقوا مما في السموات أو مما في الأرض من الخلق

وقال القتبي { من } بمعنى في يعني أروني ماذا خلقوا في الأرض يعني أي شيء خلقوا في الأرض كما خلق اللّه عز وجل { أم لهم شرك في السموات }يعني عون على خلق السموات والأرض ويقال نصيب في السموات اللفظ لفظ الاستفهام والشك والمراد به النفي يعني ليس لهم شرك في السموات

ثم قال { أم آتيناهم كتابا } يعني أعطيناهم كتابا اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني ليس لهم كتاب فيه حجة على كفرهم { فهم على بينة منه } يعني ليسوا على بيان مما يقولون قرأ إبن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية حفص { على بينة } بغير ألف وقرأ الباقون { بينات } بلفظ الجماعة ومعناهما واحد لأن الواحد ينبىء عن الجماعة

ثم قال { بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا } يعني ما يعد الظالمون بعضهم بعضا يعني الشياطين للكافرين من الشفاعة لمعبودهم { إلا غرورا } يعني باطلا

٤١

قوله عز وجل { إن اللّه يمسك السموات والأرض } يعني يحفظ السموات والأرض { أن تزولا } يعني لئلا تزولا عن مكانهما { ولئن زالتا } يعني يوم القيامة { إن أمسكهما من أحد من بعده } يعني لا يقدر أحد أن يمسكهما

ويقال { ولئن زالتا } يعني إن زالتا في الحال وهما لا يزولان { إنه كان حليما } عن قول الكفار حيث قالوا للّه ولد فكادت السموات والأرض أن تزولا فأمسكهما بحلمه فلم يزولا { غفورا } يعني متجاوزا عنهم إن تابوا

ويقال { غفورا } حيث لم يعجل عليهم بالعقوبة وأمسك السموات والأرض أن تزولا

٤٢

وقوله عز وجل { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } يعني كفار مكة كانوا يعيرون اليهود والنصارى بتكذيبهم أنبياءهم وقالوا لو أرسل اللّه عز وجل إلينا رسولا لكنا أهدى من إحدى الأمم وكانوا يحلفون على ذلك فذلك قوله { وأقسموا باللّه جهد أيمانهم } فكل من حلف باللّه فهو جهد اليمين { لئن جاءهم نذير } يعني رسول { ليكونن أهدى من إحدى الأمم } يعني أصوب دينا من اليهود والنصارى { فلما جاءهم نذير } وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم { ما زادهم إلا نفورا } يعني ما زادهم الرسول إلا تباعدا عن الهدى

٤٣

قوله عز وجل { استكبارا في الأرض } يعني تكبرا في الأرض { استكبارا } مفعول المعنى زادهم الرسول تكبرا وهذا كقوله { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } [ الإسراء ٨٢ ] وكان القرآن سببا لخسرانهم فأضاف إليه

ثم قال { ومكر السيئ } يقول قول الشرك واجتماعهم على قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ حمزة { ومكر السيئ } بجزم الياء وقرأ الباقون بالكسر لتبين الحروف وجزم حمزة لكثرة الحركات

ثم قال { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } يعني عقوبة المكر إلا بأهله يعني لا يدور وينزل المكر السيئ إلا بأهله يعني عقوبة المكر ترجع إليهم

ثم قال { فهل ينظرون } يعني ما ينتظرون { إلا سنة الأولين } يعني عقوبة الأمم الخالية أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين { فلن تجد لسنة اللّه تبديلا } يعني لصنعة اللّه تعالى ويقال لملة اللّه ويقال لسنة اللّه في العذاب { تبديلا } يعني لا يقدر أحد أن يبدله { ولن تجد لسنة اللّه تحويلا } يعني تغييرا يعني لا يقدر أحد أن يغير فعل اللّه تعالى

٤٤

ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل { أو لم يسيروا في الأرض } يعني أو لم يسافروا { فينظروا } فيعتبروا { كيف كان عاقبة } يعني آخر أمر { الذين } كفروا { من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة } يعني منعة { وما كان اللّه ليعجزه من شيء } يعني يفوته من شيء ويقال لا يقدر أحد أن يهرب من عذابه { في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما } بخلقه بأنه لا يفوت منه أحد { قديرا } يعني قادرا عليهم بالعقوبة

٤٥

قوله عز وجل { ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا } يعني لو عاقبهم بذنوبهم { ما ترك على ظهرها } يعني على ظهر الأرض { من دابة } يعني لهلكت الدواب من قحط المطر

قال قتادة { ما ترك على ظهرها } من دابة إلا أهلكهم كما أهلك من كان في زمان نوح عليه السلام ويقال { من دابة } يعني من الجن والإنس فيعاقبهم بذنوبهم فيهلكهم

وقال مجاهد { ما ترك على ظهرها من دابة } يعني من هوام الأرض من العقارب ومن الخنافس

وروي عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم ثم قرأ { ولو يؤاخذ اللّه الناس } الآية والعرب تكني عن الشيء إذا كان مفهوما كما كنى ها هنا عن الأرض كقوله { ما ترك على ظهرها } وإن لم يسبق ذكر الأرض

ثم قال { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } يعني إلى الميعاد الذي وعدهم اللّه تعالى

ويقال إلى الوقت الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ { فإذا جاء أجلهم } يعني إلى انقضاء حياتهم

ويقال هو البعث

ثم قال { فإن اللّه كان بعباده بصيرا } يعني عالما بهم وبأعمالهم

روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال لما طعن عمر رضي اللّه عنه قال كعب لو دعا اللّه عمر لآخر في أجله

فقال الناس سبحان اللّه أليس قد قال اللّه تعالى { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف ٣٤ ] فقال كعب وقد قال { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على اللّه يسير } [ فاطر ١١ ] قال الزهري فيرون أن ذلك ما لم يحضر الأجل فإذا حضر لم يؤخر وليس أحد إلا وعمره مكتوب في اللوح المحفوظ واللّه سبحانه وتعالى أعلم صلى اللّه عليه وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

﴿ ٠